تفسير سورة الإسراء

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الإسراء

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ الآية. قال النحويون: ﴿سُبْحَانَ﴾: اسم موضوع في موضع مصدر سبَّحتُ الله تسبيحًا وسبحانًا، فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم منه (١)؛ كقولك: كَفَّرتُ اليمين تكفيرًا وكُفْرانًا (٢)، وتأويله في المعنى: أنه البراءة والتنزيه لله مما يُنْفَى عنه، والتسبيح يُذْكر بمعنى الصلاة، ومنه قوله: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ [الصافات: ١٤٣]، أي: من المصلين (٣)، والسُّبْحةُ: الصلاة النافلة (٤)،
(١) انظر: "الكتاب" ١/ ٣٢٢، و"المقتضب" ٣/ ٢١٧، و"تفسير الطبري" ١٥/ ١، و"المخصص" ١٧/ ١٦٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٠٧، و"شرح المفصل" ١/ ٣٧، و"الخزانة" ٧/ ٢٤٥.
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٤٤ بنصه وعزاه إلى أبي عبيد، وليس في غريبه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٥، و"القرطبي" ١٠/ ٢٠٤.
(٣) ورد في "غريب الحديث" ١/ ٩٨ بلفظه، و"الغريب" لابن قتيبة ٢/ ٩٦ بلفظه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١ بلفظه عن ابن عباس وابن جبير والسديّ، وورد بلفظه في "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٣١٣، و"تهذيب اللغة" (سبح) ٢/ ١٦١٠، و"المفردات" ص ٣٩٢، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢٤، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٥، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٦.
(٤) ورد بنحوه في "غريب الحديث" ١/ ١٩٨، و"تهذيب اللغة" (سبح) ٢/ ١٦١٠، عن الليث، و"المحيط في اللغة" (سبح) ٢/ ٤٩٥، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٤٥، انظر: "تفسير الفخر الرازى" ٢٠/ ١٤٦، و"اللسان" (سبح) ٤/ ١٩١٦.
243
وإنما قيل للمصلي: مُسَبِّح؛ لأنه معظم لله بالصلاة تعظيم المنزه له عما لا يجوز في صفته، وورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله -عزوجل-: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُون﴾ [القلم: ٢٨]، أي: [لو] (١) لا تستثنون (٢)، وهو لغة لبعض اليمن، وتأويله يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئته (٣).
وجاء في الحديث: "لولا ذلك لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدرَكَتْ مِنْ شَيء" (٤) فيقال: إنه نور وجهه (٥).
قال أبو عبيد: ولم نَسمع هذه الكلمة ولا نَعرف لها شاهدًا في كلامهم
(١) ما بين المعقوفين إضافة ليتلاءم لفظ التفسير مع لفظ الآية.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١، بنحوه عن مجاهد من طريقين، وورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٠٩، بنحوه، و"المحيط في اللغة" (سبح) ٢/ ٤٩٥، بنحوه، و"المفردات" ص ٣٩٣، بنحوه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢٤ بنصه، والطوسي ٦/ ٤٤٥، بنحوه.
انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٦، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ١٨٩.
(٣) قال الزجاج: فالاستثناء تعظيم الله والإقرار بأنه لا يقدر أحدٌ أن يفعل فعلًا إلا بمشيئة الله -عزوجل-.
انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٠٩.
(٤) طرفه: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام.. "، عن أبي موسى، أخرجه أحمد ٤/ ٤٠١، ٤٠٥، بنحوه، ومسلم (١٧٩) كتاب: الإيمان، باب: قوله (: "إن الله لاينام" بنحوه، ابن ماجه (١٩٥) كتاب: المقدمة فيما أنكرت الجهمية ١/ ٣٩، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ٢٧٢، بنحوه، والآجري في "الشريعة" ص ٢٩١، ٣٠٤، والسهمي في "تاريخ جرجان" ص ١٣٠ - بنحوه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٣٩١، بنحوه، والبغوي في "شرح السنة" الإيمان الرد على الجهمية ١/ ١٧٣، بنحوه، وورد في "غريب الحديث" ١/ ٤٥٧ - بنحوه، و"تفسير الطبري" ٨/ ٣ بنصه.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (سبح) ٢/ ٦١٠ بنصه، قالي ابن شميل.
244
إلا في الحديث (١).
وقال غيره: (سُبُحات وجهه): نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال: سبحان الله (٢)، قال سيبويه معنى سبحان الله: براءة الله من السوء (٣)، و (سبحان) اسم لهذا المعنى معرفة، يدل على ذلك قول الأعشى:
سبحانَ مِنْ عَلْقمَةَ الفَاجِرِ (٤)
أي براءة منه، وهو ذِكْرٌ بِعِظَمِ اللهِ لا يصلح لغيره، وإنما ذَكَرَه الشاعرُ نادرًا؛ بأن ردَّه إلى الأصل وأجراه كالمثل (٥).
(١) "غريب الحديث" ٣/ ١٧٣، بنحوه.
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٤٥ بنصه، وعزاه إلى المبرد.
(٣) "الكتاب" ١/ ٣٢٤ بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (سبح) ٢/ ١٦٠٩ بنصه.
(٤) وصدره:
أقولُ لما جاءني فجرُهُ.
"ديوانه" ص ٩٣، وورد في "الكتاب" ١/ ٣٢٤، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٦، و"جمهرة اللغة" ١/ ٢٧٨، و"الخصائص" ٢/ ٤٣٥، و"وتهذيب اللغة" (سبح) ٢/ ١٦٠٩، و"مجمل اللغة" ١/ ٤٨٢، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٠٧، ٥٧٨، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ٩٣أ، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٥، و"الأساس" ١/ ٤١٨، و"شرح المفصل" ١/ ٣٧، و"اللسان" (سبح) ٤/ ١٩١٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٨، و"الخزانة" ٧/ ٢٣٧، وورد بلا نسبة في "المقتضب" ٨/ ٢١٣، و"الخصائص" ٢/ ١٩٧، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٨، و"المخصص" ١٥/ ١٨٧ و"المفردات" ص ٣٩٣، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢٣، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ١٨٨. وفي جميع المصادر -عدا الديوان- فخره، الفاخر، فلعلها تصحفت فيه، فرواية المصادر أصح؛ لأن الكلام في الفخر لا الفجْر، كما قال أبو عبيدة: قال الأعشى تبرؤا وتكذيبًا لفخر علقمةَ. "مجاز القرآن" ١/ ٣٦.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٤٥ بنصه تقريبًا، قال الراغب: تقديره سُبحان علقمة، على طريق التهكم، فزاد فيه (منْ) ردًا إلى أصله، وقيل: أراد سبحان الله =
245
وقال صاحب النظم: السبح في اللغة: التباعد، يدل عليه قوله -عز وجل-: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ [المزمل: ٧] أي متباعدًا في المذهب والمدة لما تريد من قضاء حوائجك، ومعنى سَبَّحَ الله: بعّده ونزهه عما لا يليق به (١)، والتنزيه معناه: التبعيد (٢)، و ﴿سُبْحَنَ﴾ اسم بمعنى المصدر، موضوع موضع الفعل، وكثيرًا ما تضع العربُ المصادرَ مواضع الأفعال؛ كقوله عز وجل: ﴿فَضَرْبَ اَلرِّقَابِ﴾ [محمد: ٤] أي اضربوها، ومثله: ﴿وَقِيلِهِ يَا رَبِّ﴾ [الزخرف: ٨٨] أي ويقول، فعلى هذا معنى ﴿سُبْحَنَ﴾ أي سَبِّحوه ونَزِّهوه عن الشريك والولد و (٣) ما لا يجوز في صفته، ويجوز أن يكون هذا التنزيه راجعًا إلى الله تعالى، وبذلك فسَّر ابن عباس فقال: نزّه (٤) نفسه (٥)، وعلى هذا يجوز أن ينتصب ﴿سُبْحَنَ﴾ على النداء بمعنى: يا سبحان الذي أسرى بعبده.
قال الزجاج: معناه سَيَّر عبدَه (٦)، يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ومضى الكلام
= من أجل علقمة، وقد اعترض السمين والبغدادي على قوله الأول؛ فقال السمين: وفيه نظر، وقال البغدادي: وهو ضعيف لغةً وصناعة، انظر: "الدر المصون" ١/ ٢٥٩، و"الخزانة" ٧/ ٢٤٥.
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٥ بنصه.
(٢) انظر (سبح) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٠٩، و"اللسان" ٤/ ١٩١٤.
(٣) الواو ساقطة من (أ)، (د).
(٤) في جميع النسخ: نزّهه، والصحيح المثبت كما في سورة النحل [آية: ١] عن ابن عباس أيضًا.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٨٢، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٠٠ أ، و"هود الهواري" ٢/ ٣٥٩، و"السمرقندي" ٢/ ٢٢٨، و"الفخر الرازي" ١٩/ ٢١٨.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٥ بنصه.
246
في السُّرَى والإسراء (١).
وقوله تعالى: ﴿لَيْلًا﴾ قال مقاتل: كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة (٢)، ﴿مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ اختلفوا فيه، فقال الحسن وقتادة: يعني نفس المسجد (٣)، يدل عليه ما روى أنس والحسن: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق.. " (٤) وذكر حديث المعراج.
(١) سورة هود آية [٨١].
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٠ بنصه.
(٣) ورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٥ بنصه عنهما، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٦ بنصه عنهما، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٤، عنهما.
(٤) ثبت حديث الإسراء والمعراج بعدة روايات مختصرة ومطولة وفي بعض الروايات زيادات لا تصح، فرواه أنس بن مالك ومالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- برواية: "بينما أنا في الحطيم- الحِجْر- مضطجعًا إذ أتاني.. " أخرجه أحمد ٤/ ٢٠٨، والبخاري (٣٢٠٧) كتاب: بدء الخلق، باب: ذِكْر الملائكة ٣/ ١١٧٣ وفي: فضائل الصحابة/المعراج (٣/ ١٤١٠، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٣٧٧، وابن عبد البر في "التمهيد" ٨/ ٣٨، والبغوي في "شرح السنة" الفضائل/المعراج ١٣/ ٣٣٦، ورواه أنس بن مالك وأبو سيد برواية: (أُتيت بالبراق) و (أُتيت بدابة) أخرجه أحمد ٣/ ١٤٨، ومسلم (١٦٢) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء، و"عبد الرزاق" ٢/ ٣٦٥، و"الطبري" ١٥/ ٣ - ٤، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٣٨٢، والبغوي في "شرح السنة" ١٣/ ٣٤٣، وراه أبو ذر برواية: (فُرج سقف بيتي وأنا بمكة)، وأخرجه مسلم (١٦٣) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء، و"البغوي" ٥/ ٦٠، ورواه مالك بن صعصعة برواية: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان) أخرجه مسلم (١٦٤)، كتاب: الأيمان، باب: الإسراء، و"الطبري" ١٥/ ٣، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٣٧٣، وورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١١ أ، وسيرة ابن هشام ٢/ ٢ - ١٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٨، و"هود الهواري" ٢/ ٣٩٧، و"الثعلبي" ٧/ ٩٣ ب، و"تفسير =
247
وقال عامة المفسرين: أُسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دار أمِّ هانئ (١)، وعلى هذا أراد بالمسجد الحرام مكة، ومكة والحرم كله مسجد (٢)، وهو اختيار الفراء (٣) والزجاج (٤)، ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ قالوا كلهم: يعني بيت المقدس (٥)، وقيل له: الأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام (٦).
وقوله تعالى: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾، الأكثرون قالوا: باركنا حوله
= البغوي" ٥/ ٥٩، و"القرطبي"١٠/ ٢٠٥، و"الخازن" ٣/ ١٤٥، وابن كثير ٣/ ٣ - ٢٨، و"مجمع الزوائد" ١/ ٦٤ - ٧٣، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٥٨، و"الكنز" ١١/ ٣٨٥ - ٣٩١، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ١/ ٣٨٠.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٢، بنحوه عن الكلبي عن أبي صالح عنها طريق واهية، وورد بنحوه في: "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٤، عنها، و"السمرقندي" ٢/ ٢٥٨، عن ابن عباس، و"الثعلبي" ٧/ ٩٣ أ، عن الكلبي، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٤، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٦.
تقدمت ترجمتها.
(٢) ورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٥ بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٥، بنحوه عن أبي صالح عن أم هانئ، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٥٠، عن ابن عباس، و"ابن الجوزي" ٥/ ٥، عن أبي يعلى، و"الفخر الرازي"٢٠/ ١٤٦، عن ابن عباس.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٥، بنحوه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٥، بنحوه.
(٥) ورد بنصه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٠ أ، و"السمرقندي" ٢/ ٢٥٨، و"هود الهواري" ٢/ ٣٩٧، و"الثعلبي" ٧/ ٩٣ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٦ بنصه، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٦، انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٤٥.
(٦) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ٩٣ أبنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٦ بنصه، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٦، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٩، و"ابن الجوزي" ٥/ ٥، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٢، و"الخازن" ٣/ ١٤٥.
248
بالثمار والأنهار (١)، وقيل: بمن جعلنا حوله من الأنبياء والصالحين (٢)، وهو قول مجاهد؛ قال: لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة (٣).
وقوله تعالى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾، يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله وعظمته، وأخبر بها الناس من غد تلك الليلة (وهي معروفة مشهورة في الأخبار.
﴿إِنَّهُ﴾ أي الذي أسرى بعبده، ﴿هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، قال العلماء في هذه الآية: أخبر الله تعالى عن إسرائه بعبده) (٤) إلى بيت المقدس ليلاً، وأصبح بمكة وأخبر أهلها بذلك فلم يصدقوه حتى بَيَّنَ لهم العلامات التي رآها في الطريق، ووصف لهم المسجدَ، ولم يكن رآه قبل ذلك، وكان الأمر على ما قال فثبت بذلك صدقه وظهر إعجازه (٥)، ثم أخبر هو -صلى الله عليه وسلم- أنه
(١) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١١ أ، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٥، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٥، و "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١١٩، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٩، و"الثعلبي" ٧/ ٩٣ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٦، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٦، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ٥، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٢، و"الخازن" ٣/ ١٤٥، و"ابن كثير" ٣/ ٣، و"الدر المنثور" ٥/ ٢٣٦، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٤٧ بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢١٢.
(٣) ليس في تفسيره، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ٩٣ ب بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٦ بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٥٨، وبلا نسبة في "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٤٦، و"الخازن" ٣/ ١٤٥.
(٤) ما بين القوسين كتب على الهامش في نسخة (أ).
(٥) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١١ أ، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٦، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٦، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٠٦، و"الثعلبي" ٧/ ٩٩ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٦.
249
عرج به تلك الليلة إلى السماء على ما يروى في الحديث (١) واجتمعت الرواة أصحاب الأخبار على صحته، فيثبت عروجه إلى السماء بخبر الصادق الذي يجب قبول قوله.
٢ - قوله تعالى: ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ الآية. ذكر الله تعالى في الآية الأولى كرامة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن أَسرى به، ثم ذكر أنه أكرم موسى أيضًا قبله بالكتاب الذي آتاه فقال: ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني التوراة (٢).
﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ قال قتادة: جعله الله هدى لهم يخرجهم من الظلمات إلى النور (٣).
وقال الزجاج: أي دللناهم به على الهدى (٤).
وقوله تعالى: ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا﴾ قرأ أبو عمرو بالياء (٥)؛ لأن المتقدم (٦) ذكرهم على لفظ الغَيبة، والمعنى: هديناهم؛ لأن لا يتخذوا من دوني وكيلاً، ومن قرأ بالتاء (٧) فهو على الانصراف إلى الخطاب بعد الغَيبة، مثل:
(١) سبق ذكر الحديث وعزوه.
(٢) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٢ أبلفظه، و"السمرقندي" ٢/ ٢٥٩، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٧، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٧.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٨ بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٥/ ٢٩٤، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٦ بنصه.
(٥) انظر: "السبعة" ص ٣٧٨، و"علل القراءات" ١/ ٣١٣، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٣، و"الحجة للقراء" ٥/ ٨٣، و"المبسوط في القراءات" ٢٢٧، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٤٢، و"التيسير" ص ١٣٩.
(٦) في جميع النسخ: (التقدم)، والمثبت هو الصحيح والموافق للمصدر.
(٧) وهم الباقون. انظر المصادر السابقة.
250
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ١] ثم قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ (١) [الفاتحة: ٥].
قال أبو علي الفارسي: يجوز في (أَنْ) في قوله: ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا﴾ [ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن تكون (أَنْ) الناصبة للفعل، فيكون المعنى: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى﴾ لأن لا تتخذوا] (٢).
والآخر: أن تكون معنى (أي) التي للتفسير، وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة؛ كما انصرف منها إلى الخطاب والأمر في قوله: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦] فكذلك انصرف مِن الغَيبة إلى النهي في قوله: ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا﴾.
والثالث: أن تكون زائدة (٣)، ويحمل ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا﴾ على القول المُضْمَر، فيكون التقدير: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ فقلنا: لا تتخذوا من دوني شريكًا (٤).
قال المبرد: ولا أعرف لهذا وجهًا في العربية (٥)؛ لأنه لا يكون الوكيل الذي يوكله موكله ليخلفه فيما وكله فيه شريكًا، والوكيل هو الذي يفعل ما يفعله المُوَكِّل، والله -عز وجل- يتعالى عن أن يكون دونه من يُدْعى كما يُدْعَى، وَيفْعل كما يفعل، فنهاهم أن يضعوا أحدًا بهذا الموضع؛ إذ لا
(١) ورد بنصه تقريبًا في "الحجة للقراء" ٥/ ٨٣.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د).
(٣) انظر التعليق على القول بالزيادة في القرآن، عند آية [١٠] من سورة إبراهيم.
(٤) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٤ تصرف فيه بالتقديم والتأخير والاختصار.
(٥) أي تفسير وكيلًا بـ (شريكًا)، وهو قول مجاهد، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٨١٧، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٠، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢٧، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٧، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٩٤ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقد ورد قول المبرد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٤٧، بنحوه.
251
كافي غيره (١).
قال أبو علي: أفرد الوكيل وهو في معنى الجميع؛ لأن فعيلًا يكون مفردًا في اللفظ والمعنى على الجميع، كقوله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (٢) [النساء: ٦٩]، وقد مر.
٣ - قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ يجوز في نصب ذرية وجهان؛ أحدهما: أن يكون منصوبًا على النداء، يعني: يا ذُرِّيّةَ من حملنا مع نوح، وهذا قول مجاهد؛ قال: هذا نداء (٣)، وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء؛ كأنه قيل لهم: لا تتخذوا من دوني وكيلًا يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة، (قال قتادة: الناس كلهم ذرية نوح ومن أنجى الله في تلك السفينة (٤).
وقال الحسن: وكان معه في السفينة) (٥) ثلاثة بنين: يافث وسام وحام، والناس كلهم من ذرية أولئك (٦).
قال الزجاج: وإنما ذُكِّروا بنعمة الله عندهم؛ إذ أنجى آباءهم (٧) من
(١) لم أقف عليه.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٥ بنصه.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٦٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٤، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٣، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٩٤، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٩ بنصه، وتضمن الخبر قول الحسن اللاحق بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٤؛ كالطبري.
(٥) ما بين القوسين ساقط من (د).
(٦) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٠٧.
(٧) في جميع النسخ: (آباؤهم)، وهو خطأ نحوي ظاهر، وفي المصدر (أبناءهم)، وهو خطأ كذلك، لكن في اللفظ.
الغرق بأنهم حُمِلُوا مع نوح (١)، الوجه الثاني؛ في نصب ذرية: أن يكون مفعول الاتخاذ؛ لأنه فعلٌ يتعدى إلى مفعولين؛ كقوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ (٢) [النساء: ١٢٥]، ويجوز هذا الوجه في القراءتين جميعًا، والمعنى: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، ذكر هذا أبو إسحاق وأبو علي (٣).
ثم أثنى على نوح فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾، قال المفسرون: كان نوح إذا أكل طعامًا أو لبس ثوبًا حمد الله تعالى، فَسُمِّي عبدًا شكورًا (٤).
٤ - قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: أعلمناهم وأخبرناهم (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٦ بنصه تقريبًا.
(٢) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٨٥ بنصه.
(٣) انظر المصدرين السابقين.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٩ بنصه وبنحوه من عدة طرق، ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٢ أ، و"السمرقندي" ٢/ ٢٥٩، و"هود الهواري" ٢/ ٤٠٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٠ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٨، والطوسي (٦/ ٤٤٧، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٦٧، و"الزمخشري" ٢/ ٢٥١، و"ابن الجوزي" ٥/ ٧، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٥، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٣.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٢١ بلفظه عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٢ بلفظه عن ابن عباس، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٠ بلفظه، و"هود الهواري" ٢/ ٤٠٨، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٤ أبلفظه، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٨، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٨ بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٦٧، و"ابن عطية" ٩/ ١٥، و"ابن الجوزي" ٥/ ٧، عن ابن عباس، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٥، والخازن (٣/ ١٥٢، و"أبي حيان" =
253
قال أبو إسحاق: معناه أعلمناهم في الكتاب وأوحينا إليهم، ومثل ذلك: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ﴾ [الحجر: ٦٦] معناه أعلمناه وأوحينا إليه (١)، ومعنى القضاء في اللغة: قطع الأشياء عن إحكام (٢)، ومنه قوله: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [فصلت: ١٢] وقول الشاعر (٣):
وعليهما مَسْرودَتان قضاهما (٤)
قال ابن قتيبة في هذه الآية: أعلمناهم؛ لأنه لما خَبَّرهم أنه (٥)
= ٦/ ٨، عن ابن عباس، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٩٥ - ٢٩٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٧ بنصه تقريبًا.
(٢) انظر (قضى) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٨٦، و"المحيط في اللغة" (٥/ ٤٦٢، و"مجمل اللغة" ٢/ ٧٥٧، "الصحاح" ٦/ ٢٤٦٣، و"اللسان" ٦/ ٣٦٦٥.
ذكر أصحاب الوجوه والنظائر أن قضى وردت في القرآن على عشرة أوجه، ونقل ابن حجر في الفتح عن إسماعيل النيسابوري أنها وردت في القرآن على خمسة عشر وجهًا، كما ذكر ضابطًا لمعنى القضاء، نقله عن الأزهري؛ وهو: كل ما أحكم عمله أو ختم أو أكمل أو وجب أو ألهم أو أنفذ أو مضى فقد قضى. انظر: "التصاريف" ص ٣٤٠، و"إصلاح الوجوه والنظائر" ص ٣٨٥، و"فتح الباري" ٨/ ٢٤١.
(٣) هو أبو ذُؤَيب الهذلي، مخضرم (ت ٢٧ هـ).
(٤) وعجزه:
داوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوَابغِ تُبَّعُ
"ديوان الهذليين" ص ١٩، وورد في "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٤١، و"تهذيب اللغة" (قضى) ٣/ ٢٩٨٦، و"اللسان" ٦/ ٣٦٦٥.
وورد برواية: (تعاوَرا مَسْرودَتَيْنِ قضاهما) في "المعاني الكبير" ٢/ ١٠٣٩. وورد غير منسوب في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٧، (مسرودتان): درعان، (قضاهما): فرغ منهما؛ أي داود عليه السلام، أو صنَعُ السوابغ، و (الصَّنَعُ): الحاذق بالعمل، والصَّنَع هاهنا: تُبَّع.
(٥) الأولى أنهم كما في المصدر.
254
سيفسدون في الأرض، حَتَّمَ بوقوع الخبر (١)، و ﴿إِلَى﴾ في هذه الآية من صلة الإيحاء؛ لأن معنى: ﴿قَضَيْنَا﴾: أوحينا، فالمعنى: إنا أوحينا إليهم، كذا قال أبو إسحاق (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَتُفْسِدُنَّ﴾ قال ابن عباس: يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة (٣).
وقوله تعالى: ﴿فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ قال الكلبي: يعني أرض مصر (٤)، ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ قال الزجاج: معناه لَتَعْظُمُنَّ ولَتَبْغُنَّ؛ لأنه يقال لكل مُتجبِّرٍ: قَدْ عَلا وتعظَّمَ (٥).
٥ - قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا﴾ يعني أُولى (٦) المرتين، ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قال عطية: أفسدوا المرة الأولى فأرسل
(١) "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٤١ بنصه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٧ بنصه.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٦، بنحوه، و"تفسير البغوي" ٥/ ٧٩، بنحوه عن قتادة، وورد بنصه وبنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٠، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٤ أ، و"ابن الجوزي" ٥/ ٧، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٥، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٤، و"الخازن" ٣/ ١٥٢.
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٧، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٥ - بلا نسبة فيهما، وهو تفسير غريب للأرض المعنية بأنها مصر؛ لأن الأحداث كلها تدور في بيت المقدس والشام؛ كما نصت عليه الروايات وأشار إليها بعض المفسرين؛ كالبغوي ٥/ ٧٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٤، و"الخازن" ٣/ ١٥٢، والغريب أن أبا حيان نسب إلى الكلبي خلافه؛ فقال: وقال الكلبي: لتعصنّ في الأرض المقدسة. انظر: "تفسير أبي حيان" ٦/ ٩.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٧، بنصه.
(٦) ساقطة من (ش)، (ع).
255
الله عليهم جالوت، وعاد ملكهم كما كان، وهذا قول قتادة ورواية عطية عن ابن عباس (١)، وعلى هذا القول: ﴿عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ هم جالوت وجنوده.
ومعنى: ﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قال ابن عباس: البأس: القتال (٢)، ومنه قوله: ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: ١٧٧].
ومعنى ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ﴾: أرسلنا عليكم وخَلَّيْنَا بينكم وبينهم خاذلين إياكم (٣).
وقال مجاهد في قوله: ﴿عِبَادًا لَنَا﴾ الآية. قال: جند جاءهم (٤) من
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٣، بنحوه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ٢٨، بنحوه عن ابن عباس من طريق عطية (ضعيفة) وبنحوه من طريقين عن قتادة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٣، بنحوه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٤ أ، بنحوه عن ابن عباس، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٨، بنحوه عنهما، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٩، عنهما، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٥، عن قتادة، وابن كثير ٣/ ٢٩، عنهما، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٩٩ وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن عطية، وأورده وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وأورده ٥/ ٢٤٤ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن قتادة.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٥/ ٤٥ بلفظه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٢٧ بلفظه من عدة طرق عن ابن مسعود ومجاهد وقتادة والضحاك، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ١/ ٣١٥ وزاد نسبته إلى وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود.
(٣) ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٢٩، بنحوه عن الحسن، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٥٢، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٥.
(٤) هكذا في جميع النسخ، والأولى جاؤوهم؛ لأن جند جمع، ويتناسب مع قوله: يتحسسون، وهكذا في المصدر.
256
فارس، يتحسسون أخبارهم ويسمعون حديثهم، معهم بختنصر فوعى (١) حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعت إلى فارس ولم يكن قتال، ونُصر عليهم بنو إسرائيل، فهذه وعد الأولى، وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ قال الليث: الجوس والجوسان: التردد خلال الدور والبيوت في الغارة ونحو ذلك (٣)، ومعنى جاسوا: ترددوا وتخللوا (٤).
وقوله تعالى: ﴿خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ يعني ديار بيت المقدس، والخلال: الانفراج بين الشيئين (٥) واختلفت العبارات في تفسير جاسوا؛ فقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: مشوا (٦).
(١) في (د): (مرفوعًا).
(٢) "تفسير مجاهد" ص ٤٢٨ وعبارته مضطربة ومخالفة لجميع المصادر، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٣٠ بنصه عن مجاهد من ثلاثة طرق، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢١٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٩٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، ولم أقف عليه منسوبًا إلى ابن عباس.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (جاس) ١/ ٥٢١ بنصه تقريبًا.
(٤) انظر: (جوس) في "تهذيب اللغة" ١/ ٥٢١، و"المحيط في اللغة" ٧/ ١٤٦، و"مجمل اللغة" ١/ ٢٠٣، و"الصحاح" ٣/ ٩١٥، و"اللسان" ٢/ ٧٢٦ "جوس".
(٥) انظر: "المحيط في اللغة" (خل) ٤/ ١٧٥، و"مجمل اللغة" ١/ ٢٧٦، و"الصحاح" (خلل) ٤/ ١٦٨٧، و"المحكم" (خلل) ٤/ ٣٧١، و"اللسان" ٢/ ١٢٤٩.
(٦) في جميع النسخ: (فتشوا)، والتصويب من المصادر؛ فقد أخرجه "الطبري" ١٥/ ٢٧ - ٢٨ بلفظه من الطريق نفسه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٣ بلفظه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٤ أبلفظه، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٩ بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٩٩، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم
257
وقال أبو عبيدة: طلبوا مَنْ فيها (١).
وقال الفراء: يقول: قتلوكم بين بيوتكم (٢).
وقال ابن قتيبة: عاثوا وأفسدوا (٣).
وقال الزجاج: أي فطافوا خلال الدّيار هل بقي أحدٌ لم يقتلوه، والجَوْس: طلب الشيء باستقصاء (٤)، هذا كلامهم، والجَوْس يحتمل هذه المعاني التي ذكروها، إنّ معنى الجوس هو التردد للطلب، فيحتمل أنهم جاسوا لطلب الخبر على قول مجاهد (٥)، ويحتمل أنهم جاسوا بالقتل والعبث وطلب من يقتلونه (٦)، ويشهد لهذا قول حسان:
ومِنَّا الذي لاقَى بِسَيْفِ محمدٍ فَجَاس به الأعداءَ عَرْضَ العَسَاكر (٧)
أي: تخللهم قتلًا بسيفه.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ قال قتادة: قضاء قضاه على القوم كما تسمعون (٨).
(١) ليس في مجازه ١/ ٣٧٠، والذي فيه قال: قتلوا. وقد ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٤ أ.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٦ بنصه.
(٣) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٢ بنصه تقريبًا.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٧ بنصه تقريبًا.
(٥) تقدم قوله في الصفحة السابقة حاشية (٢).
(٦) ورد في "تفسير الطبري" ١٥/ ٢٨، بنحوه.
(٧) لم أجده في ديوانه المطبوع، وورد في "تفسير الطبري" ١٥/ ٢٨، و"الماوردي" ٣/ ٢٢٩، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٦، والشوكاني ٣/ ٣٠٠، و"الدر المصون" ٧/ ٣١٤.
(٨) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٢٨ بنصه.
258
٦ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس في رواية عطية: وقتل داود جالوت وعاد ملكهم كما كان (١).
وقال مجاهد: نُصِرَ عليهم بنو إسرائيل (٢).
والكرة معناها: الرجعة والدولة (٣)، وهذه الآية تدل على أنهم هُزِمُوا في المرة الأولى وقُتِلَ منهم.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾، قال أبو عبيدة: النفير: العدد من الرجال (٤).
(وقال الزجاج: أي جعلناكم أكثر منهم نُصَّارًا (٥).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٣٠ - ٣١ مفصلًا من طريق العوفي (ضعيفة)، النظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٢٩، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٣٠، و"الزمخشري" ٢/ ٣٥٢، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٠، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٧، و"أبي حيان" ٦/ ١٠، و"الألوسي" ١٥/ ١٨.
(٢) ليس في تفسيره، أخرجه "الطبري" ١٥/ ٣٠ - ٣١ جزء من أثر بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٩٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) ورد بنحوه في: "غريب القرآن" لليزيدي ص ٢١١، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٢، و"تهذيب اللغة" (كر) ٩/ ٤٤٢ و"المحيط في اللغة" (كر) ٦/ ١٣٨، و"مجمل اللغة" ٢/ ٧٦٧، و"الصحاح" (كرر) ٢/ ٨٠٤، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٤ ب) بنصه، و"الطوسي" ٦/ ٤٤٩، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٧٩، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٠، و"القرطبي" ١٠/ ٢١٧.
(٤) ليس في مجازه ١/ ٣٧١ والذي فيه، قال: مجازه: من الذين نفروا معه، وورد نحوٌ من هذا القول عن أبي عبيد؛ قال: النفر والرَّهط: ما دون العشرة من الرجال. "تهذيب اللغة" (نفر) ٤/ ٣٦٢٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢ بنصه.
قال ابن قتيبة: أكثر عددًا، وأصله مَنْ يَنْفِرُ مع الرجل مِنْ عشيرته وأهل بيته، وهو (١) النَّفِيرُ والنافر واحد؛ كما يقال: قدير وقادر (٢)، وذكرنا معنى نفر عند قوله: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ﴾ (٣) [التوبة: ١٢٢] وقوله: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا﴾ (٤) [التوبة: ٤١].
وقال الزجاج: ويجوز أن يكون النفير جمعًا (٥)؛ كالكليب والعبيد والضَّئين والمَعِيز (٦)، ونفيرًا منصوب على التَّمييز (٧).
٧ - قوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ الآية. يحتاج هاهنا إلى إضمار القول على تقدير: وقلنا: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد إن أطعتم الله فيما بقي عفا عنكم المساوئ، ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ﴾ قال: يريد الفساد وعصيان الأنبياء وقتلهم، ﴿فَلَهَا﴾، قال: يريد فعلى
(١) ضمير الفصل هو غير موجود في المصدر.
(٢) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٢ بنصه.
(٣) في كلا الموضعين لم يتكلم عن المعنى اللغوي لنفر!
(٤) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٥) قال ابن عطية: وعندي أن النفير اسم للجمع الذي يَنْفُر، سُمِّي بالمصدر، ومنه قول أبي سفيان لبني زهرة: لا في العير ولا في النفير، أي: ولا في جمع قريش الخارج من مكة إلى بدر. انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٢١.
(٦) الضَّئينُ: جمع ضأن، والضَّأْن ذوات الأصواف من الغنم. انظر (ضأن) في "جمهرة اللغة" ٢/ ١٠٧٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٠٨٣، و"محيط في اللغة" ٨/ ٤٧، و"الصحاح" ٦/ ٢١٥٣.
والمَعِيْزُ: جمع مِعْزَى وماعز، والمَعْز: ذوات الشعر من الغنم. انظر (معز) في "جمهرة اللغة" ٢/ ٨١٦، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٢٠، و"المحيط في اللغة" ١/ ٣٩٨، و"الصحاح" ٣/ ٨٩٦.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٨ بنصه.
260
أنفسكم يقع الوبال.
قال النحويون: إنما قيل: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ للتقابل، والمعنى: فإليها أو فعليها (١)، مع أن حروف الإضافة تقع بعضها موقع بعض إذا تقاربت، كقوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥] أي إليها.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ أي وعد المرة الآخرة من إفسادكم، قال المفسرون: فأفسدوا المرة؛ فقتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم (بخت نصر) البابلي المجوسي (٢) -أبغض خلقه إليه- فَسَبَا وقتل
(١) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ٣١، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٤ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٥١، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٠، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٨ بنصه، و"الدر المصون" ٧/ ٣١٦.
وذهب النحاس إلى أن لها على بابها، وقال: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾: أي يحصل العقاب لها، ثم قال: و (لها) بمعنى (عليها) لا يقوله النحويون الحذاق، وقد رجحه العكبري والمنتجب؛ قال العكبري: وقيل: هي على بابها، وهو الصحيح؛ لأن اللام للاختصاص، والعامل مختص بجزاء عمله حسنة وسيئة. انظر "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٣١، و"الإملاء" ٢/ ٨٨، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٦٠.
(٢) هذا القول مشهور، بل قال "الطبري" ١٥/ ٢٧: لا اختلاف بين أهل العلم أن إفسادهم في المرة الآخرة كان قتلهم يحيى بن زكريا، ومع ذلك فقد رده كثير من العلماء، قال الثعلبي: ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا، فغلط عند أهل السير والأخبار؛ لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شَعْيَا وفي عهد أرمياء، قالوا: ومن عهد أرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا -عليهما السلام- أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وقال السهيلي: وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بن مريم -عليهما السلام- بزمان طويل،.. ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شَعْيَا؛ فقد كان بختنصر إذ ذاك حيًا، فهو الذي قتلهم وخرَّب بيت المقدس. وقال الفخر الرازي: التواريخ تشهد بأن =
261
وخَرَّب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب (١).
= بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه السلام، ويحيى بن زكريا -عليهما السلام- بسنين متطاولة. انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٣ أ، و"ابن الجوزي" ٥/ ١١، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٨، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٠.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٣٥ - ٤٣، بنحوه عن ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة وابن جبير، وورد بنحوه في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٠٩، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ١١.
اختلف في فسادي بني إسرائيل من حيث الوقوع وعدمه على ثلاثة أقوال:
الأول: أن كلا الفسادين وقع قبل بعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزول القرآن، ووقعا في بيت المقدس، وإليه ذهب القدامى من المفسرين، واختلفوا في الفساد الأول؛ فذهب علي وابن مسعود وابن عباس وابن زيد -رضي الله عنهم- إلى أنه قتلهم زكريا عليه السلام، وروى ابن إسحاق أنه كان قتلهم شعياء، وأيَّد قوله بأن بعضَ أهلِ العلم أخبره أن زكريا مات موتًا ولم يُقتل، أما فسادهم في المرة الآخرة، فقد ذكر ابن جرير أنه لا خلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام. انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٢٧ - ٢٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٢٩٦.
القول الثاني: أن الفساد الأول مضى قبل الإسلام والثاني هو فسادهم الحالي، قاله بعض المعاصرين، ومنهم الدكتور مصطفى مسلم، فقد ذكر أن الإفساد الأول كان بعد مملكة سليمان عليه السلام، وأن الإفساد الثاني لمَّا يأت بعد، لكنه قال: وبدأت بذوره من بداية مؤتمر اليهود في بال بسويسرا عام ١٨٩٧ م والتي وضعوا فيها المخطط المدروس لإفساد العالم، ويرى أن اللبنة الأولى قيام دولة إسرائيل، ومنذ ذاك الوقت -إلى الآن- وعلو بني إسرائيل في تزايد مستمر. انظر: "معالم قرآنية في الصراع مع اليهود" ص ٢٥٢.
وأما الشيخ سعيد حوى فقد وضع ضابطًا لترجيح أَيِّ قول حول إفسادهم؛ فقال: إن النص يحدثنا عن إفسادتين لبني إسرائيل يرافقهما علو كبير، وهذا مهمّ جدًّا في فهم الموضوع؛ لقد أفسد بنو إسرائيل إفسادات كثيرة ولكن لم يكن يرافق كل ذلك علوّ كبير لهم ودولة، كما أنهم قد علوا علوًّا كبيرًا في مراحل -كما حدث في زمن داود وسليمان -عليهما السلام- ولكنه علو لا يرافقه فساد. ثم قال: ويبدو بما لا =
262
وجواب قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ﴾ محذوف، تقديره: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ بعثنا ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾، ودل عليه ما تقدم، من قوله: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا﴾ فَحُذف لتقدم ذكره، ولأنه جواب (إذا) وشرطها يقتضيه، فحُذف للدلالة عليه، قاله الفراء (١) وأبو علي (٢) وصاحب النظم.
= يقبل الجدل أن الإفسادة الأولى هي التي سلط عليهم بها بختنصر، فهي الإفسادة التي رافقها بغي وطغيان وعتو، ثم قال: فهل الإفسادة الثانية هي ما نراه الآن؟ إذ لهم دولة وسلطان، وإفساد وطغيان.. وبعد مناقشات رجح أن الإفسادة الثانية هي الآن، فقال: والآن إفسادهم في الأرض كلها معروف، وسيطرتهم الخفية على بعض بلدان العالم معروفة، واجتمع لهم سلطان ودولة. انظر: "الأساس في التفسير" ٦/ ٣٠٣٧، وعلى هذا القول يكون مكان الإفسادتين بيت المقدس أيضًا.
القول الثالث: أن الفسادين وقعا بعد بعثة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ونزول القرآن؛ فالأول وقع إبان بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- والثاني هو الحالي، قاله أيضًا بعض المعاصرين؛ يقول الشيخ سعيد حوى: ويمكن أن نفهم المسألة فهمًا آخر؛ بأن نعتبر الإفسادة الأولى هي محاولتهم الوقوف في وجه الدعوة الإِسلامية، وتسليط الله المسلمين عليهم وعلى ديارهم حول المدينة المنورة، والإفسادة الثانية هي الإفسادة الحالية، ويكون المسلمون الذين غلبوهم أول مرة هم الذين سيغلبونهم المرة الثانية، إذا اجتمع لهم العبودية لله والبأس الشديد. انظر: "الأساس في التفسير" ٦/ ٣٠٤٠.
وقد انتصر الدكتور صلاح الخالدي للقول الثالث، بل لم ير غيره، وناقش قول القدامى ورد عليه، وأهم منطلقاته أن قول القدامى اعتمد على الإسرائيليات وعلى روايات تاريخية لم تثبت تاريخيًا ولا علميًا، ودلل على أن إفسادهم الأول المقرون بالعلو الكبير لم يكن أثناء وجودهم في بيت المقدس، إنما كان أول إفساد لهم مقرونًا بالعلو الكبير بالحجاز قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعدها، وذكر صورًا من مظاهر إفسادهم الأول، ثم دلل على أن الإفسادة الثانية هي الحالية بتحليل مفردات الآية السادسة ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ..﴾، والاستدلال بواقعهم المعاصر الذي وصلوا فيه الذروة في العلو الكبير. انظر: "حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية" (١٥٠ - ١٩٠)، و"الشخصية اليهودية من خلال القرآن" (٣٢٧ - ٣٤٩).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٦، بنحوه.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٦ بنصه تقريبًا.
263
وقوله تعالى: ﴿لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ يقال: ساءه يسوؤه، أي: أحزنه، وذكرنا ذلك في مواضع (١)، قال أبو علي: قال: ﴿وُجُوهَكُمْ﴾ على أنَّ الوجوهَ مفعول ﴿لِيَسُوءُوا﴾، وعُدِّيَ إلى الوجوه، ولأن الوجوه قد يُراد بها ذَوو الوجوه؛ لقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وكأن الوجوه إنما خُصَّت بذلك؛ لأنها تدل على ما كان من ذوي الوجوه من الناس من حزنٍ ومسرةٍ وبشارةٍ وكآبةٍ (٢)، والمعنى: بعثناهم ليسوؤوا (٣)، وهذه قراءة العامة (٤)، وهي وَفْق المعنى واللفظ؛ أما المعنى: فإن المبعوثين هم (٥) الذين يسوؤونهم في الحقيقة؛ لقتلهم إيّاهم وأسرهم لهم، وأما اللفظ: فإنه يوافق قوله: ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾، وقرأ حمزة: ﴿لِيَسُوءُوا﴾ على واحد بالياء (٦)، وفاعلُ يَسُوء يجوز أن يكون أحدَ شيئين: إما اسم الله سبحانه؛ لأن الذي تقدم بعثنا ورددنا وأمددنا، وإما أن يكون البعث، ودل عليه ﴿بَعَثْنَا﴾ المتقدم (٧)، والفعل يدل على المصدر؛ كقوله تعالى: {وَلَا
(١) منها في سورة البقرة آية [٤٩].
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٥٠ بنصه تقريبًا.
(٣) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٦ بتصرف واختصار.
(٤) وهم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم، قرؤوا بالياء وضم الهمزة وإشباعها، انظر: "السبعة" ص ٣٧٨، و"علل القراءات" ١/ ٣١٣، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٣، و"الحجة للقراء" ٥/ ٨٥، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٧، و"التبصرة" ص ٥٦٧، و"النشر" ٢/ ٣٠٦.
(٥) ساقطة من (د).
(٦) أي: (لِيَسُوءَ)، وقرأ بها كذلك عاصم وابن عامر. انظر المصادر السابقة.
(٧) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٨٦ بنصه تقريبًا.
264
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: ١٨٠] وقال الزجاج: ليسوء الوعدُ وجُوهَكم (١)، وقرأ الكسائي بالنون (٢)، وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى لقوله: بعثنا وأمددنا.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ يقال: تَبِرَ الشيءُ يَتْبَرُ تَبارًا إذا هلك، وتَبَّرَه: أهلكه (٣).
قال أبو إسحاق: وكل شيء كَسَرْتَه وفَتَّتَّهُ فقد تَبَّرْتَهُ (٤)، ومن هذا تِبْرُ الزجاج وتِبْرُ الذهب لِمُكَسَّره (٥)، قال المفسرون: أي لِيُدَمِّروا وُيخَرّبُوا ما غَلبُوا عليه (٦)، جعلوا (ما) بمنزلة الذي، وهذا قول قتادة (٧).
وقال الزجاج: معناه لِيُدَمِّروا (٨) في حال عُلُوِّهِم (٩)، (ما فجعل
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٨ بنصه.
(٢) أي: (لِنَسُوءَ) انظر المصادر نفسها الصفحة السابقة حاشية رقم (٥).
(٣) انظر: (تبر) في "جمهرة اللغة" ١/ ٢٥٣، و"المحيط في اللغة" ٩/ ٤٢٩، و"الصحاح" ٢/ ٦٠٠، و"اللسان" ١/ ٤١٦
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٨ - بمعناه، وورد في "تهذيب اللغة" (تبر) ١/ ٤٢٤ بنصه.
(٥) في جميع النسخ (لتكسره)، والمثبت هو الصحيح، ويؤيده ما في التهذيب، قال: ومن هذا قيل لِمُكَسَّر الزجاج.
(٦) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٢ أ، و"الطبري" ١٥/ ٣٦ بنصه، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦١، وهود الهواري ٢/ ٤٠٩، و"الطوسي" ٦/ ٤٥١، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١١، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٥٩، بنصه.
(٧) أخرجه بنحوه: "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٣، و"الطبري" ١٥/ ٣٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٩٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٨) في (ع) زيادة (ما) أي: ليدمروا ما، وأغلب الظن أنه خطأ من النساخ.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٨، بنصه.
265
ظرفًا) (١). قال أبو علي: ولهذا عبارةٌ أجودُ مما ذكر وأوضح في المعنى؛ وهو أن يقول: وليتبروا في وقت علوهم؛ لأن هذه (ما) التي أصلها المصدر، ثم يتسع فيها وتستعمل ظرفًا من الزمان (٢).
٨ - قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ هذا مما أخبر الله تعالى أنه قضى به إلى بني إسرائيل في كتابهم، والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل، قال المفسرون: فعاد الله بعائدته ورحمته عليهم حتى كثروا وانتشروا (٣).
قال الأخفش: في الآية محذوف، تقديره: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ إن فعلتم ذلك؛ يعني أحسنتم وتركتم المعاصي (٤)، ثم قال: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ قال الحسن: وإن عدتم بالمعصية عدنا بالعقوبة (٥).
قال قتادة وإبراهيم وغيرهم: فعاد (٦) القوم لشر ما يحضر بهم، فبعث الله عليهم من شاء لنقمته وعقوبته (٧)، ثم كان آخر ذلك أن بعث عليهم هذا الحي من العرب فهم في عذاب منهم أبدًا إلى يوم القيامة، يُعْطُون الجزية
(١) هكذا وردت العبارة -بين القوسين- في جميع النسخ، ويبدو أن (ما) تقدمت على (فجعل)، فتكون العبارة فجعل (ما) ظرفًا.
(٢) "الإغفال" ٢/ ١٥٣ بنصه تقريبًا، ولا فرق كبير بين المعنيين، مع وصفه لعبارته بأنها أجود وأوضح.
(٣) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦١، بمعناه، و"هود الهواري" ٢/ ٤١٠، بنحوه مختصرًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٢، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٣.
(٤) ليس في معانيه.
(٥) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٦، بنصه.
(٦) في (أ)، (د): (فعادو).
(٧) أخرجه الطبري ١٥/ ٤٣، بنصه تقريبًا عن قتادة، وبمعناه عن ابن عباس وقتادة، =
266
عن يد وهم صاغرون، وهو معنى قوله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ (١) الآية [الأعراف: ١٦٧].
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ قال ابن عباس والمفسرون كلهم: سجنًا ومحبسًا (٢)، وذكرنا الكلام في الحصر عند قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦]، قال الأخفش في قوله: ﴿حَصِيرًا﴾، أي: مَحْبِسًا ومَحْصِرًا (٣)، وهو قول جميع أهل اللغة؛ قال الليث: يُفَسَّر على أنهم يُحْصَرُون فيها (٤)، وقال ابن قتيبة: هو فعيل بمعنى فاعل (٥).
= ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٤ ب - بمعناه عن قتادة، و"الماوردي" ٣/ ٢٣١ - بمعناه عن قتادة، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٢ - بمعناه عن ابن عباس وقتادة، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٠، عن قتادة، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٢، عن قتادة، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٤، عن قتادة، و"أبي حيان" ٦/ ١١، و"ابن كثير" ٣/ ٣٠.
(١) أورد المؤلف في تفسير هذه الآية قول ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة؛ قالوا: هم العرب ومحمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته، بعثهم الله على اليهود يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
(٢) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٢ ب بلفظه، وأخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٤ بلفظه عن قتادة، وورد بلفظه في: غريب القرآن لليزيدي ص ٢١٢، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٢، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٤٥ بلفظه عن ابن عباس -من طريق ابن أبي طلحة- وأبي عمران وقتادة وابن زيد، وبمعناه عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، وورد كذلك في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٦ بلفظه عن قتادة، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦١ بنصه، و"هود الهواري" ٢/ ٤١٠ بلفظه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٤ ب بلفظه، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٢ بلفظه ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٢، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٤، و"الخازن" ٣/ ١٥٨، و"ابن كثير" ٣/ ٣٠.
(٣) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (حصر) ١/ ٨٣٩، بنصه.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (حصر) ١/ ٨٣٩ بنصه.
(٥) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٢ بنصه.
267
وقال أبو إسحاق: حصيرًا معناه حَبْسًا؛ من حصرته، أي حَبَسْتُه فهو محصور، وهذا حَصِيرُهُ أي مَحْبِسُهُ (١)، والحصير الملك لأنه محجوب فكأنه محصور (٢)، والحصير الجَنْبُ؛ لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض (٣)، ومن هذا يقال للذي يُفْرَش: حصير؛ لحصر بعضه على بعض بالنسج (٤).
وإلى هذا ذهب الحسن في تفسير هذه الآية. فقال في قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ أي مهادًا وفراشًا (٥)؛ كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ [الأعراف: ٤١].
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٨ بتصرف يسير.
(٢) ورد بنصه تقريبًا في "تفسير الطبري" ١٥/ ٤٥، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٤ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٢، انظر: "الصحاح" (حصر) ٢/ ٦٣١، و"مجمل اللغة" ١/ ٢٣٩، و"اللسان" (حصر) ٢/ ٨٩٦، و"عمدة الحفاظ" ١/ ٤٨٢.
(٣) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٩ بنصه، (الجَنْبُ): شِقُّ الإنسان وغيره. "اللسان" (جنب) ١/ ٢٧٥.
(٤) قاله القُشَيْرِي؛ كما في "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٢٤، انظر (حصر) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٣٩، و"اللسان" ٢/ ٨٩٧، و"عمدة الحفاظ" ١/ ٤٨١، وقال: سمي الحصير حصيرًا لكونه يَحصرُ من يجلس عليه.
(٥) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٤ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ٤٥ - ٤٦ بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٦ بنصه، وتصحفت فيه: مهادًا إلى معادًا، و"المفردات" ص ٢٣٨ بلفظه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٤ ب بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٣١، بنصه، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٢ بلفظه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٢، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٤، و"عمدة الحفاظ" ١/ ٤٨٢، و"تفسير ابن كثير" ٣/ ٣٠.
وقد رجح الطبري قول الحسن هذا، وقال: إن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس، كما أن فعيلًا في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر لا وجود له في كلام العرب، وقال الثعلبي: وهو وجه حسن.
268
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ﴾ إلى آخر الآية. فصلٌ يحتمل أن يكون ابتداءَ إخبارٍ عن الله تعالى في عقاب جميع الكافرين، ويحتمل أن يكون عطفًا على ما قبله؛ فيتضمن الإخبار عن تمام عقابهم على عودهم، والمراد بالكافرين اليهود؛ كأنه قيل: وإن عدتم للمعاصي والفساد عدنا عليكم بالتسليط، هذا في الدنيا، وجعلنا جهنم لكم مَحْبَسًا في الآخرة، وصرف الخطاب إلى المعاينة في قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾.
٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي﴾، أي: يُرْشد ويدعو للتي، أي إلى التي ﴿هِيَ أَقْوَمُ﴾، أي: أعدل وأرشد (١) وأصوب؛ من قولهم: رمح قويم وقوام، أي مستقيم (٢)، وفلان أقوم كلامًا من فلان، أي أعدل، و ﴿لِلَّتِي﴾ نعت لموصوف محذوف على تقدير: يهدي للكلمة التي هي أقوم أو الطريقة والحالة؛ وهي كلمة التوحيد على ما قاله المفسرون (٣)، وإن شئت قلت طريقة التوحيد والإسلام (٤)، وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمانُ بِرُسُلِه والعملُ بطاعته (٥).
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ الآية. فيجب ﴿أَن﴾
(١) في (أ)، (ش)، (ع): (أشد)، والمثبت من (د)، وهو المناسب للسياق.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (قام) ٣/ ٢٨٦٤ بنصه.
(٣) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٧ - بمعناه، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٧، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦١، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٤ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٢ - بمعناه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٠، و"ابن عطية" ٨/ ٢٦، و"الخازن" ٣/ ١٥٨.
(٤) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٥٣، وهو أعمّ من الأول، ورجحه ابن عطية ٩/ ٢٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٩ بنصه تقريبًا.
للعطف بها على ﴿أَن﴾ الأولى؛ وذلك أنهم بُشِّرُوا بالنّعيمِ الذي لهم والعذاب الذي لأعدائهم، قال الفراء: أُوقعت (١) البشارة على قوله: ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا﴾ وعلى قوله: ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية. على أن يكون المؤمنون بُشِّرُوا بهما جميعًا؛ كما تقول: بَشَّرت عبد الله أنه سيُعطى وأن عدوّه سيُمنَع (٢)، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذى من المشركين فجعل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين.
١١ - قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ الآية. القياس إثبات الواو في ويدعو، وحُذف في المصحف من الكتابة؛ لأنها لا تظهر في اللفظ، ولم تحذف في المعنى؛ لأنها في موضع رفع، فكان [حذفها باستقبالها اللام الساكنة، ومثلها:] (٣) ﴿يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ [ق: ٤١] و ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر: ٥] فلو كان بالياء والواو كان صوابًا، هذا كلام الفراء (٤)، والمعنى: أن الإنسان ربما دعا عند الضجر والغضب على نفسه وأهله وولده بما لا يحب أن يستجاب له؛ كما يدعو لنفسه بالخير (٥)، والمعنى: كدعائه بالخير، ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ أي في طلب ما هو شَرٌّ له، يَعْجل بالدعاء في الشر عجلته بالدعاء في الخير، هذا قول مجاهد وقتادة وعامة
(١) في (ش)، (ع): (وقعت)، والمثبت موافق للمصدر.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٧ بتصرف يسير.
(٣) ما بين المعقوفين إضافة من المصدر ليتضح المراد، ويبدو أنها سقطت.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٧ بتصرف.
(٥) ورد نحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ٤٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٣، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٢، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٥، و"أبي حيان" ٦/ ١٣.
المفسرين (١)، والإنسان في هذه الآية اسم الجنس.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ﴾ يعني النضر بن الحارث؛ قال: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ﴾ (٢) الآية [الأنفال: ٣٢] ﴿دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ يريد كما يدعو المؤمنون بالمغفرة والرحمة، ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ يعني آدم حين نهض قبل أن يجري الروح فيه؛ وذلك أن آدم لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى، فذهب لينهض فلم يقدر، وهو قوله: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (٣).
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ قال المفسرون وأهل
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٤ - بمعناه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ٤٨ بمعناه عن قتادة ومجاهد، وورد بمعناه في: "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٢، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، والطوسي ٦/ ٤٥٣، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨١، و"ابن عطية" ٩/ ٢٧، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٢، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٦، و"ابن كثير" ٣/ ٣٠.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٧، وورد غير منسوب في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٣ أبنصه، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، بنصه، و"ابن عطية" ٩/ ٢٨، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٣، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٢، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٥، و"أبي حيان" ٦/ ١٤، والتعميم أولى من التخصيص في مثل هذا.
(٣) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٣ أ، بنحوه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ٤٧ - ٤٨، بنحوه عن ابن عباس وسلمان، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٨، عن سلمان، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، عنهما، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ، عنهما، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٢، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٢٨، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٣، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٣، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٦، و"أبي حيان" ٦/ ١٣، و"ابن كثير" ٣/ ٣٠، وأغلب الظن أن هذا الخبر من الإسرائيليات.
271
المعاني: جعلناهما علامتين تدلان على قدرة خالقهما ووحدانيته (١).
وقال آخرون: المعنى جعلناهما ذوي آيتين (٢)؛ فحذف المضاف، يدل عليه أنه قال: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾، ولم يقل: فمحونا الليل ولا فمحونا أحديهما، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما.
وقوله تعالى: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾، أي: طمسنا نورها بما جعلنا فيها من السواد، وهذا قول عامة المفسرين (٣)؛ قالوا: السواد الذي يُرى في القمر هو أثر المحو (٤)، وروي في حديث مرفوع: "إن الشمس والقمر كانا
(١) ورد بنحوه في: "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٣ أ، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨١، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٤، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٧، و"الخازن" ٣/ ١٥٨، و"أبي حيان" ٦/ ١٤، و"الدر المصون" ٧/ ٣٢١.
(٢) انظر: "الإملاء" ٢/ ٨٩، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٦٢، و"تفسير أبي حيان" ٦/ ١٤، و"الدر المصون" ٧/ ٣٢١، و"تفسير الألوسي" ١٥/ ٢٦.
(٣) ذكر الفخر الرازي قول الجمهور وذكر قولاً آخر ورجحه؛ وهو: أن المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور؛ يبدأ هلالاً ولا يزال يكبر حتى يصير بدرًا كاملاً، ثم يبدأ في الانتقاص قليلاً قليلاً، وذلك هو المحو، ثم ذكر مسوغات ترجيح هذا القول. انظر: "الرازي" ٢٠/ ١٦٤، ويضاف إلى ما ذكره أن الأثر الذي اعتمد عليه عامة المفسرين أثر ضعيف عن علي وابن عباس، فهو عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن علي من طريق ابن الكَوَّاء الخارجي؛ رؤوس الخوارج، قال عنه البخاري: لم يصحَّ حديثه. انظر: "لسان الميزان" ٣/ ٣٢٩.
(٤) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٣ أ، بنحوه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٤٩ - ٥٠، بنحوه عن علي وابن عباس ومجاهد من عدة طرق، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٢٨، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٢، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨١، و"ابن عطية" ٩/ ٣٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٤، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٨، و"ابن =
272
سواء في النور والضوء، فأرسل الله -عز وجل- جبريل فأمَرّ جناحه على وجه القمر فطَمس عنه الضوء" (١). ومعنى المحو في اللغة: إذهاب الأثر، يقول: محوته أمحوته وأمحاه، وامحى الشيء وامتحى: إذا ذهب أثره (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾، أي: يبصر فيها، فكأن المعنى أنها مضيئة؛ كما قال: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: ٦٧]، أي: مضيئًا، وقد مر، قال أبو عبيد: هذا قول الفراء (٣).
وفيه وجه آخر يقال: قد أبصر النهار، إذا صار الناس يبصرون فيه فهو مبصر؛ كقولك: رجلٌ مُخْبِث إذا كان أصحابُه خُبَثاء، ورجلٌ مُضعِف إذا كانت دوابُّه ضعافًا، وكذلك النهار مبصرًا، أي: أهله بُصَرَاء (٤)، وهذا
= كثير" ٣/ ٣١، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٢ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن علي -رضي الله عنه-، وأورده كذلك وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(١) ورد بنحوه موقوفًا على ابن عباس في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ، مفصلاً، و"البغوي" ٥/ ٨١، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٧ مرفوعًا وموقوفًا، و"الخازن" ٣/ ١٥٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٠٢ وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه -بسند واه- عن ابن عباس مرفوعًا.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (محا) ٤/ ٣٣٤٧، و"المحيط في اللغة" (محو) ٣/ ٢٣١، و"اللسان" (محا) ٧/ ٤١٥٠.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٦ بلفظه، وورد في "تهذيب اللغة" (بصر) ١/ ٣٤٢ بلفظه عن الفراء.
(٤) ورد في "تفسير الطبري" ١٥/ ٥٠، بنحوه، لكنه قال: كقولهم: رجلٌ مجبن، إذا كان أهله جبناء، ورجلٌ مضعف، إذا كانت رواته ضعفاء، وورد بنصه تقريبًا في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٤، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٨، و"أبي حيان" ٦/ ١٤.
273
كقوله: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ٥٩]، وسنذكر ما فيها إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، أي: لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم، ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ﴾ بمحو آية الليل، ولولا ذلك ما كان يُعرف الليلُ من النهار، وكان لا يَتبَيَّن (١) العدد، ونظير هذه الآية قوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾ الآية [يونس: ٥].
وقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ﴾، أي: مما يُحْتَاج إليه، ﴿فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾: بيناه تبيينًا لا يَلْتَبِس معه بغيره (٢)، وهذا معنى قول ابن عباس: يريد فَصَّلنا ما خلقت (٣) للنافع تفصيلًا.
١٣ - قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ الآية. روى الحكم عن مجاهد قال: مكتوب في ورقة شقي أو سعيد معلقة في عنقه (٤)، وهذا كما روي عن الحسن في قوله: ﴿طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ قال: شَقَاوَته وسعادته (٥).
(١) العبارة في جميع النسخ: فكان الآيتين، وهو تصحيف، وفي "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٥ أ: ولا يتبين العدد، والمثبت من تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٧٧.
(٢) في جميع النسخ: لغيره، والتصويب من تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٧٧.
(٣) هكذا في جميع النسخ: ما خلقت، والأولى: ما خلقنا لينسجم مع فصَّلنا.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٥١، بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ ب، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٢، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٣ - ٣٠٤ وزاد نسبته إلى أبي داود في كتاب القدر [لم أجده في سننه] وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) ورد في "تفسير مجاهد" ١/ ٣٥٩ بنصه عن الحسن، أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٤، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٢، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٥.
274
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: عمله من شَقَاوَة أو سعادة (١).
وقال السدي: ما كُتبَ له من خير أو شر (٢).
وروي عن ابن عباس: أنه قال عَمَلُه وما قُدّر عليه فهو ملازمه أينما كان (٣)، هذا قول المفسرين في هذه الآية، وإنما قيل لما يأتيه الإنسان ويعمله (٤) من خير وشر: طائر، على مذهب العرب وتعارفهم في ذلك؛ نحو قولهم: جرى طائرُه بكذا من الخير، وجرى له الطائرُ بكذا من الشر؛ على طريق الفأل والطِّيرة، أنشد أبو زيد لحسان بن ثابت:
ذَرِيني وعِلْمي بالأمور وسيرتي فما طائري فيها عليكِ بأَخْيَلا (٥)
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٥٩ بمعناه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٥١ مختصرًا من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٠ مختصرًا.
(٢) انظر: "تفسير أبي حيان" ٦/ ١٥ بمعناه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٠٣ - ٣٠٤ وعزاه إلى ابن أبي حاتم بمعناه.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٥١ بنصه من طريق عطاء الخرساني (منقطعة)، وأخرجه مختصرًا من طريق العوفي (ضعيفة)، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٠، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٢ - بمعناه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٢، و"ابن عطية" ٩/ ٣١، و"الخازن" ٣/ ١٥٩، و"أبي حيان" ٦/ ١٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٣ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) في (أ)، (د) تصحفت إلى: (يعلمه).
(٥) " ديوانه" ص ٢٠٦ برواية: (وشيمتي) بدل (وسيرتي)، (ويومًا) بدل (فيها)، وورد في: "الحجة للقراء" ٥/ ٨٩، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٥٦ برواية: (وشيمتي)، و"شرح شواهد الإيضاح" ص ٣٩٢ عجزه، و"اللسان" (خيل) ٣/ ١٣٠٦، و"شرح التصريح" ٢١٤، وورد بلا نسبة في: "الاشتقاق" ص ٣٠٠ عجزه، و"أوضح المسالك" ٤/ ١٢٠ عجزه، و"شرح الأشموني" ٣/ ٤٣٦، (الأخيل): طائر يُتشاءَم به، وهو ما يسمونه الشّقِرَّاق، تقول العرب: أشأَم من أخْيَل.
275
أي ليس رأي بمشؤوم، قال أبو زيد: كلما مرَّ من طائر أو ظبي أو غيره، وكل ذلك عندهم طائر وطير (١)، وأنشد لكثير:
جرت لي بهجرانك يا عز لا جرت ظباء اللوى لو أنني أتطير
ذكر في هذا البيت الظباء ثم جعلهن طيرًا؛ فقال:
فقلت لأصحابي ازجروا لا أبا لكم لعلكم للطير مني أزجر
فقالوا نراها طير صدق وقد جرى لي الطير منها بالذي كنت أحذر (٢)
ومذهبهم في العِيَافة والزجر (٣) معروفٌ، وأشعارهم في ذلك كثيرة، وهو باطل من أهل الجاهلية، إلا أنهم لما كانوا يتفاءلون (٤) في الخير والشر في الطائر والطير، سموا ما تفاءلوا (٥) به طائرًا وطيرًا، وإن لم يكن من
(١) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٥٦ بنصه تقريبًا.
(٢) لم أجده في "ديوانه"، ولم أقف عليه.
(٣) العيافة: زَجْر الطير؛ وهو أن يرى طائرًا أو غرابًا فيتطيَّر، قاله الأزهري، وفي اللسان، العيافة: زجْرُ الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها ومَمَرِّها، وهو من عادة العرب كثيرًا، وهو كثير في أشعارهم، يقال: عافَ يعيف عيفًا إذا زجَرَ وحدَس وظن، والعائف: الذي يَعيفُ الطير فيَزْجُرُها.
انظر: "تهذيب اللغة" (عاف) ٣/ ٢٢٨٥، و"المحيط في اللغة" (عيف) ٢/ ١٧٢، و"اللسان" (عيف) ٥/ ٣١٩٣. الزَّجْرُ للطير وغيرها: التَّيَمُّنُ بِسُنُوحها، أو التَّشاؤم بِبُرُوحها، وإنما سُمّي الكاهنُ زاجرًا؛ لأنه إذا رأى ما يظن أنه يُتَشَاءمُ به زَجَرَ بالنَّهي عن المُضيِّ في تلك الحاجةِ برفع صوتٍ وشدَّةٍ، قاله الزجاج، وقال الليث: الزَّجرُ: أن يَزْجُرَ طائرًا أو ظَبْيًا سانِحًا أو بارحًا فيتطيَّر منه. [والسانحُ: ما وَلاَّك مَيَامِنَه، والبارح: ضِدُّه] انظر زجر في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥١٣، و"المحيط في اللغة" ٧/ ٢٠، و"اللسان" ٣/ ١٨١٣.
(٤) في جميع النسخ: (يتألفون)، والصحيح المثبت؛ لأن الكلام في التفاؤل لا التألف، فهو تصحيف.
(٥) في جميع النسخ: (ما تعالوا)، ولا معنى لذلك، والصواب المثبت، فلعلها تصحفت عنها.
276
ذوات الأجنحة.
ثم سموا الخير والشر أيضًا طائرًا وطيرًا على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببًا، فخاطبهم الله بما يستعملون، وهذا كلام ابن قتيبة (١) وأبي علي الفارسي (٢)، ويدل على صحة هذا الذي ذكرناه قراءة الحسن ومجاهد: (أَلْزَمْنَاهُ طَيره فِي عُنُقِهِ) (٣)، وعلى هذا معنى طائره: أي عمله من خير وشر.
قال الفراء: الطائر معناه عندهم العمل (٤).
وقال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ (٥)، وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر: ما طار له من خير أو شر، أي صار له عند القسمة؛ من قولهم: أَطَرْتُ المالَ وطَيَّرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه، أي صار له (٦)، وقد بينا هذا المعنى في سورة الأعراف عند قوله: ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (٧).
قال الأزهري: والأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم عَلِمَ
(١) "الغريب" لابن قيبة ١/ ٢٥٢ باختصار.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٨ باختصار.
(٣) وهي قراءة شاذة وردت عن الحسن ومجاهد وأبي رجاء. انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه ص ٧٩، و"إعراب القراءات الشاذة" ١/ ٧٧٨، و"تفسير الرازي" ٢٠/ ١٦٧، و"القرطبي" ١٠/ ٢٢٩، و"أبي حيان" ٦/ ١٥.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٨، بنحوه.
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ٣٧٢، بنحوه.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (طار) ٣/ ٢١٤٩ بنصه.
(٧) الأعراف [١٣١].
277
المطيعَ من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه (١) منهم أجمعين، وقضى سعادة مَنْ عَلِمَه مطيعًا وشقاوة مَنْ عَلِمَه عاصيًا، فصار لكلٍّ ما هو صائرٌ إليه عند خلقه وإنشائه، فذلك قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾، أي: ما طار له في علم الله بدءًا (٢) من الخير والشر (٣).
وقوله تعالى: ﴿فِي عُنُقِهِ﴾ عبارة عن اللزوم، قال أبو إسحاق: وإنما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان؛ أي لُزُومه له كلزوم القلادة من بين ما يُلْبَس في العنق (٤).
وقال أبو علي: وهذا مِثْلُ قولهم: طَوَّقتُك كذا وقَلَّدتك كذا؛ أي صرفته نحوك، وألزمته (٥) إياك، ومنه: قَلَّده السلطانُ كذا؛ أي صارت الوِلَاية في لزومها له في موضع القلادة [و] (٦) مكان الطوق (٧)، قال الأعشى:
قَلَّدتُك الشِّعرَ يا سَلَامةُ ذا الـ تّفْضَالِ والشيءُ (٨) حيثُ ما جُعِلَا (٩) (١٠)
(١) في جميع النسخ: (ما عمله)، وهو تصحيف.
(٢) في (أ)، (د): (بريًا)، وفي (ش)، (ع): (بمريًا)، ولم أجد لذلك معنى في هذا السياق، والمثبت من المصدر.
(٣) "تهذيب اللغة" (طار) ٣/ ٢١٥٠ بتصرف، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٥ بنصه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٠ بنصه.
(٥) في جميع النسخ: (ألزمت) بدون الضمير، والسياق يقتضيه، وهو كذلك في المصدر.
(٦) إضافة يقتضيها السياق، وهي مثبتة في المصدر.
(٧) في جميع النسخ: (الطرق) والتصويب من المصدر.
(٨) في جميع النسخ: (الشعر)، والصواب ما أثبته من الديوان وتفسير ابن عطية.
(٩) "ديوانه" ص ١٣٨، وورد في "تفسير ابن عطية" ٩/ ٣٣، (التفضال): الإحسان.
(١٠) "الحجة للقراء" ٥/ ٨٩ بنصه.
278
هذا قول الجمهور (١)، وقال بعض أهل المعاني: إنما خص العنق؛ لأن عمله لا يخلو إما أن يكون خيرًا يَزِينُه أو شرًا يَشِينُه، وما يُزَيِّنُ كالطوق والحُلِي، أو يَشِينُ كالغل، فإضافته إلى الأعناق (٢)، وعلى ما ذكر مجاهد (٣): ما قُسِمَ له أُثبت في ورقة وعُلّقت من عنقه، غير أنَّا لا نشاهد ذلك مرئيًا (٤)، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا﴾ قال الحسن: يا ابن آدم، بُسِطت لك صحيفة، ووُكِلَ بك ملكان، فهما عن يمينك وعن شمالك، فأما الذي (٥) عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، حتى إذا مِت طُويت صحيفتُك وجُعلت معك في قبرك حتى تُخْرَج لك يوم القيامة (٦)، فعلى هذا معنى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ﴾، أي: من قبره معه، ويجوز أن يكون معنى: ﴿نُخْرِجُ﴾ نظهر له ذلك؛ لأنه لم ير كتابه في الدنيا، فإذا بُعث أُظهر له ذلك وليبرز من الستر.
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٣ أ، و"الطبري" ١٥/ ٥١، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٣، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٥، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٨.
(٢) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ٥١، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٥ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٥٧، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٢، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٨، و"الخازن" ٣/ ١٥٩، و"أبي حيان" ٦/ ١٥.
(٣) تقدم قريبا.
(٤) في (ش)، (ع): (بمريًا).
(٥) في جميع النسخ: (الذين)، والمثبت هو الصحيح.
(٦) أخرجه الطبري ١٥/ ٥٢ - ٥٣، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٥ ب، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٨، و"ابن كثير" ٣/ ٣٢، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٠٤، و"تفسير الألوسي" ١٥/ ٣٢.
279
وقرأ يعقوب: (ويَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) (١) على معنى ويَخْرُجُ له طائرُه، أي عملُه، ﴿كِتَابًا﴾، أي: ذا كتاب، ومعنى (ذا كتاب) أنه مثبت في الكتاب الذي قيل فيه: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً﴾ [الكهف: ٤٩]، وعلى هذا المعنى قرأ أبو جعفر (٢): (ويُخْرَجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) (٣) أي يُخْرَجُ له الطائر؛ أي عمله، ﴿كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ كقوله: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ [التكوير: ١٠]، وقرأ ابن عامر: (يُلَقَّاهُ) (٤) من قولهم: لَقَّيْتُ فلانًا
(١) قرأ يعقوب: ﴿وَيَخرُج﴾ بالياء مفتوحةً والراء مضمومةً، قال الطبري: وكأن من قرأ هذه القراءة وجَّه تأويل الكلام إلى: ويخرج له الطائرُ الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة، فيصير كتابًا يقرؤه منشورًا، وقال الزمخشري: والضمير للطائر؛ أي يَخْرجُ الطائرُ كتابًا، وانتصاب (كتابًا) على الحال.
انظر تفسير "الطبري" ١٥/ ٥٢، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٧، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٥٤، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٥٠، و"النشر" ٢/ ٣٠٦، و"الإتحاف" ص ٢٨٢.
(٢) أبو جعفر يزيد بن القعقاع، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور، انتهت إليه القراءة بالمدينة، قرأ على زيد بن ثابت وسمع ابن عمر -رضي الله عنهم-، توفي سنة ١٣٠ هـ. انظر: "وفيات الأعيان" ٦/ ٢٧٤، و"معرفة القراء الكبار" ١/ ٧٢، و"غاية النهاية" ٢/ ٣٨٢، و"النشر" ١/ ١٧٨.
(٣) قرأ أبو جعفر: ﴿وَيُخْرَجْ﴾ بضم الياء وفتح الراء، على ما لم يُسَمَّ فاعله، ونائب الفاعل: ضمير الطائر. قال الطبري: وكأنه وجَّه معنى الكلام إلى: ويُخْرَج له الطائر يوم القيامة كتابًا، يريد: ويخرج الله ذلك الطائر قد صيَّره كتابًا. انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٥٣، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٧، و"النشر" ٢/ ٣٠٦، و"الإتحاف" ص ٢٨٢.
(٤) قرأ ابن عامر: (يُلَقَّاهُ) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، جعل الفعلَ لغير الإنسان؛ أي: الملائكة تلقاه بالكتاب الذي فيه نسخة عمله وشاهده؛ أي: يستقبل به. انظر: "السبعة" ص ٣٧٨، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٤، و"علل القراءات" ١/ ٣١٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٧، و"النشر" ٢/ ٣٠٦.
280
الشيءَ، أي: استقبلته به، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان: ١١]، وهو منقول بالتشديد؛ من لَقَّيْتُ الشيءَ ولَقَّانِيهِ زيدٌ (١).
١٤ - قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ قال الفراء والكسائي: (يُقَال) هاهنا مضمرة كقوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا﴾ [غافر: ٤٦]، وقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ (٢) [آل عمران: ١٠٦]، وقد مر.
قال الحسن يقرأه أُمِّيًا كان (٣) أو غير أمِّي (٤).
وقال قتادة: سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئًا (٥).
وقال بكر بن عبد الله (٦) يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفة حسناته في ظهره يغبطه الناس عليها، وسيئاته [في] (٧) جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته، قال الله له: اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك،
(١) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٩٠، بنحوه.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٩ بنصه، ولم أقف عليه منسوبًا إلى الكسائي.
(٣) ساقطة من (د).
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أ، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٦، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٩، و"القرطبي" ١٠/ ١٥٠.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٥٣ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أبنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٢، و"الزمخشري" ٢/ ٣٥٤، و"ابن عطية" ٩/ ٣٥، و"أبي حيان" ٦/ ١٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٤ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ٣٠٦، والألوسي ١٥/ ٣٣.
(٦) بكر بن عبد الله المزني البصري، أبو عبد الله، ثقة ثبت جليل، روى عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- وعنه: قتادة وحبيب بن الشهيد مات سنة (١٠٨ هـ) انظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ٣٨٨، و"الكاشف" ١/ ٢٧٤ (٦٢٨)، و"تقريب التهذيب" ص ١٢٨ (٧٤٣)، و"تفسير الطبري" شاكر ١/ ٢٧٤ (٦٢٨)
(٧) إضافة يقتضيها السياق؛ كما في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٩.
فَيُسَرُّ ويُشْرِقُ لونُه ويقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ (١) [الحاقة: ١٩].
وقوله تعالى: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾، الحَسِيْبُ بمعنى الحاسب، كالشريك والنديم، وقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: ٣٩]، أي: محاسبًا.
قال الحسن: عدلٌ واللهُ عليك، مَنْ جعلك حَسِيبَ نَفْسِك (٢).
وقال السدي: يقول الكافر يومئذ: إنك قضيتَ أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أُحاسبُ نفسي، فيقال: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (٣).
١٥ - قوله تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾، أي: ثواب اهتدائه له ولنفسه؛ يعني الخير باهتدائه، ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾، أي: على نفسه عقوبة ضلاله؛ فهُداه له كما أن ضلاله عليه، ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد أن الوليد بن المغيرة قال: اتبعوني وأنا أحمل أوزاركم (٤).
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٩ بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٢، بنحوه عن ابن عباس.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أبنصه تقريبًا، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٢، و"الزمخشري" ٢/ ٣٥٤، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٦، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٩، و"الخازن" ٣/ ١٥٩، و"أبي حيان" ٦/ ١٦، و"الألوسي" ١٥/ ٣٣.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٦٩، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٤، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، ومثل هذه الأخبار لا تثبت إلا بخبر صحيح عن المعصوم.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٨١، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٧، و"القرطبي" ١٠/ ١٥١، و"الألوسي" ١٥/ ٣٥، وورد بلا نسبة في "تفسير ابن عطية" ٩/ ٣٦، و"أبي حيان" ٦/ ١٦، وحمل الآية على العموم أولى من التخصيص.
282
قال قتادة: لا والله، ما يحمل اللهُ على عبدٍ ذَنْبَ غيرِه، ولا يُؤاخَذ إلا بعمله (١). قال أبو إسحاق يقال: وَزَرَ يَزِرُ فهو وَازرٌ وَزْرًا وَوِزْرًا، [و] (٢) وِزْرَةً، معناه: أثِمَ يَأْثَمُ إثمًا، قال: وفي تأويل هذه الآية وجهان؛ أحدهما: أن الآثِمَ والمُذْنِبَ لا يؤاخذ بذنب غيره، ولا يؤاخذ بذنبه غيرُهُ، والوجه الثاني: أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسانُ بالإثم لأن غيرَه عَمِلَه؛ كما قالت الكفار: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (٣) [الزخرف: ٢٣]، ومضى الكلام في معنى الوِزْر والأوْزَار في سورة الأنعام (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ قال ابن عباس: يريد اتخاذ الحجة على خلقه.
وقال قتادة: إن الله ليس معذبًا أحدًا حتى يسبق من الله إليه خبرٌ (٥) ويأتيه من الله بَيِّنَة (٦).
وقال أبو إسحاق: أي حتى (٧) نبين ما به نُعَذِّبُ وما من أَجْله نُدْخِلُ الجنَّةَ (٨)، وهذا يدل على أن الواجبات إنما تجب بالشرع لا بالعقل؛ لأن الواجبَ ما لا يؤمن العقاب في تركه، وقد أخبر أنه لا يعذب قبل بعثته
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٥٤ بنصه.
(٢) هذه الواو إضافة يقتضيها المقام؛ كما في "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣١ بنصه، إلا أنه أورد الآية [٢٢] التي قبلها وهي: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾.
(٤) آية [٣١].
(٥) في جميع النسخ: (خير)، والصحيح المثبت، كما في المصادر.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٥٤ بنصه تقريبًا.
(٧) في جميع النسخ: (حين)، والمثبت هو الصحيح، وموافق للمصدر.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣١ بنصه.
283
الرسول، فدل أنه إنما يُعرفُ الواجبُ بقول الرسولِ، ولا يجبُ شيءٌ على أحدٍ قبل بَعْثِ الرسولِ (١)، ولذا وجبتْ الدعوةُ قبلَ القتالِ، حتى لو أن المسلمين أناخوا بساحةِ قومٍ لم تبلغهم الدعوةُ، لم يجز لهم أن يهجموا عليهم بالقتال والثُّباتِ (٢) قبل تقديم الدعوة، ولو فعلوا ذلك ضَمِنوا دماءهم، كذلك قال الشافعي -رضي الله عنه- (٣).
١٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ هذا يُتَأول على وجهين:
أحدهما: أنهم أُمروا بالطاعة فعصوا، وهذا قول سعيد بن جبير (٤)، والمعنى على هذا: أَمَرْناهم على لسان رسولٍ بالطاعة ففسقوا، هذا نحو قولك: أمرتُك فعَصَيْتني، فقد عُلِمَ أن المعصية مخالفة للأمر (٥)، ولذلك؛
(١) وهو بهذا يرد على المعتزلة القائلين بأن الواجبات تجب بالعقل أولاً ثم بالشرع.. ، انظر: "فضل الاعتزال" ص ١٣٩ نقلاً عن كتاب "الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة" ١/ ١٦٦.
(٢) جمعُ ثُبَةٍ، وهي الفرقة، والمقصود النفير بفرق وسرايا. انظر: "عمدة الحفاظ" ١/ ٣١٧.
(٣) كتاب "الأم" ٤/ ١٥٧، بنحوه، وقد نص على ذلك الماوردي، وقال: فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بالحجة، وقتلهم غرة وبياتًا ضمن ديات نفوسهم وكانت -على الأصح من مذهب الشافعي- كديات المسلمين، وقيل: بل كديات الكفار على اختلافها اختلاف معتقدهم. "الأحكام السلطانية للماوردي" ص ٤٦، انظر: "حواشي تحفة المحتاج على المنهاج" ٩/ ٢٤٢، "الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته" ١/ ٢٠٦.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٥٥، بنحوه، وورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٥ بنصه، و"الطوسي" ٦/ ٤٦١، بنحوه.
(٥) في المصدر: (الأمر).
284
الفسق مخالفة أمر الله (١)، فقوله: ﴿أَمَرْنَا﴾ يدل على أنه أمر بالطاعة وإن لم يُذْكر؛ كما تقول: أمرتك فعصيتني؛ معناه: أمرتك بطاعتي، فإن قيل: لِمَ خص المترفين بالأمر بالطاعة، وأمره بالطاعة لا يكون مقصورًا على المترفين، وقد أمر الله بطاعته جميع خلقه من مترف وغيره؟! قيل: لأنهم الرؤساء الذين من عداهم تبع لهم، كما أن موسى بُعث إلى فرعون ليأمره بطاعة الله وكان من عداه من القبط تبعًا له (٢)، هذا إذا قلنا: إن قوله: ﴿أَمَرْنَا﴾ من الأمر الذي هو ضد النهي.
الوجه الثاني: أن معنى قوله: ﴿أَمَرْنَا﴾ أكثرنا، وهو قول مجاهد في رواية عبد الكريم (٣)، قال: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾: أكثرنا فساقها (٤)، ونحوه روى
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (أمر) ١/ ١٩٧، بنصه تقريبًا.
(٢) في جميع النسخ: (لها)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يرجع إلى فرعون، وورد هذا التعليل في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٥، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٤٦٠ بنصه تقريبًا.
(٣) ذكر محقق "تفسير مجاهد" ٣/ ٣٥٩ أن راويين اسمهما عبد الكريم رويا عن مجاهد؛ أحدهما: عبد الكريم بن مالك الجَزَري: تقدمت ترجمته. والآخر: عبد الكريم بن أبي المُخارق: هو أبو أميّة المعلِّم البصري، نزيل مكة، وهو ضعيف، قال يحيى: ليس بشيء، روى عن سعيد بن جبير، وعنه مالك والسفيانان، قال ابن حجر: وقد شارك الجَزَري في بعض المشايخ فربما التبس به على من لا فهم له، مات سنة ١٢٦ هـ انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٥٨ - ٥٩، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٣٦٠ - ٣٦١، و"الكاشف" ١/ ٦٦١ (٣٤٣٢)، و"تقريب التهذيب" ص ٣٦١ (٤١٥٦).
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٥٩ بنصه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ٥٥ - ٥٦، بنحوه عن عكرمة وسعيد، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٤، بنحوه عن مجاهد، و"تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٥، بنحوه عن مجاهد وعكرمة، و"الدر المنثور" ص ٣٥٩ وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
285
سِمَاك (١) عن عكرمة وعمر بن ثابت (٢) عن أبيه عن سعيد بن جبير، والعرب: تقول أَمِر القومُ إذا كثروا، وأمرهم اللهُ، أي: كَثَّرَهم، وآمَرَهم أيضًا بالمد (٣).
روى الجَرْميُّ (٤) عن أبي زيد: أمِرَ اللهُ القومَ وآمرهم أي كَثَّرَهم، قال: مِثلُ نَضَّرَ اللهُ وجهه وأنضره، ومثل أَمِرَ القوم وأمَرَهم غيرُهم، ورَجَعَ ورَجَعْتُه، وسَلَكَ وسَلَكْتُه، قال الله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدثر: ٤٢]، وشَتِرتْ (٥) عَيْنُه وشَتَرْتُهَا (٦).
(١) سِمَاك بن حرب بن أوس الهُذلي الكوفي، أبو المغيرة، تابعي أدرك ثمانين رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، صدوق صالح من أوعية العلم، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وتغير بأخرة، مات سنة (١٢٣ هـ) انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٢٧٩، و"ميزان الاعتدال" ٢/ ٤٢٢، و"الكاشف" ١/ ٤٦٥ (٢١٤١)، و"تقريب التهذيب" ص ٢٥٥ (٢٦٢٤).
(٢) عمر بن ثابت الأنصاري الخزرجي، ثقة، سمع أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-، وروي عنه الزهري ومالك بن أنس. انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ١٠١، و"الكاشف" ٢/ ٥٦، و"تقريب التهذيب" ص ٤١٠ (٤٨٧٠).
(٣) ورد بنحوه في "غريب الحديث" ١/ ٢٠٨، و"تهذيب اللغة" (أمر) ١/ ١٩٦، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩٢.
(٤) أبو عمر، صالح بن إسحاق الجَرْميّ البصري، مولى جَرْم بن زَبّان؛ من قبائل اليمن، إمام في النحو، ناظر الفراء ببغداد، أخذ عن الأخفش وغيره، ولقي يونس وأخذ عن أبي زيد اللغة، وعن أبي عبيدة والأصمعي. انظر، "أخبار النحويين البصريين" ص ٨٤، و"نزهة الألباء" ص ١١٤، و"البلغة" ص ١١٣، و"البغية" ٢/ ٨.
(٥) الشَّتَرُ: انقلاب في جفن العين قلّما يكون خلقةً. انظر: "اللسان" (شتر) ٤/ ٢١٩٣.
(٦) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٩٢، عن الجرمي مختصرًا، و"المحتسَب" ٢/ ١٧، عن أبي زيد مختصرًا، والمقصود بهذه الأمثلة، التدليل على أن بعض الأفعال يعدى بالهمزة، وبعضها -الذي من باب فَعِل بكسر العين- يتعدى بفتح العين والمعنى واحد. انظر: "المُوضح في القراءات" ٢/ ٧٥٢، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٦١.
286
قال أبو عبيدة (١): وقد وجدنا تثبيتًا لهذه اللغة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "سِكّة مَأْبُورة، ومُهْرة مَأْمورة" (٢).
قال أبو زيد: هي التي قد كَثُر نَسْلُها، يقولون: أمَر اللهُ المُهْرةَ؛ أي كَثَّر ولَدَها (٣)، وأبى قوم أن يكون (أَمَر) بمعنى أكْثَر، وقالوا: أمِرَ القوم إذا كَثُروا، وآمرهم اللهُ بالمد، أي: أكثرهم، وتأولوا في قوله: (مهرة مأمورة) أنها على الإتْبَاع لمأبورة؛ نحو الغدايا والعشايا (٤).
(١) في جميع النسخ (أبو عبيد)، والتصويب من "الحجة للقراء" ٥/ ٩٢.
وهو في "مجاز القرآن" ١/ ٣٧٣ بمعناه، وورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٩٢ بنصه، وواضح أنه نقله من "الحجة" لا من "المجاز".
(٢) وطرفه: (خيْرُ المال سِكَّة..) أخرجه أحمد ٣/ ٤٦٨ بنصه عن سويد بن هبيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والطبري ٨/ ٥١ بنصه، والطبراني في "الكبير" ٧/ ٩١، بنحوه من طريقين عن سويد بن هبيرة، وورد بنصه في "غريب الحديث" ١/ ٢٠٨، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٥، و"علل القراءات" ١/ ٣١٧، و"تهذيب اللغة" (أمر) ١/ ١٩٧، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٦، وأورده الهيثمي في "المجمع" ٥/ ٢٥٨ وقال: ورجال أحمد ثقات، والسيوطي في الجامع [فيض القدير] ٣/ ٤٩١ ورمز له بالصحة، وفي بعض هذه المصادر تقديم مهرة على سِكَّة، (السِّكة): السَّطْر من النَّخل، (المأبورة): المُصْلَحةُ المُلقحةُ، يقال: أبَرت النخل آبُرُه أبْرًا إذا لَقَّحْته وأصلحته، (المُهْرَة): قال الليث: المُهْر ولد الرَّمَكَةِ -البرذون- والفرس، والأنثى مُهرة، والجميع مِهار، وقيل: أول ما نُتِجَ من الخيل والحُمُر الأهلية، قال ابن خالويه: يعني بالمُهرة: الكثيرة النِّتاج. انظر "أمالي القالي" ١/ ١٠٣، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٥، و"تهذيب اللغة" (مهر) ٤/ ٣٤٦٢، و"متن اللغة" ٤/ ٣٣٣٩.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (أمر) ١/ ١٩٧، بنصه.
(٤) ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٦، و"تهذيب اللغة" (أمر) ١/ ١٩٧، و"الطوسي" ٦/ ٤٦١.
287
وروى أبو العباس (١) -ختن ليث- عن أبي عمرو أنه قرأ ﴿أَمَّرْنا﴾ بالتشديد (٢)، وهو يوافق تفسير ابن عباس فيما روى عنه الوالبي، يقول: سَلَّطنا شرارها فعَصوا (٣).
وقال أبو إسحاق: أي جعلنا لهم إمْرةً وسلطانًا (٤)، وقال في رواية عطاء: يريد سَلَّطنا مُلُوكَها (٥).
قال أبو علي الفارسي: حَمْلُ أَمَّرْنا على أنه مثل: آمَرْنا؛ نحو: كَثَّرَهُ اللهُ وأَكْثَرَه، ولا يُحْمَل أمَّرْنا على أن المعنى: جعلناهم أُمراءَ؛ لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة عدّةُ أُمراءَ (٦).
وهذا الذي قاله أبو علي لا يقدح في قول ابن عباس؛ لأن القريةَ الواحدة قد يكون فيها أمراء كثير تبعًا لواحد هو أكبرهم، فهم يُسَمَّون أمراء ويكونون مُسَلَّطين، وإن كان فوقهم غيرُهم هو الأعظم، فهؤلاء لا يخرجون
(١) أحمد بن محمد بن عبد الله أبو العباس الليثي المعروف بختن ليث، روى القراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وروى عنه هارون بن حاتم التيمي. "غاية النهاية" ١/ ١٢١.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٣٧٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٦، و"علل القراءات" ١/ ٣١٧، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩١، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٥٢.
(٣) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٩ - بمعناه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٥٥ بنصه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٦ مختصرًا، و"تهذيب اللغة" (أمر) ١/ ١٩٧ بمعناه، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٧ بنصه وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٢، بنصه.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٨، بنحوه.
(٦) "الحجة للقراء" ٥/ ٩٣، بنصه.
288
عن سِمَة الإمارة، ويُقَوّيَ ما قاله أبو علي: أن يونس روى عن أبي عمرو أنه قال: لا يكون أمَرْنا مخففة بمعنى كثرنا (١)، ولمّا أراد معنى الكثرة شَدَّد الميم ولم يقرأ بمد الألف لمّا لم يكن بالمصحف إلا ألف (٢) واحدة.
وروى حماد بن سلمة عن ابن كثير: آمَرْنا بالمد (٣)، وهي اللغة العالية (٤)؛ يقال: أمِرَ القوم وآمرهم الله، أي: أكثرهم، فهم مؤمَّرُون (٥).
ونحو هذا روى خارجة (٦) عن نافع (٧)، قال أبو إسحاق: ويكون لقوله (٨): ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ معنى آخر غير كثرة العدد، وهو أن تكثر (٩) جِدَتُهم ويَسَارُهُم (١٠).
قال أبو عبيد: الوجه قراءة العامة؛ لاحتماله معنى الأمر والكثرة (١١)،
(١) "الحجة للقراء" ٥/ ٩٢، بنحوه.
(٢) في (أ)، (د): (الألف).
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٧٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٦، و"علل القراءات" ١/ ٣١٦، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩١.
(٤) قاله ابن قتيبة في "غريبه" ١/ ٢٥٣.
(٥) ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٥.
(٦) خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، أبو زيد، وينسب إلى جده، ضعيف الحديث، روى عن أبيه ونافع، وعنه مَعْن والقَعْنبي، مات سنة (١٦٥ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٣٧٤، و"الكاشف" ١/ ٣٦١ (١٣٠٢)، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٦٢٥، و"تقريب التهذيب" ص ١٨٦ (١/ ١٦).
(٧) انظر: "السبعة" ٣٧٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٦، و"علل القراءات" ١/ ٣١٦، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩١.
(٨) في جميع النسخ: (كقوله)، والصواب المثبت؛ كما يدل عليه السياق.
(٩) في جميع النسخ: (أن يكون)، وهو تصحيف ظاهر، والتصويب من المصدر.
(١٠) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٢ بنصه تقريبًا.
(١١) لم أجده في كتابه "غريب الحديث"، وأخرجه ابن خالويه عنه في "إعراب =
289
فإنه يقال: أمير غير مأمور، أي: غير مؤمّر (١).
وأما المترف فمعناه في اللغة: المُنَعَّم الذي قد أبطرته النعمة وسِعةُ العيش (٢).
والمفسرون يقولون في تفسيرها: الجبارين والمسلطين والملوك (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ أي تمردوا في كفرهم، إذ الفسق في الكفر: الخروج إلى أفحشه (٤).
﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ قال ابن عباس: يريد استوجبت العذاب (٥)، يعني قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ﴾ الآية [القصص: ٥٩]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
= القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٦، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أ، بنحوه، وقد رجّح الطبري القول الأول، وعلله: بأن الأغلب من معنى أمرنا، الأمر الذي هو خلاف النهي دون غيره، ثم قال: وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه أولى -ما وجد إليه سبيل- من غيره. انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٥٤، ٥٧.
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أبنصه.
(٢) انظر: (ترف) في "المحيط في اللغة" ٩/ ٤٢٦، و"الصحاح" ٤/ ١٣٣٣، و"العباب الزاخر" [ف/ ٤٢]، و"اللسان" ١/ ٤٢٩ وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٩، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٧٥.
(٣) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٣، بنحوه، و"تهذيب اللغة" (ترف) ١/ ٤٣٦ بلفظه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أ - بمعناه، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٦ بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٩.
(٤) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٦١ بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ١٩.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٣٤، بنحوه، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ أ، بنحوه، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٧٥ بنصه.
290
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} الآية [هود: ١١٧]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فقد قال -عز وجل- وحكم بأنه لا يُهلك قرية حتى يخالفوا أمره (١) في الطاعة، فإذا خالفوا الأمر حق عليهم قوله بالعذاب.
وقوله تعالى: ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾، أي: أهلكناها إهلاكَ الاستئصال، والدمارُ هلاكٌ بالاستئصال. وهذه الآية تأكيد لما سبق في الآية الأولى؛ لأن الله تعالى ذَكَرَ وبَيَّنَ أن العقاب إنما يحق على الناس بعد مخالفتهم أمر الله.
١٧ - ثم ذكر سُنته في إهلاكِ القرون الماضية تخويفًا لكفار مكة، فقال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ﴾ الآية. وهذه الآية كقوله (٢): ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ [الأنعام: ٦]، وقد مر.
وقوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ﴾ ذَكَرنا الكلام في هذه الباء في مواضع (٣).
وقال الفراء: لو ألقيت الباء كان الحرف مرفوعًا، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يُمدح به صَاحبُه أو يذم؛ كقولك: كفاكَ به، ونهاكَ به، وأكرِم به رجلاً، وبِئس به (٤) رجلاً، ونِعْمَ به رجلاً، وطاب بطعامك طعامًا، وجاد بثوبك ثَوبًا، ولو لم يكن مدحًا أو ذمًا لم يجز دخولها، ألا ترى أنه لا يجوز: قام بأخيك، وأنت تريد: قام أخوك، ولا
(١) في (أ)، (د): (أمر).
(٢) في جميع النسخ: (لقوله)، وهو تصحيف ظاهر.
(٣) وقد ذكر الواحدي عند قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٦] أن استقصاء الحديث عن الباء في السورة نفسها عند قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [آية: ٤٥]، لكن الجزء المتضمن لهذه الآية مفقود -كما ذكر محقق هذا الجزء.
(٤) (به): ساقطة من (د).
قعد به، وأنت تريد: قعد هو (١).
١٨ - قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ﴾ قال المفسرون: أىِ الدنيا (٢)، والعاجلة نقيض الآجلة؛ وهي الدنيا عُجّلَت وكانت قَبْل الآخرة، ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾، هذا ذم لمن أراد بعمله وطاعته وإسلامه الدنيا ومنفعتها وعروضها، وقد بين الله تعالى أن من أرادها (٣) لم يدرك منها إلا ما قَدَّره اللهُ له إذا أراد أن يُقَدّر له؛ لأنه قال: ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ﴾، أي: القَدْر الذي نشاء، نُعَجّل له في الدنيا لا الذي يشاء هو.
ثم بَيّن أن ما يُعَجَّل ليس عامًّا لكل أحد، فقال: ﴿لِمَنْ نُرِيدُ﴾، أي: لمن نريد أن نعجل له شيئًا قدرناه له، فإذًا قد يخيب كثير ممن يتعب للدنيا ويطلبها بسعيه (٤)، والذي يدركها لا يدرك إلا ما قُدِّر له، ثم يدخل النار في الآخرة ﴿مَذْمُومًا﴾، قال ابن عباس: ملومًا (٥)، ﴿مَدْحُورًا﴾: منفيًا مطرودًا، وذكرنا معنى ﴿مَدْحُورًا﴾ في سورة الأعراف [آية ١٨]، ومعنى هذه الآية كقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٤٥]، وقد مر،
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١١٩ بتصرف يسير، انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٥٨.
(٢) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٣ ب بلفظه، وأخرجه الطبري ١٥/ ٥٩ بلفظه عن ابن زيد، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٨ بلفظه، و"تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٦، والثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٨ وعزاه نسبته إلى ابن أبي حاتم عن الضحاك.
(٣) في جميع النسخ: (أراد بها)، والصواب ما أثبته بإسقاط الباء؛ لأنها تجعل المعنى مضطربًا.
(٤) مطموسة في (ع)، وفي (أ)، (د): (بسعته)، والمثبت من (ش)، وهو الصواب.
(٥) أخرجه الطبري ١٥/ ٥٩ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٩، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال أبو إسحاق: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ﴾؛ لأنه لم يرد الله بعمله (١)، ﴿مَدْحُورًا﴾: مباعدًا من رحمة الله.
١٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ﴾ قال ابن عباس: يعني الجنة (٢). وقال أهل المعاني: يريد ثواب الآخرة أو خير الآخرة؛ كما قال: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤٥].
﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ قال ابن عباس: يريد العمل بفرائض الله والقيام بحقوقه (٣)، ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فإن الله لا يقبل حسنة إلا من مُصدِّق، ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ قال: يريد: يُضَعِّف لهم الحسنات، ويمحي عنهم السيئات، ويرفع لهم الدرجات.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ﴾ يعني من أراد العاجلة، ومن أراد الآخرة، ثم فصل الفريقين، فقال: ﴿هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾، قال الحسن: كلاًّ نعطي من الدنيا البَرَّ والفاجر (٤).
وقال قتادة: إن الله قَسَّم الدنيا بين البَرّ والفاجر، والآخرة خصوصًا عند ربك للمتقين (٥).
وقال أبو إسحاق: أعلم الله أنه يعطي المسلم والكافر، وأنه يرزقهما،
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٣، بنصه.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٨، بلفظه.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٨، بنحوه.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٠ بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٤ بنصه، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٨، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي نُعيم في الحلية -لم أقف عليه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٢١
(٥) أخرجه الطبري ١٥/ ٦٠ بنصه، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٠٨ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
فقال: ﴿كُلًّا نُمِدُّ﴾، أي: نُمِدَّ المؤمنين والكافرين من عطاء ربك (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾، أي: ممنوعًا (٢)، يقال: حَظَرَه يَحْظُره حَظْرًا وحِظارة وحِظارًا، وكل من حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك (٣).
٢١ - قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يعني: في الرزق؛ فمن مُقِلٍّ ومِنْ مكثر، ومن مُوَسَّع عليه ومُقَتَّر، ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ يحتمل معنيين:
أحدهما: أن هذا خاص في المؤمنين الذين يدخلون الجنة، فتتفاوت درجاتهم في الآخرة أكبر مما تتفاوت درجات المرزوقين في الدنيا في الرزق، وهذا التفضيل بين المؤمنين خاصة.
والثاني: أن هذا التفصيل بين المؤمنين والكافرين، ويكون المعنى: أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فتبين درجاتهم، وَيفضل (٤) أحد الفريقين على الآخر، وعلى هذا لا تدل الآية على تفاوت درجات المؤمنين بينهم، وإنما تدل على تفضيلهم على الكفار بدرجات الجنة، والمفسرون على القول الأول:
قال ابن عباس: إذا دخلوا الجنان اقتسموا المنازل والدرجات على
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٣، بنصه.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦١ بلفظه ابن جريج وابن زيد، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٣٧، عن ابن عباس.
(٣) انظر (حظر) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٥٦، و"المحيط في اللغة" ٣/ ٥٩، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٨٠، و"اللسان" ٢/ ٩١٨.
(٤) في جميع النسخ: (وتفضيل)، والمثبت أصوب.
قَدْر أعمالهم، ألا تسمع قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا﴾ الآية.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ المفسرون على أن هذا خطاب للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى عام لجميع المكلفين (١)؛ على نحو: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١]، ويحتمل أن يكون الخطاب للإنسان، كأنه قيل: ﴿لَا تَجْعَلْ﴾: أيها الإنسان مع الله إلهًا آخر.
وقوله تعالى: ﴿فَتَقْعُدَ﴾ انتصب؛ لأنه وقع بعد الفاء جوابًا للنهي، وانتصابه بإضمار (أن)؛ كقولك: لا تنقطع عنا فنجفوك، وتقديره: لا يكن منك انقطاع، فإن جوابه (٢) فإن تنقطع نجفوك، أي فجفاء (٣)، فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بالفاء التي هي حرف العطف، وإنما سماه النحويون جوابًا -وإن كانت جملة واحدة ولم تكن كالجزاء- لمشابهته له في أن الثاني سببه (٤) الأول؛ ألا ترى أن المعنى: إن انقطعت جفوتك، كذلك المعنى في الآية: إن جعلت مع الله إلهًا آخر قعدت ﴿مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾، والمخذول: الذي لا عاصم له ولا ناصر؛ يقال: خذله يخذله خِذْلانًا (٥) وخذلاً، وقد مر.
٢٣ - قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد وأَمَرَ ربك، ليس هو قضاء حكم، ونحو هذا روى عنه
(١) ورد بنحوه في الطبري ١٥/ ٦٢، والثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، والطوسي ٦/ ٤٦٤.
(٢) في جميع النسخ (صوابه)، والصواب ما أثبته، ويدل عليه سياق الكلام بعده.
(٣) في (أ)، (د): (نجفا)، والمثبت من (ش)، (ع).
(٤) في (أ): (سنه)، وفي (د): (سننه)، وفي (ش)، (ع): (شبيه)، والصواب ما أثبته، وهو الأنسب للسياق.
(٥) ساقطة من (د).
295
الوالبي (١)، وهو قول مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد وعامة المفسرين (٢) وأهل اللغة (٣). قال الفراء: العرب تقول: تركته يقضي أمور الناس، أي يأمر فيها فينفُذ أمرُه (٤).
وقال أبو إسحاق: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ معناه أمَر (٥)؛ لأنه أمرٌ قاطعٌ حَتْمٌ، وذكرنا أن قضى في اللغة على وجوه، كلها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه (٦).
وروى ميمون بن مِهران عن ابن عباس في هذه الآية، قال: إنما هو (ووصى ربك) فالتصقت إحدى الواوين (٧)، فقرئت: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ ولو كان على القضاء ما عصى الله أحدٌ (٨)، ونحو هذا روى عنه الضحاك وسعيد
(١) أخرجه الطبري ١٥/ ٦٢ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٧، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٠٩ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٠ بلفظه، وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٧٦ بلفظه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ٦٢ - ٦٣ بلفظه عنهم ما عدا مجاهد، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٩، عن الحسن، و"تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٦، والسمرقندي ٢/ ٢٦٤، وهود الهواري ٢/ ٤١٤، والثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، عن الحسن وقتادة، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٧، عن الحسن وقتادة.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٣٧٤، و"تهذيب اللغة" (قضى) ٣/ ٢٩٨٦، و"الإملاء" ٢/ ٩٠، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٦٦، و"اللسان" (قضى) ٦/ ٣٦٦٥.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٠، بنصه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٣، بلفظه.
(٦) انظر ما تقدم في تفسير سورة البقرة [آية: ١١٧].
(٧) أي التصقت بالصاد.
(٨) ورد في "القراءات الشاذة" لابن خالويه ص ٧٩ - مختصرًا، وأورده السيوطي في =
296
ابن جبير (١)، وهو قراءة علي وعبد الله: (ووصى ربك) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ قال الزجاج: أي: وأَمَرَ بالوالدين إحسانًا (٣)، والعرب تقول: أوصيك به خيرًا، وآمرك به خيرًا، وكأن معناه: آمرك أن تفعل به، ثم تحذف (أن) فينصب الخبر بالوصية وبالأمر، وأنشد:
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ أنْ تَشْكُونا
= "الدر المنثور" ٤/ ٣٠٩، بنحوه، وعزاه إلى أبي عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون عن ابن عباس.
(١) أخرجه "الطبري" ٨/ ٥٨، عن الضحاك، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٦ ب، عن الضحاك، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٧، عن الضحاك، وانظر غرائب التفسير ١/ ٦٢٤، عن ابن عباس والضحاك واستغربه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٥/ ٢٥٧ - وعزاه إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأورده -كذلك- وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس، وأورده وزاد نسبته إلى أبي عبيد وابن المنذر عن الضحاك.
(٢) أخرجها عن ابن مسعود: مقاتل ١/ ٢١٣ ب، و"عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٦، و"الطبري" ١٥/ ٦٣، والطبراني في "الكبير" ٩/ ١٤٩، ووردت عن ابن مسعود في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٣٩، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٤، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٦ ب، عنهما، وهذه القراءة شاذة وقد استنكرت وضعفت، قال الكرماني: وهذه القراءة عند القراء مقبولة في جملة الشواذ، والحكاية مردودة على الراوي، وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما القراءة مروية بسند، ونقل تضعيف ابن أبي حاتم لها وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، وقال ابن الجوزي: وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإجماع، فلا يلتفت إليه.
انظر: "غرائب التفسير" ١/ ٦٢٤، و"تفسير ابن عطية" ٩/ ٥٢، و"ابن الجوزي" ٥/ ٢٢، و"فتح الباري" ٨/ ٢٤١، و"تفسير الألوسي" ١٥/ ٥٤، وهي أشبه بالتفسير من القراءة، وبذلك فسرها مجاهد، -كما أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٢ - ٦٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٤، بنحوه.
297
ومِنْ (أبي) دَهْماء أنْ يُوصِينا
خَيْرًا (بها كأننا) (١) جافُونا) (٢)
فعلى هذا ينصب إحسانًا بمضمر دلَّ عليه الكلام، و (الباء) في: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ من صلة الإحسان، وقُدّمت عليه كما تقول: يزيد فامرر (٣)، ويجوز أن يكون العامل فيه ما أُضمر من الإيصاء؛ كأنه: وأوصى بالوالدين إحسانًا.
وقوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾، يرفع ﴿أَحَدُهُمَا﴾ بـ ﴿يَبْلُغَنَّ﴾، و ﴿كِلَاهُمَا﴾ عطف عليه، وقرأ حمزة والكسائي: (يَبْلُغَانِّ) (٤) قال الفراء: ثنَّى؛ لأن الوالدين قد ذُكِرا قبله، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ على الائتناف، كقوله: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ [المائدة: ٧١] ثم استأنف فقال: ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾، وكذلك قوله:
(١) في جميع النسخ (أين) بدل (أبي)، و (بهل كأنها) بدل (بها كأننا)، والتصويب من المصادر.
(٢) ورد ما بين التنصيص بنصه تقريبًا في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٠، و"تفسير الطبري" ١٥/ ٦٣، وبنحوه في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٦٧، وفي جميع المصادر: (إذ) بدل (إن)، والشاهد -كما ذكره الطبري والطوسي: أعمل يوصينا في الخير، كما أعمل في الإحسان.
(٣) أورد الفخر الرازي هذا الوجه وعزاه للواحدي، وتعقبه قائلاً: وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق؛ لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه، والمثال المذكور ليس كذلك، وقد أورد السمين القولين وبين أن كلا منهما صحيح من وجه. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٨٦، و"الدر المصون" ٧/ ٣٣٤.
(٤) انظر: "السبعة" ص ٣٧٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٦٨، و"علل القراءات" ١/ ٣١٩، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٨.
298
﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾، ثم استأنف فقال: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (١) [الأنبياء: ٣] وقال أبو علي: من قرأ: (يَبْلُغَانِّ) جعل قوله: ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ معادًا على التأكيد، وعلى ذكر إفراد كل واحد منهما، ولا يكون الرفع فيهما بمعنى الفعل كما يكون في قراءة الباقين (٢).
وقال أبو إسحاق: من قرأ (يَبْلُغَانِّ) [يكون ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ بدلاً من الألف، وموضع ﴿يَبْلُغَنَّ﴾ و (يَبْلُغَانِّ)] (٣) جزمٌ بإمّا؛ لأن أصله (إن) التي للشرط، فأكدت بـ (ما) التي للشرط؛ نحو: ﴿مَا نَنْسَخْ﴾ [البقرة: ١٠٦] ليكون حرف الشرط مؤكِّدًا مِثل توكيد الفعل بالنون، وعلامةُ الجزم لا تبين مع نون التأكيد (٤)؛ لأن الفعل يُثَنّى معها، ألا ترى أنك تقول ليفعلَنَّ بفتح (٥) اللام وبترك الضمة، وبترك النون التي تُلْحَق (٦) في التثنية والجمع والواحدة المؤنث علامةً للرفع (٧)؛ كما تُركت الضمةُ في الواحدة.
ذكرنا هذا [عند] (٨) قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ [البقرة: ٩٦] وعند قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾ [يونس: ٨٩].
وأَمَّا قوله: ﴿كِلَاهُمَا﴾ فإن كلا اسم مفرد يفيد (٩) معنى التثنية (١٠)،
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٠، بنصه.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ٩٦ بتصرف.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د).
(٤) أي المباشرة.
(٥) في جميع النسخ: (ففتح)، والصواب المثبت؛ حيث به يستقيم الكلام.
(٦) في (ش)، (ع): (لحق).
(٧) بسبب توالي النونات والثقل.
(٨) زيادة يقتضيها السياق.
(٩) في (أ)، (د): (بعيد).
(١٠) في جميع النسخ: (للتثنية)، والصحيح المثبت، والتصقت الألف باللام.
299
ووزنه فِعَل، ولامُه بمنزلة لام حِجَى ورِضَى، وهي كلمة وضعت على هذه الحلقة يُؤَكّدُ بها الاثنان خاصةً، ولا تكون إلا مضافة، والدليل على أنها ليست تثنية: أنها لا تُفردُ فتقومَ بنفسها، ولو كانت تثنيةً لوجب أن تقال بالنصب والخفض، والخفض مررت بكلي الرجلين بكسر الياء، كما تقول بين يدي الرجل، و ﴿مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: ٢٠] و ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ [يوسف: ٣٩] و ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ [هود: ١١٤]، فدل هذا على أنها ليست بحلقة تثنية، وأنها وضعت دلالة على التثنية لا أنها تثنية، كما تقول في (كل) فإنه اسم واحد موضوع للجماعة، فإذا أخبرت عنه بلفظه، أخبرت كما تخبر عن الواحد؛ كقوله: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٥] وكذلك إذا أخبرت عن كلا، أخبرت عن الواحد فقلت: كلا أَخَوَيْك كان قائمًا، وكلا عَمَّيْكَ كان فقيهًا، وقال الله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا﴾ [الكهف: ٣٣]، ولم يقل: آتتا، وقال:
كلا الرَّجُلَيْنِ أفَّاكٌ أَثِيمُ (١)
وقال لبيد:
فَغَدَتْ كلا الفَرْجَينِ تَحْسَبُ أنَّهُ مَوْلى المخافة خلفُها وأمامُها (٢)
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٦٩ بنصه بلا نسبة، والشاهد: أنه أفرد أفَّاك وهي تعود على مثنى. وانظر أيضا "لسان العرب" (كلا)، و"تاج العروس" (باب الواو الهاء، فصل الكاف).
(٢) "شرح ديوان لبيد" ص ٣١١، وورد في "الكتاب" ١/ ٤٠٧، و"المقتضب" ٤/ ٣٤١، و"شرح القصائد السبع الطوال" ص ٥٦٥، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٦٦، ٢/ ٥٨٢، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" ١/ ٥٠٢، و"الإيضاح" للعضدي ص ٢١١ - بلا نسبة. (فغدت): من الغدوّ، وتروى (فعدت): من العدو، (كلا الفرجين): في كلا، الفرجين؛ والفرج: الواسع من الأرض أو الثَّغر؛ وهو موضع المخافة، والفروج =
300
يريد كلا فرجيها، فأقام الألف واللام مقام الكناية، وقال: أنه، ولم يقل: أنهما، ثم ترجم عن كلا؛ فقال: خلفُها وأمامُها، يجوز أن يذهب إلى المعنى فيقول: كلا الرجلين كانا قائمين، كما يقول في كل، كقوله تعالى: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: ٨٧]؛ وهذا الذي ذكرنا في كِلا كلام أبي الهيثم الرازي (١) وأبي الفتح الموصلي (٢) وأبي علي الجرجاني، وأمّا كلتا فالكلام فيه يأتي عند قوله: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ﴾ [الكهف: ٣٣] إن شاء الله.
قال مجاهد في قوله: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ قال: يخريان ويبولان (٣)، و ﴿الْكِبَرَ﴾ هاهنا مصدر الكبير في السن.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ قال أبو إسحاق: فيه سبع لغات؛ الكسر بغير تنوين وبتنوين، والضم بغير تنوين وتنوين، وكذلك الفتح بهما (٤)،
= هي الثُّغور، (مولى) قال ثعلب: المولى في هذا البيت معناه: الأَوْلى؛ كأنها تحسب أن كلَّ فرج أولى بالمخافة من الثاني؛ لحيرتها، والضمير يعود على بقرة وحشية، أضلت ولدها أو حُبِست خيفة من صائد، فهي حذرة في خوف، تخال كلا طريقيها من خلفها وأمامها ثغرة له يسلك منها إليها. وخلفُها وأمامُها رفعٌ على البدل من كلا؛ لأن ككلا الفرجين هما خلفُها وأمامُها، والتقدير: وخلفُها وأمامُها تحَسَب أنه يلي المخافة، وجائز رفعه بتقدير: هو خلفُها وأمامُها.
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (كلى) ٤/ ٣١٦٩ بتصرف.
(٢) "المنصف" ٢/ ١٠٧ - مختصرًا.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٤، بنحوه.
(٤) ذكر الواحدي عن الزجاج أن في (أف) سبع لغات، ولم يورد إلا ستة، مع أن الزجاج ذكر اللغة السابعة، فقال: وفيها لغة أخرى سابعة لا يجوز أن يقرأ بها، وهي (أُفِّي) بالياء. "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٤، لكن الواحدي أشار إلى هذه اللغة بعد ذكر كلام الزجاج بقوله: واللغة الشائعة (أُفِّي) بالياء.
301
فأما الكسر فلالتقاء الساكنين، و (أُف) غير متمكن (١) بمنزلة الأصوات، فإذا لم يُنَوَّن فهو مَعْرفة، وإذا نُوِّن فهو نكرة بمنزلة غاقٍ وغاقِ (٢) في الصوت، والفتح لالتقاء الساكنين أيضًا، والفتح مع التضعيف حَسَنٌ؛ لخفةِ الفتحة وثِقَلِ التضعيفِ والضَّمِّ؛ لأن قبله مضمُومًا -حسنٌ (٣) أيضًا- والتنوين فيه على جهة النكرة (٤).
واللغة الشائعة (أُفِّي) بالياء، قال الأخفش: كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه (٥)؛ فقال: قَوْلي هذا.
وزاد ابنُ الأنباري لغات ثلاثًا فقال: و (إِفَّ لك) بكسر الألف وفتح الفاء، و (أُفَّة لك) بضم الألف وإدخال الهاء، و (أُفْ لك) بضم الألف (٦) وتسكين الفاء، وأنشد لحسان:
فأُفًا لحِبَان على كلِّ حالة على ذكرهم في الذكر كلُّ عَفاءِ (٧)
(١) أي غير منصرف. انظر "المعجم المفصل في النحو العربي" ص ٩٤٦.
(٢) غاقِ: حكاية صوت الغراب، فإن نكَّرته نوَّنته، ويقال: سمعت غاقِ غاقِ وغاقٍ غاقٍ، ثم سمي الغراب غاقًا، فيقال: سمعت صوت الغاقِ. "اللسان" (غوق) ٦/ ٣٣١٧.
(٣) في (أ)، (د): (ما حسن) بزيادة ما.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٤، بنصه تقريبًا.
(٥) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦١٠، بنصه.
(٦) ما بين التنصيص من (ش)، (ع)
(٧) "ديوانه" ص ٢٥٩ وروايته:
فأفٍ للحيان على كلّ حالةٍ فذكرهم في الذكرِ شر ثناءِ
وورد في "الزاهر" ١/ ١٨١، وصدره:
فأُفٌّ للِحْيانٍ على كلِّ آلَةٍ
302
وأنشد لأبي حية:
حَيَاءً وبُقْيَا أَنْ تَشِيعَ نَمِيمَةٌ بِنَا وبِكُمْ أُفٍّ لأهْلِ النَّمَائِمِ (١)
ثم ذكر وجهَ كلٍّ لغة فقال: من قال (أُفَّ) جعله بمنزلة قولهم: مُدَّ يدك، ومن قال: (أُفِّ) جعله بمنزلة مُدِّ، ومن قال: (أُفُّ) جعله بمنزلة مُدُّ، وأنشد (٢):
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ فَضُرَّ فَإِنَّمَا يُرَجَّى الفتى كَيْمَا يَضُرَّ وَينْفَعَا (٣)
قال: كذا رواه يونس بضم الراء (٤)، وأنشد:
قال أبو ليلى لحبلي مُدِّه
حتى إذا مددته فشُدِّه
إن أبا ليلى نسيجُ وحدِه (٥)
ومن قال: (أُفًّا)، نصبه على مذهب الدعاء؛ كما يقال: ويلًا له، ومن قال: (أُفٌّ لك) رفعه باللام؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾
(١) "شعر أبي حَيَّة النُّميْري" ص ٨٧، وورد في "الكامل" ١/ ١٠٠، و"الزاهر" ١/ ١٨١.
(٢) اختلف في نسبة البيت؛ فنسب للنابغة الجعدي، وهو في "شعر النابغة الجعدي" ص ٢٤٦، ونسب لقيس بن الخَطيم، وهو في "ديوانه" ص ١٧٠، ونسب في "شواهد المغني" ١/ ٥٠٧ للنابغة الذبياني -وليس في ديوانه- أو النابغة الجعدي، ونسب في "الخزانة" ٨/ ٤٩٩ لهما ولقيس بن الخَطيم، ورجح البغدادي الأخير، وكذلك نُسب في "الصناعتين" ص ٣١٥، و"إعجاز القرآن" للباقلاني ص ٨٣ لقيس ابن الخَطيم.
(٣) وورد بلا نسبة في "الزاهر" ١/ ١٨١، و"البغداديات" ص ٢٩١، ٣٥٢، و"الجنى الداني" ص ٢٦٢، و"مغني اللبيب" ص ٢٤١.
(٤) أي في كلمة: فَضُرُّ، ووردت بالفتح، وكذلك وردت يضُرُّ وينفعُ بالرفع. انظر المصادر السابقة.
(٥) ورد في "الزاهر" ١/ ١٨٢.
303
[المطففين: ١] ومن قال [(أُفٍّ) خفضه على التشبيه بالأصوات كما يقال: صَهٍ ومَهٍ] (١) ومن قال: (أُفَّةً لك) نصبه أيضًا على مذهب الدعاء، ومن قال (أُفّي لك) إضافة إلى نفسه، ومن قال (أُفْ لك) شبّهه بالأدوات؛ نحو: (مَنْ) و (كم) و (بل) و (هل) (٢).
وقال الفراء: العرب تقول: جَعَل فلان يتأفّف من ريح وجدها، معناه: يقول أُفِّ أُفِّ (٣).
وقال الأصمعي: الأُفُّ: وسخ الأُذن، والتُّفُّ: وسخ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه عند كل ما يتأذون به.
وقال غيره: أُف معناه: قلّة، وتُف إتْباع، مأخوذ من الأفف؛ وهو الشيء القليل (٤).
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأُفُفُ: الضجر.
وقال القتيبي في قوله: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [أي لا تستثقل شيئًا من أمرهما، قال: والناس يقولون لما يكرهون ويستثقلون: أُفٍّ] (٥) له.
وأصل هذا نَفْخك للشيء يَسْقط عليك من تراب أو رماد، وللمكان تريد إماطة أذى عنه فقيل لكل مُسْتَثقل (٦).
وقال الزجاج: معنى (أُفّ) النَّتن، ومعنى الآية: ولا تَقُل لهما ما فيه
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د).
(٢) "الزاهر" ١/ ١٨١ - ١٨٢ وهو نقل طويل من قوله: وزاد ابن الأنباري.. نقله بنصه تقريبًا.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢١، بنصه.
(٤) ورد في "الزاهر" ١/ ١٨٠ بتصرف، و"تهذيب اللغة" (أف) ١/ ١٧٢، بنصه.
(٥) ما بين المعقوفتين ساقط من (أ)، (د).
(٦) "تأويل مشكل القرآن" ص ١٤٧، بتصرف يسير.
304
أدنى تَبَرُّم إذا كَبُرا وأسَنَّا؛ أُفْ، بل تَوَلَّ خدمتهما (١)، هذا قول أهل اللغة في معنى هذه الكلمة ووجوهها (٢).
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد بالأُف الرديء من الكلام؛ أن يقول لهما: أماتكما الله، أراحني الله منكما (٣)، فهذا الرديء من الكلام، كقول إبراهيم لقومه: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٧].
وروى ليث عن مجاهد: لا تتقذرهما كما كنت تخرأ وتبول فلا يتقذرانك (٤).
وروى أبو يحيى عنه، قال: إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما: (أُف) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾، يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره (٦)، قال عطاء عن ابن عباس: يريد الجواب والغلظة (٧).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٤، بنحوه، وورد في "تهذيب اللغة" ١/ ١٧٢، وظاهرٌ أنه نقله من "التهذيب" لا المعاني.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (أف) ١/ ١٧٢ بنصه تقريبًا، من قوله: وقال الأصمعي.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٨٨ بنصه، انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٨ مختصرًا، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٤ أمختصرًا.
(٤) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٠، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أ، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٦، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٨٩.
(٥) انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٥٦، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ١٨٩ بنصه، و"القرطبي" ١٠/ ٢٤٢، و"أبي حيان" ٦/ ٢٧.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (نهر) ٤/ ٣٦٧٤ بنصه، وانظر (نهر) في "المحيط في اللغة" ٣/ ٤٧٦، و"مجمل اللغة" ٢/ ٨٤٥، و"اللسان" ٨/ ٤٥٥٧.
(٧) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٨٩ بنصه، انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٨، بنحوه.
305
وقال أبو إسحاق: لا يكلمهما ضَجِرًا صائحًا في أوجُهِهِما (١).
﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ قال ابن عباس: يريد لينًا لطيفًا (٢).
وقال ابن جريج: أحسن ما تجد من القول (٣).
وقال عمرو -رضي الله عنه- أي لا تمتنع من شيء يريدانه (٤).
وقال عطاء: لا تُسَمِّهما ولا تُكَنِّهما، وقيل لهما: يا أبتاه ويا أماه (٥)
وقال أبو الهدَّاج التُّجيبي (٦): سألت سعيد بن المسيب، فقلت: أصلحك الله، كل ما ذَكر اللهُ في القرآن من بِرّ الوالدين قد عرفته إلا قوله: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ فما هو؟ قال (٧): قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ (٨).
٢٤ - قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ قال عروة بن
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٤، بنصه.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٨.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٥، بنصه.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٥، بنصه.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أبنصه، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٤٣.
(٦) في جميع النسخ (الهداد)، والصحيح -كما في تفسير الطبري و"الدر المنثور" و"الجرح والتعديل"- أبو الهداج التجيبي: سمع سعيد بن المسيب قوله، روى عنه حرملة بن عمران. "الجرح والتعديل" ٩/ ٤٥٥.
(٧) ساقط من (أ)، (د).
(٨) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٥ بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٧ بنصه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أبنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٦، و"ابن عطية" ٤/ ٣١٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ٢٥، و"القرطبي" ١٠/ ٢٤٣، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣١٠ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
306
الزبير في هذه الآية: يكون لهما ذلولًا، لا يمتنع من شيء أحَبَّاه (١).
وقال عطاء عن ابن عباس: لا يريدان منك أمرًا إلا أجبتهما إليه.
وقال مقاتل: أَلِنْ لهما جانبك واخضع لهما، ولا تستصعب عليهما (٢)، هذا قول المفسرين.
والخفض في اللغة ضد الرفع، والجناح هاهنا استعارة، وخفض الجناح: عبارة عن السكون، ويريد هاهنا تَرْكَ التعصب والإباء عليهم، والانقياد لهما، وأضاف الجناح إلى الذُّل؛ لأنه أراد تذَلَّلْ لهما، كما قال أبو إسحاق: أَلِنْ لهما جانبك مُتَذَلِّلًا لهما (٣).
وقال عطاء بن أبي رباح في هذه الآية: لا ترفع يدك عليهما (٤)، وهذا ظاهر؛ لأن الجناح يُستعار كثيرًا في اليد؛ كقوله تعالى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢].
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ قال الزجاج: أي من مبالغتك في
(١) أخرجه البخاري (٨) "الأدب المفرد": باب لين الكلام لوالديه، بنحوه، وابن أبي شيبة ٥/ ٢٢٠ - بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ٦٦، بنحوه من عدة طرق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤١، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٥ بنصه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أ، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣١٠ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، وذكره الألباني في "صحيح الأدب المفرد" رقم (٨) ص ١٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٤ أ، بمعناه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٥، بنصه.
(٤) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤١ بنصه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٥، بنحوه، و"الدر المنثور" ٤/ ٣١٠، ونسبته إلى ابن جرير -لم أجده- وابن المنذر وابن أبي حاتم.
307
الرحمة لهما (١).
وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ الآية. قال قتادة: هكذا علمتم وبهذا أمرتم فخذوا بتعليم الله وأدبه (٢)، والمعنى: ﴿رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾: مثل تربيتهما إياي صغيرًا؛ أي مثل رحمتهما [إياي في صغري حتى ربياني، ولكنْ ذكرت التربية لأنها (٣) تدل على رحمتهما] (٤)، وتُذَكِّرُ الولدَ شفقة الأبوين وما أصابهما من النصب في تربيته، فكأنه قيل: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾: لرحمتهما (٥) إياي في صغري، والكاف في موضع نصب؛ لأنه نعت مصدر محذوف (٦).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ثم أنزل الله بعد هذا قوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (٧) الآية [التوبة: ١١٣]، وقال قتادة: قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ (منسوخ؛ لا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين (٨)، ولا يقول: رب
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٥، بنصه.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٧، بنصه.
(٣) في (أ)، (د): (أنها)، والصحيح المثبت؛ لأنها تعليل.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من: (ش)، (ع).
(٥) في (ش): (كرحمتهما)، ومطموسة في (ع).
(٦) أي الكاف في قوله: ﴿كَمَا رَبَّيَانِي﴾، وقد قدَّر المحذوف الحوفي بقوله: ارحمهما رحمةً مثلَ تربيتهما لي، ووردت أقوال أخرى في الكاف وفي تقدير المحذوف. انظر: "الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٦٩، و"الدر المصون" ٧/ ٣٤٤.
(٧) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٧ بنصه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣١١ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٨) ورد في "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٤٩٠، بنحوه، انظر: "غرائب التفسير" ١/ ٦٢٥ ذكره واستغربه ورده ورجح عدم النسخ، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٤٤، =
308
ارحمهما) (١).
وذهب قوم إلى تخصيص قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾؛ يعنون أن هذا في الوالدين المسلمين (٢)، فالآية عامة، ومعناها خاص في المسلمين، ونحو هذا روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ قال: ثم استثنى فقال: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية. فجعل النهي عن استغفار المشركين -وإن كانوا أقارب- استثناءً عن قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾: في المعنى (٣)، وهذا أحسن من أن يحكم بالنسخ على الدعاء للوالدين بالرحمة (٤).
وقال سفيان، وسئل كم يدعو لوالديه: في اليوم مرةً أو في الشهر أو في السنة؟ قال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في دبر الصلوات؛ كما أن الله تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ الآية [الأحزاب: ٥٦]، وكانوا يرون أن التشهد يجزي من الصلاة على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكما أن الله قال:
= و"أبي حيان" ٦/ ٢٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٣١١ وعزاه إلى ابن المنذر والنحاس وابن الأنباري في المصاحف، وروي النسخ عن ابن عباس كذلك، انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص ٣٣٧، و"تفسير البغوي" ٥/ ٨٦، و"ابن عطية" ٩/ ٥٨، و"ابن الجوزي" ٥/ ٢٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢٤٤.
(١) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٢) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ٦٨، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٤٩٠، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص ٣٣٧.
(٣) ورد في "الناسخ والمنسوخ" للهروي ص ٢٨٣، بنحوه.
(٤) وهذا القول هو الراجح، وأولى من دعوى النسخ؛ لإمكان الجمع بين الدليلين، ومتى أمكن الجمع فهو أولى من القول بالنسخ؛ لأن في النسخ إبطال أحد الدليلين، وفي القول بالتخصيص جمع بينهما، وعليه فالآية محكمة غير منسوخة.
انظر: "الإيضاح" لمكي ص ٣٣٨.
309
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٠٣]، فهم يكبرون في دبر الصلوات (١).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ الأعلم من قولك: فلانٌ أعلمُ، له معنيان؛ أحدهما: أكثر معلومًا، والثاني: أثبت علمًا، وهذان يجوز في صفة الله تعالى؛ فإنه أكثر معلومًا وأثبت علمًا.
قال سعيد بن جبير في قوله: ﴿بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ هو البادرة تكون من الرجل إلى أبويه لا يريد بذلك بأسًا (٢)، فقال الله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ﴾ أي النِّية صادقة ببرِّه، ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾: البادرة التي بدرت منه.
والمعنى: ربكم أعلم بما تضمرون من البِرّ والعقوق؛ فمن بدرت منه بادرة وهو لا يضمر عقوقًا فأغفر له ذلك، وهو معنى قوله: ﴿إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد طائعين لله، ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ قال: يريد الراجعين عن معاصي الله -عز وجل-، التاركين لسخط الله، النادمين على الزلات (٣).
وقال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب (٤).
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٩٢، بنصه.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٦٨ بنصه تقريبًا من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أبنصه تقريبًا، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٨٨، و"الزمخشري" ٢/ ٣٥٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٣١١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٠، بلا نسبة.
(٤) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٦ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ٦٩ - ٧٠ بنصه من عدة =
310
وقال الحسن: هو الذي يريد اللهَ بقلبه وعمله (١).
وقال سعيد بن جبير: يعني الراجعين إلى الخير (٢).
وقال عبيد بن عمير: الذين يذكرون لأبويهم ويستغفرون (٣).
ورُوي أنه قال: الأوَّابُ: هو الذي يقول: اللهم اغفر لي [ما] (٤) أصبت في مجلسي هذا (٥).
وقال أبو إسحاق: الأوَّاب: هو الراجع إلى الله سبحانه في كل ما أمر به، المُقْلع عن جميع ما نهى عنه، يقال: آب يؤوب أوْبًا: إذا رجع (٦).
= طرق، وورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٧، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أبنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٩، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٤٦٨، بنحوه.
(١) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٥، بنحوه.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٠ بنصه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٢ بنصه، و"تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٧ - بمعناه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أبنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٩، بنحوه، وأخرجه البيهقي في الشعب (٥/ ٤٣٨ بنصه، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٦٨، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣١٠ وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا.
(٣) لم أقف على هذا القول، والذي ورد عنه في المصادر، أنه قال: الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء فيستغفرون الله. انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٧٠، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٣، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أ، و"ابن الجوزي" ٥/ ٢٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢٤٧، و"الدر المنثور" ٤/ ٣١٨ وعزاه إلى هناد.
(٤) زيادة يقتضها السياق -كما في جميع المصادر- وفي جميع النسخ: أصبت بدون (ما).
(٥) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٧ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ٧١ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٧ أبنصه، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٤١.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٥ بنصه، وهذا القول -وهو قول ابن عباس وابن المسيب- هو الذي رجحه الطبري؛ قال: لأن الأواب إنما هو فعَّال، من قول القائل: آب فلان من كذا؛ إما من سفره إلى منزله، أو من حال إلى حال.
311
٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ الآية. قال ابن زيد: بدأ الله تعالى بالوالدين، فلما فرغ من الوالدين وحقهما ذكر هؤلاء (١).
وقال ابن عباس: هذه الآية حضٌّ على صلة القرابة، بدأ بحق القرابة لِمَا جعل في الأرحام من الصلة (٢)، ونحو هذا قال الحسن: إن هذه الآية في بر الأقارب وصلة رحمهم بالإحسان إليهم (٣).
وقد فسّر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية فيما روى عنه أنس؛ أن رجلًا قال: يا رسول الله: إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد، فكيف تحب لي أن أصنع أو أنفق؟ قال: "أد الزكاة طُهرةً يطهرك، وآت صلة الرحم، واعرف حق السائل والجار والمسكين وابن السبيل، ولا تبذر تبذيرًا" (٤).
ومعنى التبذير في اللغة: إفساد المال وإنفاقه في السرف (٥).
وقال ابن مسعود: التبذير: النفقة في غير حق (٦).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٤ بنصه.
(٢) انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٦٠، بنحوه.
(٣) انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٦٠، بنحوه.
(٤) أخرجه الحاكم ٢/ ٣٦٠، بنحوه عن أنس، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وأورده ابن كثير في "تفسيره" ٣/ ٤٢، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٠، بنحوه وزاد نسبته إلى أحمد -ولم أجده، وأورده في "الكنز" ٦/ ٢٩٤، بنحوه وعزاه إلى البيهقي- ولم أجده.
(٥) انظر (بذر) في "تهذيب اللغة" ١/ ٢٩٧، و"المحيط في اللغة" ١٠/ ٧٤، و"اللسان" ١/ ٢٣٧.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٣ بنصه من عدة طرق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٤، بنحوه، و"تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٨ بنصه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٧ ب بنصه، و"الطوسي" ٦/ ٤٦٩، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٠.
قال عثمان بن الأسود (١): كنت أطوف مع مجاهد حول الكعبة، فرفع رأسه إلى أبي قُبَيْس (٢) فقال: لو أن رجلًا أنفق مثلَ هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين (٣).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا﴾، أي: المنفقين في غير طاعة الله، قاله ابن عباس (٤)، ﴿كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ قال: يريد أولياءهم، قال أبو إسحاق: أي يفعلون ما يُسَوَّل لهم الشيطان (٥).
وقال أهل المعاني: مؤاخاة الشيطان: موافقته فيما دعا إليه، وكل من أجاب الشيطان إلى ما سَوَّلَ له، فهو من إخوان الشياطين؛ [لأنه يتبع
(١) عثمان بن موسى بن باذان المكي، مولى بني جُمَح، ثقة ثبت، روى عن مجاهد وعطاء، وعنه: الثوري وابن المبارك، مات سنة (١٥٠ هـ).
انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ١٤٤، و"الكاشف" ٢/ ٥ (٣٦٨٠)، و"تقريب التهذيب" ص ٣٨٢ (٤٤٥١).
(٢) بالتصغير، هو الجبل المشرف على الصفا، قال الأزرقي: وسمي أبا قبيس؛ لأن أول من بني فيه رجلٌ يقال له: أبو قبيس، هذا هو المشهور، وقيل غير ذلك، وهو أحد الأخشبين، وكان يسمى في الجاهلية (الأمين)، ويقال: إنما سمي الأمين؛ لأن الحجر الأسود كان فيه مستودعًا عام الطوفان.
انظر: "أخبار مكة" للأزرقي ٢/ ٢٦٦، و"معجم البلدان" ١/ ٨٠.
(٣) ورد في "تفسير الطبري" ١٥/ ٧٤ بمعناه، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦٦، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٩٣.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٣ - ٧٤ بنصه من طريق العوفي [ضعيفة]، ومن طريق عكرمة [جيدة]، وورد في: "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٨ بنصه، انظر: "تفسير أبي حيان" ٦/ ٣٠.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٥، بنصه.
أثره ويجري على سنته (١).
وقيل: معنى إخوان الشياطين] (٢): الذين يُقْرَنون به في النار (٣).
ثم ذم الشيطان بقوله: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾؛ ليرتدع المؤمن عن اتباعه فيما يدعو إليه، وفيه أيضًا إشارة إلى ذم المبذّر؛ حيث أخبر أنه أخو الشيطان، ثم ذم الشيطان؛ فإنه كفور لربه، فهو يتضمن أن المنفق في السرف كفور لربه فيما أنعم عليه.
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ يريد جاحدًا لأنعمه.
٢٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ﴾ قال [ابن] (٤) زيد: أي عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم (٥)، ونحو هذا قال الزجاج؛ فقال: هذه الهاء والميم ترجعان على القُربى والمساكين وابن السبيل (٦).
وقوله تعالى: ﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ قال الحسن وعكرمة: انتظار رزق من الله يأتيك (٧).
قال الزجاج: وهو نصب؛ لأنه مفعول له، المعنى: وإن أعرضت عنهم لابتغاء رحمة من ربك (٨)، لا يحتمل أن يكون سببًا لإعراضه على ظاهر اللفظ إلا أنْ يُرَدَّ إلى معناه الباطن؛ ومعناه الباطن أن يكون قوله:
(١) ورد بنحوه في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٨، و"الطوسي" ٦/ ٤٦٩.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د).
(٣) ورد بنصه في "تفسير الجصاص" ٣/ ١٩٨، و"الطوسي" ٦/ ٤٦٩.
(٤) التصويب من الطبري، وفي جميع النسخ: (زيد).
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٥ بنصه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٥ بنصه.
(٧) أخرجه "الطبري" ٨/ ٧٠ بنصه عن عكرمة.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٥ بنصه.
314
﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾، قد أومئ به إلى الإضاقة والإعسار؛ لأن معناه: رجاء صنيع الله وكفايته، وفيه إشارة إلى الإضاقة، فيكون المعنى أن تُعرض عن السائل إضاقة وإعسارًا.
وذكر الكلبي وغيره: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (كان إذا سأله فقراء أصحابه فلا يجد ما يعطيهم، أعرض عنهم حياءً منهم ويسكت، فعلمه الله كيف يصنع، فقال: ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ (١).
وقال الزجاج: يُروى أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سُئل وليس عنده ما يعطي أمسك انتظار الرزق يأتي من الله؛ كأنه يكره الرَّدّ، فلما نزلت هذه الآية: (كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: "يرزقنا الله وإياكم من فضله") (٢) (٣)، فذلك قوله: ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾، قال ابن زيد: قولًا جميلًا، رزقك الله وبارك الله فيك (٤).
وقال الكلبي: عِدْهم عِدَةً حسنة (٥)، وهو قول الفراء ومجاهد (٦).
(١) وورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٤ أ.
(٢) أخرجه الطبراني في "الأوسط" [مجمع البحرين] ٦/ ١٩٧، بنحوه عن علي، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٧ ب بنصه، و"القرطبي" ١٠/ ٢٤٩، و"ابن عطية" ٩/ ٦٢، وأورده الهيثمي في "المجمع" ٩/ ١٣ وقال: وفيه محمد بن كثير الكوفي، وهو ضعيف. فالحديث ضعيف.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٥ بنصه.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٥ - ٧٦ بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٢٩، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٢١ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٥) ورد عن ابن عباس والحسن، كما في "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٢٩، و"تنوير المقباس" ص ٢٩٩، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٦ بنصه، و"الطوسي" ٦/ ٤٧٠، بنحوه.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٢ بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٢٩، عن مجاهد.
315
وأما الميسور فقال الكسائي: يَسَرْتُ أَيْسِرُ له القول، أي لَيَّنْتُه (١).
وقال أبو الدُّقيش (٢): يَسّرَ فلانٌ فرسه فهو مَيْسُور؛ مصنوعٌ سمين (٣)، فالقول الميسور: هو القول المصنوع اللين السهل.
٢٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ الآية. روى المنهال بن عمرو قال: بعثت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنها فقالت: قل له: اكسني ثوبًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما عندي شيء"، قالت: فارجع إليه وقل له: اكسني قميصك، قال: فأتاه فقال: إنها تقول: اكسني قميصك، قال: فنزع قميصه فأعطاه إياه، فنزلت هذه الآية. (٤).
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ١٩٤.
(٢) أبو الدُّقيش القنانيّ الغنوِيّ، لم أجد له ترجمة، وذكره القفطي في إنباه الرواة ٤/ ١٢١، ولم يترجم له.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (يسر) ٤/ ٣٩٨٠ بنصه، ويعني بالصناعة هنا الاجتهاد في تغذيته وتربيته، وفي "المحيط في اللغة" (صنع) ١/ ٣٣٧: يقال: صنعت الفرس: أحسنت القيام عليه.
(٤) ورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٧ ب، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٨٧، بنحوه من طريق ابن مسعود، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٢ وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأورده بنحوه -كذلك- وعزاه إلى ابن جرير من طريق ابن مسعود- لم أجده، وأورده في "لباب النقول" ص ١٣٦، بنحوه من طريق ابن مسعود وعزاه إلى ابن مردويه. وهذه الرواية مقطوعة؛ لأن المنهال لم يحفظ له سماع عن الصحابة، إنما روايته عن كبار التابعين -كما في "الميزان"- كما أن إسناد هذا الحديث -من طريق ابن مسعود- ضعيف، بسبب ضعف: سليمان بن سفيان الجهني، وقيس بن الربيع الأسدي. انظر: "الضعفاء" للبخاري رقم (٣٠١) وللنسائي رقم (٢٤٦)، (٤٩٩) و"الضعفاء والمتروكين" للدارقطني رقم (٢٥٤)، و"ميزان الاعتدال" ٢/ ٢٠٩، ٣/ ٣٩٣.
316
قال أهل اللغة: معنى الغل: الإدخال (١)، قال امرؤ القيس:
لها مُقْلَةٌ حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ إلى حاجبٍ غُلّ فيه الشُّفُرْ (٢)
أي عورٌ وأدخل فيه الشُّفُر (٣)، ومنه قولهم: غَلَّ في الغنيمة إذا خان؛ لأن ما خان شيئًا أو سرقه أدخله في كُمِّه، ومعنى غُلَّتْ يدُ فلان: أي أدخلت في الحديد، ولعل هذا مما سبق ذكره (٤).
قال ابن عباس والمفسرون في قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾: يريد البخل ومنع حق الله في الزكاة والصلة (٥).
والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كل الإمساك، حتى كأنها مقبوضة إلى عنقك بالغل لا تُبْسَط لخير.
قال صاحب النظم: لا تكاد العرب تقول جعلت يدي مغلولة، ولا
(١) انظر (غلل) في "تهذيب اللغة" (غلل) ٣/ ٢٦٩٠، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٣٧٦، و"الصحاح" ٥/ ١٧٨٤، و"اللسان" ٦/ ٣٢٨٨.
(٢) ورد في "الديوان" ص ٧٢ برواية أخرى ليس فيها الشاهد وهي:
وعَينٌ لها حَدْرةٌ بَدْرةٌ شُقّت مآقيها منْ أُخُرْ
وورد -بلا نسبة- في "مقاييس اللغة" ٤/ ٣٧٦، برواية:
وعينٌ لها حَدْرةٌ بَدْرَةٌ إلى حاجبٍ غُلّ فيه الشُّفُر
وورد عجزه -بلا نسبة- في "مجمل اللغة" ٢/ ٦٧٩، (حدْرة): واسعة، (بدْرة): تامَّة، ومنه قيل: ليلة البدر لتمام قمرها، (المأقي): مؤخر العينين، (أخُر): آخرهما، (الشُّفُر): بالضم شُفْر العين، وهو ما نبت عليه الشعر.
(٣) في جميع النسخ: (الشعر)، والصواب ما أثبته، ويبدو أنها تصحفت على النساخ.
(٤) عند قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: ١٦١].
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٧ مختصرًا، من طريق ابن أبي طلحة صحيح، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٢٢ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
317
جعلت رجلي مقيدة، ولا جعلت رأسي معممًا، إنما يقولون: غَلَلتُ يدي، وقَيَّدتُ رجلي، وعَمَّمتُ رأسي، والعلة في هذا النظم؛ أن الفعل أقل من النعت، والنعت ألزم وأكثر من الفعل؛ كما قلنا في قوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: ١٢١]؛ لأنه قد كان منه، ولا يجوز أن يقال: آدم عاصٍ غاوٍ؛ لأن هذا نعت لازم، وكانوا يقولون: يد فلان مغلولة، أي أن المنع عادةٌ له، ولا يكادون يقولون: غُلَّت يده؛ لأن هذا فعل غير لازم، والأول لازم، وقد يمنع الإنسان في مواضع المنع ولا يُرْجَع عليه بلوم، فلذلك قال -عز وجل-: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾، أي: لا تكن ممسكًا عن البذل عادة، ولم يُرِدْ أن لا يمسك عند وقت الإمساك، يدل على ذلك قوله: ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾؛ ومما يشبه هذا النظم، قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾ [إبراهيم: ٤٠] وقد مر، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠]، وسنذكره في موضعه إن شاء الله (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ قال ابن عباس: يريد في النفقة والعطية (٢).
وقال مجاهد وقتادة: يعني التبذير والإنفاق في معصية الله تعالى،
(١) قال الواحدي عند تفسير هذه الآية: وذكر صاحب النظم وجهًا آخر من الهجر؛ فقال: ويجوز أن يكون المهجور مصدرًا؛ كالهجر والهجير، ويكون المعنى: اتخذوا هذا القرآن هُجرًا، أي: إذا سمعوه قالوا فيه الهجير، وقالوا: إنه هجر، كما يقال: اتخذنا فلانًا ضحكة أو سُخرة، أي إذا رأيناه ضحكنا منه وسخرنا منه، وهذا النظم أبلغ من أن لو قيل: هجروا القرآن، أو هجروا فيه؛ لأنه يدل على أنهم جعلوا عادتهم هجر القرآن.
(٢) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٦ - بمعناه، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٣ بنصه، انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٩ بنصه.
318
وفيما لا يصلح (١)، فحصل في قوله: ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ وجهان من التفسير؛ أحدهما: أنه نهي عن بذل جميع ما يملك، حتى لا يبقى له شيء، وإن كان في طاعة الله، على ما ذكر من سبب النزول، وفي معنى قول ابن عباس. والثاني: أنه نهي عن التبذير؛ على قول مجاهد وقتادة.
وقوله تعالى: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا﴾ قال السدي: تلوم نفسك وتُلام (٢)، ﴿مَحْسُورًا﴾ قال ابن عباس: ليس عندك شيء (٣)، وقال مجاهد: مقطوعًا بك (٤).
قال الفراء: والعرب تقول للبعير: هو محسور إذا انقطع سَيْرُه، وحَسرتُ الدَّابة إذا سَيَّرتَها حتى ينقطعَ سَيْرُها (٥).
وقال ابن قتيبة: أي تَحْسِرُكَ العطيةُ وتَقْطعك؛ كما يَحْسِرُ السفرُ البعيرَ، فيبقى منقطعًا (٦)، هذا هو الأصل، ثم يُقال: حَسَرْتُ الرجلَ بالمسألة حَسْرَةً: إذا أفنيتَ جميعَ ما عنده، وحُسِرَ فهو يُحْسَرُ: إذا لم يبق عنده شيء، من قولهم: حَسَرَتِ الدابةُ والعينُ (٧)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤].
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٣ بنصه عن مجاهد، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٦٤، عن قتادة.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٣ بنصه.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٧٧ بمعناه، من طريق العوفي ضعيفة، ورد في تفسيره الوسيط، تح: سيسي (٢/ ٤٩٣ بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٢ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٤) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٦، بنحوه.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٢ بنصه.
(٦) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٥ بنصه.
(٧) ساقطة من (ع).
319
وقال قتادة في قوله: ﴿مَحْسُورًا﴾، (أي نادمًا على ما سلف منك (١)، فجعله من الحَسْرَة، والفاعل من الحسرة يكون حَسْرُا، وحُسْرَان، ولا يقال في الفاعل منه: محسور) (٢).
٣٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ قال المفسرون: يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء (٣)، والقَدْرُ في اللغة: التضيق (٤)، ومنه قوله: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧]، وقوله: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: ١٦] أي ضَيَّقَ، فمعنى الآية: أنه يُوَسِّعُ في الرزق ويُضيّقُ بحسب مصالح العباد؛ كما قال: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾ الآية [الشورى: ٢٧]، وهو معنى قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾، حيث أجرى رزقهم على ما علم فيه صلاحهم.
وقال عطاء عن ابن عباس في هذه الآية: يريد لو أردت أن أبسط (٥) عليك الرزق وأجعل جبال الدنيا لك ذهبًا وفضة لفعلت، ولم أجعل لك الدنيا لكرامتك علي جعلت لك الآخرة.
٣١ - وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ الآية. سبق تفسير هذه
(١) أخرجه بنحوه عبد الرزاق ٢/ ٣٧٧، والطبري ١٥/ ٧٧، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٦ - مختصرًا، والثعلبي ٧/ ١٠٨ أ، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢٥١.
(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٣) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٤ ب، و"الطبري" ١٥/ ٧٨، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٨ أ، و"الطوسي" ٦/ ٤٧١.
(٤) انظر: قدر في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٩٧، و"اللسان" ٦/ ٣٥٤٧، و"التاج" ١٧/ ٣٧٣.
(٥) في (أ): (أسبط).
320
الآية في أواخر سورة الأنعام (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ قال أبو إسحاق: معناه: إثمًا كبيرًا (٢)، يقال: خَطِىءَ يُخْطِئ خِطْئًا، مثل: أَثِمَ يَأْثَمُ إثمًا، قال الله تعالى (٣): ﴿إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٩٧]، أي: آثمين، وقال: ﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقة: ٣٧].
وقرأ ابن عامر ﴿خَطَئًا﴾ بالفتح (٤)؛ وهو اسم من أخطأ، يقال: أخطأ يُخْطِىءُ، إِخْطَاءً وخِطَاءً، إذا لم يصب عن غير تعمد (٥)، وقد يكون الخطأ الاسم من هذا لا المصدر، ويكون المعنى على هذه القراءة: إن قتلهم كان على غير الصواب، هذا قول أبي إسحاق في معنى هذه القراءة (٦).
(١) آية [١٥١].
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٦ بلفظه.
(٣) لعل الأولى أن يقول: قال الله تعالى، عن إخوة يوسف؛ حتى لا يوهم معنى غير مقصود.
(٤) أي بفتح الخاء والطاء وبالهمز من غير مدّ: ﴿خَطَئًا﴾. انظر: "السبعة" ص ٣٧٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٨.
(٥) يقول ابن دريد: الخطأ؛ مقصور مهموز؛ يقال خَطِئَ الشيءَ يخطَأ خَطاءً وخِطاءً: إذا أراده فلم يُصبْه؛ ويكون أيضًا خَطئ الرجلُ، إذا تعمّد الخَطَأ؛ وأخطأ يُخطئ إخطاءً: إذا لم يتعمّد الخَطَأ فهو مخطئ، والأول خاطئ، ومنه قتل الخَطَأ؛ لأنه لم يُردْ قتله. "جمهرة اللغة" ٢/ ١٠٥٤، انظر معاني القرآن للأخفش (٢/ ٦١١، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٧، و"تهذيب اللغة" (خطئ) ١/ ١٠٦٠، و"شرح الهداية" ٢/ ٣٨٦، و"العباب الزاخر" أ / ٥٠، و"اللسان" (خطأ) ٢/ ١٢٠٥، و"تاج العروس" (خطأ) ١/ ١٤٥.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٦ بتصرف يسير.
321
وقال أبو علي: قد جاء أخطأ بمعنى خَطِئ أي أثم، كما جاء خَطِئ بمعنى أخطأ، إذا لم يصب الصواب؛ فمن الأول قوله: ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] بمعنى خَطِئْنَا؛ لأن المؤاخذة عن المخطئ موضوع، وأنشد (١):
عبادُك يُخْطِئُونَ وأنت ربٌّ كريم لا تَليقُ بك الذمومُ (٢)
ومن الثاني قول امرئ القيس:
يا ويحَ هِنْدٍ إذْ خَطِئنَ كاهِلًا (٣)
(١) لأمية بن أبي الصلت؛ جاهلي من أهل الطائف، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه، ولم يسلم.
(٢) "ديوانه" ص ٤٨١، برواية:
بِكَفَّيْكَ المَنَايَا والحُتُومُ
وورد برواية الديوان في "تهذيب إصلاح المنطق" ص ٦٣٢، و"المحتسَب" ٢/ ٢٠، وورد برواية المؤلف بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (خطئ) ١/ ١٠٦٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٢١، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٧٢، و"تفسير ابن عطية" ٩/ ٦٨، و"اللسان" (خطأ) ٢/ ١٢٠٥. وبرواية: لا تَمُوتُ. بدل: الحتوم في "أدب الكاتب" ٤٤٤، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٠.
(٣) وعجزه:
تالله لا يذهبُ شيْخي باطلًا
"ديوانه" ص ١٣٦، وفيه وفي جميع المصادر: (لهف) بدل (ويح)، وورد في: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦١١، و"إصلاح المنطق" ص ٢٩٤، و"تهذيب اللغة" (خطئ) ١/ ١٠٦٠، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص ٦٣٢، و"الأساس" ١/ ٢٣٨، و"العباب الزاخر" أ/ ٥٠، و"التاج" (خطأ) ١/ ١٤٥، وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" ١٥/ ٧٩، و"الحجة للقراء" ٢/ ١١٥، ٥/ ٩٨، (يا لهف): يا حسرة هند، وهي أخته وقيل: امرأة أبيه، (خطئن): أخطأن ولم يصبن؛ يعني: أن خيله التي أغار بها لم تصب بني كاهل؛ وهم حي من بني أسد، كان فيمن اشترك في قتل حُجْر والد امرئ القيس، (شيخه): أبوه، (باطل): هدر.
322
وإذا كان أخطأ بمعنى خَطِئ كان خَطَأً بمعنى خِطْأً (١)، فيكون معنى قراءة ابن عامر كمعنى قراءة العامة، وقرأ ابن كثير: (خِطاءً) مكسور الخاء ممدودًا (٢)، وهو مصدر خاطأ وإن لم يسمع خَاطَأ، ولكن قد جاء ما يدل عليه، وهو ما أنشده أبو عبيدة (٣):
تَخَاطأتِ النَّبْلُ أحشاءَه (٤)
فتخاطأ يدلّ على خَاطَأ؛ لأن تفاعل مطاوعُ فَاعَل، كما أن تَفَعَّلَ مطاوع فَعَّل، وهذا وجه بعيد ذكره أبو علي (٥)، والقراءة هي الأولى.
٣٣ - قوله تعالى: [﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ قال المفسرون (٦): حقها الذي تُقْتل به: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان،
(١) "الحجة للقراء" ٥/ ٩٧، بتصرف.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٣٧٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٨.
(٣) البيت لأوْفَى بن مَطَر المازنيّ (جاهلي).
(٤) وعجزه:
وأُخِّر يَومِي فلم يَعْجَلِ
"الدِّيباج" لأبي عبيدة ص ٣٩، وورد في: "ذيل الأمالي" للقالي ٣/ ٩١، و"العباب الزاخر" أ/ ٥١، و"اللسان" (خطأ) ٢/ ١٢٠٥، وورد غير منسوب في "الحجة للقراء" ٥/ ٩٧، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٧٢، و"ابن عطية" ٩/ ٦٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢٥٣، و"أبي حيان" ٦/ ٣٢، و"الدر المصون" ٧/ ٣٤٧.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ٩٧، بنصه تقريبًا.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٨٠، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٨ أ. وقد أخذوا هذه الخصال الثلاث -الموجبة للقتل- من الحديث الصحيح: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة" أخرجه البخاري =
323
أو قتل نفس بتعمد، ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا﴾] (١) أي بغير أحد هذه الخصال، ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ يعني وارثه الذي بينه وبينه قرابة توجب له المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه.
وقوله تعالى: ﴿سُلْطَانًا﴾ قال ابن عباس: يريد حجة (٢)، قال مجاهد: سلطانه: حجته التي جُعلت له أن يقتل قاتله (٣).
وقال الضحاك في قوله: ﴿سُلْطَانًا﴾ إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدّية (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ اختلفوا في معنى الإسراف هاهنا؛ فقال ابن عباس: هو أن يقتل غير القاتل (٥).
= (٦٤٨٤) كتاب: الديات، باب قوله تعالى: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، ومسلم (١٦٧٦) كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٠ من عدة طرق.
(١) ما بين المعقوفين معظمه مطموس في (ع).
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨١ بمعناه من طريق العوفي (ضعيفة)، ورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٠ بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٢.
(٣) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٩ بنصه، ورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٠، بنحوه.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨١، بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٤٩ بنصه، وورد بنحوه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٠، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٠، و"الطوسي" ٦/ ٤٧٥، وورد بنصه غير منسوب في: "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٤ ب، و"السمرقندي" ٢/ ٢٦٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٨ أ.
(٥) انظر: "تفسير البغوي"، ٥/ ٩١، و"ابن الجوزي" ٥/ ٣٣، و"الخازن" ٣/ ١٦٣، و"أبي حيان" ٦/ ٣٣، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٧ وعزاه إلى ابن المنذر من طريق أبي صالح (ضعيفة).
324
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: هو أن يقتل بالواحد الاثنين والثلاثة (١).
قال طَلْقُ بن حَبِيب (٢): هو أن يمثل بالقاتل (٣).
وقال الحسن وابن زيد: هو أن لا يرضى بالقاتل إذا كان خسيسًا فيعمد إلى أشرف قبيلة القاتل فيقتله، كفعل أهل الجاهلية (٤)، وهذا معنى قول ابن عباس: هو أن يقتل غير القاتل، والمعنى: فلا يسرف الوليُّ في القتل، أي لا يتجاوز ما حُدَّ له.
﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾، أي: أن الولي كان منصورًا بقتل قاتل وليه
(١) أخرجه عن سعيد: "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٧ - بمعناه، وابن أبي شيبة (٥/ ٤٥٤، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ٨٢، بنحوه، والبيهقي في السنن: الجنايات/ إيجاب القصاص على القاتل دون غيره ٨/ ٢٥، بنحوه، وورد بنحوه عن سعيد بن جبير في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٠، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٤١، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٢٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) طلق بن حبيب العَنَزي، الزاهد البصري من صلحاء التابعين، ثقة لكنه كان يرى الإرجاء، روى عن ابن عباس وجندب بن سفيان، وعنه: عمرو بن دينار وسليمان التميمي، مات بعد التسعين. انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٤٩٠، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٥٩، و"الكاشف" ١/ ٥١٥، و"تقريب التهذيب" ص ٢٨٣ (٣٠٤٠).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة ٥/ ٤٥٤، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ٨٢، بنحوه من طريقين، والبيهقي في "السنن" كتاب: الجنايات، باب: إيجاب القصاص على القاتل دون غيره ٨/ ٢٥، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٠، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠١، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٥٥، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٦ - ٣٢٨ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٣، بنحوه عنهما، والبيهقي في "السنن" كتاب: الجنايات، باب: إيجاب القصاص على القاتل دون غيره ٨/ ٢٥، بنحوه عن ابن زيد، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٨ أ، بنحوه عنهما، انظر: "تفسير ابن الجوزى" ٥/ ٣٣، عن ابن زيد.
325
والاقتصاص منه، وقد حكم الله تعالى بالسلطان والنصرة لولي المقتول ظلمًا، وقد روي عن زَهْدَم الجَرْمي (١) عن ابن عباس: أنه قال: قلت لعلي ابن أبي طالب: وأيم الله لَيَظْهَرنَّ عليكم ابنُ أبي سفيان؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ (٢).
(وقال الحسن: والله ما نُصِرَ معاويةُ على علي إلا بقول الله: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾) (٣) (٤).
وروى العلاء (٥) عن مجاهد في قوله: ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ قال: المسرف: الذي قتل القتيل الأول (٦)؛ فهو الذي أسرف في القتل، وعلى هذا المنهي عن الإسراف القاتل الأول (٧)، ويكون التقدير: فلا يُسرف
(١) زَهْدَم بن مضرب أو مُضَرِّس -كما في "التقريب"- الجَرْمي، أبو مسلم البصري، ثقة، روى عن ابن عباس وعمران بن حصين، وعنه: قتادة وأبو التياح.
انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٦١٧، و"الكاشف" ١/ ٤٠٦، و"تقريب التهذيب" (٢٠٣٩).
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٠٣ بنصه، و"ابن كثير" ٣/ ٤٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٨ وعزاه إلى الطبراني وابن عساكر - لم أقف عليه.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٤) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٠٤ بنصه.
(٥) العلاء بن عبد الكريم اليَامي، أبو عَوْن الكوفي، ثقة عابد، سمع مجاهد ومرة الهمداني، وعنه: الثوري ووكيع، توفي في حدود سنة (١٥٠ هـ) انظر: "التاريخ الكبير" ٦/ ٥١٤، و"الجرح والتعديل" ٦/ ٣٥٨، و"تقريب التهذيب" (٥٢٤٨).
(٦) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥١، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٣، و"القرطبي" ١٠/ ٢٥٥.
(٧) في هذا القول تكلُّف وبعد عن الظاهر؛ فالخطاب -حسب الظاهر- موجه إلى ولي المقتول وليس للقاتل، وكيف يخاطب القاتل الأول ويقال له: لا تسرف في =
326
القاتل في القتل، وجاز أن يضمر وإن لم يجر له ذكر؛ لأن الحال تدل عليه، ومعنى نهيه عن الإسراف: نهيه عن القتل؛ لأنه يكون بقتله مسرفًا، ويكون الضمير على هذا في قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ للمقتول المذكور في قوله: ﴿وَمَنْ قُتِلَ﴾، ويكون التقدير: فلا يُسرف القاتل -الذي يبتدئ- بالقتل؛ لأن من قُتل مظلومًا كان منصورًا؛ بأن يقتصَّ له وليُّه، أو (١) السلطان إن لم يكن له ولي، وهذا الاقتصاص إنما هو للمقتول انتقل إلى الولي، بدلالة أن المقتول لو أبرأ من السبب (٢) المؤدي إلى الهلاك؛ وهو الجراحة لم يكن للولي أن يقتص، وتكون الآية على هذا ردعًا للقاتل عن القتل (٣).
وقرأ حمزة والكسائي: (فَلا تُسْرِفْ) بالتاء (٤)، وهذه القراءة تحتمل أيضًا وجهين؛ أحدهما: أن يكون الخطاب للمبتدئ؛ القاتل ظلمًا، قيل له: فلا تسرف أيها الإنسان، فتقتل ظلمًا [من ليس] (٥) لك قتله؛ إن من قتل مظلومًا كان منصورًا بأخذ القصاص له.
والآخر: أن يكون الخطاب للولي، فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الولي فتتعدى قاتل وَلِيّك إلى من لم يقتله؛ إن المقتول ظلمًا كان
= القتل؟! لذلك قال الألوسي: إن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه. انظر: "تفسير الألوسي" ١٥/ ٧٠.
(١) في (ب)، (ع): (و).
(٢) في جميع النسخ: (النسب)، وبالمثبت يستقيم الكلام.
(٣) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٩٩ - ١٠٠ بتصرف.
(٤) انظر: "السبعة" ص ٣٨٠، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٢، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٢، و"الحجة للقراء" ٥/ ٩٩، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٨.
(٥) هذه إضافة يقتضيها السياق ليستقيم الكلام، وهي ثابتة في المصدر.
327
منصورًا، وكل واحد من المقتول ظلمًا ومن ولي المقتول قد تقدم ذكره في قوله: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ (١).
وقال أبو إسحاق في قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾، أي: أن المقتول إذا قتل بغير حق فهو منصور في الدنيا والآخرة؛ فأما نصرته في الدنيا فقتل قاتله، وأما في الآخرة فإجزال الثواب له وتعذيب قاتله في النار (٢).
٣٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ قال الكلبي: يعني بالقيام عليه وأن يُثَمِّر مالَ اليتيم بالأرباح (٣).
وقال ابن زيد: يعني الأكل بالمعروف؛ أن تأكل معه إذا احتجت إليه، كان أُبَيّ يقول ذلك (٤).
وروى مجاهد عن ابن عباس قال: إن احتاج أكل بالمعروف، (فإذا أَيْسَر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه (٥).
وروى الحكم عن إبراهيم قال: يأكل بالمعروف) (٦) وإن أتى على آخره (٧).
وقال قتادة: هذه الآية كانت جَهْدًا عليهم؛ لا يخالطوهم، ثم أنزل
(١) ورد الوجهان في "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٠، بنصه تقريبًا.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٨ بتصرف يسير لكنه مهم؛ إذ غير عبارة الزجاج: ويخلَّد قاتله النار إلى: وتعذيب قاتله في النار، هربًا من قول الوعيدية.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٩٩، بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٨.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٤، بنصه.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٠٤، بنصه.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٧) لم أقف عليه.
328
الله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، فرُخِّص لهم أن يخالطوهم (١).
فمعني ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾: الحالة التي هي أحسن؛ وهو الكف عنه، وتثميره في قول بعضهم، وفي قول آخرين: الأكل بالمعروف عند الحاجة إليه، على ما ذكرنا، وهذه الآية ذكرنا تفسيرها في أواخر سورة الأنعام (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ قال أهل المعاني: كل عقد يُقَدَّم للتوثق من الأمر فهو عهد (٣)، فدخل في قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ كُلّ عقد من العقود بين المسلمين؛ كعقد النكاح وعقد الشركة وعقد البيع وعقد اليمين وعقد الصلح بين المسلمين والمشركين، وكل هذا مما يجب حفظه والوفاء به وترك الخيانة فيه.
وقال أبو إسحاق: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ ذكر صاحب النظم وغيره في هذا وجهين (٥)؛ أحدهما: أن المعنى: كان مسئولًا عنه بالجزاء، فحذف الصلة، كقوله: ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٥٠]، أي: يؤمرون به، وكقوله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: ٦٠]، أي: يعدلون بالله.
والثاني: أن العهد يُسأل فيقال: لم (٦) نُقِضت، تبكيتًا للناقض؛ كما
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٤، بنحوه من طريقين.
(٢) آية [١٥٢].
(٣) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٧٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٨، بمعناه.
(٥) ورد بنحوه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٣، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٢، و"الطوسي" ٦/ ٤٧٧، انظر: "الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٧٤، و"تفسير الألوسي" ١٥/ ٧١.
(٦) في (أ)، (د): (لهم)، والمثبت من (ش)، (ع). وهو الصحيح المنسجم مع السياق.
329
تُسأل الموؤودة تبكيتًا لوائدها وإنكارًا عليه؛ كما جاء قوله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي﴾ الآية. [المائدة: ١١٦] والمخاطبة لعيسى (١) والإنكار على غيره.
٣٥ - وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ﴾، أي: أتموه ولا تبخسوا منه، ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ قال الحسن: هو القَبَّان (٢)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (٣).
وقال مجاهد: هو العدل، بالرومية (٤).
وقال الليث: هو أقوم الموازين (٥).
(١) في (أ)، (د): (بعيسى)، والمثبت من (ش)، (ع). وهو الصحيح.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٥ بلفظه، وورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٣ بلفظه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب بلفظه، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٢، و"الطوسي" ٦/ ٤٧٦، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٨. القَبَّان: الذي يوزن به، وهو عربيٌّ أو معرب. انظر (قبن) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٨٠، و"اللسان" ٦/ ٣٥٢٣.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٧ بلفظه.
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة ٦/ ١٢٢ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ٨٥ بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٤، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٢، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٤٧٦ بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٨ وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. واختُلف في أصل كلمة القسطاس: فقال الفخر الرازي ٢٠/ ٢٠٦: وقيل إنه بلسان الروم أو السرياني، والأصح أنه لغة العرب، وهو مأخوذ من القسط؛ وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين، وقال الألوسي ١٥/ ٧٢: وعلى القول بأنه رومي معرب وهو الصحيح، لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: ٢]؛ لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام يصير عربيًا، فلا حاجة إلى إنكار تعريبه أو ادعاء التغليب أو أن المراد عربي الأسلوب.
(٥) انظر: "تفسير الألوسي" ١٥/ ٧٢.
330
وقال أبو إسحاق: هو ميزان العدل؛ أيُّ ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها (١).
[ذكر أبو (٢) علي جواز (٣) اللغتين فيه؛ ضم القاف (٤) وكسرها (٥)، وهذا كقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: ٩]، وكقوله: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ﴾ [هود: ٨٥]، وقوله: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ [هود: ٨٤]، وقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا﴾ الآية (٦) [المطففين: ٢].
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ قال عطاء: يريد أقرب إلى الله (٧)، وقال قتادة: يقول: خيرٌ ثوابًا، ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ قال: وأحسن عاقبة في الخير (٨)، المعنى: أحسن ما يؤول إليه أمر صاحب الوفاء.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٨، بنصه.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(٣) في (ش)، (ع): (جواب).
(٤) أي: (القُسْطاس) قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. انظر السبعة ص ٣٨٠، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٨، و"حجة القراءات" ص ٤٠٢، و"التيسير" ص ١٤٠، و"النشر" ٢/ ٣٠٧.
(٥) أي: (القِسْطاس) قرأ بها: حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. انظر المصادر السابقة.
(٦) "الحجة للقراء" ٥/ ١٠١، بنحوه.
(٧) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٧.
(٨) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٨، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ٨٥، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٥، بنحوه، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٤٥، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٩ وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
331
٣٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ الآية. تقف من قوله: قفوت أثر فلان، أَقْفُو قَفْوًا (١) وقُفُوًّا، إذا اتَّبَعْتَ أثره، وسُمِّيت قافية الشِّعْر قافية؛ لأنها تَقْفو البَيْت، ثم يُثَقَّل قَفَّا بالتشديد، فيصير واقعًا كقوله: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا﴾ [الحديد: ٢٧]، هذا معنى القفو في اللغة (٢).
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية: لا تقل ما ليس لك به علم (٣)، وقال مجاهد: لا تَرْمِ (٤).
وقال قتادة: لا تقل: سمعت، ولم تسمع؛ ورأيت، ولم تَرَ؛ وعلمت، ولم تعلمْ (٥).
وقال الحسن: لا تكذب على فؤادك؛ تقول: علمت ما لم تعلم، ولا على سمعك تقول: سمعت ما لم تسمع، ولا على بصرك تقول: أبصرت ما لم تبصر (٦).
(١) ساقطة من (أ)، (د).
(٢) انظر: (قفو)، (قفا) في: "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠١٣، و"المحيط في اللغة" ٦/ ٣٨، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٦٦، و"اللسان" ٦/ ٣٧٠٨.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٦ مختصرًا من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٥ بنصه، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٤٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٢٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٦ بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٥، و"تهذيب اللغة" (قفا) ٣/ ٣٠١٥، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٢، و"اللسان" (قفا) ٦/ ٣٧٠٨.
(٥) أخرجه بنصه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٨، و"الطبري" ١٥/ ٨٦ من طريقين، وورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٣، و"الطوسي" ٦/ ٤٧٧، وأورده السيوطي في "الدر" ٤/ ٣٢٩ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٦) لم أقف عليه.
332
وقال ابن عباس في رواية عطاء: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك، ونحو هذا القول روي عن ابن الحنفية أنه قال: هذه الآية في شهادة الزور (١)، هذا جملة ما ذكره المفسرون في هذه الآية، وحقيقة تأويله ما قاله الزجاج: لا تقولنَّ في شيء بما لا تعلم، والتأويل لا تُتْبِعَنْ لسانَك من القول ما ليس لك به علم (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ﴾ إلى آخرها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يسأل الله العباد فيما استعملوها (٣)، وفي هذا زجر عن النظر إلى ما لا يحل، والاستماع إلى ما يحرم، وإرادة ما لا يجوز.
قال صاحب النظم: هذه أحساس هذه الأعضاء التي هي: أذن وعين وقلب؛ فالسمع حس الأذن، والبصر حس العين، والفؤاد حس القلب.
وقوله تعالى: ﴿كُلُّ أُولَئِكَ﴾ قال أبو إسحاق: كل جمع أَشَرْتَ إليه من الناس وغيرهم من الموات، فلفظه ﴿أُولَئِكَ﴾ (٤)، ونحو هذا قال الأخفش (٥)، وأنشد لجرير:
ذُمَّ المنازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى والْعَيْشَ بَعْدَ أُولئِكَ الأَيامِ (٦)
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٨٦ بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٥، و"تهذيب اللغة" (قفا) ٣/ ٣٠١٥، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٢٩ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٩، باختصار.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٧، بنصه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣٩، بنصه.
(٥) "معانى القرآن" للأخفش ٢/ ٦١٢، بنحوه.
(٦) "ديوانه" ص ٤٥٢ وفيه: (الأقوام) بدل (الأيام) ولا شاهد في هذه الرواية، وورد بهذه الرواية في: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦١٢، و"معاني القرآن وإعرابه" =
333
أشار بأولئك إلى الأيام، وكذلك أُشير في هذه الآية بأولئك إلى البصر والسمع والفؤاد.
وقوله تعالى: ﴿كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ عادت الكناية إلى لفظ (كان) لا إلى معناه.
٣٧ - وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ المَرَحُ: شدة الفَرَحِ، يقال: مَرِحَ يَمْرَحُ مَرَحًا، وهو مَرِحٌ مَرُوحٌ (١)، قال ابن عباس: يريد بالكبرياء والعظمة.
وقال عبد الله بن مسلم: أي بالكبر والفخر (٢).
وقال الزجاج: تأويل الآية: لا تَمْشِ في الأرض مختالًا ولا فخورًا (٣)، قال الأخفش: ولو قُرئ مرِحًا بالكسر كان أحسن في القراءة (٤).
قال أبو إسحاق: مَرِحًا اسمُ الفاعل، ومَرَحًا مصدر، وكلاهما في
= ٣/ ٢٤٠، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٤٤، و"ابن الجوزي" ٥/ ٣٥، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٥/ ٨٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٨ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٧٨، و"ابن عطية" ٩/ ٨٦، (اللِّوى): اسم وادٍ من أودية بني سُلَيْم. "المحيط في اللغة" (لوى) ١٠/ ٣٧١.
(١) انظر (مرح) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٧١، و"المحيط في اللغة" ٣/ ٩٦، و"مجمل اللغة" ٢/ ٨٢٩، و"اللسان" ٧/ ٤١٧٠.
(٢) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٦، بنصه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٠، بنصه.
(٤) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦١٢، بنحوه، وخالفه الطبري، فقال: وقيل: ولا تمش مرَحًا ولم يقل: مرِحًا؛ لأنه لم يُردْ بالكلام: لا تكن مرِحًا، فيجعله من نعت الماشي، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرَحًا، ففسّر المعنى المراد من قوله: ﴿وَلَا تَمْشِ﴾ "تفسير الطبري" ١٥/ ٨٨، انظر كلام الزجاج بعده فقد تضمن الردّ عليه أيضًا.
334
الجودة سواء، غير أن المصدر أَوْكَدُ في الاستعمال، تقول: جاء زيد رَكْضًا وراكضًا، فركضًا أَوْكَدُ؛ لأنه يدل على توكيد الفعل (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ﴾ الآية. الخرق معناه في اللغة كالشق، يقال: خرق الثوب إذا شَقَّه، وخرق الأرض إذا قطعها حتى بلغ أقصاها (٢).
قال ابن عباس: يريد ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ﴾: بِكِبْرِك ومشيك عليها، ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾: بعظمتك، وإنما أنت مخلوق عبد ذليل (٣).
قال الزجاج: والتأويل: إن قدرتك لن تبلغ هذا المبلغ فيكون لك (٤) وُصْلَة إلى الاختيال (٥)، وهذا (٦) الذي ذكره موافق لتفسير ابن عباس، والمعنى: إنك عبد لا تقدر أن تنقص الأرض حتى تبلغ آخرها، ولا أن تُطَاول الجبال، فمن أين تستحق الكبر والفخر؟!
قال ابن قتيبة: يريد أنه ليس ينبغي للعاجز (٧) أن يَبْذَخَ (٨)
(١) "معانى القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٠ بتصرف يسير.
(٢) انظر: (خرق) في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠١٥، و"المحيط في اللغة" ٤/ ١٩٣، و"اللسان" ٢/ ١١٤١.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٨ بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٦، والقرطبي ١٠/ ٢٦١، بلا نسبة.
(٤) في المصدر: (ذلك).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٠، بنصه.
(٦) ساقط من (د).
(٧) هذه الكلمة أصح مما في المصدر، وهي: (للفاجر)، ولعل ما في المصدر تصحيف.
(٨) البَذْخُ: الكبر، وتبذَّخ: تطاول وتكبَّر وفَخَر وعلا، والباذخ: العالي، وشرف باذخٌ: عال، والبواذخ من الجبال: الشوامخُ. انظر بذخ في "المحيط في اللغة" ٤/ ٣٢١، و"الصحاح" ١/ ٤١٨، و"اللسان" ٣١/ ٢٣٦.
335
ويستكبر (١)، ومعنى خَرْق الأرض في هذه الآية: نَقْبُها لا قطعها بالمسافة، وذُكِرَ في هذه الآية معنى آخر، قال قتادة: لا تمش كِبرًا ولا فَخرًا، فإن ذلك لا يبلغ بك أن تبلغ الجبال، ولا أن تخرق الأرض بكبرك وفخرك (٢)، ومعنى هذا أن مشي المرح يكون على ضربين: مَشيٌ باختيال على الأرض وتؤدة؛ بجر قدمه على الأرض كأنه يريد أن يخرقها، ومَشيٌ يتطاول في السماء بذخًا، فنهى الله تعالى في هذه الآية عنهما، وأخبر أنه لا يبلغ مما يريد كبير مبلغ، وإلى هذا أشار مجاهد؛ فقال في قوله: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ﴾ قال: الذي يمشي على عقبه، ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ قال: الذي يمشي على صدور قدميه (٣).
٣٨ - قوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ﴾ أشار إلى جميع ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه من قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ و ﴿ذَلِكَ﴾ يصلح للواحد والجميع، والمؤنث والمذكر، على ما ذكرنا في مواضع.
وقوله تعالى: ﴿كَانَ سَيِّئُهُ﴾ قُرئ بالإضافة (٤) والتنوين (٥)، قال أبو
(١) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٦ بنصه تقريبًا.
(٢) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٨ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ٨٨ بنصه تقريبًا، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٠ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) أي ﴿سَيِّئُهُ﴾ مضافًا مذكرًا، قرأ بها: عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص ٣٨٠، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٣، و"الحجة للقراء" ٥/ ١٠٢، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٨، و"تلخيص العبارات" ص ١١٣.
(٥) أي ﴿سَيِّئَةً﴾ منونًا مؤنثًا، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو. انظر المصادر السابقة.
336
إسحاق: والإضافة أحسن (١)؛ لأن فيما جرى من الآيات سيئًا وحسنًا، فسيئُهُ بلا تنوين أحسن (٢)، ويؤكد ما ذكره أبو إسحاق: ما روي أن الحسن كان يقرأ بالإضافة، ويقول قد ذَكَرَ أمورًا قَبلُ؛ منها حسن ومنها سيء، فقال: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ﴾ لأن ما ذُكر الحَسَنُ، والسَّيِّئُ من المذكور المكروه، ويقوّي ذلك قوله: ﴿مَكْرُوهًا﴾ والتذكير فيه، ولو كان ﴿سَيِّئَةً﴾ غير مضاف لزم أن يكون مكروهةً، سيّما وقد تقدم ذِكْرُ المؤنث، ألا ترى أن قوله (٣):
ولا أرضَ (٤) أبْقَلَ إبْقَالَها (٥)
(١) هذا مما يؤخذ على النحويين من المفاضلة بين القراءات، مع أن كليهما سبعية متواترة.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٠ بنصه تقريبًا.
(٣) البيت لعامر بن جُوَيْن الطائي (جاهلي).
(٤) في جميع النسخ: (والأرض)، والتصويب من المصادر.
(٥) وصدره:
فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها
وهو من شواهد سيبويه في "الكتاب" ٢/ ٤٦، وورد في "شرح المفصل" ٥/ ٩٤، و"اللسان" (بقل) ١/ ٣٢٨، وورد غير منسوب في "الخصائص" ٢/ ٤١١، و"المحتسَب" ٢/ ١١٢، و"الحجة للقراء" ٤/ ٢٣٨، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٢٤٢، ٢٤٦، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٦٣، و"الخزانة" ١/ ٤٥، ٤٩، ٥٠، ٧/ ٤٣٧.
(مزْنة): واحد المزن، وهو السحاب يحمل الماء، (الودق): المطر، (أبقل): أخرج البقل، وهو من النبات ما ليس بشجر؛ وهو الذي لا تبق له أُرُومة على الشتاء بعدما يُرعى.
والشاعر يصف أرضًا مخصبة بكثرة ما نزل بها من الغيث، والشاهد: حذف علامة التأنيث مع إسناد الفعل إلى ضمير المؤنث، على تأويل أن الأرض مكان، فكأنه قال: ولا مكان أبقل إبقالها، والمكان مذكر.
337
مستقبح (١) عندهم، ولو قال: أبقل الأرض، لم يُستقبح، فليس ما تقدّم ذكره مما أُنّث بمنزلة ما لم يتقدم ذِكْره؛ لأن المتقدم الذكر ينبغي أن يكون الراجعُ وَفْقَه، كما يكون وَفْقَه في التثنية والجمع (٢).
وأما من قرأ بالتنوين فقال أبو إسحاق: جعل كلًّا إحاطة بالمنهي عنه قَطْ، المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئةً (٣)، ومعنى هذا أن من قرأ بالتنوين رأى الكلام انقطع عند قوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾، وكان الذي بعدُ؛ من قوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ لا أمرًا حسنًا فيه، فقال: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ﴾ فأفرد ولم يضف، وعلى هذه القراءة قوله: ﴿مَكْرُوهًا﴾ ليس بنعت للسيئة، وإنما هو بدل منها، على تقدير: كان سَيِّئَةً وكان مكروهًا.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ﴾ يعني ما تقدم ذِكْره، ﴿مِنَ الْحِكْمَةِ﴾، قال ابن عباس: يريد من الفرائض والسُّنَن (٤).
وقال المفسرون: يعني من القرآن ومواعظه (٥).
وقال أهل المعاني: الحكمة هاهنا الدلائل التي تؤدي إلى المعرفة بالحَسَن من القبيح، والواجب مما لا يجب (٦)، وذلك يعرف بإخبار الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ﴾ إلى آخر الآية. قال ابن عباس: هذا أدب
(١) هكذا في جميع النسخ، وفي "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٢ مستقيم، وهو خطأ أو تصحيف.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٢، بتصرف واختصار يسير.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤١، بنصه.
(٤) ورد بلا نسبة في "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٩، و"تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٧.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٠ بلفظه عن ابن زيد، ورد عند "الثعلبي" ٧/ ١٠٩ أبنصه.
(٦) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٧٩.
من الله لخلقه، ومخاطبة للمؤمنين، يعني أن هذا خطاب لكل واحد من المؤمنين؛ كأنه قيل: ولا تجعل أيها الإنسان مع الله إلهًا آخر، وذكرنا معنى الملوم والمدحور في هذه السورة [آية ١٨ و٢٩].
٤٠ - قوله تعالى: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ يقال: أصفاه بالشيء: أي آثره به، ويقال للضِّياع التي يستخلصها السلطان لخاصَّته: الصَّوافي (١).
قال أبو عبيدة في قوله: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ﴾: خَصَّكم (٢).
وقال المفضل: أخلصكم (٣). وقال أبو إسحاق: كانت الكفرة من العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، فَوُبِّخُوا، وقيل لهم: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ﴾، أي: اختار لكم ربكم صفوة البنين (٤).
وقال النحويون: هذه الألف ألف إنكار على صيغة السؤال عن مذهبٍ ظاهرِ العَوار لا جواب لصاحبه، إلا بما فيه أعظم الفضيحة (٥)، فإن قيل ما معنى: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ مع أن لهم بنات؟ قيل: معناه: أَخَلَصَ لكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالأَجَلّ وجعل لنفسه الأدون؟!
٤١ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾ معنى التَّصْرِيف في
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (صفا) ٢/ ٢٠٢٢، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢١٥، و"اللسان" (صفا) ٤/ ٢٤٦٨.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٠، بنحوه.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٤٩٩، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٧، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ٢١٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤١، بنصه تقريبًا.
(٥) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٨٠، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢١٥ بنصه، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٧٨، و"الدر المصون" ٧/ ٣٥٨.
339
اللغة: صَرْفُ الشيء من جهة إلى جهة، نحو تَصْرِيف الرِّيَاحِ، وتصريف الأمور والآيات (١)، قال أبو إسحاق: ﴿صَرَّفْنَا﴾، أي: بينا (٢)، وهو قول ابن عباس (٣)، والأصل ما ذكرنا، ثم يصير بمعنى التَّبْيِين؛ لأن تصريفه إنما هو لِيَتَبَيَّن، ومفعول التصريف محذوف.
قال صاحب النظم: تأويله: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾: بما أوجب تصريفه، كما قال في موضع آخر: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الكهف: ٥٤] قال: وفيه وجه آخر، وهو أن تكون (في) زائدة، كما في موضع آخر: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ [الأحقاف: ١٥]، أي: أصلح لي ذريتي (٤).
وقال أبو علي: أي صَرَّفنا ضروبَ القولِ فيه؛ من الأمثال وغيرها مما يوجب الاعتبار به والتفكر فيه؛ كما قال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾ الآية (٥) [القصص: ٥١]، فعند أبي علي تقدير الآية: ولقد صَرَّفنا القول (٦) في هذا القرآن.
(١) انظر: (صرف) في "المحيط في اللغة" ٨/ ١٢٨، و"العباب الزاخر" ف/ ٣٤٩، و"اللسان" ٤/ ٢٤٣٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤١ بلفظه.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٠، وورد بلا نسبة في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢١٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢٦٤.
(٤) وقد رد هذا القول أبو حيان، وقال: وهذا ضعيف لأن (في) لا تزاد. "تفسير أبي حيان" ٦/ ٣٩.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٤، مختصرًا.
(٦) ساقط من (أ)، (د).
340
قوله تعالى: ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ قال ابن عباس: يريد ليتعظوا (١)، والأصل ليتذكروا، فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما، هذا قراءة العامة (٢)، وقرأ حمزة والكسائي: لِيَذْكُرُوا (٣) من الذكر، والتَّذَكُّرُ هاهنا أشبه (٤) من الذكر؛ لأنه كأنَّ يُرادُ به التَّدَبُّر وليس التذكر الذي بعد النسيان، ولكن كما قال: ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩]، أي: ليتدبروه بعقولهم، وليس المراد ليتذكروه بعد نسيانهم، ويدل على هذا، أن التذكر قد لا يكون من النسيان، كقوله (٥):
تَذَكَّرَ مِنْ أَنَّى ومِنْ أَيْنَ شِرْبُهُ.... يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأَبِلْ (٦)
يعني تَدَبَّر في ذلك وتفَكَّر من أين يشرب، وأمّا [مَنْ] (٧) قرأ
(١) ورد بلفظه بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٩، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٩ أ، و"الخازن" ٣/ ١٦٥.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٣٨٠، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٤، و"الحجة للقراء" ٥/ ١٠٤، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٩، و"التبصرة" ص ١٤٠، و"تلخيص العبارات" ص ١١٣.
(٣) انظر المصادر السابقة.
(٤) أي: أولى.
(٥) للكميت بن زيد (ت ١٢٦ هـ).
(٦) "ديوانه" ١/ ٣٩٦، وورد في: "الحجة للقراء" ١/ ٣١٧، و"اللسان" أبل ١/ ١٠، والشاعر يذكر حمارًا أراد ورورد الماء، (يؤامر نفسيه): المؤامرة هي المشاورة، والمعنى: يشاور نفسه مترددًا بين ورود الماء أو تركه، فكأنه يشاور نفسين؛ إحداهما تريد الورود، والأخرى تأباه. (الهجمة): الهجمةُ من الإبل: ما بين التسعين إلى المائة، وجمعها هَجَمَاتٌ وهِجَامٌ، (أَبِلَ): قال الأصمعي: أَبِلَ الرجُل يأبل أبالةً، إذا حَذِق مصْلحة الإبل والشاء، والأبِلُ والآبلُ: الحاذق برِعْيةِ الإبلِ الرفيقُ بسياستها، انظر: "تهذيب اللغة" (أبل) ١/ ١٠٩، و"المحيط في اللغة" (هجم) ٣/ ٣٨٥، (أمر) ١٠/ ٢٨٤، (أبل) ١٠/ ٣٥٠، و"اللسان" (أبل) ١/ ٩.
(٧) زيادة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت.
341
بالتخفيف، فإن التخفيف قد جاء بهذا المعنى، كقوله: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا﴾ [البقرة: ٦٣] هذا ليس على لا تنسوه ولكن تَدَّبروه (١)، ويجوز أن يكون المراد ذكر اللسان، والمعنى: صَرَّفنا في هذا القرآن ليذكروه، وإذا كان الكلام مُصَرَّفًا فيه على أنواع، كان أقرب من الذكر وأبعد من السأمة.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ قال ابن عباس: يريد ينفرون من الحق ويتبعون الباطل (٢)، قال أبو علي: أي ما يزيدهم تصريف الآيات إلا نفورًا (٣)، أضمر الفاعل بدلالة ما تقدم عليه؛ كقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: ٤٢]، أي: مجيء النذير.
قال أهل المعاني: إنما زادهم نفورًا؛ لأنهم اعتقدوا أنها شُبَه وحِيَل، فنفروا منها أشد النفور؛ لهذا الاعتقاد الفاسد، ومنعهم ذلك من التَدبُّر لها، وإدراك منزلتها في عظم الفائدة وجلالة المنزلة (٤).
وقال أبو علي: هذا على أنهم ازدادوا نفورًا عند تفصيل الآي لهم؛ [لا] (٥) لأن تصريف الآي نَفَّرهم (٦)؛ ولكنهم لما ازدادوا نفورًا عند تصريف الآي نُسب ذلك إليه على الاتساع؛ كما قال: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: ٤٢]، والمعنى: ازدادوا هم نفورًا عند مجيئه فَنُسب ذلك إلى
(١) في جميع النسخ: تذكروه وهو تصحيف ولا يؤدي المعنى المستشهد له، وما أثبته هو الصواب ويؤيده ورودها في "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٤، وهو مصدره.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٨، بنصه.
(٣) "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٥، بتصرف يسير.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٩ أ، بنحوه مختصرًا، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٠ بنصه تقريبًا.
(٥) إضافة من المصدر ليستقيم الكلام، وبدونها يضطرب المعني.
(٦) "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٥ بنصه.
342
مجيء النذير.
٤٢ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ﴾ وقرأ ابن كثير بالياء (١) والمعنى: كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه، فهو مثل قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ﴾ (٢)؛ لأنهم غيب (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾ ذكر المفسرون في هذا قولين؛ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد منازعة وقتالًا؛ كما يفعل ملوك (٤) الدنيا (٥).
وقال سعيد بن جبير: لأزالوا ملكه (٦).
وقال أبو بكر الهذلي: إذًا لابتغت الآلهة أن تزيل مُلك صاحب العرش (٧)، والمعنى على هذا القول: إذًا لابتغوا سبيلًا إلى ممانعته ومضادته ومعاداته؛ كما قال: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢].
القول الثاني: ما ذهب إليه السدي وقتادة؛ قال السدي: إذًا لابتغت
(١) وكذلك قرأ حفص عن عاصم بالياء، وقرأ الباقون بالتاء (كَمَا تَقُولُونَ)، انظر: "السبعة" ص ٣٨١، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٥، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٣، و"الحجة للقراء" ٥/ ١٠٦، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٩.
(٢) [آل عمران: ١٢] قرأ حمزة والكسائي بالياء. انظر: "السبعة" ص ٢٠٢، و"علل القراءات" ١/ ١٠٦، و"المبسوط في القراءات" ص ١٤٠.
(٣) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١٠٦، بنصه تقريبًا.
(٤) (أ)، (د): (مملوك).
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٦٥.
(٦) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٩، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٨، و"القرطبي" ١٠/ ٢٦٥.
(٧) ورد بنحوه غير منسوب في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٩ ب.
الآلهة الحوائج من الله (١)، وقال قتادة: لابتغوا التقرب إليه، وعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم (٢)، والمعنى على هذا القول: لابتغوا ما يقربهم إليه لِعُلُوِّه إليهم (٣) وعِظَمِه عندهم، وهذا كقوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [المزمل: ١٩]، والأول هو قول الحسن والكلبي (٤).
٤٤ - قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ الآية. في هذه الآية مذهبان:
أحدهما: أن المراد بالتسبيح هاهنا حقيقة التسبيح، فعلى هذا السموات السبع والأرضون تسبح لله تسبيحًا حقيقيًا، ﴿وَمَنْ فِيهِنَّ﴾: من الملائكة والجن والإنس، والمراد بهذا التخصيص؛ لأن الشياطين وعبدة الأصنام لا يسبحون لله تسبيحًا حقيقيًّا.
(١) لم أقف عليه.
(٢) أخرجه بنحوه مختصرًا "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٨، و"الطبري" ١٥/ ٩٢، من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٩ - بمعناه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٦٩ - بمعناه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٩ ب، بنحوه، والطوسي ٦/ ٤٨١ - بمعناه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٥، و"القرطبي" ١٠/ ٢٦٦.
(٣) الأصوب عليهم؛ لأنه هو الأظهر في المعنى، وقد جاءت في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٨١: عليهم.
(٤) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٨١، بنحوه عن الحسن، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٨، عن الحسن.
وقد رجح هذا القول الخازن والألوسي، والشنقيطي وقال: ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول؛ لأن في الآية فرض المحال؛ والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مُشَارِكة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت موجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٦٥، و"الألوسي" ١٥/ ٨٢، والشنقيطي ٣/ ٥٩٤.
344
وقوله تعالي: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ قال عكرمة: كل شيء حي (١)، ونحوه قال الحسن والضحاك: كل شيء فيه الروح (٢)، وقال قتادة: يعنى الحيوانات والنَّامِيات (٣)، وقال بعضهم: هذا عام في كل شيء، وكل ما خلق الله فهو يسبح بحمده، وأن صَرِيرَ السَّقْفِ وصَرِيرَ البابِ من التسبيح لله (٤)، ولكل شيء تسبيح لا نفقه نحن ذلك؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.
المذهب الثاني: أن المراد بالتسبيح هاهنا: الدلالة على أن الله -عز وجل-
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٢، بنحوه، وورد بمعناه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٥٩، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٩ ب، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٣ وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٢ بنصه عنهما، وأبو الشيخ في العظمة ص ٥٢٣ بنصه عن الضحاك، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٩ ب بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٥ - بمعناه، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٣ - بمعناه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٩، عنهما، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٣ وعزاه إلى أبي الشيخ عن الحسن- لم أجده.
(٣) أخرجه بمعناه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٩، و"الطبري" ١٥/ ٩٣، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٠ - بمعناه، و"الثعلبي" ٧/ ١٠٩ ب بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٦.
والنَّامِيات: جمع نَامٍ، والنَّامِي، مثل: النبات والشجر ونحوه؛ أي كل ما ينمو ويكبر، ويقابله الصامت؛ كالحجر والجبل ونحوه. انظر (نمي)، (نمو) في "المحيط في اللغة" (١٠/ ٤١٧، و"اللسان" ٨/ ٤٥٥٢.
(٤) وهو قول النخعي -كما في البغوي وغيره- وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٢، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٨٣، انظر: "تفسير البغوى" ٥/ ٩٦ بلفظ: صرير الباب ونقيض السقف، و"ابن الجوزي" ٥/ ٣٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢٦٨.
345
خالقٌ حكيمٌ مُبَرَّأٌ من الأَسْوَاءِ (١)، فالمخلوقون والمخلوقات كلها تدل على أن الله -عز وجل- خالقها؛ كما قال في قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، أي: يخشع له ويخضع (٢)، وقد ذكرنا هذا المعنى مستقصى عند ذكر سجود الجمادات في آيات قد مضت في هذا المعنى (٣)، وعلى هذا قوله: ﴿لَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ﴾ مخاطبة للكفار؛ لأنهم لا يستدلون ولا يعتبرون.
٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ في هذه قولان؛ أحدهما: أن هذه نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله إذا قرأ القرآن؛ قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل بنت حرب بن أمية؛ امرأة أبي لهب، وحويطب، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه (٤).
(١) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٢، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠٩ ب بنصه.
(٢) والقول الأول هو الراجح، لموافقته لظاهر القرآن، وتأييد السنة له، فقد أسمع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وصحابته تسبيح الجمادات، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إنكم تعدون الآيات عذابًا، وإنا كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بركة، لقد كنا نأكل الطعام مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ونحن نسمع تسبيح الطعام... أخرجه مالك في الموطأ [التمهيد] ١/ ٢١٩، والترمذي (٤٦٣٣) كتاب: المناقب، باب: آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- واللفظ له، وقال: حسن صحيح، وذكره الألباني في "صحيح الترمذي" (٤٦٣٣)، انظر أمثلة أخرى في هذا الباب في "الشفا" ١/ ٥٨٨.
وقد رجح هذا القول كثير من العلماء؛ منهم: القرطبي ١٠/ ٢٦٨، و"الخازن" ٣/ ١٦٦، و"ابن كثير" ٣/ ٤٨ و"الألوسي" ١٥/ ٨٤، وغيرهم.
(٣) سورة الرعد: آية [١٥]، وسورة النحل: آية [٤٩].
(٤) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٤١ بنصه، و"أبي حيان " ٦/ ٤١، بنحوه، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧١ - بلا نسبة، وورد بنسبة ودون ذكر المؤذين للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٠ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٦، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٣، و"ابن =
346
وقوله تعالى: ﴿حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ قال الأخفش: أراد: ساترًا، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول: إنك لمَشْؤوم علينا ومَيْمُون، وإنما هو شَائِم ويَامِن؛ لأنه من قولهم: شأمَهُم وَيمَنَهم، والحجابُ هاهنا هو الساتر، فقال: ﴿مَسْتُورً﴾ (١)، وهذا نادر أن يكون الفاعل في لفظ المفعول (٢)، هذا قوله، وتابعه على هذا كثير من أهل اللغة (٣).
= الجوزي" ٥/ ٤١، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٢٠. وأورد بعضُ المفسرين عند هذه الآية حادثة أم جميل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- التي شهدها أبو بكر، وحجب الله رسوله عنها لما جاءت تريد إيذاءه، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: وقرأ قرآنًا اعتصم به منها، وهو هذه الآية. وهذا الخبر لا يعد من قبيل أسباب النزول عند أهل الفن، بل ولا هو من صيغه، أما قول الواحدي وغيره: نزلت في قوم.. فأيضًا لا يمكن عدّه سببًا في النزول؛ لعدم تحقق شروط قبوله؛ وهي:
١ - أن يثبت عن صحابي بإسناد صحيح فيكون له حكم الرفع.
٢ - إن ثبت عن تابعي فهو مرسل، ويشترط لقبوله صحة الإسناد وأن يكون صريحًا، ويرد من طريقين عن أئمة التفسيرة كمجاهد وعكرمة.
ويؤيّد ردّه أن الرواية وردت عن الكلبي، وهو مُضَعَّفٌ عند العلماء، ودليل آخر أن الواحدي -نفسه- لم يوردها في أسباب نزوله، وكما قال ابن عطية: الآية إخبار من الله لنبيه أنه يحميه من الكفرة الذين كانوا يؤذونه، في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد. فلا يلزم إذًا أن يكون للآية سببُ نزول خاص. انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٠، و"الثعلبي" ٧/ ١١٠ أ، و"البغوي" ٥/ ٩٧، و"ابن عطية" ٩/ ٩٨، و"أبي حيان" ٦/ ٤٢، و"ابن كثير" ٣/ ٤٩، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٦ - ٣٣٧، وعزاه إلى أبي يعلى وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي معًا في الدلائل، و"الإتقان" ١/ ٩٠ - ٩١، و"التحبير" ص ٨٦، و"مباحث في علوم القرآن" ص ٨٣.
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦١٣، بتصرف يسير.
(٢) هذه الجملة ليست في معانيه، والظاهر أن الواحدي أراد تلخيص قوله؛ لأنه يفهم من قال هذا، ولأنه قال بعده: هذا قوله، لا أنه تقرير قاعدة.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٢، و"جمهرة اللغة" ١/ ٢٦٣، و"تهذيب =
347
وقال آخرون: ﴿مَسْتُورً﴾ هاهنا مفعول، والمعنى أنه حجابٌ مستورٌ لا يُبْصر (١)، وإنما كان قُدْرةً من قُدَرِ الله تعالى وأُخْذَةً من أُخَذِه (٢) حجبَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بحجاب (٣) يحجبه عنهم، بحيث لا يرى النبيُ -صلى الله عليه وسلم- ذلك الحجابَ ولا المشركون، حكى هذا صاحب النظم، وهو حسن.
وقال الزجاجي: يجوز أن يكون المستور هاهنا بمعنى النسب، كما تقول في الفاعل في مثل: لابِن وتَامِر (٤) (٥)، وتأويله: حجابٌ ذو ستْرٍ؛
= اللغة" (ستر) ٤/ ١٦٢٥، و"الإملاء" ٢/ ٩٢، و"البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٩١، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٧٩.
ولم يرتض ابن عطية هذا التاويك وعدّه تكَلُّفًا من غير حاجة داعية إليه، وقال: وليس مثاله بمُسلَّم، وكذلك رده السمين، وقال: هو على بابه كما حققناه. انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ٩٩، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ١٤، ١٩٦.
(١) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" ٩٣/ ١٥، و"الثعلبي" ٧/ ١١٠ أ، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٧، و"الزمخشري" ٢/ ٣٦٣، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٨٠ وهذا القول هو الذي مال إليه الطبري -ولم يرد الأول- فقال: وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام؛ أن يكون المستور هو الحجاب، فيكون معناه: أن لله سترًا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأول وجه مفهوم.
(٢) الأُخْذةُ، بالضم: رُقية تأخذُ العين ونحوها كالسحر، ويقال بعينه اخُذٌ: وهو الذي لا يقدر صاحبه على النظر. انظر المنتخب من غريب كلام العرب ٢/ ٤٨٢، و"اللسان" (أخذ) ١/ ٣٦، و"التاج" (أخذ) ٥/ ٣٤٦.
(٣) في جميع النسخ: (حجاب)، ولا معنى لها، وما أثبته هو الصواب وبه يستقيم الكلام.
(٤) أي: ذو لبن، وذو تمر.
(٥) لم أقف على مصدره، وورد نحوه بلا نسبة في "البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٩١، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٧٩، و"تفسير أبي حيان" ٦/ ٤٢، و"الدر المصون" ٧/ ٣٦٢.
348
كقولهم: جاريةٌ مَغْنوْجة (١)، أي ذات غُنْجٍ، ولا يقال: غَنَجْتُها؛ ومكان مَهُول: فيه هَوْل، ولا يقال: هُلْتُ المكان؛ جعلت فيه الهَوْل؛ ورجلٌ مَرْطُوب: ذو رُطوبة، ولا يقال: رَطَبْتُه (٢).
القول الثاني: أن معنى الحجاب هاهنا: الطبع الذي على قلوبهم، والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا ما يأتي به من الحكمة في القرآن فينتفعوا به، وهذا قول قتادة؛ قال: هو الأكنة (٣)، وعلى هذا قوله: ﴿جَعَلنَا بَيتَكَ﴾، أي: بين قولك وقراءتك وفهم ما تأتي به، ﴿وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾، وهو ما لا يرونه ولا يعلمونه من الطبع على قلوبهم، وإن شئت قلت: حجابًا ساترًا، على ما ذكرنا.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ جمع كنان، وهو ما ستر الشيء (٤)، قال ابن عباس: يريد مثل كنانة النبل (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾، أي: كراهية أن يفقهوه، وأن لا يفقهوه، وقد ذكرنا هذا في مواضع، كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦]، ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾: ثقلًا وصممًا، وفيه إضمار حذف لدلالة الكلام
(١) الغُنْجُ: الدَّلّ، والغنج في الجارية: تكسُّرٌ وتدلُّلٌ، وقيل: الغنج: ملاحةُ العينين. انظر: "اللسان" (غنج) ٦/ ٣٣٠٥.
(٢) وردت هذه الأمثله في "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٢٢، و"أبي حيان" ٦/ ٤٢، و"الدر المصون" ٧/ ٣٦٢.
(٣) أخرجه بلفظه: "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٩، و"الطبري" ١٥/ ٩٣، وورد بلفظه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٠، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤٠.
(٤) انظر: (كنن) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٩٦، و"المحيط في اللغة" ٦/ ١٤٤، و"الصحاح" ٦/ ٢١٨٨، و"اللسان" ٧/ ٣٩٤٢.
(٥) ورد غير منسوب في "تفسير ابن عطية" ٩/ ٩٩، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٢٢.
349
عليه، وهو: أن يسمعوه، ودلّ عيه قوله: ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾، وهذا صريح في الرد على القدرية؛ إذ أخبر تعالى أنه حال بين قلوبهم وبين فهم القرآن؛ بما جعل عليها من الأكنة بين آذانهم وبين استماع الوحي استماعًا ينتفعون به، بما جعل فيها من الوَقْر، وهذه الآية مما سبق تفسيره في سورة الأنعام (١).
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ﴾ قال المفسرون: يعني قلت: لا إله إلا الله، وأنت تتلو القرآن (٢).
﴿وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ قال ابن عباس: يريد: كارهين أن يُوَحَّدَ (٣) الله (٤).
وقال قتادة: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لما قال: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون وكبر عليهم (٥).
وقال أبو إسحاق في قوله: ﴿نُفُورًا﴾ يحتمل مذهَبَيْن؛ أحدهما: المصدر، المعنى: وَلَّوْا نافرين نُفُورًا، والثاني: أن يكون نفورًا جمع نافر مثل شاهد وشهود (٦).
(١) آية [٢٥].
(٢) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٥ أ، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ٩٤ بنصه، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧١، بنحوه، و"هود الهواري" ٢/ ٤٢٢، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١١٠ ب بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤١.
(٣) في الوسيط: يُوحِّدوا، أي هم الكارهون، وعلى رواية البسيط: الضمير عام يعود عليهم وعلى غيرهم.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٠٤ بنصه تقريبًا.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٤، بنحوه، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٤٩، وورد بنحوه بلا نسبة في" تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٣ بتصرف يسير.
350
٤٧ - قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ الآية. قال المفسرون: أمر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا -رضي الله عنه- أن يتخذ طعامًا ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك علي، ودخل عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال: "قولوا: لا إله إلا الله، لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم، فأبوا ذلك عليه" (١).
وكانوا يسمعون من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ويقولون -بينهم متناجين-: هو ساحرٌ، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول (٢)، فأخبر الله نبيه -عليه السلام- بذلك، وأنزل عليه: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ (٣) يحتمل أن تكون التاء زائدة.
(١) في جميع النسخ: (عليهم)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود على الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
(٢) ورد هذا المقطع في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٣ بنصه.
(٣) ورد بنحوه مختصرًا -ودون ذكر قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٠ ب، وورد بنصه -ودون قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٠٥، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٤٢، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٢٣ بنصه، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٢، ولم أقف على أثر -في كتب أسباب النزول ولا في كتب التفسير المتقدمة المتداولة- غير الثعلبي - بأن الآية نزلت في هذه الحادثة، والمعلوم أن إثبات سبب نزول آية ما يفتقر إلى دليل صحيح. وورد نحوٌ من هذه الحادثة - وفيها قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في سبب نزول صدر سورة (ص)؛ جاء في السيرة أن أشراف قريش جاؤوا أبا طالب في شأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عم، كلمةٌ واحدةٌ يُعْطُونيها تملكون بها العرب وتدينُ لكم بها العجم"، فقال أبو جهل: نعمْ وأبيك وعَشْر كلمات، قال: تقولون: لا إله إلا الله، فنفروا وقالوا ما حكاه القرآن: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص: ٥]، فأنزل الله صدر سورة (ص). ورواية الطبري فقال أبو طالب: وإلام تدعوهم؟ قال. أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدينُ لهم بها العرب ويملكون بها العجم. يفي رواية أحمد والترمذي والبيهقي: "تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجمُ الجزية". قال=
351
والمعنى: نحن أعلم بما يسمعون إذ يسمعون إليك، وأنت تقرأ القرآن وتدعوهم إلى الإسلام، أخبر الله تعالى أنه عالمٌ بتلك الحالة، وبذلك الذي كانوا يسمعونه إذ يستمعون إلى الرسول.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ قال ابن عباس: يريد يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء (١) قال أبو عبيدة:
نجوى مصدر ناجيت (٢)، وذكرنا هذا الحرف عند قوله: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: ٨٠]، قال أبو إسحاق: النجوى اسم المصدر، والمعنى: وإذ هم ذَوُو (٣) نجوى (٤)؛ أي يتناجون ويُسَارّ (٥) بعضهم بعضًا.
﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾، قالوا: يعني الوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأبا جهل وحويطبًا، وقرناءهم من المشركين (٦).
= الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه أحمد شاكر، ورواية الحاكم والواحدي في "أسباب النزول": تَذِلّ، بدل: تدين. قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر سيرة النبي لابن هشام ٢/ ٢٧، و"المسند" ١/ ٢٢٧، ٣٦٢، و"سنن الترمذي" (٣٢٣٢): تفسير، سورة ص، و"تفسير الطبري" ط. شاكر ١٠/ ٥٥٣، و"المستدرك " ٢/ ١٠٨، و"دلائل البيهقي" ٢/ ٣٤٥، و"أسباب النزول" ص ٣٨٠، و"تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٠، و"شرح المسند" ٢/ ٣١٤، وكل الروايات جاءت عن ابن عباس - ما عدا رواية الطبري فهي عن السدّي.
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٠٥، بنصه.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣٨١، بنصه.
(٣) في (ع) مطموسة، وفي باقي النسخ (ذوي)، وهو خطأ نحوي ظاهر، والمثبت موافق للمصدر.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٣ بتصرف يسير.
(٥) من الإسرار، وهو: الكتم والإخافاء.
(٦) ورد بنحوه مختصرًا في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٥ ب، و"الثعلبي" ٧/ ١١٠ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٣٧.
352
﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ﴾: ما تتبعون، ﴿إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾، كلام المفسرين في هذه الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول فيما بينهم مُسَارِّين، فأطلع الله نبيه على ذلك، وعلى هذا يحتاج إلى تقدير محذوف في الآية؛ لأن هؤلاء لم يتبعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيصحَّ أن يقال لهم: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ﴾، ولكن التقدير: إذ يقول الظالمون، إذا تبعتموه لم تتبعوا إلا رجلاً مسحروًا، وإن كان هذا القول منهم للمسلمين فهو ظاهر ولا يحتاجون إلى إضمار، والمسحور (١): الذي قد سُحِرَ فاختلط عليه أمرُه، وأُزيل عن حدّ الاستواء، هذا قول أكثر أهل اللغة (٢).
وقال ابن الأعرابي: المسحور: الذَاهبُ العَقْلِ المُفْسد، وأنشد (٣):
فقالتْ: يَمينُ اللهِ أفعَلُ إنّني... رأيتُكَ مَسْحورًا يمينُكَ فاجرَهْ (٤)
قال: وطعامٌ مَسْحورٌ إذا أُفْسِدَ عَمَلُه، وأرضٌ مسحورة: أصابها من المطر أكثرُ مما ينبغي فأفْسَدَها (٥). وقال أبو عبيدة: يريد بشرًا ذا رِئَةٍ (٦).
(١) في جميع النسخ: (المستحق)، والصواب ما أثبته.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) ٢/ ١٦٤٥، بنحوه، انظر: (سحر) في "جمهرة اللغة" ١/ ٥١١، و"المحيط في اللغة" ٢/ ٤٧٩، و"مجمل اللغة" ١/ ٤٨٧، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١٣٨، و"الصحاح" ٢/ ٦٧٨، و"المحكم" ٣/ ١٣١.
(٣) للنابغة الذبياني.
(٤) "ديوانه" ص ١٢١، وورد في "تهذيب اللغة" (سحر) ٢/ ١٦٤٠، و"اللسان" (سحر) ٤/ ١٩٥٢.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) ٢/ ١٦٤٠، بنصه تقريبًا
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٣٨١ - باختصار، وواضح أنه اقتبسه من "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٦ لوروده بنصه. وبقيةكلام أبي عبيدة- كما في "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٧٢ =
353
قال ابن قتيبة: ولست أدري ما الذي اضطره إلى هذا التفسير المُسْتَكْرَه، وقد سبق التفسير من السلف بما لا استكراه فيه. قال مجاهد في قوله: ﴿رَجُلًا مَسْحُورًا﴾: أي مخدوعًا (١)؛ لأن السحر حيلة وخديعة (٢).
وروى عطاء عن ابن عباس، في قوله: ﴿مَسْحُورًا﴾ قال: يريد مخلوقًا (٣).
وهذا يؤكد قول أبي عبيدة: ذو سحْر (٤)، ويجوز أن يكون من السَّحْر بمعنى: الغذاء (٥)، ومنه قول امرئ القيس:
ونُسْحَرُ بالطَّعام وبالشرابِ (٦)
= فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بمَلَك، وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سَحْره، ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومُسَحَّر، انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٩٦، و"أبي حيان" ٦/ ٤٤.
(١) ورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦١، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧١، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٧، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٤٦، و"البغوي" ٥/ ٩٨.
(٢) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٦ بنصه.
(٣) أي بشرًا مخلوقًا.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٣٨١ بمعناه، والظاهر أن القول مقتبس من "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٥٦ لوروده بنصه
(٥) وهو قول الليث؛ ورد في "تهذيب اللغة" (سحر) ٢/ ١٦٤١ بلفظه.
(٦) صدره:
أَرَانا مُوْضِعِين لأمْر غَيْب
"ديوانه" ص ٤٣، وورد في: "البيان والتبيين" ١/ ١٩٨ و"الغريب" لا بن قتيبة ١/ ٢٥٦، و"جمهرة اللغة" ١/ ٥١١، و"تهذيب اللغة" (سحر) ٢/ ١٦٤١، "الصحاح" (سحر) ٢/ ٦٧٩، و"المحكم" (سحر) ٣/ ١٣٢، و"تفسير ابن عطية" ٩/ ١٠٢، و"ابن الجوزي" ٦/ ٤٢، و"اللسان" (سحر) ٤/ ١٩٥٢، وفي بعض المصادر (لحَتْمِ) بدل =
354
والاختيار هو القول الأول؛ لقوله تعالى إخبارًا عن فرعون: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: ١٠١] لا يجوز أن يكون أراد مخلوقًا، وذاسحْر، وإنما أراد: مخدوعًا، والمشركون كانوا يذهبون إلى أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُعَلَّم ما يأتي به ويُخْدع بذلك، يدلّ على هذا قوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]، فلذلك قالوا له: ﴿مَسْحُورًا﴾.
٤٨ - قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ﴾، أي: بينوا لك الأشباه؛ حين شبهوك بالكاهن والساحر والشاعر والمعلَّم والمجنون.
قال ابن قتيبة: وهذه الآية تدل على أن المسحور في الآية الأولى بمعنى المخدوع؛ لأنهم لو أرادوا رجلاً ذا رِئَةٍ لم (١) يكن في ذلك مَثَلٌ ضربوه، ولكنهم لما أرادوا رجلاً مخدوعًا -كأنه بالخديعة سُحِر- كان مثلًا ضربوه وتشبيهًا شبهوه (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَضَلُّوا﴾: أي عن الحق والطريق المستقيم، ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾، قال مجاهد: مخرجًا (٣)، وقال ابن عباس: يريد سبيل الهدى (٤).
= (لأمر)، قال ابن بري: (مُوضِعِين): سائرين مسرعين، و (لأمر غيب): يريد الموت، وأنه قد غُيِّب عنا وقتُه، ونحن نُلْهَى عنه بالطعام والشراب؛ فكأنَّما نُخدع.
(١) في جميع النسخ، (ولم)، وهذه الواو رائدة أن إلى اضطراب المعنى، ويستقيم بدونها؛ كما في المصدر.
(٢) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٧، بنصه.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٣ بلفظه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٧ بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٣.
(٤) ورد بلا نسبة في "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٠٤، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٣، و"أبي حيان" ٦/ ٤٤.
٤٩ - وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا﴾، الرَّفَتُ: كَسْرُ الشيء بيدك، يقال: رَفَتُّه، أرْفِتُه بالكسر، كما تَرْفِتُ المدَرَ والعَظمَ البالي، والرُّفاتُ: الحُطامُ من كل شيء تَكَسَّر، ويقال: رَفَتَ عظامَ الجَزُور رَفْتًا إذا كسَرَها ليطْبُخَها، ومن هذا يقال للتِّبْن: الرُّفَتُ (١)؛ لأنه دُقَاقُ (٢) الزرع.
وقال الأخفش: يقال: رُفِتَ رَفْتًا فهو مرفوت؛ نحو حُطِم حطمًا فهو محطوم (٣)، والرُّفات والحُطام الاسم؛ كالجُذاذ والرُّضاض (٤).
وقال الفراء: الرفات لا واحد له؛ نحو الدُّقاق والحُطام (٥).
وقال ابن قتيبة: الرفات مثل الفُتَات (٦)، هذا كلام أهل اللغة.
قال ابن عباس في رواية عطاء: أي إذا ذهب اللحم والعروق والدم و (٧)
(١) انظر: (رفت) في "جمهرة اللغة" ١/ ٣٩٣، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٣٦، و"مجمل اللغة" ١/ ٣٩٠، و"اللسان" ٣/ ١٦٨٦.
(٢) الدُّقَاقُ: فُتَاتُ كُلِّ شيء دُقَّ، وقيل: هو التراب اللَّيِّن الذي كسحته الريح من الأرض، ومنه الدَّقيقُ: الطحين. انظر دقق في "المحيط في اللغة" ٥/ ١٩٧، و"اللسان" ٣/ ١٤٠١.
(٣) ليس في معانيه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٢٤ بنصه، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٣، وورد نحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٢ منسوبًا للكسائي وأبي عبيدة وهو بمعناه في المجاز.
(٤) الرَّضُّ: دقُّك الشيءَ، ورُضاضُ الشيء: فتاته، وكلُّ شيء كسّرته فقد رَضَضْتَه. "اللسان" (رضض) ٣/ ١٩٥٦.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٥ بنصه تقريبًا.
(٦) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٧ بنصه.
(٧) الواو ساقطة من (أ)، (د).
بقيت عظام قد رَثَّتْ (١) وبَلِيَتْ ورَمَّت (٢)، فإذا مسسته وجعلته بين إصبعيك انسحق (٣).
وقال في رواية الوالبي في قوله: ﴿وَرُفَاتًا﴾ قال: غبارًا (٤).
وقال مجاهد: ترابًا (٥)، وهو قول الزجاج (٦) والفراء (٧).
وقوله تعالى: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ انتصب خلقًا على المصدر؛ لأنه بمعنى: بعثًا جديدًا، أي: أنُبْعثُ إذا صرنا ترابًا؟!.
٥٠، ٥١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ الآية. اختلفوا في معنى قوله: {خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي
(١) الرَّثُّ: الخَلَقُ الخَسيسُ البالي من كل شيء، ورثَّ الشيء وأرثَّ: أي خَلُقَ. انظر: "المحيط في اللغة" (رث) ١٠/ ١٢٤، و"اللسان" (رثث) ٣/ ١٥٨٠.
(٢) قال ابن الأثير: أصل هذه الكلمة من رَمَّ الميّتُ، وأرَمَّ: إذا بَلِيَ، والرِّمَّة: العظمُ البالي. "النهاية" ٢/ ٢٦٦.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٠٦ بنصه.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٧ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٠ ب، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٠٥، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٣، و"ابن كثير" ٣/ ٥١، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٩ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٣ بلفظه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٧ بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٢، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٣، و"الثعلبي" ٧/ ١١٠ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٤، بلفظه.
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٥، بلفظه.
357
صُدُورِكُمْ} فقال ابن عباس في رواية عطاء: يعني الموت (١)، وهو قول مجاهد في رواية خُصَيف وعكرمة والحسن وابن جريج وسفيان وأبي صالح وابن عمر والكلبي، قالوا: ليس شيء أكبر في صدور بني آدم من الموت، يقول: لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم أحياكم (٢).
قال الكلبي: قالوا: يا محمد، أرأيت لو كنا الموت، من يميتنا؟ فأنزل الله تعالى ﴿أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ (٣): يعني الموت.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٨ من طريق العوفي (ضعيفة) قال: إن كنتم الموت أحييكم، والحاكم: تفسير، الإسراء ٢/ ٣٦٢ بلفظه من طريق مجاهد (صحيحة) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٤٨، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٧، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٩ وزاد نسبته إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.
(٢) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٩، بنحوه عن الكلبي، وابن أبي شيبة ٧/ ١٣٤، بنحوه عن ابن عمر، و"الطبري" ١٥/ ٩٨، بنحوه عن ابن عمر وابن جريج عن ابن جبير، وعن أبي صالح والحسن قالا: الموت، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ٢١٢ مختصرًا عن الحسن، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٣ - مختصرًا عن ابن عمر ومجاهد وعكرمة وأبي صالح، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٢، بنحوه عن الكلبي والحسن وعكرمة، و"هود الهواري" ٢/ ٤٢٤، بنحوه عن الحسن، و"الثعلبي" ٧/ ١١٠ ب مختصرًا عن مجاهد وعكرمة، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٨ مختصرًا عن ابن عمر، وأورده السيوطي في "الدرالمنثور" ٤/ ٣٣٩، بنحوه، وزا د نسبته إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر.
(٣) لم أقف عليه، وقد انفرد المؤلف بإيراد هذا القول على أنه سببٌ في النزول، ولم يورده في كتابه: "أسباب النزول" أو تفسيره الوسيط، وهذا القول لا يعتد به -في باب أسباب النزول- لعدم وروده بسند، وحتى مع إسناده فإن الرواية عن طريق الكلبي ضعيفة كما هو معلوم.
358
وروي عن مجاهد أيضًا أنه قال: يعني السماء والأرض والجبال (١).
وروي عن ابن [أبي] (٢) نجيح عنه قال: ما شئتم فكونوا، سيعيدكم الله كما كنتم (٣).
قال أبو إسحاق: ومعنى هذه الآية فيه غموض؛ لأن القائل يقول: كيف يقال لهم: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا﴾ وهم لا يستطيعون ذلك، فالجواب في ذلك أنهم كانوا يُقِرُّون أن الله خالقهم وينكرون أن الله يعيدهم (٤)، فقيل لهم: إن تستشعروا أنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت -الذي هو أكبر الأشياء في صدوركم- لأماتكم الله ثم أحياكم؛ لأن القدرة التي بها أنشأكم (٥) بها يعيدكم (٦)، وهذا معنى قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٩ بنصه، وورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٠ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٨، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٧، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٤٨، و"ابن عطية" ٩/ ١٠٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤٤.
(٢) ساقطة من جميع النسخ.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٦٣ بنصه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ٩٨ بنصه من طريقين، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٣، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧١، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي رجحه الطبري وتبعه ابن عطية ونصره، وحجته أن الله عَزَّ وَجَلَّ أطلق القول ولم يخصصه بشيء، لذلك فكل ما كبر في صدور بني آدم من خلقه يكون مقصودًا.
انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٩٩، و"ابن عطية" ٩/ ١٠٧.
(٤) في جمبع النسخ: (يعيدكم)، والعواب ما أثبته، وبه يستقيم الكلام وتنسجم الضمائر.
(٥) ساقطة من (أ)، (د).
(٦) "معاني القران وإعرابه" ٣/ ٢٤٤ بتصرف يسير.
359
يُعِيدُنَاَ}، فقل: ﴿الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
وقوله تعالى: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ﴾ قال الفراء: نَغَض فلان رأسَه يَنْغُضه إنغاضًا؛ إذا حَرّكه إلى فوق وإلى أسفل، ونَغَض رأسُه إذا تَحَرَّك، ونَغَضَتْ سِنُّهُ، تَنْغَضُ وتَنْغُضُ وتَنْغِضُ، نَغْضًا ونَغَضَانًا ونُغُوضًا، وسُمِّيَ الظَّلِيمُ (١) نَغْضًا لأنه يُحَرِّك رأسه (٢)، وأنشد (٣) للعَجّاج:
أَسَكَّ نَغْضًا لا يَنِي مُسْتَهْدَجًا مُسْتهرِجٌ يحمل على أن يَهْرِجَ هَرْجَانًا (٤)
(١) الظليم: هو الذَّكر من النَّعَام، وجمعه: ظِلْمان. انظر: "لتلخيص" ٢/ ٦٤١، و"الصحاح" (ظلم) ٥/ ١٩٧٨.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٥، بنحوه بعض الفقرات، وورد بعضها بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤، و"تهذيب اللغة" (نغض) ٤/ ٣٦٢١، ولعله قد ركب النص من هذه المصادر الثلاث، ولمّا كان أغلب النقل عن الفراء نسبه إليه من دونهم - والله أعلم.
(٣) الضمير يعود على الفراء، لكن الذي أنشد البيت هو الزجاج وليس الفراء.
(٤) "ديوانه" ٢/ ١٧، وروايته مختلفة ومقلوبة:
واستبدلت رُسومُهُ سَفَنَّجَا... أصَكَّ نَغْضًا لا يَنِي مستهدجًا
وورد برواية الديوان في: "المعاني الكبير" ١/ ٣٢٩، والاقتضاب ص ٤٢٠، وورد صدره في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٥، و"تهذيب اللغة" (هدج) ٤/ ٣٧٣٨، و"الصحاح" (نغض) ٣/ ١١٠٩، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٨٧، و"اللسان" (هدج) ٨/ ٤٦٣٠، (نغض) ٨/ ٤٤٨٩، وفي بعض هذه المصادر: (أصكَّ) بدل (أسكَّ)، (أسكَّ)؛ السَّكَكُ: الصمم، يقال: ظليم أسكّ؛ لأنه لا يسمع، وقيل: السكك: صِغَرُ الأذن ولزوقها بالرأس، (أصك)؛ الصكك: اضطراب الركبتين والعرقوبين، وظليم أصكّ: لتقارب ركبتيه؛ يصيب بعضها بعضًا إذا عدا، (سفنَّجًا): يعني بالسفنج الظليم؛ وهو ذكر النعام، (لا يَني): لا يزال، (مستهدَجا): يُحمل على الهدَج؛ وهو تقارب الخطو مع سرعة المشي. قال ابن الأعرابي: مستهدِجا: =
360
وهو (١) ضرب من العَدْو.
وقال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا أُخْبِر بشيء فحَرَّك رأسَه إنكارًا له: قد أَنْغَضَ رأسه (٢).
قال ابن عباس في رواية الوالبي، في قوله: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ﴾ قال: يهزون (٣). وقال مجا هد: [فسيحركونها (٤).
وقال عطاء عن ابن عباس: يحركون رؤوسهم تكذيبًا لهذا القول (٥).
وقال الزجاج] (٦): فسيحركون رؤوسهم تحريك من يبطل الشيء ويسْتبطئه (٧)، ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ﴾.
وقال ابن قتيبة: أي يحركونها تحريك المستبعدِ رأسَه (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ﴾، أي: البعث أو الإعادة، وقد
= مستعجلاً؛ أي أُفْزعَ فمرّ، ومن رواه بكسر الدال أراد أنه لا يزال عَجْلان في عَدْوِه، (مستهرج): الهَرْجُ: الاختلاط؛ وأصل الهرج: الكثرة في الشيء. انظر: "اللسان" (هرج، سكك، صكك).
(١) الضمير يعود على الاسْتِهْدَاج.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (نغض) ٤/ ٣٧٣٨، بنصه تقريبًا.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٠ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة).
(٤) " تفسير مجاهد" ص ١/ ٣٦٤، بنحوه.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٠، بنحوه، عن عطاء الخرساني (منقطعة)، وورد بنحوه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٤٨، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٧، وورد بنحوه عن عطاء في "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٩ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع).
(٧) في جميع النسخ: (يستطيعه)، ولا معنى لها، والتصويب من المصدر، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٤، بنصه.
(٨) "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٥٧، بنحوه.
361
تَقدّم الفعل منهما (١)، والفعل يدل على المصدر، ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ قال المفسرون: يعني هو قريب (٢)، قال ابن عباس: وعسى من الله واجب (٣)، وذكرنا هذا عند قوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦].
٥٢ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ انتصب يومَ على البدل من قوله: ﴿قَرِيبًا﴾ على معنى: قل عسى أن يكون يوم يدعوكم، ويكون تأويله: عسى أن يكون البعث قريبًا يوم يدعوكم، وهذا معنى قول أبي إسحاق: أي يعيدكم يوم القيامة (٤)، ومعنى يدعوكم: أي بالنداء الذي يُسْمِعكم، وهو النفخة الأخيرة؛ كما قال: ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ [ق: ٤١].
وقوله تعالى: ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ﴾، أىِ: تجيبون، والاستجابة: موافقة الداعي فيما دَعا إليه؛ وهي الإجابة، إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة، فهي أوكد من الإجابة (٥).
وقوله تعالى: ﴿بِحَمْدِهِ﴾ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يقول: بأمره (٦)، وهو قول سفيان (٧)، ولا أدري وجه هذا القول من
(١) في قوله: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾، وقوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا﴾
(٢) ورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٠١، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧٢، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ أ، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٨.
(٣) أورده السيوطي في "الدر المنثور" ١/ ٤٣٨ بنصه، وعزاه إلى ابن المنذر والبيهقي في سننه -لم أقف عليه- من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٥، بنصه.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٨٩، بنصه تقريبًا.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠١ بلفظه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ أبلفظه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٩، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤٥، و"ابن كثير" ٣/ ٥٣، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٧) ورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٥، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٩.
362
اللغة، وقال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم يقولون: سبحانك وبحمدك، فهو قوله: ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ (١)، وقال قتادة: يقول: بمعرفته وطاعته يوم القيامة (٢)، ومعنى هذا أنهم إذا أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة، ولكنه لا ينفعهم الحمد.
وقال أبو إسحاق: يستجيبون مقرّين بأنه خالقهم (٣)، وهذا معنى قول قتادة.
قال أهل المعاني: تستجيبون بحمده: تستجيبون حامدين (٤)، كما تقول: جاء بغضبه، أي: جاء غضبان، وخرج زيد بثيابه، وركب الأمير بسيفه، أي: وسيفه معه (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ قال ابن عباس في رواية
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ أ، بنحوه، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٦٤، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤٥، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٣٩ وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠١ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ أبنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٠ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٥ بنصه.
(٤) وقد ذكر الزمخشري (٢/ ٣٦٣) هذا القول وزاده بيانًا فقال: (بحمده) حال منهم؛ أي حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع: ستركبه وأنت حامد شاكر، يعني أنك تُحمل عليه وتُقسر قسرًا، حتى أنك تلين لين المسمح الراغب الحامد عليه. وإلى هذا القول نحا "أبو حيان" ٦/ ٤٧ أيضًا.
(٥) ورد في "تفسر الطوسي" ٦/ ٤٨٩ بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٢٧.
363
عطاء: يريد بين النفختين الأولى والثانية يُكَفُّ عنهم العذاب فينامون (١)، مثل قوله في سورة يس: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ [آية: ٥٢] وهم يعذبون من حين يموتون إلى النفخة الأولى، فعلى هذا القول ظنهم اللَّبْثَ القليل يعود إلى لُبْثهم بين النفختين، وقيل: معنى هذا: تقريب وقت البعث؛ كما قال الحسن: كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تَزَل (٢)، فهؤلاء إذا رأوا يوم القيامة وشاهدوا البعث، استقصروا مدة لُبْثِهم مع ما يعلمون من طول لَبْثِهم في الآخرة، وعند الحسن وقتادة: هذا اللَّبْثُ يعود إلى لَبْثهم في الدنيا لا إلى لَبْث البرزخ.
قال قتادة في قوله: ﴿وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ذاكم والله لَمّا تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقَلَّت؛ حين عاينوا يوم القيامة (٣).
وقال الحسن: ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾: في الدنيا بطول لُبْثِكم في الآخرة (٤)، وهذه ثلاثة أقوال في معنى استقصارهم اللَّبْث (٥).
(١) ورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٢، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٩، وقال السمرقندي والثعلبي: هذا أصح ما قيل فيه؛ لأن بعض المبتدعة قالوا: إذا وضع الميت في قبره لا يكون عليه العذاب إلى وقت البعث، فيظنون أنهم مكثوا في القبر قليلاً.
(٢) ورد بنصه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٤، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٩، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٨.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٢، بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٤، و"الماوردي" ٣/ ٢٤٩، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٩، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٠ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٤) ورد بنصه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٤٩، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٩.
(٥) وأظهرها القول الثالث؛ قول قتادة وقول الحسن الثاني، وقد اقتصر الطبري وابن كثير على ذكره، وأيّده ابن كثير بعدة شواهد قرآنية، اما القول الثاني فهو قريب =
364
ومن المفسرين من ذهب إلى أن هذا الخطاب للمؤمنين دون الكافرين، قال: وهذا أظهر في المؤمنين؛ لأنهم يستجيبون (١) الله بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة لَبْثِهم في البرزخ؛ لأنهم كانوا غير معذبين (٢)، والمفسرون على الأول.
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ قال الأخفش: جعل ﴿يَقُولُوا﴾ جوابًا للأمر (٣) -في اللفظ- كما قال: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: ٣١]
قال الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بمكة (٤) بالقول والفعل، فشكوا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله، ائذن لنا في قتالهم، فيقول لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم أؤمر فيهم بشيء"، فأنزل الله هذه الآية (٥).
= من هذا، وأما القول الأول فطريقه إلى ابن عباس ضعيفة، لذلك نجد السمرقندي مع ترجيحه لهذا القول فقد أورده بصيغة التمريض.
(١) في جميع النسخ: (لا يستجيبون) بزيادة لا، ويضطرب المعنى بذلك، والتصويب من تفسيره "الوسيط" ٢/ ٥٠٨.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٥٨ بنصه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٢٨، و"أبي حيان" ٦/ ٤٨.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦١٤ بنصه.
(٤) ساقطة من (د).
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ أبنصه تقريبًا، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٤٩٥، بنحوه دون إسناد، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٢، بنحوه عن ابن عباس، والظاهر أن الكلبي يرويه عنه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٩، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤٦، عن أبي صالح عن ابن عباس، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٧، عن الكلبي.
ومعنى الآية: قل لعبادي المؤمنين يقولوا للكافرين الكلمة التي هي أحسن. قال الحسن: يقول له: يهديك الله (١)، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ﴾: هو الذي يفسد بينهم. (٢)
٥٤ - قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ الآية. فيها قولان؛ أحدهما: أن هذا الخطاب للمشركين، يقول: ﴿إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾: يوفقكم فتؤمنوا، ﴿أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾: بأن يميتكم على الكفر فيعذبكم، هذا قول ابن جريج (٣).
القول الثاني: أن الخطاب للمؤمنين يقول: ﴿إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾: بالإنجاء من كفار مكة وأذاهم، ﴿أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾: بتسليطهم عليكم، وهذا قول الكلبي (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ أي حافظًا وكفيلاً، يعني
= والحادثة تفتقر إلى إسناد لإثبات أنها سبب في النزول، وهو ما لم أقف عليه، وحسبك أنها رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومصدرها الثعلبي! وهذه الطريق هي أوهى الطرق إلى ابن عباس.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٢ بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ أ، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٩ - بمعناه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٩ بنصه، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤٧ بنصه، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٧، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٠.
(٢) ورد بلفظه في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٠٢، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ أ، و"الطوسي" ٦/ ٤٨٩.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٢، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ٩٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ أ، بنحوه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٠، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" ٢/ ١٠٠، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٨، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٢.
لا شيء عليك من كفرهم، فإن عليك التبليغ، وما وُكل إليك إيمانهم، والله أعلم بهم إن شاء هَدْيَهم (١) وإن شاء خَذْلَهم.
٥٥ - وقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: هو أعلم بهم؛ لأنه خلقهم، فهدى بعفبهم، وأضل بعضهم؛ كما قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢].
وقال أهل المعاني: إنما ذكر أنه أعلم بهم بعد قوله: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾؛ ليدل به على أن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض وقع موقع الحكمة؛ لأنه من عالم بباطن الأمر (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ كلام المفسرين في هذا يدل على أن المعنى فيه: أن كل واحد منهم خُصّ بفضيلة؛ فقال قتادة: نعم فضّل الله بعض النبيين على بعض؛ فاتخذ إبراهيم خليلاً، وكلّم موسى تكْليمًا، وجعل عيسى كلمته وروحه، وآتى سليمان ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورًا، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر (٣).
وقال الكلبي: فضّل موسى بالكلام، وإبراهيم بالخُلَّة، واصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وآتى داود زبورًا (٤).
وقال ابن عباس في هذه الآية: يريد لذلك فَضَّلت ولد آدم؛ فمنهم من
(١) مطموسة في (ع)، وفي (د): (يهديهم).
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٠ بنصه.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٣، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ أ، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٠٠، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤١، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠١ مختصرًا.
عَصَمْتُ، ومنهم من خَذَلْتُ، وفَضَّلتُ داود حيث أعطيته الزبور، يعني أن ذكر تفضيل النبيين هاهنا يكون (١) يدلّ على تفضيل ولد آدم.
وقال أبو إسحاق: معنى ذكر داود هاهنا، أن الله أعْلَمَ أنه فضَّل بعض النبيين على بعض، أي فلا تُنْكِروا تفْضِيلَ محمد، وإعطاءه القرآن، فقد أعطى الله داود الزبور (٢)، وقرأ حمزة ﴿زُبُوًا﴾ بضم الزاي (٣)، وذكرنا وجه ذلك في أواخر سورة النساء (٤).
٥٦ - قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ قال المفسرون: ابتلى الله قريشًا وأهلَ مكة بالقحط سنين، فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ (٥) قال ابن عباس: كل شيء (زَعَمَ) في كتاب الله فهو كَذَبَ (٦)، فعلى هذا نظم الآية: الذين ادّعيتم كذبًا من دونه، أي ادّعَيتم أنهم آلهة.
وقال أبو إسحاق: أي ادْعُوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم (٧)، ثم أخبر
(١) يكون ثابتة في جميع النسخ، وقد أدت إلى اضطراب المعنى، والأولى حذفها؛ لأن الكلام يستقيم بدونها.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٥ بنصه.
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٨٢، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٦، و"الحجة للقراء" ٥/ ١٠٨.
(٤) آية [١٦٣].
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ ب مختصرًا، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٥٠، و"البغوي" ٥/ ١٠٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ٤٨، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٩، ولا يُعدّ هذا سببًا في النزول -وإن عبر عنها بالصيغة الصريحة- لعدم تحقق شروطه.
(٦) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٣١، و"الألوسي" ٥/ ٩٧.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٥ بنصه.
عن الآلهة فقال: ﴿فَلَا يَمْلِكُونَ﴾، أي: فهم لا يملكون، ﴿كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ﴾، يعني البؤس والشدة.
﴿وَلَا تَحْوِيلًا﴾ قال ابن عباس: يريد من السقم والفقر إلى الصحة والمغنى (١)، وفي هذا احتجاج عليهم وبيان أنهم في عبادتهم على الباطل، والتَّحْويل: النقل من حال إلى حال، ومكان إلى مكان، يقال: حَوَّلَه فتحوَّل، ويُذكر تمام هذا الحرف عند قوله: ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: ١٠٨]، إن شاء الله.
٥٧ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾، أي: أولئك الذين يدعونهم المشركون، واختلفوا فيهم؛ من هم؟ فرُوي بطرق مختلفة عن ابن مسعود أنه قال: كان نفر من الإنس -قال المفسرون: وهم خزاعة (٢) - يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجنّ، واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ الآية (٣). روى هذا قتادة عن عبد الله بن معبد
(١) ورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ ب، و"السمعاني" ٣/ ٢٥٠، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٩.
(٢) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٥، انظر: "تفسير أبي حيان" ٦/ ٥١.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٩، بنحوه من طريقين، والبخاري (٤٧١٥) كتاب: التفسير، الإسراء، باب: قوله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ﴾ بنحوه من طريق الأعمش، وليس فيه التصريح بالنزول، ومسلم (٣٠٣٠) كتاب: التفسير باب: في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ بنصه من طريق الأعمش، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٦٥٢، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ١٠٤ بنصه وبنحوه من عدة طرق ورجحه، والحاكم: التفسير/ الإسراء ٢/ ٣٦٢، بنحوه من طريق الأعمش، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٥، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٣، و"هود الهواري" ٢/ ٤٢٦، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٠، و"الطوسي" ٦/ ٤٩١، انظر: "لباب النقول" ص ١٣٧.
369
الزِّمَّاني (١) عن ابن مسعود.
وقال أبوصالح عن ابن عباس في هذه الآية: هم عيسى وعزير والملائكة، وما كان عُبِدَ من دون الله وهو لله مطيع (٢)، ونحو هذا قال مجاهد والسدي والحسن (٣)، قال الفراء: قوله: ﴿يَدْعُونَ﴾ فِعلُ الآدميين العابدين، وقوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ﴾ فِعلٌ للمعبودين الذين عبدوهم (٤).
ومعنى ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ قال ابن عباس: يتضرعون إلى الله في طلب الجنة (٥)، والوسيلة: الدرجة العليا (٦).
(١) عبد الله بن معبد الزِّمَّاني البصري، من جِلّة التابعين، ثقة، روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عتبة -رضي الله عنهما- وعنه قتادة وثابت. انظر: "الجرح والتعديل" ٥/ ١٧٣، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٢٢١، و"الكاشف" ٢/ ٦٠٠ (٢٩٩٧)، و"تقريب التهذيب" ص ٣٢٤ (٣٢٤).
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٥ من طريق أبي صالح (واهية) بروايتين، وفيهما قال: عيسى وأمه وعُزير، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٦ مختصرًا، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٣ بنصه، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ ب بزيادة وأمه والشمس والقمر والنجوم، و"الماوردي" ٣/ ٢٥١ مختصرًا، و"الطوسي" ٦/ ٤٩١، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٠١، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٤٣ بزيادة وحذف، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٤، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٦، عن السدي ومجاهد من طريقين، وورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٦، عن الحسن، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ ب عن مجاهد، و"الماوردي" ٣/ ٢٥١ عن مجاهد، و"الطوسي" ٦/ ٤٩١ عن الحسن، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٣، عن السدي.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٥ بمعناه.
(٥) ورد بنصه غير منسوب في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ ب، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٩.
(٦) ومن ذلك ماورد في حديث الأذان: (.. آت محمدًا الوسيلة والفضيلة..) أخرجه البخاري (٤٧١٩) كتاب: الَتفسير، باب: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم =
370
وقال الزجاج: الوسيلة والسؤال والطِّلْبَةُ في معنى واحد (١)، وقد مرَّ ذكرى الوسيلة (٢)، و ﴿أُولَئِكَ﴾ رُفع بالابتداء، و ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لهم، و ﴿يَدْعُونَ﴾ صلة، و ﴿يَبْتَغُونَ﴾ خبر الابتداء.
وقوله تعالى: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ قال الزجاج: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ لأنه بدل من الواو في ﴿يَبْتَغُونَ﴾، والمعنى: يبتغي أيّهم هو أقرب الوسيلة إلى الله؛ أي يتقرب إليه بالعمل الصالح (٣)، ونحو هذا قال ابن عباس في قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ قال: يتقربون إلى الله بصالح الأعمال؛ فيرجون رحمته، ويريدون جنته، ويخافون عذابه.
قال أبو إسحاق: أي الذين يزعمون أنهم آلهة يرجون ويخافون (٤).
وقرأ ابن مسعود: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ بالتاء (٥)، ﴿يَبْتَغُونَ﴾ بالياء،
= الوسيلة... ، (٦١٤) كتاب: الأذان، الدعاء عند النداء، قال ابن الأثير: وسل في الأصل: ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء ويُتقرَّبُ به، والمراد بها في الحديث: القرب من الله تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل: هي منزلة من منازل الجنَّة. انظر: "النهاية" ٥/ ١٨٥.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٦ بنصه تقريبًا.
(٢) في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: ٣٥].
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٦، بنصه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٦، بنصه.
(٥) ورد في إعراب القرآن للنحاس ٢/ ٢٤٥، انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ ب- وذكر أن ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أيضًا بالتاء، وهو مما انفرد به، وقد قال القرطبي: ولا خلاف في ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أنه بالياء، و"تفسير السمعاني" ٣/ ٢٥٠، و"البغوي" ٥/ ١٠١، و"ابن عطية" ٩/ ١١٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢٧٩، ووردت ﴿يَدْعُونَ﴾ بالياء مبنيًّا للمجهول=
371
قال أبو عبيد: ولولا كراهة الخلاف كانت هذه القراءة آثر عندي؛ للخطاب الذي قبلها (١)، وذهب بعضُ المفسرين إلى أن هذه الآية من صفة الأنبياء الذين تقدم ذكرهم (٢).
وروى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية، قال: ثم ذكر أولياءه، فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ الآية. وعلى هذا القول الآية صفة المؤمنين.
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا﴾ الآية. قال مجاهد: كل قرية في الأرض سيصيبها بعضُ هذا (٣)؛ هلاكٌ أو عذابٌ بالقتل والبلاء، وقال قتادة: قضاء من الله كما تسمعون، ليس منه بُدّ؛ إما أن يهلكها بموت، فقد قال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥]، وإما أن يهلكها بعذاب مُستأصِل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله (٤).
وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها (٥).
= في "القراءات الشاذة" لابن خالويه ص ٨٠، و"إعراب القراءات الشاذة" ١/ ٧٩٢، والقراءة بالتاء في (تدعون) و (تبتغون) شاذة أيضًا.
(١) لم أقف عليه، وُيردّ عليه بأن الالتزام بالقراءة السبعية المتواترة مقدم على مراعاة السياق.
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩١ - منسوبًا إلى أبي علي، ونسب لابن فُورك في "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٢١، و"أبي حيان" ٦/ ٥١.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٤ بنصه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٦ بنصه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٤ بنحوه.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٧ بنصه.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٧ بنصه عن عبد الرحمن بن عبد الله، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ ب بنصه، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٥٢، و"القرطبي" ١٠/ ٢٨٠، و"الخازن" ٣/ ١٦٨.
وقال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب (١).
وقال ابن عباس في هذه الآية: فَهَلْكُ أهلها قبل يوم القيامة أو يعذبهم مثل ما فعل بأهل مكة؛ عذبهم بالجوع حتى أكلوا العلهز (٢).
﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ قال: يريد مكتوبًا في اللوح المحفوظ.
وقال أبو إسحاق: أي ما من أهل قرية إلا سَيُهلك (٣)؛ إما بموت وإما بعذاب يستأصلهم (٤).
٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ﴾ قال ابن عباس وقتادة والمفسرون: "سأل أهل مكة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن يُنَحِّي الجبال عنهم فيزْدرعوا (٥) فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان ما سأل قومك، ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يناظروا، وإن شئت استأنيت بهم، قال: لا بل أستأن بهم، فأنزل الله هذه الآية" (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٦ أ، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ ب بنصه.
(٢) العلهز: هو الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه والقراد: دويبة متطفلة انظر: "تفسير الطبري" ١٤/ ١٨٦ - ١٨٧.
(٣) في المصدر: (سيهلكون) مراعاة لمعنى ما، أما الواحدي فقد راعى لفظها.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٧ بنصه.
(٥) يقال: ازْدرع إذا زرع أو أمر به لنفسه خُصوصًا. "المحيط في اللغة" (زرع) ١/ ٣٨٣.
(٦) أخرجه -بنحوه عن ابن عباس من طريق ابن جبير (جيدة) - أحمد ١/ ٢٥٨، والبزار [كشف الأستار] (٣/ ٥٥، والنسائي في تفسيره ١/ ٦٥٥، و"الطبري" ١٥/ ١٠٨، والحاكم: التفسير/الإسراء ٢/ ٣٦٢ وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٢٧١ بعدة روايات، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٨، بنحوه عن قتادة، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ٢٩٥، وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" ٣/ ٥٢ - بروايتين عن ابن عباس وقال: وهذان إسنادان جيدان،=
373
قال أبو إسحاق: (أن) الأولى نصب والثانية رفع، المعنى: ما منعنا الإرسالَ إلا تكذيبُ الأولين، والتأويل: أنهم سألوا الآيات التي استوجب بها الأولون العذاب لما كذبوا بها (١)، وحقيقة المعنى: إنّا لم نرسل بالآيات؛ لئلا يكذب بها هؤلاء كما كذب مَنْ قبلهم، فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة.
فإن قيل: ما معنى قوله: ﴿وَمَا مَنَعَنَا﴾ والله تعالى لا يجوز أن يكون ممنوعًا عن شيء؟! قلنا: معناه هاهنا المبالغة في أنه لا يفعل ذلك، فكأنه قد مُنع منه؛ وذلك أن الإرادة الأزلية قد سبقت بتدبير الأمور وإمضائها؛ لا يؤخرُ منها مَقَدّم ولا يُقَدمُ مؤخّر، فإذا منعت الإرادة والمشيئة أمرًا جاز إطلاق لفظ المنع على الوجه الذي ذكرنا، والباء في قوله: ﴿بِالْآيَاتِ﴾ زيادة (٢)، والمعنى: أن نرسل الآيات، والآية مختصرة؛ لأن التقدير: ﴿إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ فأهلكناهم، قال المفسرون: وسنة الله في الأمم إذا سألوا الآيات فأتتهم ثم لم يؤمنوا أن يعذبهم ولا يمهلهم (٣).
= وأورده الهيثمي في "المجمع" ٧/ ٥٠، عن ابن عباس بروايتين وقال: ورجال الروايتين رجال الصحيح، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٣ وزاد نسبته إلى ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس، وقال شاكر في "شرح المسند" ٢/ ٩٦. إسناده صحيح، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٤، عن ابن عباس، و"هود الهواري" ٢/ ٤٢٧، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ ب، انظر: "لباب النقول" ص ١٣٧.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٧ بنصه.
(٢) يقصد زيادة للتأكيد، انظر التعليق على اتاقول بالزيادة في القرآن، عند آية [١٠] من سورة إبراهيم.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١١ ب بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٦٩.
374
وقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ قال ابن عباس: يريد كانت لهم عيانًا، وقال قتادة؛: بينة (١)، وقال مجاهد: آية مبصرة (٢).
قال الأخفش: المُبْصِرةُ: البَيِّنَة، كما تقول: المُوضِحَة والمُبَيِّنَة (٣)، فعلى هذا أبصر واقع بمعنى بصر (٤).
وقال الفراء: جعل الفعل لها، ومعنى ﴿مُبْصِرَةً﴾: مضيئة، كما قال تعالى: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: ٦٧]، أي: مضيئًا (٥).
قال الأزهري: والقول ما قال الفراء؛ أراد: آتينا ثمود الناقة آية مبصرة، أي مضيئة (٦)، وقد ذكرنا هذا في سورة يونس (٧) وفي هذه السورة عند قوله: ﴿آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [آية: ١٢].
وقوله تعالى: ﴿ظَلَمُوا بِهَا﴾ قال الزجاج: أي فظلموا بتكذيبها (٨)، وعلى هذا المعنى: ظلموا أنفسهم بتكذيب تلك الآية، ويكون المضاف محذوفًا، وقال المفسرون: كذبوا وجحدوا بها (٩).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٨ بلفظه، انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٦٩ بلا نسبة.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٤ بلفظه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٩ بلفظه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٧ بلفظه، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٧ بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٢٥ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦١٤ بنصه.
(٤) ساقطة من (أ)، (د).
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٦، باختصار.
(٦) "تهذيب اللغة" (بصر) ١/ ٣٤٢، بلفظه.
(٧) آية [٦٧].
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٧ بنصه.
(٩) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٧ أ، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧٤، و"الثعلبي" ٧/ ١١١ ب.
375
قال ابن قتيبة: ويكون الظلم: الجَحْد؛ كقوله: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾، أي: جحدوا بأنها من الله، وكقوله: ﴿بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩]، أي: يجحدون (١)، وذكرنا معاني الظلم في سورة البقرة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ﴾، أي: العبر والدلالات، ﴿إِلَّا تَخْوِيفًا﴾: للعباد؛ ليتعظوا ويخافوا، قال قتادة: إن الله يخوف الناس بما يشاء من آياته، لعلهم يعتبرون (٣) أو يتذكرون أو يرجعون (٤).
٦٠ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ قال مجاهد: أحاط بالناس فهم في قبضته (٥)، وقال قتادة: يقول: يمنعك من الناس حتى تبلغ رسالة ربك (٦)، وقالا الحسن: أي حال بينهم وبين أن يقتلوك (٧)؛ كما
(١) "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٦٨، بنصه
(٢) آية [٣٥].
(٣) في جميع النسخ: يعينون، وفي "الدر المنثور" والألوسي: (يعتبون)، والتصويب من تفسير الطبري والثعلبي، ويحتمل الرسم أنها يفيئون؛ والله أعلم.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٠٩ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٢ أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٠٢، و"ابن كثير" ٣/ ٥٥، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٤٥، و"تفسير الألوسي" ١٥/ ١٠٤.
(٥) "تفسير مجاهد" ص ٤٣٨ بنصه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٠ بنصه من طريقين، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٦٤، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٨، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٣.
(٦) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٠ مختصرًا، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٠ بنصه وبنحوه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٤ بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٣، بنحوه.
(٧) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٠ - بمعناه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٨ - بمعناه، والماوردي ٣/ ٢٥٣ - بمعناه. انظر: "تفسير السمعاني" =
376
قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧].
فعلى هذه الأقوال: معنى الآية: أن الخلق في قبضة الله وأنه محيط بهم بالعلم والقدرة، فهو مانعك منهم وحافظك، فامض لما أمرك من تبليغ الرسالة ولا تهتم.
وروي عن ابن عباس من طريق عطاء أن المراد بالناس هاهنا: أهل مكة (١)، وإحاطته بهم إهلاكه إيّاهم عن قريب؛ إمّا موتًا وإمّا قتلاً، وإلى هذا القول ذهب مقاتل والفراء وقالا: أي أنها ستفتح لك (٢)، وعلى هذا القول معنى الإحاطة بهم: الإهلاك؛ لقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦] وقوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١] وقد مرّ، والمعنى: أن الله أهلكهم، أي سيهلكهم، ولكن ذُكر بلفظ الماضي لتحقق كونه، وفي إهلاكه إياهم فتحها لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ثم أهلكهم يوم بدر قتلًا بالسيف، وأكثر ما يُذْكر أهلُ مكة في القرآن بلفظ الناس.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ اختلفوا في معنى هذه الرؤيا؛ فأكثر المفسرين على أن المراد بها: ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء (٣).
قال عكرمة: أمَا إنه ليس برؤيا ولكنّه رَأْيُ عَين، وهي رؤيا يقظة
= ٣/ ٢٥٣ بنصه، و"ابن الجوزي" ٥/ ٥٣، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٣٥.
(١) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٨٢، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٦ ب، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٣٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٦ ب، بنحوه، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٦ بنصه.
(٣) وهذا القول رجحه "الطبري" ١٥/ ١٨٣، و"الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٣٦.
377
ليست رؤيا (١) في المنام (٢)، وهو قول سعيد بن جبير وأبي مالك وإبراهيم والسدي ومجاهد وقتادة والحسن والضحاك وابن زيد وابن جريج (٣)، وابن عباس في رواية عكرمة: قال: هي رؤيا عين أُرِيَهَا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به إلى بيت المقدس (٤)، وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة (٥)، وعلى هذا يصح أن يقال: رأيت بعيني رؤية ورؤيا (٦).
ومعنى قوله: ﴿إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ هو أنه ارتد بعضهم حين أعلمهم قصة الإسراء، وأنكروا وكذبوا، وازداد المؤمنون المخلصون إيمانًا.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه، فلما صُدّ عن البيت عام الحُدَيْبِيَة (٧) كان ذلك فتنة
(١) في جميع النسخ: (ليسترونا)، والظاهر أنها كلمتان اشتبكتا في الرسم، والصحيح المثبت.
(٢) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٨ و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٤.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٥، أخرجه "الطبري" ٥/ ١١٠ - ١١٢، عنهم كلهم عدا السدي، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٨، عن ابن جبير ومجاهد والضحاك، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٢ أ، عنهم عدا إبراهيم والسدي، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٣، عنهم عدا أبي مالك وإبراهيم والسدي وابن جريج، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٤، عنهم- عدا أبي مالك والسدي.
(٤) أخرجه بنصه: "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٠، والبخاري (٤٧١٦) كتاب: التفسير، الإسراء، و"الطبري" ١٥/ ١١٠ من ثلاث طرق، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧٤، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٢ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٣، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٤.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٦، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٨.
(٦) قال ابن الأنباري: لا فرق بين أن يقول القائل: رأيت فلانًا رؤية، ورأيته رؤيا، إلا أن الرؤية يقل استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين. "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥٣.
(٧) عام الحديبية كان في السنة السادسة من الهجرة، والحديبية: قرية متوسطة سميت باسم بئر كانت هناك، عند الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان، قال الخطابي: وسميت الحديبية بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وبين الحديبية ومكة مسافة (٢٥) كم تقريبًا، ويقع بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وتعرف الآن باسم الشميسي، وتقع في طريق مكة جدة القديم. انظر: "الروض المعطار" ص ١٩٠، و"معجم البلدان" ٢/ ٢٢٩.
378
لهم، فلما كان العام المقبل دخلها وأنزل الله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ (١) [الفتح: ٢٧]، غير أن هذا القول يَضْعُف من حيث إن هذه الرؤيا كانت بالمدينة، وهذه السورة مكية، والله أعلم.
وقال سعيد بن المسيب: أُري بني أمية يَنْزُون (٢) على منابرهم فساءه ذلك، فقيل له: إنما هي الدنيا أُعْطُوها فسُرِّي عنه (٣)، ونحو هذا روي عن سهل بن سعد قال: "رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني أمية يَنْزُون على منبره نَزْوَ القِرَدةِ فساءه ذلك" (٤).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٢، بنحوه من طريق العوفي (ضعيفة)، وورد بنحوه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٢ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٣، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٤، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٢٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٥٤.
(٢) النَّزْو: هو الوَثَبَان، والمقصود يتعاقبون. انظر: "المحيط في اللغة" (نزو) ٩/ ٩٣، و"اللسان" (نزا) ٧/ ٤٤٠٢.
(٣) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٤، بنحوه، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" ٦/ ٥٠٩ - بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٢ أ - بنصه، وأورده "ابن الجوزي" ٥/ ٥٤ وقال: وإن كان مثل هذا لا يصح، ولكن ذكره عامة المفسرين، كذلك أشار ابن حجر إلى هذا القول ورواياته، وقال: وأسانيد الكل ضعيفة. "فتح الباري" ٨/ ٢٥٠.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٢ بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٢ أ - بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٣ بنصه تقريبًا، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٤، بنحوه، وهذا الأثر ضعيف كما قال ابن كثير ٣/ ٥٥ قال: وهذا السند ضعيفٌ جدًّا؛ فإن محمد =
379
وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة (١)، وهذه الآية مكية، ولم يكن للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- بمكة منبر، غير أنه لا يبعد أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة، كأنه رأى أن له بالمدينة منبرًا يتداوله بنو أمية.
قوله تعالى: ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ هذا على التقديم والتأخير، ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ﴾، ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾، ﴿إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ واختلفوا في هذه الشجرة؛ فالأكثرون أنها شجرة الزقوم التي ذَكر في قوله: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾ [الدخان: ٤٣، ٤٤] وهذا قول مسروق وسعيد بن جبير وأبي مالك وإبراهيم ومجاهد وقتادة والكلبي وعكرمة والضحاك، وقول ابن عباس في رواية عكرمة من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عنه (٢)، وكانت فتنتهم في هذه الشجرة ما ذكر
= ابن الحسن بن زبالة متروك، وشيخه -أي عبد المهيمن بن عباس- أيضًا ضعيفٌ بالكلية، وأورد الشوكاني الأثر وضعفه، وقال: وفيه ضعف؛ فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا، إلا أن يراد بالناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحده، ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا. "تفسير الشوكاني" ٣/ ٣٤٢، وظاهرٌ أن هذا القول وأمثاله من المُحدث.
(١) ورد بنصه بلا نسبة في: "تفسير الخازن" ٣/ ١٦٩، و"أبي حيان" ٦/ ٥٥.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٥، أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨١، عن ابن عباس وابن جبير، والبخاري (٤٧١٦) كتاب: التفسير، الإسراء، عن ابن عباس، و"الطبري" ١٥/ ١١٣ - ١١٥، عنهم كلهم عدا الكلبي، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٩، عن ابن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، عنهم عدا مسروق وأبي مالك والكلبي وعكرمة، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٩، عن مجاهد، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٣، عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن جبير، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٤، عنهم عدا الكلبي وعكرمة.
380
قتادة قال: خَوَّفَ الله بها عباده ففتنوا (١) بذلك، حتى قال أبو جهل: زعم صاحبكم أن في النار شجرًا، والنار تأكل الشجر، وقال ابن الزِّبَعْري (٢): ما نعلم الزقوم إلا التَّمْر والزُّبْد، فتزقموا منه، فأنزل الله حين عجبوا أن يكون في النار شجرًا: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ﴾ الآيات. (٣) [الصافات: ٦٣ - ٦٦].
وروى السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: الشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية (٤).
وقال في رواية عطاء: يعني الحكم بن أبي العاص (٥)، قال: "وكان
(١) في جميع النسخ: (فَنُبِؤا) والتصويب من تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥١٥.
(٢) عبد الله بن الزِّبَعْري بن قيس السهمي، أحد شعراء قريش، كان شديدًا على المسلمين في الجاهلية، يهجوهم ويحرِّض عليهم كفار قريش في شعره، فلما فتحت مكة هرب إلى نجران، فقال فيه حسان بيتًا فلما بلغه عاد إلى مكة وأسلم، واعتذر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبل عذره وحسن إسلامه، وشهد ما بعد الفتح. انظر: "الأغاني" ١٥/ ١٧٤، و"الاستيعاب" ٣/ ٣٦، و"أسد الغابة" ٣/ ٢٣٩.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨١ مختصرًا، و"الطبري" ١٥/ ١١٤، بنحوه، وورد بنحوه بلا نسبة في: "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٦ ب، و"الثعلبي" ٧/ ١١٢ أ.
(٤) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢٠/ ٢٣٧ بنصه، و"القرطبي" ١٠/ ٢٨٦ وقال: وهذا قول ضعيف محدَث. وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٤ بنصه عن أبي جعفر، وقال ابن كثير ٣/ ٥٥: وقيل: المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية، وهو غريب ضعيف.
(٥) الحكم بن أبي العاص الأموي القرشي، عمّ عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهو أبو مروان بن الحكم، من مسلمة الفتح، أخرجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة وطرده عنها، فنزل في الطائف مع ابنه مروان، ولم يزل بها حتى رده عثمان -رضي الله عنه- إلى المدينة في خلافته، وبقي فيها، وتوفي في آخر خلافة عثمان. انظر: "الاستيعاب" ١/ ٤١٤، و"أسد الغابة" ٢/ ٤٨، و"الإصابة" ١/ ٣٤٥.
381
رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام ولد مروان يتداولون منبره، فقصّ رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما، فلما تفرقا سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاشتد ذلك عليه، واتهم عمر في إفشاء سره، ثم ظهر أن الحكم كان يَتسمَّعُ إليهم، فنفاه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-" (١)، وهذه القصة كانت بالمدينة والسورة مكية، فيبعد هذا التفسير، إلا أن تكون هذه الآية مدنية، ولم يقل ذلك أحد، والله أعلم. ويؤكد أن يكون المراد بالشجرة الملعونة: الحكم، قول عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه، فأنت فَضَضٌ (٢) من لعنة الله (٣). والأكثرون على القول الأول، وهو الظاهر (٤).
قال أبو إسحاق: فإن قال: قائل ليس في القرآن ذكر لعنها، فالجواب في ذلك أنه لُعِنَ الكفارُ وهم آكلوها -فعلى هذا يكون التقدير: ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾: آكلوها- قال: وجواب آخر: وهو أن العرب تقول لكل طعام مكروه ضَارّ: ملعون (٥).
(١) انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٥٥، بنحوه، وأشار ابن حجر إلى هذا القول، وقال: وإسناده ضعيف. "فتح الباري" ٨/ ٢٥١.
(٢) قال ثعلب: معناه: أي خرجت من صُلْبه متفرقًا، يعني ما انفضَّ من نطفة الرجل وتردد في صُلبه، وقيل في قولها: فأنت فَضَضٌ من لعنة الله: أرادت إنك قِطعة منها وطائفة منها. "اللسان" (فضض) ٦/ ٣٤٢٧.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (فضض) ٣/ ٢٨٠٠، بنحوه، و"الاستيعاب" ١/ ٤١٥، بنحوه، انظر: "أسد الغابة" ٢/ ٣٨ بنحوه، و"اللسان" (فضض) ٦/ ٣٤٢٧ بنصه، وأورده الألوسي ١٥/ ١٠٧ بمعناه وعزاه إلى ابن مردويه عنها.
(٤) وهو ما رجحه "الطبري" ١٥/ ١١٥، وقال ابن حجر: وهذا هو الصحيح، وذكره ابن أبي حاتم عن بضعة عشر نفسًا من التابعين. "فتح الباري" ٨/ ٢٥١.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٨ - بنصه- الكلام المعترض.
382
وقال بعضهم: يعنى الشجرة الملعونة التي ذُكرت في القرآن؛ وهي شجرة الزقوم (١)، وعلى هذا (في) هاهنا ظَرَفٌ للذِّكر لا لِلَّعن.
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ﴾ قال: المذمومة (٢)، ويدل أن المراد بالشجرة هاهنا شجرة الزقوم: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾، أي: نخوفهم بالزَّقوم فما يزدادون إلا كفرًا وعتوًا، وهو ما زادوا من التكذيب والإنكار حين سمعوا بذكر هذه الشجرة في القرآن، وقد روي عن ابن عباس: أنه فسر الشجرة الملعونة بالكَشُوث (٣)، وهو قول ضعيف وتفسير لا يليق بالآية.
٦١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ الآية. ذكر أهل المعاني في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين؛ أحدهما: أنه على معنى ما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرًا، محققين لظن (٤) إبليس فيهم، مخالفين موجب نعمة ربهم على أبيهم وعليهم (٥)، والثاني: أن المعنى: واذكر بتمادي هؤلاء المشركين وازديادهم عتوًّا قصة إبليس حين عصى وأبى السجود (٦)، وذكرنا معنى هذه الآية وهذه القصة في سورة البقرة (٧).
(١) وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾ [الدخان: ٤٣، ٤٤].
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥٥، بلفظه.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٥، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٢ أ، بنحوه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٤ بلفظه، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٦٦، و"ابن الجوزي" ٥/ ٥٦، و"القرطبي" ١٠/ ٢٨٦، و"الخازن" ٣/ ١٧٠.
(٤) في (أ)، (د): (بظن)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح، والأصح ظن كما في تفسير الطوسي.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٦، بنصه تقريبًا.
(٦) ورد نحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ١١٦، و"الثعلبي" ٧/ ١١٣أ، و"القرطبي" ١٠/ ٢٨٧.
(٧) آية [٣٤].
وقوله تعالى: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ قال المفسرون وأهل المعنى: امتنع إبليس من السجود لآدم وأنكر أن يسجد له وقال: أنا ناري، وهذا طيني (١)، (وذلك أن الفروع ترجع إلى الأصول؛ فتكون على قدرها في التكبير أو التصغير، فلما اعتقد إبليس لعنه الله أن النار أكرم أصلاً من الطين خامنه أنه أكرم ممن خلق من طين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها من جنس واحد، وأن الله يُعرِّفُها بالأعراض كيف شاء، مع كرم جوهر الطين بكثرة ما فيه من المنافع التي تقاوم منافع النار أو تُوفِي عليها) (٢)، وقال أبو إسحاق: المعنى: لمن خلقته طينًا، وطينًا منصوب على الحال، المعنى: أنك أنشأته في حال كونه من طين (٣).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿قَالَ﴾ يعني إبليس، ﴿أَرَأَيْتَكَ﴾ قال الزجاج: هو في معنى أخبرني، والكاف لا موضح لها؛ لأنها ذكرت في المخاطبة توكيدًا (٤)، وذكرنا الكلام في هذا الحرف مستقصى في سورة الأنعام (٥)، ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾: لِمَ كرمته عليّ؟! قال: موضح هذا نصب بأَرَأَيْتَ، والجواب محذوف، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمت عليّ لم كَرَّمْتَه عَليَّ، وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟! فَحُذف هذا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه (٦)، ومعنى ﴿كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾: أي فَضَّلت، قال
(١) ورد بنحوه في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٦ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٦، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٥٦، و"ابن الجوزي" ٥/ ٥٧، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٣.
(٢) ما بين القوسين ورد بنصه تقريبًا في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٦.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، بتصرف.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، بنصه.
(٥) آية [٤٠].
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، بنصه.
384
ابن عباس: والكرم اسم جامع لكل ما يحمد (١).
وقوله تعالى: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ قال ابن عباس في رواية الوالبي: لأستولين (٢).
وقال الحسن: لأغوينَّ (٣)، وقال مجاهد: لأحتوينَّ (٤)، وروي عنه أنه قال مثل الزِّيَاق (٥)، هذا قول المفسرين.
وقال ابن زيد: لأضلنهم (٦)، وقيل: لأستأصلنَّهم بالإغواء (٧).
فأما كلام أهل اللغة في هذا الحرف، فروى محمد بن سَلاَّم أنه سأل يونس عن هذه الآية فقال: يقال: كأن في الأرض كلأً فاحتنكه الجراد؛ أي
(١) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٨٧، بلا نسبة.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٧ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٥٤، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٧، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) لم أقف على هذا القول، وورد عنه تفسيره بـ: لأستأصلن ذريته، في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٩.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٥ بلفظه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٧ بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٢٩، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٧، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٥) لم أقف عليه، والزياق: هو ما أحاط بالعمق من القميص. انظر (زيق) في: "الصحاح" ٤/ ١٤٩٢، و"اللسان" ٣/ ١٩٠، و"متن اللغة" ٣/ ٨٠.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٧ بنصه، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٧ - بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥٧، و"القرطبي" ١٠/ ٢٨٧، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٧ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٧) ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٤، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٦٦، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٤.
385
أتى عليه، ويقول أحدُهُم: لم أجد لِجاماً فاحْتَنَكْتُ دَابَّتي، أي ألقيتُ في حَنَكها حبلًا قُدْتُها به (١).
وتفسير هذا الحرف لا يخرج عن هذين الأصلين الذين ذكرهما يونس، فمن قال: لأستأصلنهم ولأستولين عليهم، فأصله من احتِناكِ الجرادِ الزرعَ، وهو أن يأكلها ويستأصلها باحتناكها فيفسدها، ومن هذا يقال للجماعة المنتجعين: الحنك، يقال: ما تركَ الأحْنَاكُ في أرضنا شيئًا، يعنون: الجماعات المارة، ومنه قول أبي نُخَيْلَة (٢):
إنا وكُنَّا حَنَكًا نَجْدِيًّا (٣) (٤)
هذا هو الأصل، ثم يُسمى الاستيلاء على الشيء وأخذ كله احتناكًا، حتى يقال: احتَنَكَ ما عند فلان، أي أخذه كله من علم أو مال أو غير ذلك (٥)، واحتنكت السَّنَةُ [أموالنا] (٦) إذا استأصلتها، وأنشد أهل اللغة:
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٤، بنصه.
(٢) الرَّاجز أبو نُخيلة، اسمه يَعْمر، وكني أبا نُخَيلة لأن أمه ولدته إلى جنب نخلة -كما قال ابن قتيبة- وفي "الأغاني" عن الأصمعي وابن حبيب أنه لا يعرف له اسم غيره، وله كنينان: أبو الجُنيد وأبو العِرماس، كان عاقًا لأبيه فنفاه أبوه عن نفسه، فخرج إلى الشام وأقام هناك إلى أن مات أبوه، ثم عاد وبقي مشكوكًا في نسبه، مطعونًا عليه، مات سنة (١٤٥ هـ) انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٩٩، و"الأغاني" ٢٠/ ٤٠٣، و"الخزانة" ١/ ١٦٥.
(٣) وعجزه:
لمَّا انْتَجَعْنا الورقَ المرْعِيَّا
ورد في "الأساس" ص ٢٠٣، و"اللسان" (حنك) ٢/ ١٠٢٨.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٣، بنصه.
(٥) ورد نحوه في "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٤.
(٦) زيادة يقتضيها السياق؛ كما في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩.
386
نَشْكو إليْك سَنَةً قد أجْحَفَتْ
واحْتَنَكَتْ أموالَنَا وجلَّفَتْ (١)
ومن قال: لأغوينّهم ولأقودنّهم إلى المعاصي؛ كما روي عن مجاهد أنه قال: مثل الزِّياق، فأصله من قولهم: حَنَكَ الدابةَ يَحْنُكُها، إذا ربط في حنكِها الأسفل حَبْلًا يقودها به (٢)، ومثله: احتنك، وأنشد ابن الأعرابي (٣):
فإنَّ لدَينا مُلْجِمِينَ وحانِكًا (٤)
والمعنى على هذا الأصل: لأقودنّهم حيث شئت، كمن يُربط في حَنَكه الزياق فيقاد.
قال الأخفش في قوله: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ﴾: لأستأصلَنَّهم ولأستميلَنَّهم (٥)،
(١) ورد بلا نسبة في "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٤، و"تفسير الطبري" ١٥/ ١١٦، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٤، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٧، و"ابن عطية" ٩/ ١٣٤، و"القرطبي" ١٠/ ٢٨٧، و"الدر المصون" ٧/ ٣٨٠، في بعض الروايات: جَنَّفَتْ واجتلفت بدل جلَّفَتْ؛ (الجَلْفُ): القَشْرُ، والجالفةُ: السَّنة التي تذهبُ بأموال الناس؛ من جلفت الشيءَ: إذا قلَعْتَه واستأصلْتَه. "العباب الزاخر" ف/ ٦٧.
(٢) ذكره ابن السكيت في "الإصلاح" ص ٧١ بنصه، وورد بنحوه في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٥٨، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧١، انظر (حنك) في: "تهذيب اللغة" ١/ ٩٤٤، و"المحيط في اللغة" ٢/ ٣٨٣.
(٣) البيت لزَبَّان بن سَيَّار الفزَاري، كما في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٤، وتصحفت في اللسان إلى: زياد، والصحيح أنه زبان، كما في "الاشتقاق" ص ٢٨٣.
(٤) صدره:
فإن كنتَ تُشْكَى بالجِماع ابنَ جعفر
ورد في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٤، و"اللسان" (حنك) ٢/ ١٠٢٨.
(٥) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (حنك) ١/ ٩٤٤، بنصه.
387
فذكر القولين، ونحوه قال أبو عبيدة سواءً (١)، واختار الفراء والزجاج وابن قتيبة الأول (٢)، وهو أنه مأخوذ من احتناك الجراد الزرع، وكلا القولين مأخوذ من الْحَنَك على ما بَيَّنَا.
وقوله تعالى ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ يعني المعصومين، قال ابن عباس: يريد بالقليل أولياء الله الذين عصمهم (٣)، وهم الذين استثناهم الله -عز وجل- في قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢]
فإن قيل: كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟ فالجواب عن هذا: أن الله تعالى كان قد أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك (٤) الدماء، على قول بعض المفسرين (٥)، وكان إبليس قد علم بذلك، وقيل: إنما قال ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزمًا، فقال بَنُو هذا مِثلُه في ضعف العزيمة، وهذا معنى قول الحسن (٦).
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٤، بنصه
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٧، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦٠.
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥٧، بنصه.
(٤) في (أ)، (د): (ولا يسفك) بزيادة (لا) والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح المتسق مع السياق.
(٥) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٧، بنصه.
(٦) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٨ بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٨٧، و"أبي حيان" ٦/ ٥٨ وقال: وهذا ليس بظاهر؛ لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة. وما قاله أبو حيات متوجه، إلا أن يكون الحسن أراد بقوله ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما صوَّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك" أخرجه مسلم (٢٦١١) كتاب: البر والصلة، باب. خلق الإنسان خلقًا لا يتمالك.
388
٦٣ - قوله تعالى: ﴿قَالَ اذْهَبْ﴾ أي قال الله تعالى لإبليس: اذهب، وهذا اللفظ يتضمن معنى إنظاره وتأخير أجله، ﴿فَمَنْ تَبِعَكَ﴾ أي أطاعك وتبع أمرك وتسويلك ﴿مِنْهُمْ﴾: أي من ذرية آدم، ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ﴾ الفاء تتضمن ها هنا جواب الشرط، وهذه المسألة قد مضت في مواضع، ﴿جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا﴾ من وَفَرْته أفِره وَفْرًا وفِرَةً، وهذا مُتعد، واللازم قولك: وَفر المالُ يَفر وُفُورًا فهو وافر (١)، قال الزجاج: ﴿جَزَاءً مَوْفُورًا﴾، أي: مُوَفَّرًا، يقال: وَفَرْته أَفِرُهُ وهو مَوْفُورٌ، وأنشد لزهير:
ومن يَجْعَلِ المعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ يَفِرْهُ ومَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ (٢) (٣)
وانتصب جزآءً على المصدر.
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ﴾ قال الفراء: اسْتَخِف (٤).
وقال أبو إسحاق: معناه: استدعه استدعاءً تستخفه به إلى جانبك (٥)، ويقال له: فَزَّه (٦) الخوف واستفزه، أي أزعجه واستخفه، قال أبو ذؤيب:
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (وفر) ٤/ ٣٩٢٥ بنصه.
(٢) "شرح ديوان زهير" ص ٣٠، و"شرح القصائد السبع" ص ٢٨٧، وورد في "الأغاني" ٢/ ١٦٠، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٧، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٥، و"الدر المصون" ٧/ ٣٨١، وورد بلا نسبة في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٢، و"الخزانة" ٢/ ٤١٠، (٨/ ١٢٧، (يَفِرْه): يجعله وافرًا، ومعناه: من اصطنع المعروف إلى الناس وقَى عرضه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤٩، بنصه.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٧، بلفظه.
(٥) "معاني القرآن وإعرإبه" ٣/ ٢٥٠ بنصه تقريبًا، وقد نقله من "تهذيب اللغة" (فز) ٣/ ٢٧٨٥ لوروده بنصه.
(٦) في (أ)، (د): (أفزوه)، والمثبت من (ش)، (ع) هو الصواب.
389
شَبَبٌ أفزَّتْهُ الكلابُ مُرَوَّعُ (١)
ومعنى صيغة الأمر هاهنا: التهدد، كما يقال للإنسان: اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك (٢).
وقال الزجاج: الأمر إذا تقدمه نهي عما يؤمر به، كان المعنى في الأمر: الوعيد؛ لأنك قد تقول: لا تدخل هذه الدار، فإذا حاول أن يدخلها قلت: ادخلها، فَلَسْتَ تأمره بدخلولها، ولكنك تُوعِده، وهذا في الاستعمال كثير، ومثله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠]، وقد نهوا أن يتبعوا أهواءهم (٣).
ومعنى الآية: يقول: ازعج واستخفف من استطعت من بني آدم.
﴿بِصَوْتِكَ﴾ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: صوته كلّ داعٍ دعا (٤) إلى معصية الله تعالى (٥)، وقال عطاء عنه: كل متكلم في غير ذات
(١) صدره:
والدّهرُ لا يبقى على حَدَثَانِهِ
"ديوان الهذليين" ص ١٠، وورد في "الصحاح" (فز) ٣/ ٨٩٠، و"اللسان" (فزز) ٦/ ٣٤٠٩، و"التاج" (فزز) ٨/ ١٢٣، وورد بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (فز) ٣/ ٢٧٨٥، و"المخصص" ٨/ ٣٣، (الشَّبب): الثور المسنّ، (أفزّته): استخفته وطردته.
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٤٩٩، بنصه تقريبًا.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥١، بتصرف يسير.
(٤) انقلب الكلام في جميع النسخ كالتالي: صوته دعا كل داعٍ إلى. والتصويب من "تفسير الطبري" و"الدر المنثور".
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٨ بنصه، وورد بنحوه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، و"الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٩، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٨ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
390
الله فهو صوت الشيطان (١)
وقال مجاهد: هو الغناء والمزامير (٢)، وهو قول عكرمة (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ﴾ قال الفراء في كتاب المصادر، يقال: أجلب إجلابًا، والجلَبة: الصوت، وربما قالوا: الجَلَبُ، كما قالوا: الغَلَبَةُ والغَلَبُ، والشَّفَقَةُ والشَّفَقُ (٤).
وقال الليث: أجْلَبُوا وجَلَّبوا من الصّياح (٥)، ونحوه قال أبو عبيدة (٦).
وقال أبو إسحاق في (فعل وأفعل): وأجلب على العدو إجلابًا إذا جمع عليه الخيول (٧).
وقال ابن السكيت: يقال: هم يُحْلِبون عليه، وُيجْلِبون عليه بمعنى؛ أي يُعينون عليه (٨).
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: أجْلَبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا تَوَعَّدَه الشر وجَمَعَ عليه الجمع، بالجيم (٩)، هذا قول أهل اللغة في معنى
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥١٨، بنصه.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٨، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٢، بنصه، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب، بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٥، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٩، بنحوه.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لم أقف عليه، وورد بنحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ١١٨، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٦/ ٢١.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (جلب) ١/ ٦٢٦ بنصه.
(٦) ليس في "مجاز القرآن".
(٧) "فعلت وأفعلت" ص ٢١، بنصه تقريبًا.
(٨) و (٩) ورد في " تهذيب اللغة" (جلب) ١١/ ٩٠ بنصه.
391
الإجلاب، ومعنى الآية على قول الفراء وأبي عبيدة: (صِح عليهم بخيلك ورجلك) (١)، وأخْبِثهم (٢) عليهم بالإغواء، وعلى قول أبي إسحاق، معناه. ما ذُكِر؛ أي اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكائدك (٣)، وتكون الباء في: ﴿بِخَيْلِكَ﴾ زائدة في هذا القول، وعلى قول ابن السكيت، معنى الآية: أعن عليهم بخيلك ورجلك؛ أي أعن نفسك عليهم بخيلك، ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف؛ كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله، وهذا معنى قول مقاتل في هذه الآية (٤).
واختلفوا في تفسير الخيل والرجل، فروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: كل راكب أو راجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده (٥)، ونحو هذا القول روى مجاهد عنه، والوالبي وعطاء (٦)، وروى ليث عن مجاهد قال: خيله: من استخف منهم معه على الخيل في المعاصي، ورجله: من استخف منهم معه على رجليه في المعاصي (٧).
وقال الفراء: يعني خيل المشركين ورجالهم (٨)، ويدخل في هذا كل
(١) تكررت العبارة ما بين القوسين في (أ)، (د)، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٠٥.
(٢) يقال: أخبث فهو مُخبث؛ إذا صار ذا خُبثٍ وشرّ. "تهذيب اللغة" (خبث) ١/ ٩٧٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٠، بنصه.
(٤) "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٧ أ، بنحوه.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١١٨، بنحوه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد بنحوه في "معانى القرآن" للنحاس ١٤/ ٧٣، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٥٠، و"الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٩.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) أخرجه "الطبرى" ٨/ ١٠٨، بخحوه.
(٨) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٧، بنصه.
392
راكب وماش في معصية الله، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ﴾ [الشعراء: ٩٥] والجند يَعُمُّ الفارسَ والراجلَ، هذا قول جماعة أهل التفسير وعامتهم، ومن أهل التأويل من يقول: يجوز أن يكون هذا مَثَلاً؛ كما تقول للرجل المجدّ في الأمر: جئت بِخيلك ورجْلك (١)، والرَّجْلُ جمع رَاجِل، كما قالوا: تَاجرٌ وتَجْرٌ، وصاحِبٌ وصَحْبٌ، وراكبٌ ورَكْبٌ (٢)، ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة: ٢٣٩]
وروى حفص عن عاصم ﴿وَرَجِلِك﴾ مكسورة الجيم (٣)، قال أبو زيد: يقال: رَجْلٌ ورَجِلٌ بمعنى واحد، ومثله: حَذْرٌ وحَذِرٌ، ونَدْسٌ ونَدِسٌ (٤)، وأنشد (٥):
أما أُقَاتِلُ عن دِيني على فَرسٍ ولا كذا رَجُلًا إلا بأصْحَابِ (٦)
(١) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١١١، بنصه.
(٢) ورد في "تفسير الطبري" ٥/ ١١٩، بنحوه، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١٠، بنصه.
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٨٢، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٧، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٤، و"الحجة للقراء" ٥/ ١٠٩، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٩، وقرأ أبو بكر عن عاصم والباقون ساكنة الجيم.
(٤) النَّدُس: الصوت الخفي، ورجل نَدْسٌ ونَدُسٌ وندسٌ أي فَهِمٌ سريع السمع فَطِن، وقال يعقوب: هو العالم بالأمور والأخبار. وقال الليث: السريع الاستماع للصوت الخفي."اللسان" (ندس) ٧/ ٤٣٨٣.
(٥) البيت لحيي بن وائل.
(٦) ورد في "النوادر" ص ١٤٨؛ و"اللسان" (رجل) ٣/ ١٥٩٧، وورد بلا نسبة في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٠، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ١/ ٤٦٤، و"تفسير ابن عطية" ٩/ ١٣٧، و"شرح المفضل" ٥/ ١٣٣، وفي النوادر، قال أبو حاتم: وقوله رجُلاً: معناه رَاجلاً، كما تقول العرب: جاءنا فلان حافيًا، ورَجُلاً أي راجلاً
393
كأنه قال: أمَا أقاتل فارسًا ورَاجِلًا (١)، وعلى هذه القراءة: ﴿وَرَجِلِكَ﴾ واحدٌ يعني به الكثرة، وقال ابن الأنباري: أخبرنا ثعلب عن سلمة عن الفراء قال: يقال هو رَاجِلٌ ورَجِلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان بمعنى (٢)، وأنشد (٣):
عَلَيَّ إذا أبْصَرتُ ليلى بخَلْوَةٍ... أن ازدار بيتَ اللهِ رَجْلانَ حافياً (٤)
وقوله تعالى: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ اختلفت الروايات في تفسير مشاركة الشيطان بني آدم في الأموال والأولاد عن ابن عباس؛ فقال في رواية الوالبي: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ﴾ وهو كل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، ﴿وَالْأَوْلَادِ﴾ ما قَتَلوا منهم وأتوا فيهم الحرام (٥)، ونحو هذا
(١) "النوادر" ص ١٤٨. ذكر البيت والتعليق، وورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٠، بنحوه، والظاهر أنه نقله من الحجة.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٦، وفي "اللسان" (رجل) ٣/ ١٥٩٧ رَجلَ الرَّجُلُ رَجَلاً، فهو راجل ورَجُلٌ ورَجِلٌ ورَجِيلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان.
(٣) البيت لمجنون بني عامر، وهو قيس بن الملّوح (ت ٦٨ هـ).
(٤) ورد في "ديوانه" ص ٣٠١، ٣٠٦. بروايتين:
الأولى:
حلفت لئن لاقيت ليلى بخلوة أطوف ببيت الله رَجْلاَنَ حافيا
والثانية:
عليّ لئن لاقيتُ ليلى بخلوة زيارةُ بيت الله رَجْلان حافيا
وورد بلا نسبة في "اللسان" (رجل) ٣/ ١٥٩٧، و"مغني اللبيب" ص ٦٠١، و"شرح التصريح" ١/ ٣٨٥، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٨٥٩، و"شرح الأشموني" ٢/ ٣١٢، وفي بعض الروايات: لاقيت، وزُرتُ وجئتُ بدل أبصرت، وبخُفْيةٍ بدل بخلوة.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢١ من طريق ابن أبي طلحة صحيحة ولفظه: ماقتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام، ومن الطريق نفسها في رواية أخرى ١٥/ ١١٩. قال: =
394
روى عنه مجاهد؛ فقال: كل مال أُخذ بغير حقه، وكل ولد زنا (١)، وهو معنى ما روى عنه عطاء، ويدخل في هذا: الزنا والغصوب والمعاملات الفاسدة والربا وقتل الأولاد والوأد، وروى عنه عكرمة في مشاركته في المال: بتبتكهم آذان الأنعام (٢).
وقال في رواية العوفي: هو ما كانوا يحرمونه من الأنعام (٣)، وهو قول قتادة قال: أما في الأموال: فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة، وأما في أولادهم: فإنهم هودوهم ونصّروهم ومجّسوهم (٤).
وقال في رواية أبي صالح: مشاركته إياهم في الأولاد: تسميتهم أولادهم [عبد] (٥) الحارث وعبد شمس وعبد فلان (٦).
= كل مال في معصية الله، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب وفيه ذكر الأموال فقط، وفي رواية أخرى ذكر الأولاد فقط، فلعل الواحدي -رحمه الله- جمع الروايتين في سياق واحد.
(١) ورد عن مجاهد في "تفسيره" ١/ ٣٦٦ قال: شركته في الأموال: الحرام، وفي الأولاد: الزنا، وأخرج الطبري ١٥/ ١٢٠ من عدة طرق عن مجاهد قال: أولاد الزنا.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٦/ ٢١، بنصه.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٠ بنصه (ضعيفة)، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب- بمعناه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٥، بمعناه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٥٨.
(٤) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨١، بنحوه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢١ في روايتين، ذكر في إحداهما الأموال ١٥/ ١٢١، وفي الثانية الأولاد، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب. دون ذكر الأولاد.
(٥) إضافة يقتضيها السياق.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢١ بنصه (ضعيفة)، وورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، بضه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٣ ب، بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٦، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٤٩٩، بنحوه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٨ وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
395
قال أبو إسحاق: أي أمرهم بأن يجعلوا من أموالهم شيئًا لغير الله، كما قال الله: ﴿فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٦]، والشركة في الأولاد: قولهم: عبد العزى وعبد الحارث (١).
وقوله تعالى: ﴿وَعِدْهُمْ﴾ قال الفراء: أي قل لا جنة ولا نار (٢)، قال الزجاج: ﴿وَعِدْهُمْ﴾: بأنهم لا يبعثون (٣)، ثم قال الله: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾
٦٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾. قال عطاء عن ابن عباس والكلبي: يريد أوليائي ليس لك عليهم حجة في الشرك (٤).
وقال قتادة: عباده الذين لا سلطان له عليهم المؤمنون، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ (٥) [النحل: ١٠٠].
وقوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ قال أبو إسحاق: وكيلًا لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس (٦)، وهذا يدل على أن المعصوم من عصمة الله.
٦٦ - قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ﴾ الإزجاء: سوق الشيء حالاً بعد حال، ذكرنا ذلك في قوله: ﴿بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ [يوسف:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٠، بتصرف يسير.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٧، بنصه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٠، بنصه.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٢٠، بنصه عن ابن عباس.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٢، بنصه.
(٦) "معانى القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥١، بنصه.
٨٨]، قال السدي: يُسَيِّر (١)، ونحوه قال الزجاج (٢)، ﴿لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾: في طلب التجارة.
﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ قال ابن عباس: يريد بأوليائه وأهل طاعته (٣)، والخطاب في قوله: ﴿رَبَّكُمُ﴾ عام، وفي آخر الآية خاص.
٦٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ﴾ قال ابن عباس: يريد يا معشر المشركين، يعني أن الخطاب للمشركين، وفَسَّرَ الضر هاهنا نجوف الغرق.
وقوله تعالى: ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ﴾، أي: زال وبطل من تدعون من الآلهة، ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾: إلا الله تعالى، و ﴿إِيَّاهُ﴾: استثناء بعد الإيجاب، فيكون موضعه نصبًا كما تقول: بطلت الآلهة إلا الله، قال ابن عباس: نسيتم اتخاذ الأنداد والشركاء وتركتموهم وأخلصتم لله (٤)، ﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ﴾: من الغرق والبحر وأخرجكم ﴿إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾: عن الإيمان والإخلاص، ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ قال ابن عباس: يريد أهل مكة (٥).
وقال أبو إسحاق: الإنسان هاهنا يعني به الكفار خاصة (٦)، وفي هذا احتجاج على الكفار حيثُ لمَّا وقعوا في الشدة التي لا يُطْمَع في قدرة أحد على كشفها أخلصوا الدعاء لله بكشف ذلك البلاء، فلما نَجَّاهم بطروا
(١) لم أقف عليه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥١، بلفظه.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٢٠، بنصه.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٢١، بنصه.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٣، بلفظه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥١، بنصه.
النعمة وكفروا به.
٦٨ - ثم بَيَّن أنه قادر أن يهلكهم في البر بمثل ما يهلك في البحر، فقال: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ﴾ قال الليث: الخسف سُؤوخُ الأرض بما عليها (١)، يقال: خسف الله به الأرض، أي غاب به فيها، ومعني الخسف والخسوف: الدخول في الشيء، يقال: عين خاسفة؛ وهي التي غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة، أي: غائرة الماء، والشمسُ تُخْسَفُ خُسُوفًا، وهو دخولها في السماء كأنها تكون في جُحْرٍ (٢)، فمعنى قوله: ﴿يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ﴾: يُغَيِّبُكم ويُذْهِبُكم في جانب البر، وهو الأرض، وإنما قال: ﴿جَانِبَ الْبَرِّ﴾ لأنه ذكر البحر في الآية الأولى، فهو جانب، والبر جانب، أخبر الله تعالى أنه (٣) كما قدر أن يغيبهم في الماء قادر أن يغيبهم في الأرض، قال ابن عباس في قوله: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ يريد: حيث أعرضتم حين سلمتم من هول البحر.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ معنى الحَصْبِ في اللغة الرمي، يقال: حَصَبَ أحْصُبُ حَصْبًا إذا رميت، والحَصْبُ: الرمي (٤)، ومنه قوله تعالى: ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] أي تلقون فيها، ومعنى قوله: ﴿حَاصِبًا﴾ عذابًا يحصبهم، أي: يرميهم بحجارة، ويقال للريح التي
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (خسف) ١/ ١٠٢٩ بنصه.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (خسف) ١/ ١٠٣٠، بنحوه، انظر: (خسف) في "المحيط في اللغة" ٤/ ٢٦٧، و"اللسان" ٢/ ١١٥٧.
(٣) في (أ)، (د): (أنه قال)، والطاهر أن (قال) زائدة، وقد أن إلى اضطراب المعنى، والمثبت من (ش)، (ع).
(٤) انظر: (حصب) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٣٤، و"الصحاح" ١/ ١١٢، و"اللسان" ٢/ ٨٩٤.
398
تحمل الترب والحصباء: حاصب، وللسحاب يرمي بالثلج والبرد: حاصب؛ لأنه يرمي بهما رميًا، ومنه قول الفرزدق:
مُسْتَقْلِينَ شَمالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنا بِحاصبٍ كَندِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ (١)
أي سحاب حاصب ثلجًا كنديف القطن، فحذف الموصوف والمشبه وأقام المشبه به، وهو قوله: كنديف القطن، وقال أبو إسحاق: الحاصب: التراب الذي فيه حصباء (٢)، والحاصب على هذا ذو الحصباء، مثل: اللابن والتامر، وعلى هذا فُسِّرَ بيتُ الأخطل:
تَرْمي الخصال (٣) بِحَاصِبٍ مِنْ ثَلْجها حتى يَبِيتَ على العِضَاهِ جِفالا (٤)
أي ترميها بذي حصباء من ثلجها، يعني: سحابًا فيه ثلج، فهو يرمي بها.
(١) "ديوانه" ١/ ٢١٣، وورد في "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٥، و"الكامل" ٣/ ٥٧، و"الموشح" ص ١٢٧ وفيه: تضربهم، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، و"السمعاني" ٣/ ٢٦٢، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦١، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٢، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٢٤، و"الطوسي" ٥٠٢/ ٦، و"ابن عطية" ٩/ ١٤٢.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥١، بنصه.
(٣) في الديوان وجميع المصادر: (العِضَاهُ)، والمعنى واحد.
(٤) "ديوانه" ١/ ١٠٨، وورد في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٢٤، و"ابن عطية" ٩/ ١٤٢، و"شرح ديوان الأخطل" ص ٣٨٧ (ترمي): الضمير يعود على ريح الشمال، (الخصال): جمع خَصْلة وخُصْلة؛ وهو العُنقود، والخَصْلة والخُصْلة والخَصَلة كل ذلك: عُودٌ فيه شوك، (العضاه): من شَجر الشوك؛ وهو ما كان له أُرومَةٌ تبقى على الشتاء، قيل: واحده عضة وعِضَهةَ وعِضاهَة، (جفالاً)؛ الجفال: ما تراكم من الثلج بعضه فوق بعض. انظر: "المحيط في اللغة" (عضه) ١/ ١٠٩، و"اللسان" (خصل).
399
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا﴾ قال قتادة: يقول: مانعًا ولا ناصرًا (١)، والمعنى: لا تجدوا أحدًا وكلتم إليه أموركم أو تكلون إليه أموركم فهو يمنعكم وينصركم.
٦٩ - قوله تعالى: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ﴾، أي: في البحر، ﴿تَارَةً أُخْرَى﴾، أي: مرة أخرى، قال الليث: ﴿تَارَةً﴾ ألفها واو وجمعها تِيَرٌ، وتجمع تارات أيضًا (٢)، قال الفراء: والفعل منها: أترت، أي: أعدت تارة وتارتين وتِيَرًا، مثل: قَامَة وقِيَم (٣)، وقال لبيد يصف عِيرًا:
يُديم سَحِيلَهُ وَيُتِيرُ فيه وَيُتْبِعُها خِنَافًا في زِمَالِ (٤)
أي يديم نهيقه ويعيده مرة أخرى.
وقوله تعالى: ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ﴾، القاصف: الكاسر، يقال: قَصفَ الشيءَ يقصفه قصفًا، إذا كسر (٥) كسرًا بشدّة، والقاصف من الريح التي (٦) تكسر الشجر وتدق كل شيء وتحطمه (٧)، وأراد هاهنا ريحًا
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٣ بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٤٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (تار) ١/ ٤١٨، بنصه.
(٣) لم أقف عليه، انظر: "الشامل لجموع التصحيح والتكسير" ٣/ ٣١٩.
(٤) "شرح ديوان لبيد" ص ٨٤، وورد في "تهذيب اللغة" ١/ ٤١٩، و"اللسان" (تور) ١/ ٤٥٥، وفي الجميع (يُجِد) بدل (يديم)، (يُجِدُّ): من أجدَّ يجد من الجد في الأمر، (سحيلًا)؛ السحيل: الصوت يقطّعه في جوفه، (خنافًا): يقال خنفت الدابة: مالت بيديها في أحد شقيها من النشاط، والخانف: الذي يشمخ بأنفه من الكبر، (زمال)؛ الزمال: العدو في جانب. انظر: "اللسان" (خنف) ٢/ ١٢٧٩.
(٥) هكذا في جميع النسخ، والأولى كسره.
(٦) ساقطة من (أ)، (د).
(٧) انظر (قصف) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٨، و"المحيط في اللغة" ٥/ ٢٧١، و"الصحاح" ٤/ ١٤١٦، و"اللسان" ٦/ ٣٦٥٤.
شديدة تقصف الفلك وتغرقهم.
وقوله تعالى: ﴿فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾، أي: بكفركم، حيث سَلِمتم ونجوتم في المرة الأولى، ويُقرأ قوله: ﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ وأخواته من الأفعال (١) بالياء والنون، فمن قرأ بالياء (٢) لأن ما قبله على الواحد الغائب، وهو قوله: ﴿إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ﴾، ومن قرأ بالنون (٣) فلأن هذا النحو قد ينقطع بعضه من بعض، وهو سهل؛ لأن المعنى واحد، ألا ترى أول قد جاء: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٢]، فانتقل من الجمع إلى الإفراد، كذلك ها هنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحدٌ، وكلٌّ حَسَنٌ (٤)، ويؤكد النون:
٧٠ - قوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ قال ابن عباس: يريد فضلنا (٥)، وهو كقوله: ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ [الإسراء: ٦٢] روى ميمون بن مهران عنه في قوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ قال ابن عباس: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم يأكل بيديه (٦).
(١) هي: (أو نرسل)، (أن نعيدكم)، (فنرسل عليكم)، (فنغركم)
(٢) هم: نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص ٣٨٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٧، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١١، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٩.
(٣) هم: ابن كثير أبو عمرو، انظر المصادر السابقة.
(٤) "الحجة للقراء" ٥/ ١١١ بتصرف يسير، وهناك توجيه آخر لابن خالويه: فالحجة لمن قرأه بالنون: أنه جعله من إخبار الله عن نفسه، والحجة لمن قرأه بالياء: أنه جعله من إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه. "الحجة في القراءات" ص ٢١٩.
(٥) ورد في تفسير"الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٢٢.
(٦) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" ٥/ ٧٧ - مختصرًا، وهو في "تفسير الثعلبي" =
401
وروى عنه أيضًا أنه قال: بالعقل (١).
وقال الضحاك: بالنطق والتميز (٢).
وقال عطاء: بامتداد القامة وتعديلها (٣).
وقال يمان: بحسن الصورة (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد في البحر على السفن، وفي البر على الإبل والخيل والبغال والحمير (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ قال: يريد الثمار والحبوب والمواشي.
وقال مقاتل: السمن والزُّبْدُ والحلاوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم (٦).
= ٧/ ١١٤ أ، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٠ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. وورد بنحوه منسوبًا للكلبي في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٥٧.
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ - بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦٣، و"الخازن" ٣/ ١٧٢.
(٢) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، لكنه قال: بالعقل والتمييز، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦٣، و"الفخر الرازي" ٢١/ ١٣، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٤.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ١٤/ ١٧ أ. لكنه قال: بتعديل القامة وامتدادها، انظر المراجع السابقة.
(٤) ورد في "الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، وانظر: "زاد المسير"، و"القرطبي".
(٥) ورد بنصه بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، وتفسير "الوسيط" ٢/ ٥٢٣.
(٦) ليس في تفسيره، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، انظر: "تفسيرالبغوي" ٥/ ١٠٨، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٥.
402
﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾؛ روى مكحول عن ابن عباس في هذا، قال: البهائم تأكل بأفواهها، وابن آدم يأكل بيده (١)، ونحو هذا قال عكرمة (٢).
وقال محمد بن جرير: فضلناهم بتسليطهم على البهائم والوحوش، وكثيرٌ من خلق الله سخرناها لهم (٣). وقال السدي: فُضِّلوا على البهائم والدواب والوحوش، وهم الكثير (٤).
وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا (٥) عن طائفة من الملائكة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم (٦).
وقال أبو إسحاق: قال ﴿عَلَى كَثِيرٍ﴾، ولم يقل: على كل من خلقنا؛ لأن الله فضل (٧) الملائكة (٨)، ولكن ابن آدم مفضل على سائر الحيوانات التي لا تعقل ولا يتميز.
(١) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٦، بنحوه.
(٢) أخرجه البيهقي في "الشعب" ٥/ ٧٧ مختصرًا، عن عكرمة عن ابن عباس.
(٣) "تفسير الطبري" ١٥/ ١٢٥، بنحوه.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٢٣، بنصه.
(٥) ساقطة من (د)، وفي (ش)، (ع): (غير).
(٦) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٦٣، و"البغوي" ٥/ ١٠٨، و"الخازن" ٣/ ١٧٢، وورد عن ابن عباس في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٢.
(٧) في جميع النسخ: (لأن الله فضل الله الملائكة)، بزيادة لفظ الجلالة بعد فضّل.
(٨) لم ينقل الدليل على هذه الدعوى مع أنه أشار إليها في المصدر، وهو قوله: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: ١٧٢]، ودلالته ليست صريحة، ولعل هذا السبب في عدم نقله إيّاه، ولذلك حال ابن عطية في تفسيره ٩/ ١٤٦: وهذا غير لازم الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي.
403
ونحو هذا روى عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا﴾، قال: يريد غير (١) الملائكة في هذا الموضع، لم يُفَضَّل ولدُ آدم عليهم.
وذهب قوم إلى تفضيل ولد آدم على الملائكة، واحتجوا بما روي عن زيد بن أسلم في هذه الآية، قال: قالت الملائكة: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا؛ يأكلون فيها ويتمتعون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في (٢) الآخرة فقال: "وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان" (٣).
(١) في (أ)، (د): (عزل)، والمثبت هو الصحيح المتسق مع السياق.
(٢) ساقطة من (د).
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٢، بنصه، و"الطبري" ١٥/ ١٢٦ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٨، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٠، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. قال ابن كثير ٣/ ٥٨: وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه، وقد روي من وجه آخر متصلًا وذكره، وكذلك أورده في "التاريخ" ١/ ٥٥، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وقال: هو أصح، والحديث المرفوع رواه الطبراني بسنده عن عبد الله بن عمرو وهو بنحوه، وللحديث طريقان يلتقيان عند صفوان بن سليم فمن بعده، قال الطبراني [كما في مجمع البحرين (١/ ١١٩)]: لم يروه عن صفوان إلا طلحة وأبو غسان محمد بن مطرف. والحديث ضعيف بالروايتين؛ قال الهيتمي في "المجمع" ١/ ٨٢: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه إبراهيم بن عبد الله المصيصي، وهو كذاب متروك، وفي سند الأوسط طلحة بن زيد وهو كذاب أيضًا، وقال ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" بذيل الكشاف ٤/ ١٠٠: وقد لفقوا أخبارًا منها: أن الملائكة قالت.. الحديث. وذكر رواياته وعزاها إلى أصحابها. وللحديث شاهد عن ابن عمر، وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" ١/ ٣٦، بنحوه وقال: هذا حديث لا يصح. والخلاصة أن الحديث بجميع رواياته وشواهده ضعيف لكونه مرسلاً -كما هنا- والموصول ضعيف لضعيف رواته، وحسبك إيراد ابن الجوزي له في العلل، وقول ابن حجر فيه.
404
قال أبو هريرة: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده (١)، وهذا الخلاف في التفضيل إنما يجري بين الناس في تفضيل صالحي المؤمنين على الملائكة -ما عدا الرسل والأنبياء من بني آدم (وجبريل وميكائيل وإسرافيل (٢) وعزرائيل (٣) من الملائكة، فإن هؤلاء في الملائكة كالرسل من بني آدم) (٤) - وأصحابنا أيضًا مختلفون في هذه المسألة؛ فمنهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة، ومنهم من يأبى ذلك، كما ذكرنا عن ابن عباس والسدي، وهو اختيار أبي إسحاق.
قال العلماء من أصحابنا: هذه من المسائل التي لا يستحب الخوض فيها والإبلاغ، وكذلك الكلام في تفضيل الأنبياء على مشاهير الملائكة (٥)،
(١) أخرجه البيهقي في "الشعب" ١/ ١٧٤ بنصه تقريبًا، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، بنصه، و"الثعلبي" ٧/ ١١٤ أ، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٠٩، و"ابن عطية" ٥/ ٦٤. مرفوعًا، و"الخازن" ٣/ ١٧٣، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٠، وورد في "الكنز" ١/ ١٤٥، ومثل هذا القول مما لا يقال بالعقل فله حكم الرفع، وقد أخرجه ابن ماجه (٣٩٥٤): الفتن، كتاب: باب: المسلمون في ذمة الله من طريق أبي المُهَزِّم عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه. وهو ضعيف لضعف أبي المهزم، قال عنه في "التقريب" ص ٦٧٦ رقم (٨٣٩٧): متروك، وقد ضعف الحديث الألباني وذكره في "ضعيف ابن ماجه" ص ٣١٨ (٨٥٧).
(٢) في (أ): (اسرآيل)، والمثبت من (د)
(٣) قال ابن كثير: وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل، والله أعلم. "البداية والنهاية" ١/ ٤٧.
(٤) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع).
(٥) مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر مما تنازع فيها العلماء قديمًا، قال ابن كثير في "البداية والنهاية"١/ ٥٤: وقد اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على =
405
.........................
= أقوال، فأكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين، والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم، وأقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة أمية بن العاص. ثم ساق حادثة جرت بين يدي عمر بن عبد العزيز في المسألة. وقد فَصَّل شارح العقيدة الطحاوية القول في المسألة وصنَّفَ الذين تكلموا في المسألة، فقال: وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة، وإلى المعتزلة تفضيلُ الملائكة، وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضلُ الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً، وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة، وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية، وقالت الشيعة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة، ومن الناس من فصَّل تفصيلًا آخر، ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر: إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. ثم بَيّنَ أن الإمام الطحاوي لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي أو إثبات، وعزا ذلك إلى متابعة أبي حنيفة -رحمه الله- حيث توقف في الجواب عن هذه المسألة، وقد مال هو كذلك إلى التوقف وقال: فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا.. أولى. "شرح العقيدة الطحاوية" ص ٢٧٥، وإذا كان بعض السلف قد أمسك عن الحديث في هذه المسألة فإن آخرين قد تكلموا فيها، وقد أشار ابن تيمة إلى ذلك فقال: قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملائكة، وتروى على رؤوس الناس، ولو كان هذا منكرًا لأنكروه، فدل على اعتقادهم ذلك "مجموع الفتاوى" ٤/ ٣٧١، ومن هؤلاء الذين تحدثوا في هذه المسألة: إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فقد كان يقول: بنو آدم أفضل من الملائكة ويقول أيضًا: يخطئ من فضل الملائكة، ومنهم الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي، فقد قال: الصحيح تفضيل الأنبياء والصالحين على الملائكة، والملائكة أفضل من الفسقة، وقال أيضًا: الأنبياء أفضل من الملائكة، وجبريل وإسرافيل وميكائيل أفضل من الأولياء. انظر: "لوامع الأنوار" ٢/ ١٩٨ - ٣٩٩. وقد ذهب ابن تيمة إلى تفضيل صالحي البشر على الملائكة، وذكر ثلاثة عشر دليلًا على ذلك؛ ثم قال: فهذا -هداك الله- وجه التفضيل بالأسباب المعلومة، ذكرنا أنموذجًا نهجنا به السبيل، وفتحنا به الأبواب إلى درك =
406
كما لا يستحب الكلام في المخايرة بين الأنبياء؛ لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "لا تخايروا بين الأنبياء و (١) لا تفضلوني على يونس بن متى"،
= فضائل الصالحين، من تدبّر ذلك وأوتي منه حظًا رأى وراء ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من الاقول والعلم إلا ظاهره، ولا من الحقائق إلا رسومها؛ فوقعوا في بدع وشبهات، وتاهوا في مواقف ومجازات، ثم رد على حججهم قائلاً: وها نحن نذكر ما احتجوا به. "مجموع الفتاوى" ٤/ ٣٥٠ - ٣٩٢.
وقال ابن القيم: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صالحي بني آدم أيهما أفضل؟ فأجاب بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فتصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. قال ابن القيم: وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه. انظر: "لوامع الأنوار البهية" ٢/ ٣٩٨ - ٤٠٩. نقلاً عن بدائع الفوائد. ويضاف إلى هذا أن الملائكة خلقوا للعبادة لذلك لا يعصون الله ما أمرهم، في حين أن البشر خلقوا للعبادة أيضًا مع ابتلائهم بالثمر والخير فتنة، فهم معرضون للشهوات والأهواء فلا يصل أحدهم إلى الطاعة إلا بجهد جهيد وصبر طويل، بخلاف الملائكة الذين جبلوا على الطاعة، فهل يستوي من طبع على الطاعة بمن يتكلف الطاعة وتتجاذبه الأهواء والشهوات الصارفة له عن الطاعة؟! أملاه عليّ شيخي.
(١) لم يتبين لي إن كانت هذه الواو عاطفة لمقطعين أو لحديثين، وهو الأرجح لعدم ورود حديث واحد يجمع بين النهي عن التخيير بين الأنبياء والنهي عن تفضيل رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على يونس عليه السلام -فيما وقفت عليه في كتب التخريج- ولم أجد هذا التركيب إلا ما ذكر ابن كثير -على سبيل الحكاية- في "البداية والنهاية" ١/ ٢٣٧، قال: حيث قد ورد في بعض الأحاديث: "لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى". أما على اعتبار أنهما مقطعين لحديثين فقد وردت عدة =
407
وحديث اليهودي الذي قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر فَلُطم، ثم أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، مشهور في الصحيح (١)، فالأحسن التأدب بأدب رسول الله
= روايات للمقطعين كل على حدة؛ فمن روايات المقطع الأول: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تخيروا بين الانبياء" أخرجه مسلم (٢٣٧٣/ ١٦٠) كتاب: الفضائل، باب: فضائل موسى ٤/ ١٨٤٥، عن أبي سعيد الخدري، وأبو داود (٤٦٦٩) كتاب: السنة، باب: في التخيير بين الأنبياء ٥/ ٥١، و"مشكل الآثار" ١/ ٤٥٢، و"شرح السنة": كتاب: الفضائل، باب: فضائل سيد الأولين والآخرين ١٣/ ٢٠٤، وورد برواية: (لا تفضلوا بين أنبياء الله) في: "مشكل الآثار" ١/ ٤٥٢، و"دلائل النبوة" للبيهقي ٥/ ٤٩٢، و"شرح السنة" ١٣/ ٢٠٤. أما المقطع الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تفضلوني على يونس بن متى) فقد ورد في "الشفا" ١/ ٢٦٥، و"إتحاف السادة المتقين" للزبيدى ٢/ ١٠٥، و"مناهل الصفا" ص ٢٢. قال السيوطي: لم أقف عليه بهذا اللفظ، والذي في صحيح البخاري: (لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى). وفي الصحيحين من حديث ابن عباس وأبي هريرة: (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى). ولأبي داود من حديث عبد الله بن جعفر: (لا ينبغي أن يقول أنا أفضل من يونس بن متى). انظر الروايات الأخرى بنحوها في: "صحيح البخاري" (٣٤١٣) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب قوله: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، ومسلم (٢٣٧٦)، (٢٣٧٧) كتاب: الفضائل، باب: في ذكر يونس -عليه السلام-، و"دلائل النبوة" للبيهقي ٥/ ٤٩٤.
(١) ونصه؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصْعَقُون يوم القيامة، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله"، ولهذا الحديث عدة روايات، أخرجه أحمد ٣/ ٤١، والبخاري في عدة أماكن، منها (٣٤٠٨) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، الرقاق باب: نفخ الصور (٧٤٧٢) كتاب: التوحيد باب: في المشيئة والإرادة، ومسلم (٢٣٧٣/ ١٦٠) كتاب: الفضائل، فضائل موسى، وأبو داود: السنة: باب: في التخيير بين الأنبياء، و"دلائل النبوة" للبيهقي ٥/ ٤٩٣، وورد في "الشفا" ١/ ٤٣٩، و"الكنز" ١١/ ٥٠٧.
408
-صلى الله عليه وسلم-، ومِثلُ هذه الطريقة حَسَنٌ في الصحابة، بترك الخوض في تفضيل بعضهم على بعض (١)، وإن كنت تعلم بالدليل والاعتقاد ما تعلم (٢)، فالأحسن ترك الخوض والإبلاغ، والجري على مثل عادة بعضهم مع بعض.
٧١ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ قال أبو إسحاق: يعني به يوم القيامة، وهو منصوب على معنى: اذكر يوم ندعو، قال: وجوز أن يكون منصوبًا بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو (٣).
قال أبو علي الفارسي: الظرف ها هنا بمنزلة إذا؛ لأنه لا يجوز أن
(١) دلَّت نصوص القرآن على وجود التفاضل بين الناس، كما في قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٢١]، كما وردت نصوص في الكتاب والسنة تدل على وقوع التفاضل بين الصحابة -رضي الله عنهم-، لذلك ذهب أهل السنة والجماعة إلى القول بالتفاضل بين الصحابة -رضي الله عنهم- عمومًا والخلفاء الأربعة خصوصًا، بعد إثبات فضيلة الصحبة لكل صحابي. يقول شيخ الإسلام -في بيان أصول أهل السنة والجماعة في الصحابة-: ويقبلون ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع؛ من فضائلهم ومراتبهم، فيفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة- كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. بل قد -رضي الله عنهم- ورضوا عنه.. ، ويقرون بما تواتر به النقل عن علي -رضي الله عنه- وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي -رضي الله عنه- كما عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على تقديم عثمان في البيعة. انظر: "مجموع الفتاوى" ٣/ ١٥٢، ٤/ ٤٢١.
(٢) الظاهر من كلام الواحدي -رحمه الله- إثبات التفاضل على النحو السابق، لكنه يرى عدم الخوض في هذه المسألة على سبيل التعصب لأحدهم مما قد يؤدي معه إلى انتقاص الآخرين.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٢، بنصه تقريبًا.
409
يكون العامل فيه ما قبله من قوله: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ﴾؛ لأنه فعل ماض، وليس العامل أيضًا يدعو؛ لأنه فعل مستقبل، فإذا لم يكن في هذا الكلام فعل ظاهر يتعلق به الظرف تعلق بما دلّ عليه قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (١)؛كما أن قوله: ﴿قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٢] على تقدير: أإذا متنا بعثنا، كذلك هاهنا يُجعل الظرفُ بمنزلة إذا، فيصير التقدير: إذا دُعي كل أناس لم يُظْلموا، ومثل هذا سُوّي قوله: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ﴾ الآية [فصلت: ١٩].
وقوله تعالى: ﴿بِإِمَامِهِمْ﴾ الإمام في اللغة معناه: كل من ائتَمَّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة، والنبيّ إمام أُمّته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين، وإمام الغلام في المكتب: ما يتعلمه كل يوم (٢)، واختلفوا في معنى الإمام هاهنا، فروى معمر عن قتادة، وشبل عن أبي نجيح عن مجاهد: بنبيهم (٣)، ورُوي ذلك مرفوعًا عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (٤).
ويكون المعنى على هذا: أن ينادي يوم القيامة فيقول: هاتوا متبعي
(١) لم أقف عليه، وذُكر هذا القول في:"الإملاء" ٢/ ٩٤، و"البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٩٤.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (أم) ١/ ٢٠٥، بنصه، انظر: "العين" (أمم) ٨/ ٤٢٨، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٨، و"اللسان" (أمم) ١/ ١٣٣.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٢ بلفظه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ١٢٦ بلفظه عنهما من طرق، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، عنهما، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، عن مجاهد، و"الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٨، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٤، عنهما، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٥١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن مجاهد.
(٤) لم أقف عليه مسندًا، وورد عنه بلفظه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، "الفجر الرازي" ٢١/ ١٧.
410
إبراهيم، هاتوا متبعي في موسى، هاتوا متبعي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيقوم أهلُ الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الطغاة في عبادة الأوثان، هاتوا متبعي رؤساء الضلالة في اعتقاد الجهالة، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: إمام هدى أو إمام ضلالة (١)، ونحو هذا روى علي بن أبي طلحة فقال: بأئمتهم في الخير والشر (٢).
وقال في رواية أبي صالح: برئيسهم (٣)، ويدخل في هذا كل من كانوا يأتمون به في الدنيا، وعلى هذا التفسير قال أبو علي: الباء في بإمامهم تكون على ضربين؛ أحدهما: أن تكون متعلقة بالفعل الذي هو ندعو في موضع المفعول الثاني؛ كأنه قيل: ندعو كل أناس بكونهم تبعة وشيعة لإمامهم؛ كما تقول: أدعوك باسمك، فيكون كقولك: أدعوك زيدًا، ويجوز أن تتعلق بمحذوف، ذلك المحذوف في موضع الحال؛ كأنه ندعو كل أناس مُخَلَّطين بإمامهم، أي يُدعون وإمامهم فيهم (٤)؛ نحو: ركب شأنه (٥)، وجاء في جنوده (٦)، فيكون الدعاء على هذا الوجه متعديًا إلى
(١) ورد في "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٥٢ بنصه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، بنحوه، انظر: "تفسير السمعاني" ٣/ ٢٦٣، بنصه، و"البغوي" ٥/ ١٠٩، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٥١ وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، بنصه.
(٣) ورد في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦٠ بلفظه (ضعيفة)، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦٤.
(٤) في جميع النسخ: (فيه) والصحيح المثبت؛ لأن الضمير يعود على جمع.
(٥) أي قصده. "القاموس" (شأن) ص ١٢٠٨.
(٦) لم أقف عليه، وذكر نحوه في "مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٣٢، و"البيان في غريب =
411
مفعول واحد خلاف الوجه الأول.
وقال الضحاك وابن زيد: يعني بكتابهم الذي أنزل عليهم (١).
وهو رواية وَرْقَاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (٢)، ونحوه قال أبو صالح (٣).
ويكون المعنى على هذا: أن ينادى يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، وتقدير الباء على ما ذكرنا.
وقال الحسن: بكتابهم الذي فيه أعمالهم (٤)، وهو قول الربيع وأبي العالية (٥)، وابن عباس في رواية عطية قال: إمَامُه ما عمل وأملى فكُتب
= إعراب القرآن" ٢/ ٩٤، و"تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ١٧، و"الإملاء" ٢/ ٩٤، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٩١، و"الدر المصون" ٧/ ٣٩٠.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٧ بلفظه عنهما، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٧، بلفظه عن الضحاك، و"تفسير الثعلبي" ٤/ ١١٧ ب بنصه عنهما، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٨ بنصه عن ابن زيد، انظر "تفسير البغوي" ٥/ ١٠٩.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٧ بلفظه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٧ بلفظه، وورد بلفظه في: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٥٢، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٩.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٠٩، بنصه.
(٤) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٢، بنصه، و"الطبري" ١٥/ ١٢٧، بنصه، وورد في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦٠، بنصه، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٧ - بلفظه، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٣٢، بنصه، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، بنحوه، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، بنصه.
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٧ بلفظ بأعمالهم عنهما، وورد بهذا اللفظ في "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٤٣٤، عن أبي العالية، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٧، عن أبي العالية، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٠٩؛ عن أبي العالية.
412
عليه (١)، وعلى هذا سُمِّي الكتاب إممامًا [لأنه يؤتم بما أحصاه، قاله ابن قتيبة (٢)، وهذا كقوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ١٢] فسمى الكتاب إمامًا) (٣)، وأما تقدير الباء على هذا القول، فهو بمعنى مع، أي يدعى كل أناس ومعهم كتابهم، كقولك: ادفعه إليه برُمَّته (٤)، أي ومعه رُمَّته، قاله أبو علي (٥)، وهذا القول اختيار أبي إسحاق، قال: ويدل عليه سياق الآية (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، الفتيل: القشرة التي في شق النواة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة (٧)، وهو قول أكثر المفسرين (٨).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٦ بنصه (ضعيفة)، وورد في "الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، بنصه.
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٥٩، بنحوه.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٤) الرُّمّة: هي القطعة من الحبل، وأصله البعير يُشد في عنقه حبل، فيقال أعطاه البعير برُمَّته، قال الجوهري: أصله أن رجلاً دفع إلى رجل بعيرًا بحبل في عنقه، فقيل ذلك لكل من دفع شيئًا بجملته.
انظر: "المحيط في اللغة" (رم) ١٠/ ٢١٦، و"الصحاح" (رمم) ٥/ ١٩٣٦، و"اللسان" (رمم) ٣/ ١٧٣٦.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ليس في معانيه.
(٧) ورد في "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٥٢، بنحوه من طريق عكرمة (جيدة).
(٨) أخرجه بنحوه عن قتادة: "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٢، و"الطبري" ١٥/ ١٢٧، وورد بنحوه في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦٠، و"نزهة القلوب" ص ٣٥١، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٧، و"المفردات" ص ٦٢٣، و"تفسير المشكل" ص ٢٣٠، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، بنصه.
413
وأهل اللغة قالوا: وهذا يضرب مثلًا للشيء الحقير التافه (١)، ومثله: القطمير والنقير في ضرب المثل به، والمعنى: لا يُنْقَصون من الثواب بمقدار فتيل. قال عطاء عن ابن عباس: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، يريد. لا يُنقصون فتيلًا من الثواب، وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الفتيل: ما خرج بين إصبعك فتفتله؛ كالشيء الحقير (٢)، وهو فعيل، من الفتل.
٧٢ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى﴾ الآية. قال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية، فقال: اقرأ ما قبلها: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي﴾ إلى قوله: ﴿تَفْضِيلًا﴾ فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النِّعَم -التي قد رأى وعاين- فهو في أمر الآخرة -التي لم ير ولم يعاين- أعمى وأضل سبيلًا (٣).
وروى أبو رَوْق عن الضحاك عن ابن عباس قال: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب، فهو عما وصفت لك في الآخرة ولم تره أعمى وأضل سبيلا (٤)،
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (فتل) ٣/ ٢٧٣٨ بنصه، انظر: (فتل) في "مقاييس اللغة" ٤/ ٤٧٢، و"الصحاح" ٥/ ١٧٨٨، "اللسان" ٦/ ٣٣٤٤.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (فتل) ٣/ ٢٧٣٨، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ١٨، و"تنوير المقباس" ص ٣٠٣.
(٣) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٧، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١١٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٦، و"الفخر الرازي" ٢١/ ١٨، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٥٧ وعزاه إلى الفريابي وابن أبي حاتم، من طريق عكرمة جيدة.
(٤) أخرجه أبو الشيخ في العظمة ص ٣٦، ٥٦ بنصه من طريق الضحاك، (منقطعة)، ورد بمعناه في: "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٤، انظر: "تفسير =
414
يقول: وأبعد حجة، قال قتادة: من عاين الشمس والقمر فلم يؤمن فهو أعمى عما يغيب عنه أن يؤمن به (١)؛ هذا قول المفسرين في هذه الآية.
وقوله تعالى: ﴿في هَذِهِ﴾ الإشارة إلى النِّعَم التي ذكرها على رواية عكرمة، وبه قال السدي (٢)، وعلى قول الآخرين: الإشارة إلى الدنيا (٣)، وبه قال مجاهد (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ﴾، أي: في أمرها على تقدير المضاف، وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالًّا كافرًا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً؛ لأنه (٥) في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته (٦).
واختار أبو إسحاق هذا القول، فقال: تأويله أنه إذا عَمِيَ في الدنيا وقد عَرَّفَه الله الهدى وجعل له إلى التوبة وُصْلَةً، وفَسَحَ له في ذلك إلى وقت
= ابن عطية" ٩/ ١٥٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٦، و"الفخر الرازي" ٢١/ ١٩، و"القرطبي" ١٠/ ١٢٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٥٢ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٨ بمعناه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ٥٥، بنحوه، وورد بمعناه في: "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، و"السمرقندي" ٢/ ٢٧٨، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٤، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٥٠، و"ابن كثير" ٢/ ٥٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦٦.
(٣) وقد رجح هذا القول "الطبري" ١٥/ ١٢٩، و"ابن عطية" ٩/ ١٥١.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٢٨ بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٥، و"السمرقندي" ٣/ ٢٧٧، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٥، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٥٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٥، و"ابن كثير" ٢/ ٥٩.
(٥) في (أ)، (د): (الآية)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو الصحيح.
(٦) ورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٣٣ - بمعناه، و"الثعلبي" ٧/ ١١٤ ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١١٠، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٦، و"الفخر الرازي" ٢١/ ١٩، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٨.
415
مماته، فعمي عن رشده ولم يَتُبْ، ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾، أي: أشد عمى، ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾؛ لأنه لا (١) يجد طريقًا إلى الهداية (٢).
وقال أبو علي: معنى قوله: ﴿فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾، أي: أشد عمى، إنه في الدنيا كان مُمَكَّنًا من الخروج عن عَمَاه بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إلى الخروج من عماه؛ لأنه قد حصل على عمله، ولذلك قوله: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾؛ لأن ضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه (٣).
وعلى هذا القول: لا يُحتاج إلى تقدير المضاف في قوله: ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾، وهذا قول الحسن وقتادة؛ روينا ذلك عنه في مسند التفسير، والعمى في الآية المراد منه: عمى القلب، ولذلك جاز ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ بمعنى أشد عمى، ولو كان من عمى العين لم يجز أعمى بمعنى أشَدَّ عمى.
قال الفراء: [العرب إذا قالوا: هو أفعل منك، قالوه فيما كان فعله على ثلاثة أحرف، فإذا زاد على ثلاثة أحرف لم يقولوا: هو أفعل منك، حتى يقولوا: هو أشدّ حمرة منك؛ لأنه يقال في الفعل منه: أحمر، وأما في العمى فإنه يقال: فلان أعمى من فلان في القلب، ولا يقال: هو أعمى منه في العين؛ وذلك أنه لما جاء على مذهب أحمر وحمراء تُرك فيه أفعل منه كما ترك] (٤) في كثير من أشباهه.
قال: وبعض النحويين يقول: أجيزه في الأعمى والأعشى والأعرج
(١) في (د): (لم).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٣، بتصرف يسير.
(٣) "الحجة للقراء" ٥/ ١١٣، بتصرف.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د)
416
والأزرق (١)؛ لأنا نقول: عَمِي وزَرِق وعَرِج وعَشِي، ولا نقول: حَمِر ولا بَيِض ولا صَفِر.
قال الفراء: وليس ذلك بشيء؛ إنما يُنظر في هذا إلى ما يجوز أن يكون أقل أو أكثر، فيكون أفعل دليلًا على قلة الشيء وكثرته، ألا ترى أنك تقول: فلان أجمل من فلان؛ لأن جماله يزيد على جماله، ولا تقول للأعشى: هذا أعمى من ذلك، ولا لميتين هذا أموت من ذا، فأمّا قول الشاعر (٢):
أمَّا الملوكُ فأنتَ اليومَ ألأَمُهُم لُؤمًا وأبيضُهُم سِرْبالَ طبَّاخِ (٣)
فهو شاذ؛ هذا كلامه (٤)، وعلى هذا التحديد إنما يجوز أن يقال: أفعل منك فيما يكون فعله على ثلاثة أحرف، وذلك الشيء مما يقل ويكثر، وما عدا هذا فإنما يقال فيه: أفعل منه، شاذًّا.
(١) هذه من مسائل الخلاف المشهورة بين البصريين والكوفيين، فذهب الكوفيون إلى جواز استعمال ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان، وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان. انظر التفصيل حول هذه المسألة في: "الإنصاف" ص ١٢٤، و"شرح المفصل" ٦/ ٩٣، و"المقرب" ١/ ٧٢، و"الخزانة" ٨/ ٢٣٠.
(٢) هو طرفة بن العبد (جاهلي).
(٣) "ديوانه" ص ١٨، و"اللسان" (بيض) ١/ ٣٩٧، وورد بلا نسبة في "إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٩، "تفسير الثعلبي" ٤/ ١١٧ ب، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٥، و"القرطبي" ١٠/ ٢٩٩، و"اللسان" (عمي) ٥/ ٣١١٥، و"شرح التصريح" ١/ ٣٢٤، وله رواية اخرى استشهد بها النجاة في باب أفعل التفضيل، وهي:
إذا الرجالُ شتَوْا واشتدَّ أَكلهمُ فأنت أبيضهُم سربالَ طبَّاخِ
ورد هذه الرواية في: "الإنصاف" ص ١٢٤، و"شرح المفصل" ٦/ ٩٣١، و"المقرب" ١/ ٧٣، و"الخزانة" ٨/ ٢٣٠.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٨، نقل طويل تصرف فيه.
417
وقرأ أبو عمرو ﴿فِي هَذِهِ أَعْمَى﴾ بكسر الميم، ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ بفتح الميم (١)، قال أبو علي الفارسي: أمال الألف من الكلمة الأولى ولم يملها من الثانية؛ لأنها بمعنى أفعل من كذا، مثل أَبْلَه من فلان، وليست عبارة عن الموؤفِ (٢) الجارحةِ المصاب ببصره، فإذا كان كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة؛ لأن آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسنُ الإمالةُ في الأواخر؛ لأنها موضع الوقف، والألف تخفى في الوقف، فإذا أمالها نحا بها نحو الياء ليكون أظهر لها وأبين، ومما يقوِّي ذلك أن من العرب من يقلب هذه الألفات ياءات في الوقف فيقول: أَفعي، بإظهار الياء في اللفظ، وحُبْلي، وقد حذف في الآية من أفعل -الذي هو للتفضيل- الجار والمجرور، وهما مرادان في المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧]، المعنى: وأخفى من السر، فلذلك قوله: ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾، أي: منه في الدنيا.
ومعنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طرق الثواب، ويدل على أن المراد بقوله: ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾: أشد عمى، قوله: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ فكما أن هذا لا يكون إلا على أفعل من كذا، كذلك المعطوف عليه، انتهى كلامه. (٣) فأراد أبو عمرو أن يفرق بين ما هو اسم وبين ما هو بمعنى أفعل منه، فغاير بينهما بالإمالة وتركهما.
(١) انظر: "السبعة" ص ٣٨٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٧٨، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١٢، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٢٩.
(٢) في (ش)، (ع): (المألوف)، وفي هامش (ش) كتب: (أحسبه المؤوف).
(٣) "الحجة للقراء" ٥/ ١١٢، وهو نقل طويل تصرف فيه بالحذف والإضافة والتقديم والتأخير والاختصار.
418
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ الآية. قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألوه شططًا، وقالوا: متعنا باللات سنة وحرّم وادينا كما حَرَّمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فأبى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يجبهم، فأقبلوا يردون على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مسألتهم ويكررون، وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك، فأمسك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر -رضي الله عنه-: أما ترون رسول الله قد أمسك عن جوابكم كراهية لما تجيئون (١) به، وقد هَمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعطيهم ذلك فأنزل الله هذه الآية. (٢)
قال أبو إسحاق: معنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت (إن) واللام للتوكيد (٣)، وذكرنا معنى (إن) إذا دخل على الفعل أنها مخففة من الثقيلة في قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: ٤٦]، وقيل: إنه بمعنى قد، وقد مرّ هذا في مواضع (٤)، ومعنى كادوا: هَمّوا وقاربوا ذلك.
وقوله تعالى: ﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾، أي: ليستزلونك عن الذي أوحينا إليك، أي: يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك، يعني القرآن، والمعنى
(١) في جميع النسخ: (تحبون) والتصويب من أسباب النزول للمؤلف.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٣٠ مختصرًا من طريق العوفي (ضعيفة)، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٥ أ، بنحوه، و"الماوردي" ٣/ ٢٥٩ مختصرًا، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٩٧ بنصه -بلا سند- من طريق عطاء (منقطعة)، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١١١، و"ابن الجوزي" ٥/ ٦٧، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٢٠، والأثر ضعيف من الطريقين؛ طريق العوفي وعطاء.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٣، بنصه.
(٤) في (أ)، (د). (موضع).
عن حكمه، وذلك في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن.
وقوله تعالى: ﴿لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾، أي: لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قولهم: قل: الله أمرني بذلك، ﴿وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾، قال أبو إسحاق: أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك (١) (خليلاً.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ﴾، أي: على الحق بعصمتنا إياك، ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ) (٢) إِلَيْهِمْ﴾، أي: تميل، ﴿شَيْئًا قَلِيلًا﴾، شيئًا: عبارة عن المصدر، أي ركونًا قليلاً.
قال ابن عباس: يريد: حيث سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيته (٣).
وروي عن قتادة: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال -لما نزلت هذه الآية-: "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" (٤).
٧٥ - ثم توعده في ذلك أشدّ التوعد لو فعله، فقال: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ
(١) في (أ)، (د): (اتخذوك).
(٢) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٦٨، بنصه، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٢١.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٣١ بنصه، وورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٥ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٠، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٧، و"البغوي" ١٥/ ١١٢، و"الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" [ذيل الكشاف] ٤/ ١٠١، وهذا الأثر مرسل كما قال ابن حجر، وورد في "المجمع" ١٠/ ١٨١ متصلاً عن ابن عمر، وقال رواه البزار -لم أجده- وفيه راوٍ متروك، وورد في: "كشف الخفاء" ١/ ٢١٧، و"الكنز" ٢/ ١٨٦، وورد نحوٌ من هذا الدعاء ضمن حديث أبي بكرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله". أخرجه أحمد ٥/ ٤٢، والبخاري في "الأدب المفرد": باب الدعاء عند الكرب، ص ٢٤٢، وأبو داود (٥٠٩٠) في الأدب، باب ما يقول أذا أصبح، وحسنه الألباني في "صحيح الأدب المفرد" ص ٢٤٢ (٧٠١).
ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}، أي: ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قال ابن عباس والمفسرون كلهم (١)، ومعنى ضِعفِ العذاب: ضِعفُ ما يعذب غيره.
قال أبو إسحاق: لأنه نبيّ يضاعف له العذاب على عذاب غيره لو جنى هذه الجناية؛ كما قال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠] لأن درجة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ودرجة آله الذين وصفهم الله فوق في درجة غيرهم (٢)، قال ابن عباس: ورسول الله معصوم، ولكن هذه مخاطبة لأمته لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه (٣).
٧٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ﴾ الآية. قال قتادة: هَمَّ أهلُ مكة بإخراج نبي الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا؛ ولكن الله كَفَّهم عن إخراجه (٤) حتى أمره الله بالخروج، ولَقَلَّ ما
(١) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٨ أ، بنصه، وأخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٣ بنصه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ١٣١ بنصه عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن قتادة ومجاهد والضحاك، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٩، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٧٩، عن ابن عباس ومجاهد وأبي الشعثاء، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٥ ب، والماوردي ٣/ ٢٦٠، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٦ في الأخيرين عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٤، بنصه تقريبًا.
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٠٠، و"أبي حيان" ٦/ ٦٥، وحمل الآية على ظاهرها أولى، ولها نظائر في القرآن وهو ما أشار إليه "الطبري" ١٥/ ١٣١، و"البغوي" ٥/ ١١٢، و"القرطبي" ١٠/ ٣٠١
(٤) في جميع النسخ. إخراجهم والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يعود على الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
421
لبثوا بعد خروج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من مكة حتي بعث الله عليهم القتل يوم بدر (١)، وهذا قول مجاهد (٢).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: حسدت اليهود مقام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فقالوا: إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فإن كنت نبيًا فالحق بها، وإن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك، فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة، فأنزل الله هذه الآية (٣)، وهذا قول الكلبي وعبد الرحمن بن غنم، واختيار الفراء (٤).
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٣ - بمعناه، و"الطبري" ١٥/ ١٣٢، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٥ ب، بنحوه، و"الماوردي" ٣/ ٢٦١ - مختصرًا، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٨ - مختصرًا، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٩٨ مختصرًا، وأورده السيوطي في "الدر" ٤/ ٣٥٣ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٣٣ بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٥ ب، بنحوه، و"الماوردي" ٣/ ٥٠٨ مختصرًا، والمؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٩٨ مختصرًا.
(٣) أورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٩٨ بنصه -بلا سند- بهذه الرواية (منقطعة)، وقد ضعف هذا القول ابن عطية، وقال: وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه. كما ضعف ابن كثير القولين قائلاً: قيل: نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة، وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك، وقيل إنها نزلت بتبوك، وفي صحته نظر. انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٥٧، و"ابن كثير" ٣/ ٦٠.
(٤) أخرجه البيهقي في "الدلائل" ٥/ ٢٥٤، عن ابن غنم بزيادة منكرة؛ هي: فصدَّق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله الآية، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٥ ب، بنحوه عنهما، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢٩٨، بنحوه عن ابن غنم، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١١٢، عن الكلبي، وذكره ابن كثير٣/ ٦٠ وقال: وفي هذا الإسناد. نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالاً لقوله=
422
والقول الأول اختيار أبي إسحاق (١)، وهو الوجه؛ لأن السورة مكية؛ (٢)، فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية، وقد قال عبد الرحمن بن غنم: هذه الآية أنزلت بعد ما ختمت السورة (٣)، والأرض في قوله: ﴿لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ﴾ على القول الأول: مكة، وعلى القول الثاني: المدينة، وكثر في التنزيل ذكر الأرض، والمراد منها مكان مخصوص؛
= تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر﴾ [التوبة: ٢٩]، وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه، والله أعلم. وأورده السيوطي في "لباب النزول" ص ١٣٩ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وقال: هذا مرسل ضعيف الإسناد وله شاهد من مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم.
وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، اختلف في صحبته، فأثبت له الصحبة البخاري وابن لهيعة والليث ورجحه ابن حجر، وذكره ابن سعد وابن حبان في ثقات التابعين ورجحه ابن عبد البر وابن الأثير، وقالا: كان مسلمًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، ولم يفد عليه، وقال الذهبي: ويحتمل أن تكون له صحبة، ويعرف بصاحب معاذ، لملازمته له، وهو أفقه أهل الشام، وكانت له جلالةٌ وقَدْر، مات سنة (٧٨ هـ).
انظر: "الاستيعاب" ٢/ ٣٩٠، و"أسد الغابة" ٣/ ٤٨٢، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٥، و"الإصابة" ٢/ ٤١٧، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٥٤٣، انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩.
(١) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٤.
(٢) وهو ما رجحه جمهور المفسرين، وقال الطبري:
لأن الآية جاءت في سياق خبر الله -عز وجل- عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر فهو بأن يكون خبرًا عمن جرى له ذكر أولى من غيره. "تفسير الطبري" ١٥/ ١٣٣.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٥ ب، بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٠١، وهو بهذا القول يؤكد مدنية السورة؛ وفي القرطبي زيادة بيان وهو قوله: وأنها نزلت في تبوك.
423
كقوله: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة: ٣٣] يعني: من حيث كانوا يتصرفون فيه لمعاشهم، وقوله: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾ [يوسف: ٨٠] يعني: الأرض التي كان قَصَدَها للامتيار (١) منها، ومثله كثير (٢).
فإن قيل: أليس قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ [محمد: ١٣] يعني مكة، والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه، وقال في هذه الآية: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾ فكيف الجمع بينهما، على قول من قال: الأرض في هذه الآية: مكة؟! قلنا هَمُّوا وقصدوا إخراجه، كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك﴾ [الأنفال: ٣٠]، ثم قبل أن يُتِمُّوا ذلك أمر الله تعالى نبيه -عليه السلام- بالخروج، فخرج منها بأمر الله خائفًا منهم ومن مكرهم، وكان خروجه بأمر الله سببًا لسلامته مما كانوا يدبرونه فيما بينهم، ألا ترى أن قتادة قال: هموا بإخراجه ولو فعلوا ذلك ما نوظروا على ما حكينا عنه في هذه الآية، وجاز إضافة الإخراج إليهم في قوله: ﴿أَخْرَجَتْكَ﴾؛ لأنهم هموا بذلك وأُمر بالخروج منها لقصدهم إخراجه، فلما كانوا سببًا في خروجه أضيف ذلك إليهم.
﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، أعلم الله أنهم لو فعلوا ذلك لم يلبثوا بعده إلا قليلاً، أي لو أخرجوك لاستأصلناهم كسنتنا فيمن قبلهم،
(١) في جميع النسخ: (الامتيار)، والتصويب من الحجة للقراء. (المِيرَةُ): جلب الطعام للبيع وللعيال، قال الأصمعي: يقال: ماره يَمُورُه إذا أتاه بمِيرة؛ أي بطعام. أنظر: (مير) في "المحيط في اللغة" ١٠/ ٢٨٥، و"اللسان" ٧/ ٤٣٠٦.
(٢) ورد نحوه في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٥.
424
وقرئ ﴿خَلَفكَ﴾ (١)، و ﴿خَلَفكَ﴾ (٢)، وهو في القراءتين جميعًا على تقدير حذف المضاف كأنه؛ لا يلبثون بعد خروجك.
وزعم الأخفش: أن خلافك في معنى خلفك، وروى ذلك يونس عن عيسى (٣)، وهذا كقوله: ﴿بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٨١]، وقد مرّ.
قال أبو علي الفارسي: الآية على تقدير حذف المضاف؛ كقول ذي الرُّمَّة:
له واحفٌ فالصُّلْبُ حتى تَقَطَّعَتْ خِلَافَ الثُّرَيَّا من أرِيكٍ مآرِبُه (٤)
المعني: خلاف طلوع الثريا (٥)، وذكرنا الكلام في إذا وإلغائها في سورة النساء (٦).
(١) بفتح الخاء وسكون اللام، قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر.
انظر: "السبعة" ٣٨٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٦، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١٣٨٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١٣، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٣٠.
(٢) بكسر الخاء وفتح اللام وبعدها ألفٌ، قرأ بها: ابن عامر حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. (المصادر السابقة).
(٣) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٣ بنصه، وزاد: وأن معناه: بَعْدَكَ
(٤) "ديوانه" ٢/ ٨٤٢، وورد في: "الحجة للقراء" ٥/ ١١٤، (واحف والصلب): هما موضعان للرعي، (خلاف الثريا): يريد بعد طلوع الثريا، (أريك): اسم جبل بالبادية، يقول: تقطعت حوائج هذا الحمار من هذا الموضع؛ لأنه يبس مرعاه، فتحوَّل إلى غيره.
(٥) "الحجة للقراء" ٥/ ١١٤، بنصه تقريبًا.
(٦) أشار الواحدي -رحمه الله- في سورة النساء: [٦٧] أنه استوفى الكلام في أحكام (إذًا) عند قوله تعالى: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [آية: ٥٣]، وهذه الآية داخلة في السقط الذي وقع في التفسير.
وقد ذكر السمين ثلاثة أوجه في رفع ﴿لَا يَلْبَثُونَ﴾ وإعمال (إذًا) فقال: =
425
٧٧ - قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا﴾ قال الفراء: نصب سُنّة على العذاب المضمر، أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا (١).
وقال الزجاج: سُنَّة منصوب بمعنى لا يلبثون (٢)، هذا كلامهما ويحتاج إلى شرح وبيان في هذا، وهو أن يقول: سُنَّة منصوبة؛ لأنها وضعت موضع المصدر، ومعنى السنّة هاهنا: التعذيب، وتأويل الآية: أنهم يعذبون تعذيب الأمم قبلهم إذا أخرجوا رسلهم أو قُتلوا، ودل قوله: ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ﴾: على تعذيبهم، وكأنه قيل: وإذًا يعذبون تعذيب غيرهم، ومعنى قول الزجاج: سُنَّة منصوب بمعنى لا يلبثون، هو ما ذكرنا من أنه يدل على يعذبون، ومعنى قول الفراء: أنه منصوب بالعذاب المضمر هو هذا سواء، فاعرفه فإنه مشكل الظاهر.
وقال صاحب النظم: أضاف هذه السنة إلى الرسول، والسنة لله -عز وجل- كما قال في أثره: ﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾، وإنما حسن أن ينسبها إلى
= أحدهما: أنها توسطت بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون ﴿لَا يَلْبَثُونَ﴾ عطفًا على قوله ﴿لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾.
الثاني: أنها متوسطة بين قسمٍ محذوفٍ وجوابه فألغيت لذلك، والتقدير: ووالله إذا لا يلبثون.
الثالث: أنها متوسطة بين مبتدأ محذوف وخبره، فألغيت لذلك، والتقدير: وهم إذًا لا يلبثون.
وفي قراءة أبي شاذًا (لايلبثوا) على إعمال (إذا) ووجه النصب أنه لم يجعل الفعل معطوفًا على ما تقدم ولا جوابًا ولا خبرًا؛ لأنه قد يقع مستأنفًا، والتقدير: إن فعلوا ذلك إذا لا يلبثوا خلافك. انظر: "الدر المصون" ٧/ ٣٩٤، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ٢٩٣، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه ص ٨٠.
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩، بنصه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٥، بمعناه
426
الرسل؛ لأنه من أجلهم سَنَّها، فأضافها إليهم، هذا كلامول، وهو على ما قال، فإن التعذيب يقع بالأمم لا بالرسل، ولكن أضيف إلى الرسل لما كان بسببهم ومن أجلهم، وتحقيق هذا أن يقال: إنه حذف المضاف، على معنى: سنة أمم من قد أرسلنا، فحذف المضاف، وحَسّن حذف المضاف هاهنا ما ذكره صاحب النظم، وهو: أن هذه السنة كانت لأجلهم، يدل على صحة ما ذكرنا قول ابن عباس والمفسرين في هذه الآية.
قال ابن عباس: يريد هذه سنتي فيمن كذب أوليائي، وتَقوَّل عليّ الباطل.
وقال سفيان بن عيينة: يقول: لم نرسل قبلك رسولاً فأخرجه قومه إلا أُهلكوا (١).
وقال أبو إسحاق: يقول: إنا سننا هذه السُّنّة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم وقتلوه (٢)، لم يلبثهم العذاب أن ينزل بهم (٣)، والسُّنّة لله -عز وجل- في الأمم، ولما كان المراد بالسُّنّة هاهنا التعذيب أضيف مرة إلى المفعول على حذف المضاف -كما بينا-، ومرة إلى الفاعل في قوله: ﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾، قال ابن عباس: يريد لا خُلف لسُنّتي ولا لقضائي ولا لموعدي (٤).
وقال أهل المعاني: أي ما أجرى الله به العادة لم يتهيأ (٥) لأحد أن
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٠، بنصه.
(٢) في (ش): (قتلوهم)، وفي (ع): (قتلوا).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٥، بنصه.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٠، بنصه.
(٥) في (أ)، (د): (ننهنا).
427
يقلب تلك العادة (١).
٧٨ - قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ اختلف أهل المعاني والمفسرون في معنى (دلوك الشمس) على قولين؛ أحدهما: أن دلوكها غروبها، وهو اختيار الفراء (٢) وابن قتيبة (٣)، واحتج الفراء بقول الشاعر (٤):
غُدْوَةً حتى دَلَكَتْ بَرَاحِ (٥)
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٠، بنصه بلا نسبة.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩.
(٣) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦١.
(٤) نسب لقطرب في: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٠٣، و"اللسان" (برح) ١/ ٢٤٥.
(٥) وصدره:
هذا مَقَامُ قدَمَيْ رَبَاحِ
ورد بلا نسبة في "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٧، و"نوادر أبي زيد" ص ٣١٥، و"تفسير الطبري" ١٥/ ١٣٦، و"جمهرة اللغة" ١/ ٢٧٤، و"الأزمنة والأمكنة" ص ٢٨٦، و"المخصص" ٩/ ٢٥، و"تهذيب الألفاظ" ص ٣٩٣ وفيه: (اليوم) بدل (غدوة)، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٦ أ، و"ابن عطية" ٩/ ١٦٣، و"أبي حيان" ٦/ ٦٨، وورد برواية (ذبَّبَ) بدل (غُدْوَة) في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩، و"تهذيب اللغة" (برح) ١/ ٣٠٢، (دلك) ٢/ ١٢٢٠، و"الصحاح" (برح) ١/ ٣٥٦، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٦٣، و"شرح المفصل" ٤/ ٦٠، و"تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٠٣، و"اللسان" (برح) ١/ ٢٤٥، وورد برواية: (للشمس) بدل (غدوة) في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٥، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٥٠٩، (رباح): اسم ساقٍ على بئر، قال الفراء: يعني الساقي (ذَبَّب). طرد الناس، (براح)؛ يقول: حتى قال بالراحة على العين، فينظر هل غابت، وقال "الطبري" ١٥/ ١٣٦: (براج) يروى بفتح الباء فمن روى ذلك بكسرها، فإنه يعني: أشبه يضع الناظركفه على حاجبه من شعاعها =
428
أي غابت، واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرُّمَّة:
ولا بالآفلات (١) اللّوَالِكِ (٢)
القول الثاني: أن دلوك الشمس زوالها وزيغوغتها عن كبد السماء، والصحابة مختلفون في هذا، فروى نافع وسالم عن ابن عمر قال: دلوك الشمس: زيغها حين تزول (٣)، هذا قول ابن عباس في رواية داود بن الحصين (٤) قال:
= لينظر ما لقي من غبارها، وهذا تفسير أهل الغريب... ومن روى بفتح الباء، فإنه جعله اسمًا للشمس، (دلكت): مالت للغُيوب.
(١) في جميع النسخ: (بالأفلاف)، والتصويب من الديوان وجميع المصادر.
(٢) وتمامه كما في "الديوان" ٣/ ١٧٣٤:
مصابيحُ ليست ليست باللَّواتي تقودُها... نُجومٌ.................
وورد في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦١، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٦ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٢، و"ابن عطية" ٩/ ١٦٣، و"ابن الجوزي" ٥/ ٧٢، و"القرطبي" ١٠/ ٣٠٣، و"اللسان" (دلك) ٣/ ١٤١٢، و"تفسير أبي حيان" ٦/ ٦٨، وفي "اللسان" (صبح) ٤/ ٢٣٨٩: المصباح من الإبل: الذي يبرك في معرَّسه فلا ينهض حتى يصبح وإن أثير، وقيل: المِصْبَحُ والمِصْباح من الإبل: التي تُصبحُ في مبركها لا ترعى حتى يرتفع النهار، وهو مما يستحب من الإبل؛ وذلك لقوتها وسمنها. والمقصود هنا: أنها من الشبع لا تبالي ألَّا ترحل، (الآفلات): الغائبات.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٤ بمعناه من طريق سالم، وابن أبي شيبة ٢/ ٤٤ بمعناه من طريق نافع، و"الطبري" ١٥/ ١٣٥ بمعناه من طريق نافع، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨١ بمعناه من طريقها، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٠، بنحوه من طريق سالم.
(٤) داود بن الحصين، أبو سليمان المدني، مولى عثمان بن عفان، محدّث مشهور، ثقة إلا في عكرمة، رُمي برأي الخوارج، روى عن أبيه والأعرج، وعنه: إسحاق ومالك، مات سنة (١٣٥ هـ). =
429
دلوكها إذا فاء الفيء (١).
وقال في رواية عطاء: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ يريد لزوالها (٢)، ونحو هذا روى مجاهد عنه، وهذا قول الحسن وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة (٣).
ويدل على هذا ما روي عن جابر أنه قال: طعم عندي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "هذا حين دلكت الشمس" (٤).
= انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٤٠٨، و"ميزان الاعتدال" ٢/ ١٩٥، و"الكاشف" ١/ ٣٧٩، و"تقريب التهذيب" ص١٩٨ (١٧٧٩).
(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٢/ ٤٤) بنصه من هذه الطريق، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٤ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٢) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩ - بمعناه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٣٥ بلفظه من طريق الشعبي، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٥٠٨ - بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٤ وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٨ بمعناه، وأخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٤ - بمعناه عن قتادة وعطاء، وابن أبي شيبة ٢/ ٤٥، بلفظه عن الشعبي، وبنحوه عن مجاهد، و"الطبري" ١٥/ ١٣٥ بلفظه عن الشعبي عن ابن عباس والحسن وقتادة، وبنحوه عن مجاهد، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨١ بلفظه عن الشعبي عن ابن عباس، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٠ بمعناه عن قتادة والشعبي عن ابن عباس، و"الثعلبي" ٧/ ١١٦ أبلفظه عن مجاهد والحسن وعطاء، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٢ - بلفظه عن الشعبي عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٨، عن الحسن ومجاهد وقتادة.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٣٧، بنحوه، من طريق ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر -رضي الله عنه- قال: دعوت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اخرج يا أبا بكر قد دلكت الشمس"، فيه=
430
وروى جماعة عن ابن مسعود أنه قال حين غربت الشمس: هذا والذي نفسي بيده وقت الصلاة حين دلكت الشمس، ثم قال: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ (١).
وروى زِرّ بن حُبَيْش (٢) أن عبد الله بن مسعود قال: دلوك الشمس غروبها (٣)، وقال علي -رضي الله عنه-: دلوك الشمس غيبوبتها (٤)، وهذا قول ابن عباس
= رجل مجهول، وأخرجه -كذلك- من طريق الأسود بن قيس عن نُبيح العَنزي عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحوه. ورجاله ثقات، لكن الطبري لم يجزم بصحته؛ حيث قال في ترجيح هذا القول: وبذلك ورد الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان في إسناد بعضه بعض نظر، وقال بعد إيراد هذه الأخبار: فإذا كان صحيحًا ما قلنا بالذي به استشهدنا.. ، وقد استشهد بالحديث كذلك: "ابن عطية" ٩/ ١٦١، و"ابن الجوزي" ٥/ ٧٢، و"أبي حيان" ٦/ ٧٠، و"ابن كثير" ٣/ ٦١، والحديث ضعيف.
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٤ بمعناه، وابن أبي شيبة ٢/ ٤٥، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ١٣٤، بنحوه من طرق، والطبراني في "الكبير" ٩/ ٢٦٢، بنحوه من عدة طرق، والحاكم: التفسير، الإسراء٢/ ٣٦٣، بنحوه وصححه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٦ أ، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٤ وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق.
(٢) أبو مريم زِر بن حبيش الأسدي الكوفي، ثقة جليل مخضرم، سمع عمر وعليًّا -رضي الله عنهما- وعنه: عاصم بن أبي النجود والشعبي، مات سنة (٨٢ هـ) وله (١٢٧) سنة. انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٦٢٢، و"الكاشف" ١/ ٤٠٢، و"تقريب التهذيب" ص ٢١٥ (٢٠٠٨).
(٣) أخرجه الطبراني في "الكبير" ٩/ ٢٦٣ بلفظه من هذه الطريق، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨١، و"تهذيب اللغة" (دلك) ٢/ ١٢٢٠، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٦، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٠، و"هود الهواري" ٢/ ٤٣٦، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٢، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٨.
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة (٢/ ٤٥) عنه بمعناه، قال: دلوكها غروبها، وانظر: "تفسير أبي حيان" ٦/ ٧٠ - بمعناه، وأورده السيوطي في "الدرالمنثور" ٤/ ٣٥٤ بمعناه =
431
في رواية سعيد بن جبير، وإبراهيم والسدي وابن زيد (١)، وهذا قول المفسرين واختلافهم.
وأما المحققون من أهلِ اللغة: فإنهم ذهبوا إلى أن دلوك الشمس ميلها في الوقتين.
قال الزجاج: دلوك الشمس زوالها ومَيْلها في وقت الظهر، وكذلك ميلها للغروب، وهو دلوكها أيضًا (٢).
وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها عند العرب (٣).
وقال الأزهري: القول عندي في دلوك الشمس أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، والمعنى: أقم الصلاة؛ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى والعصر وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: ﴿قُرْآنَ الْفَجْرِ﴾، فهذه خمس صلوات، وإذا جعلت الدلوك: الغروب، كان الأمر في الآية مقصورًا على ثلاث صلوات.
= وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وفي جميع النسخ: (غببوبته) مذكرًا، وحقها التأنيث؛ لأن الضمير يعود على الشمس وهي مؤنثة.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٣٤ بمعناه عن ابن عباس من طريق مجاهد (صحيحة)، وابن زيد، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٦٢ - بمعناه عن ابن عباس وابن زيد، و"الطوسي" ٦/ ٥٠٨ بمعناه عن ابن عباس وابن زيد، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٧٢، عنهم- ما عدا السدي، و"الخارن" ٣/ ١٧٤، عن إبراهيم والسدي.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٥، بنصه.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٠، بنصه.
432
قال: ومعنى الدلوك في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أقلت: دالكة؛ لأنها في الحالتين زائلة، انتهى كلامه. (١) واللام في قوله: ﴿قُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ لام الأجل والسبب؛ وذلك أن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس، فيجب على الصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس.
وقوله تعالى: ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾، غسق الليل: سواده وظلمته، قاله الفراء والزجاج وأبو عبيدة وابن قتيبة (٢).
قال الكسائي: غسق الليل غسوقًا، والغسق الاسم بفتح السين (٣).
وقال ابن شميل: غَسقُ الليلِ دخولُ أولِه، وأتيته حين غسق الليل، أي حين يختلط وَيسُدُّ المناظر (٤).
وقال الفراء في المصادر: أغسق الليل إغساقًا وغسق غسوقًا (٥).
(١) "تهذيب اللغة" (دلك) ٢/ ١٢٢٠ بتصرف يسير. وقد رجح الطبري هذا القول، قائلاً: وأولى القولين بالصواب قول من قال: عني بقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾: صلاة الظهر؛ وذلك أن الدلوك في كلام العرب: الميل. ثم قال: فإذا كان معنى الدلوك في كلام العرب هو الميل، فلا شك أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء، فقد مالت للغروب، وذلك وقت صلاة الظهر، وكذلك رجحه البغوي ٥/ ١١٤، و"ابن عطية" ٩/ ١٦٢، وذهب بعضهم إلى أن اللفظ يشمل الأمرين؛ لأن أصل الدلوك في اللغة هو الميل، والشمس تميل عند زوالها وغروبها، فلذلك انطلق على كل واحدٍ منهما. انظر: "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٦٣.
(٢) جاء بنحوه في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٥، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٨٨، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦١.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٢٦، و"أبي حيان" ٦/ ٦٨، و"القرطبي" ١٠/ ٣٠٤ بلا نسبة.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (غسق) ٣/ ٢٦٦٤، بنصه.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٠٤، و"أبى حيان" ٦/ ٦٨.
433
وقال الزجاج في باب الوفاق: غسق الليل وأغسق (١).
وأصل هذا الحرف من السَّيَلان، قال أبو زيد: غَسَقت العينُ تَغْسِقُ، وهو هَملانُ العينِ بالغَمَص والماء (٢)، والغاسق السائل، وأنشد شمر:
أبْكي لِفَقْدِهِمُ بِعَيْن ثَرَّةٍ تَجْرِي مَسَارِبُها بِعَيْنٍ غاسقٍ (٣)
أي سائل، وليس من الظلمة في شيء، ومن هذا قيل لما يسيل من أهل النار: الغَسَّاق، فمعنى غسق الليل: أي انصب بظلامه، وذلك أن الظلمة تنزل من فوق.
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: الغَسَقان: الانْصِبَابُ، وغَسَقَتِ السماء: أرشَّتْ (٤).
ومنه قول عُمرَ حين غسقَ الليلُ على الظِّرابِ (٥)، أي انصَّبَ الليلُ على الجبال (٦).
وأما قول المفسرين؛ فقال ابن عباس: غسق الليل: اجتماع الليل وظلمته (٧). وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما غسق الليل؟ قال: أوله حين
(١) "فعلت وأفعلت" ص ٦٩، بنحوه
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (غسق) ٣/ ٢٦٦٤، بنصه.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (غسق) ٣/ ٢٦٦٤، و"اللسان" (غسق) ٦/ ٣٢٥٥.
(٤) الراء والشين أصلٌ واحد يدلّ على تفريق الشيء، والرشُّ يكون للماء والدم والدمع، ويقال: رشَّت السماءُ وأرشت، وكذلك أرشّت الطعنةُ الدم، وأرشّت العينُ الدمع. انظر: "مقاييس اللغة" ٢/ ٣٧٣، و"اللسان" (رشش) ٣/ ١٦٥٠.
(٥) ورد أثر عمر -رضي الله عنه- في: "النهاية" ٣/ ١٥٦، و"اللسان" (ظرب) ٥/ ٢٧٤٥، (غسق) ٦/ ٣٢٥٥. والظِّراب: جمع ظَرِبٍ بوزن كَتِفٍ، وهي الروابي الصغار. قال الليث: الظَربُ من الحجارة ما كان ناتئًا في جبلٍ أو أرض خَربةٍ
(٦) ورد في"تهذيب اللغة" (غسق) ٣/ ٢٦٦٤، بنصه.
(٧) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٢ بنصه، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٦ =
434
يدخل (١)
وقال ابن مسعود: غسق الليل إظلام الليل (٢).
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس: ما الغسق؟ قال: دخول الليل بظلمته، وأنشد بيت زهير:
ظلَّتْ تَجُوب يَدَاهَا وهي لاهِيَةٌ حتى إذا جَنَحَ الإظلامُ والغَسَقُ (٣) (٤)
وقال الأزهري: غسق الليل عندي: غَيْبُوبةُ الشَّفق الأحمر حين تحِلُّ صلاةُ عِشاء الآخرة، يدل على ذلك سِيَاقُ الآية في الأمر بالصلوات الخمس، فيدخل الظهر والعصر والمغرب والعشاء في قوله: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ قال ابن عباس: يريد صلاة الصبح (٦)، وكذلك قال ابن مسعود ومجاهد ومسروق وقتادة وجميع
= بنصه، انظر: "تفسير ابن العربي" ٣/ ١٢١٩، و"القرطبي" ١٠/ ٣٠٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٤ وعزاه إلى ابن المنذر.
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٤ بنصه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٢٧.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣١.
(٣) لم أجده في ديوانه، وورد في: "إيضاح الوقف والابتداء" ١/ ٨٩، و"الإتقان" ٢/ ٨٦، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٥٤، وبرواية تجود في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٦٣، و"القرطبي" ١٠/ ٣٠٤، و"أبي حيان" ٦/ ٦٨، و"شرح القصائد السبع الطوال" ص ٥٥٩ بلا نسبة.
(٤) ورد في "إيضاح الوقف والابتداء" ١/ ٨٩، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٢٧، و"أبي حيان" ٦/ ٦٨ بدون الشعر فيهما، و"الإتقان" ٢/ ٨٦، و"تفسير الآلوسي" ١٥/ ١٣٢، و"مسائل ابن الأزرق" [ذيل الإعجاز البياني لبنت الشاطئ] ص ٥٧٤.
(٥) "تهذيب اللغة" (غسق) ٣/ ٢٦٦٤، بتصرف.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٤٠، بنصه من طريق العوفي (ضعيفة)، وأورده في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٥.
435
٧٩ - قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ﴾، أصل معنى الهجود في اللغة النوم (١)، وهو معروفٌ كثيرٌ في الشعر، وأهجدته وهجدته أي أنمته، ومنه قول لبيد قال:
هجِّدْنا فقد طال السُّرى (٢)
كأنه قال: نَوِّمْنَا فإن السُّرى قد طال علينا النوم، هذا هو الأصل، وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة: الهاجد النائم، والهاجد: المصلِّي بالليل (٣).
وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي: هجَّد الليلَ الرجلُ إذا صلى من الليل، وهَجَّد: إذا نام بالليل، قال: والمتهجد يكون مصليًا ويكون
(١) انظر: (هجد) في "المحيط في اللغة" ٣/ ٣٧٠، و"الصحاح" ٢/ ٥٥٥، و"اللسان" ٨/ ٤٦١٦.
(٢) وتمامه:
قال هَجِّدْنا.............. وقَدَرْنَا إن خَنَا الدَّهْرِ غَفَل
"شرح ديوان لبيد" ص ١٨٢، وورد في: "الأضداد" لابن السِّكِّيت [ثلاثة كتب في الأضداد] ص ١٩٤، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٨٩، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٦، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٥١، و"تهذيب اللغة" (هجد) ٤/ ٣٧١٦، و"الصحاح" (هجد) ٢/ ٥٥، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٥١١، و"تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٧٤، و"اللسان" (هجد) ٤/ ٤٦١٦ (خنا) ٣/ ١٢٨٣، (السُّري): سير الليل عامة، (قدرنا): أي وقدرنا على ورود الماء، وذلك إذا قربوا منه، (الخنى): الآفة والفساد، أي إن غفل عنا فساد الدهر فلم يعقنا، وقيل قدرنا: أي على التهجد، وقيل: على السير، والشاعر يصف نفسه بالجلد في السفر وكثرة السهر حتى تأذى رفيقه بذلك وقال له: خلنا ننام ونسحريح، قد قدرنا على ما نريد ووصلنا إلى ما نحب إن غفل عنا الدهر ولم يفسد علينا أمرنا.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) ٤/ ٣٧١٦، بنصه.
436
نائماً (١).
وروى عمرو عن أبيه قال: هَجد وهَجَّد: إذا قام مصلِّيًا، وهَجَد: إذا نام (٢)، وقال الليث: تهجد إذا استيقظ اللصلاة (٣).
وقال ابن بُزُرْج: هَجّدْتُه: أيقظته (٤)، وهذا قول أهل اللغة (٥) في تفسير هذا الحرف، وعلى ما ذكروا هو من الأضداد (٦)؛ كما بَيّنا، وأجاد الأزهري في تفسير التهجد فقال: المعروف في كلام العرب: أن الهاجد: النائم، وقد هجد هجودًا إذا نام، وأما المتهجِّد فهو القائم إلى الصلاة من النوم، وكأنه قيل له: متهجد؛ لإلقائه الهجود عن نفسه؛ كما قيل للعابد: متحنث؛ لإلقائه الحِنْثَ عن نفسه، وهو الإثم (٧)، وعلى ما ذكر، التهجد: بمعنى الصلاة، هو من باب تَحَرَّج وتأثَّم وتحوَّب، وهو ترك الهجود، ثم صار بمعنى الصلاة لمّا كان المصلي بالليل يترك النوم.
قال ابن عباس في قوله: ﴿فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾ فَصَلِّ بالقرآن (٨)، وقال مجاهد: التهجد: بعد النوم (٩)، وهذا قول عبد الرحمن بن الأسود (١٠)
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) ٤/ ٣٧١٦، بنصه تقريبًا.
(٢) و (٣) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) ٤/ ٣٧١٦، بنصه.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (هجد) ٤/ ٣٧١٦ بلفظه، انظر: "تفسير الألوسي" ١٥/ ١٣٨.
(٥) في (أ)، (د): (الليل)، وهو خطأ ظاهر، والمثبت من (ش)، (ع) هو الصواب.
(٦) انظر: "ثلاثة كتب في الأضداد": للأصمعي ص ٤٠، والسجستاني ص ١٢٣، وابن السكت ص ١٩٤، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٥٠.
(٧) "تهذيب اللغة" (هجد) ٤/ ٣٧١٦، بنصه.
(٨) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٧٤، بنصه.
(٩) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٧٤، بنصه.
(١٠) عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو حفص، ثقة، روى عن أبيه =
437
المفسرين (١)، وانتصابه على أنه معطوف بالعطف على الصلاة في قوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ قاله الفراء (٢) والزجاج، قال الزجاج: أي: وأقم قرآن الفجر، قال: وفي هذا الموضع فائدة عظيمة؛ تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة؛ لأنه قال: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾، وأقم قرآن الفجر، فأمر أن يقيم الصلاة بالقراءة، حيث سميت الصلاة قرآنًا، فلا تكون صلاةٌ إلا بقراءة؛ انتهى كلامه (٣).
وقوله تعالى: ﴿إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِكَانَ مَشْهُودًا﴾، كلهم قالوا: صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار (٤).
وروى أبو هريرة أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح"، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: ﴿قُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ الآية. (٥)
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٦٨ بنصه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٣٩ - ١٤٠، عنهم - عدا مسروق، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٥ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩، بمعناه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٥، بنصه.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ١٣٩، و"ابن عطية" ٩/ ١٦٦.
(٥) وطرف الحديث: "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل.. " الحديث، أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ١/ ٥٢٢ بنصه، وأحمد ٢/ ٤٧٤، بنحوه، والبخاري (٤٧١٧) كتاب: التفسير، سورة الإسراء، باب: قوله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ...﴾ بنصه، ومسلم (٦٤٩/ ٢٤٦) كتاب: المساجد، فضل الجماعة، وابن ماجه (٦٧٠) كتاب: مواقيت الصلاة؛، وقت الصلاة الفجر، بنحوه، والترمذي (٣١٣٥) كتاب: التفسير، الإسراء، بنحوه وقال: حسن صحيح، والنسائي: الصلاة، فضل الصلاة الجماعة =
438
وقال ابن مسعود: يتدارك الحارسان؛ حارس الليل وحارس النهار من الملائكة في صلاة الفجر، وإن شئتم فاقرءوا: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ (١).
وقال الكلبي: ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الغداة خلف الإمام، تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة قبل أن تعرج ملائكة الليل، فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار، فتقول ملائكة الليل إذا صعدت إلى ربها: ربنا إنا تركنا عبادك يصلون لك، ويقول الآخرون: ربنا أتينا عبادك وهم يصلون، فيقول الله لملائكته: اشهدوا أني قد غفرت لهم (٢)، وهذا معنى قول ابن عباس، ويريد أن ذلك كفارة لما صنعت، وفي هذا أيضًا دليل على أن السُنَّة التبكير بهذه الصلاة؛ لأنه إنما يشهدها القبيلان من الملائكة إذا بُكِّرَ بها، فإذا لم يُبَكَّر بها في أول الفجر كانت ملائكة الليل قد عرجت فلم تشهدها، والسُنَّة أن يصلى في الوقت الذي يشهدها القبيلان جميعًا.
= ١/ ٢٤١ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ١٤١، بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٣، بنحوه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ، بنصه، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٥٥ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٤١، بنحوه، والطبراني في "الكبير" ٩/ ٢٦٥، بنحوه، وورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٣٧، بنحوه، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٥٥ وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(٢) لم أقف عليه، وقد ورد بهذا المعنى حديث صحيح مشهور، رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وطرفه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار..) أخرجه البخاري (٥٥٥) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاتى العصر، ومسلم (٦٣٢) كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر.
439
وعلقمة وإبراهيم وجميع المفسرين (١).
قال الحجاج بن عمرو المازني (٢): أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد؟! إنما التهجد: الصلاة بعد رقدة ثم صلاة بعد رقدة ثم صلاة بعد رقدة، وتلك كانت صلاة (٣) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (٤)، وهذا يدل على صحة قول الأزهري في تفسير التهجد، حيث لم يجعلوا الساهر ليله كله متهجدًا، وجعلوا التهجد بعد النوم، ولو كان ضدًا للنوم لكان الساهر جميع ليله متهجدًا.
= وعلقمة، وعنه الأعمش وهارون بن عنترة، مات سنة (٩٩ هـ)، انظر: "الجرح والتعديل" ٥/ ٢٠٩، و"الكاشف" ١/ ٦٢١ (٣١٤١)، و"تقريب التهذيب" (٣٨٠٣).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٤١ - ١٤٢ بنصه من طرق عنهم، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٣ بنصه عن علقمة والأسود، و"تفسير الجصاص" ٧/ ٢٠٣ بنصه عن الأسود وعلقمة، و"الثعلبي" ٧/ ١١٧ أبنصه، و"الطوسي" ٦/ ٥١١ بنصه عن الأسود وعلقمة، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٦١، عنهم، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٥ وزاد نسبته إلى ابن المنذر ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة عن علقمة والأسود.
(٢) الحجاج بن عمرو المازني الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه-، له صحبة، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثين؛ أحدهما في الحج والآخر في التهجد، وهو الذي ضرب مروان يوم الدار -يوم حصر عثمان -رضي الله عنه- في داره- فأسقطه، وشهد صفين مع علي.
انظر: "الاستيعاب" ١/ ٣٧٨، و"أسد الغابة" ١/ ٦٩٢، و"الإصابة" ١/ ٣١٣، و"تقريب التهذيب" ص ١٥٣ (١١٣٢).
(٣) ساقطة من (د).
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٤٢ مختصرًا، وورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٧ بنصه، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٤٢ و"الفخر الرزي" ٢١/ ٣٠، و"القرطبي" ١٠/ ٣٠٨، و"الألوسي" ١٥/ ١٣٨.
440
وقوله تعالى: ﴿بِهِ﴾ قالوا: بالقرآن نافلة لك، معنى النافلة في اللغة: ما كان زيادة على الأصل، ذكرنا هذا في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾، ومعناها أيضًا في هذه الآية: الزيادة.
قال مجاهد: النافلة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- خالصة؛ من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهي نافلة له، من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل له خاصة وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتهم فليس لهم نوافل (١).
وقال السدي: نافلة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليست لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا إنما نعمل لكفاراتها (٢)، وهذا قول أكثر المفسرين.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٤٣ بنصه، والبيهقي في "الدلائل" ٥/ ٤٨٧ بنصه تقريبًا، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٤، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٠ مختصرًا، و"الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ، بنحوه، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٤ مختصرًا، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢ مختصرًا، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٦ وزاد نسبته إلى ابن المنذر ومحمد بن نصر، ولم ير الطبري هذا القول، ورده وحكم عليه بالفساد، وقال: لا معنى له؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر عنه- أكثر ما كان استغفارًا لذنوبه بعد نزول قول الله عز وجل: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢]، وكان يعد له في المجلس الواحد استغفار مئة مرة، ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك. ا. هـ. نعم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الاستغفار، لكن لا على أنه استغفار من الذنوب كذنوبنا، بل كما قال: "إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" رواه مسلم (٢٧٠٢) كتاب: الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار، قال ابن الأثير: الغين: الغيم، أراد ما يغشاه من السّهو الذي لا يخلو منه بشر؛ لأن قلبه أبدًا كان مشغولًا بالله تعالى. "النهاية" ٣/ ٤٠٣.
(٢) انظر: تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٣٠، بنحوه، و"أبي حيان" ٦/ ٧١.
441
قال أبو أمامة: إنما النافلة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- (١).
وقال الحسن: لا تكون نافلة إلا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- (٢).
وقال ابن عباس خاصة (٣)، وهذا كله مما ذكره مجاهد والسدي: أن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- للدرجات لا للكفارات.
ولا يدل قوله: ﴿نَافِلَةً﴾ على أنها لم تكن واجبة عليه، فقد روى عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾ يريد فريضة عليك زائدة على الفرائض خُصِصتَ بها من بين أمتك (٤)، هذا الذي ذكرنا مذهب أكثر أهل التفسير (٥).
وذهب قوم إلى أن معنى النافلة: التطوع الذي يتبرع به الإنسان، وقالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة عليه ثم نُسخت عنه فصارت نافلة، أي تطوعًا وزيادة على الفرائض يتبرع بها، وهو قول قتادة والمبرد وعبد الله بن
(١) أخرجه الطيالسي ص ١٥٥ بنصه تقريبًا، و"الطبري" ١٥/ ١٤٣ بنصه، والطبراني في "الكبير" ٨/ ١٤٥، بنصه، والبيهقي في الشعب ٣/ ٢٨، بنصه، وورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٧ بنصه، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٠ - بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٦ وزاد نسبته إلى ابن نصر وابن مردويه.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٧٥، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٦ وعزاه إلى محمد بن نصر.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ- بلفظه، انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٤.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٤٢، بنحوه من طريق العوفي (ضعيفة)، ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ، بنحوه، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٤ - مختصرًا، و"الطوسي" ٦/ ٥١١، بنحوه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٥ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ١٤٢ - ١٤٣ ورجحه، و"هود الهواري" ٢/ ٤٣٧، و"الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ، و"السمعاني" ٣/ ٢٦٩، و"البغوي" ٥/ ١١٥.
442
مسلم (١) وانتصب نافلة بوقوع التهجد عليه؛ لأن معى التهجد: صل بالليل نافلة، أي صلاة نافلة.
وقوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ﴾ قال ابن عباس: عسى من الله واجب (٢)، وكذلك قال المفسرون كلهم في عسى من الله (٣).
قال أهل المعاني: وإنما كان كذلك لأن معنى عسى في اللغة: التقريب والإطماع، ومَنْ أطمع إنسانًا في شيء ثم حَرَمَه كان غارًّا، والله أكرم من أن يُطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك (٤).
قوله تعالى: ﴿مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة (٥)؛ كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: "هو المقام الذي أشفع فيه
(١) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦١ قال: تطوعًا، وأخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٦، و"الطبري" ٨/ ١٣٠، عن قتادة، قال: تطوعًا وفضيلة لك، وورد عن قتادة -كروابة الطبري- في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٧، و"الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٦ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم ومحمد بن نصر عن قتادة.
(٢) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٥، بنحوه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ١/ ٤٣٨ بنصه، وعزاه إلى ابن المنذر والبيهقي في سننه.
(٣) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٨ ب، و"الطبري" ١٤٣/ ١٥، و"هود الهواري" ٢/ ٤٣٧، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢.
(٤) ورد نحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٤٣، و"الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٣١، و"الخازن" ٣/ ١٧٥.
(٥) انظر: "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٩، و"تفسير مقاتل" ١/ ٢١٨ ب، و"عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٦، و"الطبري" ٨/ ١٣١ - ١٣٢، و"هود الهواري" ٢/ ٤٣٧، و"الثعلبي" ٧/ ١١٧ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٥، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢، وأورده السيوطي في =
443
لأمتي" (١)، رواه أبو هريرة.
قال ابن عباس: عسى من الله واجب، يريد أعطاك الله يوم القيامة مقامًا محمودًا يحمدك فيه الأولون والآخرون، تَشْرُف فيه على جميع الخلائق، وتَسأل فتُعطى وتَشفع فتُشَفَّع، ليس أحدٌ إلا تحت لوائك (٢)
وروي عن مجاهد في تفسير قوله: ﴿يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ قال: يجلسه معه على العرش (٣).
وروي عن ابن مسعود أنه قال في هذه الآية: يقعده على العرش (٤)،
= "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٦ - ٣٥٩ بعدة روايات عن: ابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وكعب بن مالك وحذيفة وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وسلمان -رضي الله عنهم-.
(١) أخرجه ابن أبي شيبة ٦/ ٣٢٣ بمعناه، وأحمد ٢/ ٤٤١، ٥٢٨ بنصه، والترمذي (٣١٣٧) كتاب: التفسير، باب: ومنه سورة بني إسرائيل. بمعناه وحسنه، و"الطبري" ١٥/ ١٤٦ بنصه، والبيهقي في "الدلائل" ٥/ ٤٨٤ - بمعناه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٥، بنصه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٦ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه. والحديث ضعيف- كما قال شاكر في "شرح المسند" ٩/ ٢٠٤ - لضعف داود الأَوْديّ الذي روى الحديث عن أبيه عن أبي هريرة، وقد ضعفه كثير من العلماء، انظر: ترجمته في "ميزان الاعتدال" ٢/ ٢١١، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٥٧٢.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٤، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٧٢، و"تنوير المقباس" ص ٣٠٤.
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة ٦/ ٣٠٨، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ١٤٥ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٨ أبنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٥، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢١، و"ابن الجوزي" ٥/ ٧٦، و"العلو" للذهبي ص ٩٤.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٨ أبنصه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٧٦، و"العلو" للذهبي ص ٧٥.
444
وهذا تفسير فاسد وقول رذل، وقول مجاهد: معه، قولٌ موحش فظيع، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير؛ وهو قوله: ﴿يَبْعَثُكُمْ﴾ والبعث لا يكون بمعنى الإجلاس، ومن فَسَّر البعث بالإجلاس فقد فَسَّره بضد ما وُضع له؛ لأن البعث وضع للإثارة؛ يقال: بعثت المبارك والقاعد فانبعث، هذا هو الأصل، ثم يقال: بعث الله الميت، وبعث بمعنى أرسل راجع إلى هذا، لأنه يقيمه إلى ما يرسله إليه وله، ولأن الله تعالى قال: ﴿مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ ولم قل: مقعدًا، والمقام موضع القيام، يدل على هذا قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧]، وهو موضع قدميه في حال قيامه، وقول الشاعر:
هذا مقام قدمي رباح (١)
وإذا فسد هذا الفساد الظاهر لم يُعتد به (٢).
(١) سبق.
(٢) لقد أجاد الواحدي -رحمه الله- في رد هذا القول، لكن الغريب أن الطبري -مع ترجيحه لقول الجمهور- لم يستنكر هذا القول، بل قال: إن ما قاله مجاهد قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. "تفسير الطبري" ١٥/ ١٤٧، ومعلوم أن عدم ورود الخبر عن المعصوم بذلك يكفي لإبطال هذا القول لا العكس، ولأن هذا الخبر غيبي عقدي فلا يثبت إلا بالخبر الصحيح ولا يجدي النظر في إثبات هذه القضية، لذلك لا محيد عن قول الجمهور في هذه القضية، وهو الذي أيّدته الأخبار الصحيحة، وكذلك الأخبار التي اعتمد عليها الطبري في تسويغ الجلوس لا تثبت؛ فقد ردها علماء الحديث، وفي مقدمتهم الذهبي، فقد أورده في "العلو" ص ٧٥ من طريقين عن أحمد بن يونس عن سلمة الأحمر عن أشعث بن طليق عن ابن مسعود بنحوه، ثم قال: هذا حديث منكر لا يفرح به، وسلمة هذا متروك الحديث، وأشعث لم يلحق ابن مسعود، وذكر الذهبي للأثر شاهدًا بنحوه عن عبد الله بن سلام موقوفًا عيه، وقال: هذا كوقوف ولا =
445
وفي القول الذي عليه الناس معنى قوله: ﴿يَبْعَثَكَ﴾ يقيمك في ذلك
= يثبت إسناده، وإنما هذا شيء قاله مجاهد. كما أن له شاهدًا آخر من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في "الكبير" ١٢/ ٦١ - بنحوه، من طريق ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن ابن جبير عن ابن عباس، وأورده الهيثمي في "المجمع" ٧/ ٥١ وقال: وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف إذا لم يتابع، وعطاء بن دينار قيل لم يسمع من سعيد بن جبير.
أما أثر مجاهد فقد أورده الذهبي في "العلو" ص ٩٤ وقال: لهذا القول طرق خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره، وعمل فيه المروزي مصنفًا. وفي سند الطبري ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف مختلط- كما في "ميزان الاعتدال" ٣/ ٤٢٠، وهذا الأثر مما أُنكر على مجاهد حتى قُرن في ترجمته، قال الذهبي في ترجمة مجاهد في "ميزان الاعتدال" ٤/ ٣٥٩: ومن أَنْكَر ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ قال: يُجلسه معه على العرش. وقال ابن عبد البر: مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم؛ أحدهما هذا القول، والثاني في تأويل ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣] قال: معاه تنتظر الثواب. انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣١١، و"أبي حيان" ٦/ ٧٢، والشوكاني ٣/ ٣٦٠.
فالحديث باطل لا يثبت لا من جهة الخبر ولا النظر، والأغرب من قول الطبري تشبث بعض المحدثين بهذا الخبر والمبالغة في قبوله إلى حد الغلو، فقد ذكر الذهبي في "العلو" ص ١٠٠ - ١٠١ - ١١٧ - ١١٨ أن بعض المحدثين قال: لو أن حالفًا حلف بالطلاق ثلاثًا أن الله يقعد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على العرش واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت! وعقب الذهبي قائلاً: فابصر -حفظك الله من الهوى- كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر.. ، وذكر النقاشر عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكرَ هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا. انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٧١، و"القرطبي" ١٠/ ٣١١، و"أبي حيان" ٦/ ٧٢، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٦٥ حاشية رقم (٤٤٩)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" رقم (٨٦٥) ٢/ ٢٥٥.
446
المقام، يدل على هذا ما رُوي في حديث الشفاعة: ".. فأكون أول من يدعى وأول من ينادى فأقول: لبيك وسعديك.. " الحديث (١).
وانتصب قوله: ﴿مَقَامًا﴾ على الظرف؛ كأنه قيل في مقام.
وقوله تعالى: ﴿مَحْمُودًا﴾ يجوز أن يكون انتصابه على الحال مِنْ ﴿يَبْعَثَكَ﴾، أي: يبعثك محمودًا يحمدك فيه الخلق، وبجوز أن يكون نعتًا في اللفظ، وهو في المعنى لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، تقديره: مقامًا محمودًا فيه أنت، ويدل على هذا الوجه ما رُوي في الحديث: "وابعثه المقام المحمود حتى يغبطه به الأولون والآخرون" (٢)، والمعنى: ابعثه المقام المحمود فيه هو.
(١) أحاديث الشفاعة كثيرة وبعدة روايات في الصحيحين وغيرهما، لكني لم أقف على حديث بهذا اللفظ، وأقرب لفظ وجدته حديثان؛ أحدهما: موصول، والآخر: مرسل، أما الحديث الموصول، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: (يُجْمَعُ الناس في صعيد، فلا تكلم نفسٌ، فأول من يتكلم محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك.. قال حذيفة: فذلك المقام المحمود) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٧، وابن أبي شيبة ٦/ ٣٢٣، ٧/ ١٥٣، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٦٦٠، والبزار [البحر الزخار] ٧/ ٣٢٩، و"الطبري" ١٥/ ١٤٤، والحاكم: التفسير/ الإسراء ٢/ ٣٦٣ وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ووإفقه الذهبي، وأبو نعيم في "الحلية" ١/ ٢٧٨، وأورده الهيثمي في "المجمع" ١٠/ ٣٧٧ وقال: رواه البزار موقوفًا ورجاله رجال الصحيح، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٥٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والخطيب في المتفق والمفترق. أما الحديث المرسل؛ فأخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٧، عن معمر عن الزهري عن علي بن الحسين، أن النبي قال: (إذا كان يوم القيامة مدّ الله الأرض مد الأديم.. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها..) الحديث.
(٢) لم أجد حديثًا بهذا اللفظ، وأقرب لفظ لهذا الحديث ما ورد في فضل الدعاء عند النداء، وروايته: عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال حين يسمع =
447
٨٠ - قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ الآية. روى قابوس (١) عن أبيه عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بمكة، ثم أُمر (٢) بالهجرهَ، وأُنزل عليه هذه الآية (٣)، فعلى هذا يريد ﴿أَدْخِلْنِي﴾: المدينهَ واصرفني من مكة، وهذا قول الحسن وقتادة (٤).
وقال الكلبي: هذا حين خرج من المدينة يريد الشام لقول اليهود،
= النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" أخرجه أحمد ٣/ ٣٥٤، والبخاري (٦١٤): الأذان، الدعاء عند النداء، والنسائي: الأذان، الدعاء عند الأذان ٢/ ٢٧، سنن البيهقي: الصلاة، ما يقول إذا فرغ من ذلك ١/ ٤١٠.
(١) قابوس بن أبي ظِبْيان بالكسر والفتح، وأبو ظبيان والده هو حُصين بن جُنْدب الجَنْبي الكوفي، ضعيف الحديث، قال أبو حاتم: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ؛ ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، وربما رفع المراسيل وأسند الموقوف، روى عنه الثوري وجرير، مات سنة (١٢٩ هـ).
انظر: "المجروحين" لابن حبان ٢/ ٢١٥، و"الجرح والتعديل" ٧/ ١٤٥، و"الكاشف" ٢/ ١٢٦، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٢٨٧، و"تقريب التهذيب" (٤٤٩).
(٢) في (د): (أمرنا).
(٣) أخرجه الترمذي (٣١٣٩): التفسير، الإسراء ٥/ ٣٠٤ وقال: حديث حسن صحيح، و"الطبري" ١٥/ ١٤٨ - ١٤٩ بنصه (طريق ضعيفة لضعف قابوس)، وورد عند الثعلبي ٧/ ١١٨ ب بمعناه، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢ بمعناه، وأورده المصنف في "أسباب النزول" ص ٢٩٨ بلا سند عن الحسن، وورد في "لباب النقول" ص ١٣٩.
(٤) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٩، بنحوه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ١٤٩، بنحوه عنهما، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٥، عنهما، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨١، عن الحسن، و"الثعلبي" ٧/ ١١٨ ب، عنهما، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٦، عن قتادة، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢، بنحوه عنهما.
448
وقد ذكرنا القصة (١)، فقال الله له: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ يعنى المدينة، ﴿وَأَخْرِجْنِي﴾: (منها إلى مكة) (٢)، ﴿مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾، أي: افتحها، واختار الفراء هذا القول (٣).
وقال مجاهد: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مُدْخل صدق، وأخرجني منه مُخْرج صدق (٤)، ومُدخل بضم الميم مصدر الإدخال؛ يقال: أدخلته مُدخلاً، كما قال: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا﴾ [المؤمنون: ٢٩]، ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق: مزجهما؛ كأنه سأل الله تعالى إدخالًا حسنًا لا يرى فيه ما يكره، وكذلك الإخراج.
قال الليث: يقال: هذا رجل صدق، مضافٌ، بكسر الصاد، معناه: نِعْم الرجل هو، وامرأة صدق؛ كذلك (٥).
وذكرنا فيما تقدم أن موضوع (ص د ق) للصحة والكمال، فكأنه سأل الله أن يخرجه من مكة إخراجًا لا يلتفت إليها قلبُه، ويدخله المدينة إدخالًا يطمئن فيها قلبُه، ولذلك كان يدعو فيقول: "اللهم حبب إلينا المدينة كلما حببت إلينا مكة" (٦)، وكل شيء أضفت إلى الصدق، فقد مدحته وجودته.
(١) عند آية [٧٦].
(٢) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٢٩، وهو ما رجحه "الطبري" ١٥/ ١٥٠ وأيّده بالسياق.
(٤) "تفسير مجاهد" ص ٤٤١، بنحوه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٤٩، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٦ بمعناه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨١، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١١٨ ب، بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٦، بنحوه.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (صدق) ٢/ ١٩٩٠، بنصه.
(٦) أخرجه أحمد ٦/ ٥٦، والبخاري (١٨٨٩): فضائل المدينة، كراهية النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تُعْرَى المدينة، ومسلم (١٣٧٦): الحج، الترغيب في سكنى المدينة واللفظ له، =
449
وقوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ قال ابن عباس ومجاهد: أي حُجَّة بينة تنصرني بها على جميع من خالفني (١).
وقال الحسن وقتادة: ملكًا قويًا تنصرني به على من ناوأني، وعزًا ظاهرًا أقيم به دينك (٢)، وهذا معنى قول الحسن: اجعلني أقيم الحدود (٣)، وعلى هذا القول: سأل الله تعالى سلطان القدرة، وعلى القول الأول: سأل الحجة. وقد جمع بينهما أبو إسحاق فقال: أي اجعل نصرتي من عندك تسليطي بالقدرة والحجة.
وقد أجاب الله دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس فقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧]، وقال: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: ٥٦]، وقال: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (٤) [الصف: ٩]، وذهب
= والبيهقي: الجنائز، قول العائد للمريض: كيف نجدك ٣/ ٣٨٢، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٥٦٦، والبغوي في "شرح السنة" ٧/ ٣١٧، وكلهم عن عائشة، وكلهم -إلا مسلم- بلفظ: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة.. ".
(١) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٨ مختصرًا، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥١ مختصرًا عن مجاهد من طريقين، وورد مختصرًا عن مجاهد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٦، عن مجاهد، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٣٨، و"الثعلبي" ٧/ ١١٨ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٧، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢
(٢) أخرجه " الطبري" ١٥/ ١٥١ بمعناه عنهما، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٦ بمعناه عن الحسن، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٨ ب بنصه عن الحسن، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٧ بمعناه عن قتادة، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢ بمعناه عنهما، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٢ بنصه عن الحسن.
(٣) ورد في "تفسر الماوردي" ٣/ ٢٦٧ بمعناه، انظر: "تفسير أبي حيان" ٦/ ٧٣، وفييما تقيد إقامة الحدود على المنافقين، وفيه نظر!
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٧، بنصه.
450
الكلبي أيضًا إلى سلطان القدرة، فَفسَّر السلطان النصير هاهنا بِعَتَّاب بن أَسيد حين استعمله نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة، فاشتد عليهم وقال: لا يبلغني من محتلم ترك الصلاة إلا ضربت عنقه (١).
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١].
٨١ - قوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ قال المفسرون في شى ﴿وَزَهَقَ﴾: بطل واضمحل (٢)، وأصله من قولهم: زَهَقَتْ نَفْسُه تَزْهَقُ زُهُوقًا، وأزهقتها أنا، أي: أهلكتها (٣)، فكأن معنى: ﴿وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾: خرج إلى الهلاك، قال الليث: وكل شيء هلك وبطل فقد زهق (٤).
واختلفوا في معنى الحق والباطل هاهنا؛ فقال السدي: الحق: الإسلام، والباطل: الشرك (٥).
وقال قتادة: الحق: القرآن، والباطل: الشيطان (٦).
(١) أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" ٤/ ٣٣٩ مختصرًا من طريق الكلبي عن ابن عباس، ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٨ ب، بنحوه، انظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٧٢، و"تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ٢/ ١٣٣، و"الإصابة" ٢/ ٤٥١.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (زهق) ٢/ ١٥٧١ بنصه، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٣٨ - بمعناه، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢، بنحوه.
(٣) انظر (زهق) في "المحيط في اللغة" ٣/ ٣٣٨، و"الصحاح" ٤/ ١٤٩٣، و"مجمل اللغة" ١/ ٤٤٣، و"اللسان" ٣/ ١٨٧٩.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (زهق) ٢/ ١٥٧١، بنصه.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ أبنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٢، بنصه.
(٦) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٩، بنصه، و"الطبري" ١٥/ ١٥٢ بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٦، و"الثعلبي" ٧/ ١١٩ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٧، وأورده السيوطي في "الدر" ٤/ ٣٦٠ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وقال ابن جريج: الحق: الجهاد والقتال، والباطل: الشرك وما هم فيه (١).
قال ابن عباس (٢): أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل مكة أن يقف على الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقول: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾.
وروي عن ابن مسعود أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون نُصُبًا، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾، فجعل الصنم ينكب لوجهه (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ قال ابن عباس: يريد كل ما كان من الشيطان كان خارجًا من الحق (٤).
٨٢ - قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (من) هاهنا ليست للتبعيض بل هو للجنس، [كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: ٣٠]، والمعنى: ﴿وَنُنَزِّلُ﴾: من هذا الجنس] (٥) الذي
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٢ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ أمقتصرًا على معنى الحق بنصه، والماوردي ٣/ ٢٦٧، بنصه.
(٢) في (أ)، (د)، (ش): (قال الله تعالى)، والصواب المثبت من (ع)
(٣) أخرجه بنحوه: "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٨، وابن أبي شيبة ٧/ ٤٠٣، عن جابر؛ والبخاري (٤٧٢٠) كتاب: التفسير، باب: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ﴾، ومسلم (١٧٨١) كتاب: الجهاد، باب: إزالة الأصنام من حول الكعبة، والترمذي (٣١٣٨): التفسير، الإسراء، والنسائي في تفسيره ١/ ٦٦٥، و"الطبري" ١٥/ ١٥٢، و"البغوي" ٣/ ١٣٣، وورد بنصه تقريبًا في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨١، و"الثعلبي" ٧/ ١١٩ أ، و"الطوسي" ٦/ ٥١٢، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٠ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٧، بنصه.
(٥) ما بين معقوفين ساقط من (أ)، (د).
452
هو قرآن، ﴿مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (١)، فعلى هذا، معنى كونه شفاءً: أنه (٢) ببيانه يزيل عمى الجهل وحَيْرَة الشك، يُستشفى به من الشبهة، ويهتدى به من الحيرة، فهو شفاء من داء الجهل.
وقال ابن عباس: يريد شفاءً من كل داء (٣)، وعلى هذا، معناه: أنه يُتَبَرَّك به؛ فيدفع الله به كثيرًا من المكاره والمضار، ويؤكد هذا الوجه ما روي أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله" (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد ثوابًا من الله لا انقطاع له (٥)، يعني: في تلاوته، يرحمهم الله بها ويثيبهم عليها.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٣ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٩/ ١١٧ أبنصه، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٦٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٠ وزاد نسبته إلى عبد الرزاق -لم أجده- وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ساقطة من (ع).
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٧، وورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ أ.
(٤) وورد في "تفسير الثعلبي" ٩/ ١١٧ أب نصه عن رجاء الغنوي، و"الزمخشري" ٢/ ٣٧٣، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٣٤، و"أسد الغابة" ٢/ ٢٧١ في ترجمة رجاء، وورد في "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣١٥، و"كنز العمال" ١٠/ ٩ وعزاه إلى الدارقطني في الأفراد، وقد أشار إلى ضعف الحديث الذهبي -فيما نقله المناوي عنه في "الفيض" ١/ ٤٩١ في تاريخ الصحابة- فقال في ترجمة رجاء: هذا له صحبة، نزل البصرة، وله حديث لا يصح في فضل القرآن. أما الشوكاني فقد ذكره في "الموضوعات" [الفوائد المجموعة] ص ٢٩٦ وقال: هو موضوع، وقال الألباني: ضعيف جدًا. "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (١٥٢) (١/ ٢٨٣)
(٥) ورد في تفسير "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٧
453
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ يعني لا يزيد ما هو شفاء للمؤمنين إلا خسارًا للظالمين، والفعل الذي هو (يزيد) مسند إلى ما في قوله: ﴿مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾، المراد بـ ﴿الظَّالِمِينَ﴾: المشركين، قاله ابن عباس.
قال قتادة: لأنه لا يحفظه ولا ينتفع به ولا ينتفعون بمواعظه (١)، فالقرآن سبب لهداية المؤمنين وزيادة لخسار الكافرين.
٨٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة (٢)، ﴿أَعْرَضَ﴾، معنى أعرض في اللغة: وَلَّى عَرْضَه، أي ناحيته (٣)، والمعنى: أنه لا يُقْبِل على الدعاء والابتهال على حسب ما يُقْبل في حال البلوى والمحنة (٤).
﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ قال مجاهد وابن عباس: تباعد (٥).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٣، بنحوه، انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٦٧، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٠ وزاد نسبته إلى عبد الرزاق -لم أجده- وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٨، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٨٠، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٣٥، والآية عامة في كل من اتصف بما فيها، وذكر الوليد من قبيل التفسير بالمثال.
(٣) انظر عرض في "المحيط في اللغة" ١/ ٣٠٦، و"الصحاح" ٣/ ١٠٨٤، و"اللسان" ٥/ ٢٨٨٩.
(٤) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٦، بنصه تقريبًا.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٨ بلفظه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٣ بلفظه عن مجاهد من طريقين، وورد بلفظه عن مجاهد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٧، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٣٨، و"الطوسي" ٦/ ٥١٤، وأورده المسيوطى في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦١ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
454
وروى شِبْل عن مجاهد: بَعُدَ مِنّا (١)، وقال عطاء: تَعَظَّم وتَكَبَّر (٢).
وقال أهل المعاني: بَعَّد نفسه عن القيام بحقوق نعم الله -عز وجل- (٣)، ومعني. النَّأْي في اللغة: البُعْد، ونَأَى الشيءَ إذا بَعّده (٤)، وذكرنا الكلام في النَّأْي عند قوله: ﴿وَيَنْئَوْنَ عَنهُ﴾ [الأنعام: ٢٦]، ومعنى ﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ كمعنى أعرض، وفيه زيادة معنى البعد، وفي قوله: ﴿وَنَأَى﴾ وجوه من القراءة؛ أحدها: وهو قراءة العامة (نَئَا) بفتحتين (٥)، وقرأ ابن عامر (نآء) مثل بَاعَ (٦)، وهذا على القلب، وتقديره: فلعَ (٧)، ومثل هذا في القلب: رأى وراءَ، قال كثير:
وكلُّ خليلٍ راءني فهو قائلٌ مِن أجلِكِ هذا هامَةُ اليومِ أو غَدِ (٨) (٩)
(١) انظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٦٧.
(٢) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ أ، بنصه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٣، و"تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٨٠ بلا نسبة.
(٣) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥١٤، بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٢١.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (ناء) ٤/ ٣٤٧٢، و"المحيط في اللغة" (نأى) ١٠/ ٤١٩، و"اللسان" (نأي) ٧/ ٤٣١٤.
(٥) قرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص وغيرهم. انظر: "السبعة" ص ٣٨٤، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٧، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٨٢، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١٥، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٣٠.
(٦) انظر المصادر السابقة.
(٧) أي مقلوب الميزان فعل: فلع.
(٨) "ديوانه" ص ١٣٣، وورد في "الكتاب" ٣/ ٤٦٧، و"الكامل" ٢/ ٨٠٦، و"الحلبيات" ص ٤٧، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٠٢، و"اللسان" (هوم) ٨/ ٤٧٢٣، (رأى) ٣/ ١٥٤٥، (هامةُ اليوم أو غد): كناية عن اقتراب المريض من أجله؛ أي سيموت أليوم أو غدًا، وذلك من تأثير الشوق والحزن فيه، وأصل الهامة: طائر يخرج من رأس الميت -كما تزعم العرب. والشاهد: راءني يريد رآني، ولكنه قلب فأخّر الهمزة.
(٩) ورد في"الحجة للقراء" ٥/ ١١٧، بنصه.
455
قال أبو عبيدة: والعرب تقول ذلك، تُقَدّم الهمزة وتؤخرها (١) وأنشد (٢):
ولقد أراكَ تُشَآء بالأَظْعَانِ (٣)
أراد تُشَاء فأَخَّر الهمزة، ومما (٤) قدَّموا قولهم في جمع البِئْر: آبار، وأصلها: أبآر (٥)، فقدَّموا الهمزة مثل: جِذْع وأجْذَاع، وقِطع وأقطاع.
وقرأ حمزة والكسائي: (نِئى) بإمالة الفتحتين (٦)، ووجه ذلك: أنه أمال فتحة الهمزة لأن الألف منقلبة من الياء التي في (النَّأي)، فأراد أن
(١) ليس في مجازه
(٢) للحارث بن خالد المخزومي (جاهلي).
(٣) وصدره:
مرّ الحُمُولُ فما شَأَوْنَكَ نَقْرَةً
"شعر الحارث بن خالد" ص ١٠٧، وورد في: "المعاني الكبير" ١/ ٧٠، و"تهذيب اللغة" (شأي) ٢/ ١٨١٧، و"المنصف" ٣/ ٧٧، و"اللسان" (شأي) ٤/ ٢١٧٩، و"المزهر" ١/ ٤٧٩، و"نوادر أبي زيد" ص ٢٢٤ نسبه للأصمعي، وورد بلا نسبة في "المخصص" ١٤/ ٢٧، و"الخزانة" ٨/ ١٦٧ (الحمول): الإبل عليها النساء، (شَأَوْنَكَ): شَآني الشيءُ شَاوًا: أعجبني، وقيل: حَزَنَنِي، (نقرة): النقر هو الصوت العالي، كضرب الرّحى والحجر، (الأظعان): واحده ظعينة، وهو الهودج تكون فيه المرأة، يقول: مرت الحمول فما هيجن شوقك وكنت قبل ذلك يهيج وجدك بهن إذا عاينت الحمول. انظر: "اللسان" (نقر) ٨/ ٤٥١٨، (ظعن) ٥/ ٢٧٤٨.
(٤) ساقطة من (ع).
(٥) ساقط من (أ)، (د).
(٦) انظر: "السبعة" ص ٣٨٤، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٧، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٨٢، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١٥، و"المبسوط في القراءات" ص٢٣٠.
456
ينحو نحوها، فأمال فتحة النون لإمالة فتحة الهمزة، ولم يمل خلاَّد (١) عن سُلَيْم (٢) فتحة النون لأجل إمالة فتحة الهمزة، وقرأ (نَئِيَ) بفتح النون وكسر الهمزة (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾ قال ابن عباس: يريد إذا أصابه مرض أو فقر يئس من رحمة الله (٤).
وقال أهل المعاني: هذا من صفة الجاهل بالله، وهو ذمّ له بأنه لا يثق بفضل الله على عباده، فيطمع في كشف تلك البلية من جهته، وحَسِبَ أن الشَّرّ ضَرْبَة لازب (٥)، ويؤوس: فعول من اليأس، ومضى الكلام في اليأس
(١) في جميع النسخ: (خلف)، والصحيح (خلاَّد)، كما ورد في المصدر "الحجة"، و"السبعة" ص ٣٨٤، و"المبسوط في القراءات" ص٢٣٠، أما رواية خلف عن سُليم فهي: بإمالة النون وكسر الهمزة، كما في السبعة والحجة.
وخلاَّد هو: ابن خالد، أبو عيسى الصَّيرفي الكوفي، الأحول، إمام في القراءة ثقة عارف محقق أستاذ، أخذ القراءة عرضًا عن سليم، وهو من أضبط أصحابه وأجلهم، روى القراءة عنه عرضًا أحمد الحلواني وعنبسة بن النضر، حدث عنه أبو زرعة وأبو حاتم، مات سنة (٢٢٠ هـ).
انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢١٠، و"غاية النهاية" ١/ ٢٧٤، و"النشر" ١/ ١٦٦.
(٢) سُلَيْم بن عامر بن غالب، أبو عيسى الحنفي الكوفي، المقرئ صاحب حمزة الزيات وأخص تلامذته وأحذقهم بالقراءة، وهو الذي خلف حمزة في الإقراء بالكوفة، قرأ عليه خلف وخلاد، ولد سنة (١٣٠ هـ)، وتوفي سنة (١٨٨ هـ) انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ١٣٨، و"غاية النهاية" ١/ ٣١٨، و"النشر" ١/ ١٦٦.
(٣) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٧، باختصار وتصرف.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٣٩، انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٤.
(٥) أي لازم، يقول الفراء: اللاّزب واللاصق واحد، والعرب تقول: ليس هذا بِضَرْبة لازم ولازب، يبدلون الباءَ ميمًا. ورد في "تهذيب اللغة" (لزب) ٤/ ٣٢٥٨.
457
عند قوله: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ﴾ [يوسف: ٨٠]
٨٤ - قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ اختلفت العبارة في تفسير الشاكلة؛ فقال ابن عباس في رواية الوالبي وعطاء: على ناحيته (١)، وهو قول الأخفش (٢)، والفراء قال: ومِثْلُه الطريقة والجَدِيلة (٣).
وقال مجاهد: على جديلته (٤)، وروي عنه: على طبيعته (٥).
قال شمر: ما رأيت تصحيفًا أشبه بالصواب مما قرأ مالك بن سليمان الهروي (٦) في التفسير عن مجاهد في قوله: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ أي جديلته، فصَحَّفَ وقال: حَدٍ يليه، وهو قريب بعضه من بعض (٧).
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٤ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ ب- بلفظه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٣، و"ابن عطية" ٩/ ١٧٨، و"الدر المنثور" ٤/ ٣٦١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ليس في معانيه، وورد في "تهذيب اللغة" (شكل) ٢/ ١٩١٥، بلفظه.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٠، بلفظه.
(٤) أخرج الطبري عنه ١٥/ ١٥٤ بمعناه، قال: على ناحيته. (الجديلة): هي الشاكلة والناحية. انظر: (جدل) في "المحيط في اللغة" ٧/ ٤٣، و"القاموس المحيط" (٩٧٧).
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٤ بلفظه، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٨، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٧، و"الطوسي" ٦/ ٥١٤، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٢٢.
(٦) في المصدر سليمان بن مالك والصحيح ما ذكره الواحدي، ومالك بن سليمان الهروي، قاضي هراة، روى عن إسرائيل وشعبة، قال عنه العقيلي: فيه نظر، وضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: لا أعرفه. انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٢١٠، و"الضعفاء الكبير" ٤/ ١٧٣، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٣٤٧.
(٧) ورد في "تهذيب اللغة" (جدل) ١/ ٥٦٠، بنصه تقريبًا.
458
وقال الحسن وقتادة: على نيته (١)، وقال ابن زيد: على دينه (٢).
وقال الزجاج: على مذهبه (٣).
وقال أبو عبيدة والقتيبي: على خليقته (٤)، هذا كلامهم، وأصل هذا في اللغة من المشابهة؛ يقال لِشِبْهِ الشيء: شَكْلُه، يقال: في فلان شَكْلٌ من أبيه، وأَشْكَلَةٌ وشُكْلَةٌ وشاكلٌ ومشاكلةٌ (٥)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ﴾ [ص: ٥٨]، أي: من مثل ذلك الأول.
وقال الأخفش: يقال: هذا من شكل هذا، أي: من ضربه ونحوه (٦).
وقال الليث: الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله (٧)، والمعنى: أن كل أحد يعمل على طريقته التي تُشاكل أخلاقه، وعبارات المفسرين في تفسير الشاكلة متقاربة، والكل ينبئ عما يشاكل طبيعة الإنسان، وكل إنسان يجري على مذهبه وطريقته وعادته التي أَلِفَها وجُبِل عليها، والإشارة في هذا؛ أن الكافر يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر والاحتساب
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٤، بنحوه عن قتادة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٨، عن الحسن، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ ب، عن قتادة، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٩، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ١٣٣، عنهما، و"ابن الجوزي" ٥/ ٨٠، عن الحسن، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦١ وعزاه إلى هناد وابن المنذر عن الحسن.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٤ بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٦٩، انظر "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٧٨، و"ابن الجوزي" ٥/ ٨٠، و"القرطبي" ١٠/ ٣٢٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٧، بلفظه.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٩ - بلفظه، و"الغريب" لابن قتية ١/ ٢٦١، بلفظه.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (شكل) ٢/ ١٩١٥، بنصه.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (شكل) ٢/ ١٩١٦، بنصه.
(٧) ورد في "تهذيب اللغة" (شكل) ٢/ ١٩١٦، بنحوه.
459
عند البلاء، ألا ترى أنه قال: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾، أي: بالمؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة.
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ الآية. قال ابن عباس في رواية عطاء: اجتمعت قريش فقال بعضهم لبعض: والله ما كان محمد بكذاب، ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة، فإن شئتم فأرسلوا منكم جماعة إلى يهود يثرب حتى يسألوهم عنه، فخرج منهم طائفة حتى لقوا أحبار اليهود فسألوهم عنه، فقال لهم اليهود: سلوه (١) عن ثلاثة، فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي؛ سلوه عن فتية فُقِدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الروح، فقدم النفر من قريش إلى مكة ثم اجتمعوا فسألوا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غدًا أخبركم" ولم يستثن، فأبطأ عنه الوحي أربعين يومًا لِمَا أراد الله، ثم نزل الوحي عليه بعد أربعين يومًا: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤] ثم فَسَّر لهم أمر الفية الذين فُقِدوا في سورة الكهف، وفَسَّر لهم قصة ذي القرنين، وأبهم قصة الروح؛ وذلك أنه ليس في التوراة قصته ولا تفسيره إلا ذكر اسمه الروح، وأنزل قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ الآية (٢)، فعلى هذا القول سألته قريش عن الروح، ونحو هذا روى عكرمة
(١) في (أ)، (ش)، (د): (سلوهم)، والمثبت من (ع) وهامش نسخة (أ) هو الصحيح.
(٢) ورد في "السيرة" لابن هشام ١/ ٣٢١، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٥ مطولًا من طريق عكرمة، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٢٧٠ من طريق سعيد بن جبير، وورد في "دلائل النبوة" للأصبهاني ص ٢١٦، وأورده السيوطي في "الدر" ٤/ ٣٦١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وفي "الباب النقول" ١٤٣، والحديث ضعيف بسبب الجهالة والاضطراب؛ إذ رواه ابن إسحاق في رواية الطبري عن رجل من أهل مصر، وفي رواية البيهقي عن رجل من أهل مكة، لكن في سورة الكهف آيات تشير إلى حدوث الأسئلة.
460
عن ابن عباس (١)
وقال ابن مسعود: سألته اليهود عن الروح وذَكر في (٢) ذلك قصة (٣)، ونحو هذا قال مجاهد (٤).
(١) أخرجه أحمد ١/ ٢٥٥، والترمذي (٣١٤١) في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، وقال حسن صحيح، وابن أبي عاصم في السنة ١/ ٢٦٤، وأبو يعلى في "مسنده" ٤/ ٣٨١، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ١٩٢، والحاكم ٢/ ٥٣١ وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الدلائل" ٢/ ٢٦٩، وأورده المصنف في "أسباب النزول" ص ٢٩٩.
(٢) في (أ)، (د): (وذكرو ذلك)، والمثبت من: (ش)، (ع).
(٣) ورد لهذه القصة عدة روايات، منها ما رواه الشيخان، البخاري (١٢٥) كتاب: العلم، باب قول الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ومسلم (٢٧٩٤)، في الجنة والنار، باب سؤال اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الروح. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: بينا أنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حرث وهو متكئٌ على عسيب إذ مرّ اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه؟ [أي ما إربكم وحاجتكم إلى سؤاله] وقال بعضهم: لا يستقبلُكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يردّ عليهم شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحيُ قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، أخرجه أحمد ١/ ٣٨٩، والبخاري (٤٧٢١) التفسير، الإسراء، ومسلم (٢٧٩٤) الموضع السابق، والترمذي (٣١٤١) في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ٢٦٣، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٦٧٠، و"الطبري" ١٥/ ١٥٥، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٤٥٩، وأبو نعيم في "الدلائل" ٢/ ٣٥٧، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٨٩، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٢، و"الثعلبي" ٧/ ١١٩ ب، وأوردها المصنف في "أسباب النزول" ص ٢٩٩، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، وليس فيها؛ بل في "الأسماء والصفات".
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٦٩، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٦ من طريقين.
461
واختلفوا في الروح المسؤول عنه؛ فقال علي بن أبي طلحة: هو مَلَك (١)، وهو قول علي -رضي الله عنه- قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يُسَبّح الله -عز وجل- بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (٢)، ونحو هذا قال سعيد بن جبير، قال: ولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش، لو شاء أن يبلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل، وهو المذكور في قوله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ (٣) [النبأ: ٣٨].
وقال الحسن وقتادة: هو جبريل (٤)، قال أبو إسحاق: ومن تأول ذلك
(١) أخرجه عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة "الطبري" ١٥/ ١٥٦، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٤٦٢.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٦ بنصه، وابن الأنباري في "الأضداد" ص ٤٢٣، بنصه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ١٩٤، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٤٦٢، بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ ب، بنصه، و"الماوردي" ٣/ ٢٦٩ - بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٥١٥، بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، والأثر ضعيف، لجهالة أحد الرواة، وهو شيخ أبي هران الذي لم يسم، حيث قال:... حدثني أبو هران يزيد بن سمرة القيساري عمن حدثه عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: الحديث. وقال ابن عطية: وما أظن القول يصحُّ عن علي -رضي الله عنه-، وقد ضعفه الفخر الرازي -كذلك- من عدة وجوه، وقال ابن كثير: وهذا أثر غريب عجيب. انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٨١، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٣٩، و"ابن كثير" ٣/ ٦٩.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٠ أمطولاً، وانظر: "البغوي" ٥/ ١٢٥، و"الخازن" ٣/ ١٧٩، وقد ورد في هذا الأثر أشياء غيبية غريبة لا يصح الاقول بها إلا بخبر صحيح عن المعصوم، وهو ما لم أقف عليه، وحسبك لرده أن مصدره الثعلبي!
(٤) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٨ بلفظه عنهما، و"الطبري" ١٥/ ١٥٦ بلفظه عن =
462
فدليله قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٣، ١٩٤]، وقال مجاهد: الروح: خَلْقٌ ليسوا بالملائكة على سورة بني آدم، يأكلون، ولهم أيد وأرجل ورؤوس (١).
وقال أبو صالح: يشبهون الناس، وليسوا بالناس (٢).
وقال قوم: هو القرآن (٣)، وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد، من أتاك بهذا القرآن، فبين الله أنه من عنده، فقال: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ قال أبو إسحاق: ودليل هذا القول قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢]، وتأويل تسمية القرآن بالروح أن القرآن حياة القلوب
= قتادة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٠، عن الحسن، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٢، عنهما، و"الثعلبي" ٧/ ١١٩ ب، عنهما، ولا وجه البتة لتفسيره بجبريل هنا.
(١) أخرجه "الطبري" ٣٠/ ٢٣، بنحوه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ١٩٧، بنحوه، وورد بنحوه في: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٢، و"الثعلبي" ٧/ ١١٩ ب، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٥، قال الفخر الرازي -تعقيبًا على هذا القول والذي يليه-: ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئًا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول، وأيضًا فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه. "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٣٩.
(٢) أخرجه "الطبري" ٣٠/ ٢٣ بنصه، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ١٩٥ بنصه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٤٦٣، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١٩ ب، بنحوه، وهو كسابقه.
(٣) أخرجه بلفظه "الطبري" ٣٠/ ٢٣، عن ابن زيد، وأبو الشيخ في "العظمة" ص ١٩٦، عن الضحاك، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٢، و"هود الهواي" ٢/ ٤٤٠، عن الحسن، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٠ أو"الماوردي" ٣/ ٢٦٩، عن الحسن، و"الطوسي" ٦/ ٥١٥، عن الحسن، وهو أيضًا بعيد هنا.
463
وحياة النفوس (١) فيما تصير إليه من الخير عند الله -عز وجل- (٢).
وقال آخرون: هو روح الحيوان (٣)، وهو الأظهر في الكلام الذي يسبق إلى الأفهام (٤)، ونذكر هاهنا الكلام في الروح واشتقاقه ومعناه وبالله التوفيق، الروح الذي يحيا به البدن يُذَكّر وُيؤَنث، وأكثر الناس على أن اشتقاقه من الريح، والريح في الأصل روح، والعرب تسمي النفخ والنفس الذي يخرج من الإنسان روحًا.
قال ذو الرُمَة:
فقلتُ له ارفعها إليك وأحْيِها برُوحك واجعله لها قِيتَةً قدْرا (٥)
(١) في (د): (النفس).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٨، بنصه تقريبًا.
(٣) ورد في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٧، بلفظه، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٠، بمعناه، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٠، بلفظه، و"الطوسي" ٦/ ٥١٥، بلفظه.
(٤) وهذا هو القول المشهور والصحيح، وعليه أكثر المفسرين، ذكره البيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٤٥٩، والسمعاني في "تفسيره" ٣/ ٢٧٤، وقال أبو حيان ٦/ ٧٥ هو قول الجمهور، وقد ذهب إليه: "الجصاص" ٣/ ٢٠٧، والطوسي ٥/ ٥١٥، والسمعاني ٣/ ٢٧٤، و"البغوي" ٥/ ١٢٦، و"الخازن" ٣/ ١٧٩، وابن حجر في "الفتح" ٨/ ٢٥٥ وقال: وجنح ابن القيم -في كتاب "الروح" ٢/ ٥٢٤ - إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ [النبأ: ٣٨] قال: وأما أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسًا. ثم قال: ولا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول، وأيده بما رواه "الطبري" ١٥/ ١٥٦، عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق العوفي في هذه أنهم سألوه عن الروح: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية.
(٥) "ديوانه" ٣/ ١٤٢٩ برواية: (واقْتَتْهُ) بدل: (واجعله)، وورد في "تهذيب اللغة" (راح) ٢/ ١٣١٣ و"الأسماء والصفات" ص ٤٦١، و"الأساس" ١/ ٤٣٧٨، =
464
يذكر نارًا ناولها صاحبه، وقوله: (أحيها بروحك)، أي: بنفخك، وقد قال الله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [الحجر: ٢٩] وقال آخرون: سمي روحًا لأنه يهتز وينبسط وينتشر في جميع البدن، من قولهم: رجْلٌ أروح، ورِجلٌ روحاء، هي التي في صَدْرِ قدمها انبساط، وقَصْعَةٌ رَوْحَاءُ قريبة القَعْرِ منبسطة، وإناء أروح (١)، وسميت الخمر رَاحًا لاهتزاز البدن وخفته وانبساطه عند شربها (٢).
واختلفوا في ماهية (٣) الروح (٤)؛ فقال قوم: إن الروح هو الدم، ألا ترى أن من نزف دمه مات، والميت لا يفقد جِسْمُه إلا الدم (٥)، وزعمت
= و"اللسان" (روح) ٣/ ١٧٦٦، و"المفردات" ص ٦٨٧ بلا نسبة.
(ارفعها): أي ارفع النار، (اقتته): افتَعِلهُ من القوت، وقاته يقوته قُوتًا: أطعمه قُوتَه، وأقاته يُقِيتُهُ: جعل له ما يقوته، ويقال: ما له قوت ليلة، وقِيتُ ليلة، وقيتَةُ ليلة، نحوُ: الطعْمِ والطِّعْمَةِ.
(١) انظر: راح في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣١٣، و"المحيط في اللغة" ٣/ ١٩٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٤٥٤، و"الصحاح" ١/ ٣٦٧، و"اللسان" ٣/ ١٧٦٦.
(٢) انظر: "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء" ٢/ ٥٠٤.
(٣) في جميع النسخ: (مائية)، والصواب المثبت كما دلّ عليه التفصيل بعده.
(٤) ليت الواحدي -رحمه الله- لم يخض في هذا الموضوع الفلسفي الذي لا طائل من ورائه ولا يقوم عليه عمل، وبحث لا يستند إلى علم، لذلك كان الأولى، بل الواجب أن يفوض أمر ماهية الروح ومسكنه ومدخله ومخرجه -مما تكلم عنه- إلى الله تعالى، كما قال: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وما أحسن ما قاله ابن الجوزي، قال: وقد اختلف الناس في ماهية الروح.. ولا يُحتاج إلى ذكر اختلافهم؛ لأنه لا برهان على شيء من ذلك، وإنما هو شيء أخذوه عن الطب والفلاسفة، فأما السلف فإنهم أمسكوا عن ذلك، لقوله تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ انظر: "البغوي" ٥/ ١٢٦، و"ابن الجوزي" ٥/ ٨٣.
(٥) انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٦، و"الخازن" ٣/ ١٧٩.
465
طائفة أن الروح استنشاق الهواء، ألا ترى أن المخنوق ومن مُنع عن استنشاق الهواء يموت (١).
وأخبرني العروضي عن الأزهري قال: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا الهيثم يقول: الروح إنما هو النَّفَسُ الذي يتنفسه الإنسان، وهو جار في جميع الجسد، فإذا خرج لم يتنفس بعد خروجه، وإذا تَتَامَّ خروجه بقي بصره شاخصًا نحوه حتى يُغْمض، وهو بالفارسية جان (٢).
وزعم ابن الروندي (٣) أنه جسم لطيف أُسكن البدن (٤).
وقال عامة المعتزلة والنجارية (٥):
(١) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ١٧٩.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (راح) ٢/ ١٣١٣، بنصه.
(٣) أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، وقيل: الرِّيوَنْديّ، الزنديق الشهير، كان من متكلمي المعتزلة ثم تزندق واشهر بالإلحاد، وقيل: كان لا يستقر على مذهب، كان غاية في الذكاء ولم يك زكي النفس، صنف كتبًا كثيرة يطعن فيها على الإسلام، وألَّف لليهود والنصارى يحتجُّ لهم في إبطال نبوة سيد البشر، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، قيل: كان أبوه يهوديًا فأسلم هو، فكان بعض اليهود يقول للمسلمين: لا يفسد هذا عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة، قال ابن الجوزي: وإنما ذكرته ليعرف قدر كفره، وقال ابن حجر: إنما أوردته لألعنه، مات سنة (٢٩٨ هـ).
انظر: "المنتظم" ١٣/ ١٠٨، و"وفيات الأعيان" ١/ ٩٤، و"سير أعلام النبلاء" ١٤/ ٥٩، و"لسان الميزان" ١/ ١٩٤.
(٤) ورد في "مقالات الإسلاميين" ص ٣٣٢، بنحوه، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٦، و"الخازن" ٣/ ١٧٩ بلا نسبة فيهما.
(٥) هم أتباع الحسين بن محمد النجّار، من فوق المرجئة، يعتقدون أن الإيمان بالقول دون العمل، وأن من كان مؤمنا لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر، ويثبتون للفعل فاعلين؛ الله تعالى والعبد، واتفقوا مع المعتزلة في نفي بعض الصفات =
466
الروح عرض (١)، ومثله حكى القلانسي (٢) من أصحابنا عن عبد الله ابن سعيد (٣).
وقال بعض الحكماء: إن الله تعالى خلق الأرواح من ستة أشياء: من جوهر النور والطِّيبِ والبقاء والحياة والعلم والعلو، ألا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيًا؛ تبصر العينان وتسمع الأذنان، ويكون طَيبًا فإذا خرج نَتِنَ الجسدُ، ويكون باقيًا فإذا زايله الروح لم يعلم شيئًا، ويكون الجسد علويًّا لطيفًا مادام فيه الروح، فإذا خرج صار سفليًّا كثيفًا (٤).
وقال محمد بن موسى الواسطي (٥): خلق الله الأرواح
= والقول بخلق القرآن، وهم أكثر من عشر فرق بالري. انظر: "مقالات الإسلاميين" ١٣٥، و"الفرق بين الفرق" ٢٥، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان" ٣٩.
(١) ورد في "مقالات الإسلاميين" ص ٣٣٤ بلا نسبة، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٦ بلا نسبة، و"الروح" لابن القيم ٢/ ٥٧٣ بلا نسبة.
(٢) أبو أحمد مصعب بن أحمد الغدادي القلانسي [نسبة إلى القلانس -جمع قلنسوة- وعملها]، شيخ الصوفية، صاحب أبي حمزة وعليه تخرج، وكان أبو حمزة والجنيد وجماعة المشايخ يكرمونه ويقدمونه على غيره، وكان أبو سعيد ابن الأعرابي ينتمي إليه في التصوف وصحبه إلى أن مات، حج سنة (٢٧٠ هـ) فمات بمكة. انظر: "حلية الأولياء" ١٠/ ٣٠٦، و"اللباب في تهذيب الإنساب" ٣/ ٦٧، و"سير أعلام النبلاء" ١٣/ ١٧٠.
(٣) عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي المفسّر، أبو سعيد الأشج، حدث عن هُشيم وأبي بكر بن عياش، وعنه الأئمة الستة وابن خزيمة، قال الذهبي: رأيت تفسيره مجلدٌ، مات سنة (٢٥٧ هـ) انظر: "الجرح والتعديل" ٥/ ٧٣، و"سيرأعلام النبلاء" ١٢/ ١٨٢، و"طبقات المفسرين" للداوودي ١/ ٢٣٥.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٢٦ مختصرًا، و"الخازن" ٣/ ١٧٩ مختصرًا.
(٥) محمد بن موسى الواسطي، قاضى الرملة، قال ابن يونس -في تايخ مصر- كان =
467
من (١) بين الجمال والبهاء، فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر (٢)
وقال أبو قِلابَة: ما خلق الله شيئًا أطيب من الروح وما انتزع من شيء إلا نتن (٣)، والاختيار في ماهية الروح أنه جسم لطيف توجد به الحياة، وقوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ﴾ إلى قوله: ﴿يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ﴾ [آل عمران: ١٦٩، ١٧٠] يدل على أن الروح جسم؛ لأن الارتزاق والفرح من صفات الأجسام، والمراد بهذا أرواحهم لأن أبدانهم قد بليت في التراب، وكذلك ما روي: "أن أرواح الشهداء تَعْلُقُ من شجر الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش" (٤)، وهذا الفعل لا يتأتى من العَرَض.
= عالمًا بالفقه والتفسير، ويتفقه على مذهب أهل الظاهر، وقد رمي بالقدر، مات سنة (٣٢٠ هـ). انظر: "طبقات المفسرين" للسيوطي ص ١١٧، و"طبقات المفسرين" للداوودي ٢/ ٢٦٤.
(١) في د: (ما).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لم أقف على هذه الرواية بنصها، بل وردت مفرداتها في أحاديث متفرقة، أقربها: عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أروح الشهداء في طير خُضرٍ تَعْلُقُ من ثمرة الجنة أو شجر الجنة.. " أخرجه أحمد ٦/ ٣٨٦، والترمذي (١٦٤١) كتاب فضل الجهاد، باب ما جاء في ثواب الشهداء ٤/ ١٧٦ وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني في "الكبير" ١٩/ ٦٦، بنحوه، وفي رواية عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾ [آل عمران: ١٦٩] فقال: "أرواحهم في جوف طير خُضرٍ لها قناديل معلقةٌ بالعرش.. " أخرجه مسلم (١٨٨٧) في الأمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة ٣/ ١٥٠٢، والترمذي (٣٠١١) كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٢٨٠١): الجهاد، باب فضل الشهادة =
468
وأما مدخل الروح ومخرجه، فقال قوم: يدخل من المنافذ كلها ويخرج من المنافذ كلها، وقال بعضهم: يدخل من الأنف ويخرج من الفم.
وحكى علي بن مهدي (١) -من أصحابنا- أنه يدخل من حيث شاء الله ويخرج من الأنف، لقولهم: مات حتف أنفه (٢)، وأما مسكنه فقال قوم: مسكن الروح القلب، وعمله شائع في جميع البدن كقرصة الشمس مسكنها الفلك ونورها ينتشر في الدنيا.
وقال آخرون: مسكنها الدماغ، وقيل: مسكنه الدم، وقال بعضهم:
= في سبيبل الله، والبيهقي: السير، باب فضل الشهادة في سبيل الله ٩/ ١٦٣، (تَعْلُقُ): أي تتناول.
(١) علي بن محمد بن مهدي الطبري الأشعري، أبو الحسن، تلميذ أبي الحسن الأشعري، صحبه بالبصرة وأخذ عنه، كان من المبرزين في علم الكلام والقوَّامين بتحقيقه، وله كتاب تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات، كان حافظًا للفقه والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحًا مبارزًا في النَّظر، توفي في حدود سنة (٣٨٠ هـ) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي ٣/ ٤٦٦، و"تبيين كذب المفتري" ص ١٩٥، و"الوافي بالوفيات" للصفدي ٢٢/ ١٤٣، و"طبقات الفقهاء الشافعية" للعبادي ص ٨٥
(٢) جزء من حديث رواه عبد الله بن عتيك -رضي الله عنه-، وطرفه: "من خرج من بيته مجاهدًا في سبيل الله.. -إلى أن يقول- أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله -عز وجل-" ثم يقول الرواي: والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... ، أخرجه ابن أبي شيبة ٤/ ٢١٠، وأحمد ٤/ ٣٦، والطبراني في "الكبير" ٢/ ١٩١، والحاكم ٢/ ٨٨، وصححه ووافقه الذهبي، وورد في "تهذيب اللغة" (حتف) ١/ ٧٣٧، وأورده في "المجمع" ٥/ ٢٧٧ وقال: وفيه محمد بن إسحاق مدلس، وباقية رجال أحمد ثقات، انظر: "مجمع الأمثال" ٢/ ٢٦٦، و"المستقصى" ٢/ ٣٣٨، ويُروى: حتف أنْفَيْه، ومعناه: أي مات بلا ضرب ولا قتل، قال أبو عبيد: هو أن يموت موتًا على فراشه من غير قتل ولا غرق ولا سبْع ولا غيره.
469
هو يشتمل جميع البدن، ففي كل بعضٍ من أبعاضِ البدن بعضٌ مِن أبعاضِ الروح، واحتج بقوله: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ [إبراهيم: ١٧]، وهذا كله إذا رجعت إلى التحقيق ضرب من التكلُّف (١)؛ لأن الله تعالى أبهم على ذلك (٢).
قال عبد الله بن بُريدة: ما يبلغ الجن والإنس والملائكة والشياطين علم الروح، ولقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يدري ما الروح (٣).
وقال الفراء: الروح هو الذي يعيش به الإنسان، لم يخبر الله به أحدًا من خلقه، ولم يعط علمه أحدًا من عباده (٤).
وقال في قوله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ من علم ربي لا تعلمونه (٥)، وقيل: من خلق ربي، أي: أنه مخلوق له.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، أي: بالإضافة إلى علم الله تعالى، وذلك أن اليهود كانت تدّعى علم كل شيء بما في كتابهم التوراة، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ قال أبو إسحاق: وقليل وكثير لا يصلح إلا بالإضافة، وإنما يَقِلُّ الشيء عند ما هو أكثر منه، وكذلك يكثر عند ما هو أقل منه (٦)، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله:
(١) في جميع النسخ: (التكليف). والصواب ما أثبته.
(٢) لذلك كان الأولى أن لا يخوض في هذه المسألة أصلاً.
(٣) ورد في "الأضداد" لابن الأنباري ص ٤٢٦ مختصرًا، وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" ص ١٩٣، بنصه، انظر:"تفسير السمعاني" ٣/ ٢٧٥، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٢ مختصرًا، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٤) ورد في " تهذيب اللغة" (راح) ٢/ ١٣١٣، بنصه تقريبًا.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٠، بنحوه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٨، بتصرف يسير.
470
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وذلك حين لم يعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم الروح، ولم يبين الله له ذلك، قال له: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، يدل على هذا: قوله: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾.
٨٦ - قال أبو الفتح الموصلي: ليست اللام في: ﴿لَئِنْ﴾ بجواب القسم، وإنما الجواب: لنذهبنّ، وعليه وقع الحَلِف، واللام في ﴿لَئِنْ﴾ زائدة مؤكدة، ويدل على أن اللام الأولى زائدة أن الثانية هي التي تلقت القسم (١)، [ونظير] (٢) جواز سقوط الأولى في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المائدة: ٧٣]، وإذا قلتَ: والله لئن (٣) قمت لأقومن، كان اعتماد القسم على اللام في لأقومن، واللام في لئن (٤) زائدة مؤكدة (٥).
ومعنى الآية: أي إني أقدر أن آخذ (ما أعطيتك؛ كأنه يقول: لم تؤت إلا قليلاً من العلم، وإن شئتُ أن آخذ ذلك) (٦) قدرت.
قال أبو إسحاق: لو شئنا لمحونا من القلوب ومن الكتب حتى لا يُوجَد له أثر (٧)، ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا﴾، أي: لا تجد من يُتَوكَّل عليه في رد شيء منه، كقوله: ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٦].
(١) في (أ)، (د)، (ش): (الاسم)، والمثبت من (ع) وهو الصواب.
(٢) هذه إضافة يقتضيها الساق، وقد وردت هذه الكلمة في المصدر بنحو هذا السياق.
(٣) و (٤) في (أ)، (د)، (ش): (لأن)، والمثبت من (ع) وموافق لما في المصدر.
(٥) "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٩٦ - ٣٩٧، باختصار وتصرف.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د)
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٨، بنصه.
٨٧ - ثم قال: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ قال الفراء: هو استثناء، كقوله: ﴿إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ﴾ (١) [يوسف: ٦٨].
وقال أبو إسحاق: ﴿رحَمَتَ﴾ استثناء ليس من الأول (٢)، المعني لكن الله رَحِمَك، فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ قال ابن عباس: يريد حيث جعلتك سيدَ ولد آدم، وختمت بك النبيين، وأعطيتك المقام المحمود (٤).
٨٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا﴾ الآية. هذا احتجاج من الله تعالى عليهم بالمعجزة، أعلمهم -وهم أهل البيان وتأليف الكلام- عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن تعاونوا عليه، قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ (٥) [الأنفال: ٣١].
وقال مقاتل: إن نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- تحداهم أولاً فقال: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ [هود: ١٣]، فعجزوا عن ذلك، فتحداهم وقال: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣]، فعجزوا، فآيسهم الله تعالى عن معارضته بمثل ما أتى به في هذه الآية (٦).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٠، بنصه.
(٢) أي أنه ليس متصلاً، بل هو استثناء منقطع.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٩، بنصه.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٤٦ بنصه، وبلا نسبة في "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٥٤، و"القرطبي" ١٠/ ٣٢٥، و"الخازن" ٣/ ١٨٠.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٠ ب، بنحوه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٨٤.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٩ أ، بنحوه.
472
قال أهل المعاني: والمثل الذي طُلب منهم في التحدي كلام له نظم كنظم القرآن في أعلى طبقات البلاغة، إذا قُوبل به ظهر أنه في تلك المنزلة، كما يكون بين الشعراء من معارضة القصيدة بالقصيدة؛ كمعارضة علقمة (١) لامرئ القيس، ومعارضة جرير للفرزدق (٢)، ثم لمّا عرضوا القرآن على جميع أجناس كلامهم عجزوا عن المعارضة في النظم بَلْهَ البلاغة، وذلك أن كلامهم لم يخرج من أجناس ثمانية؛ أربعة معقودة وأربعة منثورة؛ فالمنثورة منها أربعة أجناس: منها الكلام الذي يدور بين الناس فيما يحتاجون إليها، ومنها الرسائل، ومنها الخُطَب، ومنها السجع، فلم يكن واحد من هذه الأجناس يشبه نظم القرآن، وبعض ما يُحتَاج إليه في هذه الآية قد ذكرنا في قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ في سورة البقرة (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ هذا جواب (لئن) بالرفع (٤).
قال الفراء: والعرب إذا أجابت (لئن) بـ (لا) جعلوا ما بعد (لا) رفعًا، لأن (لئن) كاليمين، وجواب اليمين بـ (لا) مرفوعٌ، وربما جزم الشاعر
(١) علقمة بن عَبَدَة بن النعمان، شاعر جاهلي من بني تميم، لقب بالفحل لأنه خلف على امرأة امرئ القيس لما حكمت له بأنه أشعر منه، فطلقها، عدّه الجمحي في الطبقة الرابعة من فحول شعراء الجاهلية، وله قصيدة طويلة في معارضة امرئ القيس. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٣٧، و"الشعر والشعراء" ص ١٢٥، و"الأغاني" ٢١/ ٢٠٥، و"المنتخب في محاسن أشعار العرب" ١/ ١٧، و"الخزانة" ٣/ ٢٨٢.
(٢) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥١٧، بنحوه.
(٣) آية: [٢٣].
(٤) قال الطوسي ٦/ ٥١٧: وإنما رفعه لأنه غلب جواب القسم على جواب (إن) لوقوعه في صدر الكلام.
473
بـ (لئن) وجوابها؛ لأن (لئن): (إن) التي يجازى بها زيدت عليها لام، وأنشد للأعشى:
لئن مُنِيْتَ بنا عن غِبّ معركة لا تُلْفِنا من دماء القوم ننتَفِلُ (١)
فجزم الجواب بـ (لا) (٢).
قال: وأنشدني الكسائي (٣):
لَئِنْ تَكُ قد ضَاقتْ عليكم بلادُكُم لَيَعْلَمْ ربي (٤) أن بيتي لواسعُ (٥) (٦)
فجزم بلئن (٧).
(١) "ديوانه" ص ١٤٩ وفيه: لم تلفنا، وورد في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٥٩، و"الطوسي" ٦/ ٥١٧، و"ابن عطية" ٩/ ١٨٦، و"اللسان" (نفل) ٨/ ٤٥١٠، و"تفسير أبي حيان" ٦/ ٧٨، و"الدر المصون" ٧/ ٤٠٧، و"الخزانة" ١١/ ٣٢٩، وورد بلا نسبة في: "شرح ابن عقيل" ٤/ ٤٥، و"شرح الأشموني" ٤/ ٦٩، (منيت): ابتليت، ننتفل، الانتفال: التبرؤ، يقال: انتفل من الشيء تبرأ منه.
(٢) وكان حقه الرفع لا تلفينا بإثبات الياء، جوابًا للقسم المتقدم على الشرط، لكنه جزمه بحذفها لأنه جعله جوابًا للشرط بإنْ ولم يُجِب القسم، بل حذفه لدلالة جواب الشرط عليه. انظر: "شرح ابن عقيل" ٤/ ٤٥.
(٣) البيت للكميت بن معروف.
(٤) ساقطة من (د).
(٥) ورد في "الخزانة" ١٠/ ٦٨، ١١/ ٣٣١ وفيه: بيوتكم، وواسع، وورد بلا نسبة في: "الدر المصون" ٢/ ٤٦، و"شرح التصريح" ٢/ ٢٥٤، و"شرح الأشموني" ٣/ ٣٩٧، ٤/ ٧٢.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣١، بتصرف واختصار.
(٧) يقول السمين: ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماضٍ، وقد يكون مضارعًا. وهنا قد حذف للضرورة -كما قال البغدادي- لأن القياس يقتضي أن يقول: لئن كانت. وأن يقول في الجواب؛ ليعْلَمنّ. انظر: "الدر المصون" ٢/ ٤٦، و"شرح التصريح" ٢/ ٢٥٤، و"شرح الأشموني" ٤/ ٧٢، و"الخزانة" ١٠/ ٦٨، ١١/ ٣٥١.
474
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ الظهير: المعين المظاهر لك، وهو فعيل بمعنى المظاهر.
قال ابن عباس: يريد معينًا (١)، مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه.
٨٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾ أي بَيّنا، وذكرنا الكلام في هذا في هذه السورة (٢)، قال ابن عباس: وأراد بالناس أهل مكة (٣)، ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾، أي: من كل نوع وشِبْه، يريد من الأمثال التي يجب بها الاعتبار، ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ قال ابن عباس: يريد أكثرَ أهلِ مكة (٤).
﴿إِلَّا كُفُورًا﴾ يريد جحودًا للحق وإنكارًا، وذلك أنهم أنكروا القرآن وكونه معجزة بعد قيام الحجة عليهم، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم، وهو قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ قال ابن عباس: لن نصدقك (٥)
٩٠ - قال المفسرون: نزلت في رؤساء مكة اقترحوا عليه ما ذكر الله عنهم في هذه الآيات (٦).
(١) لم أقف عليه منسوبًا إليه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٩، عن ابن جريج، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٣، وبلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٣.
(٢) عند آية [٤١].
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٥، و"تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٥٥، و"الألوسي" ١٥/ ١٦٧ بلا نسبة فيهما.
(٤) ورد بلا نسبة في "زاد المسير" ٥/ ٨٥، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٥٥، و"القرطبي" ١٠/ ٣٢٧.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٥، وورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٥٩، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٣.
(٦) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٩ ب، و"السيرة" لابن هشام ١/ ٣١٥ مطولاً، =
475
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا﴾ وذلك أنهم سألوه أن يُجري لهم نهرًا كأنهار الشام والعراق، وقرئ ﴿تَفْجُرَ﴾ بالتخفيف (١)، يقال: فَجَرْتُ الماءَ فَجْرًا وفَجَّرتُه تفجيرًا وتَفْجرةً، (فمن ثَقَّل (٢) أراد كثرة الانفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحد فَلِتَكَرُّر الانفجار فيه يحسن أن يثقل، كما تقول: ضُرِّب زيد، إذا كثر الضرب فيه، فيُكَثُّر فِعْلُه وإن كان الفاعل واحدًا، ومن خفف فلأن الينبوع واحد، ودليل التشديد من التنزيل قوله: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾ [الكهف: ٣٣]، ودليل التخفيف قوله: ﴿فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [البقرة: ٦٠] والانفجار مطاوع الفجر) (٣).
ومضى الكلام في الفجر والانفجار في سورة البقرة (٤).
وقوله تعالى: ﴿يَنْبُوعًا﴾ يعني عينًا يَنْبَع الماء منه، وهو مفعول من نَبَع
= أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٥٩ من طريق عكرمة عن ابن عباس، وورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٤٢، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٠ ب، وأورده المصنف -بلا سند- في "أسباب النزول" ص ٣٠٠، و"تفسير البغوي" ٥/ ١٢٨، و"ابن الجوزي" ٥/ ٨٥، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٥٦، و"القرطبي" ١٠/ ٣٢٨، و"ابن كثير" ٣/ ٧٠، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم. والحديث في إسناده رجل مجهول، فقد رواه ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر قدم منذ أربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس - كما في رواية الطبري.
(١) أي بفتح التاء وتسكين الفاء وضم الجيم مع التخفيف، قرأ بها: عاصم وحمزة والكسائي، انظر: "السبعة" ص ٣٨٥، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٨، و"الحجة للقراء" ٨/ ١١٥، و"المبسوط في القراءات" ٢٣٠، و"النشر" ٢/ ٣٠٨.
(٢) أي بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم، وقرأ بها: ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبن عامر. انظر المصادر السابقة.
(٣) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٩، بتصرف.
(٤) آية [٦٠].
476
الماءُ يَنْبَعُ ويَنْبُعُ نَبْعًا ونُبوعًا ونَبْعَانًا، ذكره الفراء (١) والليث (٢).
قال أهل المعاني: وإنما لم يجابوا إلى ما سألوا؛ لأنهم طلبوا ذلك دليلاً على صدقه، وقد أتاهم من القرآن بما يدل على صدقه، فليس لهم أن يطلبوا دليلاً آخر إلا بعد القدح في الدليل الأول بما يبين أنه شبهة لا يدل على صحة المعنى، فأما طلبهم الدليل على جهة الإنكار الأول فهو سفه وجهل لا يستحقون أن يجابوا إليه.
٩١ - قوله تعالى: ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ﴾ هذا أيضًا كان فيما اقترحوا عليه، وقوله: ﴿فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ﴾ عطف على قوله: ﴿أَوْ تَكُونَ﴾.
٩٢ - ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ﴾، هذا كان فيما اقترح عليه المشركون، قالوا له: فأسقط السماء علينا، قال ابن عباس: يعنون العذاب، وهو كما زعمت (٣). قال عكرمة: كما زعمت يا محمد أنك نبي، فأسقط السماء علينا (٤). وقال آخرون: كما زعمت أن ربك إن شاء فعل (٥)، وكذا ذكر المفسرون بالقصة (٦).
وقوله تعالى: ﴿كِسَفًا﴾ فيه وجهان من القراءة؛ جزم السين (٧)
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣١، بنحوه.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (نبع) ٤/ ٣٤٩٧، بنصه تقريبًا.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" ٢/ ٥٤٨ بنصه تقريبًا؛ بدون ضمير الفصل وهو.
(٤) انظر: "تفسير الرازي" ٢١/ ٥٧.
(٥) انظر: "تفسير الرازي" ٢١/ ٥٧، و"أبي حيان" ٦/ ٧٩.
(٦) عند آية [٩٠].
(٧) قرأ بها: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي، انظر: "السبعة" ص ٣٨٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٨٢، و"علل القراءات" ١/ ٣٢٩، و"الحجة للقراء" ٥/ ١١٩، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٣١، و"التيسير" ص ١٤١، و"النشر" ٢/ ٣٠٩.
477
وفتحها (١).
قال أبو زيد: يقال: كَسَفْتُ الثوبَ أكْسِفُه كَسْفُا، إذا قَطَّعته قِطَعًا (٢)
وقال الليث: الكَسْفُ: قَطْعُ العُرْقُوب (٣)، والكِسْفَة: القطعة.
قال الفراء: وسمعت أعرابيًّا يقول لبزاز: أعطني كِسْفة، يريد قطعة كقولك: خِرْقَة (٤).
روى عمرو عن أبيه: يقال لخِرَق القميص قبل أن يُؤَلَّفَ: الكِسَف، واحدها كِسْفَة (٥)، فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوهًا، أحدها: أن يكون جمع كِسْفة، على حد دِمْنَةٍ ودِمَن (٦)، وسِدْرة، وسِدَر هذا قول الفراء (٧)، وقال الكسائي: من وَحَّد خفف (٨).
(١) قرأ بها: ابن عامر ونافع وعاصم. انظر المصادر السابقة.
(٢) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١١٩، بنصه، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٥١٨، بنصه.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (كسف) ٤/ ٣١٤٣ بنصه. (العُرْقُوب): هو العصبُ الغليظُ المُوَتَّر فوق عقبِ الإنسان، أو خلف الكعبين. انظر: "اللسان" (عرقب) ٥/ ٢٩٠٩، "متن اللغة" ٤/ ٨٣.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣١ بتصرف يسير، وورد في "تهذيب اللغة" (كسف) ٤/ ٣١٤٣، بنصه.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة " (كسف) ٤/ ٣١٤٣، بتصرف يسير.
(٦) الدِّمنة: آثار الناس وما سَوَّدوا، وقيل: ما سوَّدوا من آثار البعر، والجمع: دمن، وهو البعر، ودمَّنت الماشيةُ المكانَ: بعَرت فيه وبالت. انظر: "اللسان" (دمن) ٣/ ١٤٢٨.
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣١، بنحوه، ورد في "تهذيب اللغة" (كسف) ٤/ ٣١٤٣، بنحوه، وما في التهذيب أقرب.
(٨) لم أقف عليه. قال القرطبي: قال الأخفش: من قرأ: كسْفًا من السماء، جعله، واحداً، ومن قرأ: كِسَفًا، جعله جمعاً. "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٣٠.
478
قال أبو علي: إذا كان المصدرُ الكسْفَ، فالكسْفُ (١): الشيء المقطوع؛ كما يقال في الطَّحْن والطِّحْن، والسَقي والسِّقي (٢)، ويؤكد هذا قوله: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا﴾ [الطور: ٤٤]، وذكر الزجاج وجهاً ثالثًا، فقال: من قرأ كِسْفًا فكأنه قال: أو تسقطها طبَقًا علينا، واشتقاقه من كَسَفْتُ الشيء إذا غَطَّيته (٣)، ومن فتح السين فهو جمع كِسْفَةٍ مثل قِطْعَةٍ وقِطَعٍ، وسِدْرَةٍ وسِدَرٍ، وهو نصب على الحال في القراءتين جميعًا، كأنه قال: أو تسقط السماء علينا مقطعة (٤).
قال ابن عباس في قوله: ﴿كِسَفًا﴾: قطعًا (٥)
وقال مجاهد: السماء جميعًا (٦)، وهذا على قراءة من سَكَّن السين، ومعناه كما قال الزجاج: طبقًا، أو كما قال أبو علي: قطعة واحدة.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾ ذكروا في هذا ثلاثة أقوال: قال ابن عباس في رواية الضحاك: عيانًا (٧)، وهو قول قتادة وابن
(١) في جميع النسخ: (والكسف) بالواو عطفًا، والصواب ما أثبته من المصدر بالفاء؛ لأنه جواب شرط قرن بالفاء.
(٢) "الحجة للقراء" ٥/ ١١٩، بنصه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٩، بنصه.
(٤) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١٢٠، بنحوه
(٥) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٦١ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، ومن طريق العوفي (ضعيفة)، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٧٣، و"الطوسي" ٦/ ٥١٩.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧٠، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٦١ بنصه من طريقين، انظر: "تفسير ابن عطية" ٩/ ١٩٦
(٧) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٨٧، أورده السيوطي "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٧ وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
479
جريج (١)، والمعنى: تأتي بهم حتى نراهم مقابلة، والعرب تُجري القبيل في هذا المعنى مجرى المصدر، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وذكرنا هذا عند قوله: ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ [الأنعام: ١١١]، وهذا القول منهم يدل على جهلهم بصفة الله؛ حيث لم يعلموا أنه لا يجوز على الله المقابلة.
القول الثاني: ما قاله ابن عباس في رواية عطاء: يريد فوجًا بعد فوج (٢).
قال الليث: وكل جيل من الجن والناس قبيل (٣)، ذكرنا ذلك في قوله: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٢٧]، وهذا قول مجاهد (٤).
القول الثالث: أن قبيلًا معناه هاهنا ضامنًا وكفيلاً، روي ذلك عن ابن عباس (٥)، وذكره الزجاج وابن قتيبة (٦).
قال الزجاج: يقال: قَبُلْتُ به أقْبُل، كقولك: كَفُلت أكفُل (٧)، وهو
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٨٩ بلفظه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ١٦٢، بنحوه عنهما، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٤ بلفظه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢١ أبلفظه، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٣، بنحوه عنهما، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٠، بنحوه عنهما.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٥٨.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (قبل) ٣/ ٢٨٧٦، بنصه.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧٠ بمعناه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٦٢ بمعناه من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢١ أبمعناه، انظر: "زاد المسير" ٥/ ٨٨.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢١ أبلفظه، انظر: "زاد المسير" ٥/ ٨٨، و"القرطبي" ١٠/ ٣٣١.
(٦) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦٢، بنحوه.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥٩، بنصه تقريبًا.
480
على هذا واحدٌ أريد به الجمع، وقد جاء [فعيل مفردًا] (١) يُراد به الكثرة، كقول رؤبة:
دَعْها فما النَّحْوِيُ من صديقِها (٢)
وكقوله تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (٣) [النساء: ٦٩]، واختار أبو علي أن يكون معناه المعاينة، قال: إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدرًا كالنذير والنكير، قال: ولو أريد به الكفيل لكان خليقًا أن يجمع على فعلاء كما قالوا: كفلاء؛ لأنه في الأصل صفة وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، قال: ويدل على أن المراد بالقبيل المعاينة لا الكفيل قوله: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: ٢١]، وكما اقترح ذلك غيرهم في قوله: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣]، وقد مرّ (٤).
٩٣ - قوله تعالى: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ﴾ قال المفسرون: كان فيما اقترحوا من الآيات أن يكون له جنان وكنوز وقصور من ذهب، فذلك قوله: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ﴾، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة
(١) ما بين المعقوفين من (ش)، (ع) وفي (أ)، (د): (فصل مفرد).
(٢) "ديوانه" ص ١٨٢، وورد في "جمهرة اللغة" ٢٠/ ٦٥٦، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٢٩٥، و"الأغاني" ٢٠/ ٣٦٧، و"أساس البلاغة" ٢/ ١١، و"شرح شواهد الإيضاح" ٥٧٣، و"اللسان" (ذبح) ٣/ ١٤٨٦، (صدق) ٤/ ٢٤١٨، و"تخليص الشواهد" ص ١٨٤.
والشاهد: أنه قال من صديقها: أي من أصدقائها، فهو مفرد وقع موقع الجمع.
(٣) قال الواحدي -رحمه الله-: قال الفراء: وإنما وحّد الرفيق وهو حقه الجمع؛ لأن الرفيق والبريد والرسول تذهب به العرب إلى الواحد وإلى الجمع.
(٤) "الحجة للقراء" ٣/ ٣٨٦، بنصه تقريبًا.
481
والسدي: من ذهب (١).
قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله: (أو يكون لك بيت من ذهب) (٢).
قال أبو إسحاق: وأصل الزُّخْرُف والزَّخْرَفة في اللغة: الزينة (٣)، يدل على ذلك قوله: ﴿إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾ [يونس: ٢٤]، أي: أخذت كمال زينتها، ولا شيء في تحسين بيت وتزيينه كالذهب، فليس يخرج قول المفسرين عن الحق في هذا (٤). وقال الحسن: الزخرف: النقوش (٥). وفَسَّرنا الزخرف في سورة الأنعام [١١٢] وسورة يونس [٢٤].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ﴾ قال المفسرون: قال عبد الله بن
(١) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧٠ بلفظه، وأخرجه بلفظه: "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩٠، عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ١٦٣، عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة) وعن مجاهد وقتادة من طرق، وورد بلفظه في: "تفسير هود" ٢/ ٤٤٢، عن ابن عباس، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٣، عن ابن عباس وقتادة، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٠، عنهم عدا السدي، وأورده السيوطي في "الدر" ٤/ ٣٦٧ وعزاه إلى عبد بن حميد عن قتادة.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٦٣ بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٥، و"الثعلبي" ٧/ ١٢١ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٣، أورده السيوطي في "الدر" ٤/ ٣٦٧ وزاد نسبته إلى أبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "المصاحف" وأبي نعيم في الحلية - لم أقف عليه. وهذه قراءة شاذة، تعد من قبيل التفسير، لمخالفتها سواد المصحف. انظر: "تفسير أبي حيان" ٦/ ٨٠.
(٣) انظر (زخرف) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٢٠، و"المحيط في اللغة" ٤/ ٤٦٥، و"اللسان" ٣/ ١٨٢١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٠، بتصرف.
(٥) لم أقف عليه.
482
أُمَيَّة: لا أؤمن بك يا محمد أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سُلَّمًا، ثم ترقى فيه وأنا انظر حتى تأتيها، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، فذلك قوله: ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ﴾، قال الفراء: يقال: رَقِيتُ، وأنا أرقى، رَقْيُا ورُقْيًّا ورُقِيًّا، وأنشد (١):
أنتِ التي (٢) كَلَّفتِني رَقْي الدَّرْج على الكِلالِ والمَشِيبِ والعَرْج (٣)
قال: [والمعنى إلى السماء، غير أنهم قالوا: أو تضع سُلَّمًا فترقى عليه إلى السماء فذهبت (في) إلى السُلَّم] (٤).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ وقال ابن عباس ومجاهد: كتابًا نقرأه منشورًا من رب العالمين إلى فلان وفلان، عند كل رَجُل منا صحيفة يصبح عند رأسه يقرأها (٥)، (قَالَ سُبْحَانَ رَبِّي) (٦)، أي:
(١) نسب في "اللسان" لابن بري.
(٢) في جميع النسخ: (أنت)، وفي جميع المصادر: (الذي).
(٣) ورد في: "اللسان" (رقا) ٣/ ١٧١١، وورد بلا نسبة في "الطبري" ١٥/ ١٦٣، و"الرازي" ٢١/ ٥٨، (الكلال): الضعف والإعياء. و"متن اللغة" ٥/ ٩٥.
(٤) ورد ما بين المعقوفين -فقط- في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣١، بنصه، وورد قوله بنحوه وبلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٦٣
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧٠، بنحوه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٦٤، بنحوه عن مجاهد من طريقين، وورد في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٤٣، بنحوه عن مجاهد، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٨٨، عن ابن عباس، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٦) قرأ بها: ابن كثير وابن عامر. انظر: "السبعة" ص ٣٨٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٨٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٣٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ١٢١، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٣١، و"النشر" ٢/ ٣٠٩.
483
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وقرئ: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾ (١)، على الأمر له بأن يقول ذلك.
قال ابن عباس: يقول: عَظُمَ ربي وكَرُمَ، ﴿هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾، كقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف: ١١٠]، أي: إن هذه الأشياء ليس في قوى البشر أن يأتوا بها، فلا وجه لطلبكم هذه الآيات مني مع صفتي أني بشر.
٩٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ﴾ قال ابن عباس: يريد أهل مكة (٢)، ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا﴾، أي: الإيمان والتصديق، ﴿إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى﴾: أي البينات والرشاد من الله تعالى على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو القرآن، ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾، أي: إلا قولهم في التعجب والإنكار، ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ قال أهل المعاني: ووجه تعجبهم من بعث الله بشرًا رسولاً، جهلهم في التعظيم؛ وهو قولهم: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، كما توهموا أن عبادة الأصنام تجوز من طريق التعظيم لله (٣)، و ﴿رَسُولًا﴾ منصوب على أنه مفعول ثان للبعث، كقولك: بعثت زيدًا رسولاً إلى فلان، وفي إنكارهم كون البشر رسولاً اقتضاءُ أن يُبْعَثَ إليهم مَلَكٌ، وكأنه قيل: أبعث الله بشرًا رسولاً؟! هلا بعث مَلَكًا (٤) رسولاً!
٩٥ - فقال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ
(١) قرأ بها: نافع وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي. انظر: المصادر السابقة.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٨٩، و"تنوير المقباس" ص ٣٠٥، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٩ ب، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٤.
(٣) ورد نحوه في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥٢١
(٤) في (د): (ما كان)، وفي (أ): (ما كا)، ويبدو أنها تصحفت عن (ملكًا).
484
مُطْمَئِنِّينَ} قال الحسن: قاطنين (١)، وقال الكلبي: مقيمين (٢)، وقال الزجاج: مستوطنين الأرض (٣)، وأصل الطمأنينة السكون، وجُعل هاهنا عبارة عن المقام والاستيطان؛ لأنه يقال: سكن فلان بلدة كذا، وسكن دار فلان، وإن كان فيها ماشيًا منقلبًا في حاجاته، وليس يراد السكون الذي هو ضد الحركة، كذلك هاهنا ليس المراد بالاطمئنان الذي هو ضد المشي، إنما المراد به الإقامة، كما ذكرنا عن أهل التفسير.
وقوله تعالى: ﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ قال أبو إسحاق: أعلمهم الله أن الأعدل والأبلغ في الأداء إليهم بشرٌ (٤)؛ لأنه لا يُرْسِل إلى خلق إلا ما كان من جنسهم، فلو كان في الأرض بدل الآدميين ملائكة، لنزلنا عليهم ملكًا رسولاً (٥)
فإن قيل: لم جاز أن يرسل إلى النبيّ وهو بشر ملكٌ ليس من جنسه، ولم يجز أن يرسل غير النبيّ من البشر؟
الجواب: أن النبيّ قد اختير للهداية والمصلحة، وهو صاحب معجزة، فصارت حاله بذلك مقاربة لحال الملك، مع أن الجماعة الكثيرة ينبغي أن يُتَخيّر لها ما يجتمع عليه هَمُّها، إذا أريد الصلاح لجميعها بما لا يحتاج إليها في الواحد منها.
(١) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥٢٢، بلفظه.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٥، ورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢١٩ ب، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٤، و"هود الهواري" ٢/ ٤٤٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦١، بنصه.
(٤) في (أ)، (د): (بشرًا)، وهو خطأ نحوي ظاهر.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦١ بتصرف.
485
٩٦ - قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ فسرنا هذا في آخر سورة الرعد [آية: ٤٣].
٩٧ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾ قال ابن عباس: من يرد الله هُدَاه (١)، ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾، ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ﴾ قال: ومن يخذل، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾: يهدونهم من دون الله، ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾، في حديث أبي هريرة، قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم، قال: "إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، إنهم يتقون (٢) بوجوههم كل حَدَبٍ وشَوْك" (٣).
وقوله تعالى: ﴿عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، ثم قال: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ﴾ [الكهف: ٥٣]، وقال: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾ [الفرقان: ١٢]، وقال: ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان: ١٣]، فكيف قال في هذه الآية: ﴿عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾، ثم أجاب
(١) ورد في "الوسيط" ٢/ ٥٥٢، انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٩٠.
(٢) في (ش): (يتقوه).
(٣) جزء من حديث طرفه: "بحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف.. " أخرجه الترمذي (٣١٤٢) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل بنصه عن أبي هريرة وحسنه، و"الطبري" بنصه دون الزيادة بين التنصيص، وورد في "تفسير الثعلبى" ٧/ ١٢١ ب، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٨ وزاد نسبته إلى ابن مردويه وأبي داود والبيهقي في البعث -لم أجده فيهما، وللحديث شاهد من طريق أنس بن مالك -رضي الله عنه- دون الزيادة بين التنصيص- أخرجه: أحمد ٣/ ١٦٧، والبخاري (٤٧٦٠) كتاب: التفسير، سورة الفرقان ٤/ ١٧٨٤، ومسلم (٢٨٠٦) كتاب: الجنة والنار، باب. صفات المنافقين، يحشر الكافر على وجهه ٤/ ٢١٦١، والحاكم: التفسير، الفرقان ٢/ ٤٠٢.
486
ابن عباس: فقال عميًا لا يرون شيئًا يسرهم، صُمًّا لا يسمعون شيئًا يسرهم، بكمًا لا ينطقون بحجة (١).
وقال في روايهَ عطاء: يريد عُميًا عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه، وبكمًا عن مخاطبة الله تعالى، وصُمًّا عما مدح الله به أولياءه (٢).
وقال مقاتل: هذا حين يقال لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨]، فيصيرون عميًا بكمًا صمًا لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك (٣).
وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ﴾ الخبو: سكون النار، يقال: خبت النار تخبو إذا سكن لهيبها، ومعنى خبت سَكَنت وطَفِئت، ويقال في مصدره: الخبؤ، وأخبأها المخبئ، أي أخمدها (٤).
قال الكميت:
مؤجِّج نيرانِ المكارم لا المُخْبي (٥)
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٦٨بنصه (صحيحة)، وورد بنحوه مختصرًا في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٧، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢١ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٥، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٤، بنحوه، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٦١، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٨ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٩٠، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٦١، و"أبي حيان" ٦/ ٨٢ بلانسبة.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ٢٢٠ أ، بنحوه.
(٤) انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص ١٧٧، و"تهذيب اللغة" (خبأ) ١/ ٩٧، و"المحيط في اللغة" (خبو) ٤/ ٤٢٧، و"اللسان" (خبا) ٢/ ١٠٩٨.
(٥) صدره:
ومنّا ضرارٌ وابْنَماهُ وحاجبٌ
487
قوله تعالى: ﴿زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ قال ابن عباس: سُعِّر العذابُ عليهم بأشد مما كان (١)، وقال ابن قتيبة: زدناهم نارًا تَتَسَعَّر، أي تَتَلَهَّب (٢)، ومضى الكلام في السعير في سورة النساء [آية: ١٠].
٩٨ - قوله تعالى ﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ﴾ هذه الآية مفسرة في هذه السورة (٣)
٩٩ - ثم أجابهم الله عن إنكارهم البعث بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ الآية. ومعنى ﴿أَوَلَمْ﴾ هاهنا: أولم يعلموا، وذكرنا الكلام في هذا عند قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، والمعنى: ألم يعلموا أن من قدر على خلق السموات في عظمها، ﴿قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾، أي: على أن يخلقهم ثانيًا، وأراد بمثلهم إيّاهم، وذلك أن مثل الشيء مساوٍ له في حالته، فجاز أن يُعَبِّرَ به عن الشيء نفسه، وخَلْقُ مِثْلِهم كخلقهم، والمعنى: قادر على أن يخلق مثلهم في ضعفهم وصغرهم، هذا
= ومنا لقيط.... مؤرث نيران....
وورد في "مجاز القرآن" ١/ ٣٩١، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ١٧٥، و"الأزهية" ص ٢٤، و"اللسان" (خبا) ٢/ ١٠٩٨، وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" ٣/ ١٣٠٨، (ابنماه): تثنية ابن، حيث زادوا في (ابن) ميمًا للتوكيد وألحقوها الإعراب، وحركوا النون بحركتها، فقالوا: جاءني ابنُمٌ، ورأيت ابنَمًا، ومررتُ بابنِمٍ، وقالوا في الجمع: هؤلاء ابنُمونَ، (المخبي): الذي يطفئ النار؛ يقال: خبت النار والحرب، تخبو خبوًا وخُبُوًا: سكنت وطفئت وخمد لهبها، وهي خابية، وأخْبيتها أنا: أخمدتها.
(١) أخرج "الطبري" ١٥/ ١٦٨ بمعناه من طريق العوفي (ضعيفة)، وابن الأنباري في "الأضداد" ص ١٧٦ - بمعناه من طريق ابن جريج "صحيحة"، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٩ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٦٢، بنصه.
(٣) عند آية [٩٨].
معنى قول أكثر المفسرين (١).
وقال عطاء عن ابن عباس: ﴿قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ يريد عبيدًا يوحدونني ويعظمونني ولا يعدلون بي شيئًا (٢)، فالمعنى على هذا يخلق مثلهم في الخلقة والشبه، ويكون المعنى كقوله: ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٩].
وقوله تعالى: ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨]، والقول هو الأول (٣)؛ لأنه أشبه بما قبله، ولأنه لا دليل على توحيد المخلوقين مثلهم في الآية، وتَمَّ الكلام، أي لا دليل في الآية على أن الذين يخلقهم أمثالهم يوحدونه ويعظمونه كما ذكرتم.
قال: ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ قال ابن عباس: يريد أجل الموت وأجل القيامة (٤)، وهذا جواب لاستدعائهم العذاب في قولهم: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾، ﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ﴾ أي المشركون، ﴿إِلَّا كُفُورًا﴾: جحودًا بذلك الأجل، وهو البعث والقيامة.
١٠٠ - وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ﴾ قال أبو إسحاق: ﴿أَنْتُمْ﴾ مرفوعة بفعل مضمر، المعنى: قل: لو تملكون أنتم؛ لأن (لو) يقع بها
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ١٦٩، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٥، و"هود الهواري" ٢/ ٤٤٤، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٢ أ.
(٢) ذكره الفخر الرازي ٢١/ ٦٢ بلا نسبة، وورد في "تفسير الألوسي" ١٥/ ١٧٧٥ بلا نسبة بصيغة التمريض وردَّه.
(٣) وهو الصحيح والذي عليه الجمهور -كما ذكر- ولم يكن حاجة إلى إيراد القول الثانى المرجوح جدًا خاصة أن طريقه مقطوعة.
(٤) ورد في "الوسيط" ٢/ ٥٥٤ بنصه، وورد بلا نسبة "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٧٦، و"ابن عطية" ٩/ ٢٠٤، و"القرطبي" ١٠/ ٣٣٤ و"الخازن" ٣/ ١٨٢.
489
الشيء لوقوع غيره، فلا يليها إلا الفعل، فإذا وليها الاسم عمل فيه الفعل المضمر (١)، وأنشد قول المُتَلَمِّس (٢):
فلو غيرُ أخوالي أرادوا نَقِيصَتِي نَصَبْتُ لهم فَوقَ العَرانِينِ مِيسَاً (٣)
المعنى: لو أراد غير أخوالي (٤).
وأنشد غيره لجرير (٥):
لو غَيْرُكم عَلِقَ الزُّبَير بحبله أدّى الجوارَ إلى بني العَوّامِ (٦)
(١) انظر: "المقتضب" ٣/ ٧٧، و"الكامل" ١/ ٢٧٩، و"مغني اللبيب" ص ٣٥٣، و"الدرر اللوامع" ٥/ ٩٩.
(٢) المتلمس؛ هو جرير بن عبد المسيح، من بني ضُبَيعة، وأخواله بنو يَشْكُر، وهو خال طرفة بن العبد، شاعر جاهلي مُفْلقٌ مُقلّ، عدّه الجمحي في الطبقة السابعة من شعراء الجاهلية، دبّر عمرو بن هند ملك الحيرة قتله هو وطرفة بعد أن هَجَوَاه، فنجا المتلمس وهرب إلى بني جفنة ملوك الشام وقتل ابن أخته، قتله عامل البحرين، توفي نحو سنة (٥٦٩ م).
انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٥٥، و"الشعر والشعراء" ص ٩٩، و"لأغاني" ٢٤/ ٢١٦، و"الخزانة" ٦/ ٣٤٥.
(٣) "ديوانه" ص ٢٩، وورد في "الأصمعيات" ص ٢٤٥، و"مختارات ابن الشجري" ص ١٢٢، و"تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٩١، و"الخزانة" ١٠/ ٥٩، وورد بلا نسبة في: "الكامل" ١/ ٢٧٩، و"المقتضب" ٣/ ٧٧، و"تذكرة النحاة" ص ٤٩٠، و"اللسان" (نقص) ٨/ ٤٥٢٣، وفي الديوان وجميع المصادر -عدا ابن الجوزي-: (جعلت) بدل (نصبت). (نقيصتي): تنقصي، (العرانين): جمع عِرْنين؟ وهو أعلى قصبة الأنف، (ميسما): الميسم: هو الآلة التي يوسم بها، ومقصوده: أَسِمُهم على العرانين، أي أهجوهم هجاءً يبقى أثرُه في وجوهم ويلزمهم لزوم الميسم للأ نف.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٢، بنصه.
(٥) ساقطة من (ش).
(٦) "ديوانه" ص ٤٥٣ وفيه (ورَحْلَهُ)، وورد في: "الكامل" ١/ ٢٧٩، =
490
أي لو عَلِقَ غيْرَكُمْ، والخطاب في هذه الآية للمشركين، قال ابن عباس: ﴿قُلْ﴾: يا محمد (١)، ﴿لَّوْ انتُمْ﴾: يا معشر المشركين، ﴿تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ يريد خزائن الرزق، ﴿إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ﴾ يريد إذا لبخلتم.
قال أبو إسحاق: أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شُحًّا وبُخْلاً، قال: وهذا جواب لقولهم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ (٢) يريد أنهم طلبوا عين ما في بلدهم ليكثر مالهم ويتسع عيشهم، فأعلمهم الله أنهم لو ملكوا الكثير لبخلوا؛ لأنهم جُبِلوا على الإمساك، والبخيل لا ينفعه كثرة المال.
وقوله تعالى: ﴿خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾ خشية منصوب على أنه مفعول له.
قال ابن عباس: خشية الفقر (٣)، وقال قتادة: خشية الفاقة (٤).
قال أبو عبيدة: يقال: قد أملق الرجل إملاقًا، وأنفق إنفاقًا، إذا قَلّ ماله (٥).
= و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٦٥٧، و"الخزانة" ٥/ ٤٣٢، و"الدرر اللوامع" ٥/ ٩٨، وورد بلا نسبة في "المقتضب" ٣/ ٧٨، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٥٢٥، و"مغني اللبيب" ص ٣٥٣.
(١) ورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٧٠، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٥.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦١، بنصه مع تقديم وتأخير.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٠ بلفظه من طريق الحجاج عن ابن جريج (صحيحة)، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٨.
(٤) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩٠ - بلفظه، و"الطبري" ١٥/ ١٧٠ بلفظه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٨ - بمعناه، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٧٦ - بمعناه، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٥ - بمعناه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٩ - ٣٧٠، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٨ وعبارته: ﴿مِنْ إِمْلَاقٍ﴾: من ذهاب ما في أيديكم؛ يقال: أملق فلان؛ اي ذهب ماله.
491
قال المبرد: المعروف في الإنفاق أنه إخراج المال عن اليد، فإن كان قد روي في اللغة معنى الإعدام فهو كما قال أبو عبيدة، وإلا فمعنى الكلام في الآية: خشية أن يستفرغكم الإنفاق ويُجْحِفَ بكم، فيكون الكلام من باب حذف المضاف على تقدير: خشية ضرر الإنفاق وما أشبهه (١)، وهذا معنى قول السدي: خشية أن ينفقوا فيفتقروا (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾ قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: بخيلًا (٣)، يقال: قَتَرَ يَقْتِرُ ويَقْتُر قَتْرًا، وأقْتَرَ إقتارًا، وقَتَّر تَقْتيرًا، إذا قَصَّر في الإنفاق (٤).
قال الليث: القَتْرُ: الرُّمْقة في النَّفقة؛ وهو أن ينفق ما (٥) يُمْسِك الرّمَق (٦).
فإن قيل في الناس: الجواد المُبَذِّر، فلم قيل: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾؟ الجواب: أن الأغلب عليهم البخل والاقتصار، ولا اعتبار بالنادر، على أن
(١) لم أقف عليه.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٥٤، بنصه.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٠ بلفظه عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، ومن طريق ابن جريج (صحيحة)، وعن قتادة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٩، عن ابن عباس، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٧٦، عنهما، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٦٩ وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن ابن عباس، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن قتادة.
(٤) انظر: (قتر) في "جمهرة اللغة" ١/ ٣٩٣، و"المحيط في اللغة" ٥/ ٣٦٠، و"مجمل اللغة" ٢/ ٧٤٢، و"اللسان" ٦/ ٣٥٢٥.
(٥) في (أ)، (د)، (ش): (ماله)، والمثبت من. (ع)، وبه يستقيم المعنى، وهو أقرب لما في المصدر.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (قتر) ٣/ ٢٨٨، بتصرف.
492
كل أحد بخيل بالإضافة إلى جُود الله؛ إذ لو ملك خزائن ربه لادّخر معظمها لنفسه، والله -عز وجل- يفيضها على عباده لا يمنعه عن ذلك الإبقاء لنفسه، لأنه يجلّ عن لحَاق النفع والضر.
وقال أبو إسحاق: يعني بالإنسان هاهنا الكافر خاصة، كما قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ﴾ [العاديات: ٦، ٨]، أي: المال (١)، ﴿لَشَدِيدٌ﴾: لبخيل (٢)، وهذا قول الحسن (٣).
١٠١ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ﴾ الآية. وجه اتصال معنى هذه الآية بما قبلها أنه ذكر في هذه الآية إنكارَ فرعونَ آياتِ موسى مع وضوحها، فيكون في ذلك تشبيها لحال هؤلاء المشركين بحاله وتسلية للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-. واختلفوا في الآيات التسع مع اتفاقهم أن منها: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فهذه خمس، وأما الأربعة الباقية، فروى قتادة عن ابن عباس قال: هي يده البيضاء عن غير سوء، وعصاه إذا ألقاها، وما ذكر في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [الأعراف: ١٣٠] قال: ﴿السِّنِينَ﴾ لأهل البوادي حتى هلكت مواشيهم، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ لأهل القرى، وهاتان آيتان (٤)، ونحو هذا
(١) ساقطة من (ع).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦١، بتصرف يسير.
(٣) ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٧٦، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٣٥، وورد بلا نسبة في: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٢٠ أ، و"هود الهواري" ٢/ ٤٤٥، والجمهور -كما في "التفسير الماوردي"- على أنها عامة، وهو الصحيح.
(٤) أخرجه "عبد الرازق" ٢/ ٣٩٠، بنحوه، و"الطبري" ١٥/ ١٧١، بنحوه من طريقين، وورد في:"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٥، بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٢ أ، =
493
روى أبو صالح وعكرمة (١)، وهذا قول مجاهد (٢). وقال محمد بن كعب القرظي بدل السنين ونقص من الثمرات فَلْق البحر والطمسة، وهي أن الله تعالى مسخ أموالهم حجارة ميت النخل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير (٣)، وهذا الذي ذكرنا أجود ما قيل في تفسير الآيات (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ قال ابن عباس: فأسأل يا محمد بني إسرائيل (٥)، يريد المؤمنين من قريظة والنضير، ﴿إِذ جَآءَهُم﴾ يريد موسى، ونظم الآية على غير ما هو عليه في الظاهر؛ لأن (إذ) تتعلق بالإتيان لا بالسؤال، وتقدير الآية: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، ﴿إِذ جَاَءَهُم﴾:
= و"الماوردي" ٣/ ٢٧٧، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٧ وفي المصادر الثلاثة الأخيرة: العقدة بلسانه [وفيه نظر؛ لأن وجه الآية فيه غير ظاهر]، وفَلْق البحر بدل السنين ونقص الثمرات، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٠، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق.
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧١، بنحوه عن عكرمة، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٢ أ، بنحوه عن عكرمة، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٧، بنحوه عن عكرمة عن ابن عباس.
(٢) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٠، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٢ أ، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٧.
(٣) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧١، بنحوه، لكنه ذكر الحجر بدل فلق البحر، وعرفّ الطمسة بقوله: دعا موسى وأمَّن هارون، فقال ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: ٨٩]، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٢ أمع زيادات، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٧، كرواية الطبري، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٧، بنحوه.
(٤) قال ابن كثير ٣/ ٧٥: وهذا القول ظاهر جلي، حسن قوي، يقصد قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة.
(٥) ورد بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٧٣، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٢ ب، و"هود الهواري" ٢/ ٤٤٥، و"البغوي" ٥/ ١٣٤، و"الخازن" ٣/ ١٨٣.
494
بني إسرائيل فسألهم، إلا أنه لمّا عُلِّق السؤال ببني إسرائيل كُنِّى عنهم [في قوله: ﴿جَاءَهُمْ﴾ والمراد: إذ جاء آباءهم الذين كانوا في ذلك الوقت، ولكنهم لمَّا كانوا من بني إسرائيل كنى عنهم] (١)؛ لتقدم ذكر بني إسرائيل في الجملة، وقوله: ﴿فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ اعتراض دخل في كلام متصل.
وقال أهل المعاني في معنى هذا السؤال: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أُمر بأن يسألهم لا ليعرف ذلك من جهتهم، ولكن لينكشف لعامة اليهود بقول علمائهم صِدقُ ما أتى به وأَخْبَر عنه، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد.
وقوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾، قيل في المسحور هاهنا: إنه بمعنى الساحر؛ كالمشؤوم والميمون، وذكرنا هذا في قوله: ﴿حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥] هذا قول الفراء وأبي عبيدة (٢)، وقيل: إنه مفعول من السحر؛ أي أنك قد سُحِرت فأنت تحمل نفسك على هذا الذي تقوله للسحر الذي بك (٣).
وقال محمد بن جرير: أي مُعْطَى عِلْم السحر، فهذه العجائب التي تأتي بها من سحرك (٤)، فأجابه موسى:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (د).
(٢) ليس في المعاني ولا المجاز، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٢ ب، بنحوه عنهما، وهو مصدره، وانظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٣٥، و"القرطبي" ١٠/ ٣٣٦، عنهما، و"ابن الجوزي" ٥/ ٩٤، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٦٥، كلاهما عن الفراء.
(٣) ورد نحوه في "تفسير الطبري" ١٥/ ١٧٣ - ١٧٤، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٨، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٨.
(٤) "تفسير الطبري" ١٥/ ١٧٣ - ١٧٤، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٢ ب بنصه، والظاهر أنه اقتبسه منه لا من الطبري.
495
١٠٢ - بقوله: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ﴾ يعني الآيات، ﴿إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ أي عِبرٌ أو دلالات، وذكرنا معنى البصائر في آخر سورة الأعراف [: ٢٠٣].
وقراءة العامة بفتح التاء (١)، [وقرأ الكسائي: علمتُ بضم التاء (٢)، والاختيار عند الجميع فتح التاء، وهو قراءة ابن عباس، وضم التاء] (٣) قراءة علي -رضي الله عنه-، وكان يقول: والله ما عَلِمَ عدو الله، ولكن موسى هو الذي عَلِم، فبلغ ذلك ابن عباس فاحتج بقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤]، على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى (٤).
وقال الزجاج: (الأجود في القراءة فتح التاء؛ لأن عِلم فرعونَ) (٥) بأنها آيات من عند الله أوكد في الحجة (٦)؛ فموسى يحتج عليه بما علم
(١) انظر: "السبعة" ص ٣٨٦، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٨٣، و"علل القراءات" ١/ ٣٣٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ١٢٢، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٣١، و"التبصرة" ص ١٤١، و"النشر" ٢/ ٣٠٩.
(٢) انظر المصادر السابقة.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (د).
(٤) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠١، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٨٤، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٢ ب، وانظر: "تفسير الرازي" ٢١/ ٦٥، بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٠ - ٣٧١ وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم، دون رد ابن عباس -رضي الله عنه-. قال أبو حيان ٦/ ٨٦: وهذا القول عن علي -رضي الله عنه- لا يصح؛ لأنه رواه كلثوم المرادي، وهو مجهول.
(٥) ما بين التنصيص ساقط من (أ)، (د)
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٣ بنصه. وعبارته الأجود غير جيدة؛ لأنها تقتضي انتقاص القراءة الأخرى السبعية.
496
هؤلاء بما علم موسى، وأما من ضم التاء فحجته ما ذكرنا عن علي.
فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج عليه بعلمه، وعلمه لا يكون حجة على فرعون؟
فالجواب: أنه لما قيل له: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧]، قال موسى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾، فكأنه نفى ذلك وقال: لقد علمتُ صحةَ ما أَتَيْتُ به علمًا صحيحاً؛ علم العقلاء (١)، وفي قوله: ﴿مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ دليل على قول من يقول: إن الآيات التسع كانت آيات من التوراة، وهو ما رُوي عن صفوان بن عسال (٢) عن يهوديين سألا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشركوا بالله، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة ألا تعدوا في السبت، قال؛ فَقَبَّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبيّ" (٣).
(١) ورد في "الحجة للقراء" ٥/ ١٢٣، بنحوه، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٥٢٦، بنحوه
(٢) صفوان بن عسال -رضي الله عنه- صحابي من بني الرَّبَض بن زاهر المرادي، سكن الكوفة، غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنتي عشرة غزوة، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث، روى عنه عبد الله ابن مسعود، وزِر بن حُبَيْش، وعبد الله بن سَلِمَة.
انظر: "الاستيعاب" ٢/ ٢٧٩، و"أسد الغابة" ٣/ ٢٨، و"الإصابة" ٢/ ١٨٩.
(٣) أخرجه بنحوه: ابن أبي شيبة ٧/ ٣٢٩، وأحمد ٤/ ٢٣٩، والترمذي (٣١٤٤) كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وقال: حسن صحيح، والنسائي: تحريم الدم والسحر ٧/ ١١١، و"الطبري" ١٥/ ١٧٢ بنصه وبنحوه من طرق، والطبراني ٨/ ٨٣، والحاكم ١/ ٩ وصححه، وأبو نعيم في "الحلية" ٥/ ٩٧، والبيهقي في "الدلائل" ٦/ ٢٦٨ وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ١٩٩ بنصه مع زيادة في =
497
وقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ قال الكلبي: وإني لأعْلَمُك يا فرعون (١)، ﴿مَثْبُورًا﴾ قال ابن عباس: ملعونًا (٢).
وقال قتادة: مهْلَكًا (٣)، وقال مجاهد: هالِكًا (٤).
قال الفراء: المثبور: الملعون المحبوس عن الخير، والعرب تقول: ما ثَبَرك عن هذا؟ أي ما منعك منه وما صرفك (٥).
وروى أبو عبيد عن أبي زيد: ثَبَرْتُ فلانًا عن الشيء: رَدَدْتُه عنه (٦).
= آخره، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٧، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٧، بنحوه.
قال ابن كثير ٣/ ٧٥: وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سَلِمَة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون. وعليه فالحديث لا دلالة فيه، فضلاً عن كونه ضعيفًا.
(١) ورد بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٦، وهو قول أكثر المفسرين، كما قال ابن الجوزي ٥/ ٩٤.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٥ بلفظه من طريق سعيد بن جبير، ومن طريق ابن أبي طلحة (كلاهما صحيحة)، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٣، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٨٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٢ ب، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩١ بلفظه، و"الطبري" ١٥/ ١٧٦، بنحوه من طريقين، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٣ بلفظه، و"تهذيب اللغة" (ثبر) ١/ ٤٧١، بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٣٨٦ بلفظه، والماوردي ٣/ ٢٧٨، بنحوه.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧١، بنحوه، أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٦ بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٣، و"تهذيب اللغة" (ثبر) ١/ ٤٧١، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٢ ب، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٨.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٢، بنصه تقريبًا.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (ثبر) ١/ ٤٧١، بنصه.
498
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: المثْبُور: الملْعُون المطْرود المُعَذَّب (١)، هذا وجه قول ابن عباس.
وأما وجه قول مجاهد وقتادة، فقال الزجاج: ثُبِرَ الرجل فهو مثبور إذا أهلك (٢)، والثبور الهلاك، قال شمر: ومَثَلٌ للعرب: إلى أُمّه يأوي من ثُبِر؛ أي مَن أُهلِك (٣).
قال أبو عبيد: والمعروف في الثبور الهلاك، والملعون هالك (٤).
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿فَأَرَادَ﴾ قال ابن عباس: يريد فرعون (٥) ﴿أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ﴾، أي: يخرجهم، يعني: موسى وقومه بني إسرائيل، ومضى تفسير الاستفزاز في هذه السورة [آية: ٦٤]، ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ يعني: أرض مصر (٦).
قال أبو إسحاق: جائز أن يكون استفزازهم إخراجهم منها بالقتل وبالتنحية، وهذه الآية وما بعدها تسلية للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذ قص عليه -في إِثْر ما ذكر من تكذيب قومه وهمهم بإخراجه- قصة فرعون، وما همّ به من استفزاز موسى وبني إسرائيل من أرض مصر، حتى أهلكه الله تعالى وأورثهم
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (ثبر) ١/ ٤٧١، بنصه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٣، بنصه.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (ثبر) ١/ ٤٧١ بنصه، انظر: "اللسان" (ثبر) ١/ ٤٦٩، و"موسوعة أمثال العرب" ٢/ ٦٥٠.
(٤) لم أقف على مصدره.
(٥) ورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٣أ، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٩، و"البغوي" ٥/ ١٣٥، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٣٥.
(٦) ورد بلفظه في "تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٤٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٣ أ؛ و"الطوسي" ٦/ ٥٢٩، والبغوي" ٥/ ١٣٥.
أرضهم وديارهم وأموالهم، لذلك أظهر نبيه محمدًا (١) -صلى الله عليه وسلم- على المشركين، ورده إلى مكة ظاهرًا عليهم، فأنجز وعْدَه، ونصر عبده.
١٠٤ - وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ قال ابن عباس: يريد القيامة (٢)، ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾، أي: جميعًا، في قول مجاهد وقتادة (٣).
وقال ابن عباس: يريد من كل موضع (٤).
وروى منصور عن أبي رَزين (٥): من كل قوم (٦).
قال الفراء: من هاهنا وهاهنا (٧).
وقال الزجاج: من كل قبيلة (٨).
وروى عمرو عن أبيه: اللفيف: الجمع العظيم من أخلاط شتى،
(١) ساقطة من (أ)، (د).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٣٠٦، وورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٢٠ ب، و"الطبري" ١٥/ ١٧٦، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٣ أ، وهذا هو قول الجمهور.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧١ بلفظه، أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩١ - بلفظه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ١٧٧ بلفظه عنهما من طرق، وورد بلفظه: في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٤، عنهما، و"تفسير هود" ٢/ ٤٤٦، عن مجاهد، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٣أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٨، عن قتادة.
(٤) ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ٢٧٨ بمعناه، وفي "تفسير الطبري" ١٥/ ١٧٧، عنه من طريق العوفي (ضعيفة): جميعًا.
(٥) تقدمت ترجمته.
(٦) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٧ بنصه، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٤
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٢، بنصه.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٣، بنحوه.
فمنهم الشريف والدني، والمطيع والعاصي، والقوي والضعيف (١).
وقال المبرد: الأكثر عند العرب أن اللفيف إنما يقال للمختلطين من كل شيء خلطته بشيء فقد لففته، ومنه قيل: لفَفَتَ الجيوشَ إذا ضربت بعضها ببعض، والتفت الزحوف (٢).
والمعنى: جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطًا، يعني جميع الخلق؛ المسلم والكافر والبر والفاجر.
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ﴾ الحق نقيض الباطل، وهو الثابت الذي لا يزول، كما أن الباطل: الزائل الذاهب، وأراد بالحق هنا: الدين الحق والأمر الحق، وهو ما كان عليه محمد -صلى الله عليه وسلم- والكناية في: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ للقرآن، ومعناه: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين القائم، قال أبو علي الفارسي: (الباء) في: ﴿وَبِالْحَقِّ﴾ في موضع الحال من الضمير في ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾، يعني أنه بمعنى: مع، كما تقول: نزل بِعُدّته وخرج بسلاحه، والمعنى: أنزلنا القرآن مع الحق.
وقوله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ قال: يحتمل الجار فيه ضربين؛ أحدهما: أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول: نزلت يزيد، والثاني: أن يكون حالاً من الضمير الذي في نزل، هذا كلامه (٣)، وعلى القول الأول: الحق محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن القرآن نزل به عليه، وعلى القول الثاني: معناه نزل مع الحق، كما قلنا في قوله: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ﴾.
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (لفف) ٤/ ٣٢٨١، بنصه.
(٢) لم أقف عليه، وورد نحوه بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٣ أ، و"الطوسي" ٦/ ٥٢٩، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٦٦.
(٣) لم أقف عليه.
١٠٦ - قوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ﴾ يَنْتَصبُ قرآنًا بإضمار فعل، مثل الذي ظهر (١)، قال أبو علي: (وَقُرْءَانًا) يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون محمولًا على ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ كأنه قال: بالحق أنزلناه وأنزلنا قرآناً، فانتصابه على أنه مفعول به، والوجه الآخر: أن تعطفه على ما يتصل به كأنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ وذا قرآن وصاحبَ قرآن (٢)، فحذف المضاف (٣)، وعلى ما ذكر أبو علي -في القول الثاني- يجب أن يكون القرآن نكرة لوصفه له بالجملة من غير الذي، وقد ذكر في قوله: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزمر: ٢٨] أنه يجوز أن يكون نكرة (٤)، وذلك غير جيد لتنكير (٥) الاسم العلم (٦)، و ﴿فَرَقْنَاهُ﴾: فَصَّلناه، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (٧).
(١) مذهب سيبويه؛ أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعدُ؛ أي: وفرقناه قرآنًا، "تفسير ابن عطية" ٩/ ٢١٥.
(٢) في (أ)، (د)، (ش): (قرآنًا). وهو خطأ نحوي ظاهر، والمثبت من (ع) وموافق لما في المصدر.
(٣) "المسائل الحلبيات" ص ٢٩٨، بنصه. وهذا القول فيه تكلف وبعد عن ظاهر القرآن الواضح، وظاهر الآيتين أن الله تعالى وصف القرآن الكريم بثلاث صفات، أنه كله حق لأنه نزل من عنده، والثاني: أن جميع ما فيه حق لا مرية فيه، والثالث: أنه جاء محكمًا مفصلًا وواضحًا بَيّنًا، أو أراد وصفه بأنه نزل منجمًا مفرقًا بحسب الوقائع والأحداث. أملاه عليّ أ. د. فضل عباس، أحد علماء الأردن المعاصرين.
(٤) المصدر السابق ص ٢٩٧، بنحوه.
(٥) في (أ)، (د)، (ش): (لنكير)، والمثبت من (ع).
(٦) وهذه إشارة إلى أنه من القائلين بأن القرآن علم مرتجل، وهي مسألة خلافية بين العلماء في أصل القرآن، هل هو مشتق أو علم مرتجل؟ انظر: "مناهل العرفان" ١/ ١٤، و"المدخل لدراسة القرآن الكريم" ص ١٧، و"مباحث في علوم القرآن" ص ١٦.
(٧) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٨ بلفظه من هذه الطريق (صحيحة)، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٣ أ.
502
وقال سعيد بن جبير عنه: نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى في السنين التي نزل فيها (١).
وقال قتادة: كان بين أوله وآخره عشرون سنة (٢)، وهو معنى قوله: ﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾، وقال السدي: قطعناه آية آية وسورة سورة، ولم ننزله جملة (٣)، والاختيار عند الأئمة: فرقناه مخففًا (٤)، وفَسّره أبو عمرو: بَيَّناه (٥).
وقال الفراء: أحكمناه (٦) وفصَّلناه؛ كما قال: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤] أي يُفَصّل (٧).
قال أبو عبيد: والتخفيف أعجب إليّ لأن تفسيره: بَيّناه، ومن قرأ بالتشديد (٨) لم يكن له معنى إلا أنه أُنزل متفرقًا، والتأويل الأول أعجب إليّ
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٨، بنحوه من طريق عكرمة (حسنة)، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥٣٠، بنحوه. انظر: "تفسير الرازي" ٢١/ ٦٨، عن ابن جبير.
(٢) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩١ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ١٧٨ بنصه، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥٣٠ بنصه.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" ٢/ ٥٥٩، بنصه، وهو في معنى قول ابن عباس وقتادة السابقين.
(٤) قرأ بها السبعة وعامة قراء الأمصار، انظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ١٧٨، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ٣٨٤.
(٥) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٥ بلفظه.
(٦) في جميع النسخ: (حكيناه)، والصواب ما أثبته؛ لأنه هو المناسب للمعنى والمقابل لقوله: فصلناه، وقد ورد في المصدر والتهذيب: أحكمناه
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٣٣ بنصه تقريبًا، انظر: "تهذيب اللغة" (فرق) ٣/ ٢٧٧٨.
(٨) أخرجها الطبري عن ابن عباس ١٥/ ١٧٨، ونسبت في "القرأءات الشاذة" لابن خالويه ص٨١ إلى أُبيّ وابن عباس ومجاهد، وأوردها ابن جني في "المحتسب" ٢/ ٢٣، ونسبها إلى علي وابن عباس وابن مسعود وأُبيّ والشعبي والحسن وقتادة وغيرهم. وفي "الإتحاف" ص ٢٨٧ قرأ بها ابن محيصن. وزاد ابن عطية ٩/ ٢١٦ أن في قراءة ابن مسعود وأبي زيادة كلمة (عليك)، أي: فَرَّقْنَاه عليك لتقرأه، وكلتا الروايتين قراءة شاذة كما هو ظاهر.
503
وأشرق، هذا كلامه (١)، وحصل من هذا أن معنى الفَرْق تفصيل يتضمن التبيين، والتفريق لا يتضمن التبيين، ولهذا فسروا هاهنا وفي قوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ﴾ [الدخان: ٤] بالتبيين.
ومما يرجح التخفيف ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقتُ أفْرُقُ بين الكلام، وفَرَّقتُ بين الأجسام (٢)، ويدل على هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" (٣)، ولم يقل: يفترقا، والتفرق مطاوع التفريق، والافتراق مطاوع الفرق، ومعنى: ﴿عَلَى مُكْثٍ﴾ على تؤدة وتَرَسُّل، قاله مجاهد (٤).
قال الفراء: يقال: مَكُثَ ومَكَثَ ومَكِثَ، ويقال في الفعل: مَكُث
(١) لم أقف عليه.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (فرق) ٣/ ٢٧٧٨ بنصه.
(٣) أخرجه بلفظه: أحمد ٢/ ٩، عن ابن عمر، والبخاري (٢٠٧٩) كتاب: البيوع، باب: إذا بيَّن البيّعان عن حكيم بن حزام، والدارمي: البيوع، في البيعان بالخيار ٢/ ٣٢٥، عن حكيم، والطبراني في "الكبير" ٣/ ١٩٩، عن حكيم، والحاكم: البيوع، البيعان بالخيار ٢/ ١٦، عن سمرة بن جندب، والبيهقي: البيوع، المتبايعان بالخيار ٥/ ٢٦٩، عن ابن عمر.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧١ بمعناه؛ قال: على ترتيل، وأخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩١، بلفظه، و"الطبري" ١٥/ ١٧٩ بلفظه وبمعناه، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٥ و"تفسير هود الهواري" ٢/ ٤٤٦، و"الماوردي" ٣/ ٢٧٩، و"الطوسي" ٦/ ٥٣١.
504
ويَمْكُث ومَكَث يَمْكَث (١)، والفتح قراءة عاصم في قوله: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ (٢) [النمل: ٢٢]، قال: فَرَّقَه الله في التنزيل ليفهمه الناس، فقال: ﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ قال ابن عباس: [نجوما بعد نجوم، وشيئًا بعد شيء (٣).
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا﴾ قال ابن عباس] (٤): ﴿قُلْ﴾: لأهل مكة، ﴿آمِنُوا﴾: بالقرآن (٥)، ﴿أَوْ لَا تُؤْمِنُوا﴾ وهذا تهديد؛ أي فقد أنذر الله ووعد (٦) وبَلَّغَ الرسول، فاختاروا ما تريدون، كما قال: ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٥٥].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي من قبل نزول القرآن، قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- خروا سجدًا (٧).
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (مكث) ٤/ ٣٤٣٣ مختصرًا، وورد في "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٦٨ مختصرًا، ومكث مثلثة الأول بمعنى اللَّبْث والإقامة، انظر: "إكمال الإعلام بتثليث الكلام" ١/ ١٥، و"الدرر المبثّثة في الغرر المثلثة" ص ١٩٠.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٤٨٠، و"الحجة للقراء" ٥/ ٣٨٠، و"المبسوط في القراءات" ص ٢٧٨، و"التيسير" ص ١٦٧.
(٣) لم أقف عليه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٧٩ - ١٨٠ بمعناه عن الحسن وقتادة، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥٣١، وورد في "الوسيط" ٢/ ٥٥٩ بنصه غير منسوب.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٥) ورد بلا نسبة في "تفسير مقاتل" ١/ ٢٢١ أ، و"الطبري" ١٥/ ١٨٠، و"الوسيط" للواحدي ٢/ ٥٥٩.
(٦) في (أ)، (د): (ووعده)، والمثبت من (ش)، (ع).
(٧) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٨١، بنحوه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٣ أ، بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٢، بنحوه.
505
وقال ابن عباس: منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل (١)، وعلى هذا ليس المراد بقوله: ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أهل الكتاب، وإنما هم طلاب الدين.
وقوله تعالى: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ قال ابن عباس في رواية؛ الوالبي: يخرون للوجوه (٢)، وهو قول قتادة (٣).
وقال في رواية عطاء: يريد: يسجدون بوجوههم وجباههم وأذقانهم (٤).
قال أبو إسحاق: والذَّقَنُ مجمع اللَّحْيَيْنِ (٥)، وهو عضو من أعضاء الوجه، وكما يبتدئ المبتدئ يَخِرُّ فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذَّقَنُ (٦)، وعلى هذا إنما خص الذقن بالذكر؛ لأنه أقرب أبعاض الوجه إلى الأرض، وهو هاهنا عبارة عن الوجه.
(١) لم أقف عليه، وورد بلا نسبة في: "تفسير البغوي" ٥/ ١٣٦، و"ابن عطية" ٩/ ٢١٧، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٦٩.
(٢) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٨٠ بلفظه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٩، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٣ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٨٠، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٢، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٢ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩٢ بلفظه، و"الطبري" ١٥/ ١٨٠ بلفظه من طريقين، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٨/ ٢٠٥، و"تفسير الجصاص" ٣/ ٢٠٩، و"الماوردي" ٣/ ٢٨٠، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٢.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ٢/ ٥٦٠ بنصه بلا نسبة.
(٥) في (أ)، (د): (للجبين)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهوالصحيح والموافق للمصدر. انظر: "المحيط في اللغة" (ذقن) ٥/ ٣٧٥.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٤، بنصه.
506
وروى عبد الرزاق عن معمر قال: قال الحسن: لِلّحى (١)، وعلى هذا القول: الأذقان عبارة عن اللِّحَى، وخصت بالذكر لأن المعنى أنهم يضعونها على الأرض للسجود تواضعًا لله تعالى، واللِّحْية تُلْقي بالإكرام والتنظيف، فإذا أذلوها في التراب فهو غاية التواضع، واللام هاهنا بمعنى على، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ [الحجرات: ٢] أي عليه، والعرب تقول: سقط فلان لفيه، أي على فيه، قال الشاعر:
فخر صريعًا لليدين وللفم (٢)
(١) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩٢ بلفظه، و"الطبري" ١٥/ ١٨٠ بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الجصاص" ٣/ ٣٥٩، و"الماوردي" ٣/ ٢٨٠، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٢.
(٢) صدره:
تناولهُ بالرُّمحِ ثُمَّ اتَّنَى لَهُ
نسب لجابر بن حُنَيّ التَّغْلِبي في "المفُضَّليات" ص ٢١٢، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٥٦٢.
ونسب لربيعة بن مُكدَّم في "الأغاني" ١٦/ ٧٥ برواية:
وهتكت بالرمح الطويل إهابه... فهوى............
ونسب لعمام بن مقشعر البصري في "معجم الشعراء" ص ١٠١ برواية:
دلفته بالرمح من تحت بزه
ونسب للأشعث الكندي في "الأزهية" ص ٢٨٨ برواية:
تناولْت بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيَابَهُ
وورد بلا نسبة في: "أدب الكاتب" ص ٥١١، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٧٨، و"القرطبي" ١٠/ ٣٤١، و"رصف المباني" ص ٢٩٧، و"الجنى الداني" ص ١٠١، و"مغني اللبيب" ص ٢٨٠، و"شرح الأشموني" ٢/ ٣٨٨.
(تناوله بالرمح): طعنه، (اتَّنَى): أراد اثتنى فأدغم الثاء في التاء، فأبدلهما تاءً، ويروى انثنى، (خرّ): سقط. "شرح اختيار المفضل" ٢/ ٩٥٥.
507
والمعنى أنهم يبادرون إلى السجود فيسقطون على الأذقان أولاً إذا وقعوا بالأرض إلى أن نصبوا (١) جباههم على الأرض للسجود؛ لأن الذقن ليس من أعضاء السجود، ويدل على هذا (٢) قوله: ﴿يَخِرُّونَ﴾ ولم يقل: يسجدون؛ لأنه أراد مسارعتهم إلى ذلك حتى إنهم ليسقطون ويقولون في سجودهم: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا﴾، أي: ينزهونه ويعظمونه، ﴿إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾: أي وعده بإنزال (٣) القرآن وبعث محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب؛ لأن الوعد ببعث محمد -صلى الله عليه وسلم- سبق في كتابهم، فهم كانوا ينتظرون ذلك الوعد.
وذكر الليث وجهًا آخر في قوله: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ﴾ فقال: العرب تقول إذا خَرّ الرجل فوقع على وجهه: خَرّ للذقن، وكذلك الشجر والحجر إذا قلبه السيل يقال: كبه السيل للذقن (٤)، ويدل على ما ذكره قول امرئ القيس يصف سيلًا شديدًا (٥):
يَكُبُّ على الأذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ (٦)
(١) هكذا في جميع النسخ، والعبارة قلقة، ولعلها (يصيبوا) من الإصابة، وهي الإنسب للسياق.
(٢) في (أ)، (د)، (ش): (أن هذا) والمثبت من (ع).
(٣) في (أ)، (د): (بأنزل)، والمثبت من (ش)، (ع).
(٤) ورد بنحوه غيرمنسوب في "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٦٩.
(٥) في (أ)، (د): (سبيلًا شديد)، والصحيح المثبت من (ش)، (ع) لغويًّا ونحويًّا.
(٦) وصدره:
وأضْحى يَسُحُّ الماءَ عن كلِّ فيقةٍ
"ديوانه" ص ١٢١، وورد في: "أساس البلا غة" ص ٢٩٩ مادة: (ذقن)، و"اللسان" (كهبل) ٧/ ٣٩٤٥، (ذقن) ٣/ ١٥٠٦ (فيقة): الفيقة: الفترة ما بين الحلبتين، (كنهبل): أصله كَهْبَل والنون فيه زائدة، وهو شجر عظام من العِضاه، وقيل: صنف من الطَّلح قصار الشوك، والمعنى: كأنه يقول: إن المطر يسح ويسكن أخرى، يكب على الأذقان دوح الكنهبل، يقتلع شجر الكنهبل من أصوله ويلقيه على أم رأسه لشدة سحه وهيجه.
508
فلما استعمل ذلك في الشجر إذا سقط واستعير له الذقن، كان ذكره في الإنسان الذي له الذقن أولى.
وقوله تعالى: ﴿سُجَّدًا﴾ حال (١) مقدرة، المعنى: يَخِرّون مقدرين للسجود؛ لأن الإنسان في حال خُرُورِه لا يكون ساجدًا، قاله أبو إسحاق في قوله: ﴿خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ (٢) [مريم: ٥٨]، ومثله: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥]، وقد مرّ.
قال أبو إسحاق: و (إن) و (اللام) في: ﴿إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾ دخلتا للتوكيد (٣)، ومضى الكلام في مثل هذا في مواضع.
١٠٩ - قوله تعالى: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ﴾ أعاد هذا لأن الأول للسجود، والثاني لغير السجود، ولكن للذّلة والخشوع عند استماع القرآن، يدل عليه قوله: ﴿وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾، ويجوز أن يكون تكرير القول دلالة تكرر الفعل منهم.
وقوله تعالى: ﴿يَبْكُونَ﴾ معناه الحال، ﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾، أي: القرآن، ﴿خُشُوعًا﴾: تواضعًا، وذكرنا معنى الخشوع في أوائل سورة البقرة (٤).
(١) في (أ)، (د)، (ش): (قال)، والمثبت من (ع).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٣٥، بنصه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٤، بنصه.
(٤) آية [٤٥].
١١٠ - قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ﴾ الآية. قال ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو ساجد ذات ليلة: يا رحمن، فسمعه أبوجهل -وهم لا يعرفون الرحمن-، فقال: إن محمدًا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهًا آخر مع الله يقال له: الرحمن، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ﴾ (١)، أي: قل يا محمد: ادعوا الله يا معشر المشركين (٢)، ﴿أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ أي إن شئتم قولوا: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن.
﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ قال أبو إسحاق: أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى واحدٍ، فقال: ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا﴾ المعنى أي أسماء الله تدعوا ﴿فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (٣).
وقال المبرد: يقول إذا دعوتم الله الرحمن فإنما تدعون واحداً، يعني أن تَخْيِيره (٤) بين أن يُدْعى الله وبين أن يدعى الرحمن إنّما هو لأنهما واحد، يَدلّ على هذا: ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (٥) قال النحويون: (أي) في الكلام تقع في ثلاثة مواضع؛ أحدها: الاستفهام، والآخر: الجزاء، والثالث: الخبر (٦)، فإذا كان استفهامًا أو جزاءً لم تَحْتَج إلى صلة، وعمل
(١) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٨٢، بنحوه من طريق أبي الجوزاء (ضعيفة)، وورد بنحوه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٣ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٨١، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٣، وأورده المؤلف في "أسباب النزول" ص ٣٠٢، بنحوه بلا سند، وأورده السيوطي في "الدر" و"اللباب" ٥/ ٣٤٨، ص ١٤٢ وعزاه إلى ابن مردويه.
(٢) في جميع النسخ: (يا معشر المؤمنين)، والصواب ما أثبته، كما في "الطبري" ١٥/ ١٨٢، و"ابن كثير" ٣/ ٧٧، وسياق الكلام يدل عليه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٤، بنصه
(٤) في (أ)، (د)، (ش): (يختبره)، والمثبت من (ع).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ذكر في "الأزهية" أنها تأتي على سنة أوجه: تكون جزاءً، واستفهامًا، وخبرًا، وتعجبًا، ونداءً، ونعتًا فيه معنى المدح، انظر:"حروف المعاني" للزجاجي ص ٦٢، و"الأزهية" ص ١٠٦، و"مغني اللبيب" ص ١٠٧.
510
فيها ما بعدها، ولم يجز أن يحمل فيها ما قبلها إلا ما يَجُرّ، وسنذكر ذلك عند قوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ [الكهف: ١٢] إن شاء الله، وإذا كانت خبرًا احتاجت إلى صلة نحو صلة الذي، ويعمل فيها ما قبلها وما بعدها سوى صلتها؛ كقولك: لأضربن أيهم في الدار.
قال الفراء: العرب تقول: أيّ وأيّان وأيّون، إذا أفردوا (أيًّا) أنَّثُوها وجمعوها، وأنَّثُوها فقالوا: أيّة وأيّتان وأيّات، وإذا أضافوها إلى ظاهر أفردوها، وذكّروا فقالوا: أيّ الرجلين؟ وأيّ المرأتين؟ وأيّ الرجال؟ وأيّ النساء؟ وإذا أضافوا إلى مُكَنّى المؤنث أنثوا وإلى مُكَنّى المذكر ذَكّروا، فقالوا: أيّهما وأيّتهما للمرأتين، قال الله -عز وجل-: ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا﴾، وقال زهير في لُغة من أَنّث:
وزوَّدُوكَ (١) اشتياقًا أَيَّةً سَلَكُوا (٢)
يُرادُ أَيّةُ وجْهة، فانَّثها حين لم يُضِفْها؛ ولو قال: أيًّا سلكوا، بمعنى: أيّ وجهة، كان جائزًا، ويقول لك قائل: رأيتُ رجلا، فتجيبه: أيًّا؟ ويقول: رجلين، فتقول: أَيَّيْن؟ وفي الرجال: أَيّون؟ وفي المرأة: أيّة؟ وفي النساء: أيّات؟ (٣) و (ما) في قوله: ﴿أَيًّا مَا﴾ صلة، كقوله: {جُندٌ مَّا
(١) في (أ)، (د)، (ش): (زودك)، والمثبت من (ع) وهو موافق للديوان.
(٢) وصدره:
بانَ الخليطُ ولم يأْوُوا لمَن ترَكوا
"شرح ديوان زهير" ص ١٦٤، وورد في "الخزانة" ٥/ ٤٥٣، (الخليط): المجاور لك في الدار، (ولم يأوُوا): لم يرحموا، (وأيَّةً سلكوا): أيّ جهةٍ سلكوا فأنت مشتاق.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (أي) ١/ ٢٤١ نقل طويل مع تصرف يسير.
511
هُنَالِكَ} [ص: ١١]، و ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنون: ٤٠]، و ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾ [نوح: ٢٥]، و ﴿تَدْعُونَ﴾ في موضع جزم بأي؛ لأنه من حروف الشرط والجزاء، يقول: أيّهم يعط أعط، وعلامة الجزم في تدعوا سقوط النون التي تثبت للرفع في يفعلون، وجواب الشرط (الفاء) في قوله: ﴿فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سَبُّوه وسَبُّوا من جاء به، فأوحى الله إليه: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ﴾ فيسمعه المشركون فيسبوه، ﴿وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ فلا يسمع أصحابك، ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، أي: أسمعهم القرآن أحيانًا يأخذوا عنك) (١)، وهذا قول قتادة والسدي (٢)، واختيار أبي إسحاق، قال: المخافتة: الإخفاء، والجهر: رفع الصوت.
وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا جهر بالقرآن سبّ المشركون القرآن، فأمر الله أن لا يعرّض القرآن لسبهم، وأن لا يخافت مخافتةً لا يسمعها من يصلي خلفه من أصحابه فقال: ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، أي اسلك طريقًا بين الجهر
(١) أخرجه بنحوه من طريق سعيد: أحمد ١/ ٢٣، والبخاري (٤٧٢٢) كتاب التفسير، باب ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾، ومسلم (٤٤٦) في الصلاة، باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية، و"الطبري" ١٥/ ١٨٤ من طرق، والطبراني في "الكبير" ١٢/ ٥٥، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٧، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٣ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٨١، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص ٣٠٣، بنحوه.
(٢) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩٢، بنحوه عن قتادة، و"الطبري" ١٥/ ١٨٦، بنحوه من طريقين عن قتادة.
512
والمخافتة (١)، يقال: خَفَتَ صوته يَخْفِت خُفُوتًا وخُفَاتًا، إذا ضَعُفَ وسكن، وصوتٌ خَفِيتٌ، أي: خَفِيضٌ، ومن هذا يقال للرجل إذا مات قد خَفَتَ، أي انقطع كلامه، وخفت الزرع إذا ذَبُلَ ولَانَ، وزرع خَافِت، والرجل يخافت بقراءته: إذا لم يبين قراءته برفع الصوت، وقد تخافت القومُ إذا تشاوَرُوا بينهم (٢)، وقال الجعدي:
ولَسْتُ وإنْ عَزُّوا عليّ بِهَالِكٍ خُفاتًا ولا مُسْتَهْزِمٍ ذاهبِ العَقْلِ (٣)
يقول: لست أهلك خفاتًا أي ضعفًا لمصاب من أُصبت به منهم، وإن كانوا أعزة، ولكني أتصبَّر وأتجلَّد، هذا الذي ذكرنا في الجهر والمخافتة بالصلاة مذهب أكثر المفسرين (٤)، ومعنى الصلاة في هذا القول: القراءة، وذلك أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة، فسميت القراءة صلاة، كما سميت الصلاة قراءة في قوله: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ [آية: ٧٨]، وقد مرّ. وفي الآية قول ثان؛ وهو أن المراد بالصلاة الدعاء، وهذا قول أبي هريرة وعائشة ومجاهد (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٥، بنصه تقريبًا.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (خفت) ١/ ١٠٦٤، بنحوه، انظر: (خفت) في "المحيط في اللغة" ٤/ ٣١٣، و"الصحاح" ١/ ٢٤٨، و"اللسان" ٢/ ١٢٠٨.
(٣) "شعر النابغة الجعدي" ص ٢٢٥، وورد في "تهذيب اللغة" (خفت) ١/ ١٠٦٤، و"اللسان" (خفت) ٢/ ١٢٠٨، (خفاتًا): ضعفًا وتذَلُّلاً، (مستهزم): جزوع.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٢١ أ، و"الطبري" ١٥/ ١٨٤، و"السمرقندي" ٢/ ٢٨٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٢٣ ب، و"الماوردي" ٣/ ٢٨١، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٤، وقد رجحه الطبري لصحة الإسناد الذي روي به عن صحابي وهو ابن عباس من طريق سعيد، ولآنه أشبه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٧٢ بلفظه، أخرجه ابن أبي شيبة ٢/ ٢٠٠ بلفظه، و"الطبري" ١٥/ ١٨٤ بلفظه من طرق عن مجاهد، وورد بلفظه في تفسير الثعلبي ٧/ ١٢٤ أ، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٤.
513
قال أبو هريرة في الآية: يعني بذلك الدعاء والمسألة (١).
وقالت عائشة: هي في الدعاء (٢)، وروي هذا مرفوعًا: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "إنما ذلك في الدعاء لا ترفع صوتك، فتكثر ذنوبك، فيُسمع منك، فتُعيَّر به" (٣)، وهذا قول إبراهيم وابن عباس في رواية عطاء (٤)، كل هؤلاء قالوا: في الدعاء، وعلى هذا: الصلاة الدعاء، والجهر به منهي عنه، وكذلك الإسرار الذي هو إخفاء، والمستحب منه ما بين ذلك، وحدّه أن يُسْمِع نفسه (٥)؛ كما روي عن ابن مسعود أنه قال: لم
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٧١، و"ابن الجوزي" ٥/ ١٠١.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة ٢/ ٢٠٠ بلفظه، و"الطبري" ١٥/ ١٨٣ بلفظه من طرق، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٧، و"تفسير الماوردي" ٣/ ٢٨١، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٤، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص ٣٠٤ بلفظه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٥ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(٣) لم أقف عليه مسندًا، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٤، بنحوه، و"الفخر الرازي" ٢١/ ٧١ بنصه.
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة ٢/ ٢٠٠ بلفظه عن ابن عباس من طريق عكرمة (حسنة)، وعن عطاء ٦/ ٩٧، و"الطبري" ١/ ١٨٤٥ بلفظه عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن عطاء، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٥٣٤ بلفظه عن ابن عباس وعطاء، انظر: "تفسير البغوي" ٥/ ١٣٧، و"الخازن" ٣/ ١٨٤ فيهما عن إبراهيم.
(٥) يؤيّده ما رواه الشيخان عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس اربعوا [أي: ارفقوا] على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم" أخرجه البخاري (٢٩٩٢) كتاب الجهاد، باب: ما يكره من رفع الصوت في
التكبير، ومسلم (٢٧٠٤) كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر واللفظ له.
514
يخافت من أسمع أذنيه (١)، وفي الآية قول ثالث؛ وهو ما روى منصور عن الحسن ومعمر (٢) عنه قال: لا تُراء بعلانيتها ولا تسئْ سريرتها (٣)، وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي، قال: يقول لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة للناس (٤)؛ وعلى هذا القول: الجهر بالصلاة هو إعلانها مراءاة، والمخافتة بها تركها مخافة أو إساءتها سرًّا؛ على ما قال الحسن.
١١١ - قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ الآية. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: "إنها آية العزة"، وكان يعلمها الصغير من أهله والكبير (٥).
وقال قتادة: كذّب الله بهذه الآية اليهودَ والنصارى وأهلَ الفِرَاء
(١) أخرجه ابن أبي شيبة ٢/ ٢٠٠ بنصه، و"الطبري" ١٥/ ١٨٨ بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٦.
(٢) في جميع النسخ (مغيرة)، والصواب ما أثبته من تفسير عبد الرزاق والطبري.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ٢/ ٣٩٣، بنحوه من طريق معمر، و"الطبري" ١٥/ ١٨٧ بنصه من طريق منصور ومعمر وعوف، وورد بلفظه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٤ أ، و"الماوردي" ٣/ ٢٨١، و"الطوسي" ٦/ ٥٣٤.
(٤) أخرجه "الطبري" ١٥/ ١٨٧ بنصه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، والطبراني في "الكبير" ١٢/ ٢٥٦، بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٤ أ، بنصه، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٥ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٥) لم أقف عليه مسندًا، وأخرج "الطبري" ١٥/ ١٨٩، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعلِّم أهله هذه الآية، الصغير من أهله والكبير، وفي "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢٤ أقال معاذ -رضي الله عنه-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: آية العز: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾. انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٤٥، و"ابن كثير" ٣/ ٧٨.
515
عليه (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ قال ابن عباس: لم يكن له ولي ينصره ممن استذله (٢).
وقال مجاهد: لم يحالف أحدًا ولم يبتغ نصر أحد (٣)، فليس له حليف من خلقه ولا ناصر، يعني: أنه لا يحتاج إلى ولاء النصرة والمحالفة، وإنما يحتاج إلى ذلك من يُستذلُ وُيقْهر، وهو العزيز القهار، وهو معنى قول أبي إسحاق: لم يحتج أن ينتصر بغيره، ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾، أي: عَظِّمه تعظيمًا عظمةً تامةً (٤).
(١) في (أ)، (د)، (ش): (عنه)، والمثبت من (ع) و"الوسيط"، وقد ورد قولُ قتادة في "تفسير الوسيط" ٢/ ٥٦٤، بنصه، انظر: "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٤٥ بلا نسبة.
(٢) ورد بمعناه في "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٧٩ بلا نسبة، و"القرطبي" ١٠/ ٣٤٥، عن الحسن بن الفضل، و"الخازن" ٣/ ١٨٥ بلا نسبة.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٠٤ بنصه، وأخرجه "الطبري" ١٥/ ١٨٩ بنصه من طريقين، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٣٧٦ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، وفيه: لم يخف أحدًا.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦٥، بنصه.
516
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة الكهف إلى آية (٣١)
تحقيق
د. عبد العزيز بن محمد اليحيى
517
Icon