تفسير سورة الكهف

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الكهف
قال ابن عباس إنها مكية غير آيتين منها فيهما ذكر عيينة بن حصن الفزاري وعن قتادة أنها مكية وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ؟ هي سورة الكهف "

سُورَةُ الْكَهْفِ
مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ/ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ مِنْهَا فِيهِمَا ذِكْرُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى سُورَةٍ شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حِينَ نزلت؟ هي سورة الكهف».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقَائِقِ قَوْلِنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ سَبَقَ، وَالَّذِي أَقُولُهُ هاهنا إِنَّ التَّسْبِيحَ أَيْنَمَا جَاءَ فَإِنَّمَا جَاءَ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْمِيدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنه جل جلاله ذكر التسبيح عند ما أَخْبَرَ أَنَّهُ أَسْرَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: ١] وذكر التحميد عند ما ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَفِيهِ فَوَائِدُ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ التَّسْبِيحَ أَوَّلُ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَالتَّحْمِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوَّلَ الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَنِهَايَةَ الْأَمْرِ كَوْنُهُ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِنَا (سُبْحَانَ اللَّهِ) ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَقَامَ التَّسْبِيحِ مَبْدَأٌ وَمَقَامَ التَّحْمِيدِ نِهَايَةٌ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ عِنْدَ الْإِسْرَاءِ لَفْظَ التَّسْبِيحِ وَعِنْدَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ لَفْظَ التَّحْمِيدِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِهِ/ أَوَّلُ دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَإِنْزَالَ الْكِتَابِ غَايَةُ دَرَجَاتِ كَمَالِهِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْرَاءَ بِهِ إِلَى الْمِعْرَاجِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْكَمَالِ لَهُ، وَإِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُكَمِّلًا لِلْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَنَاقِلًا لَهَا مِنْ حَضِيضِ الْبَهِيمِيَّةِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَكْمَلُ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعِبَادِ مَقَامًا أَنْ يَصِيرَ [الْعَبْدُ] عَالِمًا فِي ذَاتِهِ مُعَلِّمًا لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ تعلم وعلم فذاك يدعى عظيما في السموات».
421
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ ذَاتِهِ مِنْ تَحْتُ إِلَى فَوْقُ وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ نُورِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقُ إِلَى تَحْتُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَكْمَلُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنَافِعَ الْإِسْرَاءِ بِهِ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَالِكَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الْإِسْرَاءِ: ١] وَمَنَافِعُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ مُتَعَدِّيَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَوَائِدُ الْمُتَعَدِّيَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاصِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِلَفْظِ الْإِسْرَاءِ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبِلَفْظِ الْإِنْزَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ فَوْقُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَذْكُورٌ بِالتَّمَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الْأَعْرَافِ: ٥٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُ الْكِتَابِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ وَنِعْمَةٌ عَلَيْنَا، أَمَّا كَوْنُهُ نِعْمَةً عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ عَلَى أَسْرَارِ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَأَسْرَارِ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَتَعَلُّقِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتُعَلُّقِ أَحْوَالِ عَالَمِ الْآخِرَةِ بِعَالَمِ الدُّنْيَا، وَكَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقَضَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَكَيْفِيَّةِ ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، وتصير النَّفْسِ كَالْمِرْآةِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا عَالَمُ الْمَلَكُوتِ وَيَنْكَشِفُ فِيهَا قُدْسُ اللَّاهُوتِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَلَيْنَا فَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كِتَابٌ كَامِلٌ فِي أَقْصَى الدَّرَجَاتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِهِ بِمِقْدَارِ طَاقَتِهِ وَفَهْمِهِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى جَمِيعِ أُمَّتِهِ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكِتَابَ بِوَصْفَيْنِ فَقَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَامًّا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ فَوْقَ التَّمَامِ بِأَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ كَمَالَ الْغَيْرِ «١» إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَقَوْلِهِ: قَيِّماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْقَيِّمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَائِمِ بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي صِفَةِ الْكِتَابِ: لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] فَقَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ بَالِغًا فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِ/ الْإِخْلَالِ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سَبَبًا لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَإِكْمَالِ حَالِهِمْ فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: قَيِّماً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهَذِهِ أَسْرَارٌ لَطِيفَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَعْيَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: نَفْيُ التَّنَاقُضِ عَنْ آيَاتِهِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢]. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَا خَلَلَ في شيء منها ألبتة. وثالثها:
(١) يظهر أنه وقع في العبارة تحريف ولعل الصواب أن يقال: بأن يفيض على غيره الكمال. وهذا نظير قوله فيما سبق في نفس هذا البحث: ثم يكون مكملا لغيره «الصاوي».
422
أَنَّ الْإِنْسَانَ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مُتَوَجِّهًا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ وَإِلَى حَضْرَةِ جَلَالِ اللَّهِ وَهَذِهِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا رِبَاطٌ بُنِيَ عَلَى طَرِيقِ عَالَمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا نَزَلَ فِيهِ اشْتَغَلَ بِالْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَجِبُ رِعَايَتُهَا فِي هَذَا السَّفَرِ ثُمَّ يَرْتَحِلُ مِنْهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ فَكُلُّ مَا دَعَاهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَمِنَ الْجُسْمَانِيَّاتِ إِلَى الرُّوحَانِيَّاتِ وَمِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ وَمِنَ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْجَسَدَانِيَّةِ إِلَى الِاسْتِنَارَةِ بِالْأَنْوَارِ الصَّمَدَانِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الْعِوَجِ وَالِانْحِرَافِ وَالْبَاطِلِ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْكِتَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ: قَيِّماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ مُسْتَقِيمًا وَهَذَا عِنْدِي مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَفْيِ الِاعْوِجَاجِ إِلَّا حُصُولُ الِاسْتِقَامَةِ فَتَفْسِيرُ الْقَيِّمِ بِالْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، بَلِ الْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ: قَيِّماً أَنَّهُ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ يَكُونُ قَيِّمًا لِلْأَطْفَالِ، فَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ كَالْأَطْفَالِ، وَالْقُرْآنُ كَالْقَيِّمِ الشَّفِيقِ الْقَائِمِ بِمَصَالِحِهِمْ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالُوا هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. وَأَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، وَقَوْلَهُ: قَيِّماً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَكَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ مُتَقَدِّمٌ بِالطَّبْعِ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: قَيِّماً وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ حَالًا مِنَ الْكِتابَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْزَلَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ فَجَعْلُهُ حَالًا مِنَ الْكِتابَ يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَصِبَ بِمُضْمَرٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا وَجَعَلَهُ قَيِّمًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ الَّذِي نَرَى فِيهِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً حَالٌ وَقَوْلُهُ: قَيِّماً حَالٌ أُخْرَى وَهُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ غَيْرَ مَجْعُولٍ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ السَّيِّدُ صَاحِبُ «حَلِّ الْعَقْدِ» / يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قَيِّماً بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لأن معنى: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَنَّهُ جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ قَيِّمًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَحْكَامِ الدِّينِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ مَا لِأَجْلِهِ أَنْزَلَهُ فَقَالَ:
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَأَنْذَرَ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين كقوله: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النَّبَأِ: ٤٠] إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ هاهنا عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَصْلُهُ لِيُنْذِرَ- الَّذِينَ كَفَرُوا- بَأْساً شَدِيداً كَمَا قَالَ فِي ضِدِّهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْبَأْسُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الْأَعْرَافِ: ١٦٥] وَقَدْ بَؤُسَ الْعَذَابُ وَبَؤُسَ الرَّجُلُ بَأْسًا وَبَآسَةً وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْهُ أَيْ صَادِرًا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَفِي: لَدُنْ لُغَاتٌ يُقَالُ لَدُنْ وَلَدَى وَلَدُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ وَهِيَ لَا تَتَمَكَّنُ تَمَكُّنَ عِنْدَ لِأَنَّكَ تَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ عِنْدِي وَلَا تَقُولُ صَوَابٌ لَدُنِّي وَتَقُولُ عِنْدِي مَالٌ عَظِيمٌ وَالْمَالُ غَائِبٌ عَنْكَ وَلَدُنِّي لِمَا يَلِيكَ لَا غَيْرَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِسُكُونِ الدَّالِ مَعَ إِشْمَامِ الضَّمِّ وَكَسْرِ النُّونِ وَالْهَاءِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي كِلَابٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِنْذَارُ الْمُذْنِبِينَ وَبِشَارَةُ الْمُطِيعِينَ، وَلَمَّا كَانَ دَفْعُ الضَّرَرِ أهم
423
عِنْدَ [ذَوِي] الْعُقُولِ مِنْ إِيصَالِ النَّفْعِ لَا جَرَمَ قُدِّمَ الْإِنْذَارُ عَلَى التَّبْشِيرِ فِي اللَّفْظِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ وَيُبَشِّرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ وَقَوْلُهُ: ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً يَعْنِي خَالِدِينَ وَهُوَ حَالٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً، قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي مَسَائِلَ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالْإِنْزَالِ وَالنُّزُولِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ. الثَّانِي:
وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ كِتَابًا وَالْكَتْبُ هُوَ الْجَمْعُ وَهُوَ سُمِّيَ كِتَابًا لِكَوْنِهِ مَجْمُوعًا مِنَ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ وَمَا صَحَّ فِيهِ التَّرْكِيبُ وَالتَّأْلِيفُ فَهُوَ مُحْدَثٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى النِّعْمَةِ وَالنِّعْمَةُ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَصَفَ الْكِتَابَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْوَجٍّ وَبِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ وَالْقَدِيمُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ. وَثَانِيهَا: مَسْأَلَةُ خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: نَفْسُ الْأَمْرِ بِالْحَمْدِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذا الِانْتِفَاعُ بِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ وَيَتْرُكَ مَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُهُ وَهُوَ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِعِوَجِ الْكِتَابِ أَثَرٌ فِي اعْوِجَاجِ فِعْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِ الْكِتَابِ قَيِّمًا أَثَرٌ فِي اسْتِقَامَةِ فِعْلِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ مُخْتَارًا فِيهِ بَقِيَ لِعِوَجِ الْكِتَابِ وَاسْتِقَامَتِهِ أَثَرٌ فِي فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ أَنْزَلَ بَعْضَ الْكِتَابِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِكُفْرِ الْبَعْضِ وَأَنْزَلَ الْبَاقِيَ لِيُؤْمِنَ الْبَعْضُ الْآخَرُ فَمِنْ أَيْنَ أَنَّ الْكِتَابَ قَيِّمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ عِوَجٌ لَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ إِنْذَارَ الْكُلِّ وَتَبْشِيرَ الْكُلِّ وَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ خَالِقُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ مَعْنًى لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ الْإِيمَانَ فِيهِ حَصَلَ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ وَإِذَا خَلَقَ الْكُفْرَ فِيهِ حَصَلَ شَاءَ أو لم يشاء فَبَقِيَ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ عَلَى كَوْنِهِ طَوِيلًا قَصِيرًا وَأَسْوَدَ وَأَبْيَضَ مِمَّا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: وَصْفُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فَإِنْ كَانَ مَا وَقَعَ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا عَمَلَ لَهُمُ الْبَتَّةَ. الْخَامِسُ: إِيجَابُهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْحَسَنَ عَلَى مَا عَمِلُوا فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ ذَلِكَ فِيهِمْ فَلَا إِيجَابَ وَلَا اسْتِحْقَاقَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَوْلُهُ: لِيُنْذِرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ لِأَغْرَاضٍ صَحِيحَةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِالْغَرَضِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَدْ تَكَرَّرَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَلَا فائدة في الإعادة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤ الى ٦]
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)
[في قوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الْكَهْفِ: ٢] وَالْمَعْطُوفُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ. وَالثَّانِي خَاصٌّ بِمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَعَادَةُ الْقُرْآنِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً عَطَفَ عَلَيْهَا بَعْضَ
424
جُزْئِيَّاتِهَا تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ أَعْظَمَ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] فكذا هاهنا الْعَطْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقْبَحَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثُ طَوَائِفَ. أَحَدُهَا: كُفَّارُ الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَثَانِيهَا: النَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ الله. وثالثها: اليهود الذين قالوا: عزيز ابْنُ اللَّهِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ لِلَّهِ كُفْرٌ عَظِيمٌ وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالَاتٌ عَظِيمَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] وَتَمَامُهُ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ فَإِنْ قِيلَ اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلَدًا مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ فَكَيْفَ قِيلَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟ قُلْنَا: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِلْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٧] وَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بَاطِلٌ، وَالْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ قَوْلٌ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاءِ: ٣٦] وَقَوْلُهُ: وَلا لِآبائِهِمْ أَيْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بَاطِلَةً فَاسِدَةً. النَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي إِبْطَالِهِ قَوْلُهُ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قُرِئَ: كَبُرَتْ كَلِمَةً بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَمَعْنَى التَّمْيِيزِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ كَبُرَتِ الْمَقَالَةُ أَوِ الْكَلِمَةُ جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهَا كَبُرَتْ كَذِبًا أَوْ جَهْلًا أَوِ افْتِرَاءً، فَلَمَّا قُلْتَ كَلِمَةً مَيَّزْتَهَا مِنْ مُحْتَمَلَاتِهَا فَانْتَصَبَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالتَّقْدِيرُ كَبُرَتِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً فَحَصَلَ فِيهِ الْإِضْمَارُ، أَمَّا مَنْ رَفَعَ فَلَمْ يُضْمِرْ شَيْئًا كَمَا تَقُولُ عَظُمَ فُلَانٌ فَلِذَلِكَ قَالَ النَّحْوِيُّونَ وَالنَّصْبُ أَقْوَى وَأَبْلَغُ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا أَكْبَرَهَا كَلِمَةً.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قوله: كَبُرَتْ أَيْ كَبُرَتِ الْكَلِمَةُ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فَصَارَتْ مُضْمَرَةً فِي كَبُرَتْ وَسُمِّيَتْ كَلِمَةً كَمَا يُسَمُّونَ الْقَصِيدَةَ كَلِمَةً.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: احْتَجَّ النَّظَّامُ فِي إِثْبَاتِ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَلَامَ جِسْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكَلِمَةَ بِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَالْخُرُوجُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَالْحَرَكَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى الْأَجْسَامِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحُرُوفَ إِنَّمَا تَحْدُثُ بِسَبَبِ خُرُوجِ النَّفَسِ عَنِ الْحَلْقِ، فَلَمَّا كَانَ خُرُوجُ النَّفَسِ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْكَلِمَةِ أُطْلِقَ لَفْظُ الْخُرُوجِ عَلَى الْكَلِمَةِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَكْرَهٌ جِدًّا عِنْدَ الْعَقْلِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الَّذِي يَقُولُونَهُ لَا يَحْكُمُ بِهِ عَقْلُهُمْ وَفِكْرُهُمُ الْبَتَّةَ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ، فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ يَجْرِي بِهِ لِسَانُهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُمْ مَعَ أَنَّهَا قَوْلُهُمْ عُقُولُهُمْ وَفِكْرُهُمْ تَأْبَاهَا وَتَنْفِرُ عَنْهَا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ. فَعِنْدَنَا أَنَّهُ الْخَبَرُ الَّذِي لَا يُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ الْمُخْبِرُ أَنَّهُ مُطَابِقٌ أَمْ لَا؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِبًا أَنْ لَا يُطَابِقَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مَعَ عِلْمِ قَائِلِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَهَذَا الْقَيْدُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ قَوْلَهُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ
425
بِكَوْنِهِ كَذِبًا، مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُمْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ بَاطِلًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ لَا يُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ فَهُوَ كَذِبٌ سَوَاءٌ عَلِمَ الْقَائِلُ بِكَوْنِهِ مُطَابِقًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ لِلرَّسُولِ: لَا يَعْظُمُ حُزْنُكَ وَأَسَفُكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ فَإِنَّا بَعَثْنَاكَ مُنْذِرًا وَمُبَشِّرًا فَأَمَّا تَحْصِيلُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَا قُدْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ. وَالْغَرَضُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ اللَّيْثُ: بَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إِذَا قَتَلَهَا غَيْظًا مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهِ بِالشَّيْءِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ أَصْلُ الْبَخْعِ الْجَهْدُ يُقَالُ: بَخَعْتُ لَكَ نَفْسِي أَيْ جَهَدْتُهَا، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا ذَكَرَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ: بَخَعَ الْأَرْضَ أَيْ جَهَدَهَا حَتَّى أَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بَخَعْتُ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ إِذَا جَعَلْتَهَا ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتَابَعَةِ الْحِرَاثَةِ وَبَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إِذَا نَهَكَهَا وَعَلَى هَذَا مَعْنَى: باخِعٌ نَفْسَكَ أَيْ نَاهِكُهَا وَجَاهِدُهَا حَتَّى تُهْلِكَهَا وَلَكِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ كُلَّهُمْ قَالُوا: قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، هَكَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: عَلى آثارِهِمْ أَيْ مِنْ بَعْدِهِمْ يُقَالُ مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ أَيْ بَعْدَهُ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ بَقِيَتْ عَلَامَاتُهُ وَآثَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً ثُمَّ إِنَّهَا تَنْمَحِي وَتُبْطِلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذَا كَانَ مَوْتُهُ قَرِيبًا مِنْ مَوْتِ الْأَوَّلِ كَانَ مَوْتُهُ حَاصِلًا حَالَ بَقَاءِ آثَارِ الْأَوَّلِ فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْقُرْآنُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَقْتَضِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَدِيمٌ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَهِيَ حَادِثَةٌ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: أَسَفاً الْأَسَفُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: غَضْبانَ أَسِفاً فِي سورة الأعراف [١٥٠] وعند قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٤] وَفِي انْتِصَابِهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَدَلَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ يَأْسَفُ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِلْأَسَفِ كَقَوْلِكَ جِئْتُكَ ابْتِغَاءَ الْخَيْرِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَسَفاً مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
الْبَحْثُ السَّادِسُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا قُدِّمَ عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧ الى ٨]
إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: وَجْهُ النَّظْمِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي خَلَقْتُ الْأَرْضَ وَزَيَّنْتُهَا وَأَخْرَجْتُ مِنْهَا أَنْوَاعَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ خَلْقِهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ ابْتِلَاءُ الْخَلْقِ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ ثُمَّ إِنَّهُمْ يَكْفُرُونَ وَيَتَمَرَّدُونَ مَعَ ذَلِكَ فَلَا أَقْطَعُ عَنْهُمْ مَوَادَّ هَذِهِ النِّعَمِ فَأَنْتَ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَنْتَهِيَ فِي الْحُزْنِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ إِلَى أَنْ تَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ.
426
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الزِّينَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ النَّبَاتُ وَالشَّجَرُ وَضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْمَعَادِنَ، وَضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ النَّاسُ فَهُمْ زِينَةُ الْأَرْضِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ بِالْأَرْضِ إِلَّا الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ، وَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسَانُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الزِّينَةِ الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ فَمَنْ يَبْلُوهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا سَائِرُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِيهِ كَدُخُولِ سَائِرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: زِينَةً لَها أَيْ لِلْأَرْضِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَا يُحَسَّنُ بِهِ الْأَرْضُ زِينَةً لِلْأَرْضِ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ مُزَيَّنَةً بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ، فَعَلَى هَذَا الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَلَى اللَّهِ جَائِزٌ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا لَكَانَ كُلُّ مَا عَلِمَ وُقُوعَهُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَكُلُّ مَا عَلِمَ عَدَمَهُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابَ عِلْمِهِ جَهْلًا وَذَلِكَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فَالَّذِي عَلِمَ وُقُوعَهُ يَجِبُ كَوْنُهُ فَاعِلًا لَهُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّرْكِ وَالَّذِي عَلِمَ عَدَمَهُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ لَا عَلَى الْفِعْلِ وَلَا عَلَى التَّرْكِ لِأَنَّ مَا عَلِمَ اللَّهُ وُقُوعَهُ امْتَنَعَ مِنَ الْعَبْدِ تَرْكُهُ وَمَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَهُ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُهُ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا يَقْدَحُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَفِي الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَعِنْدَ هَذَا قَالَ: يَجْرِي قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا عَلَى ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فَقَدِ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْقَوْلَ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَالِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ مُحَالَانِ عَلَيْهِ وَأَيْنَمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً لَوْ صَدَرَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ عَنْ غَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا كَثِيرَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى قَوْلِهِ: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هُوَ أَنَّهُ يَبْلُوهُمْ لِيُبْصِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَطْوَعُ لِلَّهِ وَأَشَدُّ اسْتِمْرَارًا عَلَى خِدْمَتِهِ لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ هُوَ الَّذِي يَفُوزُ بِالْجَنَّةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا لِأَجْلِ أَنْ يُعْصَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: خَلَقَ بَعْضَهُمْ لِلنَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِنَبْلُوَهُمْ تَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْغَرَضِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَّا بِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْعَجْزَ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ أَيُّهُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى لِنَخْتَبِرَ وَنَمْتَحِنَ هَذَا أَحْسَنُ عَمَلًا أَمْ ذَاكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا زَيَّنَ الْأَرْضَ لِأَجْلِ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُتَنَعِّمًا أَبَدًا لِأَنَّهُ يُزَهِّدُ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها الْآيَةَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: ٢٦] وَقَوْلُهُ: فَيَذَرُها قَاعًا [طَه: ١٠٦] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [الِانْشِقَاقِ: ٣] الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُجَازَاةِ بَعْدَ فَنَاءِ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَتَخْصِيصُ الْإِبْطَالِ وَالْإِهْلَاكِ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ يُوهِمُ بَقَاءَ الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الآيات دلت
427
عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ أَيْضًا لَا تَبْقَى وَهُوَ قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٨] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
الصَّعِيدُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الصَّعِيدِ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، وَأَمَّا الْجُرُزُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجُرُزُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا، يُقَالُ: جَرَزَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مَجْرُوزَةٌ، وَجَرَزَهَا الْجَرَادُ وَالشَّاءُ وَالْإِبِلُ إِذَا أَكَلَتْ مَا عَلَيْهَا، وَامْرَأَةٌ جَرُوزٌ إِذَا كَانَتْ أَكُولًا، وَسَيْفٌ جُرَازٌ إِذَا كَانَ مُسْتَأْصِلًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [السجدة: ٢٧].
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَسَأَلُوا عَنْهَا الرَّسُولَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَجَبًا مِنْ آيَاتِنَا فَقَطْ، فَلَا تَحْسَبَنَّ ذَلِكَ فَإِنَّ آيَاتِنَا كُلَّهَا عَجَبٌ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَخْلِيقِ السموات وَالْأَرْضِ ثُمَّ يُزَيِّنُ الْأَرْضَ بِأَنْوَاعِ الْمَعَادِنِ/ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ ثُمَّ يَجْعَلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَعِيدًا جُرُزًا خَالِيَةً عَنِ الْكُلِّ كَيْفَ يَسْتَبْعِدُونَ مِنْ قُدْرَتِهِ وَحِفْظِهِ وَرَحْمَتِهِ حِفْظَ طَائِفَةٍ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ فِي النَّوْمِ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عِنْدَ قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: ٨٥]
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْرُوحًا فَقَالَ كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْصُبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحَيْرَةَ وَتَعَلَّمَ بِهَا أَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدِيَارَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا ذَكَرَ فِيهِ اللَّهَ وَحَدَّثَ قَوْمَهَ مَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَ النَّضْرُ يَخْلُفُهُ فِي مَجْلِسِهِ إِذَا قَامَ، فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، فَهَلُمُّوا فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ، ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوهُ وَبَعَثُوا مَعَهُ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَقَالُوا لَهُمَا سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَتِهِ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوا أَحْبَارَ الْيَهُودِ عَنْ أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّ حَدِيثَهُمْ عَجَبٌ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مَا كَانَ نَبَؤُهُ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَمَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَقَوِّلٌ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّضْرُ وَصَاحِبُهُ مَكَّةَ قَالَا: قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَخْبَرُوا بما قاله اليهود فجاؤوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا» وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَذْكُرُونَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ بِهِ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَفِيهَا مُعَاتَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهَا خَبَرُ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ، وَخَبَرُ الرَّجُلِ الطَّوَّافِ.
428
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْكَهْفُ الْغَارُ الْوَاسِعُ فِي الْجَبَلِ فَإِذَا صَغُرَ فَهُوَ الْغَارُ، وَفِي الرَّقِيمِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ إِلَّا أَرْبَعَةً غِسْلِينَ وَحَنَانًا وَالْأَوَّاهُ وَالرَّقِيمُ. الثَّانِي: رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّقِيمِ فَقَالَ زَعَمَ كَعْبٌ أَنَّهَا الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. الثَّالِثُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ وَقِيلَ مِنْ رَصَاصٍ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ وَشُدَّ ذَلِكَ اللَّوْحُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعَانِي وَالْعَرَبِيَّةِ قَالُوا الرَّقِيمُ الْكِتَابُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَرْقُومُ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى فَعِيلٍ، وَالرَّقْمُ الْكِتَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابٌ مَرْقُومٌ [الْمُطَفِّفِينَ: ٩] أَيْ مَكْتُوبٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ كَانَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَنَظُنُّ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ رَقِيمًا لِأَنَّ أَسْمَاءَهُمْ كَانَتْ مَرْقُومَةً فِيهِ، وَقِيلَ النَّاسُ رَقَمُوا حَدِيثَهُمْ نَقْرًا فِي جَانِبِ الْجَبَلِ، وَقَوْلُهُ: كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً الْمُرَادُ أَحَسِبْتَ أَنَّ وَاقِعَتَهُمْ كَانَتْ عَجِيبَةً فِي/ أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِنَا فَلَا تَحْسَبْ ذَلِكَ فَإِنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا، والعجب هاهنا مَصْدَرٌ سُمِّيَ الْمَفْعُولَ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ كَانُوا مَعْجُوبًا مِنْهُمْ، فَسُمُّوا بِالْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مِنْ هَذَا يُسْتَعْمَلُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ هُنَا مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَمْ حَسِبْتَ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ فَلَمْ يَتَعَلَّقِ الْحُسْبَانُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَوَوْا فِيهِ إِلَى الْكَهْفِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ اذْكُرْ إِذْ أَوَى، وَمَعْنَى أَوَى الْفِتْيَةُ فِي الْكَهْفِ صَارُوا إِلَيْهِ وَجَعَلُوهُ مَأْوَاهُمْ قَالَ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أَيْ رَحْمَةً مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ وَجَلَائِلِ فَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ وَهِيَ الْهِدَايَةُ بِالْمَعْرِفَةِ وَالصَّبْرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَمْنِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَقَوْلُهُ: مِنْ لَدُنْكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ لَائِقَةً بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاسِعِ جُودِهِ وَهَيِّئْ لَنا أَيْ أَصْلِحْ مِنْ قَوْلِكَ هَيَّأْتُ الْأَمْرَ فَتَهَيَّأَ: مِنْ أَمْرِنا رَشَداً الرَّشَدُ وَالرَّشَادُ نَقِيضُ الضَّلَالِ وَفِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ وَهَيِّئْ لَنَا أَمْرًا ذَا رَشَدٍ حَتَّى نَكُونَ بِسَبَبِهِ رَاشِدِينَ مُهْتَدِينَ.
الثَّانِي: اجْعَلْ أَمْرَنَا رَشَدًا كُلَّهُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ رَشَدًا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
مَعْنَاهُ أَنَمْنَاهُمْ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ حِجَابًا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَصِلَ إِلَى أَسْمَاعِهِمُ الْأَصْوَاتُ الْمُوقِظَةُ وَالتَّقْدِيرُ ضَرَبْنَا عَلَيْهِمْ حِجَابًا إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ الَّذِي هُوَ الْحِجَابُ كَمَا يُقَالُ بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ يُرِيدُونَ بَنَى عَلَيْهَا الْقُبَّةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ وَهُوَ ظَرْفُ الْمَكَانِ وَقَوْلُهُ: سِنِينَ عَدَداً ظَرْفُ الزَّمَانِ وَفِي قَوْلِهِ: عَدَداً بَحْثَانِ. الْأَوَّلُ: قال الزجاج ذكر العدد هاهنا يُفِيدُ كَثْرَةَ السِّنِينَ وَكَذَلِكَ كَلُّ شَيْءٍ مِمَّا يُعَدُّ إِذَا ذُكِرَ فِيهِ الْعَدَدُ وَوُصِفَ بِهِ أُرِيدَ كَثْرَتُهُ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَّ فُهِمَ مِقْدَارُهُ بِدُونِ التَّعْدِيدِ أَمَّا إِذَا أُكْثِرَ فَهُنَاكَ يُحْتَاجُ إِلَى التَّعْدِيدِ فَإِذَا قُلْتَ أَقَمْتُ أَيَّامًا عَدَدًا أَرَدْتَ بِهِ الْكَثْرَةَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ عَدَداً وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: نَعْتٌ لِسِنِينَ الْمَعْنَى سنين ذوات عَدَدٍ أَيْ مَعْدُودَةٌ هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي الْآيَةِ ضَرْبَانِ مِنَ التَّقْدِيرِ، أَحَدُهُمَا: حَذْفُ الْمُضَافِ. وَالثَّانِي:
تَسْمِيَةُ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، الْمَعْنَى تُعَدُّ عَدًّا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ نَوْمِهِمْ يَعْنِي أَيْقَظْنَاهُمْ بَعْدَ نَوْمِهِمْ وَقَوْلُهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ اللَّامُ لَامُ الْغَرَضِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.
429
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَهُمْ لِيَحْصُلَ لَهُ هَذَا الْعِلْمُ وَعِنْدَ هَذَا يُرْجَعُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا أَمْ لَا، فَقَالَ هِشَامٌ: لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِهَا وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ سَبَقَ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَفِي آلِ عِمْرَانَ/ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التَّوْبَةِ: ١٤٢] وَقَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ [الْكَهْفِ: ٧] وَقَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٣١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيُّ رُفِعَ بالابتداء وأَحْصى خَبَرُهُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَجْمُوعِهَا مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ فِي لَفْظَةِ أَيُّ بَلْ بَقِيَتْ عَلَى ارْتِفَاعِهَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: اذْهَبْ فَاعْلَمْ أَيُّهُمْ قَامَ قَالَ تَعَالَى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [الْقَلَمِ: ٤٠] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٩] وَقُرِئَ لِيُعْلَمَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ إِثْبَاتُ الْعِلْمِ الْمُتَجَدِّدِ لِلَّهِ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّا بَعَثْنَاهُمْ لِيَحْصُلَ هَذَا الْعِلْمُ لِبَعْضِ الْخَلْقِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجِبُ ظُهُورُ النَّصْبِ فِي لَفْظَةِ أَيْ، لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِشْكَالُ بَعْدُ بَاقٍ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ لَفْظَةِ أَيُّ بِالِابْتِدَاءِ لَا بِإِسْنَادٍ يُعْلَمُ إِلَيْهِ. وَلِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولَ: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ عَامِلَيْنِ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْعَوَامِلَ النَّحْوِيَّةَ عَلَامَاتٌ وَمُعَرِّفَاتٌ وَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْمُعَرِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْحِزْبَيْنِ فَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُرَادُ بِالْحِزْبَيْنِ الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا الْمَدِينَةَ مَلِكًا بَعْدَ مَلِكٍ، فَالْمُلُوكَ حِزْبٌ وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ حِزْبٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ:
الْحِزْبَانِ مِنْ هَذِهِ الْفِتْيَةِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ لَمَّا انْتَبَهُوا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ كَمْ نَامُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ [الْكَهْفِ: ١٩] فَالْحِزْبَانِ هُمَا هَذَانِ، وَكَانَ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ قَدْ تَطَاوَلَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَوْلُهُ أَحْصى لَيْسَ مِنْ بَابِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا أَعْطَاهُ لِلدِّرْهَمِ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ وَأَفْلَسُ مِنَ ابْنِ الْمُدْلِقِ، فَمِنَ الشَّوَاذِّ وَالشَّاذُّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مفعول نعلم وأمدا مفعول به لأحصى وما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِما لَبِثُوا مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ أَحْصَى أَمَدًا لِلُبْثِهِمْ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى أَمَدَ ذَلِكَ اللُّبْثِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَحْصاهُ اللَّهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٦] وَقَوْلُهُ:
وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنِّ: ٢٨].
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا الصُّوفِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْكَرَامَاتِ وَهُوَ استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة هاهنا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فَنَقُولُ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الْكَرَامَاتِ نَفْتَقِرُ إِلَى تَقْدِيمِ مُقَدِّمَتَيْنِ:
الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ الْوَلِيَّ ما هو فنقول هاهنا وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مُبَالَغَةً مِنَ الفاعل كالعليم
430
وَالْقَدِيرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ مِنْ تَوَالَتْ طَاعَاتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ مَعْصِيَةٍ. الثَّانِي: / أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ وَجَرِيحٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ وَمَجْرُوحٍ. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْحَقُّ سُبْحَانَهُ حِفْظَهُ وَحِرَاسَتَهُ عَلَى التَّوَالِي عَنْ كُلِّ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَيُدِيمُ تَوْفِيقَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَقَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: ١١] وَقَوْلِهِ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الْمَائِدَةِ: ٥٥] وَأَقُولُ الْوَلِيُّ هُوَ الْقَرِيبُ فِي اللُّغَةِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَرِيبًا مِنْ حَضْرَةِ اللَّهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ طَاعَاتِهِ وَكَثْرَةِ إِخْلَاصِهِ وَكَانَ الرَّبُّ قَرِيبًا مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فَهُنَاكَ حَصَلَتِ الْوِلَايَةُ.
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا ظَهَرَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ فَذَاكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالدَّعْوَى أَوْ لَا مَعَ الدَّعْوَى وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الدَّعْوَى فَتِلْكَ الدَّعْوَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ أَوْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ أَوْ دَعْوَى الْوِلَايَةِ أَوْ دَعْوَى السِّحْرِ وَطَاعَةِ الشَّيَاطِينِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: ادَّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ وَجَوَّزَ أَصْحَابُنَا ظُهُورَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ كَمَا نُقِلَ، أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَكَانَتْ تَظْهَرُ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِهِ وَكَمَا نُقِلْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَقِّ الدَّجَّالِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ شَكْلَهُ وَخِلْقَتَهُ تَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فَظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ لَا يُفْضِي إِلَى التَّلْبِيسِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ فَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى قِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَجَبَ ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ كُلِّ مَنْ أَقَرَّ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَجُزْ ظُهُورُ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَظْهَرَ وَجَبَ حُصُولُ الْمُعَارَضَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ادِّعَاءُ الْوِلَايَةِ وَالْقَائِلُونَ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الْكَرَامَاتِ ثُمَّ إِنَّهَا تَحْصُلُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ أَمْ لَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ ادِّعَاءُ السِّحْرِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِهِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَظْهَرَ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِ إِنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الدَّعَاوَى، فَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَالِحًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبِيثًا مُذْنِبًا. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِهِ وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ وَصَاحِبُهُ مَحْمُودٌ الْخَوَارِزْمِيُّ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَظْهَرَ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ عَلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ مَرْدُودًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالِاسْتِدْرَاجِ فَهَذَا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ عِنْدَنَا آيَاتٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قِصَّةُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَلَا نُعِيدُهَا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَبَقَاؤُهُمْ فِي النَّوْمِ أَحْيَاءً سَالِمِينَ عَنِ الْآفَاتِ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَعْصِمُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ كَمَا قَالَ: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [الْكَهْفِ: ١٨] / إِلَى قَوْلِهِ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ [الْكَهْفِ: ١٧] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النَّمْلِ: ٣٩] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ سُلَيْمَانُ فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ. أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لا
431
بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ يَصِيرُ ذَلِكَ عِلْمًا لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ الْعَادَةِ كَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، قُلْنَا:
إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ مُعْجِزَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى النَّوْمِ أَمْرٌ غَيْرُ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ حَتَّى يُجْعَلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَوْنَهُمْ صَادِقِينَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا إِذَا بَقُوا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَعَرَفُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ هُمُ الَّذِينَ نَامُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِمِائَةِ سِنِينَ وَتِسْعِ سِنِينَ وَكُلُّ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَمْ تُوجَدْ فَامْتَنَعَ جَعْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مُعْجِزَةً لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُجْعَلَ كَرَامَةً لِلْأَوْلِيَاءِ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ. أَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ: الْخَبَرُ الْأَوَّلُ: مَا
أُخْرِجَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَبِيٌّ فِي زَمَنِ جُرَيْجٍ النَّاسِكِ وَصَبِيٌّ آخَرُ، أَمَّا عِيسَى فَقَدْ عَرَفْتُمُوهُ، وَأَمَّا جُرَيْجٌ فَكَانَ رَجُلًا عَابِدًا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ لَهُ أُمٌّ فَكَانَ يَوْمًا يُصَلِّي إِذِ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ يَا رَبِّ الصَّلَاةُ خَيْرٌ أَمْ رُؤْيَتُهَا ثُمَّ صَلَّى فَدَعَتْهُ ثَانِيًا فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَانَ يُصَلِّي وَيَدَعُهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أُمِّهِ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَتْ زَانِيَةٌ هُنَاكَ فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنَا أَفْتِنُ جُرَيْجًا حَتَّى يَزْنِيَ فَأَتَتْهُ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَانَ هُنَاكَ راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أَعْيَاهَا رَاوَدَتِ الرَّاعِيَ عَلَى نَفْسِهَا فَأَتَاهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَلَدِي هَذَا مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَاهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَشَتَمُوهُ فَصَلَّى وَدَعَا ثُمَّ نَخَسَ الْغُلَامَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ بِيَدِهِ يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: الرَّاعِي فَنَدِمَ الْقَوْمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ. وَقَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَبَنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْآخَرُ فَإِنَّ امْرَأَةً كَانَ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا تُرْضِعُهُ إِذْ مَرَّ بِهَا شَابٌّ جَمِيلٌ ذُو شَارَةٍ حَسَنَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ مَرَّتْ بِهَا امْرَأَةٌ ذَكَرُوا أَنَّهَا سَرَقَتْ وَزَنَتْ وَعُوقِبَتْ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لا تجعل ابني مثل هذه، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ إِنَّ الشَّابَّ كَانَ جَبَّارًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَهُ وَإِنَّ هَذِهِ قِيلَ إِنَّهَا زَنَتْ وَلَمْ تَزِنْ وَقِيلَ إِنَّهَا سَرَقَتْ وَلَمْ تَسْرِقْ وَهِيَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ».
الْخَبَرُ الثَّانِي: وَهُوَ خَبَرُ الْغَارِ وَهُوَ مَشْهُورٌ
فِي «الصِّحَاحِ» عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَأَوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ وَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ بَابَ الْغَارِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا فَنَامَا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يَوْمًا فَلَمْ أَبْرَحْ عَنْهُمَا وَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَجِئْتُهُمَا بِهِ فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمِينَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أُغْبِقَ قَبْلَهُمَا/ فَقُمْتُ وَالْقَدَحُ فِي يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى ظَهَرَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ هَذَا ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَانْفَرَجَتِ انْفِرَاجًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ الْآخَرُ: كَانَتْ لِي ابْنَةَ عَمٍّ وَكَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ فَرَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي وَأَعْطَيْتُهَا مَالًا عَظِيمًا عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَلَمَّا قَدِرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لَا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقه! فَتَحَرَّجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَتَرَكْتُهَا وَتَرَكْتُ الْمَالَ مَعَهَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أُجُورَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ وَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أُجْرَتِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أُجْرَتِكَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَ ذَلِكَ كله
432
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ عَنِ الْغَارِ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ».
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الْخَبَرُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يَؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ فِيمَا يُقْسِمُ بِهِ عَلَى اللَّهِ. الْخَبَرُ الرَّابِعُ:
رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنْتُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا».
الْخَبَرُ الْخَامِسُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسْمَعُ رَعْدًا أَوْ صَوْتًا فِي السَّحَابِ: أَنِ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، قَالَ فَعَدَوْتُ إِلَى تِلْكَ الْحَدِيقَةِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِيهَا فَقُلْتُ لَهُ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ:
فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِحَدِيقَتِكَ هَذِهِ إِذَا صَرَمْتَهَا؟ قَالَ: وَلِمَ تَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: لِأَنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ أَنِ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ فَإِنِّي أَجْعَلُهَا أَثْلَاثًا فَأَجْعَلُ لِنَفْسِي وَأَهْلِي ثُلْثًا وَأَجْعَلُ لِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ثُلْثًا وَأُنْفِقُ عَلَيْهَا ثُلْثًا»
.
«أَمَّا الْآثَارُ» فَلْنَبْدَأْ بِمَا نُقِلَ أَنَّهُ ظَهَرَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنَ الْكَرَامَاتِ ثُمَّ بِمَا ظَهَرَ عَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، أَمَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمِنْ كَرَامَاتِهِ أَنَّهُ لَمَّا حُمِلَتْ جِنَازَتُهُ إِلَى بَابِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُودِيَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ بِالْبَابِ فَإِذَا الْبَابُ قَدِ انْفَتَحَ وَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ مِنَ الْقَبْرِ أَدْخِلُوا الْحَبِيبَ إِلَى الْحَبِيبِ، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ ظَهَرَتْ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كَرَامَاتِهِ وَأَحَدُهَا مَا
رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَبَيْنَا عُمَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ جَعَلَ يَصِيحُ فِي خُطْبَتِهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَكَتَبْتُ تَارِيخَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَقَدِمَ رَسُولُ مَقْدِمِ الْجَيْشِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، غَزَوْنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ فَهَزَمُونَا فَإِذَا بِإِنْسَانٍ يَصِيحُ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَلِ فَهَزَمَ اللَّهُ الْكُفَّارَ وَظَفِرْنَا بِالْغَنَائِمِ الْعَظِيمَةِ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الصَّوْتِ قُلْتُ سَمِعْتُ بَعْضَ/ الْمُذَكِّرِينَ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنْتُمَا مِنِّي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَصَرِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا جَرَمَ قَدِرَ عَلَى أَنْ يَرَى مِنْ ذَلِكَ الْبُعْدِ الْعَظِيمِ.
الثَّانِي:
رُوِيَ أَنَّ نِيلَ مِصْرَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً «١» وَكَانَ لَا يَجْرِي حَتَّى يُلْقَى فِيهِ جَارِيَةٌ وَاحِدَةٌ حَسْنَاءُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى عُمَرَ، فكتب عمر على خرقة: أَيُّهَا النِّيلُ إِنْ كُنْتَ تَجْرِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَاجْرِ، وَإِنْ كُنْتَ تَجْرِي بِأَمْرِكَ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَيْكَ! فَأُلْقِيَتْ تِلْكَ الْخَزَفَةُ فِي النِّيلِ فَجَرَى وَلَمْ يَقِفْ بَعْدَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: وَقَعَتِ الزَّلْزَلَةُ فِي الْمَدِينَةِ فَضَرَبَ عُمَرُ الدِّرَّةَ عَلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: اسْكُنِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَسَكَنَتْ وَمَا حَدَثَتِ الزَّلْزَلَةُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: وَقَعَتِ النَّارُ فِي بَعْضِ دَوْرِ الْمَدِينَةِ فَكَتَبَ عُمَرُ عَلَى خَزَفَةٍ:
يَا نَارُ اسْكُنِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ فَانْطَفَأَتْ فِي الْحَالِ. الْخَامِسُ: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ مَلِكِ الرُّومِ جَاءَ إِلَى عُمَرَ فَطَلَبَ دَارَهُ فَظَنَّ أَنَّ دَارَهُ مِثْلُ قُصُورِ الْمُلُوكِ فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ يَضْرِبُ اللَّبِنَ فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى الصَّحْرَاءِ رَأَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ دِرَّتَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَنَامَ عَلَى التُّرَابِ، فَعَجِبَ الرَّسُولُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ:
إِنَّ أَهْلَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ يَخَافُونَ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ! ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنِّي وَجَدْتُهُ خَالِيًا فَأَقْتُلُهُ وَأُخَلِّصُ النَّاسَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَفَعَ السَّيْفَ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ أَسَدَيْنِ فَقَصَدَاهُ فَخَافَ وَأَلْقَى السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ وَانْتَبَهَ عُمَرُ وَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَالِ فَذَكَرَ لَهُ الْوَاقِعَةَ وَأَسْلَمَ. وَأَقُولُ هَذِهِ الوقائع رويت بالآحاد، وهاهنا ما هو
(١) قوله مرة واحدة، لا مفهوم له، والمراد بيان أنه يمتنع عن الفيض ويكون ماؤه قليلا وهو إذا كان كذلك لا يجري بل يكون أشبه بالراكد.
433
مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَاحْتِرَازِهِ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ وَالتَّهْوِيلَاتِ سَاسَ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ وَقَلَبَ الْمَمَالِكَ وَالدُّوَلَ لَوْ نَظَرْتَ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنْ أَوَّلِ عَهْدِ آدَمَ إِلَى الْآنِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ فَإِنَّهُ مَعَ غَايَةِ بُعْدِهِ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ كَيْفَ قَدَرَ عَلَى تِلْكَ السِّيَاسَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَرَامَاتِ. وَأَمَّا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: سِرْتُ فِي الطَّرِيقِ فَرَفَعْتُ عَيْنِي إِلَى امْرَأَةٍ ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ وَآثَارُ الزِّنَا ظَاهِرَةٌ عَلَيْكُمْ؟ فَقُلْتُ: أَجَاءَ الْوَحْيُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ بِالسَّيْفِ فَأَوَّلُ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ سَقَطَتْ وَقَعَتْ عَلَى الْمُصْحَفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. [الْبَقَرَةِ: ١٣٧] الثَّالِثُ: أَنَّ جَهْجَاهًا الْغِفَارِيَّ انْتَزَعَ الْعَصَا مِنْ يَدِ عُثْمَانَ وَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ فَوَقَعَتِ الْأَكَلَةُ فِي رُكْبَتِهِ. وَأَمَّا عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
فَيُرْوَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْ مُحِبِّيهِ سَرَقَ وَكَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ فَأُتِيَ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ نَعَمْ. فَقَطَعَ يَدَهُ فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَقِيَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ الْكَرَّا، فَقَالَ ابْنُ الْكَرَّا: مَنْ قَطَعَ يَدَكَ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْسُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَخَتَنُ الرَّسُولِ وَزَوْجُ الْبَتُولِ فَقَالَ قَطَعَ يَدَكَ وَتَمْدَحُهُ؟ فَقَالَ: وَلِمَ لَا أَمْدَحُهُ وَقَدْ قَطَعَ يَدِي بِحَقٍّ وَخَلَّصَنِي مِنَ النَّارِ! فَسَمِعَ سَلْمَانُ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِهِ عَلِيًّا فَدَعَا الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سَاعِدِهِ وَغَطَّاهُ بِمَنْدِيلٍ وَدَعَا بِدَعَوَاتٍ فَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ ارْفَعِ/ الرِّدَاءَ عَنِ الْيَدِ فَرَفَعْنَاهُ فَإِذَا الْيَدُ قَدْ بَرَأَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَمِيلِ صُنْعِهِ.
أَمَّا سَائِرُ الصَّحَابَةِ فَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فَنَذْكُرُ مِنْهَا شَيْئًا قَلِيلًا. الْأَوَّلُ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَكِبْتُ الْبَحْرَ فَانْكَسَرَتْ سَفِينَتِي الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا فَطَرَحَنِي اللَّوْحُ فِي خَيْسَةٍ فِيهَا أَسَدٌ فَخَرَجَ الْأَسَدُ إِلَيَّ يُرِيدُنِي فَقُلْتُ: يا أبا الحرث أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمْ وَدَلَّنِي عَلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ هَمْهَمَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي وَرَجَعَ. الثَّانِي: رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلًا آخَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ تَحَدَّثَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ لَهُمَا حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ زَمَانٌ ثُمَّ خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ شَدِيدَةَ الظُّلْمَةِ وَفِي يَدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصَا فَأَضَاءَتْ عَصَا أَحَدِهِمَا لَهُمَا حَتَّى مَشَيَا فِي ضَوْئِهَا فَلَمَّا انْفَرَقَ بَيْنَهُمَا الطَّرِيقُ أَضَاءَتْ لِلْآخَرِ عَصَاهُ فَمَشَى فِي ضَوْئِهَا حَتَّى بَلَغَ مَنْزِلَهُ. الثَّالِثُ: قَالُوا لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِنَّ فِي عَسْكَرِكَ مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَرَكِبَ فَرَسَهُ لَيْلَةً فَطَافَ بِالْعَسْكَرِ فَلَقِيَ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ وَمَعَهُ زِقُّ خَمْرٍ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالَ: خَلٌّ، فَقَالَ خَالِدٌ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ خَلًّا. فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَتَيْتُكُمْ بِخَمْرٍ مَا شَرِبَتِ الْعَرَبُ مِثْلَهَا! فَلَمَّا فَتَحُوا فَإِذَا هُوَ خَلٌّ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا جِئْتَنَا إِلَّا بِخَلٍّ؟ فَقَالَ هَذَا وَاللَّهِ دُعَاءُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. الرَّابِعُ: الْوَاقِعَةُ الْمَشْهُورَةُ وَهِيَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَكَلَ كَفًّا مِنَ السُّمِّ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَمَا ضَرَّهُ. الْخَامِسُ: رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَلَقِيَ جَمَاعَةً وَقَفُوا عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ خَوْفِ السَّبُعِ فَطَرَدَ السَّبُعَ مِنْ طَرِيقِهِمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى ابْنِ آدَمَ مَا يَخَافُهُ وَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَخَفْ غَيْرَ اللَّهِ لَمَا سُلِّطَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. السَّادِسُ:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي غَزَاةٍ فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَحْرِ فَدَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ وَمَشَوْا عَلَى الْمَاءِ.
وَفِي كُتُبِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ رِوَايَاتٌ مُتَجَاوِزَةٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ فَمَنْ أَرَادَهَا طَالَعَهَا. وَأَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْكَرَامَاتِ فَمِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْعَبْدَ وَلِيُّ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: ٦٢] وَالرَّبُّ وَلِيُّ الْعَبْدِ قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] وَقَالَ: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٦] وَقَالَ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الْمَائِدَةِ: ٥٥] وَقَالَ: أَنْتَ مَوْلانا
434
[الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَقَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [مُحَمَّدٍ: ١١] فَثَبَتَ أَنَّ الرَّبَّ وَلِيُّ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْعَبْدَ وَلِيُّ الرَّبِّ وَأَيْضًا الرَّبُّ حَبِيبُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ حَبِيبُ الرَّبِّ قَالَ تَعَالَى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: ٥٤] وَقَالَ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٦٥] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٢] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَبْدُ إِذَا بَلَغَ فِي الطَّاعَةِ إِلَى حَيْثُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكُلَّ مَا فِيهِ رِضَاهُ وَتَرَكَ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ وَزَجَرَ عَنْهُ فَكَيْفَ يَبْعُدُ أَنْ يَفْعَلَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعَ لُؤْمِهِ وَعَجْزِهِ لَمَّا فَعَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُهُ بِهِ فَلَأَنْ يَفْعَلَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَا أَرَادَهُ الْعَبْدُ كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا قال تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠].
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَوِ امْتَنَعَ إِظْهَارُ الْكَرَامَةِ لَكَانَ ذَلِكَ إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ أَهْلًا لَأَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ، وَالْأَوَّلُ: قدح في/ قدرة اللَّهُ وَهُوَ كُفْرٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فَإِنَّ مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ وَمَحَبَّةَ اللَّهِ وَطَاعَاتَهُ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذِكْرِ تَقْدِيسِهِ وَتَمْجِيدِهِ وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مَفَازَةٍ أَوْ تَسْخِيرِ حَيَّةٍ أَوْ أَسَدٍ فَلَمَّا أَعْطَى الْمَعْرِفَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالذِّكْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَلَأَنْ يُعْطِيَهُ رَغِيفًا فِي مَفَازَةٍ فَأَيُّ بُعْدٍ فِيهِ؟
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: «مَا تَقَرَّبَ عَبْدٌ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَلِسَانًا وَقَلْبًا وَيَدًا وَرِجْلًا بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَمْشِي»
وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي سَمْعِهِمْ نَصِيبٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا فِي بَصَرِهِمْ وَلَا فِي سَائِرِ أَعْضَائِهِمْ إِذْ لَوْ بَقِيَ هُنَاكَ نَصِيبٌ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمَا قَالَ أَنَا سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَشْرَفُ مِنْ تَسْخِيرِ الْحَيَّةِ وَالسَّبُعِ وَإِعْطَاءِ الرَّغِيفِ وَعُنْقُودٍ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ شَرْبَةٍ مِنَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَوْصَلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عَبْدَهُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ رَغِيفًا وَاحِدًا أَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ فِي مَفَازَةٍ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
فَجَعَلَ إِيذَاءَ الْوَلِيِّ قَائِمًا مَقَامَ إِيذَائِهِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: ١٠] وَقَالَ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً [الْأَحْزَابِ: ٣٦] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] فَجَعَلَ بَيْعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةً مَعَ اللَّهِ وَرِضَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضَاءَ اللَّهِ وَإِيذَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيذَاءَ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ دَرَجَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا هاهنا
لَمَّا قَالَ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِيذَاءَ الْوَلِيِّ قَائِمًا مَقَامَ إِيذَاءِ نَفْسِهِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: «يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَرِضْتَ فَلَمْ تَعُدْنِي، اسْتَسْقَيْتُكَ فَمَا سَقَيْتَنِي، اسْتَطْعَمْتُكَ فَمَا أَطْعَمْتَنِي فَيَقُولُ يَا رَبِّ كَيْفَ أَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ! فَيَقُولُ إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي»
وَكَذَا فِي السَّقْيِ وَالْإِطْعَامِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَبْلُغُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ كِسْرَةَ خُبْزٍ أَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ أَوْ يُسَخِّرَ لَهُ كَلْبًا أَوْ وَرْدًا «١».
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّا نُشَاهِدُ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ خَصَّهُ الْمَلِكُ بِالْخِدْمَةِ الْخَاصَّةِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْأُنْسِ فَقَدْ يَخُصُّهُ أَيْضًا بِأَنْ يُقَدِّرَهُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَلِ الْعَقْلُ السَّلِيمُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ ذلك
(١) الورد بفتح الواو وسكون الراء، اسم من أسماء الأسد. (الصاوي).
435
الْقُرْبُ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ هَذِهِ الْمَنَاصِبُ فَجَعَلَ الْقُرْبَ أَصْلًا وَالْمَنْصِبَ تَبَعًا وَأَعْظَمُ الْمُلُوكِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَإِذَا شَرَّفَ عَبْدًا بِأَنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى عَتَبَاتِ خِدْمَتِهِ وَدَرَجَاتِ كَرَامَتِهِ وَأَوْقَفَهُ عَلَى أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ وَرَفَعَ حُجُبَ الْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَأَجْلَسَهُ عَلَى بِسَاطِ قُرْبِهِ فَأَيُّ/ بُعْدٍ فِي أَنْ يُظْهِرَ بَعْضَ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مَعَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَرَّةٍ مِنْ تِلْكَ السِّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ كَالْعَدَمِ الْمَحْضِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِلْأَفْعَالِ هُوَ الرُّوحُ لَا الْبَدَنُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّوْحِ كَالرُّوحِ لِلْبَدَنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النمل: ٢٠]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي»
وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِأَحْوَالِ عَالَمِ الْغَيْبِ كَانَ أَقْوَى قَلْبًا وَأَقَلَّ ضَعْفًا وَلِهَذَا
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: وَاللَّهِ مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَرَ بِقُوَّةٍ جَسَدَانِيَّةٍ وَلَكِنْ بِقُوَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ انْقَطَعَ نَظَرُهُ عَنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ وَأَشْرَقَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ فَتَقَوَّى رُوحُهُ وَتَشَبَّهَ بِجَوَاهِرِ الْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ وَتَلَأْلَأَتْ فِيهِ أَضْوَاءُ عَالَمِ الْقُدُسِ وَالْعَظَمَةِ فَلَا جَرَمَ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ مَا قَدَرَ بِهَا عَلَى مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا وَاظَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ بَلَغَ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا فَإِذَا صَارَ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ سَمْعًا لَهُ سَمِعَ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ النُّورُ بَصَرًا لَهُ رَأَى الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ النُّورُ يَدًا لَهُ قَدَرَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الصَّعْبِ وَالسَّهْلِ وَالْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ الْحِكْمِيَّةُ، وَهِيَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْكَائِنَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ جَوَاهِرِ الملائكة وسكان عالم السموات وَنَوْعِ الْمُقَدَّسِينَ الْمُطَهَّرِينَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَذَا الْبَدَنِ وَاسْتَغْرَقَ فِي تَدْبِيرِهِ صَارَ فِي ذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقِ إِلَى حَيْثُ نَسِيَ الْوَطَنَ الْأَوَّلَ وَالْمَسْكَنَ الْمُتَقَدِّمَ وَصَارَ بِالْكُلِّيَّةِ مُتَشَبِّهًا بِهَذَا الْجِسْمِ الْفَاسِدِ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ وَذَهَبَتْ مُكْنَتُهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، أَمَّا إِذَا اسْتَأْنَسَتْ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقَلَّ انْغِمَاسُهَا فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْبَدَنِ، وَأَشْرَقَتْ عَلَيْهَا أَنْوَارُ الْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ الْعَرْشِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَفَاضَتْ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ قَوِيَتْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ مِثْلَ قُوَّةِ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ هُوَ الْكَرَامَاتُ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ فَفِيهَا الْقَوِيَّةُ وَالضَّعِيفَةُ، وَفِيهَا النُّورَانِيَّةُ وَالْكَدِرَةُ، وَفِيهَا الْحُرَّةُ وَالنَّذْلَةُ وَالْأَرْوَاحُ الْفَلَكِيَّةُ أَيْضًا كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى جِبْرِيلَ كَيْفَ قَالَ اللَّهُ فِي وَصْفِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: ١٩- ٢١] وَقَالَ فِي قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [النجم: ٢٦] فكذا هاهنا فَإِذَا اتَّفَقَ فِي نَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ كَوْنُهَا قَوِيَّةً، الْقُوَّةَ الْقُدُسِيَّةَ الْعُنْصُرِيَّةَ مُشْرِقَةَ الْجَوْهَرِ عُلْوِيَّةَ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهَا أَنْوَاعُ الرِّيَاضَاتِ الَّتِي تُزِيلُ عَنْ وَجْهِهَا غُبْرَةَ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ أَشْرَقَتْ وَتَلَأْلَأَتْ وَقَوِيَتْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَيُولِيِّ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ بِإِعَانَةِ نُورِ مَعْرِفَةِ الْحَضْرَةِ الصَّمَدِيَّةِ وَتَقْوِيَةِ أَضْوَاءِ حَضْرَةِ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ. وَلْنَقْبِضْ هاهنا عَنَانَ الْبَيَانِ فَإِنَّ وَرَاءَهَا أَسْرَارًا دَقِيقَةً وَأَحْوَالًا/ عَمِيقَةً مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْإِعَانَةَ عَلَى إِدْرَاكِ الْخَيْرَاتِ، وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ لِلْكَرَامَاتِ بِوُجُوهٍ. الشُّبْهَةُ الْأُولَى: وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ وَبِهَا يُضِلُّونَ أَنَّ ظُهُورَ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ فَلَوْ حَصَلَ لِغَيْرِ نَبِيٍّ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ لِأَنَّ حُصُولَ الدَّلِيلِ مَعَ عَدَمِ الْمَدْلُولِ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا،
436
وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكُوا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: «لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ»
قَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَعْظَمُ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ النَّوَافِلِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَقَرِّبَ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَالْمُتَقَرِّبُ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ النَّوَافِلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْلِ: ٧] وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ- لَا عَلَى الْوَجْهِ- طَعْنٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَيْضًا إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصِلْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَّا فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ مَعَ التَّعَبِ الشَّدِيدِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْوَلِيَّ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدِ نَفْسِهِ إِلَى الْحَجِّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَالُوا: هَذَا الْوَلِيُّ الَّذِي تَظْهَرُ عَلَيْهِ الْكَرَامَاتُ إِذَا ادَّعَى عَلَى إِنْسَانٍ دِرْهَمًا فَهَلْ نُطَالِبُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ طَالَبْنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ عَبَثًا لِأَنَّ ظُهُورَ الْكَرَامَاتِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ، وَمَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ كَيْفَ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ، وَإِنْ لَمْ نُطَالِبْهُ بِهَا فَقَدْ تَرَكْنَا
قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي»
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْكَرَامَةِ بَاطِلٌ. الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا جَازَ ظُهُورُ الْكَرَامَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ جَازَ ظُهُورُهَا عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِذَا كَثُرَتِ الْكَرَامَاتُ حَتَّى خَرَقَتِ الْعَادَةَ جَرَتْ وَفْقًا لِلْعَادَةِ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ. «وَالْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ دَعْوَى الْوِلَايَةِ؟
فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَكُونُ مَسْبُوقَةً بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةُ لَا تَكُونُ مَسْبُوقَةً بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثُوا إِلَى الْخَلْقِ لِيَصِيرُوا دُعَاةً لِلْخَلْقِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَمِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ فَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ وَإِذَا ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ وَأَظْهَرُوا الْمُعْجِزَةَ آمَنَ الْقَوْمُ بِهِمْ فَإِقْدَامُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دَعْوَى النُّبُوَّةِ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمَ النَّفْسِ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَى الْخَلْقِ حَتَّى يَنْتَقِلُوا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، أَمَّا ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لِلْوَلِيِّ فَلَيْسَ الْجَهْلُ بِهَا كُفْرًا وَلَا مَعْرِفَتُهَا إِيمَانًا فَكَانَ دَعْوَى الْوِلَايَةِ طَلَبًا لِشَهْوَةِ النَّفْسِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالْوَلِيُّ لَا يَجُوزُ لَهُ دَعْوَى الْوِلَايَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ دَعْوَى الْوِلَايَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ ظُهُورَ الْفِعْلِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مُبَرَّءًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنِ اقْتَرَنَ هَذَا الْفِعْلُ بِادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِادِّعَاءِ الْوِلَايَةِ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَى الْوِلَايَةِ، وَبِهَذَا/ الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ ظُهُورُ الْكَرَامَةِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ طَعْنًا فِي مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَّعِي الْمُعْجِزَةَ وَيَقْطَعُ بِهَا، وَالْوَلِيُّ إِذَا ادَّعَى الْكَرَامَةَ لَا يَقْطَعُ بِهَا لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ يَجِبُ ظُهُورُهَا، أَمَّا الكرامة [ف] لا يَجِبُ ظُهُورُهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ الْمُعَارَضَةِ عَنِ الْمُعْجِزَةِ وَلَا يُجِبْ نَفْيُهَا عَنِ الْكَرَامَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّا لَا نُجَوِّزُ ظُهُورَ الْكَرَامَةِ عَلَى الْوَلِيِّ عِنْدَ ادِّعَاءِ الْوِلَايَةِ إِلَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ تِلْكَ الدَّعْوَى بِكَوْنِهِ عَلَى دِينِ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ صَارَتْ تِلْكَ الْكَرَامَةُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ وَمُؤَكِّدَةً لِرِسَالَتِهِ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ ظُهُورُ الْكَرَامَةِ طَاعِنًا فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ بَلْ يَصِيرُ مُقَوِّيًا لَهَا. «وَالْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْفَرَائِضِ وَحْدَهَا أَكْمَلُ مِنَ التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَإِنَّمَا يَكُونُ وَلِيًّا إِذَا كَانَ آتِيًا بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ حَالُهُ أَتَمَّ مِنْ حَالِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرَائِضِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. «وَالْجَوَابُ» عَلَى الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمُتَعَارَفِ، وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ أَحْوَالٌ نَادِرَةٌ فَتَصِيرُ كَالْمُسْتَثْنَاةِ عَنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ. وَهَذَا هُوَ «الْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الرَّابِعَةِ وَهِيَ التَّمَسُّكُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على
437
الْمُدَّعِي.
«وَالْجَوَابُ» عَنِ الشُّبْهَةِ الْخَامِسَةِ أَنَّ الْمُطِيعِينَ فِيهِمْ قِلَّةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: ١٣] وَكَمَا قَالَ إِبْلِيسُ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٧] وَإِذَا حَصَلَتِ الْقِلَّةُ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ النَّادِرَةِ قَادِحًا فِي كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَالِاسْتِدْرَاجِ، اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ اللَّهُ مُرَادَهُ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَطِيَّةُ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إِكْرَامًا لِلْعَبْدِ وَقَدْ يَكُونُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَلِهَذَا الِاسْتِدْرَاجِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، أَحَدُهَا: الِاسْتِدْرَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: ١٨٢] وَمَعْنَى الِاسْتِدْرَاجِ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ فِي الدُّنْيَا لِيَزْدَادَ غَيُّهُ وَضَلَالُهُ وَجَهْلُهُ وَعِنَادُهُ فَيَزْدَادَ كُلَّ يَوْمٍ بُعْدًا مِنَ اللَّهِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ تَكَرُّرَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ فَإِذَا مَالَ قَلْبُ الْعَبْدِ إِلَى الدُّنْيَا ثُمَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مُرَادَهُ فَحِينَئِذٍ يَصِلُ الطَّالِبُ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ اللَّذَّةِ وَحُصُولُ اللَّذَّةِ يَزِيدُ فِي الْمَيْلِ وَحُصُولُ الْمَيْلِ يُوجِبُ مَزِيدَ السَّعْيِ وَلَا يَزَالُ يَتَأَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَتَتَقَوَّى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ مَانِعٌ عَنْ مَقَامَاتِ الْمُكَاشَفَاتِ وَدَرَجَاتِ الْمَعَارِفِ فَلَا جَرَمَ يَزْدَادُ بُعْدُهُ عَنِ اللَّهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ فَهَذَا هُوَ الِاسْتِدْرَاجُ. وَثَانِيهَا: الْمَكْرُ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ٩٩]، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤] وَقَالَ: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النَّمْلِ: ٥٠]. وَثَالِثُهَا: الْكَيْدُ قَالَ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: ١٤٢] وَقَالَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْبَقَرَةِ: ٩]. وَرَابِعُهَا: الْإِمْلَاءُ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٨]. وَخَامِسُهَا: / الْإِهْلَاكُ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٤٤] وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الْقَصَصِ: ٣٩، ٤٠] فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِيصَالَ إِلَى الْمُرَادَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الدَّرَجَاتِ وَالْفَوْزِ بِالْخَيْرَاتِ بَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَبَيْنَ الِاسْتِدْرَاجَاتِ. فَنَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ الْكَرَامَةِ لَا يَسْتَأْنِسُ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ بَلْ عِنْدَ ظُهُورِ الْكَرَامَةِ يَصِيرُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَشَدَّ وَحَذَرُهُ مِنْ قَهْرِ اللَّهِ أَقْوَى فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْرَاجِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الِاسْتِدْرَاجِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَدَ تِلْكَ الْكَرَامَةَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَحِينَئِذٍ يَسْتَحْقِرُ غَيْرَهُ وَيَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَيَحْصُلُ لَهُ أَمْنٌ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ وَلَا يَخَافُ سُوءَ الْعَاقِبَةِ فَإِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى صَاحِبِ الْكَرَامَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتِ اسْتِدْرَاجًا لَا كَرَامَةً. فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَكْثَرُ مَا اتَّفَقَ مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنْ حَضْرَةِ اللَّهِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي مَقَامِ الْكَرَامَاتِ فَلَا جَرَمَ تَرَى الْمُحَقِّقِينَ يَخَافُونَ مِنَ الْكَرَامَاتِ كَمَا يَخَافُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالْكَرَامَةِ قَاطِعٌ عَنِ الطَّرِيقِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا الْغُرُورَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذا الْكَرَامَةِ لِأَنْ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لَهَا امْتَنَعَ حُصُولُ الْفَرَحِ بِهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِكَرَمِ الْمَوْلَى وَفَضْلِهِ أَكْبَرَ مِنْ فَرَحِهِ بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرَحَ بِالْكَرَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ فَرَحِهِ بِنَفْسِهِ وَثَبَتَ أَنَّ الْفَرَحَ بِالْكَرَامَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَهْلٌ وَمُسْتَحِقٌّ لَهَا وَهَذَا
438
عُيْنُ الْجَهْلِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا [الْبَقَرَةِ: ٣٢] وَقَالَ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: ٩١] وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى الْحَقِّ فَكَيْفَ يَحْصُلُ ظَنُّ الِاسْتِحْقَاقِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَرَامَاتِ أَشْيَاءُ مُغَايِرَةٌ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَالْفَرَحُ بِالْكَرَامَةِ فَرَحٌ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْفَرَحُ بِغَيْرِ الْحَقِّ حِجَابٌ عَنِ الْحَقِّ وَالْمَحْجُوبُ عَنِ الْحَقِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْكَرَامَةِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ حَصَلَ لِعَمَلِهِ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي قَلْبِهِ وَمَنْ كَانَ لِعَمَلِهِ وَقْعٌ عِنْدَهُ كَانَ جَاهِلًا وَلَوْ عَرَفَ رَبَّهُ لَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ طَاعَاتِ الْخَلْقِ فِي جَنْبِ جَلَالِ اللَّهِ تَقْصِيرٌ وَكُلَّ شُكْرِهِمْ فِي جَنْبِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ قُصُورٌ وَكُلَّ مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ فَهِيَ فِي مُقَابَلَةِ عِزَّتِهِ حَيْرَةٌ وَجَهْلٌ. رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّهُ قَرَأَ الْمُقْرِئُ فِي مَجْلِسِ الْأُسْتَاذِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: ١٠] فَقَالَ عَلَامَةُ أَنَّ الْحَقَّ رَفَعَ عَمَلَكَ أَنْ لَا يُبْقِيَ [ذِكْرَهُ] عِنْدَكَ فَإِنْ بَقِيَ عَمَلُكَ فِي نَظَرِكَ فَهُوَ مَدْفُوعٌ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مَقْبُولٌ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ صَاحِبَ الْكَرَامَةِ إِنَّمَا وَجَدَ الْكَرَامَةَ لِإِظْهَارِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ فَإِذَا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الْكَرَامَاتِ فَهَذَا طَرِيقُ ثُبُوتِهِ يُؤَدِّيهِ إِلَى عَدَمِهِ فَكَانَ مَرْدُودًا وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَاقِبَ نَفْسِهِ/ وَفَضَائِلَهَا كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَا فَخْرَ يَعْنِي لَا أَفْتَخِرُ بِهَذِهِ الْكَرَامَاتِ وَإِنَّمَا أَفْتَخِرُ بِالْمُكْرِمِ وَالْمُعْطِي.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْكَرَامَاتِ فِي حَقِّ إِبْلِيسَ وَفِي حَقِّ بَلْعَامَ كَانَ عَظِيمًا ثُمَّ قِيلَ لِإِبْلِيسَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقِيلَ لِبَلْعَامَ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ وَقِيلَ لِعُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَةِ: ٥] وَقِيلَ أَيْضًا فِي حَقِّهِمْ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩] فَبَيَّنَ أَنَّ وُقُوعَهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ وَالضَّلَالَاتِ كَانَ بِسَبَبِ فَرَحِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْكَرَامَةَ غَيْرُ الْمُكَرَّمِ وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ الْمُكَرَّمِ فَهُوَ ذَلِيلٌ وَكُلُّ مَنْ تَعَزَّزَ بِالذَّلِيلِ فَهُوَ ذَلِيلٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى
قَالَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: «١» أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، فَالِاسْتِغْنَاءُ بِالْفَقِيرِ فَقْرٌ وَالتَّقَوِّي بِالْعَاجِزِ عَجْزٌ وَالِاسْتِكْمَالُ بِالنَّاقِصِ نُقْصَانٌ وَالْفَرَحُ بِالْمُحْدَثِ بَلَهٌ وَالْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْحَقِّ خَلَاصٌ،
فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا ابْتَهَجَ بِالْكَرَامَةِ سَقَطَ عَنْ دَرَجَتِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُشَاهِدُ فِي الْكَرَامَاتِ إِلَّا الْمُكْرِمَ وَلَا فِي الْإِعْزَازِ إِلَّا الْمُعِزَّ وَلَا فِي الْخَلْقِ إِلَّا الْخَالِقَ فَهُنَاكَ يَحِقُّ الْوُصُولُ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الِافْتِخَارَ بِالنَّفْسِ وَبِصِفَاتِهَا مِنْ صِفَاتِ إِبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ، قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الْأَعْرَافِ: ١٢] وَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزُّخْرُفِ: ٥١] وَكُلُّ مَنِ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ بِالْكَذِبِ فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ إِلَّا تَزْيِينَ النَّفْسِ وَتَقْوِيَةَ الْحِرْصِ وَالْعَجَبِ وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بنفسه».
(١) هذا من خطابه لجبريل عليه السلام فإنه
لما ألقي في النار سأله جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام أما إليك فلا!
[.....]
439
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٤] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: ٩٩] فَلَمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ الْعَطِيَّةَ الْكُبْرَى أَمَرَهُ بِالِاشْتِغَالِ بِخِدْمَةِ الْمُعْطِي لَا بِالْفَرَحِ بِالْعَطِيَّةِ.
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا تَرَكَ الْمُلْكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وِجْدَانَ الْمُلْكِ الَّذِي يَعُمُّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مِنَ الْكَرَامَاتِ بَلْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ ذَلِكَ الْمُلْكَ وَاخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَبْدًا كَانَ افْتِخَارُهُ بِمَوْلَاهُ وَإِذَا كَانَ مَلَكًا كَانَ افْتِخَارُهُ بِعَبِيدِهِ، فَلَمَّا اخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ لَا جَرَمَ جَعَلَ السُّنَّةَ الَّتِي فِي التَّحِيَّاتِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ مَسْعُودٍ «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وَقِيلَ فِي الْمِعْرَاجِ:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١].
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ مُحِبَّ الْمَوْلَى غَيْرٌ، وَمُحِبَّ مَا لِلْمَوْلَى غَيْرٌ، فَمِنْ أَحَبَّ الْمَوْلَى لَمْ يَفْرَحْ بِغَيْرِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَسْتَأْنِسْ بِغَيْرِ الْمَوْلَى، فَالِاسْتِئْنَاسُ بِغَيْرِ الْمَوْلَى وَالْفَرَحُ بِغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مُحِبًّا لِلْمَوْلَى بَلْ كَانَ مُحِبًّا لِنَصِيبِ نَفْسِهِ وَنَصِيبُ النَّفْسِ إِنَّمَا يُطْلَبُ لِلنَّفْسِ فَهَذَا الشَّخْصُ مَا أَحَبَّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَمَا كَانَ الْمَوْلَى مَحْبُوبًا لَهُ بَلْ جَعَلَ الْمَوْلَى وَسِيلَةً إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ. وَالصَّنَمُ الْأَكْبَرُ هُوَ النَّفْسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: ٢٣] فَهَذَا الْإِنْسَانُ عَابِدٌ لِلصَّنَمِ الْأَكْبَرِ/ حَتَّى أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا لَا مَضَرَّةَ فِي عِبَادَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ الْمُضِرَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي عِبَادَةِ النَّفْسِ وَلَا خَوْفَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَالْخَوْفِ مِنَ الْفَرَحِ بِالْكَرَامَاتِ.
الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاقِ: ٢، ٣] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي أَنَّ الْوَلِيَّ هَلْ يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكَ لَا يَجُوزُ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ وَتِلْمِيذُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ يَجُوزُ، وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ وَجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: لَوْ عَرَفَ الرَّجُلُ كَوْنَهُ وَلِيًّا لَحَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: ٦٢] لَكِنَّ حُصُولَ الْأَمْنِ غَيْرُ جائز ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله مالي:
فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ٩٩] وَالْيَأْسُ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُفَ: ٨٧] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الْحِجْرِ: ٥٦] وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَمْنَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ الْعَجْزِ، وَالْيَأْسُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ الْبُخْلِ وَاعْتِقَادُ الْعَجْزِ وَالْبُخْلِ فِي حَقِّ اللَّهِ كُفْرٌ، فَلَا جَرَمَ كَانَ حُصُولُ الْأَمْنِ وَالْقُنُوطِ كُفْرًا. الثَّانِي: أَنَّ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا أَنَّ قَهْرَ الْحَقِّ أَعْظَمُ وَمَعَ كَوْنِ الْقَهْرِ غَالِبًا لَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْنَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْعُبُودِيَّةِ وَتَرْكُ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ يُوجِبُ الْعَدَاوَةَ وَالْأَمْنَ يَقْتَضِي تَرْكَ الْخَوْفِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمُخْلِصِينَ بِقَوْلِهِ:
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٠] قِيلَ رَغَبًا فِي ثَوَابِنَا، وَرَهَبًا مِنْ عِقَابِنَا. وَقِيلَ: رَغَبًا فِي فَضْلِنَا، وَرَهَبًا مِنْ عَدْلِنَا. وَقِيلَ رَغَبًا فِي وِصَالِنَا، وَرَهَبًا مِنْ فِرَاقِنَا. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ رَغَبًا فِينَا، وَرَهَبًا مِنَّا.
440
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَنَّ الْوَلِيَّ إِنَّمَا يَصِيرُ وَلِيًّا لِأَجْلِ أَنَّ الْحَقَّ يُحِبُّهُ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ يُحِبُّ الْحَقَّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَدُوِّ، ثُمَّ إِنَّ مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَعَدَاوَتَهُ سِرَّانِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَطَاعَاتُ الْعِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَبَّةِ الْحَقِّ وَعَدَاوَتِهِ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ مُحْدَثَةٌ، وَصِفَاتُ الْحَقِّ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْمُحْدَثُ الْمُتَنَاهِي لَا يَصِيرُ غَالِبًا لِلْقَدِيمِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَرُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ فِي عَيْنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا أَنَّ نَصِيبَهُ مِنَ الْأَزَلِ عَيْنُ الْمَحَبَّةِ. وَرُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ فِي الْحَالِ فِي عَيْنِ الطَّاعَةِ وَلَكِنَّ نَصِيبَهُ مِنَ الْأَزَلِ عَيْنُ الْعَدَاوَةِ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ أَنَّ مَحَبَّتَهُ وَعَدَاوَتَهُ صِفَةٌ، وَصِفَةُ الْحَقِّ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَمَنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لَا لِعِلَّةٍ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ عَدُوًّا بِعِلَّةِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ كَانَتْ عداوته لَا لِعِلَّةٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ مُحِبًّا لِعِلَّةِ الطَّاعَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ وَعَدَاوَتُهُ سِرَّيْنِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِمَا لَا جَرَمَ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [الْمَائِدَةِ: ١١٦].
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ وَلِيًّا وَبِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ/ الثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْخَاتِمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: ١٦٠] وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْخَاتِمَةِ لَا مِنْ أَوَّلِ الْعَمَلِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ مَضَى عُمْرَهُ فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَبِالضِّدِّ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ لَا بِأَوَّلِ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: ٣٨] فَثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ بِالْخَاتِمَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْخَاتِمَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِأَحَدٍ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَعْرِفُ كَوْنَهُ وَلِيًّا فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ. أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ فِي الظَّاهِرِ مُنْقَادًا لِلشَّرِيعَةِ. الثَّانِي:
كَوْنُهُ فِي الْبَاطِنِ مُسْتَغْرِقًا فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الْأَمْرَانِ وَعَرَفَ الْإِنْسَانُ حُصُولَهُمَا عَرَفَ لَا مَحَالَةَ كَوْنَهُ وَلِيًّا، أَمَّا الِانْقِيَادُ فِي الظَّاهِرِ لِلشَّرِيعَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا اسْتِغْرَاقُ الْبَاطِنِ فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَاسْتِئْنَاسُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ اسْتِقْرَارٌ مَعَ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَدَاخُلَ «١» الْأَغْلَاطِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ غَامِضَةُ وَالْقَضَاءُ عَسِرٌ، وَالتَّجْرِبَةُ خَطَرٌ، وَالْجَزْمُ غُرُورٌ. وَدُونَ الْوُصُولِ إِلَى عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ أَسْتَارٌ، تَارَةً مِنَ النِّيرَانِ، وَأُخْرَى مِنَ الْأَنْوَارِ، وَاللَّهُ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأَسْرَارِ، وَلْنَرْجِعْ إلى التفسير.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٥]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ جُمْلَةً مَنْ وَاقِعَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ كَانُوا جَمَاعَةً مِنَ الشُّبَّانِ آمَنُوا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِمْ: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
(١) في الأصل تداخل هكذا ولعل الصواب مداخل لأنه وصفها فيما بعد بقوله كثيرة غامضة.
أَيْ أَلْهَمْنَاهَا الصَّبْرَ وَثَبَّتْنَاهَا: إِذْ قامُوا وَفِي هَذَا الْقِيَامِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ كَانُوا عُظَمَاءَ مَدِينَتِهِمْ فَخَرَجُوا فَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَكْبَرُ الْقَوْمِ إِنِّي لَأَجِدُ/ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَجِدُهُ، قَالُوا مَا تَجِدُ؟ قَالَ أجد في نفسي أن ربي رب السموات وَالْأَرْضِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَامُوا بَيْنَ يَدَيْ ملكهم دقيانوس الجبار، وقالوا: ربنا رب السموات وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ الطَّوَاغِيتِ، فَثَبَّتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ، وَعَصَمَهُمْ حَتَّى عَصَوْا ذَلِكَ الْجَبَّارَ، وَأَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَصَرَّحُوا بِالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنَ النَّوْمِ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْنَفَ قِصَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وَقَوْلِهِ: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً مَعْنَى الشَّطَطِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ قَدْ أَشَطَّ فِي السَّوْمِ إِذْ جَاوَزَ الْحَدَّ وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَّا أَشَطَّ يُشِطُّ إِشْطَاطًا وَشَطَطًا، وَحَكَى الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ شَطَّ الرَّجُلُ وَأَشَطَّ إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلا تُشْطِطْ [ص: ٢٢] وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ شَطَّتِ الدَّارُ إِذَا بعدت، فالشطط البعد عن الحق، وهو هاهنا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى لَقَدْ قُلْنَا إِذًا قَوْلًا شَطَطًا، أَمَّا قَوْلُهُ: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هَذَا مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَيَعْنُونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ دِقْيَانُوسَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ لَوْلا يَأْتُونَ- هَلَّا يَأْتُونَ- عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ عَدَمَ الْبَيِّنَةِ بِعَدَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى صحة هذ الطَّرِيقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ طَرِيقَةٌ قَوِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ظُلْمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمُ الشَّيْءَ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ إِلَّا اللَّهَ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَعْتَزِلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ. فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ جَوَابُ إِذْ كَمَا تَقُولُ إِذْ فَعَلْتَ كَذَا فَافْعَلْ كَذَا، وَمَعْنَاهُ:
اذْهَبُوا إِلَيْهِ وَاجْعَلُوهُ مَأْوَاكُمْ. يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ يَبْسُطُهَا عَلَيْكُمْ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ مَرْفِقًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَالْبَاقُونَ مِرْفَقًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا لُغَتَانِ وَاشْتِقَاقُهُمَا مِنَ الِارْتِفَاقِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُنْكِرُ فِي مِرْفَقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي فِي الْيَدِ إِلَّا كَسْرَ الْمِيمِ وَفَتْحَ الْفَاءِ، وَالْفَرَّاءُ يُجِيزُهُ فِي الْأَمْرِ وَفِي الْيَدِ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ إِلَّا أَنَّ الْفَتْحَ أَقْيَسُ وَالْكَسْرَ أَكْثَرُ وَقِيلَ الْمِرْفَقُ مَا ارْتَفَقْتَ بِهِ، وَالْمَرْفِقُ بِالْفَتْحِ الْمُرَافِقُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
442
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَزْوَرُّ سَاكِنَةَ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ مُشَدَّدَةَ الرَّاءِ مِثْلَ تَحْمَرُّ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَزَاوَرُ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ تَزَّاوَرُ بِالتَّشْدِيدِ وَالْأَلِفِ وَالْكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّزَاوُرُ هُوَ الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ، وَمِنْهُ زَارَهُ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ وَالزُّورُ الْمَيْلُ عَنِ الصِّدْقِ، وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَأَصْلُهُ تَتَزَاوَرُ سَكَنَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ وَأُدْغِمَتْ فِي الزَّايِ، وَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ تَفَاعَلَ مِنَ الزَّوْرِ وَأَمَّا تَزْوَرُّ فَهُوَ مِنَ الِازْوِرَارِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَتَرَى الشَّمْسَ أَيْ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ تَرَى الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا يَرَى هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّ الْعَادَةَ فِي الْمُخَاطَبَةِ تَكُونُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ذاتَ الْيَمِينِ أَيْ جِهَةَ الْيَمِينِ وَأَصْلُهُ أَنَّ ذَاتَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مُقَامَ الْمَوْصُوفِ لِأَنَّهَا تَأْنِيثُ ذُو فِي قَوْلِهِمْ رَجُلُ ذُو مَالٍ، وَامْرَأَةٌ ذَاتُ مَالٍ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ جِهَةَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ قَرَضْتُ الْمَكَانَ أَيْ عَدَلْتُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقَرْضُ فِي أَشْيَاءَ فَمِنْهَا الْقَطْعُ، وَكَذَلِكَ السَّيْرُ فِي الْبِلَادِ أَيْ إِذَا قَطَعَهَا. تَقُولُ لِصَاحِبِكَ هَلْ وَرَدْتَ مَكَانَ كَذَا فَيَقُولُ الْمُجِيبُ إِنَّمَا قَرَضْتُهُ فَقَوْلُهُ:
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال.
البحث الثاني: للمفسرين هاهنا قَوْلَانِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ بَابَ ذَلِكَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى جَانِبِ الشِّمَالِ فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَتْ عَلَى يَمِينِ الْكَهْفِ وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ عَلَى شِمَالِهِ فَضَوْءُ/ الشَّمْسِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْكَهْفِ، وَكَانَ الْهَوَاءُ الطَّيِّبُ وَالنَّسِيمُ الْمُوَافِقُ يَصِلُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ مِنْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَإِلَّا لَفَسَدَتْ أَجْسَامُهُمْ فَهِيَ مَصُونَةٌ عَنِ الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مَنَعَ اللَّهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الْوُقُوعِ. وَكَذَا الْقَوْلُ حَالَ غُرُوبِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِعْلًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَكَرَامَةً عَظِيمَةً خَصَّ اللَّهُ بِهَا أَصْحَابَ الْكَهْفِ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَاحْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ:
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ قَالَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَأْلُوفًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي كَانَ ذَلِكَ كَرَامَةً عَجِيبَةً فَكَانَتْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَهْفِ يَنَالُهُمْ فِيهِ بَرْدُ الرِّيحِ وَنَسِيمُ الْهَوَاءِ، قَالَ: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْكَهْفِ، وَالْفَجْوَةُ مُتَّسَعٌ فِي مَكَانٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمْعُهَا فَجَوَاتٌ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ»
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ يَمْنَعُ وُصُولَ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِقُدْرَتِهِ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ التَّزَاوُرُ وَالْمَيْلُ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِهِ قَالُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة، من آيات الدَّالَّةِ عَلَى عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَبَدَائِعِ حِكْمَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ بَقَاءَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ مَصُونًا عَنِ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ مِنْ تَدْبِيرَاتِهِ وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ، فَكَذَلِكَ رُجُوعُهُمْ أَوَّلًا عَنِ الْكُفْرِ وَرَغْبَتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَانَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ ولطفه فقال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ مِثْلُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً كَدِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُنَاظَرَاتُ أَهْلِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْلُومَةٌ.
443

[سورة الكهف (١٨) : آية ١٨]

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَتَحْسَبُهُمْ عَلَى ما ذكرناه في قوله: وَتَرَى الشَّمْسَ [الكهف: ١٧] أَيْ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لِحَسِبْتَهُمْ أَيْقاظاً وَهُوَ جَمْعُ يَقِظٍ وَيَقْظَانَ قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَأَنْشَدُوا لِرُؤْبَةَ:
وَوَجَدُوا إِخْوَانَهُمْ أَيْقَاظًا
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ نَجْدٌ وَنُجْدَانٌ وَأَنْجَادٌ، وَهُمْ رُقُودٌ أَيْ نَائِمُونَ وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَمَا يُقَالُ قَوْمٌ رُكُوعٌ وَقُعُودٌ وَسُجُودٌ يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْمَصْدَرِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ جَمْعُ رَاقِدٍ فَقَدْ أَبْعَدَ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فُعُولٍ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَإِنَّمَا يُحْسَبُونَ أَيْقاظاً لِأَنَّ أَعْيُنَهُمْ مُفَتَّحَةٌ وَهُمْ نِيَامٌ وَقَالَ الزَّجَّاجُ لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِمْ يُظَنُّ أَنَّهُمْ أَيْقَاظٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ التَّقْلِيبِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ تَقْلِيبَتَيْنِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ يَمْكُثُونَ عَلَى أَيْمَانِهِمْ تِسْعَ سِنِينَ ثُمَّ يُقْلَبُونَ عَلَى شَمَائِلِهِمْ فَيَمْكُثُونَ رُقُودًا تِسْعَ سِنِينَ وَقِيلَ لَهُمْ تَقْلِيبَةٌ وَاحِدَةٌ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَأَقُولُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ لَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إِلَيْهَا، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَا جَاءَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَكَيْفَ يُعْرَفُ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَائِدَةُ تَقْلِيبِهِمْ لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ لُحُومَهُمْ وَلَا تُبْلِيَهُمْ. وَأَقُولُ هَذَا عَجِيبٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَرَ عَلَى أَنْ يُمْسِكَ حَيَاتَهُمْ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ فَلِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ أَجْسَادِهِمْ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَقْلِيبٍ؟ وَقَوْلُهُ: ذاتَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظرف لأن المعنى نقلبهم فِي نَاحِيَةِ الْيَمِينِ أَوْ عَلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ كما قلنا في قوله: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَقَوْلُهُ: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا إِنَّهُمْ هَرَبُوا لَيْلًا مِنْ مَلِكِهِمْ، فَمَرُّوا بِرَاعٍ مَعَهُ كَلْبٌ فَتَبِعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَمَعَهُ كَلْبُهُ، وَقَالَ كَعْبٌ مَرُّوا بِكَلْبٍ فَنَبَحَ عَلَيْهِمْ فَطَرَدُوهُ فَعَادَ فَفَعَلُوا مِرَارًا، فَقَالَ لَهُمُ الْكَلْبُ مَا تُرِيدُونَ مِنِّي لَا تَخْشَوْا جَانِبِي أَنَا أُحِبُّ أَحِبَّاءَ اللَّهِ فَنَامُوا حَتَّى أَحْرُسَكُمْ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَانَ ذَلِكَ كَلْبَ صَيْدِهِمْ وَمَعْنَى: باسِطٌ ذِراعَيْهِ أَيْ يُلْقِيهِمَا عَلَى الْأَرْضِ مَبْسُوطَتَيْنِ غَيْرَ مَقْبُوضَتَيْنِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ فِي الصَّلَاةِ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ السَّبُعِ» وَقَالَ: «لَا تَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْكَ افْتِرَاشَ السَّبُعِ»
قَوْلُهُ: بِالْوَصِيدِ يَعْنِي فِنَاءَ الْكَهْفِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْوَصِيدُ فِنَاءُ الْبَيْتِ وَفِنَاءُ الدَّارِ وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَقَالَ يُونُسُ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ الْوَصِيدُ وَالْأَصِيدُ لُغَتَانِ مِثْلَ الْوِكَافِ وَالْإِكَافِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْوَصِيدِ الْبَابُ وَالْكَهْفُ لَا يَكُونُ لَهُ بَابٌ وَلَا عَتَبَةٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْكَلْبَ مِنْهُ بِمَوْضِعِ الْعَتَبَةِ مِنَ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أَيْ أَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ يُقَالُ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ أَيْ أَشْرَفْتُ عَلَيْهِمْ، وَيُقَالُ أَطْلَعْتُ فُلَانًا عَلَى الشَّيْءِ فَاطَّلَعَ وَقَوْلُهُ:
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: فِراراً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنَى وَلَّيْتَ مِنْهُمْ فَرَرْتَ:
وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أَيْ فَزَعًا وَخَوْفًا قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ وَبَقِيَتْ أَعْيُنُهُمْ مَفْتُوحَةً وَهُمْ نِيَامٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَوْ رَآهُمُ الرَّائِي لَهَرَبَ مِنْهُمْ مَرْعُوبًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ بِحَيْثُ كُلُّ مَنْ رَآهُمْ فَزِعَ فَزَعًا شَدِيدًا، فَأَمَّا تَفْصِيلُ سَبَبِ الرُّعْبِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَقَوْلُهُ: وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ لَمُلِّئْتَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ فِي التَّشْدِيدِ مُبَالَغَةً، قَالَ الْأَخْفَشُ الْخَفِيفَةُ أَجْوَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُقَالُ: مَلَأْتَنِي رُعْبًا، وَلَا يكادون يعرفون
مَلَّأْتَنِي، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ:
فَيَمْلَأُ بَيْتَنَا أقِطًا وَسَمْنًا «١»
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
وَمِنْ مالأ عَيْنَيْهِ مِنْ شَيْءِ غَيْرِهِ إِذَا رَاحَ نَحْوَ الْجَمْرَةِ الْبِيضِ كَالدُّمَى
وَقَالَ الْآخَرُ:
لَا تَمْلَأِ الدَّلْوَ وَعَرْقٌ فِيهَا
وَقَالَ الْآخَرُ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي
وَقَدْ جَاءَ التَّثْقِيلُ أَيْضًا، وَأَنْشَدُوا لِلْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ:
وَإِذَا قَتَلَ النُّعْمَانُ بِالنَّاسِ مُحْرِمًا فَمُلِّأَ مِنْ عَوْفِ بْنِ كَعْبٍ سَلَاسِلُهُ
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ رُعْبًا بِضَمِّ الْعَيْنِ فِي جميع القرآن والباقون بالإسكان.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
اعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَكَمَا زِدْنَاهُمْ هُدًى، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ وَأَنَمْنَاهُمْ وَأَبْقَيْنَاهُمْ أَحْيَاءً لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَنُقَلِّبُهُمْ فَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ أَيْ أَحْيَيْنَاهُمْ مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تَنَازُعٍ وَاخْتِلَافٍ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ بَعْثِهِمْ أَنْ يَتَسَاءَلُوا وَيَتَنَازَعُوا؟ قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَسَاءَلُوا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَأَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ، وَذَلِكَ الِانْكِشَافُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: / قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أَيْ كَمْ مِقْدَارُ لُبْثِنَا فِي هَذَا الْكَهْفِ: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ غُدْوَةً وَبَعَثَهُمُ اللَّهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا فَلَمَّا رَأَوُا الشَّمْسَ بَاقِيَةً قَالُوا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ رَئِيسُهُمْ يَمْلِيخَا رَدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى أَشْعَارِهِمْ وَأَظْفَارِهِمْ وَبَشَرَةِ وُجُوهِهِمْ رَأَى فِيهَا آثَارَ التَّغَيُّرِ الشَّدِيدِ فَعَلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي الْأَيَّامِ الطَّوِيلَةِ. ثُمَّ قَالَ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِوَرْقِكُمْ سَاكِنَةَ الرَّاءِ مَفْتُوحَةَ الواو ومنهم من قرأ [ها] مَكْسُورَةَ الْوَاوِ سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِوَرِقِكُمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ وعن ابن
(١) هذا صدر بيت من أبيات لامرئ القيس منها:
مُحَيْصِنٍ أَنَّهُ كَسَرَ الْوَاوَ وَأَسْكَنَ الرَّاءَ وَأَدْغَمَ الْقَافَ فِي الْكَافِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى هَذِهِ، وَالْوَرِقُ اسْمٌ لِلْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْرُوبَةً أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَرْفَجَةَ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، وَفِيهِ لُغَاتٌ وَرِقٌّ وَوَرْقٌ وَوِرْقٌ مِثْلَ كَبِدٍ وَكَبْدٍ وَكِبْدٍ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَكَسْرُ الْوَاوِ أَرْدَؤُهَا. وَيُقَالُ أَيْضًا لِلْوَرِقِ الرِّقَّةُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَصْلُهُ وَرِقٌ مِثْلَ صِلَةٍ وَعِدَةٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَتْ مَعَهُمْ دَرَاهِمُ عَلَيْهَا صُورَةُ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِمْ يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْيَوْمَ طَرَسُوسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فِي إِمْسَاكِ الزَّادِ أَمْرٌ مُهِمٌّ مَشْرُوعٌ وَأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ التَّوَكُّلَ وَقَوْلُهُ: فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا حَلَّ مِنَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ بَلَدِهِمْ كَانُوا مَجُوسًا وَفِيهِمْ قَوْمٌ يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مَلِكُهُمْ ظَالِمًا فَقَوْلُهُمْ: أَزْكى طَعاماً يُرِيدُونَ أَيُّهَا أَبْعَدُ عَنِ الغضب، وَقِيلَ أَيُّهَا أَطْيَبُ وَأَلَذُّ، وَقِيلَ أَيُّهَا أَرْخَصُ، قال الزجاج: قوله: أَيُّها رفع بالابتداء، وأَزْكى خبره وطَعاماً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقَوْلُهُ: وَلْيَتَلَطَّفْ أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي سِرٍّ وَكِتْمَانٍ يَعْنِي دُخُولَ الْمَدِينَةِ وَشِرَاءَ الطَّعَامِ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أَيْ لَا يُخْبِرَنَّ بِمَكَانِكُمْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أَيْ يَطَّلِعُوا وَيُشْرِفُوا عَلَى مَكَانِكُمْ أَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا عَلَوْتُهُ وَظَهَرْتُ عَلَى السَّطْحِ إِذَا صِرْتَ فَوْقَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: ١٤] أَيْ عَالِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: ٣٣] أَيْ لِيُعْلِيَهُ وَقَوْلُهُ: يَرْجُمُوكُمْ يَقْتُلُوكُمْ، وَالرَّجْمُ بِمَعْنَى الْقَتْلِ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [هُودٍ: ٩١] وَقَوْلِهِ: أَنْ تَرْجُمُونِ [الدُّخَانِ: ٢٠] وَأَصْلُهُ الرَّمْيُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ يَقْتُلُوكُمْ بِالرَّجْمِ، وَالرَّجْمُ أَخْبَثُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ: أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَيْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى دِينِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أَيْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى دِينِهِمْ لَنْ تَسْعَدُوا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: إِذاً أَبَداً يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِ أَيْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِنْ رَجَعْتُمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ أَبَدًا، قَالَ الْقَاضِي:
مَا عَلَى الْمُؤْمِنِ الْفَارِّ بِدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَيْنِ فَأَحَدُهُمَا فِيهِ هَلَاكُ النَّفْسِ وَهُوَ الرَّجْمُ الَّذِي هُوَ أَخْبَثُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَالْآخَرُ هَلَاكُ الدِّينِ بِأَنْ يُرَدُّوا إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُمْ لَوْ أُكْرِهُوا عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى إِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مَضَرَّةٌ فَكَيْفَ قَالُوا: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً/ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَوْ رَدُّوا هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ بَقُوا مُظْهِرِينَ لِذَلِكَ الْكُفْرِ مُدَّةً فَإِنَّهُ يَمِيلُ قَلْبُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ وَيَصِيرُونَ كَافِرِينَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فَكَانَ خَوْفُهُمْ منه، والله أعلم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى كَمَا زِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَنَمْنَاهُمْ وَقَلَّبْنَاهُمْ وَبَعَثْنَاهُمْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ
446
الظَّاهِرَةِ، فَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أَيْ أَطْلَعْنَا غَيْرَهُمْ عَلَى أَحْوَالِهِمْ يُقَالُ عَثَرْتُ عَلَى كَذَا أَيْ عَلِمْتُهُ وَقَالُوا: إِنَّ أَصْلَ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَعَثَرَ بِهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَعَرَفَهُ، فَكَانَ الْعِثَارُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَالتَّبَيُّنِ فَأُطْلِقَ اسْمُ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَرَفَ النَّاسُ وَاقِعَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ طُولًا مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ وَظَهَرَتْ فِي بَشَرَةِ وُجُوهِهِمْ آثَارٌ عَجِيبَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّتَهُمْ قَدْ طَالَتْ طُولًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمَّا دَخَلَ إِلَى السُّوقِ لِيَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ لِثَمَنِ الطَّعَامِ قَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ: هَذِهِ النُّقُودُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَإِنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَدَهْرٍ دَاهِرٍ فَلَعَلَّكَ وَجَدْتَ كَنْزًا، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَحَمَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَى مَلِكِ الْبَلَدِ فَقَالَ الْمَلِكُ مِنْ أَيْنَ وَجَدْتَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ؟ فَقَالَ: بِعْتُ بِهَا أَمْسِ شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ، وَخَرَجْنَا فِرَارًا مِنَ/ الْمَلِكِ دِقْيَانُوسَ فَعَرَفَ ذَلِكَ الْمَلِكُ أَنَّهُ مَا وَجَدَ كَنْزًا وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يَعْنِي أَنَّا إِنَّمَا أَطْلَعْنَا الْقَوْمَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ لِيَعْلَمَ الْقَوْمُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ رُوِيَ أَنَّ مَلِكَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَعَ كُفْرِهِ مُنْصِفًا فَجَعَلَ اللَّهُ أَمْرَ الْفِتْيَةِ دَلِيلًا لِلْمَلِكِ، وَقِيلَ بَلِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَسَدُ وَالرُّوحُ يُبْعَثَانِ جَمِيعًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الرُّوحُ تُبْعَثُ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الْأَرْضُ.
ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ كَانَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ آيَةً يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَمْرِ أَصْحَابِ أَهْلِ الْكَهْفِ. فَاسْتَدَلَّ ذَلِكَ الْمَلِكُ بِوَاقِعَتِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ لِلْأَجْسَادِ، لِأَنَّ انْتِبَاهَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ النَّوْمِ الطَّوِيلِ يُشْبِهُ مَنْ يَمُوتُ ثُمَّ يُبْعَثُ فَقَوْلُهُ: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْثَرْنَا أَيْ أَعْثَرْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ حِينَ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذَا التَّنَازُعِ فَقِيلَ كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِي صِحَّةِ الْبَعْثِ، فَالْقَائِلُونَ بِهِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَالُوا كَمَا قَدِرَ اللَّهُ عَلَى حِفْظِ أَجْسَادِهِمْ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ فَكَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى حَشْرِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلِكَ وَقَوْمَهُ لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَوَقَفُوا عَلَى أَحْوَالِهِمْ عَادَ الْقَوْمُ إِلَى كَهْفِهِمْ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ فَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، فَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُمْ نِيَامٌ كَالْكَرَّةِ الْأُولَى وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْآنَ مَاتُوا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يُسَدَّ بَابُ الْكَهْفِ لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَا يَقِفَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِنْسَانٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُبْنَى عَلَى بَابِ الْكَهْفِ مَسْجِدٌ وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا عَارِفِينَ بِاللَّهِ مُعْتَرِفِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِنَا فَنَتَّخِذُ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا، وَالْمُسْلِمُونَ قَالُوا كَانُوا عَلَى دِينِنَا فَنَتَّخِذُ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي قَدْرِ مُكْثِهِمْ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا فِي عَدَدِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَنَازِعِينَ كَأَنَّهُمْ لَمَّا تَذَاكَرُوا أَمْرَهُمْ وَتَنَاقَلُوا الْكَلَامَ فِي أَسْمَائِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمُدَّةِ لُبْثِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ قَالُوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ رَدًّا لِلْخَائِضِينَ فِي حَدِيثِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَنَازِعِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَلِكُ الْمُسْلِمُ، وَقِيلَ: أَوْلِيَاءُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقِيلَ: رُؤَسَاءُ الْبَلَدِ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً نَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ وَنَسْتَبْقِي آثَارَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
سَيَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَنَازِعِينَ. رُوِيَ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ وَأَصْحَابَهُمَا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَرَى ذِكْرُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقَالَ السَّيِّدُ وَكَانَ يَعْقُوبِيًّا كَانُوا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَقَالَ الْعَاقِبُ وَكَانَ نُسْطُورِيًّا كَانُوا خَمْسَةً سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْأَخِيرُ هو
447
الْحَقُّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَثامِنُهُمْ هِيَ الْوَاوُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْوَاقِعَةِ حَالًا عَنِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ/ جَاءَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ آخَرُ، وَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحِجْرِ: ٤] وَفَائِدَتُهَا تَوْكِيدُ ثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهَا أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَاوُ دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلًا مُتَقَرِّرًا مُتَحَقِّقًا عَنْ ثَبَاتٍ وَعِلْمٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا:
إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِهَذَا الْحَرْفِ الزَّائِدِ وَهُوَ الْوَاوُ فَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ بِهِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ صَوْنًا لِلَّفْظِ عَنِ التَّعْطِيلِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ الزَّائِدَةَ قَالَ الْمُرَادُ مِنْهَا تَخْصِيصُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْإِثْبَاتِ وَالتَّصْحِيحِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: رَجْماً بِالْغَيْبِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالظَّنِّ الْبَاطِلِ هُوَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ مُخَالِفًا لَهُمَا فِي كَوْنِهِمَا رَجْمًا بِالظَّنِّ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قَالَ بَعْدَهُ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَإِتْبَاعُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِكَوْنِهِمَا رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَإِتْبَاعُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُمْتَازٌ عَنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ بِمَزِيدِ الْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ. وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ بِعِدَّتِهِمْ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلًا فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ.
كَانَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: كَانُوا سَبْعَةً وَأَسْمَاؤُهُمْ هَذَا: يَمْلِيخَا، مَكْسَلْمِينَا، مسلثينا وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ كَانُوا أَصْحَابَ يَمِينِ الْمَلِكِ، وكان عن يساره: مرنوس، ودبرنوس، وَسادنوسُ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَسْتَشِيرُ هَؤُلَاءِ السِّتَّةَ فِي مُهِمَّاتِهِ، وَالسَّابِعُ هُوَ الرَّاعِي الَّذِي وَافَقَهُمْ لَمَّا هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ وَاسْمُ كَلْبِهِمْ قِطْمِيرٌ،
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: أَنَا مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى الْأَقْوَالَ فَقَدْ حَكَى كُلَّ مَا قِيلَ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا هُوَ الْحَقُّ. فَثَبَتَ أَنَّ جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ الْحَقَّةِ وَالْبَاطِلَةِ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، ثُمَّ خَصَّ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّهُمَا رَجْمٌ بِالْغَيْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ هُوَ هَذَا الثَّالِثَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ، فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَاظَرَةِ مَعَهُمْ وَعَنِ اسْتِفْتَائِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ عَلَّمَهُ حُكْمَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَيَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ وَلَا يَحْصُلَ لِلنَّبِيِّ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ حَصَلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْعِلْمُ إِلَّا بِهَذَا الْوَحْيِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا سِوَاهُ الْعَدَمُ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَانَ الْحَقُّ هُوَ قَوْلَهُ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَضْعَفَ/ مِنْ بَعْضٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَقَوَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَصَلَ فِيهِ كَمَالٌ وَتَمَامٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ سَيَقُولُونَ هُمْ ثَلَاثَةٌ فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
448
الْبَحْثُ الثَّانِي: خُصَّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سَيَقُولُونَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُوجِبُ دُخُولَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الرَّجْمُ هُوَ الرَّمْيُ، وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ الْإِنْسَانِ فَقَوْلُهُ: رَجْماً بِالْغَيْبِ مَعْنَاهُ أَنْ يَرَى مَا غَابَ عَنْهُ وَلَا يَعْرِفُهُ بِالْحَقِيقَةِ، يُقَالُ فُلَانٌ يَرْمِي بِالْكَلَامِ رَمْيًا، أَيْ يَتَكَلَّمُ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وُجُوهًا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ السَّبْعَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَصْلٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَدَدِ قَالَ تَعَالَى:
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التَّوْبَةِ: ٨٠] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى الثَّمَانِيَةِ ذَكَرُوا لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَقَالُوا وَثَمَانِيَةٌ، فَجَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التَّوْبَةِ: ١١٢] لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدَدُ الثَّامِنُ من الأعداد المتقدمة وقوله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزُّمَرِ: ٧٣] لِأَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، وَأَبْوَابُ النَّارِ سَبْعَةٌ، وَقَوْلُهُ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيمِ: ٥] هُوَ الْعَدَدُ الثَّامِنُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالنَّاسُ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ الْقَفَّالُ:
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الْحَشْرِ: ٢٣] وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ فِي النَّعْتِ الثَّامِنِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَفَاصِيلِ كَائِنَاتِ الْعَالَمِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا عِنْدَ مَنْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ، قَالَ الْقَاضِي: إن كان قد عرفه بيان الرَّسُولِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ فِيهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ فَضَعِيفٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:
الْوُجُوهُ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفِيدُ الْجَزْمَ إِلَّا أَنَّهَا تُفِيدُ الظَّنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَتْبَعَهُ بِأَنْ نَهَى رَسُولَهُ عَنْ شَيْئَيْنِ، عَنِ الْمِرَاءِ وَالِاسْتِفْتَاءِ، أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْمِرَاءِ، فَقَوْلُهُ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَالْمُرَادُ مِنَ الْمِرَاءِ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يُكَذِّبَهُمْ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، بَلْ يَقُولُ: هَذَا التَّعْيِينُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وَتَرْكُ الْقَطْعِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٦] وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِفْتَاءِ فَقَوْلُهُ: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَبَ الْمَنْعُ مِنَ اسْتِفْتَائِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ:
رَجْماً بِالْغَيْبِ وُضِعَ الرَّجْمُ فِيهِ مَوْضِعَ الظَّنِّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ظَنًّا بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُوا أَنْ يَقُولُوا: رَجْمٌ بِالظَّنِّ مَكَانَ قَوْلِهِمْ ظَنٌّ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ «١»
أَيِ الْمَظْنُونِ هَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالظَّنِّ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِفْتَاءِ هَؤُلَاءِ الظَّانِّينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى بِالْمَظْنُونِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَجَوَابُ مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مرارا.
(١) البيت للنابغة الذبياني والرواية المشهورة:
إذا ما لم تكن إبل فمعزى كأن قرون جلتها العصي
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا وحسبك من غني شبع ورى
449

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]

وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلى قوله هذا رَشَداً] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُجِيبُكُمْ عَنْهَا غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
اعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ غَدًا فَرُبَّمَا جَاءَتْهُ الْوَفَاةُ قَبْلَ الْغَدِ، وَرُبَّمَا عَاقَهُ عَائِقٌ آخَرُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ غَدًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ مُحْتَمَلًا، فَلَوْ لَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ الْوُجُودُ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ عَنْهُ، وَعَنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَّا إِذَا قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ مُحْتَرِزًا عَنْ هَذَا الْمَحْذُورِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَعِدَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ وَأَحْكَامٍ جَمَّةٍ فَيَبْعُدُ قَصْرُهَا عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ نَسِيَ هَذَا الْكَلَامَ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ، وَأَنْ يُجَابَ عَنِ الثَّانِي أَنَّ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِهِ وَاحِدًا مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ شَاءَ اللَّهُ مَاذَا، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَنْ يَأْذَنَ لَكَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ تَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ إِلَّا إِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَكَ فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّبَبُ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ سَأَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ غَدًا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، وَلَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا لَوْ بَقِيَ حَيًّا أَنْ يَعُوقَهُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ شَيْءٌ مِنَ الْعَوَائِقِ، فَإِذَا كَانَ لَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَارَ كَاذِبًا فِي ذلك الوعد، والكذب منفر وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَتَّى أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَوْعُودِ لَمْ يَصِرْ كَاذِبًا فَلَمْ يَحْصُلِ التَّنْفِيرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ يُرِيدُ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لِنَفْسِهِ فَيَقَعُ مُرَادُ الْعَبْدِ وَلَا يَقَعُ مُرَادُ اللَّهِ فَتَكُونُ إِرَادَةُ الْعَبْدِ غَالِبَةً وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَغْلُوبَةً، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَكُلُّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ وَاقِعٌ فَهُوَ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَيُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبَةٌ وَإِرَادَةُ الْعَبْدِ مَغْلُوبَةٌ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِذَا قَالَ الْعَبْدُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاللَّهُ إِنَّمَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْكَذِبَ إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ غَالِبَةً عَلَى إِرَادَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْعَبْدَ قَالَ أَنَا
450
أَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ بِخِلَافِهِ فَأَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا أَفْعَلُ لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ غَالِبَةٌ عَلَى إِرَادَتِي فَعِنْدَ قِيَامِ الْمَانِعِ الْغَالِبِ لَا أَقْوَى عَلَى الْفِعْلِ، أَمَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَغْلُوبَةً فَإِنَّهَا لَا تُصْلَحُ عُذْرًا فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ لَا يَمْنَعُ الْغَالِبَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ دَافِعًا لِلْحِنْثِ فَلَا يَكُونُ دَافِعًا لِلْحِنْثِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ غَالِبَةً، فَلَمَّا حَصَلَ دَفْعُ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبَةً وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُنَا أَكَّدُوا هَذَا الْكَلَامَ فِي صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ دَيْنٌ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَدْيُونُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّ هَذَا الدَّيْنَ غَدًا، ثُمَّ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا جَاءَ الْغَدُ وَلَمْ يَقْضِ هَذَا الدَّيْنَ لَمْ يَحْنَثْ وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْهُ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلِيقٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى شَرْطٍ وَاقِعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ، وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَاءَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَزَجَرَ عَنِ الْإِخْلَالِ بِهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ وَقَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدُهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا السَّبَبُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ/ الطَّلَاقِ وَلَا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا أَوَّلًا حُصُولَ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ لَكِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْبٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِحُصُولِهَا إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْمَشِيئَةِ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا نَعْرِفُ حُصُولَ الْمَشِيئَةِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَلَا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ الْمَشِيئَةِ فَيَتَوَقَّفُ العلم بكل واحد منها على العلم بالآخر، وَهُوَ دَوْرٌ وَالدَّوْرُ بَاطِلٌ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا الطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قَالُوا: الشَّيْءُ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ غَدًا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَالِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ غَدًا فَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ الْمَعْدُومِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ مُسَمًّى بِكَوْنِهِ شَيْئًا وَعِنْدَنَا أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ الَّذِي سَيَصِيرُ شَيْئًا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَيْئًا فِي الْحَالِ كَمَا أَنَّهُ قَالَ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْلِ: ١] وَالْمُرَادُ سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلْيَذْكُرْهُ إِذَا تَذَكَّرَهُ وَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَوْ لَمْ يَحْصُلِ التَّذَكُّرُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَفَى فِي دَفْعِ الْحِنْثِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ يَوْمٍ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَجْلِسِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ يَسْتَثْنِي عَلَى مِقْدَارِ حَلْبِ النَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَلْ هُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ هَذَا الذِّكْرُ فِي أَيِّ وَقْتٍ حَصَلَ هَذَا التَّذَكُّرُ وَكُلُّ مَنْ قَالَ وَجَبَ هَذَا الذِّكْرُ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ الْحِنْثِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِدْلَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا إِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا
451
يَسْتَقِرَّ شَيْءٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَالْأَيْمَانِ، يُحْكَى أَنَّهُ بَلَغَ الْمَنْصُورَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ فَاسْتَحْضَرَهُ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ تَأْخُذُ الْبَيْعَةَ بِالْأَيْمَانِ أَتَفْرِضُ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ عِنْدِكَ فَيَسْتَثْنُوا فَيَخْرُجُوا عَلَيْكَ؟ فَاسْتَحْسَنَ الْمَنْصُورُ كَلَامَهُ وَرَضِيَ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ بِلِسَانِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ وَدَافِعٌ لِلْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ حَاصِلٌ فِيهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَحْتَجُّوا فِي وُجُوبِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ. قَالَ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الْمَائِدَةِ: ١] وَقَالَ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الْإِسْرَاءِ: ٣٤] فَالْآتِي بِالْعَهْدِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ/ خَالَفْنَا هَذَا الدَّلِيلَ فِيمَا إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ وَحْدَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى نصف اللفظ «١» الْوَاحِدَةِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُفِيدَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَعِنْدَ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا فَإِنَّهُ حَصَلَ الِالْتِزَامُ التَّامُّ بِالْكَلَامِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمُلْتَزَمِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ.
أَحَدُهَا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذَا نَسِيتَ كَلِمَةَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَثَانِيهَا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا اعْتَرَاكَ النِّسْيَانُ لِيُذَكِّرَكَ الْمَنْسِيَّ. وَثَالِثُهَا: حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ بِعِيدٌ لِأَنَّ تَعَلُّقَ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ يُفِيدُ إِتْمَامَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَجَعْلُهُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يوجب صيرورة الكلاء مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ثُمَّ قَالَ تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الأول: أن ترك قوله: أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ وَذِكْرُهُ أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِهِ وَقَوْلُهُ: لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. الثَّانِي: إِذَا وَعَدَهُمْ بِشَيْءٍ وَقَالَ مَعَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَقُولُ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِشَيْءٍ أَحْسَنَ وَأَكْمَلَ مِمَّا وَعَدْتُكُمْ بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ:
لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً إِشَارَةٌ إِلَى نَبَأِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَمَعْنَاهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُؤْتِينِي مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ أَنِّي نَبِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صَادِقُ الْقَوْلِ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الدَّلَالَةِ وَأَقْرَبُ رَشَدًا مِنْ نَبَأِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَيْثُ آتَاهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ [المسألة الأولى] وَفِي قَوْلِهِ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ الْقَوْمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَكَذَا إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ أَيْ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ قَالُوا ذَلِكَ وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وَهَذَا يُشْبِهُ الرَّدَّ عَلَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَيُؤَكِّدُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالُوا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كَمِّيَّةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فَهُوَ كَلَامٌ قَدْ تَقَدَّمَ وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقوله:
(١). هكذا في الأصل: اللفظ الواحدة، والصواب أن يقال الفظ الواحد، أو اللفظة الواحدة.
452
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يُوجِبُ أَنَّ مَا قَبْلَهُ حِكَايَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَارْجِعُوا إِلَى خَبَرِ اللَّهِ دُونَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثَلَاثَمِائَةِ سِنِينَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَالْبَاقُونَ بِالتَّنْوِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
سِنِينَ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: ثَلاثَ مِائَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا أَيَّامٌ أَمْ شُهُورٌ أَمْ سُنُونَ فَلَمَّا قَالَ سِنِينَ صَارَ هَذَا بَيَانًا لِقَوْلِهِ: ثَلاثَ مِائَةٍ فَكَانَ هَذَا عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ وَقِيلَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْ لبثوا سنين ثلاثمائة. وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ في الإضافة ثلاثمائة سَنَةٍ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ وَضْعُ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْوَاحِدِ فِي التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا [الْكَهْفِ: ١٠٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَازْدَادُوا تِسْعاً الْمَعْنَى وَازْدَادُوا تِسْعَ سِنِينَ فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَقُلْ ثلاثمائة وَتِسْعَ سِنِينَ؟ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَازْدَادُوا تِسْعاً؟ قلنا: قال بعضهم: كانت المدة ثلاثمائة سنة من السنين الشمسية وثلاثمائة وَتِسْعَ سِنِينَ مِنَ الْقَمَرِيَّةِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالْحِسَابِ هَذَا الْقَوْلُ، وَيُمْكِنْ أَنْ يقال: لعلهم لما استكملوا ثلاثمائة سَنَةٍ قَرُبَ أَمْرُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ اتَّفَقَ مَا أَوْجَبَ بَقَاءَهُمْ فِي النَّوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ تِسْعَ سِنِينَ ثُمَّ قَالَ:
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهَا «١»، وَإِنَّمَا كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ لأنه موجد للسموات وَالْأَرْضِ وَمُدَبِّرٌ لِلْعَالَمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عالما بغيب السموات وَالْأَرْضِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ وَهَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ فِي التَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعُهُ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ التَّعَجُّبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٥] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَا لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى حِفْظَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّوْمِ الطَّوِيلِ. الثَّانِي: لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَلِيٌّ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ وَيُقِيمُ لَهُمْ تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ فَإِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى تَدْبِيرِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَ الْقَوْمِ لَمَّا ذَكَرُوا فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَالًا عَلَى خِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يَمْنَعُ اللَّهَ مِنْ إِنْزَالِ الْعِقَابِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ أَنَّ لُبْثَهُمْ هُوَ هَذَا الْمِقْدَارُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا بِخِلَافِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاثْنَيْنِ إِذَا كَانَا لِشَرِيكَيْنِ فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ يَكْثُرُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ إِمْضَاءِ الْأَمْرِ عَلَى وَفْقِ مَا يُرِيدُهُ. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلَا تُشْرِكْ بِالتَّاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ وَالْخِطَابِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَالْمَعْنَى وَلَا تَسْأَلْ أَحَدًا عَمَّا أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عِدَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَاقْتَصِرْ عَلَى حُكْمِهِ وَبَيَانِهِ وَلَا تُشْرِكْ أَحَدًا فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي زَمَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَفِي مَكَانِهِمْ، أَمَّا الزَّمَانُ الَّذِي حَصَلُوا فِيهِ، فَقِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ مُوسَى ذَكَرَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ الْيَهُودَ سألوا عنهم،
(١) في الأصل من الناس الذين اختلفوا فيه.
453
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَأَخْبَرَ الْمَسِيحُ بِخَبَرِهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ دَخَلُوا الْكَهْفَ بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَحَكَى الْقَفَّالُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا وَلَا يَمُوتُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا مَكَانُ هَذَا الْكَهْفِ، فَحَكَى الْقَفَّالُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْخَوَارِزْمِيِّ الْمُنَجِّمِ أَنَّ الْوَاثِقَ أَنْفَذَهُ لِيَعْرِفَ حَالَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ إِلَى الرُّومِ، قَالَ: فَوَجَّهَ مِلْكُ الرُّومِ مَعِي أَقْوَامًا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُمْ فِيهِ، قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُوَكَّلَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَزَّعَنِي مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، قَالَ:
فَدَخَلْتُ وَرَأَيْتُ الشُّعُورَ عَلَى صُدُورِهِمْ قَالَ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ تَمْوِيهٌ وَاحْتِيَالٌ وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَدْ عَالَجُوا تِلْكَ الْجُثَثَ بِالْأَدْوِيَةِ الْمُجَفِّفَةِ لِأَبْدَانِ الْمَوْتَى لِتَصُونَهَا عَنِ الْبِلَى مِثْلَ التَّلْطِيخِ بِالصَّبْرِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: وَالَّذِي عِنْدَنَا لَا يُعْرَفُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ مَوْضِعُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَوْ مَوْضِعٌ آخَرُ، وَالَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَبَ الْقَطْعُ بِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ أَهْلِ الرُّومِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ مَوْضِعُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ غَزَا الرُّومَ فَمَرَّ بِالْكَهْفِ فَقَالَ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ قَدْ مَنَعَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَمَ حَالَهَمْ، فَبَعَثَ أُنَاسًا فَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا فَلَمَّا دَخَلُوا الْكَهْفَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، وَأَقُولُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الزَّمَانِ وَبِذَلِكَ الْمَكَانِ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مَجَالٌ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ نَصٍّ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ عَلَى أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ ثَبَتَ القول بإمكان البعث والقيامة، فكذلك ها هنا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ قَادِرٌ عَلَى الْكُلِّ، وَثَبَتَ أَنَّ بَقَاءَ الْإِنْسَانِ حَيًّا فِي النَّوْمِ مُدَّةَ يَوْمٍ مُمْكِنٌ فَكَذَلِكَ بَقَاؤُهُ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا بِمَعْنَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ يَحْفَظُهُ وَيَصُونُهُ عَنِ الْآفَةِ. وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَيْضًا: لَا يَبْعُدُ وُقُوعُ أَشْكَالٍ فَلَكِيَّةٍ غَرِيبَةٍ تُوجِبُ فِي هَيُولِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ حُصُولَ أَحْوَالٍ غَرِيبَةٍ نَادِرَةٍ، وَأَقُولُ: هَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَعَاقِبَةُ اشْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى حُصُولِ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ نَادِرَةٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَسُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْإِسْرَاءِ بِجَسَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، وَهَذِهِ السُّورَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى بَقَاءِ الْقَوْمِ فِي النَّوْمِ مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَزْيَدَ وَهُوَ أَيْضًا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، وَسُورَةُ مَرْيَمَ اشْتَمَلَتْ عَلَى حُدُوثِ الْوَلَدِ لَا مِنَ الْأَبِ وَهُوَ أَيْضًا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ. / وَالْمُعْتَمَدُ فِي بَيَانِ إِمْكَانِ كُلِّ هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَوَالِيَةِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ أَنَّ أبا علي بن سِينَا ذَكَرَ فِي بَابِ الزَّمَانِ مِنْ كِتَابِ الشِّفَاءِ أَنَّ أَرِسْطَاطَالِيسَ الْحَكِيمَ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَضَ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُتَأَلِّهِينَ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِحَالَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَدُلُّ التَّارِيخُ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٧]
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧)
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكَابِرَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ احْتَجُّوا وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ فَاطْرُدْ مِنْ عِنْدِكَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ وَاللَّهُ تعالى
نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَنَعَهُ عَنْهُ وَأَطْنَبَ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي بَيَانِ أَنَّ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ وَالْتَمَسُوهُ مَطْلُوبٌ فَاسِدٌ وَاقْتِرَاحٌ بَاطِلٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى تِلَاوَةِ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَعَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى اقْتِرَاحِ الْمُقْتَرِحِينَ وَتَعَنُّتِ الْمُتَعَنِّتِينَ فَقَالَ: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ: إِنَّ قَوْلَهُ: اتْلُ يَتَنَاوَلُ الْقِرَاءَةَ وَيَتَنَاوَلُ الِاتِّبَاعَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْزَمْ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ وَالْزَمِ الْعَمَلَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ يَمْتَنِعُ تَطَرُّقُ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ إِلَيْهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ لأن قوله: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ مَعْنَاهُ الْزَمِ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْكِتَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَجِبُ أَلَّا يَتَطَرَّقَ النَّسْخُ إِلَيْهِ قُلْنَا هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ فَلَيْسَ يَبْعُدُ، وَأَيْضًا فَالنَّسْخُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ ثَابِتٌ فِي وَقْتِهِ إِلَى وَقْتِ طَرَيَانِ النَّاسِخِ فَالنَّاسِخُ كَالْغَايَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ تَبْدِيلًا. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُلْتَحَدَ هُوَ الْمَلْجَأُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ مِنْ لَحَدَ وَأَلْحَدَ إِذَا مَالَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [النَّحْلِ: ١٠٣] وَالْمُلْحِدُ الْمَائِلُ عَنِ الدِّينِ وَالْمَعْنَى وَلَنْ تَجِدَ من دونه ملجأ في البيان والرشاد.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
[في قوله تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ] اعْلَمْ أَنَّ أَكَابِرَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ فَاطْرُدْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ مِنْ عِنْدِكَ، فَإِذَا حَضَرْنَا لَمْ يَحْضُرُوا، وَتُعَيِّنُ لَهُمْ وَقْتًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ عِنْدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٥٢] الْآيَةَ فَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَرْدُهُمْ بَلْ تُجَالِسُهُمْ وَتُوَافِقُهُمْ وَتُعَظِّمُ شَأْنَهُمْ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَلَا تُقِيمُ لَهُمْ فِي نَظَرِكَ وَزْنًا سَوَاءٌ غَابُوا أَوْ حَضَرُوا. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَكَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ سَبَقَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الْأَنْعَامِ: ٥٢] فَفِي تِلْكَ الْآيَةِ نَهَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَرْدِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَهُ بِمُجَالَسَتِهِمْ وَالْمُصَابَرَةِ مَعَهُمْ فَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أَصْلُ الصَّبْرِ الْحَبْسُ وَمِنْهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَصْبُورَةِ وَهِيَ الْبَهِيمَةُ تُحْبَسُ فَتُرْمَى، أَمَّا قَوْلُهُ: مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْغُدْوَةِ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالْغَدَاةِ وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ كَوْنُهُمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْسَ لِفُلَانٍ عَمَلٌ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِلَّا شَتْمَ النَّاسِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّ الْغَدَاةَ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الْيَقَظَةِ وَهَذَا الِانْتِقَالُ شَبِيهٌ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَالْعَشِيُّ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنَ الْيَقَظَةِ إِلَى النَّوْمِ وَمِنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ وَالْإِنْسَانُ الْعَاقِلُ يَكُونُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ عَظِيمَ الشُّكْرِ لِآلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يُقَالُ عَدَاهُ إِذَا جَاوَزَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَدَا طَوْرَهُ وَجَاءَ الْقَوْمُ عَدَا زَيْدًا وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِلَفْظَةِ عَنْ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْمُبَاعَدَةَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ تِلْكَ الْمُبَاعَدَةِ وَقُرِئَ: وَلَا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ وَلَا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ مِنْ أَعْدَاهُ وَعَدَّاهُ نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر:
455
فَعَدِّ عَمَّا تَرَى إِذْ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أَنْ يَزْدَرِيَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ تَنْبُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ لِأَجْلِ رَغْبَتِهِ فِي مُجَالَسَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَحُسْنِ صُورَتِهِمْ وَقَوْلِهِ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا نُصِبَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. يَعْنِي أَنَّكَ [إِنْ] فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِقْدَامُكَ عَلَيْهِ إِلَّا لِرَغْبَتِكَ فِي زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَمَّا بَالَغَ فِي أَمْرِهِ بِمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَقْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْمُتَكَبِّرِينَ فَقَالَ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْجَهْلَ وَالْغَفْلَةَ فِي قُلُوبِ الْجُهَّالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَغْفَلْنا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ/ عَنْ ذِكْرِنا أَنَّا وَجَدْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ خَلْقَ الْغَفْلَةِ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ معديكرب الزَّبِيدِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي سُلَيْمٍ: قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجَبْنَاكُمْ، وَسَأَلْنَاكُمْ فَمَا أَبْخَلْنَاكُمْ، وَهَجَوْنَاكُمْ فَمَا أَفْحَمْنَاكُمْ، أَيْ مَا وَجَدْنَاكُمْ جُبَنَاءَ وَلَا بُخَلَاءَ وَلَا مُفْحَمِينَ. ثُمَّ نَقُولُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى خَلَقَ الْغَفْلَةَ فِي قَلْبِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ قَلْبَهُ غَافِلًا لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ:
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا فَاتَّبَعَ هَوَاهُ. لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُطَاوَعَةِ، وَهِيَ إِنَّمَا تُعْطَفُ بِالْفَاءِ لَا بِالْوَاوِ، وَيُقَالُ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ وَدَفَعْتُهُ فَانْدَفَعَ وَلَا يُقَالُ: وَانْكَسَرَ وَانْدَفَعَ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاتَّبَعَ هَواهُ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى أَغْفَلَ فِي الْحَقِيقَةِ قَلْبَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ هَوَاهُ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَغْفَلْنا أَيْ وَجَدْنَاهُ غَافِلًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْصِيلَ الْغَفْلَةِ فِيهِ. قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ وَزْنَ الْأَفْعَالِ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ وَجَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي التَّكْوِينِ مَجَازًا فِي الْوِجْدَانِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَجِيءَ بِنَاءِ الْأَفْعَالِ بِمَعْنَى التَّكْوِينِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهِ بِمَعْنَى الْوِجْدَانِ وَالْكَثْرَةُ دَلِيلُ الرُّجْحَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُبَادَرَةَ الْفَهْمِ مِنْ هَذَا الْبِنَاءِ إِلَى التَّكْوِينِ أَكْثَرُ مِنْ مُبَادَرَتِهِ إِلَى الْوِجْدَانِ وَمُبَادَرَةُ الْفَهْمِ دَلِيلُ الرُّجْحَانِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً فِي التَّكْوِينِ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مَجَازًا فِي الْوِجْدَانِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ تَابِعٌ لِحُصُولِ الْمَعْلُومِ، فَجَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَتْبُوعِ وَمَجَازًا فِي التَّبَعِ مُوَافِقٌ لِلْمَعْقُولِ، أَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً فِي الْوِجْدَانِ مَجَازًا فِي الْإِيجَادِ لَزِمَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي التَّبَعِ مَجَازًا فِي الْأَصْلِ وَأَنَّهُ عَكْسُ الْمَعْقُولِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ جَعْلُ هَذَا الْبِنَاءِ حَقِيقَةً فِي الْإِيجَادِ لَا فِي الْوِجْدَانِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ إِنَّا نُسَلِّمُ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيجَادِ وَإِلَى الْوِجْدَانِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: أَغْفَلْنا عَلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِلْغَفْلَةِ فِي نَفْسِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا حَاوَلَ إِيجَادَ الْغَفْلَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُحَاوِلَ إِيجَادَ مُطْلَقِ الْغَفْلَةِ أَوْ يُحَاوِلَ إِيجَادَ الْغَفْلَةِ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ هَذَا الشَّيْءِ أَوْلَى بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُشْتَرَكَ فِيهَا بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الْكَثِيرَةِ تَكُونُ نِسْبَتُهَا إِلَى كُلِّ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ عَلَى السَّوِيَّةِ، أَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ كَذَا عِبَارَةٌ عَنْ غَفْلَةٍ لَا تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ أَقْسَامِ الْغَفَلَاتِ إِلَّا بِكَوْنِهَا مُنْتَسِبَةً إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِعَيْنِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ عَنْ كَذَا إِلَّا إِذَا تَصَوَّرَ أَنَّ تِلْكَ الْغَفْلَةَ غَفْلَةٌ عَنْ كَذَا،
456
وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَوَّرَ كَوْنَ تِلْكَ الْغَفْلَةِ غَفْلَةً عَنْ كَذَا إِلَّا إِذَا تَصَوَّرَ كَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مَشْرُوطٌ بِتَصَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَصْدُ إِلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ عَنْ كَذَا إِلَّا مَعَ الشُّعُورِ بِكَذَا لَكِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ كَذَا ضِدُّ الشُّعُورِ بِكَذَا، فَثَبَتَ/ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إِيجَادِ الْغَفْلَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُ الْغَفَلَاتِ وَمُوجِدُهَا فِي الْعِبَادِ هُوَ اللَّهَ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ قَاطِعَةٌ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ هُوَ إِيجَادُ الْغَفْلَةِ لَا وِجْدَانُهَا، أَمَّا حَدِيثُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَقَدْ عَارَضْنَاهُ مِرَارًا وَأَطْوَارًا بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] فَالْبَحْثُ عَنْهُ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِيجَادَ الْغَفْلَةِ لَوَجَبَ ذِكْرُ الْفَاءِ، لَا ذِكْرُ الْوَاوِ، فَنَقُولُ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ خَلْقُ الْغَفْلَةِ فِي الْقَلْبِ مِنْ لَوَازِمِهِ حُصُولُ اتِّبَاعِ الْهَوَى كَمَا أَنَّ الْكَسْرَ مِنْ لَوَازِمِهِ حُصُولُ الِانْكِسَارِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ حُصُولُ مُتَابَعَةِ الْهَوَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى بَلْ يَبْقَى مُتَوَقِّفًا لَا يُنَافِي مَقَامَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْكُلِّ فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وُجُوهًا أُخْرَى.
فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا صَبًّا وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى رُسُوخِ الْغَفْلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ صَحَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى حَصَّلَ الْغَفْلَةَ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: ٦]. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَغْفَلْنا أَيْ تَرَكْنَاهُ غَافِلًا فَلَمْ نَسِمْهُ بِسِمَةِ أَهْلِ الطَّهَارَةِ وَالتَّقْوَى وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ بَعِيرٌ غُفْلٌ أَيْ لَا سِمَةَ عَلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ أَيْ خَلَّاهُ مَعَ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَمْنَعِ الشَّيْطَانَ مِنْهُ فَيُقَالُ فِي: الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ فَتْحَ بَابِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ هَلْ يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ الْغَفْلَةِ فِي قَلْبِهِ أَوْ لَا يُؤَثِّرُ، فَإِنْ أَثَّرَ كَانَ أَثَرُ إِيصَالِ اللَّذَّاتِ إِلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْغَفْلَةِ فِي قَلْبِهِ. وَذَلِكَ عَيْنُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ مَا يُوجِبُ حُصُولَ الْغَفْلَةِ فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْغَفْلَةِ بَطَلَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي: الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ سَوَّدْنَا قَلْبَهُ وَبَيَّضْنَا وَجْهَهُ وَلَا يُفِيدُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُقَالُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ إِنْ كَانَ لِتِلْكَ التَّخْلِيَةِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْغَفْلَةِ فَقَدْ صَحَّ قَوْلُنَا، وَإِلَّا بَطَلَ اسْتِنَادُ تِلْكَ الْغَفْلَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرَّ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ خَالِيًا عَنْ ذِكْرِ الْحَقِّ وَيَكُونَ مَمْلُوءًا مِنَ الْهَوَى الدَّاعِي إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ نُورٌ وَذِكْرَ غَيْرِهِ ظُلْمَةٌ لِأَنَّ الْوُجُودَ طَبِيعَةُ النُّورِ وَالْعَدَمَ مَنْبَعُ الظُّلْمَةِ، وَالْحَقَّ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَكَانَ النُّورُ الْحَقُّ هُوَ اللَّهَ، وَمَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. وَالْإِمْكَانُ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ فَكَانَ مَنْبَعَ الظُّلْمَةِ فَالْقَلْبُ إِذَا أَشْرَقَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ فَقَدْ حَصَلَ فِيهِ النُّورُ وَالضَّوْءُ وَالْإِشْرَاقُ، وَإِذَا تَوَجَّهَ الْقَلْبُ إِلَى الْخَلْقِ فَقَدْ حَصَلَ فِيهِ الظُّلْمُ وَالظُّلْمَةُ بَلِ الظُّلُمَاتُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ إِذَا أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنِ الْحَقِّ وَأَقْبَلَ عَلَى الْخَلْقِ فَهُوَ الظُّلْمَةُ الْخَالِصَةُ التَّامَّةُ، فَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْخَلْقِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبَعَ هَواهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ: فُرُطاً أَيْ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فُرُطٌ، إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا الْخَيْلَ، قَالَ اللَّيْثُ: الْفُرُطُ الْأَمْرُ الَّذِي يُفْرَطُ فِيهِ يُقَالُ كُلُّ أَمْرِ فُلَانٍ فُرُطٌ، وَأَنْشَدَ شِعْرًا:
457
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما القول عنها بالحديث المرجم
لَقَدْ كَلَّفَنِي شَطَطَا وَأَمْرًا خَائِبًا فُرُطَا
أَيْ مُضَيَّعًا، فَقَوْلُهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ لَهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ وَهُوَ أَمْرُ دِينِهِ يَكُونُ مَخْصُوصًا بِإِيقَاعِ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ صِفَةُ مَنْ لَا يَنْظُرُ لِدِينِهِ وَإِنَّمَا عَمَلُهُ لِدُنْيَاهُ. فَبَيَّنَ تَعَالَى مِنْ حَالِ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ التَّابِعِينَ لِهَوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي مُهِمَّاتِهِمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ وَالتَّحَفُّظِ بِمُهِمَّاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَقَالَ: مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَوَصَفَ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ واتَّبَعَ هَواهُ ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ بِمُجَالَسَةِ أُولَئِكَ وَالْمُبَاعَدَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ،
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتُرُ بَعْضًا مِنَ الْعُرْيِ وَقَارِئٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَاذَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ وَاحِدٌ يَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَنَحْنُ نَسْتَمِعُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ إِلَى أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» ثُمَّ جَلَسَ وَسَطَنَا وَقَالَ: «أَبْشِرُوا يَا صَعَالِيكَ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِمِقْدَارِ خمسين ألف سنة».
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ قَالُوا إِنْ طَرَدْتَ الْفُقَرَاءَ آمَنَّا بِكَ، قَالَ بَعْدَهُ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْحَقَّ إِنَّمَا أَتَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ عَادَ النَّفْعُ إِلَيْكُمْ وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهُ عَادَ الضَّرَرُ إِلَيْكُمْ وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْفَقْرِ وَالْغِنَى وَالْقُبْحِ وَالْحُسْنِ وَالْخُمُولِ وَالشُّهْرَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحَقَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْحَقُّ الَّذِي/ جَاءَنِي مِنْ عِنْدِهِ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ وَلَا أَطْرُدَهُمْ وَلَا أَلْتَفِتَ إِلَى الرُّؤَسَاءِ وَأَهْلِ الدُّنْيَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي طَرْدِ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِيمَانِ جَمْعٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ فَطَرْدُ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ لَا يُوجِبُ إِلَّا سُقُوطَ حُرْمَتِهِمْ وَهَذَا ضَرَرٌ قَلِيلٌ. أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ، قُلْنَا: أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فَمُسَلَّمٌ إِلَّا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ لِأَجْلِ الْحَذَرِ مِنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ فَإِيمَانُهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ بَلْ هُوَ نِفَاقٌ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى إِيمَانِ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَصِفَتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ. فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَحُصُولَ الْكُفْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ مَشِيئَةِ الْإِيمَانِ وَحُصُولِ مَشِيئَةِ الْكُفْرِ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ أَيْضًا
458
يَدُلُّ لَهُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ بِدُونِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ وَبِدُونِ الِاخْتِيَارِ لَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ حُصُولُ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ إِنْ كَانَ بِقَصْدٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ وَاخْتِيَارٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ مَسْبُوقًا بِقَصْدٍ آخَرَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَهُوَ مُحَالٌ. فَوَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْقُصُودِ وَتِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ إِلَى قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَصْدِ الضَّرُورِيِّ وَالِاخْتِيَارُ الضَّرُورِيُّ يُوجِبِ الْفِعْلَ، فَالْإِنْسَانُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْمُعَارِضِ لَمْ يَتَرَتَّبِ الْفِعْلُ، وَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ يَجِبُ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، فَلَا حُصُولُ الْمَشِيئَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ، وَلَا حُصُولُ الْفِعْلِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ. فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَلَقَدْ قَرَّرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ التَّوَكُّلِ مِنْ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا أَنِّي إِنْ شِئْتُ الْفِعْلَ قَدَرْتُ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ شِئْتُ التَّرْكَ قَدَرْتُ عَلَى التَّرْكِ فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ بِي لَا بِغَيْرِي. وَأَجَابَ عَنْهُ، وَقَالَ: هَبْ أَنَّكَ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَلْ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ مَشِيئَةَ الْفِعْلِ حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ لَمْ تَحْصُلْ. بَلِ الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ يَشَاءُ الْفِعْلَ لَا بِسَبْقِ مَشِيئَةٍ أُخْرَى عَلَى تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، وَإِذَا شَاءَ الْفِعْلَ وَجَبَ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُكْنَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَحُصُولُ الْمَشِيئَةِ فِي الْقَلْبِ أَمْرٌ لَازِمٌ وَتَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ أَيْضًا أَمْرٌ لَازِمٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فِيهِ فَوَائِدُ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْفَاعِلِ بِدُونِ الْقَصْدِ وَالدَّاعِي مُحَالٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا لِمَعْنَى الطَّلَبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الصِّيغَةُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَلَيْسَتْ بِتَخْيِيرٍ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَسْتَضِرُّ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، بَلْ نَفْعُ الْإِيمَانِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَضَرَرُ الْكُفْرِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧]، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْبَاطِلَ وَالْحَقَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ، وَبِذِكْرِ الْوَعْدِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. أَمَّا الْوَعِيدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يَقُولُ أَعْتَدْنَا لِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَوَضَعَ الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ موضعها والأنفة في غير محلها فعند ما اسْتَحْسَنَ بِهَوَاهُ وَأَنِفَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فُقَرَاءُ وَمَسَاكِينُ، فَهَذَا كُلُّهُ ظُلْمٌ وَوَضْعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعَدَّ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ نَارًا وَهِيَ الْجَحِيمُ، ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ بِصِفَتَيْنِ: الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ:
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَالسُّرَادِقُ هو الحجزة الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ فَأَثْبَتَ لِلنَّارِ شَيْئًا شَبِيهًا بِذَلِكَ يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا فُرْجَةَ يَتَفَرَّجُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ غَيْرِ النَّارِ بَلْ هِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّرَادِقِ الدُّخَّانُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [الْمُرْسَلَاتِ: ٣٠] وَقَالُوا: هَذِهِ الْإِحَاطَةُ بِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ فَيَغْشَاهُمْ هَذَا الدُّخَانُ وَيُحِيطُ بِهِمْ كَالسُّرَادِقِ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَذِهِ النَّارِ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ
قِيلَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِنَّهُ دَرْدِيُّ الزَّيْتِ
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ بيت المال
459
وَأَخْرَجَ نُفَاثَةً كَانَتْ فِيهِ وَأَوْقَدَ عَلَيْهَا النَّارَ حَتَّى تَلَأْلَأَتْ ثُمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْمُهْلُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ كُلُّ شَيْءٍ أَذَبْتَهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ فِضَّةٍ فَهُوَ الْمُهْلُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ، وَقِيلَ إِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَطْرَانِ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةُ لِأَنَّهُمْ إِذَا طَلَبُوا مَاءً لِلشُّرْبِ فَيُعْطَوْنَ هَذَا الْمُهْلَ قَالَ تَعَالَى: تَصْلى نَارًا حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الْغَاشِيَةِ: ٤، ٥] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْتَغِيثُوا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ فَيَطْلُبُوا مَاءً يَصُبُّونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِلتَّبْرِيدِ فَيُعْطَوْنَ هَذَا الْمَاءَ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الْأَعْرَافِ: ٥٠] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إِبْرَاهِيمَ: ٥٠] فَإِذَا اسْتَغَاثُوا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ صُبَّ عَلَيْهِمُ الْقَطْرَانُ الَّذِي يَعُمُّ كُلَّ أَبْدَانِهِمْ كَالْقَمِيصِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِهِ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ الشَّرابُ أَيْ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ كَالْمُهْلِ بِئْسَ الشَّرَابُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِشُرْبِ الشَّرَابِ تَسْكِينُ الْحَرَارَةِ وَهَذَا يَبْلُغُ فِي احْتِرَاقِ الْأَجْسَامِ مَبْلَغًا عَظِيمًا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً قَالَ قَائِلُونَ:
سَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلًا وَمُجْتَمَعًا لِلرُّفْقَةِ لِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَجْتَمِعُونَ رُفَقَاءَ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ:
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: ٦٩] وَأَمَّا رُفَقَاءُ النَّارِ فَهُمُ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ/ وَالْمَعْنَى بِئْسَ الرُّفَقَاءُ هَؤُلَاءِ وَبِئْسَ مَوْضِعُ التَّرَافُقِ النَّارُ كَمَا أَنَّهُ نِعْمَ الرُّفَقَاءُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَنِعْمَ مَوْضِعُ الرُّفَقَاءِ الْجَنَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ مُرْتَفَقًا أَيْ مُتَّكَأً، وَسُمِّيَ الْمِرْفَقُ مِرْفَقًا لِأَنَّهُ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، فَالِاتْكَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَالْمُرْتَفَقُ مَوْضِعُ الِاسْتِرَاحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْمُبْطِلِينَ أَرْدَفَهُ بِوَعْدِ الْمُحِقِّينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مُغَايِرٌ لِلْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايِرَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْمُؤْمِنُ بِحُسْنِ عَمَلِهِ عَلَى اللَّهِ أَجْرًا، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ الِاسْتِيجَابُ حَصَلَ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِذَاتِ الْفِعْلِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلشُّكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الشُّكْرُ وَالْعُبُودِيَّةُ مُوَجِبَيْنِ لِثَوَابٍ آخَرَ لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا آخَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَخْ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ
كَرَّرَ إِنَّ تَأْكِيدًا لِلْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أُولَئِكَ خَبَرُ إِنَّ وَإِنَّا لَا نُضِيعُ اعْتِرَاضٌ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ إِنَّا لا نضيع وأولئك خَبَرَيْنِ مَعًا وَلَكَ
أَنْ تَجْعَلَ أُولَئِكَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا بَيَانًا لِلْأَجْرِ الْمُبْهَمِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ الْأَجْرَ الْمُبْهَمَ أَرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: صِفَةُ مَكَانِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَالْعَدْنُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقَامَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ إِقَامَةٍ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُ إِقَامَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدْنُ اسْمًا لِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْجَنَّةِ/ وَهُوَ وَسَطُهَا وَأَشْرَفُ أَمَاكِنِهَا وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ: جَنَّاتُ لَفْظُ جَمْعٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَالَهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ نَصِيبَ كَلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ جَنَّةٌ عَلَى حِدَةٍ وَذُكِرَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ أَنَّ الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَسَاكِنِ فِي الدُّنْيَا الْبَسَاتِينُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَارُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ لِبَاسَ أَهْلِ الدُّنْيَا إِمَّا لِبَاسُ التَّحَلِّي، وَإِمَّا لِبَاسُ التَّسَتُّرِ، أَمَّا لِبَاسُ التَّحَلِّي فَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُحَلِّيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ أَوْ تُحَلِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَسْوِرَةٍ سِوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسِوَارٌ مِنْ فِضَّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَانِ: ٢١] وَسِوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الْحَجِّ: ٢٣]، وَأَمَّا لِبَاسُ التَّسَتُّرِ فَقَوْلُهُ: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ وَالْمُرَادُ مِنْ سُنْدُسِ الْآخِرَةِ وَإِسْتَبْرَقِ الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ وَهُوَ الْخَزُّ وَالثَّانِي هُوَ الدِّيبَاجُ الصَّفِيقُ وَقِيلَ أَصْلُهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَهُوَ اسْتَبْرَهْ، أَيْ غَلِيظٌ، فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْحُلِيِّ: يُحَلَّوْنَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَقَالَ فِي السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَيَلْبَسُونَ فَأَضَافَ اللُّبْسَ إِلَيْهِمْ، قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللُّبْسُ إِشَارَةً إِلَى مَا اسْتَوْجَبُوهُ بِعَمَلِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ الْحُلِيُّ إِشَارَةً إِلَى مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمِ ابْتِدَاءً مِنْ زَوَائِدِ الْكَرَمِ. وَثَالِثُهَا: كَيْفِيَّةُ جُلُوسِهِمْ فَقَالَ فِي صِفَتِهَا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ. قَالُوا: الْأَرَائِكُ جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَهِيَ سَرِيرٌ فِي حجلة، أما للسرير وَحْدَهُ فَلَا يُسَمَّى أَرِيكَةً. وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
461
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْكُفَّارَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجِبُ الِافْتِخَارَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ الْفَقِيرُ غَنِيًّا وَالْغَنِيُّ فَقِيرًا، أَمَّا الَّذِي يَجِبُ/ حُصُولُ الْمُفَاخِرَةِ بِهِ فَطَاعَةُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ حَاصِلَةٌ لِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ فَقَالَ:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَيْ مَثَلَ حَالِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِحَالِ رَجُلَيْنِ كَانَا أَخَوَيْنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ اسْمُهُ بَرَاطُوسَ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذَا وَقِيلَ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصَّافَّاتِ: ٥١] وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمَا ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ فَاشْتَرَى الْكَافِرُ أَرْضًا فَقَالَ الْمُؤْمِنُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ أَرْضًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ بَنَى أَخُوهُ دَارَا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرِي مِنْكَ دَارَا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَ أَخُوهُ امْرَأَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ اللَّهُمَّ إِنِّي جَعَلْتُ أَلْفًا صَدَاقًا لِلْحُورِ الْعِينِ ثُمَّ اشْتَرَى أَخُوهُ خَدَمًا وَضِيَاعًا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْوِلْدَانَ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ حَاجَةٌ فَجَلَسَ لِأَخِيهِ عَلَى طَرِيقِهِ فَمَرَّ بِهِ فِي حَشَمِهِ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَطَرَدَهُ وَوَبَّخَهُ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ الْجَنَّةَ بِصِفَاتٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا جَنَّةً وَسُمِّيَ الْبُسْتَانُ جَنَّةً لِاسْتِتَارِ مَا يَسْتَتِرُ فِيهَا بِظِلِّ الْأَشْجَارِ وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ، وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أَيْ وَجَعَلْنَا النَّخْلَ مُحِيطًا بِالْجَنَّتَيْنِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: ٧٥] أَيْ وَاقِفِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ مُحِيطِينَ بِهِ، وَالْحِفَافُ جَانِبُ الشَّيْءِ وَالْأَحِفَّةُ جَمْعٌ فَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ حَفَّ بِهِ الْقَوْمُ أَيْ صَارُوا فِي أَحِفَّتِهِ وَهِيَ جَوَانِبُهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُ لَحَظَاتٌ فِي حَفَافَيْ سَرِيرِهِ إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حَفُّوهُ إِذَا طَافُوا بِهِ، وَحَفَّفْتُهُ بِهِمْ أَيْ جَعَلْتُهُمْ حَافِّينَ حَوْلَهُ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَتَزِيدُهُ الْبَاءُ مَفْعُولًا ثَانِيًا كَقَوْلِهِ: غَشِيتُهُ وَغَشِيتُهُ بِهِ، قَالَ: وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِمَّا يُؤْثِرُهَا الدَّهَّاقِينُ فِي كُرُومِهِمْ وَهِيَ أَنْ يَجْعَلُوهَا مَحْفُوفَةً بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَهُوَ أَيْضًا حُسْنٌ فِي الْمَنْظَرِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَرْضُ جَامِعَةً لِلْأَقْوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَرْضُ مُتَّسِعَةَ الْأَطْرَافِ مُتَبَاعِدَةَ الْأَكْنَافِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَمْ يَتَوَسَّطْهَا مَا يَقْطَعُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَرْضِ تَأْتِي فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَنْفَعَةٍ أُخْرَى وَهِيَ ثَمَرَةٌ أُخْرَى فَكَانَتْ مَنَافِعُهَا دَارَّةً مُتَوَاصِلَةً. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً كِلَا اسْمٌ مُفْرَدٌ مَعْرِفَةٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مُذَكَّرَانِ مَعْرِفَتَانِ، وَكِلْتَا اسْمٌ مُفْرَدٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مُؤَنَّثَانِ مَعْرِفَتَانِ. وَإِذَا أُضِيفَا إِلَى الْمُظْهَرِ كَانَا بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ كَقَوْلِكَ جَاءَنِي كِلَا أَخَوَيْكَ، وَرَأَيْتُ كِلَا أَخَوَيْكَ، وَمَرَرْتُ بِكِلَا أَخَوَيْكَ. وَجَاءَنِي كِلْتَا أُخْتَيْكَ، وَرَأَيْتُ كِلْتَا أُخْتَيْكَ، وَمَرَرْتُ بِكِلْتَا أُخْتَيْكَ، وَإِذَا أُضِيفَا إِلَى الْمُضْمَرِ كَانَا فِي الرَّفْعِ بِالْأَلِفِ، وَفِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِالْيَاءِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ مَعَ الْمُضْمَرِ بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: آتَتْ أُكُلَها حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ كِلْتَا لَفْظُهُ لَفْظُ مُفْرَدٍ وَلَوْ قِيلَ آتَتَا عَلَى الْمَعْنَى لَجَازَ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَظْلِمْ/ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ لَمْ تَنْقُصْ وَالظُّلْمُ النُّقْصَانُ، يَقُولُ الرَّجُلُ: ظَلَمَنِي حَقِّي
462
أَيْ نَقَصَنِي. الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أَيْ كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْجَنَّتَيْنِ. وَفِي قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَفَجَرْنَا مُخَفَّفَةً وَفِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ وَفَجَّرْنَا مُشَدَّدَةً وَالتَّخْفِيفُ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ نَهْرٌ وَاحِدٌ وَالتَّشْدِيدُ عَلَى المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار وخِلالَهُما أَيْ وَسَطَهُمَا وَبَيْنَهُمَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٧]. وَمِنْهُ يُقَالُ خَلَّلْتُ الْقَوْمَ أَيْ دَخَلْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ. الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قَرَأَ عَاصِمٌ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ ثِمَارٍ أَوْ ثَمَرَةٍ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ فِي الْحَرْفَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ فِي الْحَرْفَيْنِ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَنَّهُ بِالضَّمِّ أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَبِالْفَتْحِ حَمْلُ الشَّجَرِ قَالَ قُطْرُبٌ: كَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يَقُولُ: الثُّمْرُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ، وَأَنْشَدَ لِلْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا قَدْ أَثْمَرُوا مَالًا وَوَلَدًا
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
مَهْلًا فِدَاءٌ لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ مَا أَثْمَرُوهُ أَمِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
وَقَوْلُهُ: وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أَيْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَالِ مِنْ ثَمَرَ مَالُهُ إِذَا كَثُرَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ: أَيْ كَانَ مَعَ الْجَنَّتَيْنِ أَشْيَاءُ مِنَ النُّقُودِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ بَعْدَهُ: فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْلِمَ كَانَ يُحَاوِرُهُ بِالْوَعْظِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَالْمُحَاوَرَةُ مُرَاجَعَةُ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَارَ إِذَا رَجَعَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلى [الِانْشِقَاقِ: ١٤، ١٥]، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ قَالَ الْكَافِرُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَالنَّفَرُ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِالذَّبِّ عَنْهُ وَيَنْفِرُونَ مَعَهُ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْكَافِرَ تَرَفَّعَ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ كَثْرَةَ مَالِهِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَالَ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَأَرَاهُ إِيَّاهَا عَلَى الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ وَأَخْبَرَهُ بِصُنُوفِ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَ الْجَنَّةَ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ جَنَّةٌ وَلَا نَصِيبٌ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ وَهَذَا الَّذِي مَلَكَهُ فِي الدُّنْيَا هُوَ جَنَّتُهُ لَا غَيْرَ وَلَمْ يَقْصِدِ الْجَنَّتَيْنِ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا اعْتَزَّ بِتِلْكَ النِّعَمِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الْكُفْرَانِ وَالْجُحُودِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ كَانَ وَاضِعًا تِلْكَ النِّعَمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً فَجَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ، فَالْأَوَّلُ قَطَعَهُ بِأَنَّ تِلْكَ الأشياء لا تهلك ولا تبيد هذه أَبَدًا مَعَ أَنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ مُتَبَدِّلَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ شَكَّ فِي الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ قَالَ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا مَعَ أَنَّ الْحَدْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا ذَاهِبَةٌ بَاطِلَةٌ غَيْرُ بَاقِيَةٍ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَبِيدُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَوُجُودِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أَيْ مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى وَقَوْلُهُ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا/ وَوَلَداً [مَرْيَمَ: ٧٧] وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ الْمَالَ فِي الدُّنْيَا ظَنَّ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بَاقٍ بَعْدِ الْمَوْتِ فَوَجَبَ حُصُولُ الْعَطَاءِ.
وَالْمُقْدِمَةُ الْأُولَى كَاذِبَةٌ فَإِنَّ فَتْحَ بَابِ الدُّنْيَا عَلَى الْإِنْسَانِ يَكُونُ في أكثر الأمر للاستدراج وَالتَّمْلِيَةِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ
463
كَثِيرٍ خَيْرًا مِنْهُمَا، وَالْمَقْصُودُ عَوْدُ الْكِنَايَةِ إِلَى الْجَنَّتَيْنِ، وَالْبَاقُونَ مِنْهَا، وَالْمَقْصُودُ عَوْدُ الْكِنَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي دَخَلَهَا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى جَوَابَ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ الْأَوَّلَ قَالَ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَهَذَا الثَّانِي كَفَّرَهُ حَيْثُ قَالَ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّاكَّ فِي حُصُولِ الْبَعْثِ كَافِرٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: يَرْجِعُ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِعَادَةِ فَقَوْلُهُ: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا إِشَارَةٌ إِلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي الِابْتِدَاءِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَكَ هَكَذَا فَلَمْ يَخْلُقْكَ عَبَثًا، وَإِنَّمَا خَلَقَكَ لِلْعُبُودِيَّةِ وَإِذَا خَلَقَكَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُطِيعِ ثَوَابٌ وَلِلْمُذْنِبِ عِقَابٌ وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ يس، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أَيْ هَيَّأَكَ هَيْئَةً تَعْقِلُ وَتَصْلُحُ لِلتَّكْلِيفِ فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ إِهْمَالُهُ أَمْرَكَ ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَكُنَّا أَصْلُهُ لَكِنْ أَنَا فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى نُونِ لَكِنْ فَاجْتَمَعَتِ النُّونَانِ فَأُدْغِمَتْ نُونُ لَكِنْ فِي النُّونِ الَّتِي بَعْدَهَا وَمِثْلُهُ:
وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إِيَّاكَ لَا أَقْلِي
أَيْ لَكِنْ أَنَا لَا أَقْلِيكِ وهُوَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ رَبِّي ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَقَوْلُهُ: اللَّهُ رَبِّي جُمْلَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَاقِعَةٌ فِي مَعْرِضِ الْخَبَرِ لِقَوْلِهِ: هُوَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: لكِنَّا اسْتِدْرَاكٌ لِمَاذَا؟ قُلْنَا لِقَوْلِهِ: أَكَفَرْتَ كَأَنَّهُ قَالَ لِأَخِيهِ: أَكَفَرْتَ بِاللَّهِ لَكِنِّي مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ كَمَا تَقُولُ زَيْدٌ غَائِبٌ لَكِنْ عَمْرٌو حَاضِرٌ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي فِي الْوَصْلِ بِالْأَلِفِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ: لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: إِنِّي لَا أَرَى الْفَقْرَ وَالْغِنَى إِلَّا مِنْهُ فَأَحْمَدُهُ إِذَا أَعْطَى وَأَصْبِرُ إِذَا ابْتَلَى ولا أتكبر عند ما يُنْعِمُ عَلَيَّ وَلَا أَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْأَعْوَانِ مِنْ نَفْسِي وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا اعْتَزَّ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ فَكَأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي إِعْطَاءِ الْعِزِّ وَالْغِنَى. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَ كَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ كَانَ عَابِدَ صَنَمٍ فَبَيَّنَ هَذَا الْمُؤْمِنُ فَسَادَ قَوْلِهِ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ لَمَّا عَجَّزَ اللَّهَ عَنِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ فَقَدْ جَعَلَهُ مُسَاوِيًا لِلْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَجْزِ وَإِذَا أَثْبَتَ الْمُسَاوَاةَ فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرِيكَ ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ/ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: مَا شاءَ اللَّهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ (مَا) شَرْطِيَّةً وَيَكُونَ الْجَزَاءُ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ أَيُّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً مَرْفُوعَةَ الْمَحَلِّ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَقَعَ وَكُلَّ مَا لَمْ يُرِدْهُ لَمْ يَقَعْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ اللَّهُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِمْ: مَا شَاءَ مِمَّا تَوَلَّى فِعْلَهُ لَا مِمَّا هُوَ فِعْلُ الْعِبَادِ كَمَا قَالُوا:
لَا مَرَدَّ لِأَمْرِ اللَّهِ لَمْ يُرِدْ مَا أَمَرَ بِهِ الْعِبَادَ ثُمَّ قَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ فِي سُلْطَانِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ كَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مَا نَهَى
464
عَنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ الْكَعْبِيُّ لَيْسَ جَوَابًا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بَلْ هُوَ الْتِزَامُ الْمُخَالَفَةِ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَقِيَاسُ الْإِرَادَةِ عَلَى الْأَمْرِ، بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: هَلَّا إِذَا دَخَلْتَ بُسْتَانَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ كقول الإنسان هذه الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢] وهم ثلاثة وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: ٥٨] أَيْ قُولُوا هَذِهِ حِطَّةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِي البستان شيء شَاءَ اللَّهُ تَكْوِينَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَقَعَ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ عَامٍّ فِي الْكُلِّ بَلْ مُخْتَصٌّ بِالْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْبُسْتَانِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ أَحْسَنُ بِكَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى جَوَابِهِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ عِمَارَةَ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ رُبَّمَا حَصَلَتْ بِالْغُصُوبِ وَالظُّلْمِ الشَّدِيدِ فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الثِّمَارَ حَصَلَتْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لِظَاهِرِ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَالْكَلَامُ الثَّانِي: الَّذِي أَمَرَ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ هُوَ قَوْلُهُ: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ لَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَإِقْدَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ: هَلَّا قُلْتَ عِنْدَ دُخُولِ جَنَّتِكَ الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَالْكَائِنُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ اعْتِرَافًا بِأَنَّهَا وَكُلُّ خَيْرٍ فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ فَإِنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهِ إِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَإِنْ شَاءَ خَرَّبَهَا، وَهَلَّا قُلْتَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِقْرَارًا بِأَنَّ مَا قُوِّيتَ بِهِ عَلَى عِمَارَتِهَا وَتَدْبِيرِ أَمْرِهَا فَهُوَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ لَا يَقْوَى أَحَدٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا فِي مِلْكِ يَدِهِ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا عَلَّمَ الْكَافِرَ الْإِيمَانَ أَجَابَهُ عن افتخاره بالمال والنفر فقال: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً مَنْ قَرَأَ أَقَلَّ بِالنَّصْبِ فَقَدْ جَعَلَ أَنَا فَصْلًا وَأَقَلَّ مَفْعُولًا ثَانِيًا وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ جَعَلَ قَوْلَهُ:
أَنَا مبتدأ وقوله: أَقَلَّ خبر والجملة مفعولا ثانيا لترن واعلم أن ذكر الولد هاهنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَأَعَزُّ نَفَراً الْأَعْوَانُ وَالْأَوْلَادُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَرَانِي: أَقَلَّ مَالًا وَوَلَدًا وَأَنْصَارًا فِي الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ. وَيُرْسِلَ عَلَى جَنَّتِكَ:
حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أَيْ عَذَابًا وَتَخْرِيبًا وَالْحُسْبَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ وَالْبُطْلَانِ بِمَعْنَى الْحِسَابِ/ أَيْ مِقْدَارًا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَحَسَبَهُ وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْرِيبِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَذَابٌ حُسْبَانٌ وَذَلِكَ الْحُسْبَانُ حُسْبَانُ مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ وَقِيلَ حُسْبَانًا أَيْ مَرَامِيَ الْوَاحِدُ مِنْهَا حُسْبَانَةٌ وَهِيَ الصَّوَاعِقُ: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَيْ فَتُصْبِحَ جَنَّتُكَ أَرْضًا مَلْسَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَالصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، زَلَقًا أَيْ تَصِيرُ بِحَيْثُ تَزْلَقُ الرِّجْلُ عَلَيْهَا زَلَقًا ثُمَّ قَالَ: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أَيْ يَغُوصُ وَيَسْفُلُ فِي الْأَرْضِ: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أَيْ فَيَصِيرُ بِحَيْثُ لَا تَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ إِلَى مَوْضِعِهِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: ماؤُها غَوْراً أَيْ غَائِرًا وَهُوَ نَعْتٌ عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ زَوْرٌ وَصَوْمٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَيُقَالُ نِسَاءٌ نَوْحٌ أَيْ نَوَائِحُ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَقَّقَ مَا قَدَّرَهُ هَذَا الْمُؤْمِنُ فَقَالَ:
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِهْلَاكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَصْلُهُ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ إِذَا أَحَاطَ بِهِ فَقَدْ مَلَكَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ إِهْلَاكٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُفَ: ٦٦] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: أَتَى عَلَيْهِ إِذَا أَهْلَكَهُ مِنْ أَتَى عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ إِذَا جَاءَهُمْ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ يُصَفِّقُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَقَدْ يَمْسَحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا نَدَامَةً عَلَى مَا أَنْفَقَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وَعَظَهُ أَخُوهُ فِيهَا وَعَذَلَهُ: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعُرُوشِ عُرُوشَ الْكَرْمِ فَهَذِهِ الْعُرُوشُ سَقَطَتْ ثُمَّ سَقَطَتِ الْجُدْرَانُ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ
465
مِنَ الْعُرُوشِ السُّقُوفُ وَهِيَ سَقَطَتْ عَلَى الْجُدْرَانِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ كِنَايَةٌ عَنْ بطلانها وهلاكها، ثم قال تعالى: وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا قَالَ: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً فَهَذَا الكافر تذكر كلامه وقال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ يُوهِمُ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَتْ جَنَّتُهُ بِشُؤْمِ شِرْكِهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ أَكْثَرُهَا إِنَّمَا يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزُّخْرُفِ: ٣٣]
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فالأمثل»
وأيضا فلما قال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فَقَدْ نَدِمَ عَلَى الشِّرْكِ وَرَغِبَ فِي التَّوْحِيدِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا فَلِمَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمَّا عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عُمْرَهُ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَكَانَ مُعْرِضًا فِي كُلِّ عُمْرِهِ عَنْ طَلَبِ الدِّينِ فَلَمَّا ضَاعَتِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ بَقِيَ الْحِرْمَانُ عَنِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ عَلَيْهِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا نَدِمَ عَلَى الشِّرْكِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَحِّدًا غَيْرَ مُشْرِكٍ لَبَقِيَتْ عَلَيْهِ جَنَّتُهُ فَهُوَ إِنَّمَا رَغِبَ فِي التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَنِ الشِّرْكِ لِأَجْلِ طَلَبِ الدُّنْيَا فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا صَارَ تَوْحِيدُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) بِالْيَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِئَةٌ جَمْعٌ فَإِذَا/ تَقَدَّمَ عَلَى الْكِنَايَةِ جَازَ التَّذْكِيرُ، وَلِأَنَّهُ رِعَايَةٌ لِلْمَعْنَى. وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقَ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عَائِدَةٌ إِلَى اللَّفْظَةِ وَهِيَ الْفِئَةُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ أَنَّهُ مَا حَصَلَتْ لَهُ فِئَةٌ يَقْدِرُونَ عَلَى نُصْرَتِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُهُ أَنْ يَنْصُرَهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. أَوَّلُهَا: فِي لَفْظِ الْوَلَايَةِ فَفِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ قَالَ: كَسْرُ الْوَاوِ لَحْنٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ وَالتَّوَلِّي وَبِالْكَسْرِ السُّلْطَانُ وَالْمُلْكُ. وَثَانِيهَا: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ قَوْلَهُ: الْحَقُّ بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ هُنَالِكَ الْوِلَايَةُ الْحَقُّ لِلَّهِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ صِفَةً لِلَّهِ. وَثَالِثُهَا: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ عُقُبًا بِضَمِّ الْقَافِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ عُقْبَى بِتَسْكِينِ الْقَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ مَا ذَكَرَ عَلِمْنَا أَنَّ النُّصْرَةَ وَالْعَاقِبَةَ الْمَحْمُودَةَ كَانَتْ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ وَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا يَكُونُ فِي حَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فَقَالَ: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أَيْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ تَكُونُ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ يُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ فَيُغَلِّبَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ وَيُفَوِّضُ أَمْرَ الْكُفَّارِ إِلَيْهِمْ فَقَوْلُهُ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْضِعِ وَالْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ إِظْهَارَ كَرَامَةِ أَوْلِيَائِهِ وَإِذْلَالَ أَعْدَائِهِ [فِيهِمَا]. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّدِيدَةِ يَتَوَلَّى اللَّهَ وَيَلْتَجِئُ إِلَيْهِ كُلُّ مُحْتَاجٍ مُضْطَرٍّ يعني أن قوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كَلِمَةٌ أُلْجِئُ إِلَيْهَا ذَلِكَ الْكَافِرُ فَقَالَهَا جَزَعًا مِمَّا سَاقَهُ إِلَيْهِ شُؤْمُ كُفْرِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْمَعْنَى هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ يَنْصُرُ
466
بِهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَفَرَةِ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ وَيَشْفِي صُدُورَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَ بِمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ وَصَدَّقَ قوله في قوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ لِأَوْلِيَائِهِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْ فِي تِلْكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ كَقَوْلِهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أَيْ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ: وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ هُوَ خَيْرٌ عَاقِبَةً لِمَنْ رَجَاهُ وَعَمِلَ لِوَجْهِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ قُرِئَ عُقْبًى بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِهَا وعقبى على فعلى وكلها بمعنى العاقبة «١».
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٥]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ: اضْرِبْ مَثَلًا آخَرَ يَدُلُّ عَلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَقِلَّةِ بَقَائِهَا وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَاضْرِبْ لَهُمْ أَيْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ: مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ وَحِينَئِذٍ يَرْبُو ذَلِكَ النَّبَاتُ وَيَهْتَزُّ وَيَحْسُنُ مَنْظَرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الْحَجِّ: ٥] ثُمَّ إِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ مُدَّةً جَفَّ ذَلِكَ النَّبَاتُ وَصَارَ هَشِيمًا، وَهُوَ النَّبْتُ الْمُتَكَسِّرُ الْمُتَفَتِّتُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
هَشَّمْتُ أَنْفَهُ وَهَشَّمْتُ الثَّرِيدَ. وَأَنْشَدَ:
عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِأَهْلِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
وَإِذَا صَارَ النَّبَاتُ كَذَلِكَ طَيَّرَتْهُ الرِّيَاحُ وَذَهَبَتْ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ إِلَى سَائِرِ الْجَوَانِبِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً بِتَكْوِينِهِ أَوَّلًا وَتَنْمِيَتِهِ وَسَطًا وَإِبْطَالِهِ آخِرًا وَأَحْوَالُ الدُّنْيَا أَيْضًا كَذَلِكَ تَظْهَرُ أَوَّلًا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ ثُمَّ تَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا ثُمَّ تَأْخُذُ فِي الِانْحِطَاطِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَبْتَهِجَ بِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ فَاخْتَلَطَ بَعْضُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ بِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ يَقْوَى النَّبَاتُ وَيَخْتَلِطُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ وَيَشْتَبِكُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ وَيَصِيرُ فِي الْمَنْظَرِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالزِّينَةِ. وَالثَّانِي: فَاخْتَلَطَ ذَلِكَ الْمَاءُ بِالنَّبَاتِ وَاخْتَلَطَ ذَلِكَ النَّبَاتُ بِالْمَاءِ حَتَّى رَوِيَ وَرَفَّ رَفِيفًا. وَكَانَ حَقُّ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَاخْتَلَطَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ وَوَجْهُ صِحَّتِهِ أَنَّ كُلَّ مُخْتَلِطَيْنِ مَوْصُوفٌ كُلُّ واحد منها بصفة صاحبه.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٤٦]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الدُّنْيَا سَرِيعَةُ الِانْقِرَاضِ وَالِانْقِضَاءِ مُشْرِفَةٌ عَلَى الزَّوَالِ وَالْبَوَارِ وَالْفَنَاءِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْمَقْصُودُ إِدْخَالُ هَذَا الْجُزْءِ تَحْتَ ذَلِكَ الْكُلِّ وَسَنَعْقِدُ منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا فَهُوَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ يُنْتِجُ إِنْتَاجًا بَدِيهِيًّا أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ. وَمِنَ الْمُقْتَضَى الْبَدِيهِيِّ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْبُحُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ أو
(١) عقبى رسمت في المصحف هكذا عُقْباً بالألف وهي ترسم إملاء (عقبى) بالياء إذا سكنت القاف في قراءة عاصم وحمزة على زنة فعلى، وأما إذا ضمت القاف فتكون جمع عقبي وترسم بالألف حينئذ في قراءة الباقين.
يَفْرَحَ بِسَبَبِهِ أَوْ يُقِيمَ لَهُ/ فِي نَظَرِهِ وَزْنًا فَهَذَا بُرْهَانٌ بَاهِرٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ فَقَالَ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُنْقَرِضَةٌ مُنْقَضِيَةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ وَالدَّائِمُ الْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَرِضِ الْمُنْقَضِي وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ حَقِيرَةٌ وَأَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ، لِأَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا حِسِّيَّةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ عَقْلِيَّةٌ وَالْعَقْلِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ الْحِسِّيَّةِ بِكَثِيرٍ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ: ٣٥] فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِدْرَاكَاتِ الْعَقْلِيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِسِّيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَجْمُوعُ السَّعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ هِيَ السَّعَادَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ السَّعَادَاتِ الْحِسِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ أَقْوَالًا قِيلَ إِنَّهَا قَوْلُنَا: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» وَلِلشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَجْهٌ لَطِيفٌ،
فَقَالَ: رُوِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ حَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ عَشْرُ مَرَّاتٍ، فَإِذَا قَالَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ صَارَتْ عِشْرِينَ، فَإِذَا قَالَ: وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَارَتْ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا قَالَ وَاللَّهُ أَكْبَرُ صَارَتْ أَرْبَعِينَ.
قَالَ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ أَعْظَمَ مَرَاتِبِ الثَّوَابِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَفِي مَحَبَّتِهِ فَإِذَا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقَدْ عَرَفَ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي فَحُصُولُ هَذَا الْعِرْفَانِ سَعَادَةٌ عَظِيمَةٌ وَبَهْجَةٌ كَامِلَةٌ فَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ الْمَبْدَأُ لِإِفَادَةِ كُلِّ مَا يَنْبَغِي وَلِإِفَاضَةِ كُلِّ خَيْرٍ وَكَمَالٍ فَقَدْ تَضَاعَفَتْ دَرَجَاتُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا جَرَمَ قُلْنَا تَضَاعَفَ الثَّوَابُ فَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الَّذِي تَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ الْمَبْدَأُ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ هَكَذَا إِلَّا الْوَاحِدَ فَقَدْ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةً فَلَا جَرَمَ صَارَتْ دَرَجَاتُ الثَّوَابِ ثَلَاثَةً فَإِذَا قَالَ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَصِلَ الْعَقْلُ إِلَى كُنْهِ كِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ فَقَدْ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْمَعْرِفَةِ أَرْبَعَةً لَا جَرَمَ صَارَتْ دَرَجَاتُ الثَّوَابِ أَرْبَعَةً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا الطَّيِّبُ مِنَ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الْحَجِّ: ٢٤]. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ دَعَاكَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ فَهُوَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَكُلُّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ دَعَاكَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ فَانٍ لِذَاتِهِ هَالِكٌ لِذَاتِهِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ عَمَلًا بَاطِلًا وَسَعْيًا ضَائِعًا. أَمَّا الْحَقُّ لِذَاتِهِ فَهُوَ الْبَاقِي لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لَا جَرَمَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ هُوَ الَّذِي يَبْقَى بَقَاءً لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيْ كُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَمَلِ يَكُونُ خَيْرًا وَأَفْضَلَ، لِأَنَّ صَاحِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُؤَمِّلُ فِي الدُّنْيَا ثَوَابَ اللَّهِ وَنَصِيبَهُ فِي الآخرة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
468
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ خَسَاسَةَ الدُّنْيَا وَشَرَفَ الْقِيَامَةِ أَرْدَفَهُ بِأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِي افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْوَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاصِبِ لِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَكُونُ التقدير واذكر لهم: يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ٤٥]. الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ حصل كذا وكذا يقال لهم: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
لِأَنَّ الْقَوْلَ مُضْمَرٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّالِثُ: أن يكون التقدير: خَيْرٌ أَمَلًا في يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ أَنْوَاعًا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ تُسَيَّرُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْجِبَالُ بِالرَّفْعِ بِإِسْنَادِ تُسَيَّرُ إِلَيْهِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ [التَّكْوِيرِ: ٣] وَالْبَاقُونَ نَسَيِّرُ بِإِسْنَادِ فِعْلِ التسيير إلى نفسه [تعالى و] الجبال بِالنَّصْبِ لِكَوْنِهِ مَفْعُولَ نُسَيِّرُ، وَالْمَعْنَى نَحْنُ نَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّهَا إِذَا سُيِّرَتْ فَمُسَيِّرُهَا لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ. وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قِرَاءَةً أُخْرَى وَهِيَ تَسِيرُ الْجِبَالُ بِإِسْنَادِ تَسِيرُ إِلَى الْجِبَالِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِلَى أَيْنَ تَسِيرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُسَيِّرُهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِخَلْقِهِ/ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسَيِّرُهَا إِلَى العدم لقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طَهَ: ١٠٥- ١٠٧] وَلِقَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَةِ: ٥، ٦] وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِهَا شَيْءٌ مِنَ الْعِمَارَاتِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْجِبَالِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ، فَبَقِيَتْ بَارِزَةً ظَاهِرَةً لَيْسَ عَلَيْهَا مَا يَسْتُرُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهَا بَارِزَةً أَنَّهَا أَبْرَزَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَقَذَفَتِ الْمَوْتَى الْمَقْبُورِينَ فِيهَا فَهِيَ بَارِزَةُ الْجَوْفِ وَالْبَطْنِ فَحُذِفَ ذِكْرُ الْجَوْفِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ [الِانْشِقَاقِ: ٤] وَقَوْلُهُ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: ٢] وقوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً. وَثَالِثُهَا: أَنَّ وُجُوهَ الْأَرْضِ كَانَتْ مَسْتُورَةً بِالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ، فَلَمَّا أَفْنَى اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ وَالْبِحَارَ فَقَدْ بَرَزَتْ وُجُوهُ تِلْكَ الْبِقَاعِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَالْمَعْنَى جَمَعْنَاهُمْ لِلْحِسَابِ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، أَيْ لَمْ نَتْرُكْ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ أَحَدًا إِلَّا وَجَمَعْنَاهُمْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الْوَاقِعَةِ: ٤٩، ٥٠] وَمَعْنَى لَمْ نُغَادِرْ لَمْ نَتْرُكْ، يُقَالُ: غَادَرَهُ وَأَغْدَرَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَمِنْهُ الْغَدْرُ تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَمِنْهُ الْغَدِيرُ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَتْهُ السُّيُولُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ ضَفِيرَةُ الْمَرْأَةِ بِالْغَدِيرَةِ لِأَنَّهَا تَجْعَلُهَا خَلْفَهَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَشْرَ الخلق ذكر كيفية عرضهم، فقال: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الصَّفِّ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تُعْرَضُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى اللَّهِ صَفًّا وَاحِدًا ظَاهِرِينَ بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ رَاجِعًا إِلَى الظُّهُورِ وَالْبُرُوزِ، وَمِنْهُ اشْتُقَّ
469
الصَّفْصَفُ لِلصَّحْرَاءِ. وَثَانِيهَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ صُفُوفًا يَقِفُ بَعْضُهُمْ وَرَاءَ بَعْضٍ مِثْلَ الصُّفُوفِ الْمُحِيطَةِ بِالْكَعْبَةِ الَّتِي يَكُونُ بَعْضُهَا خَلْفَ بَعْضٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَفًّا صُفُوفًا كَقَوْلِهِ: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِرٍ: ٦٧] أَيْ أَطْفَالًا. وَثَالِثُهَا: صَفًّا أَيْ قِيَامًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الْحَجِّ: ٣٦] قَالُوا قِيَامًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفَجْرِ: ٢٢] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْقِيَامَةِ صَفًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمُونا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وُقُوفَهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْأَلُهُمْ فِيهِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهَا عَرْضًا عَلَيْهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْضُرُ فِي مَكَانٍ وَعُرِضُوا عَلَيْهِ لِيَرَاهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يكن يراهم، ثم قال تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا صِغَارًا وَلَا عَقْلَ لَهُمْ وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ الْمُفْتَخِرِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْوَالِ والأنصار: /قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
عُرَاةً حُفَاةً بِغَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَعْوَانٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩٤] وَقَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً- إِلَى قَوْلِهِ- وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: ٧٧- ٨٠] ثُمَّ قال تعالى: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أَيْ كُنْتُمْ مَعَ التَّعَزُّزِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْصَارِ تُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ فَالْآنَ قَدْ تَرَكْتُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَنْصَارَ فِي الدُّنْيَا وَشَاهَدْتُمْ أَنَّ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتابُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُوضَعُ فِي هَذَا الْيَوْمِ كِتَابُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي يَدِهِ إِمَّا فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الشَّمَالِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ وَهُوَ صُحُفُ الْأَعْمَالِ: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أَيْ خَائِفِينَ مِمَّا فِي الْكِتَابِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَخَائِفِينَ مِنْ ظُهُورِ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَفْتَضِحُونَ، وَبِالْجُمْلَةِ يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْفُ الْعِقَابِ مِنَ الْحَقِّ وَخَوْفُ الْفَضِيحَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا يُنَادُونَ هِلْكَتَهُمُ الَّتِي هَلَكُوهَا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الْهِلْكَاتِ: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وهي عبارة عن الإحصاء بِمَعْنَى لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إِلَّا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الِانْفِطَارِ: ١٠- ١٢] وَقَوْلُهُ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجَاثِيَةِ: ٢٩] وَإِدْخَالُ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْفِعْلَةُ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ: إِلَّا أَحْصاها إِلَّا ضَبَطَهَا وَحَصَرَهَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ضَجُّوا مِنَ الصَّغَائِرِ قَبْلَ الْكَبَائِرِ «١». لِأَنَّ تِلْكَ الصَّغَائِرَ هِيَ الَّتِي جَرَّتْهُمْ إِلَى الْكَبَائِرِ فَاحْتَرَزُوا مِنَ الصَّغَائِرِ جِدًّا: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً فِي الصُّحُفِ عَتِيدًا أَوْ جَزَاءَ مَا عَمِلُوا: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَلَا يَزِيدُ فِي عِقَابِهِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِجُرْمِ غَيْرِهِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ فِي مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ عَذَّبَ عِبَادَهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ صَدَرَ مِنْهُمْ لَكَانَ ظَالِمًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْأَطْفَالَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وَثَالِثُهَا: بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ لله
(١) نظير هذا
قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سئل: أيحاسب الإنسان على ما يتكلم به؟ فقال له: «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم»
والحصائد جمع حصيدة: وهي الكلمة الهينة.
470
أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيُعَذِّبَ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ لِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْهُ مَعْنًى لَأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ أَيَّ شَيْءٍ أَرَادَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَظْلِمُ فَائِدَةٌ فَيُقَالُ لَهُ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الثَّالِثِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: ٣٥] وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ صَحِيحٌ عَلَيْهِ فَكَذَا هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُحَاسَبُ النَّاسُ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ «١» يُوسُفَ، وَأَيُّوبَ، وَسُلَيْمَانَ. فَيَدْعُو بِالْمَمْلُوكِ وَيَقُولُ لَهُ: مَا شَغَلَكَ عَنِّي فَيَقُولُ جَعَلْتَنِي عَبْدًا لِلْآدَمِيِّ فَلَمْ تُفَرِّغْنِي، فَيَدْعُو يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَقُولُ: كَانَ هَذَا عَبْدًا مِثْلَكَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، / ثُمَّ يَدْعُو بِالْمُبْتَلِي فَإِذَا قَالَ شَغَلْتَنِي بِالْبَلَاءِ دَعَا بِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: قَدِ ابْتَلَيْتُ هَذَا بِأَشَدَّ مِنْ بَلَائِكَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمَلِكِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْغِنَى وَالسَّعَةِ فَيَقُولُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ فَيَقُولُ شَغَلَنِي الْمُلْكُ عَنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ: هَذَا عَبْدِي سُلَيْمَانُ آتَيْتُهُ أَكْثَرَ مَا آتَيْتُكَ فَلَمْ يَشْغَلْهُ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِي اذْهَبْ فَلَا عُذْرَ لَكَ وَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ»،
وَعَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَزُولَ قَدَمُ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ جسده فيم أبلاه، وعن عمره فيم أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ كَيْفَ عَمِلَ بِهِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِثْبَاتِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ فِي الذُّنُوبِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكَبِيرَةُ مَا يَزِيدُ عِقَابُهُ عَلَى ثَوَابِ فَاعِلِهِ، وَالصَّغِيرَةُ مَا يَنْقُصُ عِقَابُهُ عَنْ ثَوَابِ فَاعِلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ يُوجِبُ ثَوَابًا وَعِقَابًا وَذَلِكَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ بَلِ الْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ:
التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ جَهْلًا بِاللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَكُلُّ مَا كَانَ أَقْوَى فِي كَوْنِهِ إِضْرَارًا بِالْغَيْرِ كَانَ أَكْثَرَ فِي كَوْنِهِ ذَنْبًا أَوْ مَعْصِيَةً فهذا هو الضبط.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ الرَّدُّ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا عَيْنُ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ افْتَخَرَ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ وَقَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فَأَنَا أَشْرَفُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ وَالنَّسَبِ فَكَيْفَ أَسْجُدُ وَكَيْفَ أَتَوَاضَعُ لَهُ! وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَامَلُوا فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْلِسُ مَعَ
(١) أي ثلاثة صنوف ومثل.
471
هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ مَعَ أَنَّا مِنْ أَنْسَابٍ شَرِيفَةٍ وَهُمْ مِنْ أَنْسَابٍ نَازِلَةٍ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَهُمْ فقراء، فالله تعالى ذكر هذه القصة هاهنا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا طَرِيقَةُ إِبْلِيسَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَذَّرَ عَنْهَا وَعَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهَا فِي قَوْلِهِ:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَهُوَ حَسَنٌ مُعْتَبَرٌ، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَشْرِ وَوَضْعَ الْكِتَابِ وَكَأَنَّ الله تعالى يريد أن يذكر هاهنا أَنَّهُ يُنَادِي الْمُشْرِكِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِي زَعَمْتُمْ وَكَانَ قَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى إِثْبَاتِ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ قِصَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِتْمَامًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى قَدْ كَرَّرَهَا فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا فَائِدَةً مُجَدَّدَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَوْنُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ وَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَبِيلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: ١٥٨] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِنَّ سُمُّوا جِنًّا لِلِاسْتِتَارِ وَالْمَلَائِكَةُ كَذَلِكَ فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْجِنِّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ وَنُسِبَ إِلَى الْجَنَّةِ كَقَوْلِهِمْ كُوفِيٌّ وَبَصْرِيٌّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ مَنِ الْجَنَّانِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْجَنَّاتِ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَصُوغُونَ حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُذْ خُلِقُوا رَوَاهُ الْقَاضِي فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ وَهُوَ أَبُوهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَمُسِخَ وَغُيِّرَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ أَحْكَمْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَصْلُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ ذُرِّيَّةً وَنَسْلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسَ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا نَسْلٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ تَنَاوَلَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَأَيْضًا/ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ كُلِّ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْصَاءِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَفِي ظَاهِرِهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ مِنْ قِشْرِهَا أَيْ خَرَجَتْ، وَسُمِّيَتِ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا مِنَ الْبَابَيْنِ وَقَالَ رُؤْبَةُ:
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرٍ غَائِرًا فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا
الثَّانِي: حَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ فَعَصَى كَانَ سَبَبُ فِسْقِهِ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ الْأَمْرُ السَّابِقُ لَمَا حَصَلَ الْفِسْقُ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
الثَّالِثُ: قَالَ قُطْرُبٌ: فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ رَدَّهُ كَقَوْلِهِ وَاسْأَلِ القرية واسأل العير قَالَ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ إِبْلِيسَ تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ وَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ أَصْلَهُ أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هُوَ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَفِ نَسَبِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، إِنَّكُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ اقْتَدَيْتُمْ بِإِبْلِيسَ فِي تَكَبُّرِهِ عَلَى آدَمَ فَلَمَّا عَلِمْتُمْ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَكَيْفَ تَقْتَدُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمَذْمُومَةِ. هَذَا هُوَ تَقْرِيرُ الْكَلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الكلام لا
472
يَتِمُّ إِلَّا بِإِثْبَاتِ مُقَدِّمَاتٍ. فَأَوَّلُهَا: إِثْبَاتُ إِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: إِثْبَاتُ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ. وَثَالِثُهَا: إِثْبَاتُ عَدَاوَةٍ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ وَبَيْنَ أَوْلَادِ آدَمَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ اقْتَدَوْا فِيهِ بِإِبْلِيسَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا إِلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْجَاهِلُ بِصِدْقِ النَّبِيِّ جَاهِلٌ بِهَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هَلْ عَرَفُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ نَبِيًّا صَادِقًا أَوْ مَا عَرَفُوا ذَلِكَ؟ فَإِنْ عَرَفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا صَادِقًا قَبِلُوا قَوْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ فَكُلَّمَا نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلٍ انْتَهَوْا عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى قِصَّةِ إِبْلِيسَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا جَهِلُوا كُلَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا صِحَّتَهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي إِيرَادِهَا عَلَيْهِمْ فَائِدَةٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا قِصَّةَ إِبْلِيسَ وَآدَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهَا وَعَلِمُوا أَنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ بِسَبَبِ نَسَبِهِ، فَإِذَا أَوْرَدْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَمَّا أَظْهَرُوهُ مَعَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَلَا يَخْلُقُهُ فِي الْعَبْدِ، إِذْ لَوْ أَرَادَهُ وَخَلَقَهُ فِيهِ ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ ضَرَرُ إِبْلِيسَ أَقَلَّ مِنْ ضَرَرِ الله عليهم! فَكَيْفَ يُوَبِّخُهُمْ بِقَوْلِهِ: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا!؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا ضَرَرَ الْبَتَّةَ مِنْ إِبْلِيسَ بَلِ الضَّرَرُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالدَّاعِي وَالْعِلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ لِلْكُفَّارِ الْمُفْتَخِرِينَ بِأَنْسَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ/ أَفَتَتَّخِذُونَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى تَرْكِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّخْوَةُ وَإِظْهَارُ الْعَجَبِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ بِنَاءً عَلَى هَذَا الدَّاعِي فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِإِبْلِيسَ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ فِي إِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةِ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَبُّرَ وَالتَّرَفُّعَ فَهُوَ مُقْتَدٍ بِإِبْلِيسَ وَهُوَ مَقَامٌ صَعْبٌ غَرِقَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْخَلَاصَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ لِمَنِ اسْتَبْدَلَهُ بِهِ فَأَطَاعَهُ بَدَلَ طَاعَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَشْهَدْتُ الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات وَالْأَرْضِ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: ٦٦] يَعْنِي مَا أَشْهَدْتُهُمْ لِأَعْتَضِدَ بِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أَيْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ بَيَانًا لِإِضْلَالِهِمْ وَقَوْلُهُ:
عَضُداً أَيْ أَعْوَانًا. وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ تَطْرُدْ مِنْ مَجْلِسِكَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ لَمْ نُؤْمِنْ بِكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ وَالتَّعَنُّتِ الْبَاطِلِ مَا كَانُوا شُرَكَاءَ لِي فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اعْتَضَدْتُ بِهِمْ فِي تَدْبِيرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ كَسَائِرِ الْخَلْقِ، فَلِمَ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الِاقْتِرَاحِ الْفَاسِدِ؟ وَنَظِيرُهُ أَنَّ مَنِ اقْتَرَحَ عَلَيْكَ اقْتِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً فَإِنَّكَ تَقُولُ لَهُ لَسْتَ بِسُلْطَانِ الْبَلَدِ وَلَا ذُرِّيَّةِ الْمَمْلَكَةِ حَتَّى نَقْبَلَ مِنْكَ هَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ الْهَائِلَةَ، فَلِمَ تُقْدِمُ عَلَيْهَا وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْأَقْرَبُ هُوَ ذِكْرُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا
473
خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ
كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ جَاهِلِينَ بِمَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي الْأَزَلِ مِنْ أَحْوَالِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ السَّعِيدُ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِسَعَادَتِهِ فِي الْأَزَلِ وَالشَّقِيُّ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ بِشَقَاوَتِهِ فِي الْأَزَلِ، وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْ أَحْوَالِ الْأَزَلِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَإِذَا جَهِلْتُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَحْكُمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِالرِّفْعَةِ وَالْعُلُوِّ وَالْكَمَالِ وَلِغَيْرِكُمْ بِالدَّنَاءَةِ وَالذُّلِّ، بَلْ رُبَّمَا صَارَ الْأَمْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى الْعَكْسِ فِيمَا حَكَمْتُمْ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَمَا كُنْتَ بِالْفَتْحِ، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى وَمَا صَحَّ لَكَ الِاعْتِضَادُ بِهِمْ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْتَزَّ بِهِمْ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. مُتَّخِذًا الْمُضِلِّينَ بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُضْدًا بِسُكُونِ الضَّادِ وَنَقْلِ ضَمَّتِهَا إِلَى الْعَيْنِ، وَقُرِئَ: عَضْدًا بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الضَّادِ وَعُضُدًا بِضَمَّتَيْنِ وَعَضَدًا/ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ عَاضِدٍ كَخَادِمٍ وَخَدَمٍ وَرَاصِدٍ وَرَصَدٍ مِنْ عَضَدَهُ إِذَا قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ فِي الِافْتِخَارِ عَلَى الْفُقَرَاءِ اقْتِدَاءً بِإِبْلِيسَ عَادَ بَعْدَهُ إِلَى التَّهْوِيلِ بِأَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: (نَقُولُ) بِالنُّونِ عَطْفًا عَلَى قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وأَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا بِالْيَاءِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: وَاذْكُرْ يَوْمَ نَقُولُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الْمَعْنَى وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَحْوَالَهُمْ وَأَحْوَالَ آلِهَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: نادُوا شُرَكائِيَ أَيِ ادْعُوا مَنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِي حَيْثُ أَهَّلْتُمُوهُمْ لِلْعِبَادَةِ، ادْعُوهُمْ يَشْفَعُوا لَكُمْ وَيَنْصُرُوكُمْ وَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْجِنُّ فَدَعَوْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَيْفَ دَعَوُا الشُّرَكَاءَ لِأَنَّهُ تَعَالَى «١» بَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا [غَافِرٍ: ٤٧] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أَيْ لَمْ يُجِيبُوهُمْ إِلَى مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ ضَرَرًا وَمَا أَوْصَلُوا إِلَيْهِمْ نَفْعًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ مِنْ وَبِقَ يَبِقُ وُبُوقًا وَوَبَقًا.
إِذَا هَلَكَ وَأَوْبَقَهُ غَيْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْمَوْرِدِ وَالْمَوْعِدِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً كَالْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى دَعَوْا هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ثُمَّ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فَأَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ جَهَنَّمَ وَأَدْخَلَ عِيسَى الْجَنَّةَ وَصَارَ الْمَلَائِكَةُ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ دَارِ الْكَرَامَةِ وَحَصَلَ بَيْنَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْمَوْبِقُ وَهُوَ ذَلِكَ الْوَادِي فِي جَهَنَّمَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: (مَوْبِقًا) أَيْ عَدَاوَةً وَالْمَعْنَى عَدَاوَةٌ هِيَ فِي شِدَّتِهَا هَلَاكٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا، وَلَا بُغْضُكَ تَلَفًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ الْبَيْنُ الْمُوَاصَلَةُ أَيْ جَعَلْنَا مُوَاصَلَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا هَلَاكًا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْمَوْبِقُ الْبَرْزَخُ الْبَعِيدُ أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى بَرْزَخًا بَعِيدًا يَهْلِكُ فِيهِ السَّارِي لِفَرْطِ بُعْدِهِ، لِأَنَّهُمْ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَهُمْ فِي أَعْلَى الْجِنَانِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَفِي هَذَا الظَّنِّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أن الظن هاهنا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ النَّارَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَمُهْلَةٍ، لِشِدَّةِ مَا
(١) في الأصل النسخة الأميرية (لا أنه تعالى) ولعل ما أثبتناه هو الصواب إن شاء الله.
474
يَسْمَعُونَ مِنْ تَغَيُّظِهَا وَزَفِيرِهَا. كَمَا قَالَ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الْفُرْقَانِ: ١٢] وَقَوْلُهُ: مُواقِعُوها أَيْ مُخَالِطُوهَا فَإِنَّ مُخَالَطَةَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً يُقَالُ لَهَا مُوَاقَعَةٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أَيْ لَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ مَعْدِلًا إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسُوقُهُمْ إليها.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦)
اعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَفَرَةَ لَمَّا افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ وَبَيَّنَ تَعَالَى بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ قَوْلَهُمْ فَاسِدٌ وَشُبْهَتَهُمْ بَاطِلَةٌ وَذَكَرَ فِيهِ الْمَثَلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، قَالَ بَعْدَهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ وَالتَّصْرِيفُ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَ تِلْكَ الْجَوَابَاتِ الشَّافِيَةِ وَالْأَمْثِلَةِ الْمُطَابِقَةِ فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَا يَتْرُكُونَ الْمُجَادَلَةَ الْبَاطِلَةَ فَقَالَ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أَيْ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجَدَلُ وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جَادَلُوهُمْ فِي الدِّينِ حَتَّى صَارُوا هُمْ مُجَادِلِينَ لِأَنَّ الْمُجَادَلَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ بَاطِلٌ، ثُمَّ قَالَ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ حَصَلَ الْمَانِعُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مُضَادٌّ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ قَائِمًا كَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا. وَأَيْضًا حُصُولُ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ قَائِمٌ وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ بِدُونِ الدَّاعِي مُحَالٌ، وَوُجُودُ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ مَانِعٌ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِقْدَارُ الْمَوَانِعِ الْمَحْسُوسَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُمُ الْهُدَى وَهُوَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ/ لَا مَانِعَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّخْلِيَةُ حَاصِلَةٌ. وَالْأَعْذَارُ زَائِلَةٌ فَلِمَ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى الْإِيمَانِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ- وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ- أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ قُبُلًا بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ جَمِيعًا وَهُوَ جَمْعُ قَبِيلٍ بِمَعْنَى ضُرُوبٍ مِنَ الْعَذَابِ تَتَوَاصَلُ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً وَقِيلَ مُقَابَلَةً وَعِيَانًا وَالْبَاقُونَ قِبَلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ عِيَانًا أَيْضًا، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَبَلًا بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مُسْتَقْبَلًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فَيَهْلِكُوا، أَوْ أَنْ يَتَوَاصَلَ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ حَالَ بَقَائِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْإِيمَانِ إِلَّا عَلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِحُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا أَنَّ حَالَهُمْ شَبِيهٌ بِحَالِ مَنْ وَقَفَ الْعَمَلَ عَلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمُنْذِرِينَ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِكَيْ يُؤْمِنُوا طَوْعًا وبين
مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَادَلَةُ بِالْبَاطِلِ لِغَرَضِ دَحْضِ الْحَقِّ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يُجَادِلُونَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُجَادَلَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ وَإِنْذَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ هُزُوًا وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِيلَاءِ الْجَهْلِ وَالْقَسْوَةِ. قَالَ النَّحْوِيُّونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْذِرُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَيَكُونَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفًا وَيَجُوزُ أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ جِدَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَصَفَهُمْ بَعْدَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِزْيِ/ وَالْخِذْلَانِ. الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أَيْ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ مَنْ تَرِدُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ فَيُعْرِضُ عَنْهَا وَيَنْسَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَيْ مَعَ إِعْرَاضِهِ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ يَتَنَاسَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُرَادُ مِنَ النِّسْيَانِ التَّشَاغُلُ وَالتَّغَافُلُ عَنْ كُفْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: [قَوْلِهِ] : إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ مُتَمَسَّكُ الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلَهُ: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مُتَمَسَّكُ الْجَبْرِيَّةِ وَقَلَّمَا نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ آيَةً لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا آيَةٌ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَالتَّجْرِبَةُ تَكْشِفُ عَنْ صِدْقِ قَوْلِنَا. وَمَا ذَاكَ إِلَّا امْتِحَانٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَلْقَاهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيَتَمَيَّزَ الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ الْغَفُورُ الْبَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ ذُو الرَّحْمَةِ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ لَا فِي الرَّحْمَةِ، لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَرْكُ الْإِضْرَارِ وَهُوَ تَعَالَى قَدْ تَرَكَ مَضَارَّ لَا نِهَايَةَ لَهَا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهَا، أَمَّا فِعْلُ الرَّحْمَةِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ لِأَنَّ تَرْكَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مُمْكِنٌ، أَمَّا فِعْلُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَمُحَالٌ «١» وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَغْفِرُ كَثِيرًا لِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهَا فَيَهَبُهَا مِنَ الْمُحْتَاجِينَ كَثِيرًا ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِتَرْكِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ مَكَّةَ عَاجِلًا مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ مَعَ إِفْرَاطِهِمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وَهُوَ إِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ يَوْمُ بَدْرِ وَسَائِرُ أَيَّامِ الْفَتْحِ [وَقَوْلُهُ] : لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [أَيْ] مَنْجًى وَلَا مَلْجَأً، يُقَالُ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ، وَوَأَلَ إِلَيْهِ إِذَا لَجَأَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرى يُرِيدُ قُرَى الْأَوَّلِينَ مِنْ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ أَشَارَ إِلَيْهَا لِيَعْتَبِرُوا، وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ، وَالْقُرَى صِفَةٌ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ تُوصَفُ بِأَصْنَافِ الْأَجْنَاسِ وَأَهْلَكْنَاهُمْ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى، وَتِلْكَ أَصْحَابُ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا مِثْلَ ظُلْمِ أَهْلِ مَكَّةَ: وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أَيْ وَضَرَبْنَا لِإِهْلَاكِهِمْ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ كَمَا ضَرَبْنَا لِأَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْمَهْلِكُ الْإِهْلَاكُ أَوْ وَقْتُهُ، وَقُرِئَ لِمَهْلَكِهِمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ واللام
(١) في الأصل النسخة الأميرية (أما فعل ما لا نهاية له محال).
مَفْتُوحَةٌ أَوْ مَكْسُورَةٌ، أَيْ لِهَلَاكِهِمْ أَوْ وَقْتَ هَلَاكِهِمْ، وَالْمَوْعِدُ وَقْتٌ أَوْ مَصْدَرٌ، وَالْمُرَادُ إِنَّا عَجَّلْنَا هَلَاكَهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ نَدَعْ أَنْ نَضْرِبَ لَهُ وَقْتًا لِيَكُونُوا إِلَى التَّوْبَةِ أَقْرَبَ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ قِصَّةٍ ثَالِثَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَهَبَ إِلَى الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْعِلْمَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْقِصَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ. أَمَّا نَفْعُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْصَارِ، فَهُوَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِ وَاسْتِجْمَاعِ مُوجِبَاتِ الشَّرَفِ التَّامِّ فِي حَقِّهِ ذَهَبَ إِلَى الْخَضِرِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَوَاضَعَ لَهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَاضُعَ خَيْرٌ مِنَ التَّكَبُّرِ، وَأَمَّا نَفْعُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِكُفَّارِ مَكَّةَ: إِنْ أَخْبَرَكُمْ مُحَمَّدٌ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْقِصَصِ وَالْوَقَائِعِ، كَمَا أَنَّ كَوْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا صَادِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْخَضِرِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ فَظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ نَافِعَةٌ فِي تَقْرِيرِ الْمَقْصُودِ فِي الْقِصَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مُوسَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَاحِبُ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَصَاحِبُ التَّوْرَاةِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ صَاحِبَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُ مُوسَى بْنِ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَقِيلَ هُوَ كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَانِ أَفْرَائِيمُ وَمِيشَا فَوَلَدَ افرائيم نون وَوَلَدَ نُونٌ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَوَلِيُّ عَهْدِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَمَّا وَلَدُ مِيشَا فَقِيلَ إِنَّهُ جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَيَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ هَذَا الْعِلْمَ لِيَتَعَلَّمَ وَالْخَضِرُ هُوَ الَّذِي خَرَقَ/ السَّفِينَةَ، وَقَتَلَ الْغُلَامَ، وَأَقَامَ الْجِدَارَ، وَمُوسَى بْنُ مِيشَا مَعَهُ، هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْيَهُودِ، وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا إِنَّ مُوسَى هَذَا هُوَ صَاحِبُ التَّوْرَاةِ، قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَ مُوسَى فِي كِتَابِهِ إِلَّا وَأَرَادَ بِهِ صَاحِبَ التَّوْرَاةِ فَإِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ يُوجِبُ الِانْصِرَافَ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ شَخْصًا آخَرَ مُسَمًّى بِمُوسَى غَيْرَهُ لَوَجَبَ تَعْرِيفُهُ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الِامْتِيَازَ وَإِزَالَةَ الشُّبْهَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَشْهُورُ فِي الْعُرْفِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الرَّجُلَ الْمُعَيَّنَ فَلَوْ ذَكَرْنَا هَذَا الِاسْمَ وَأَرَدْنَا بِهِ رَجُلًا سواء لَقَيَّدْنَاهُ مِثْلَ أَنْ نَقُولَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ، وَحُجَّةُ الَّذِينَ قَالُوا: مُوسَى هَذَا غَيْرُ صَاحِبِ التَّوْرَاةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِ وَكَلَّمَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَحَجَّ
477
خَصْمَهُ «١» بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهَا لِأَكْثَرِ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ يَبْعُدُ أَنْ يَبْعَثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَعَلُّمِ الِاسْتِفَادَةِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَامِلَ فِي أَكْثَرِ الْعُلُومِ يَجْهَلُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ فَيَحْتَاجُ فِي تَعَلُّمِهَا إِلَى مَنْ دُونَهُ وَهَذَا أَمْرٌ مُتَعَارَفٌ مَعْلُومٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي فَتَى مُوسَى فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ،
وَرَوَى الْقَفَّالُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فَتَى مُوسَى أَخُو يُوشَعَ وَكَانَ صَاحِبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا السَّفَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: رَوَى عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ قَالَ يَعْنِي عَبْدَهُ، قَالَ الْقَفَّالُ وَاللُّغَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْعَبْدَ فَتًى وَالْأَمَةَ فَتَاةً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
قِيلَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُعْطِيَ الْأَلْوَاحَ وَكَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنِ الَّذِي أَفْضَلُ مِنِّي وَأَعْلَمُ؟ فَقِيلَ عَبْدٌ لِلَّهِ يَسْكُنُ جَزَائِرَ الْبَحْرِ وَهُوَ الْخَضِرُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا أُوتِيَ ظَنَّ أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِثْلُهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ قَالَ: يَا مُوسَى انْظُرْ إِلَى هَذَا الطَّيْرِ الصَّغِيرِ يَهْوِي إِلَى الْبَحْرِ يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ فِيهِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ فَأَنْتَ فِيمَا أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ دُونَ قَدْرِ مَا يَحْمِلُ هَذَا الطَّيْرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ،
قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَعْلُومَاتِ الْخَلْقِ يَجِبُ كَوْنُهَا مُتَنَاهِيَةً وَكُلُّ قَدْرٍ مُتَنَاهٍ فَإِنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ فَلَا مَرْتَبَةَ مِنْ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ إِلَّا وَفَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ مَعْلُومَةً فَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ جِدًّا أَنْ يَقْطَعَ الْعَاقِلُ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْلَمُ مِنِّي «٢» لَا سِيَّمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عِلْمِهِ الْوَافِرِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَشِدَّةِ بَرَاءَتِهِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالْعُجْبِ وَالتِّيهِ وَالصَّلَفِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ:
قِيلَ إِنَّ مُوسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ: أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي، قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقَضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَعْلَمُ مِنْكَ الْخَضِرُ، قَالَ فَأَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ. قَالَ يَا رَبِّ: كَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ فَقَدْتَهُ فَهُوَ هُنَاكَ. فَقَالَ لِفَتَاهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَأَخْبِرْنِي فَذَهَبَا يَمْشِيَانِ وَرَقَدَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ وَطَفَرَ إِلَى الْبَحْرِ فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْغَدَاءِ طَلَبَ مُوسَى الْحُوتَ فَأَخْبَرَهُ فَتَاهَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبَحْرِ فَرَجَعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي طَفَرَ الْحُوتُ فِيهِ إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ! فَعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنَا عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ أَنَا، فَلَمَّا رَكِبَا السَّفِينَةَ جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فَنَقَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ الْخَضِرُ: مَا يَنْقُصُ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مِقْدَارَ مَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ
- أَقُولُ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي أَخَذَهُ ذَلِكَ
(١) قوله وحج خصمه يريد بخصمه فرعون وما ذكره الله تعالى في كتابه من الآيات في محاجة فرعون. هذا ولموسى عليه السلام محاجة مع آدم عليه السلام في الأكل من الشجرة ولكن كانت الحجة لآدم على موسى وَلِذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فحج آدم موسى».
(٢) يعني أنه لا يجرأ إنسان على ادعاء انتهاء العلم إليه إلا إذا سلب نعمة العقل، وكان الأنسب أن يقول (منه).
478
الْعُصْفُورُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى كُلِّيَّةِ مَاءِ الْبَحْرِ نِسْبَةُ مُتَنَاهٍ إِلَى مُتَنَاهٍ وَنِسْبَةُ مَعْلُومَاتِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى نِسْبَةُ مُتَنَاهٍ إِلَى غَيْرِ مُتَنَاهٍ، فَأَيْنَ إِحْدَى النِّسْبَتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى وَاللَّهُ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَنَرْجِعُ إِلَى التَّفْسِيرِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أَبْرَحُ قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: لَا أَبْرَحُ لَيْسَ مَعْنَاهُ لَا أَزُولُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْطَعْ أَرْضًا، أَقُولُ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الزَّوَالَ عَنِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، يُقَالُ: زَالَ فُلَانٌ عَنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْجُودِ أَيْ تَرَكَهَا، فَقَوْلُهُ: لَا أَبْرَحُ بِمَعْنَى لَا أَزُولُ عَنِ السَّيْرِ وَالذَّهَابِ بِمَعْنَى لَا أَتْرُكُ هَذَا الْعَمَلَ وَهَذَا الْفِعْلَ- وَأَقُولُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَبْرَحُ مَعْنَاهُ لَا أَزُولُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا أَبْرَحُ وَلَا أَزَالُ وَلَا أَنْفَكُّ وَلَا أَفْتَأُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَالُوا أَصْلُ قَوْلِهِمْ لَا أَبْرَحُ مِنَ الْبَرَاحِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ لَا أَزَالُ مِنَ الزَّوَالِ. يُقَالُ: زَالَ يَزَالُ وَيَزُولُ كَمَا يُقَالُ دَامَ يَدَامُ وَيَدُومُ وَمَاتَ يَمَاتُ وَيَمُوتُ إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَزَالُ فَقَوْلُهُ: لَا أَبْرَحُ أَيْ أُقِيمُ لِأَنَّ الْبَرَاحَ هُوَ الْعَدَمُ فَقَوْلُهُ لَا أَبْرَحُ يَكُونُ عَدَمًا لِلْعَدَمِ فَيَكُونُ ثُبُوتًا، فَقَوْلُهُ: لَا أَزَالُ وَلَا أَبْرَحُ يُفِيدُ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ قَوْلُهُ لَا أَبْرَحُ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْخَبَرِ، قُلْنَا:
حُذِفَ الْخَبَرُ لِأَنَّ الْحَالَ وَالْكَلَامَ يَدُلَّانِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْحَالُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ حَالَ سَفَرٍ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ تَسْتَدْعِي شَيْئًا هِيَ غَايَةٌ لَهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ أَسِيرُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ مِمَّا أَنَا عَلَيْهِ يَعْنِي أَلْزَمُ الْمَسِيرَ وَالطَّلَبَ وَلَا أَتْرُكُهُ وَلَا أُفَارِقُهُ حَتَّى أَبْلُغَ كَمَا تَقُولُ لَا أَبْرَحُ الْمَكَانَ. وَأَمَّا مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ فَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وُعِدَ فِيهِ مُوسَى بِلِقَاءِ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُوَ مُلْتَقَى بَحْرَيْ فَارِسَ وَالرُّومِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ وَقِيلَ غَيْرُهُ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ هَذَيْنِ الْبَحْرَيْنِ فَإِنْ صَحَّ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ شَيْءٌ فَذَاكَ وَإِلَّا فَالْأَوْلَى السُّكُوتُ عَنْهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْبَحْرَانِ مُوسَى وَالْخَضِرُ/ لِأَنَّهُمَا كَانَا بَحْرَيِ الْعِلْمِ وَقُرِئَ مِجْمَعَ بِكَسْرِ الْمِيمِ ثُمَّ قَالَ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا أَيْ أَسِيرُ زَمَانًا طَوِيلًا وَقِيلَ الْحُقْبُ:
ثَمَانُونَ سَنَةً وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النَّبَأِ: ٢٣] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ أَعْلَمَ مُوسَى حَالَ هَذَا الْعَالِمِ، وَمَا أَعْلَمَهُ مَوْضِعَهُ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أَزَالُ أَمْضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ الْبَحْرَانِ فَيَصِيرَا بَحْرًا وَاحِدًا أَوْ أَمْضِي دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى أَجِدَ هَذَا الْعَالِمَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْ مُوسَى بِأَنَّهُ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى تَحَمُّلِ التَّعَبِ الشَّدِيدِ وَالْعَنَاءِ الْعَظِيمِ فِي السَّفَرِ لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ لَوْ سَافَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لِطَلَبِ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ لَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما وَالْمَعْنَى فَانْطَلَقَا إِلَى أَنْ بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بَيْنِهِمَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: مَجْمَعُ بَيْنِهِمَا أَيْ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى [قَوْلِ] مُوسَى لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ فَحَقَّقَ [اللَّهُ] مَا قَالَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى فَلَمَّا بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَجْتَمِعُ [فِيهِ] مُوسَى وَصَاحِبُهُ الَّذِي كَانَ يَقْصِدُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ نِسْيَانُ الْحُوتِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ الْخَضِرُ أَوْ يَسْكُنُ بِقُرْبِهِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَفَتَاهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحُوتَ صَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نَسِيا حُوتَهُما وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الرِّوَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ هَذَا الْعَالِمَ مَوْضِعُهُ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ انْقِلَابَ الْحُوتِ حَيًّا عَلَامَةً عَلَى مَسْكَنِهِ الْمُعَيَّنِ كَمَنْ يَطْلُبُ إِنْسَانًا فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ مَوْضِعَهُ مَحَلَّةُ كَذَا مِنَ الرَّيِّ فَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى الْمَحَلَّةِ فسل فلانا عن داره وأين ما ذَهَبَ بِكَ فَاتْبَعْهُ فَإِنَّكَ تَصِلْ إِلَيْهِ فَكَذَا هاهنا قيل
479
لَهُ إِنَّ مَوْضِعَهُ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ رَأَيْتَ الْحُوتَ انْقَلَبَ حَيًّا وَطَفَرَ إِلَى الْبَحْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فَهُنَالِكَ مَوْضِعُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فَاذْهَبْ عَلَى مُوَافَقَةِ ذَهَابِ ذَلِكَ الْحُوتِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ:
إِنَّ مُوسَى وَفَتَاهُ لَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا طَفَرَتِ السَّمَكَةُ إِلَى الْبَحْرِ وَسَارَتْ وَفِي كَيْفِيَّةِ طَفْرِهَا رِوَايَاتٌ أَيْضًا قِيلَ إِنَّ الْفَتَى كَانَ يَغْسِلُ السَّمَكَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُمَلَّحَةً فَطَفَرَتْ وَسَارَتْ وَقِيلَ إِنَّ يُوشَعَ تَوَضَّأَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَانْتَضَحَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ الْمَالِحِ فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر [ت] هُنَاكَ عَيْنٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَوَصَلَتْ قَطَرَاتٌ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ إِلَى السَّمَكَةِ فَحَيِيَتْ وَطَفَرَتْ إِلَى الْبَحْرِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي صِفَةِ الْحُوتِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: نَسِيا حُوتَهُما أَنَّهُمَا نَسِيَا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ قِيلَ انْقِلَابُ السَّمَكَةِ الْمَالِحَةِ حَيَّةً حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ حُصُولَ هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ دَلِيلًا عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ النِّسْيَانِ فِي هَذَا الْمَعْنَى؟ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِأَنْ يُوشَعَ كَانَ قَدْ شَاهَدَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرًا فَلَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عِنْدَهُ وَقْعٌ عَظِيمٌ فَجَازَ حُصُولُ النِّسْيَانِ. وَعِنْدِي فِيهِ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَعْظَمَ عِلْمَ نَفْسِهِ أَزَالَ اللَّهُ عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهِ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ تَنْبِيهًا/ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ عَلَى الْقَلْبِ وَالْخَاطِرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ سَرَبَ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا إِلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ قَوْلُهُ فَاتَّخَذَ مُقَامَ قَوْلِهِ سَرَبَ وَالسَّرَبُ هُوَ الذَّهَابُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْدِ: ١٠]. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْسَكَ إِجْرَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْبَحْرِ وَجَعَلَهُ كَالطَّاقِ وَالْكُوَّةِ حَتَّى سَرَى الْحُوتُ فِيهِ فَلَمَّا جَاوَزَ أَيْ مُوسَى وَفَتَاهُ الْمَوْعِدَ الْمُعَيَّنَ وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى الصَّخْرَةِ بِسَبَبِ النِّسْيَانِ الْمَذْكُورِ وَذَهَبَا كَثِيرًا وَتَعِبَا وَجَاعَا: قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قالَ الْفَتَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ الْهَمْزَةُ فِي أَرَأَيْتَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَرَأَيْتَ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّهُ إِذَا حَدَثَ لِأَحَدِهِمْ أَمْرٌ عَجِيبٌ قَالَ لصاحبه أرأيت ما حدث لي؟ كذلك هاهنا كَأَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا وَقَعَ لِي مِنْهُ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ وَالْعِلَّةِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْكَعْبِيُّ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ ذَلِكَ النِّسْيَانَ وَمَا أَرَادَهُ وَإِلَّا كَانَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْجَبَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِسَعْيِ الشَّيْطَانِ فِي وُجُودِهِ وَلَا فِي عَدَمِهِ، أَثَرٌ قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُ الْإِنْسَانِ بِوَسَاوِسِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ فِعْلِهِ دُونَ النِّسْيَانِ الَّذِي يُضَادُّ الذِّكْرَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي أَنْسانِيهُ أَيْ: وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ ثُمَّ قَالَ:
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ عَجَبًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ اتِّخَاذًا عَجَبًا وَوَجْهُ كَوْنِهِ عَجَبًا انْقِلَابُهُ مِنَ الْمِكْتَلِ وَصَيْرُورَتُهُ حَيًّا وَإِلْقَاءُ نَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ عَلَى غَفْلَةِ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمَاءَ عَلَيْهِ كَالطَّاقِ وَكَالسِّرْبِ. الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّهُ تَمَّ
480
الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: عَجَبًا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعَجُّبُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَجِيبَةِ الَّتِي رَآهَا وَمِنْ نِسْيَانِهِ لَهَا وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ عَجَبًا حِكَايَةٌ لِتَعَجُّبِ مُوسَى وَهُوَ لَيْسَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أَيْ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُهُ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ وَهُوَ لِقَاءُ الْخَضِرِ وَقَوْلُهُ نَبْغِ أَصْلُهُ نَبْغِي فَحُذِفَتِ الْيَاءُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِدَلَالَةِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْذَفَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْذِفُونَ الْيَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ وَهَذَا فِعْلٌ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ عَلَى ضَعْفِ الْقِيَاسِ حَذْفُهَا لِأَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ السَّاكِنِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهَا كَقَوْلِكَ مَا نَبْغِي الْيَوْمَ؟ فَلَمَّا حُذِفَتْ مَعَ السَّاكِنِ حُذِفَتْ أَيْضًا مَعَ غَيْرِ السَّاكِنِ ثُمَّ قَالَ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا أَيْ/ فَرَجَعَا وَقَوْلُهُ:
قَصَصاً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ رَجَعَا عَلَى آثَارِهِمَا مُقْتَصِّينَ آثَارَهُمَا. وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِقَوْلِهِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَاقْتَصَّا عَلَى آثَارِهِمَا. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمَا لَمَّا عَرَفَا أَنَّهُمَا تَجَاوَزَا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ ذَلِكَ الْعَالِمُ رَجَعَا وَعَادَا إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٥ الى ٧٠]
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ كَانَ نَبِيًّا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَالرَّحْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢] وقوله:
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الْقَصَصِ: ٨٦] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ النُّبُوَّةُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ نُسَلِّمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ رَحْمَةٌ أَمَّا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَحْمَةٍ نُبُوَّةً.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ لَا بِوَاسِطَةِ تَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ وَلَا إِرْشَادِ مُرْشِدٍ وَكُلُّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ لَا بِوَاسِطَةِ الْبَشَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا يَعْلَمُ الْأُمُورَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ تَحْصُلُ ابْتِدَاءً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف: ٦٦] وَالنَّبِيُّ لَا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ/ فِي التَّعْلِيمِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ فِي الْعُلُومِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَ نَبِيًّا أَمَّا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْعُلُومِ فَلَا.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عَلَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ لَهُ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّهُ أَظْهَرَ التَّوَاضُعَ لَهُ حَيْثُ قَالَ: لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ
481
كان فوق موسى، ومن لَا يَكُونُ فَوْقَ النَّبِيِّ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ النَّبِيِّ فَوْقَ النَّبِيِّ فِي عُلُومٍ لَا تَتَوَقَّفُ نُبُوَّتُهُ عَلَيْهَا. فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ قَالُوا لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ. قُلْنَا فَإِرْسَالُ مُوسَى إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْهُ بَعْدَ إِنْزَالِ اللَّهِ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ وَتَكْلِيمِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ التَّنْفِيرَ فَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرُوهُ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْأَصَمُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي وَمَعْنَاهُ فَعَلْتُهُ بِوَحْيِ اللَّهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ. وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: مَا
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ عَرَّفَكَ هَذَا؟ قَالَ: الَّذِي بَعَثَكَ إِلَيَّ.
قَالُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ وَالْوَحْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ النُّبُوَّةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ وَالْإِلْهَامَاتِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ هُوَ الْخَضِرُ، وَقَالُوا إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْخَضِرِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقِفُ مَوْقِفًا إِلَّا اخْضَرَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَدْ ظَهَرَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ الْخَضِرَ إِنَّمَا بُعِثَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَإِنَّ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ هُوَ الْخَضِرُ. وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ هُوَ الْخَضِرُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ مُوسَى صَاحِبِ التَّوْرَاةِ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَرَفَّعُ عَلَى مُوسَى، وَكَانَ مُوسَى يُظْهِرُ التَّوَاضُعَ لَهُ إِلَّا أَنَّ كَوْنَ الْخَضِرِ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ مُوسَى غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْخَضِرَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مَا كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [فَقَدْ] كَانَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قال لفرعون: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: ١٧] وَالْأُمَّةُ لَا تَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنَ النَّبِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ مُوسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٧] وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ تُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى هَذَا غَيْرُ مُوسَى صَاحِبِ التَّوْرَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ حَصَلَتْ عِنْدَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالصُّوفِيَّةُ سَمَّوُا الْعُلُومَ الْحَاصِلَةَ بِطَرِيقِ الْمُكَاشَفَاتِ الْعُلُومَ اللَّدُنِّيَّةَ، وَلِلشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ رِسَالَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَأَقُولُ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: / إِذَا أَدْرَكْنَا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ وَتَصَوَّرْنَا حَقِيقَةً مِنَ الْحَقَائِقِ فَإِمَّا أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ وَهُوَ التَّصْدِيقُ أَوْ لَا نَحْكُمَ وَهُوَ التَّصَوُّرُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا حَاصِلًا مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا، أَمَّا الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ فَهِيَ تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ، مِثْلُ تَصَوُّرِنَا الْأَلَمَ وَاللَّذَّةَ، وَالْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَمِثْلُ تَصْدِيقِنَا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وَأَمَّا الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ حَاصِلَةً فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ ابْتِدَاءً بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اكْتِسَابِ تِلْكَ الْعُلُومِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ تَرَكُّبَ تِلْكَ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِتَرَكُّبِهَا إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمَجْهُولَاتِ. وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجُهْدِ وَالطَّلَبِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَسْعَى الْإِنْسَانُ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ فِي أَنْ تَصِيرَ
482
الْقُوَى الْحِسِّيَّةُ وَالْخَيَالِيَّةُ ضَعِيفَةً فَإِذَا ضَعُفَتْ قَوِيَتِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَأَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةُ فِي جَوْهَرِ الْعَقْلِ، وَحَصَلَتِ الْمَعَارِفُ وَكَمُلَتِ الْعُلُومُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ سَعْيٍ وَطَلَبٍ فِي التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: جَوَاهِرُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ النَّفْسُ نَفْسًا مُشْرِقَةً نُورَانِيَّةً إِلَهِيَّةً عُلْوِيَّةً قَلِيلَةَ التَّعَلُّقِ بِالْجَوَاذِبِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّوَازِعِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَبَدًا شَدِيدَةَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ الْجَلَايَا الْقُدُسِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا جَرَمَ فَاضَتْ عَلَيْهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ تِلْكَ الْأَنْوَارُ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي مَا بَلَغَتْ فِي صَفَاءِ الْجَوْهَرِ وَإِشْرَاقِ الْعُنْصُرِ فَهِيَ النَّفْسُ النَّاقِصَةُ الْبَلِيدَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُهَا تَحْصِيلُ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ إِلَّا بِمُتَوَسِّطٍ بَشَرِيٍّ يُحْتَالُ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي كَالشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَضْوَاءِ الْجُزْئِيَّةِ وَكَالْبَحْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَدَاوِلِ الْجُزْئِيَّةِ وَكَالرُّوحِ الْأَعْظَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْجُزْئِيَّةِ. فَهَذَا تَنْبِيهٌ قَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ، وَوَرَاءَهُ أَسْرَارٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ رَشَدًا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِضَمِّ الرَّاءِ وَالشِّينِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَسْكِينِ الشِّينِ قَالَ الْقَفَّالُ وَهِيَ لُغَاتٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ يُقَالُ رُشْدٌ وَرَشَدٌ مِثْلَ نُكْرٌ وَنَكْرٌ «١» كَمَا يُقَالُ سُقْمٌ وَسَقَمٌ وَشُغْلٌ وَشَغْلٌ وَبُخْلٌ وَبَخَلٌ وَعُدْمٌ وَعَدَمٌ وَقَوْلُهُ رُشْداً أَيْ عِلْمًا ذَا رُشْدٍ قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ: رُشْداً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ رَاجِعًا إِلَى الْخَضِرِ أَيْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَأَرْشَدَكَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي وَتُرْشِدَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاعَى أَنْوَاعًا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الْخَضِرِ. فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ تَبَعًا لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ. وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ هَلْ تَأْذَنُ لِي أَنْ أجعل نفسي تبعا لك وهذا مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي التَّوَاضُعِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ وَهَذَا إِقْرَارٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجَهْلِ وَعَلَى أستاذه بالعلم. ورابعها: أنه قال:
مِمَّا عُلِّمْتَ وَصِيغَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَطَلَبَ مِنْهُ تَعْلِيمَ بَعْضِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا أَيْضًا مُشْعِرٌ بِالتَّوَاضُعِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَنِي مُسَاوِيًا فِي الْعِلْمِ لَكَ، بَلْ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تُعْطِيَنِي جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الْفَقِيرُ مِنَ الْغَنِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ مَالِهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا عُلِّمْتَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ ذَلِكَ الْعِلْمَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: رُشْداً طَلَبٌ مِنْهُ لِلْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَحَصَلَتِ الْغَوَايَةُ والضلال. وسابعها: أن قوله: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُ اللَّهُ بِهِ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ إِنْعَامُكَ عَلَيَّ عِنْدَ هَذَا التَّعْلِيمِ شَبِيهًا بِإِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكَ فِي هذا التعليم وَلِهَذَا الْمَعْنَى قِيلَ أَنَا عَبْدُ مَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْمُتَابَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ فِعْلًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَالْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَنَا كَانُوا يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَلَا يَجِبُ كَوْنُنَا مُتَّبِعِينَ لَهُمْ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لِأَنَّا لَا نَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَالُوهَا بَلْ إِنَّمَا نَقُولُهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُهَا، أَمَّا إِذَا أَتَيْنَا بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَا لِأَجْلِ أَنَّهُ
(١) لعل الصواب: مثل شكر شكر.
483
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِهَا لَا جَرَمَ كُنَّا مُتَابِعِينَ فِي فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: هَلْ أَتَّبِعُكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِ أَفْعَالِ ذَلِكَ الْأُسْتَاذِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ الْأُسْتَاذِ آتِيًا بِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ التَّسْلِيمُ وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَتَّبِعُكَ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ مُتَابَعَتِهِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ الْخَضِرَ عَرَفَ أَوَّلًا أَنَّهُ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ هُوَ مُوسَى صَاحِبُ التَّوْرَاةِ وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَخَصَّهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ الرَّفِيعَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ أَتَى بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْكَثِيرَةِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ آتِيًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ إِحَاطَتُهُ بِالْعُلُومِ أَكْثَرَ كَانَ عِلْمُهُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ أَكْثَرَ فَكَانَ طَلَبُهُ لَهَا أَشَدَّ وَكَانَ تَعْظِيمُهُ لِأَرْبَابِ الْعِلْمِ أَكْمَلَ وَأَشَدَّ. وَالْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فَأَثْبَتَ كَوْنَهُ تَبَعًا لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ طَلَبَ ثَانِيًا أَنْ يُعَلِّمَهُ وَهَذَا مِنْهُ ابْتِدَاءٌ بِالْخِدْمَةِ ثُمَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ طَلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمَ. وَالثَّانِي عَشَرَ:
أَنَّهُ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى تِلْكَ الْمُتَابَعَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ شيئا كان قَالَ لَا أَطْلُبُ مِنْكَ عَلَى هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَلَا غَرَضَ لِي إِلَّا طَلَبُ الْعِلْمِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى/ حَكَى عَنِ الْخَضِرِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ عَلَى قِسْمَيْنِ مُتَعَلِّمٌ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ وَلَمْ يُمَارِسِ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَلَمْ يَتَعَوَّدِ التَّقْرِيرَ وَالِاعْتِرَاضَ، وَمُتَعَلِّمٌ حَصَّلَ الْعُلُومَ الْكَثِيرَةَ وَمَارَسَ الِاسْتِدْلَالَ وَالِاعْتِرَاضَ. ثُمَّ إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُخَالِطَ إِنْسَانًا أَكْمَلَ مِنْهُ لِيَبْلُغَ دَرَجَةَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَالتَّعَلُّمُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي شَاقٌّ شَدِيدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى شَيْئًا أَوْ سَمِعَ كَلَامًا فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ مُنْكَرًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ حَقًّا صَوَابًا، فَهَذَا الْمُتَعَلِّمُ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَلِفَ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَتَعَوَّدَ الْكَلَامَ وَالْجِدَالَ يَغْتَرُّ ظَاهِرُهُ وَلِأَجْلِ عَدَمِ كَمَالِهِ لَا يَقِفُ عَلَى سِرِّهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُقْدِمُ عَلَى النِّزَاعِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْمُجَادَلَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَثْقُلُ سَمَاعُهُ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْكَامِلِ الْمُتَبَحِّرِ فَإِذَا اتَّفَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً حَصَلَتِ النَّفْرَةُ التَّامَّةُ وَالْكَرَاهَةُ الشَّدِيدَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَضِرُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَلِفَ الْكَلَامَ وَتَعَوَّدَ الْإِثْبَاتَ وَالْإِبْطَالَ وَالِاسْتِدْلَالَ وَالِاعْتِرَاضَ، وَقَوْلِهِ:
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْأَمْرَانِ صَعُبَ السُّكُوتُ وَعَسُرَ التَّعْلِيمُ وَانْتَهَى الْأَمْرُ بِالْآخِرَةِ «١» إِلَى النَّفْرَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَحُصُولِ التَّقَاطُعِ وَالتَّنَافُرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَحْصُلُ قَبْلَ الْفِعْلِ. قَالُوا: لَوْ كَانَتِ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الْفِعْلِ حَاصِلَةً قَبْلَ حُصُولِ الْفِعْلِ لَكَانَتِ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الصَّبْرِ حَاصِلَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ حُصُولِ الصَّبْرِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَصِيرَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً كَذِبًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تُوجَدُ قَبْلَ الْفِعْلِ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ لَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُهُ، يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: إِنَّ فُلَانًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرَى فَلَانًا وَ [لَا] أَنْ يُجَالِسَهُ إِذَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أَيْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الِاسْتِمَاعُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا عُدُولٌ عَنِ
(١) الصواب بآخرة، يعني نهاية الأمر وعاقبته. [.....]
484
الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَقُولُ مِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً اسْتَبْعَدَ حُصُولَ الصَّبْرِ عَلَى مَا لَمْ يَقِفِ الْإِنْسَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَكَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْعِلْمِ حَاصِلَةً قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ حُصُولُ الصَّبْرِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْعِلْمِ مُسْتَبْعَدًا لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْفِعْلِ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ بِاسْتِبْعَادِهِ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَحْصُلُ قَبْلَ الْفِعْلِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ اللَّهِ الْأَنْبِيَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَقَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي/ لَكَ أَمْراً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يُكَذِّبُ الْآخَرَ فَيَلْزَمُ إِلْحَاقُ الْكَذِبِ بِأَحَدِهِمَا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ صُدُورُ الْكَذِبِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْجَوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظَةُ إِنْ كَانَ كَذَا تُفِيدُ الشَّكَّ فَقَوْلُهُ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً مَعْنَاهُ سَتَجِدُنِي صَابِرًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَوْنِي صَابِرًا، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الشَّكِّ فِي أَنَّ اللَّهَ هَلْ يُرِيدُ كَوْنَهُ صَابِرًا أَمْ لَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّبْرَ فِي مَقَامِ التَّوَقُّفِ وَاجِبٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ لَا يُرِيدُ مِنَ الْعَبْدِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ إِنَّمَا تُذْكَرُ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ فِيمَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْأَدَبُ إِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ فَسَدَ فَأَيُّ أَدَبٍ فِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الْبَاطِلِ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ لِأَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَاصٍ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعَاصِي يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنِّ: ٢٣] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْوُجُوبَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُ الْخَضِرِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نِسْبَةٌ إِلَى قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، وَقَوْلُ مُوسَى لَهُ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً تَوَاضُعٌ شَدِيدٌ وَإِظْهَارٌ لِلتَّحَمُّلِ التَّامِّ وَالتَّوَاضُعِ الشَّدِيدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ إِظْهَارُ التَّوَاضُعِ بِأَقْصَى الْغَايَاتِ، وَأَمَّا الْمُعَلِّمُ فَإِنْ رَأَى أَنَّ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ مَا يُفِيدُهُ نَفْعًا وَإِرْشَادًا إِلَى الْخَيْرِ. فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ يُوقِعُ الْمُتَعَلِّمَ فِي الْغُرُورِ وَالنَّخْوَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّعَلُّمِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أَيْ لَا تَسْتَخْبِرْنِي عَمَّا تَرَاهُ مِنِّي مِمَّا لَا تَعْلَمُ وَجْهَهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْمُبْتَدِئَ لِتَعْلِيمِكَ إِيَّاهُ وَإِخْبَارِكِ بِهِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَلَا تَسْأَلَنِّ مُحَرَّكَةَ اللَّامِ مُشَدَّدَةَ النُّونِ بِغَيْرِ يَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ لَا تَسْأَلَنِّي مُثَقَّلَةً مَعَ الْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَفِي قِرَاءَةِ الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى وَذَلِكَ الْعَالِمَ لَمَّا تَشَارَطَا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَسَارَا فَانْتَهَيَا إِلَى مَوْضِعٍ احْتَاجَا فِيهِ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فَرَكِبَاهَا وَأَقْدَمَ ذَلِكَ الْعَالِمُ عَلَى خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَأَقُولُ لَعَلَّهُ أَقْدَمَ عَلَى خَرْقِ جِدَارِ السَّفِينَةِ لِتَصِيرَ السَّفِينَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَرْقِ مَعِيبَةً ظَاهِرَةَ الْعَيْبِ فَلَا يَتَسَارَعُ الْغَرَقُ إِلَى أَهْلِهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَهُ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: لِيَغْرَقَ أَهْلُهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى إِسْنَادِ الْغَرَقِ إِلَى الْأَهْلِ وَالْبَاقُونَ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا عَلَى الْخِطَابِ، وَالتَّقْدِيرُ لِتُغْرِقَ أَنْتَ أَهْلَ هَذِهِ السَّفِينَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا شَاهَدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُنْكَرَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ نَسِيَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مَا قَالَ، وَاحْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها فَإِنْ صَدَقَ مُوسَى فِي هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَإِنْ كَذَبَ دَلَّ عَلَى صُدُورِ الْكَذِبِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ. وَجَرَتِ الْعُهُودُ الْمُؤَكِّدَةُ لِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَالَفَ تِلْكَ الْعُهُودَ وَذَلِكَ ذَنْبٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ الْأَمْرَ الْخَارِجَ عَنِ الْعَادَةِ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ قَبِيحًا، بَلْ لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَقِفَ عَلَى وَجْهِهِ وَسَبَبِهِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ إِنَّهُ إِمْرٌ يُقَالُ أَمِرَ الْأَمْرُ إِذَا عَظُمَ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
دَاهِيَةً دَهْيَاءَ وَعَلَى الثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ بِنَاءً عَلَى النِّسْيَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْعَالِمِ أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشَّرْطَ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فَعِنْدَ هَذَا اعْتَذَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أَرَادَ أَنَّهُ نَسِيَ وَصِيَّتَهُ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى النَّاسِي بِشَيْءٍ: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً يُقَالُ: رَهَقَهُ إِذَا غَشِيَهُ وَأَرْهَقَهُ إِيَّاهُ أَيْ وَلَا تُغْشِنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، وَهُوَ اتِّبَاعُهُ إِيَّاهُ يَعْنِي وَلَا تُعَسِّرْ عَلَيَّ مُتَابَعَتَكَ وَيَسِّرْهَا عَلَيَّ بِالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ المناقشة، وقرئ: عُسْراً بضمتين.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦)
اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْغُلَامِ قَدْ يَتَنَاوَلُ الشَّابَّ الْبَالِغَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ رَأْيُ الشَّيْخِ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِ جَعَلَ الشَّيْخَ نَقِيضًا لِلْغُلَامِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغُلَامَ هُوَ الشَّابُّ وَأَصْلُهُ مِنَ الِاغْتِلَامِ وَهُوَ شِدَّةُ الشَّبَقِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشَّبَابِ، وَأَمَّا تَنَاوُلُ هَذَا اللَّفْظِ لِلصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فَظَاهِرٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَيْفَ لَقِيَاهُ هَلْ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ جَمْعٍ مِنَ الْغِلْمَانِ الصِّبْيَانِ أَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا؟ وَهَلْ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَانَ كَافِرًا؟ وَهَلْ كَانَ مُنْعَزِلًا؟ وَهَلْ كَانَ بَالِغًا أَوْ كَانَ صَغِيرًا؟
وَكَانَ اسْمُ الْغُلَامِ بِالصَّغِيرِ أَلْيَقَ وَإِنِ احْتَمَلَ الْكَبِيرَ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: بِغَيْرِ نَفْسٍ أَلْيَقُ بِالْبَالِغِ مِنْهُ بِالصَّبِيِّ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُقْتَلُ وَإِنْ قَتَلَ، وَأَيْضًا فَهَلْ قَتَلَهُ بِأَنْ حَزَّ رَأْسَهُ أَوْ بِأَنْ ضَرَبَ رَأْسَهُ بِالْجِدَارِ أَوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ فَلَيْسَ فِي لفظ القرآن
مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو زَاكِيَةً بِالْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ زَكِيَّةً بِغَيْرِ أَلِفٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: الزَّاكِيَةُ وَالزَّكِيَّةُ لُغَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا الطَّاهِرَةُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الزَّاكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُذْنِبُ وَالزَّكِيَّةُ الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ إِلَّا لِأَجْلِ الْقِصَاصِ بِالنَّفْسِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ دَمُهُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ السَّبَبَ الْأَقْوَى هُوَ ذَلِكَ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: النُّكْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْإِمْرِ فِي الْقُبْحِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَتْلَ الْغُلَامِ أَقْبَحُ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ إِتْلَافًا لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ لا يحصل الغرق، أما هاهنا حَصَلَ الْإِتْلَافُ قَطْعًا فَكَانَ أَنْكَرَ وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أَيْ عَجَبًا وَالنُّكْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَجَبِ وَقِيلَ النُّكْرُ مَا أَنْكَرَتْهُ الْعُقُولُ وَنَفَرَتْ عَنْهُ النُّفُوسُ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَقْبِيحِ الشَّيْءِ مِنَ الْإِمْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِمْرُ أَعْظَمُ. قَالَ: لِأَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذ الْقَتْلُ لَيْسَ إِلَّا إِتْلَافَ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَأَيْضًا الْإِمْرُ هُوَ الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النُّكْرِ وَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْعَالِمِ أَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَنْ ذَكَّرَهُ مَا عَاهَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَهَذَا عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَّا أَنَّهُ زَادَ هاهنا لَفْظَةَ لَكَ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُؤَكِّدُ التَّوْبِيخَ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ مُوسَى: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي مَعَ الْعِلْمِ بِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ وَهَذَا كَلَامُ نَادِمٍ شَدِيدِ النَّدَامَةِ ثُمَّ قَالَ: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمْدَحُهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ حَيْثُ احْتَمَلَهُ مَرَّتَيْنِ أَوَّلًا وَثَانِيًا، مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ وَبَقِيَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ. الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ وَقَالُونُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ نُكُرًا بِضَمِّ الْكَافِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ سَاكِنَةَ الْكَافِ حَيْثُ كَانَ وَهُمَا لغتان. الثاني: الكل قرءوا: فَلا تُصاحِبْنِي بِالْأَلِفِ إِلَّا يَعْقُوبَ فَإِنَّهُ قَرَأَ: (لَا تَصْحَبْنِي) مِنْ صَحِبَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ/ الثَّالِثُ: فِي لَدُنِّي قراءات. الأولى: قراءة نافع وأبي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَاصِمٍ: مِنْ لَدُنِي بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَضَمِّ الدَّالِ. الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: لَدُنِّي مُشَدَّدَةَ النُّونِ وَضَمَّ الدَّالِ. الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بالإشمام وغير إشباع. الرابعة:
لَدُنِّي بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَاصِمٍ وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا لُغَاتٌ في هذه اللفظة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
اعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الْقَرْيَةَ هِيَ أَنْطَاكِيَّةُ وقيل هي الأيلة وهاهنا سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: إِنَّ الِاسْتِطْعَامَ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْكِرَامِ فَكَيْفَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ مُوسَى وَذَلِكَ الْعَالِمُ لِأَنَّ مُوسَى كَانَ مِنْ عَادَتِهِ عَرْضُ الْحَاجَةِ وَطَلَبُ الطَّعَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عِنْدَ وُرُودِ مَاءِ مَدْيَنَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: ٢٤]. الْجَوَابُ: أَنَّ إِقْدَامَ الْجَائِعِ عَلَى الِاسْتِطْعَامِ أَمْرٌ مُبَاحٌ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ بَلْ رُبَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ عِنْدَ خَوْفِ الضَّرَرِ الشَّدِيدِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ
487
يُقَالَ اسْتَطْعَمَا مِنْهُمْ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّكْرِيرَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعِبُ دَائِمًا كَانَ الْغُرَابُ مُقَطَّعَ الْأَوْدَاجِ
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنَّ الضِّيَافَةَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ فَتَرْكُهَا تَرْكٌ لِلْمَنْدُوبِ وَذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عُلُوِّ مَنْصِبِهِ أَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهِمُ الْغَضَبَ الشَّدِيدَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ الْعَهْدَ الَّذِي الْتَزَمَهُ مَعَ ذَلِكَ الْعَالِمِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي وَأَيْضًا مِثْلُ هَذَا الْغَضَبِ لِأَجْلِ تَرْكِ الْأَكْلِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَلِيقُ بِأَدْوَنِ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ كَلِيمِ اللَّهِ. الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ الضِّيَافَةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ قُلْنَا: قَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ بِأَنْ كَانَ الضَّيْفُ قَدْ بَلَغَ فِي الْجُوعِ إِلَى حَيْثُ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ لَهَلَكَ وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَكُنِ الْغَضَبُ الشَّدِيدُ لِأَجْلِ تَرْكِ الْأَكْلِ يَوْمًا، فَإِنْ قَالُوا: مَا بَلَغَ فِي الْجُوعِ إِلَى حَدِّ الْهَلَاكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ/ أَجْراً وَكَانَ يَطْلُبُ عَلَى إِصْلَاحِ ذَلِكَ الْجِدَارِ أُجْرَةً، وَلَوْ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الْجُوعِ إِلَى حَدِّ الْهَلَاكِ لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ طَلَبُ الْأُجْرَةِ قُلْنَا لَعَلَّ ذَلِكَ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدًا إِلَّا أَنَّهُ مَا بَلَغَ حَدَّ الْهَلَاكِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: يُضَيِّفُوهُمَا يُقَالُ ضَافَهُ إِذَا كَانَ لَهُ ضَيْفًا، وَحَقِيقَتُهُ مَالَ إِلَيْهِ مِنْ ضَافَ السَّهْمُ عَنِ الْغَرَضِ.
وَنَظِيرُهُ: زَارَهُ مِنَ الِازْوِرَارِ، وَأَضَافَهُ وَضَيَّفَهُ أَنْزَلَهُ، وَجَعَلَهُ ضَيْفَهُ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: رَأَيْتُ
فِي كُتُبِ الْحِكَايَاتِ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ لَمَّا سَمِعُوا نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتَحْيَوْا وَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْلٍ مِنَ الذَّهَبِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشْتَرِي بِهَذَا الذَّهَبِ أَنْ تَجْعَلَ الباء تاءا حَتَّى تَصِيرَ الْقِرَاءَةُ هَكَذَا: فَأَتَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا.
أَيْ أَتَوْا لِأَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، أَيْ كَانَ إِتْيَانُ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ إِلَيْهِمَا لِأَجْلِ الضِّيَافَةِ،
وَقَالُوا: غَرَضُنَا مِنْهُ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنَّا هَذَا اللُّؤْمُ فَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّ تَغْيِيرَ هَذِهِ النُّقْطَةِ يُوجِبُ دُخُولَ الْكَذِبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ،
وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الْإِلَهِيَّةِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ تَغْيِيرَ النُّقْطَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْقُرْآنِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ أَيْ فَرَأَيَا فِي الْقَرْيَةِ حَائِطًا مَائِلًا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ الْجِدَارِ بِالْإِرَادَةِ مَعَ أَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَحْيَاءِ قُلْنَا هَذَا اللَّفْظُ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الشِّعْرِ قَالَ:
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عَقِيلٍ
وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
إِنْ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بَجَمْعَلٍ لَزَمَانٌ يَهُمُّ بِالْإِحْسَانِ
وَقَالَ الرَّاعِي:
فِي مهمة فلقت به هاماتها فلق الفؤوس إِذَا أَرَدْنَ نُصُولًا
وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَقَوْلُهُ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وَقَوْلُهُ: أَنْ يَنْقَضَّ يُقَالُ انْقَضَّ إِذَا أَسْرَعَ سُقُوطُهُ مِنَ انْقِضَاضِ الطَّائِرِ وَهُوَ انْفَعَلَ مُطَاوِعُ قَضَضْتُهُ. وَقِيلَ: انْقَضَّ فِعْلٌ مِنَ النَّقْضِ كَاحْمَرَّ مِنَ الْحُمْرَةِ، وَقُرِئَ أَنْ يُنْقَضَ مِنَ النَّقْضِ، وَأَنْ يَنْقَاضَّ مَنِ انْقَاضَّتِ الْعَيْنُ إِذَا انْشَقَّتْ طُولًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَأَقامَهُ قِيلَ نَقَضَهُ ثُمَّ بَنَاهُ، وَقِيلَ: أَقَامَهُ بِيَدِهِ، وَقِيلَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ فَقَامَ وَاسْتَوَى وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ. وَكَانَتِ الْحَالَةُ حَالَةَ اضْطِرَارٍ
488
وَافْتِقَارٍ إِلَى الطَّعَامِ فَلِأَجْلِ تِلْكَ الضَّرُورَةِ نَسِيَ مُوسَى مَا قَالَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَلَا جَرَمَ قَالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ طَلَبْتَ عَلَى عَمَلِكَ أُجْرَةً تَصْرِفُهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَطْعُومِ وَتَحْصِيلِ سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ، وَقُرِئَ: لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً والتاء في تخذ أَصْلٌ كَمَا فِي تَبِعَ، وَاتَّخَذَ/ افْتَعَلَ مِنْهُ كَقَوْلِنَا اتَّبَعْ مِنْ قَوْلِنَا تَبِعَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قال العالم: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وهاهنا سؤالات. السؤال الأول: قوله: هذا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ شَرَطَ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالًا آخَرَ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ حَيْثُ قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا السُّؤَالَ فَارَقَهُ ذَلِكَ الْعَالِمُ وَقَالَ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أَيْ هَذَا الْفِرَاقُ الْمَوْعُودُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَيْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ هُوَ سَبَبُ الْفِرَاقِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ هَذَا فِرَاقٌ حَصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الظَّرْفِ، حَكَى الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْبَيْنَ هُوَ الْوَصْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فَكَانَ الْمَعْنَى هَذَا فِرَاقُ بَيْنِنَا، أَيِ اتِّصَالُنَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَخْزَى اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنِّي وَمِنْكَ، أَيْ أَحَدَنَا هَكَذَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، ثُمَّ قَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَيْ سَأُخْبِرُكَ بِحِكْمَةِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، وَأَصْلُ التَّأْوِيلِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِمْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ إِلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَا تَأْوِيلُهُ فَالْمَعْنَى مَا مَصِيرُهُ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ»
وَهَذَا الْعَالِمُ مَا كَانَتْ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ بَلْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَفِي أَرْوَاحِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُبِيحُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ لِأَنَّ تَخْرِيقَ السَّفِينَةِ تَنْقِيصٌ لِمِلْكِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَقَتْلَ الْغُلَامِ تَفْوِيتٌ لِنَفْسٍ مَعْصُومَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَالْإِقْدَامَ عَلَى إِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ تَحَمُّلُ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ حُكْمُ ذَلِكَ العالم فيها مبنيا عن الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الْمَعْلُومَةِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلَى أَسْبَابٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ قَدْ آتَاهُ اللَّهُ قُوَّةً عَقْلِيَّةً قَدَرَ بِهَا
489
أَنْ يُشْرِفَ عَلَى بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَيَطَّلِعَ بِهَا عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ مَرْتَبَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ بِنَاءَ الْأَمْرِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَهَذَا الْعَالِمُ كَانَتْ مَرْتَبَتُهُ الْوُقُوفَ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهَا الْكَامِنَةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعِلْمِ كَانَتْ فَوْقَ مَرْتَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَسَائِلُ الثَّلَاثَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الضَّرَرَيْنِ يَجِبُ تَحَمُّلُ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَعْلَى، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ.
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعِبْ تِلْكَ السَّفِينَةَ بِالتَّخْرِيقِ لَغَصَبَهَا ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَفَاتَتْ مَنَافِعُهَا عَنْ مُلَّاكِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَنْ يَخْرِقَهَا وَيَعِيبَهَا فَتَبْقَى مَعَ ذَلِكَ عَلَى مُلَّاكِهَا، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَخْرِقَهَا فَيَغْصِبَهَا الْمَلِكُ فَتَفُوتَ مَنَافِعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مُلَّاكِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّرَرَ الْأَوَّلَ أَقَلُّ فَوَجَبَ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَعْظَمُهُمَا.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَكَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ الْغُلَامِ حَيًّا كَانَ مَفْسَدَةً لِلْوَالِدَيْنِ فِي دِينِهِمْ وَفِي دُنْيَاهُمْ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَنَّ الْمَضَارَّ النَّاشِئَةَ مِنْ قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ أَقَلُّ مِنَ الْمَضَارِّ النَّاشِئَةِ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ لِلْأَبَوَيْنِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِهِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى إِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ ضَرَرُهَا أَقَلُّ مِنْ سُقُوطِهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَضَاعَ مَالُ تِلْكَ الْأَيْتَامِ. وَفِيهِ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْوُقُوفِ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَبِالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا كَانَ كَذَلِكَ بَلْ كَانَتْ أَحْكَامُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ فَلَا جَرَمَ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْعِلْمَ فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ/ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ عِلْمًا يُمْكِنُ لَهُ تَعَلُّمُهُ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثَةُ عُلُومٌ لَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا وَإِظْهَارِهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَةِ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِنَاءً عَلَى تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَتَجْرِيدِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِلْمِ ذَلِكَ الْعَالِمِ: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: ٦٥]، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَمُلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْعَالِمِ لِيَعْلَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ كَمَالَ الدَّرَجَةِ فِي أَنْ يَنْتَقِلَ الْإِنْسَانُ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ إِلَى عُلُومِ الْبَاطِنِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْبَوَاطِنِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ أَجَابَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَفِيهِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ تِلْكَ السَّفِينَةَ كَانَتْ لِأَقْوَامٍ مُحْتَاجِينَ مُتَعَيِّشِينَ بِهَا فِي الْبَحْرِ وَاللَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ حَالَ الْفَقِيرِ فِي الضُّرِّ وَالْحَاجَةِ أَشَدُّ مِنْ حَالِ الْمِسْكِينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْلِكُونَ تِلْكَ السَّفِينَةَ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُرَادَ ذَلِكَ الْعَالِمِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودِي مِنْ تَخْرِيقِ تِلْكَ السَّفِينَةِ تَغْرِيقَ أَهْلِهَا بَلْ مَقْصُودِي أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ الظَّالِمَ كَانَ يَغْصِبُ السُّفُنَ الْخَالِيَةَ عن العيوب
490
فَجَعَلْتُ هَذِهِ السَّفِينَةَ مَعِيبَةً لِئَلَّا يَغْصِبَهَا ذَلِكَ الظَّالِمُ فَإِنَّ ضَرَرَ هَذَا التَّخْرِيقِ أَسْهَلُ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ ذَلِكَ الْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ، قُلْنَا هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَإِنَّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ وَيَأْخُذُونَ جَمِيعَ مِلْكِ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ دَفَعْنَا إِلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ بَعْضَ ذَلِكَ الْمَالِ سَلِمَ الْبَاقِي فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مِنَّا أَنْ نَدْفَعَ بَعْضَ مَالِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ إِلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ لِيَسْلَمَ الْبَاقِي وَكَانَ هَذَا مِنَّا يُعَدُّ إِحْسَانًا إِلَى ذَلِكَ الْمَالِكِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ ذَلِكَ التَّخْرِيقَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ لَا تَبْطُلُ بِهِ تِلْكَ السَّفِينَةُ بِالْكُلِّيَّةِ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ مِنْ غَصْبِهَا أَبْلَغَ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَخْرِيقِهَا، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ تَخْرِيقُهَا جَائِزًا. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: لَفْظُ الْوَرَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكانَ وَراءَهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ، هَكَذَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الْجَاثِيَةِ: ١٠] أَيْ أَمَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الْإِنْسَانِ: ٢٧] وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ كُلَّ مَا غَابَ عَنْكَ فَقَدْ تَوَارَى عَنْكَ وَأَنْتَ مُتَوَارٍ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ فَهُوَ وَرَاءَكَ وَأَمَامُ الشَّيْءِ وَقُدَّامُهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنْهُ مُتَوَارِيًا عَنْهُ فَلَمْ يَبْعُدْ إِطْلَاقُ لَفْظِ وَرَاءَ عَلَيْهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ كَانَ مِنْ وَرَاءِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْكَبُ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَكَانَ مَرْجِعُ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَتْلُ الْغُلَامِ فَقَدْ أَجَابَ الْعَالِمُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ/ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ كَانَ بَالِغًا وَكَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيُقْدِمُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ، وَكَانَ أَبَوَاهُ يَحْتَاجَانِ إِلَى دَفْعِ شَرِّ النَّاسِ عَنْهُ وَالتَّعَصُّبِ لَهُ وَتَكْذِيبِ مَنْ يَرْمِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَكَانَ يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِمَا فِي الْفِسْقِ.
وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ الْفِسْقُ إِلَى الْكُفْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ صَبِيًّا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ صَارَ بَالِغًا لَحَصَلَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ، وَقَوْلُهُ: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً الْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ قَتْلَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ تَوَلُّدُ مِثْلِ هَذَا الْفَسَادِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ يَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَلَى الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الْكَهْفِ: ٧٣] أَيْ لَا تَحْمِلْنِي عَلَى عُسْرٍ وَضِيقٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَوَيْهِ لِأَجْلِ حُبِّ ذَلِكَ الْوَلَدِ يَحْتَاجَانِ إِلَى الذَّبِّ عَنْهُ، وَرُبَّمَا احْتَاجَا إِلَى مُوَافَقَتِهِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ كَانَ يُعَاشِرُهُمَا مُعَاشَرَةَ الطُّغَاةِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ الْإِنْسَانِ لِمِثْلِ هَذَا الظَّنِّ؟ قُلْنَا: إِذَا تَأَكَّدَ ذَلِكَ الظَّنُّ بِوَحْيِ اللَّهِ جَازَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أَيْ أَرَدْنَا أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَدًا خَيْرًا مِنْ هَذَا الْغُلَامِ زَكَاةً أَيْ دِينًا وَصَلَاحًا، وقيل: إن ذكره الزكاة هاهنا عَلَى مُقَابَلَةِ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف: ٧٤] فَقَالَ الْعَالِمُ: أَرَدْنَا أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْأَبَوَيْنِ خَيْرًا بَدَلًا عَنِ ابْنِهِمَا هَذَا وَلَدًا يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ كَمَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الزَّكَاةِ الطَّهَارَةَ فَكَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا طَاهِرَةً لِأَنَّهَا مَا وَصَلَتْ إِلَى حَدِّ الْبُلُوغِ فَكَانَتْ زَاكِيَةً طَاهِرَةً مِنَ الْمَعَاصِي فَقَالَ الْعَالِمُ: إِنَّ تِلْكَ النَّفْسَ وَإِنْ كَانَتْ زَاكِيَةً طَاهِرَةً فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهَا أَنَّهَا إِذَا بَلَغَتْ أَقْدَمَتْ عَلَى الطُّغْيَانِ وَالْكُفْرِ فَأَرَدْنَا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمَا وَلَدًا أَعْظَمَ زَكَاةً وَطَهَارَةً مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقْدِمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ وَمَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ كَانَ بَالِغًا قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ صِفَةِ نَفْسِهِ بِكَوْنِهَا زَاكِيَةً أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ قَتْلَهُ ثُمَّ قَالَ:
491
وَأَقْرَبَ رُحْماً أَيْ يَكُونُ هَذَا الْبَدَلُ أَقْرَبَ عَطْفًا وَرَحْمَةً بِأَبَوَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ أَبَرَّ بِهِمَا وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمَا وَالرُّحْمُ الرَّحْمَةُ وَالْعَطْفُ. رُوِيَ أَنَّهُ وُلِدَتْ لَهُمَا جَارِيَةٌ تَزَوَّجَهَا نَبِيٌّ فَوَلَدَتْ نَبِيًّا هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أُمَّةً عَظِيمَةً.
بَقِيَ مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعَانِ فِي الْقِرَاءَةِ. الْأَوَّلُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو يُبَدِّلَهُمَا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَكَذَلِكَ فِي التَّحْرِيمِ: أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً وَفِي الْقَلَمِ: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا وَالْبَاقُونَ سَاكِنَةَ الْبَاءِ خَفِيفَةَ الدَّالِ وَهُمَا لُغَتَانِ أَبْدَلَ يُبْدِلُ وَبَدَّلَ يُبَدِّلُ. الثَّانِي: قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو رُحُمًا بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ نُكْرٍ وَنُكُرٍ وَشُغْلٍ وَشُغُلٍ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ إِقَامَةُ الْجِدَارِ فَقَدْ أَجَابَ الْعَالِمُ عَنْهَا بِأَنَّ الدَّاعِيَ لَهُ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَانَ تَحْتَ ذَلِكَ الْجِدَارِ كَنْزٌ وَكَانَ ذَلِكَ اليتيمين فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْجِدَارُ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ وَلَوْ سَقَطَ لَضَاعَ ذَلِكَ الْكَنْزُ فَأَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الْكَنْزِ عَلَى ذَيْنِكَ الْيَتِيمَيْنِ/ رِعَايَةً لِحَقِّهِمَا وَرِعَايَةً لَحِقِّ صَلَاحِ أَبِيهِمَا فَأَمَرَنِي بِإِقَامَةِ ذَلِكَ الْجِدَارِ رِعَايَةً لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ، وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ قَرْيَةً حَيْثُ قَالَ: إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ وَسَمَّاهُ أَيْضًا مَدِينَةً حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكَنْزِ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَالًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْكَنْزِ هُوَ الْمَالُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكَنْزَ هُوَ الْمَالُ وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عِلْمًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يَكُونُ كَنْزُهُ الْعِلْمَ لَا الْمَالَ إِذْ كَنْزُ الْمَالِ لَا يَلِيقُ بِالصَّلَاحِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: ٣٤] وقيل: كان لوحا من ذهب مكتوب فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفُلُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الْآبَاءِ يُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِأَحْوَالِ الْأَبْنَاءِ
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَانَ بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ وَبَيْنَ الْأَبِ الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الْخَوَارِجِ فِي كَلَامٍ جَرَى بَيْنَهُمَا: بِمَ حَفِظَ اللَّهُ مَالَ الْغُلَامَيْنِ؟ قَالَ: بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا قَالَ فَأَبِي وَجَدِّي خَيْرٌ مِنْهُ؟ قَالَ: قَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ أَنَّكُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ الْأَبَ الصَّالِحَ كَانَ النَّاسُ يَضَعُونَ الْوَدَائِعَ إِلَيْهِ فَيَرُدُّهَا إِلَيْهِمْ بِالسَّلَامَةِ، فَإِنْ قِيلَ:
الْيَتِيمَانِ هَلْ عَرَفَ أَحَدٌ مِنْهُمَا حُصُولَ الْكَنْزِ تَحْتَ ذَلِكَ الْجِدَارِ أَوْ مَا عَرَفَ أَحَدٌ مِنْهُمَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ امْتَنَعَ أَنْ يَتْرُكُوا سُقُوطَ ذَلِكَ الْجِدَارِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ الْكَنْزِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ؟
الْجَوَابُ: لَعَلَّ الْيَتِيمَيْنِ كَانَا جَاهِلَيْنِ بِهِ إِلَّا أَنَّ وَصِيَّهُمَا كَانَ عَالِمًا بِهِ ثُمَّ [إِنَّ] ذَلِكَ الْوَصِيَّ غَابَ وَأَشْرَفَ ذَلِكَ الْجِدَارُ فِي غَيْبَتِهِ عَلَى السُّقُوطِ وَلَمَّا قَرَّرَ الْعَالِمُ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ قَالَ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يَعْنِي إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذِهِ الْفِعَالَ لِغَرَضِ أَنْ تَظْهَرَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا تَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَحَمُّلُ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَعْلَى كَمَا قَرَّرْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يَعْنِي مَا فَعَلْتُ مَا رَأَيْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَنْ أَمْرِي وَاجْتِهَادِي وَرَأْيِي وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى تَنْقِيصِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالنَّصِّ الْقَاطِعِ بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَقَالَ: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَقَالَ: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما كَيْفَ اخْتَلَفَتِ الْإِضَافَةُ فِي هَذِهِ الْإِرَادَاتِ الثَّلَاثِ وَهِيَ
492
كُلُّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ وَفِعْلٍ وَاحِدٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَيْبَ أَضَافَهُ إِلَى إِرَادَةِ نَفْسِهِ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَلَمَّا ذَكَرَ الْقَتْلَ عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعُظَمَاءِ فِي عُلُومِ الْحِكْمَةِ فَلَمْ يُقْدِمُ عَلَى هَذَا الْقَتْلِ إِلَّا لِحِكْمَةٍ عَالِيَةٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ رِعَايَةَ مَصَالِحِ الْيَتِيمَيْنِ لِأَجْلِ صَلَاحِ أَبِيهِمَا أَضَافَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمُتَكَفِّلَ بِمَصَالِحِ الْأَبْنَاءِ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْآبَاءِ لَيْسَ إلا الله سبحانه وتعالى.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْيَهُودَ أَمَرُوا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ قِصَّةِ ذِي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف: ٨٣] هُوَ ذَلِكَ السُّؤَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ مَنْ هُوَ وَذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِبُوسَ الْيُونَانِيُّ قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ بَلَغَ مُلْكُهُ إِلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الْكَهْفِ: ٨٦] وَأَيْضًا بَلَغَ مُلْكُهُ أَقْصَى الْمَشْرِقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [الْكَهْفِ: ٩٠] وَأَيْضًا بَلَغَ مُلْكُهُ أَقْصَى الشَّمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَوْمٌ مِنَ التُّرْكِ يَسْكُنُونَ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ السَّدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ يُقَالُ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ إِنَّهُ مَبْنِيٌّ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ فَهَذَا الْإِنْسَانُ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ مُلْكَهُ بَلَغَ أَقْصَى المغرب والمشرق وَهَذَا هُوَ تَمَامُ الْقَدْرِ الْمَعْمُورِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَلِكِ الْبَسِيطِ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى ذِكْرُهُ مُخَلَّدًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَأَنْ لَا يَبْقَى مَخْفِيًّا مُسْتَتِرًا، وَالْمَلِكُ الَّذِي اشْتُهِرَ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ أَنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَيْسَ إِلَّا الْإِسْكَنْدَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ جَمَعَ مُلُوكَ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا طَوَائِفَ ثُمَّ جَمَعَ مُلُوكَ الْمَغْرِبِ وَقَهَرَهُمْ وَأَمْعَنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ فَبَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَسَمَّاهَا بِاسْمِ نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ وَقَصَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَرَدَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَذَبَحَ فِي مَذْبَحِهِ ثُمَّ انْعَطَفَ إِلَى أَرْمِينِيَّةَ وَبَابِ الْأَبْوَابِ وَدَانَتْ لَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ. ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ دَارَا بْنِ دَارَا وَهَزَمَهُ مَرَّاتٍ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ صَاحِبُ حَرَسِهِ فَاسْتَوْلَى الْإِسْكَنْدَرُ عَلَى مَمَالِكِ الْفُرْسِ ثُمَّ قَصَدَ الْهِنْدَ وَالصِّينَ وَغَزَا الْأُمَمَ الْبَعِيدَةَ وَرَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ وَبَنَى الْمُدُنَ الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور وَمَاتَ بِهَا. فَلَمَّا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلًا مَلَكَ الْأَرْضَ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا، وَثَبَتَ بِعِلْمِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مَا كَانَ إِلَّا الْإِسْكَنْدَرَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِبُوسَ الْيُونَانِيُّ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا الِاسْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ لِأَجْلِ بُلُوغِهِ قَرْنَيِ الشَّمْسِ أَيْ/ مَطْلَعِهَا وَمَغْرِبِهَا كَمَا لُقِّبَ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَهْمَنَ بِطَوِيلِ الْيَدَيْنِ لِنُفُوذِ أَمْرِهِ حَيْثُ أَرَادَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفُرْسَ قَالُوا: إِنْ دَارَا الْأَكْبَرَ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِابْنَةِ فِيلِبُوسَ فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا وَجَدَ مِنْهَا رَائِحَةً مُنْكَرَةً فَرَدَّهَا عَلَى أَبِيهَا فِيلِبُوسَ وَكَانَتْ قَدْ حَمَلَتْ مِنْهُ
493
بِالْإِسْكَنْدَرِ فَوَلَدَتِ الْإِسْكَنْدَرَ بَعْدَ عَوْدِهَا إِلَى أَبِيهَا فَبَقِيَ الْإِسْكَنْدَرُ عِنْدَ فِيلِبُوسَ وَأَظْهَرَ فِيلِبُوسُ أَنَّهُ ابْنُهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْنُ دَارَا الْأَكْبَرِ قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ لَمَّا أَدْرَكَ دارا ابن دَارَا وَبِهِ رَمَقٌ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ وَقَالَ لِدَارَا: يَا أَبِي أَخْبِرْنِي عَمَّنْ فَعَلَ هَذَا لِأَنْتَقِمَ لَكَ مِنْهُ! فَهَذَا مَا قَالَهُ الْفُرْسُ قَالُوا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِسْكَنْدَرُ أَبُوهُ دَارَا الْأَكْبَرُ وَأُمُّهُ بِنْتُ فِيلِبُوسَ «١» فَهُوَ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنْ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُرْسُ إِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ مِنْ نَسْلِ مُلُوكِ الْعَجَمِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَلِكٌ مِثْلُهُ مِنْ نَسَبٍ غَيْرِ نَسَبِ مُلُوكِ الْعَجَمِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا قَالَ الْإِسْكَنْدَرُ لِدَارَا يَا أَبِي عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَأَكْرَمَ دَارَا بِذَلِكَ الْخِطَابِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو الرَّيْحَانِ الْهَرَوِيُّ «٢» الْمُنَجِّمُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِالْآثَارِ الْبَاقِيَةِ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، قِيلَ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ أَبُو كَرْبٍ شِمْرُ بْنُ عُبَيْرِ بْنِ أَفْرِيقِشَ الْحِمْيَرِيُّ فَإِنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَهُوَ الَّذِي افْتَخَرَ بِهِ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ مِنْ حِمْيَرَ حَيْثُ قَالَ:
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِي مُسْلِمًا مَلِكًا عَلَا فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُفْنِدِي
بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي أَسْبَابَ مُلْكٍ مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدِ
ثُمَّ قَالَ أَبُو الرَّيْحَانِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبَ لِأَنَّ الْأَذْوَاءَ كَانُوا مِنَ الْيَمَنِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا تَخْلُو أساميهم من ذي كذا كَذِي النَّادِي «٣» وَذِي نُوَاسٍ وَذِي النُّونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا مَلَّكَهُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَأَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ وَأَلْبَسَهُ الْهَيْبَةَ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ أَنَّهُ مَنْ هُوَ ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ وجوها: الأول:
سأل ابن الكواء عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقَالَ أَمَلِكٌ هُوَ أَمْ نَبِيٌّ فَقَالَ: لَا مَلِكٌ وَلَا نَبِيٌّ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْمَنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَمَاتَ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْسَرِ فَمَاتَ فَبَعَثَهُ اللَّهُ فَسُمِّيَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَلِكِ مُلْكِهِ.
الثَّانِي: سُمِّيَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ انْقَرَضَ فِي وَقْتِهِ قَرْنَانِ مِنَ النَّاسِ.
الثَّالِثُ: قِيلَ كَانَ صَفْحَتَا رَأْسِهِ مِنْ نُحَاسٍ. الرَّابِعُ: كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مَا يُشْبِهُ الْقَرْنَيْنِ. الْخَامِسُ: [كَانَ] لِتَاجِهِ قَرْنَانِ. السَّادِسُ:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ طَافَ قَرْنَيِ الدُّنْيَا
يَعْنِي شَرْقَهَا وَغَرْبَهَا. السَّابِعُ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ أَيْ ضَفِيرَتَانِ. الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ فَإِذَا سَرَى يَهْدِيهِ النُّورُ مِنْ أَمَامِهِ وَتَمُدُّهُ الظَّلَمَةُ مِنْ وَرَائِهِ. التَّاسِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُلَقَّبَ بِذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ كَمَا يُسَمَّى الشُّجَاعُ كَبْشًا كَأَنَّهُ يَنْطَحُ أَقْرَانَهُ. الْعَاشِرُ: رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ صَعِدَ الْفَلَكَ فَتَعَلَّقَ بِطَرَفَيِ الشَّمْسِ وَقَرْنَيْهَا وَجَانِبَيْهَا فَسُمِّيَ/ لِهَذَا السَّبَبِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ. الْحَادِي عَشَرَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ دَخَلَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ فقال: اللهم اغفر «٤». أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ! فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَلِكِ الْعَظِيمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْحَالِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالَّذِي هُوَ مَعْلُومُ الْحَالِ بِهَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ هُوَ هُوَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا قَوِيًّا وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ تلميذ أرسطاطاليس
(١) رسم في الأصل في كل مرة هكذا (فيلقوس) بالقاف بعدها واو. ورأيته في أخبار الدول للقرماني كذلك، والصواب بالباء لأن القاف لا توجد في لغة اليونان والروم وإذا أعجمت كلمة فيها قاف أبدلتها (كافا).
(٢) أبو الريحان الهروي هو المشهور بالبيروني مؤرخ وفلكي ومنجم وجغرافي محقق.
(٣) لعله ذو المنار.
(٤) الصواب اللهم غفرا.
494
الْحَكِيمِ وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَتَعْظِيمُ اللَّهِ إِيَّاهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَرِسْطَاطَالِيسَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ هَلْ كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْ لَا؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى التَّمْكِينِ فِي الدِّينِ وَالتَّمْكِينُ الْكَامِلُ فِي الدِّينِ هُوَ النُّبُوَّةُ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ النُّبُوَّةُ فَمُقْتَضَى الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ فِي النُّبُوَّةِ سَبَبًا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ مَعَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا وَمَا كَانَ نَبِيًّا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: في دخول السين في قوله: سَأَتْلُوا مَعْنَاهُ إِنِّي سَأَفْعَلُ هَذَا إِنْ وَفَّقَنِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ فِيهِ وَحَيًّا وَأَخْبَرَنِي عَنْ كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْحَالِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ فَهَذَا التَّمْكِينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ الْمُلْكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَلَكَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ أَعْلَى مِنَ التَّمْكِينِ بِسَبَبِ الْمُلْكِ وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ الْأَفْضَلِ أَوْلَى ثُمَّ قَالَ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً قَالُوا: السَّبَبُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَبْلِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْآلَةَ فَقَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً مَعْنَاهُ: أَعْطَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا قَالُوا: مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ النُّبُوَّةُ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُ إِلَى تَحْصِيلِ النُّبُوَّةِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا قَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِصْلَاحِ مُلْكِهِ سَبَبًا، إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ قَالَ: فَأَتْبَعَ سَبَباً وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبَهُ فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَتْبَعَ سَبَبًا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْهُ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَاتَّبَعَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَكَذَلِكَ ثُمَّ اتَّبَعَ أَيْ سَلَكَ وَسَارَ وَالْبَاقُونَ فَأَتْبَعَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ التاء مخففة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٦ الى ٨٨]
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ بُلُوغَ الْمَغْرِبِ فَأَتْبَعَ سَبَبًا يُوصِّلُهُ إِلَيْهِ حَتَّى بَلَغَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ بِالْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ هُمَزَةٍ أَيْ حَارَّةٍ،
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمَلٍ فَرَأَى الشَّمْسَ حِينَ غَابَتْ فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا أَبَا ذَرٍّ أَيْنَ
495
تَغْرُبُ هَذِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَطَلْحَةَ وَابْنِ عَامِرٍ، وَالْبَاقُونَ حَمِئَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ حَامِيَةٍ بِأَلِفٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَمِئَةٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: كَمَا يَقْرَأُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَيْفَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ؟ قَالَ: فِي مَاءٍ وَطِينٍ كَذَلِكَ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْحَمِئَةُ مَا فِيهِ مَاءٌ، وَحَمْأَةٌ سَوْدَاءُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَمِئَةِ وَالْحَامِيَةِ، فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ جَامِعَةً لِلْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ وَأَنَّ السَّمَاءَ مُحِيطَةٌ بِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْفَلَكِ، وَأَيْضًا قَالَ: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُلُوسَ قَوْمٍ فِي قُرْبِ الشَّمْسِ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَأَيْضًا الشَّمْسُ أَكْبَرُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَيْفَ يُعْقَلُ دُخُولُهَا فِي عَيْنٍ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ مَوْضِعَهَا فِي الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِمَارَاتِ وَجَدَ الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ وَهْدَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ رَاكِبَ الْبَحْرِ يَرَى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغِيبُ/ فِي الْبَحْرِ إِذَا لَمْ يَرَ الشَّطَّ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَغِيبُ وَرَاءَ الْبَحْرِ، هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ لِلْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ مَسَاكِنَ يُحِيطُ الْبَحْرُ بِهَا فَالنَّاظِرُ إِلَى الشَّمْسِ يَتَخَيَّلُ كَأَنَّهَا تَغِيبُ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِحَارَ الْغَرْبِيَّةَ قَوِيَّةُ السُّخُونَةِ فَهِيَ حَامِيَةٌ وَهِيَ أَيْضًا حَمِئَةٌ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَمْأَةِ السَّوْدَاءِ وَالْمَاءِ فَقَوْلُهُ: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ مِنَ الْأَرْضِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ الْبَحْرُ وَهُوَ مَوْضِعٌ شَدِيدُ السُّخُونَةِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ الشَّمْسَ تَغِيبُ فِي عَيْنٍ كَثِيرَةِ الْمَاءِ وَالْحَمْأَةِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا رَصَدْنَا كُسُوفًا قَمَرِيًّا فَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُ وَرَأَيْنَا أَنَّ الْمَغْرِبِيِّينَ قَالُوا: حَصَلَ هَذَا الْكُسُوفُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَرَأَيْنَا الْمَشْرِقِيِّينَ قَالُوا: حَصَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ هُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ الثَّانِي عِنْدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بَلْ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ عِنْدَنَا فَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي بَلَدٍ وَوَقْتُ الظُّهْرِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَوَقْتُ الضَّحْوَةِ فِي بَلَدٍ ثَالِثٍ. وَوَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي بَلَدٍ رَابِعٍ، وَنِصْفُ اللَّيْلِ فِي بَلَدٍ خَامِسٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مَعْلُومَةً بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ وَالِاعْتِبَارِ. وَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَانَ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهَا تَغِيبُ فِي الطِّينِ وَالْحَمْأَةِ كَلَامًا عَلَى خِلَافِ الْيَقِينِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُبَرَّأٌ عَنْ هَذِهِ التُّهْمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُصَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذكرناه ثم قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عِنْدَهَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ وَيَكُونُ التَّأْنِيثُ لِلشَّمْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا تَخَيَّلَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ هُنَاكَ كَانَ سُكَّانُ هَذَا الْمَوْضِعِ كَأَنَّهُمْ سَكَنُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّمْسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالتَّأْوِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الأول: أن قوله تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَحُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ خَاطَبَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ عَجِيبَةً، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُنَاكَ مَدِينَةٌ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ لَوْلَا أَصْوَاتُ أَهْلِهَا سَمِعَ النَّاسُ وَجْبَةَ الشَّمْسِ حِينَ تَغِيبُ.
496
البحث الثالث: قوله تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُكَّانَ آخِرِ الْمَغْرِبِ كَانُوا كُفَّارًا فَخَيَّرَ اللَّهُ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِيهِمْ بَيْنَ التَّعْذِيبِ لَهُمْ إِنْ أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَهَذَا التَّخْيِيرُ عَلَى مَعْنَى الِاجْتِهَادِ فِي أَصْلَحِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا خَيَّرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ قَتْلِهِمْ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذَا التَّعْذِيبُ هُوَ الْقَتْلُ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْحُسْنَى فِيهِمْ فَهُوَ تَرْكُهُمْ أَحْيَاءً، ثُمَّ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ/ صالِحاً ثُمَّ قَالَ: فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أَيْ بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا: ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أَيْ مُنْكَرًا فَظِيعًا: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: جَزاءً الْحُسْنى بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَلَهُ الْحُسْنَى جَزَاءً كَمَا تَقُولُ لَكَ هَذَا الثَّوْبُ هِبَةً، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ فَفِي التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: فَلَهُ جَزَاءُ الْفَعْلَةِ الْحُسْنَى وَالْفَعْلَةُ الْحُسْنَى هِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَلَهُ جَزَاءً الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَلَهُ ذَا الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَالْجَزَاءُ مَوْصُوفٌ بِالْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [الأنعام: ٣٢] وحَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: ٩٥] ثُمَّ قَالَ: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أَيْ لَا نَأْمُرُهُ بِالصَّعْبِ الشَّاقِّ وَلَكِنْ بِالسَّهْلِ الْمُيَسَّرِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْخَرَاجِ وَغَيْرِهِمَا وَتَقْدِيرُ هَذَا يُسْرٌ كَقَوْلِهِ: قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: ٢٨] وقرئ يسرا بضمتين.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ قَصَدَ أَقْرَبَ الْأَمَاكِنِ الْمَسْكُونَةِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ قَصَدَ أَقْرَبَ الْأَمَاكِنِ الْمَسْكُونَةِ مِنْ مَطْلِعِ الشَّمْسِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ وَجَدَ الشَّمْسَ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا وَفِيهِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ وَلَا أَبْنِيَةٌ تَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا فِي أَسْرَابٍ وَاغِلَةٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ غَاصُوا فِي الْمَاءِ فَيَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَعَاشِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا يَشْتَغِلُونَ بِتَحْصِيلِ مُهِمَّاتِ الْمَعَاشِ حَالُهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِ سَائِرِ الْخَلْقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثِيَابَ لَهُمْ وَيَكُونُونَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ عُرَاةً أَبَدًا وَيُقَالُ فِي كُتُبِ الْهَيْئَةِ إِنَّ حَالَ أَكْثَرِ الزِّنْجِ كَذَلِكَ وَحَالَ كُلِّ مَنْ يَسْكُنُ الْبِلَادَ الْقَرِيبَةَ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ كَذَلِكَ، وَذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ:
سَافَرْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الصِّينَ فَسَأَلْتُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَقِيلَ: بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَبَلَغْتُهُمْ فَإِذَا أَحَدُهُمْ يَفْرِشُ أُذُنَهُ الْوَاحِدَةَ وَيَلْبَسُ الْأُخْرَى وَلَمَّا قَرُبَ طُلُوعُ الشَّمْسِ سَمِعْتُ كَهَيْئَةِ الصَّلْصَلَةِ فَغُشِيَ عَلَيَّ ثُمَّ أَفَقْتُ وَهُمْ يَمْسَحُونَنِي بِالدُّهْنِ فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِذَا هِيَ فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربالهم فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جَعَلُوا يَصْطَادُونَ السَّمَكَ وَيَطْرَحُونَهُ فِي الشَّمْسِ فَيَنْضَجُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَيْ كَذَلِكَ فَعَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَقَدْ عَلِمْنَا حِينَ مَلَّكْنَاهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ/ الصَّلَاحِيَةِ لِذَلِكَ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِهِ. وَالثَّانِي: كَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى مَا قَدْ أَعْلَمَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي هَذَا الذِّكْرِ. وَالثَّالِثُ: كَذَلِكَ كَانَتْ حَالَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْمَطْلِعِ كَمَا كَانَتْ مَعَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، قَضَى فِي هَؤُلَاءِ كَمَا قَضَى فِي أُولَئِكَ، مِنْ تَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ كَذَلِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ كَمَا وَجَدَهُمْ عَلَيْهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٢ الى ٩٥]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥)
اعْلَمْ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ اتَّبَعَ سَبَبًا آخَرَ وَسَلَكَ الطَّرِيقَ حَتَّى بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ والقدرة ما يقوم بهذه الأمور. وهاهنا مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: السَّدَّيْنِ بِضَمِّ السِّينِ وَسَدًّا بِفَتْحِهَا حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ فِيهِمَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابن كثير وأبو عمرو السَّدَّيْنِ وسدا هاهنا بِفَتْحِ السِّينِ فِيهِمَا وَضَمِّهَا فِي يس فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: مَا كَانَ مِنْ صَنْعَةِ بَنِي آدَمَ فَهُوَ السَّدُّ بِفَتْحِ السِّينِ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ فَهُوَ السُّدُّ بِضَمِّ السِّينِ وَالْجَمْعُ سُدَدٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: السُّدُّ بِالضَّمِّ فُعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ هُوَ مِمَّا فَعَلَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ، وَالسَّدُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ حَدَثٌ يُحْدِثُهُ النَّاسُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْأَظْهَرُ أَنَّ مَوْضِعَ السَّدَّيْنِ فِي نَاحِيَةِ الشَّمَالِ، وَقِيلَ: جَبَلَانِ بَيْنَ أَرْمِينِيَّةَ وَبَيْنَ أَذْرَبِيجَانَ، وَقِيلَ: هَذَا الْمَكَانُ فِي مَقْطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي/ تَارِيخِهِ أَنَّ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ أَيَّامَ فَتْحِهَا وَجَّهَ إِنْسَانًا إِلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْخَزَرِ فَشَاهَدَهُ وَوَصَفَ أَنَّهُ بُنْيَانٌ رَفِيعٌ وَرَاءَ خَنْدَقٍ عَمِيقٍ وَثِيقٍ مَنِيعٍ، وَذَكَرَ ابْنُ خردا [ذبة] فِي كِتَابِ الْمَسَالِكِ وَالْمَمَالِكِ أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ فَتَحَ هَذَا الرَّدْمَ فَبَعَثَ بَعْضَ الْخَدَمِ إِلَيْهِ لِيُعَايِنُوهُ فَخَرَجُوا مِنْ بَابِ الْأَبْوَابِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ وَشَاهَدُوهُ فَوَصَفُوا أَنَّهُ بِنَاءٌ مِنْ لَبِنٍ مِنْ حَدِيدٍ مَشْدُودٍ بِالنُّحَاسِ الْمُذَابِ وَعَلَيْهِ بَابٌ مُقْفَلٌ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ لَمَّا حَاوَلَ الرُّجُوعَ أَخْرَجَهُمُ الدَّلِيلُ عَلَى الْبِقَاعِ الْمُحَاذِيَةِ لِسَمَرْقَنْدَ، قَالَ أَبُو الرَّيْحَانِ: مُقْتَضَى هَذَا أَنَّ مَوْضِعَهُ فِي الرُّبْعِ الشَّمَالِيِّ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْمَعْمُورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا أَيْ مِنْ وَرَائِهِمَا مُجَاوِزًا عَنْهُمَا قَوْماً أَيْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُفَقِهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ عَلَى مَعْنَى لَا يُمْكِنُهُمْ تَفْهِيمُ غَيْرِهِمْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ لُغَةِ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ اللِّسَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ، ثُمَّ قَالَ تعالى: قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ فَهِمَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ كَادَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِثْبَاتَهُ نَفْيٌ، وَنَفْيَهُ إِثْبَاتٌ، فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ شَيْئًا، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ يَفْهَمُونَ عَلَى مَشَقَّةٍ وَصُعُوبَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أَيْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ قُرْبٌ مِنْ أَنْ يَفْقَهُوا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَكَادُونَ يَفْهَمُونَهُ إِلَّا بَعْدَ تَقْرِيبٍ وَمَشَقَّةٍ مِنْ إِشَارَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ كَادَ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ مَوْضُوعَانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ الصَّرْفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُشْتَقَّانِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ وَقُرِئَ فِي رِوَايَةٍ آجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالْقَائِلُونَ بِكَوْنِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ ذَكَرُوا وَجُوهًا. الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَأْجُوجَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَأَجُّجِ النَّارِ وَتَلَهُّبِهَا فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج مِنْ مَوْجِ الْبَحْرِ. الثَّانِي: أَنَّ يَأْجُوجَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَأَجُّجِ الْمِلْحِ وَهُوَ شِدَّةُ مُلُوحَتِهِ فَلِشِدَّتِهِمْ فِي الْحَرَكَةِ سُمُّوا بِذَلِكَ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَجَّ الظَّلِيمُ فِي مَشْيِهِ يَئِجُّ أَجًّا إِذَا هَرْوَلَ وَسَمِعْتَ حَفِيفَهُ فِي عَدْوِهِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَجُّ حَبٌّ كَالْعَدَسِ وَالْمَجُّ مَجُّ الرِّيقِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا مَأْخُوذَيْنِ مِنْهُمَا وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمَا مِنْ أَيِّ الْأَقْوَامِ فَقِيلَ: إِنَّهُمَا مِنَ التُّرْكِ، وَقِيلَ: يَأْجُوجَ من الترك وَمَأْجُوجَ مِنَ الْجِيلِ وَالدَّيْلَمِ ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ وَصَفَهُمْ بِقِصَرِ الْقَامَةِ وَصِغَرِ الْجُثَّةِ بِكَوْنِ طُولِ أَحَدِهِمْ شِبْرًا وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَفَهُمْ بِطُولِ الْقَامَةِ وَكِبَرِ الْجُثَّةِ وَأَثْبَتُوا لَهُمْ مَخَالِيبَ فِي/ الْأَظْفَارِ وَأَضْرَاسًا كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَقِيلَ: كَانُوا يَقْتُلُونَ النَّاسَ وَقِيلَ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَقِيلَ كَانُوا يَخْرُجُونَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ فَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ شَيْئًا أَخْضَرَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَفْظُ الْفَسَادِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أَهْلِ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِذِي الْقَرْنَيْنِ: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَرَاجًا وَالْبَاقُونَ خَرْجاً قِيلَ: الْخَرَاجُ وَالْخَرْجُ وَاحِدٌ، وَقِيلَ هُمَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا: قِيلَ: الْخَرْجُ بِغَيْرِ أَلِفٍ هُوَ الْجُعْلُ لِأَنَّ النَّاسَ يُخْرِجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْهُ فَيُخْرِجُ هَذَا أَشْيَاءَ وَهَذَا أَشْيَاءَ، وَالْخَرَاجُ هُوَ الَّذِي يَجْبِيهِ السُّلْطَانُ كُلَّ سَنَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْخَرَاجُ هُوَ الِاسْمُ الْأَصْلِيُّ وَالْخَرْجُ كَالْمَصْدَرِ وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْخَرْجُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي أَيْ مَا جَعَلَنِي مَكِينًا مِنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ وَالْيَسَارِ الْوَاسِعِ خَيْرٌ مِمَّا تَبْذُلُونَ مِنَ الْخَرَاجِ فَلَا حَاجَةَ بِي إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النَّمْلِ: ٣٦] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (مَا مَكَّنَنِي) بِنُونَيْنِ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الْإِدْغَامِ، ثُمَّ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ:
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أَيْ لَا حَاجَةَ لِي فِي مالكم ولكن أعينوني بِرِجَالٍ وَآلَةٍ أَبْنِي بِهَا السَّدَّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَعِينُونِي بِمَالٍ أَصْرِفُهُ إِلَى هَذَا الْمُهِمِّ وَلَا أَطْلُبُ الْمَالَ لِآخُذَهُ لِنَفْسِي، وَالرَّدْمُ هُوَ السَّدُّ.
يُقَالُ: رَدَمْتُ الْبَابَ أَيْ سَدَدْتُهُ وَرَدَمْتُ الثَّوْبَ رَقَّعْتُهُ لِأَنَّهُ يَسُدُّ الْخَرْقَ بِالرُّقْعَةِ وَالرَّدْمُ أَكْثَرُ مِنَ السَّدِّ مِنْ قَوْلِهِمْ:
ثَوْبٌ مَرْدُومٌ أَيْ وضعت عليه رقاع.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
اعْلَمْ أَنَّ زُبَرَ الْحَدِيدِ قِطَعُهُ قَالَ الْخَلِيلُ الزُّبْرَةُ مِنَ الْحَدِيدِ الْقِطْعَةُ الضَّخْمَةُ، قِرَاءَةُ الْجَمِيعِ آتَوْنِي بِمَدِّ الْأَلِفِ إِلَّا حَمْزَةَ فَإِنَّهُ قَرَأَ ائْتُونِي مِنَ الْإِتْيَانِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَالتَّقْدِيرُ ائْتُونِي بِزُبَرِ الْحَدِيدِ ثُمَّ حُذِفَ الْبَاءُ كَقَوْلِهِ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ وَكَفَرْتُهُ وَكَفَرْتُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا سَاوَى / بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ فَأَتَوْهُ بِهَا فَوَضَعَ تِلْكَ الزُّبَرَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارَتْ بِحَيْثُ تَسُدُّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى أَعْلَاهُمَا ثُمَّ وَضَعَ الْمَنَافِخَ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ كَالنَّارِ صَبَّ النُّحَاسَ الْمُذَابَ عَلَى الْحَدِيدِ الْمُحْمَى فَالْتَصَقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَصَارَ جَبَلًا صَلْدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُعْجِزٌ قَاهِرٌ لِأَنَّ هَذِهِ الزُّبَرَ الْكَثِيرَةَ إِذَا نُفِخَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ كَالنَّارِ لَمْ يَقْدِرِ الْحَيَوَانُ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهَا، وَالنَّفْخُ عَلَيْهَا لَا يُمَكِنُ إِلَّا مَعَ الْقُرْبِ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَ تَأْثِيرَ تِلْكَ الْحَرَارَةِ الْعَظِيمَةِ عَنْ أَبْدَانِ أُولَئِكَ النَّافِخِينَ عَلَيْهَا. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قِيلَ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ مِائَةُ فَرْسَخٍ. والصدفان بِفَتْحَتَيْنِ جَانِبَا الْجَبَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَصَادَفَانِ أَيْ يَتَقَابَلَانِ وقرئ: الصُّدُفَيْنِ بِضَمَّتَيْنِ. وَالصُّدْفَيْنِ بِضَمَّةٍ وَسُكُونٍ وَالْقِطْرُ النُّحَاسُ المذاب لأنه يقطر، وقوله: قِطْراً مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أُفْرِغْ وَتَقْدِيرُهُ آتَوْنِي قِطْرًا:
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: فَمَا اسْطاعُوا فَحَذَفَ التَّاءَ لِلْخِفَّةِ لِأَنَّ التَّاءَ قَرِيبَةُ الْمَخْرَجِ مِنَ الطَّاءِ وَقُرِئَ: فَمَا اصْطَاعُوا بِقَلْبِ السِّينِ صَادًا أَنْ يَظْهَرُوهُ أَنْ يَعْلُوهُ أَيْ مَا قَدَرُوا عَلَى الصُّعُودِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ارْتِفَاعِهِ وَمَلَاسَتِهِ وَلَا عَلَى نَقْبِهِ لِأَجْلِ صَلَابَتِهِ وَثَخَانَتِهِ، ثُمَّ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَقَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى السَّدِّ، أَيْ هَذَا السَّدُّ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ هَذَا الِاقْتِدَارُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ تَسْوِيَتِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي يَعْنِي فَإِذَا دَنَا مَجِيءُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ السَّدَّ دَكًّا أَيْ مَدْكُوكًا مُسَوًّى بِالْأَرْضِ. وَكُلُّ مَا انْبَسَطَ بَعْدَ الِارْتِفَاعِ فَقَدِ انْدَكَّ وَقُرِئَ دَكَّاءَ بِالْمَدِّ أَيْ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وهاهنا آخر حكاية ذي القرنين.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)
اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بَعْضَهُمْ عَائِدٌ إِلَى: يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الأنبياء: ٩٦] وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَوْمَ السَّدِّ مَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ خَلْفَهُ لَمَّا مُنِعُوا مِنَ الْخُرُوجِ. الثَّانِي: أَنْ عِنْدَ الْخُرُوجِ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قِيلَ إِنَّهُمْ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ يَمُوجُونَ مُزْدَحِمِينَ فِي الْبِلَادِ يَأْتُونَ الْبَحْرَ فَيَشْرَبُونَ مَاءَهُ وَيَأْكُلُونَ دَوَابَّهُ ثُمَّ يَأْكُلُونَ الشَّجَرَ وَيَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَأْتُوا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حَيَوَانَاتٍ فَتَدْخُلُ آذَانَهُمْ فَيَمُوتُونَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ/ الْمُرَادَ الْوَقْتُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ السَّدَّ دَكًّا فَعِنْدَهُ مَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَبَعْدَهُ نُفِخَ فِي الصُّورِ وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقِيَامَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الصُّورِ قَدْ تَقَدَّمَ وَسَيَجِيءُ مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا عَرْضُ جَهَنَّمَ وَإِبْرَازُهُ حَتَّى يَصِيرَ مَكْشُوفًا بِأَهْوَالِهِ فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى عِقَابِ الْكُفَّارِ لِمَا يَتَدَاخَلُهُمْ مِنَ الْغَمِّ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَكْشِفُهُ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ عَمُوا وَصَمُّوا، أَمَّا الْعَمَى فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ
ذِكْرِي
وَالْمُرَادُ مِنْهُ شِدَّةُ انْصِرَافِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الصَّمَمُ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يَعْنِي أَنَّ حَالَتَهُمْ أَعْظَمُ مِنَ الصَّمَمِ لِأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطِيعُ السَّمْعَ إِذَا صِيحَ بِهِ وَهَؤُلَاءِ زَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الِاسْتِطَاعَةُ وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ: وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَسْمَعُوا لَمْ يَسْتَطِيعُوا، قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْرَتُهُمْ عَنْ سَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَاسْتِثْقَالُهُمْ إِيَّاهُ كَقَوْلِ الرَّجُلِ:
لَا أستطيع النظر إلى فلان.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٦]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الذِّكْرِ وَعَنِ اسْتِمَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ وَالْمُرَادُ أَفَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَبَدُوهُ مَعَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ الْآيَاتِ وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى عَاصِمٍ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِسُكُونِ السِّينِ وَرَفْعِ الْبَاءِ.
وَهِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا عَاصِمًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ قِرَاءَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ/ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: حَسْبُ مُبْتَدَأٌ، أَنْ يَتَّخِذُوا خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى أَفَكَافِيهِمْ وَحَسْبُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا كَذَا وَكَذَا، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فقرأوا فحسب عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ حَذْفٌ وَالْمَعْنَى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا اتِّخَاذَ عِبَادِي أَوْلِيَاءَ نَافِعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْعِبَادِ أَقْوَالٌ قِيلَ: أَرَادَ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ، وَقِيلَ: هُمُ الشَّيَاطِينُ يُوَالُونَهُمْ وَيُطِيعُونَهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ الْأَصْنَامُ سَمَّاهُمْ عِبَادًا كَقَوْلِهِ: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا وَفِي النُّزُلِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّهُ الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي يُقَامُ لِلنَّزِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى جَهْلِ الْقَوْمِ فَقَالَ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قِيلَ إِنَّهُمْ هُمُ الرهبان كقوله تعالى: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية: ٣] وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَهْلُ الْكِتَابِ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: هُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْأَعْمَالِ يَظُنُّهَا طَاعَاتٍ وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا مَعَاصِي وَإِنْ كَانَتْ طَاعَاتٍ لَكِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ فَأُولَئِكَ إِنَّمَا أَتَوْا بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ لِرَجَاءِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا لِطَلَبِ الْأَجْرِ وَالْفَوْزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا لَمْ يَفُوزُوا بِمَطَالِبِهِمْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ صُنْعَهُمْ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَاءُ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ: لَقِيتُ فُلَانًا أَيْ رَأَيْتُهُ، فَإِنْ قِيلَ: اللِّقَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ، قَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَرِ: ١٢] وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى لِقَاءِ ثَوَابِ اللَّهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لَفْظَ اللِّقَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةً عَنِ الْوُصُولِ وَالْمُلَاقَاةِ إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الرُّؤْيَةِ مَجَازٌ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ، وَالَّذِي يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لِقَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ فَهُوَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِضْمَارِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ الْمَشْهُورِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِضْمَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ حَقٌّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً وَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّا نَزْدَرِي بِهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدَنَا وَزْنٌ وَمِقْدَارٌ. الثَّانِي: لَا نُقِيمُ لَهُمْ مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ إِنَّمَا يُوضَعُ لِأَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ لِتَمْيِيزِ مِقْدَارِ الطَّاعَاتِ وَمِقْدَارِ السَّيِّئَاتِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ مَنْ غَلَبَتْ مَعَاصِيهِ صَارَ مَا فِي فِعْلِهِ مِنَ الطَّاعَةِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَزْنِ شَيْءٌ مِنْ طَاعَتِهِ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ بِالْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ هُوَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَقَوْلُهُ: جَهَنَّمُ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: جَزاؤُهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ جَزَاءٌ عَلَى مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كُفْرُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَى/ الْكُفْرِ أَنِ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ وَاتَّخَذُوا رُسُلَهُ هُزُوًا، فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ حَتَّى اسْتَهْزَءُوا بهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعْدِ، وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْكُفَّارِ أَنَّ جَهَنَّمَ نُزُلُهُمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يُرَغِّبُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَطْفُ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مُغَايِرَةٌ لِلْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَنْ قَتَادَةَ الْفِرْدَوْسُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَفْضَلُهَا، وَعَنْ كَعْبٍ لَيْسَ فِي الْجِنَانِ أَعْلَى مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، وَفِيهَا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْفِرْدَوْسُ هُوَ الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْهَا الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ وَالْفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِهَا، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّ فَوْقَهَا عَرْشَ الرَّحْمَنِ وَمِنْهَا تَتَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْجَنَّةَ بِكُلِّيَّتِهَا نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَرِيمُ إِذَا أَعْطَى النُّزُلَ أَوَّلًا فَلَا
بُدَّ أَنْ يُتْبِعَهُ بِالْخُلْعَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْجَنَّةِ بِكُلِّيَّتِهَا إِلَّا رُؤْيَةَ اللَّهِ، فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى جُمْلَةَ جهنم نزلا الكافرين وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ جُمْلَةِ جَهَنَّمَ عَذَابٌ آخَرُ، فكذلك هاهنا جَعَلَ جُمْلَةَ الْجَنَّةِ نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ بَعْدَ الْجَنَّةِ، وَالْجَوَابُ: قُلْنَا لِلْكَافِرِ بَعْدَ حُصُولِ جَهَنَّمَ مَرْتَبَةٌ أَعْلَى مِنْهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَحْجُوبًا عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٥، ١٦] فَجَعَلَ الصِّلَاءَ بِالنَّارِ مُتَأَخِّرًا فِي الْمَرْتَبَةِ عَنْ كَوْنِهِ مَحْجُوبًا عَنِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا الْحِوَلُ التَّحَوُّلُ، يُقَالُ: حَالَ مِنْ مَكَانِهِ حِوَلًا كَقَوْلِهِ عَادَ فِي حُبِّهَا عَوْدًا يَعْنِي لَا مَزِيدَ عَلَى سِعَادَاتِ الْجَنَّةِ وَخَيْرَاتِهَا حَتَّى يُرِيدَ أَشْيَاءَ غَيْرَهَا، وَهَذَا الْوَصْفُ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا إِذَا وَصَلَ إِلَى أَيِّ دَرَجَةٍ كَانَتْ فِي السَّعَادَاتِ فَهُوَ طَامِحُ الطرف إلى ما هو أعلى منها.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَشَرَحَ أَقَاصِيصَ الْأَوَّلِينَ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ حَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي وَالْمِدَادُ اسْمٌ لِمَا تُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ مِنَ الْحِبْرِ وَلِمَا يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ مِنَ السَّلِيطِ، وَالْمَعْنَى لَوْ كُتِبَتْ كَلِمَاتُ عِلْمِ اللَّهِ وَحِكَمُهُ وَكَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لَهَا وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ الْجِنْسُ لَنَفِدَ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الْكَلِمَاتُ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْبِحَارَ كَيْفَمَا فَرَضَتْ فِي الِاتِّسَاعِ وَالْعَظَمَةِ فَهِيَ مُتَنَاهِيَةٌ وَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْمُتَنَاهِي لَا يَفِي الْبَتَّةَ بِغَيْرِ الْمُتَنَاهِي، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَنْفَدَ بِالْيَاءِ لِتُقَدِّمِ الْفِعْلِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ كَلِمَاتٍ،
وَرُوِيَ أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ قَالَ: فِي كِتَابِكُمْ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] ثم تقرأون: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِ كَلِمَاتِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ عَلَى الطَّعْنِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصْحَابُنَا حَمَلُوا الْكَلِمَاتِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَأَيْضًا قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَنْفَدُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ، وَأَيْضًا قَالَ: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً وَهَذَا يدل على أنه تعالى قادر على أن يَجِيءَ بِمِثْلِ كَلَامِهِ وَالَّذِي يُجَاءُ بِهِ يَكُونُ مُحْدَثًا وَالَّذِي يَكُونُ الْمُحْدَثُ مِثْلًا لَهُ فَهُوَ أَيْضًا مُحْدَثٌ وَجَوَابُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى تَعَلُّقَاتِ تِلْكَ الصِّفَةِ الْأَزَلِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ كَلَامِ اللَّهِ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَيْ لَا امْتِيَازَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ إِنَّما تُفِيدُ الْحَصْرَ/ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْإِلَهِ تَعَالَى: إِلَهًا وَاحِدًا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ بِالْوُجُوهِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
503
رَبِّهِ
وَالرَّجَاءُ هُوَ ظَنُّ الْمَنَافِعِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ وَالْخَوْفُ ظَنُّ الْمَضَارِّ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ، وَأَصْحَابُنَا حَمَلُوا لِقَاءَ الرَّبِّ عَلَى رُؤْيَتِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ حَمَلُوهُ عَلَى لِقَاءِ ثَوَابِ اللَّهِ وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَالْعَجَبُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ [الْكَهْفِ: ١٠٥]. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْفِ: ١٠٧] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ وَلَا بَيَانَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أَيْ مَنْ حَصَلَ لَهُ رَجَاءُ لِقَاءِ اللَّهِ فَلْيَشْتَغِلْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ قَدْ يُؤْتَى بِهِ لِلَّهِ وَقَدْ يُؤْتَى بِهِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ لَا جَرَمَ اعْتُبِرَ فِيهِ قَيْدَانِ: أَنْ يُؤْتَى بِهِ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُبَرَّأً عَنْ جِهَاتِ الشِّرْكِ، فَقَالَ: وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ سَرَّنِي» فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ» وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «لَكَ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ»
فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ بِعَمَلِهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ مَقَامُ الْمُبْتَدِئِينَ، وَالْمَقَامُ الثَّانِي مقام الكاملين والحمد صلّى الله عليه وسلم رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ فِي بَلْدَةِ غَزْنِينَ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْ يَخُصَّنَا بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ فِي يَوْمِ الدِّينِ، إِنَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
504
Icon