تفسير سورة الحجرات

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ هذه السورة مدنية ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة لأنه تعالى ذكر الرسول وأصحابه ثم قال وعد الله فربما صدر من المؤمن بعض شىء مما ينبغي أن ينهى عنه وقال ابن عباس: نهو أن يتكلموا بين يدي كلامه وقرىء لا تقدموا بفتح التاء وأصلها لا تتقدموا فحذف التاء الثانية.﴿ أَن تَحْبَطَ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره مخافة أن تحبط.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ قيل نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولما كان منهما من غض الصوت.﴿ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ أي جربها ودربها للتقوى.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ ﴾ نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن جابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهثم وغيرهم ونووا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة والنبي عليه السلام راقد فجعلوا ينادونه بجملتهم يا محمد اخرج إلينا فاستيقظ فخرج لهم وقصتهم وشاعرهم وخطيبهم وشاعره عليه السلام وخطيبه مذكور في البحر.﴿ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ ﴾ الوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾ الآية سبب نزولها أن الحٰرث بن صوار أسلم وراح إلى قومه فجمع زكاتهم ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم الوليد لقبض الزكاة فخاف الوليد ورجع فأخبر الرسول أن الحٰرث منع الزكاة فقدم الحٰرث بعد ذلك وأقسم أن الوليد ما جاء ولا رآه وجاء بزكاة قومه في قصة فيها طول ذكرت في البحر وفاسق وبنبأ مطلقان يتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل. وقرىء: فتبينوا وفتثبتوا أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه لعنتم أي لشق عليكم.﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ ﴾ الآية سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبي بن سلول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه وتعصب بعضهم لعبد الله ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبيّ فتجالد الحيان قيل بالحديد وقيل بالجريد والنعال والأيدي فنزلت فقرأها عليهم فاصطلحوا وقرىء بين أخويكم بالتثنية وأخوتكم بالجمع.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ﴾ قيل سبب نزولها أن عكرمة ابن أبي جهل كان يمشي بالمدينة وقد أسلم فقال له قوم هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز عليه ذلك وشكاهم فنزلت. قال الزمخشري: وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور. " انتهى ". وفعل ليس من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله ان ركبا جمع راكب.﴿ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ ﴾ يعني أن يكون المسخور منهم خيراً من الساخرين بهم عسى أن يكن أي يكون المسخور منهن خيراً من الساخرات بهم.﴿ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي تعيبوا بعضكم بعضاً.﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ ﴾ أي القبيحة كقولهم سعيد بطه وأما الألقاب الحسنة فهي كالصديق في أبي بكر رضي الله عنه والفاروق في عمر.﴿ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ ﴾ أي بئس إسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم.﴿ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ ﴾ أي لا تعملوا على حسبه وأمر تعالى باجتنابه لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر تأول وتمييز بين حقه وباطله والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه. قال الزمخشري: والهمزة فيه بدل عن الواو وكأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإِحباطه " انتهى ". ليس هذا بشىء لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز تقول ألم يأثم فهو آثم والإِثم والآثام فالهمزة أصل ليست بدلاً عن واو وأما يثم فأصله يوثم وهي من مادة أخرى.﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم. والاستكشاف عما ستروه.﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ﴾ يقال غابه واغتابه كغاله واغتاله والغيبة هي من الاغتياب وهي ذكر الرجل بما يكره أن يسمع بما هو فيه وفي الحديث" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيبة فقال: ان تذكر من المرء ما يكره أن يسمع فقيل: يا رسول الله وإن كان حقاً فقال عليه السلام: إذا قلت باطلاً فذلك البهتان "وقال ابن عباس الغيبة ادام كلاب الناس.﴿ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾ روي في الحديث" ما صام من أكل لحوم الناس "وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لآخذه العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر الله. قال الزمخشري: ميتاً نصب على الحال من الأخ " انتهى ". هذا ضعيف لأن المجرور بالإِضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الأعراب نحو أعجبني ركوب الفرس مسرجاً وقيام زيد مسرعاً فالفرس في موضع نصب وزيد في موضع رفع.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ﴾ الآية قيل غضب الحٰرث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة فنزلت ومن ذكر وأنثى أي من آدم وحواء.﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ ﴾ قيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل.﴿ لِتَعَارَفُوۤاْ ﴾ أي جعلكم ما ذكر كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب فلا ينتمي إلى غير آبائه للتفاخر بالآباء والأجداد ودعوى التفاضل في الأنساب ثم بين تعالى الخلطة التي يحصل بها التفاضل وهي التقوى وفي خطبته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله تعالى وفاجر شقي هين على الله تعالى ثم قرأ هذه الآية.﴿ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا ﴾ قال مجاهد نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإِسلام وقلوبهم دخلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا فرد الله عليهم بقوله: ﴿ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ﴾ كذبهم الله تعالى في دعوى الإِيمان ولم يصرح بأكذابهم بلفظه بل بما دل عليه من انتقاء إيمانهم وهذا في أعراب مخصوصين.﴿ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا ﴾ فهو اللفظ الصادق من أقوالكم وهو الإِنقياد والاستسلام ظاهراً فلذلك قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشىء إلى زمان الأخبار به.﴿ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ بالإِيمان والأعمال وهذا فتح لباب التوبة وقرىء: لأيلتكم من لات يليت وهي لغة الحجاز وقرىء يألتكم من ألت وهي لغة غطفان وأسد.﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ ﴾ هي منقولة من علمت به أي شعرت به ولذلك تعدت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف وفي ذلك تجهيل لهم حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى ثم ذكر تعالى إحاطته بما في السماوات والأرض.﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ ﴾ أي يعتدون عليك.﴿ أَنْ أَسْلَمُواْ ﴾ فإِن أسلموا في موضع المفعول ولذلك تعدى إليه في قوله قل لا تمنوا عليك إسلامكم الآية.
Icon