تفسير سورة التحريم

حومد
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ - يَجْرِي قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ أَوْ
﴿ياأيها﴾ ﴿مَرْضَاةَ﴾ ﴿أَزْوَاجِكَ﴾
(١) - هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ إِثْرَ حَادِثٍ بَسِيطٍ وَقَعَ، وَكَانَ مِنْ نَتِيجَتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ حَلَفَ عَلَى أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ العَسَلَ (وَقِيلَ بَلْ حَلَفَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَمَتَهُ مَارِيَةَ القِبْطِيَّةَ).
فَوَفْقاً لِلْرِوَايَةِ الأُولَى - كَمَا رَوَتْهَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا: كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يُحِبُّ شُرْبَ العَسَلِ، وَكَانَ إِذَا انْصِرَفَ مِنَ العَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، وَكَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وفَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسََلاً، فَتَوَاطَأَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ عَلَى أَنْ يَقُلْنَ لِلنَّبِيِّ ﷺ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهنَّ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ. (والمَغَافِيرُ نَوْعٌ مِنْ صِمْغِ بَعْضِ الشَّجَرِ) أَكَلْتَ مَغَافِيرَ. وَكَانَتْ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ مُتَصَافِيتَيْنَ، مُتَظَاهِرَتِينِ عَلَى سَائِرِ أَزْواجِ النَّبِيِّ. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ. فَقَالَ النَّبِيُّ لاَ، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ فَلا تُخْبِري أَحَداً بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ حَفْصَةَ أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا تَمَّ.
وَوَفْقاً لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَصَابَ جَارِيتَ مَارِيَةَ (أُمَّ ابنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَليهِ السَّلامُ) فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي؟ فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ عَليهِ حَرَاماً.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ يُعَاتِبُهُ فِيهَا عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ، وَأَمَرَهُ بِالتَّكْفِيرِ عَنْ يَمِينِهِ فَفَعَلَ.
وَمَعْنَى الآيَةِ الكَرِيمَةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِكَ شَيْئاً أَحَلَّهُ اللهُ لَكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ بِتَحْرِيمِهِ مرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ؟ وَاللهُ غَفُورٌ لِذُنُوبِ التَّائِبينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ غَفَرَ لَكَ امْتِناعَكَ عَمَّا أَحَلَّهُ اللهُ لَكَ، وَهُوَ رَحِيمٌ بِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ لاَ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ أَنْ غَفَرَهُ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ.
﴿أَيْمَانِكُمْ﴾ ﴿مَوْلاَكُمْ﴾
(٢) - لَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لَكُم التَحَلُّلَ مِنَ الأَيْمَانِ التي حَلَفْتُمُوهَا بالتَّكْفِير عَنْهَا، فَعَلَيْكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ أَنْ تُكَفِّرَ عَنِ اليَمِين التِي حَلَفْتَهَا فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ، وَاللهُ هُوَ مُتَوَلِّي أُمُورِكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، وَهُوَ العَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُ أُمُورَكُمْ فَيَشْرَعُهُ لَكُمْ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
وَقَدْ كَفَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ يَمِينِهِ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ.
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ - تَحْلِيلَهَا بِالكَفَّارَةِ.
اللهُ مَوْلاَكُمْ - نَاصِرُكُمْ وَمُتَوَلِّي أُمُورِكُمْ.
﴿أَزْوَاجِهِ﴾
(٣) - وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى زَوْجِهِ حَفْصَةَ حَدِيثاً فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ العَسَلَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ، وَقَالَ لَنْ أَعُودَ إِلَى شُرْبِهِ وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلاَ تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَداً. فَلَمَّا أَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ بِالحَدِيثِ الذِي اسْتَكْتَمَهَا النَّبِيُّ عَلَيهِ. وَأَطْلَعَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَا فَعَلَتْهُ حَفْصَةُ مِنْ إِفْشَائِهَا مَا اسْتَكْتَمَهَا النَّبِيُّ عَليْهِ أَخْبَرَ حَفْصَةَ بِبَعْضِ الحَدِيثِ الذِي أَفْشَتْهُ (وَهُوَ كُنْتُ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ)، وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ بَعْضِ الحَدِيثِ الذِي أَفْشَتْهُ (وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَدْ حَلَفْتُ فَلاَ تُخْبِرِي أَحَداً)، فَلَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ تَكَرُّماً مِنْهُ لِكَيْلا يَزِيدَ فِي خَجَلِهَا مِنْهُ.
فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ حَفصَةَ بِمَا دَارَ بَيْنَهَا وَبَينَ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ وَهِيَ تَظُنُّ أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ فَضَحَتْهَا وَنَقَلَتِ الحَدِيثَ إِلَى الرَّسُولِ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ: أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي العِلِيمُ بِالسِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَالخَبِيرُ بِكُلِّ مَا فِي الوُجُودِ.
نَبَّأَتْ بِهِ - أَخْبَرَتْ بِهِ غَيْرَهَا.
أَظْهَرَهُ اللهَ عَلَيهِ - أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَى إِفْشَائِهِ.
﴿تَظَاهَرَا﴾ ﴿مَوْلاَهُ﴾ ﴿صَالِحُ﴾ ﴿الْمَلاَئِكَةُ﴾
(٤) - وَجَّهَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ خِطَابَهُ الكَرِيمَ إِلَى زَوْجَتي النَّبِيِّ اللَّتينِ تَظَاهَرَتَا عَلَيهِ (وَهُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ) فَقَالَ لَهُمَا: إِنْ تَتُوبَا مِنْ ذَنْبِكُمَا، وَتُقْلِعَا عَنْ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ، تَكُنْ قُلُوبُكُمَا قَدْ مَالَتْ إِلَى الخَيْرِ، وَتَكُونَا قَدْ أَدَّيْتُمَا مَا يَجِبُ عَلَيْكُمَا نَحْوَ رَسُولِ اللهِ مِنْ إِجْلاَلٍ واحْتِرَامٍ، وَتَكْرِيمٍ لِمَقَامِهِ الكَرِيمِ.
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا - مَالَتْ إِلَى الخَيْرِ.
تَظَاهَرَا - تَتَعَاوَنَا عَلَيْهِ بِمَا يَسُوؤُهُ.
ظَهِيرٌ - مُعِينٌ وَمُظَاهِرٌ.
مَوْلاَهُ - نَاصِرُهُ وَوَلِيُّهُ.
﴿أَزْوَاجاً﴾ ﴿مُسْلِمَاتٍ﴾ ﴿مُّؤْمِنَاتٍ﴾ ﴿قَانِتَاتٍ﴾ ﴿تَائِبَاتٍ﴾ ﴿عَابِدَاتٍ﴾ ﴿سَائِحَاتٍ﴾ ﴿ثَيِّبَاتٍ﴾
(٥) - ثُمَّ حَذَّرَهُمَا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ إِذَا طَلَّقَهُنَّ فَإِنَّ اللهَ قَدْ يُبْدِلُهُ خَيْراً مِنْهُنَّ إِسْلاَماً وَإِيمَاناً وَمُوَاظَبَةً عَلَى العِبَادَةِ، وَإِقْلاَعاً عَنِ الذُّنْوبِ، وَسَمْعاً لأَوَامِرِ الرَّسُولِ، بَعْضُهُنَّ ثَيِّبَاتٌ سَبَقَ لَهُنَّ الزَّوَاجُ، وَبَعْضُهُنَّ أَبْكَارٌ لَمْ يَسْبِقْ لأَحَدٍ الزَّوَاجُ مِنْهُنَّ.
قَانِتَاتٍ - مُطِيعَاتٍ خَاضِعَاتٍ للهِ.
سَائِحَاتٍ - صَائِمَاتٍ أَوْ مُهَاجِرَاتٍ.
﴿ياأيها﴾ ﴿آمَنُواْ﴾ ﴿مَلاَئِكَةٌ﴾
(٦) - يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَاتَّقُوا مَعْصَيَتَهُ، وَأمُرُوا أَهْلَكُمْ بِالذّكْرِ والتَّقْوَى، وَعَلِّمُوهُمْ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيهِمْ، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأمُرُوهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ لِتُنقِذُوهُمْ وَأَنْفُسَكُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، التِي يَكُونُ وَقُودُهَا النَّاسُ مِنَ الكَفَرَةِ، وَالحِجَارَةُ، وَتَقُومُ عَلَيهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَشِدَّاءُ َعَلَيهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ رَبَّهُمْ فِي أَمْرٍ بِهِ، وَيُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ.
قوا أَنْفُسَكُمْ - جَنِّبُوا أَنْفُسَكُم النَّارَ بِطَاعَةِ اللهِ.
غِلاَظٌ شِدَادٌ - قُسَاةٌ أَقْوِيَاءُ - وَهُمُ الزَّبَانِيَةُ.
﴿ياأيها﴾
(٧) - وَيُقَالُ لِلْكَافِرِينَ حِينَمَا يُقْذَفُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ: لاَ تَعْتَذِرُوا عَنْ كُفْرِكُمْ، وَعَمَلِكُمْ السَّيِّئِ، فَقَدْ فَاتَ أَوَانُ الإعْتَذَارِ، وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ، إِنَّكُمْ إِنَّمَا تُلاَقُونَ الجَزَاءَ الأَوْفَى عَلَى أَعْمَالِكُم التِي عَمِلْتُمُوهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا.
﴿ياأيها﴾ ﴿جَنَّاتٍ﴾ ﴿الأنهار﴾ ﴿آمَنُواْ﴾ ﴿بِأَيْمَانِهِمْ﴾
(٨) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا سَبَقَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ.
" وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ، فَتَسْتَغْفِرُ الله بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الحَاضِرِ، ثُمَّ لاَ تَعُودُ إِليهِ أَبداً " (أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
ثُمَّ يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا تَوْبَةً نَصُوحاً تَابَ اللهُ عَليهِمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ، وَأَدخَلَهُمْ بِرَحْمَتِهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ. وَهُوَ اليومُ الذِي يَرْفَعُ الله فِيهِ قَدْرَ رَسُولِهِ الكَرِيمِ، وَقَدْرَ المُؤْمِنينَ مَعَهُ. وَيَجْعَلُ نُورَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَومِ يَسْعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ، حِينَ يَمْشُونَ وَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُبْقِي لَهُمْ نُورَهُمْ، فَلا يَطْفِئُهُ حَتَّى يجُوزُوا الصِّرَاطَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِم السَّالِفَةِ، وََيَقُولُونَ: رَبَّنَا العَظِيمَ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يُعْجِزُكَ شَيءٌ.
تَوْبَةً نَصُوحاً - تَوْبَةً خَالِصَةً صَادِقَةً - أَوْ مَقْبُولَةً.
لاَ يُخْزِي اللهُ - لاَ يُذِلُّ، بَلْ يُعِزُّ رَسُولَهُ وَيَكْرِمُهُ.
﴿ياأيها﴾ ﴿جَاهِدِ﴾ ﴿المنافقين﴾ ﴿مَأْوَاهُمْ﴾
(٩) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ الذِينَ يَقِفُونَ فِي طَرِيقِ انتِشَارِ الدَّعْوَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ بِالسَّلاَحِ، وَحَارِبْهُمْ حَرْباً لاَ هَوادَةَ فِيهَا، وَجَاهِدِ المُنَافِقِينَ، الذِينَ يَتَظَاهَرُونَ بِالإِسَلاَمِ وَقُلُوبُهُمْ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الكُفر وَالشَّكِّ والرِّيبَةِ، وَيُقُومُونَ بِالدَّسِ وَالوَقِيعَةِ والتَّثْبِيطِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ بِالقَوْلِ وَالإِنْذَارِ، وَافْصَحْهُمْ، وَبَيِّنْ لَهُمْ سُوءَ مَصِيرِهِمْ وَمُنْقَلبِهِمْ فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُمْ وَيَرْجِعْ إِلَى اللهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً، فَإِنَّ مَصِيرَهُ سَيَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمَصِيراً.
أغْلُظْ عَلَيْهِمْ - شَدِّدْ وَاقسُ عَلَيهِمْ.
﴿امرأت﴾ ﴿صَالِحَيْنِ﴾ ﴿الداخلين﴾
(١٠) - يَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِحَالِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ الذِينَ يُخالِطُونَ المُسْلِمِينَ، وَيُعَاشِرُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ مِنَ العِظَاتِ والدَّلاَئِلِ وَالبَرَاهِينِ، بِحَالِ امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ، فَقَدْ كَانَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجَةً لِنَبِّيٍّ صَالِحٍ مِنْ أَنْبِياءِ اللهِ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ تَنْفِعَا بِمَا كَانَا يَدْعُوَانِ إِليْهِ مِنَ الخَيْرِ وَالهُدَى وَالإِيْمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَعَمِلَتَا أَعْمَالاً تَدُلُّ على الخِيَانَةِ وَالكُفْرِ، فَاتَّهَمَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ زَوجَهَا بِالجُنُونِ، وَكَانَتْ إمْرَأَةُ لُوطٍ تُرْشِدُ قَوْمَهَا إِلَى ضُيُوفِ زَوْجِهَا لِيَفْعَلُوا مَعَهُمْ الخَبَائِثَ، فَأَهْلَكَهُمَا اللهُ مَعَ قَوْمِهِمَا، وَسَيَكُونُ مَصِيرُهُمَا النَّارَ فِي الآخِرَةِ، وَلَنْ يَنْفَعَهُمَا قُرْبُهُمَا مِنْ نَبِيَّينِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ، وَلاَ انْتِسَابُهُمَا إِليهِمَا، وَيُقَالُ لَهُمَا: ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ إِليهَا.
فَخَانَتَاهُمَا - بِالنِّفَاقِ والنَّمِيمَةِ.
فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا - فَلَمْ يَدْفُعَا عَنْهُمَا وَلَمْ يَمْنَعَا عَنْهُمَا.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿امرأت﴾ ﴿الظالمين﴾
(١١) - وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُمْ لاَ تَضُرُّهُمْ مُخَالَطَةُ الكَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِليهِمْ، فَقَدْ كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنَةً مُخْلِصَةً للهِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ طَاغِيَةً جَبَّاراً، فَمَا ضَرَّ امْرأَتَهُ كُفْرُ زَوْجِهَا حِينَ أَطَاعَتْ رَبَّهَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللهَ حَكِيمٌ عَادِلٌ، لاَ يُؤَاخِذُ أَحَداً بِذَنْبِ غَيْرِهِ. وَقَدْ سَأَلَت امْرأَةُ فِرْعَوْنَ رَبَّهَا أَنْ يَجْعَلَهَا قَرِيبَةً مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَنْ يَبْنِيَ لَهَا عِنْدَهُ بَيتاً فِي الجَنَّةِ، وَأَنْ يُنْقِذَهَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَعْمَالِهِ الخَبِيثَةِ، وَأَنْ يُنَجِّيهَا مِنْ قَوْمِهِ الظَّالِمِينَ.
﴿ابنت﴾ ﴿عِمْرَانَ﴾ ﴿بِكَلِمَاتِ﴾ ﴿القانتين﴾
(١٢) - وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً آخَرَ لِلَّذِينَ آمَنُوا حَالَ مَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ، وَمَا أُوتِيَتْ مِنْ كَرَامَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فاصْطَفَاهَا اللهُ رَبُّهَا، وَأَرْسَلَ إِليهَا مَلَكاً كَرِيماً مَنْ مَلاَئِكَتِهِ تَمَثَّلَ لَهَا فِي صَورَةِ بَشَرٍ دَخَلَ عَلَيهَا، وَهِيَ فِي خَلْوَتِهَا، فَاسْتَعَاذَتْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِ، فَبَشَّرَهَا بِأَنَّهَا سَيَكُونُ لَهَا وَلَدٌ يُولَدُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ، وَيَكُونَ نِبِيّاً كَرِيماً.
وَنَفَخَ فِيهَا المَلَكُ مِنْ رُوحِ اللهِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَصَدَّقَتْ مَرْيَمُ بِشَرَائِعِ اللهِ، وَبِكُتُبِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَكَانَتْ فِي عِدَادِ القَانِتِينَ العَابِدِينَ المُطِيعِينَ للهِ تَعَالَى.
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا - عَفَّتْ وَصَانَتْهُ مِنَ الرِّجَالِ.
مِنْ رَوحِنَا - رُوحاً مِنْ خَلْقِنَا بِلاَ تَوُسُّطٍ - أَيْ بِدُونِ أَبٍ.
مِنَ القَانِتِينَ - مِنَ القَوْمِ المُطِيعِينَ للهِ تَعَالَى.
Icon