تفسير سورة الأعراف

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة الأعراف
[ مائتان وست آيات : مكية ]١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العليم بخلقه اللطيف لرشد عباده، ضرب لهم الآيات والبيان لينقلهم بحكمته وتدبيره من الجهالة إلى العلم ومن الضلالة إلى الهدى، ووصّى به [ رسوله أن يدعو عباده إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فبعث محمدا ]٢صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافّة، وأنزل٣ إليه الكتاب، تلا فيه ما في الكتب الأولى ليبيّن لأهل الكتاب والمشركين أن النبي الأميّ العربي لم يعلم [ ما ]٤ في الكتب الأعجمية إلا من عند الله ليكون ذلك أوضح لهم في الحجّة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل الرسالة معروفا عند الفريقين أنه لم يتل كتابا، ولا خطّه بيمينه، ولا كان عندهم من شعرائهم ولا [ من العارفين ]٥بأنسابهم وعلم أنبائهم، وذلك أبلغ في البرهان، فأنبأه [ الله ]٦ فيه علم الغيوب وفرض الفرائض، وحكم فيه الأحكام، وأنزل فيه الحجج بتأليف، يعجز٧ عنه من دون الله، ليبيّن لهم أنه من عند الله.
فأنف قومه، وأبوا أن يسمعوه، واستكبروا عليه، وقالوا :﴿ لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، [ وقالوا ]٨ :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ [ فصلت : ٢٦ ].
فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم، فأنزل في الكتاب كلاما افتتح به السورة، لم يكن من كلام قومه. فلما سمعوا ظنوا أنه بديع ابتدع محمد كابتداعهم البلاغات والأوابد، وأيقنوا أن يكون محمد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون، فتدبّروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام، فسمعوا كلاما مجيدا حكيما، وبناء عظيما وحججا نيّرة ومواعظ شافية، فدخل أكثرهم في الإسلام، وقعد عنه رجلان : معاند متعمّد وجاهل مقلّد، لا ينظر.
وفي ما أنزل مما وصف :[ قوله ]٩ ﴿ كهيعص ﴾ [ مريم : ١ ] وقوله١٠ :﴿ طسم ﴾ [ الشعراء : ١ ] وقوله١١ :﴿ المص ﴾ [ الأعراف : ١ ] وقوله١٢ :﴿ المر ﴾ [ الرعد : ١ ] وما أشبهها.
١ في م: قيل: إنها مكية..
٢ من م، في الأصل: رسول..
٣ من م، في الأصل: ولو أنزل..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: المعروف..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: يعجزه..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ في الأصل وم: و..
١١ في الأصل وم: و..
١٢ في الأصل وم: و..

سُورَةُ الْأَعْرَافِ
قيل إنها مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٣)
الحمد لله العليم بخلقه، اللطيف لرشد عباده، ضرب لهم الآيات والبيان؛ لينقلهم بحكمته وتدبيره من الجهالة إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى، ووصى رسوله أن يدعو عباده إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فبعث محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس كافة، وأنزل إليه الكتاب تلا فيه ما في الكتب الأولى؛ ليبين لأهل الكتاب والمشركين أن النبي الأمي العربي لم يعلم ما في الكتب الأعجمية إلا من عند اللَّه؛ ليكون ذلك أوضح لهم في الحجة.
وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل الرسالة معروفًا عند الفريقين أنه لم يتل كتابًا، ولا خطَّه
345
بيمينه، ولا كان عندهم من شعرائهم، ولا المعروف بأنسابهم وعلم أنبيائهم؛
346
وذلك أبلغ في البرهان، فأنبأ فيه علم الغيوب، وفرض الفرائض، وحكم فيه الأحكام، وأنزل فيه الحجج بتأليف يعجز عنه من دون اللَّه؛ ليبين لهم أنه من عند اللَّه، فأنف قومه، وأبوا أن يستمعوه واستكبروا عليه، وقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم؛ فأنزل في الكتاب كلامًا افتتح به السورة لم يكن من كلام قومه؛ فلما سمعوه ظنوا أنه بديع ابتدعه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كإبداعهم البلاغات والأوابد، وأنفوا أن يكون مُحَمَّد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون، فتدبروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام، فسمعوا كلامًا مجيدًا حكيمًا، ونبأ عظيما، وحججًا نيرة، ومواعظ شافية؛ فدخل أكثرهم في الإسلام، وقعد عنه رجلان: معاندٌ متعمد، وجاهل مقلد لا ينظر، وفيما
347
أنزل مما وصف قوله: (كهيعص)، و (طسم) و (المص)، و (الر) وما أشبهها.
فقال: (المص).
ليعطف بها على النظر فيما بعدها.
ثم ابتدأ فقال: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
يقول: كتاب من ربك؛ لتنذر به عباده.
(فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).
يقول: فلا يضيقن صدرك عن الذي فرض اللَّه عليك فيه من البلاع إلى قومك، وبما فرض عليك من البراءة منهم، ومما يعبدون من دون اللَّه؛ فكأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخاف ما خافت الرسل من بين يديه، فقال موسى: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) وقد كان يعرف قومه بالتسرع إلى القتل فيما ليس مثل ما يأتيهم به، فامنه اللَّه منهم بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقال في آخر هذه السورة: (ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ): يفهمونها عن اللَّه - تعالى - فإنها من أعظم آيات الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعلمه أنهم لا يصلون إلى ما يخاف منهم. وفي الأثر أن اللَّه - تعالى - لما أرسله إلى قومه، فقال: " أي رب إذا يثلغوا رأسي فيذروه مثل خُبزَة " فأمنه اللَّه - تعالى - من ذلك، فقال: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) من البلاع، ولا يضيقن صدرك بما فرض اللَّه عليك من العبادة والحكم الدي تخالف فيه قومك.
ثم وصف الكتاب فقال: (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
يقول: يتذكرون بما فيه ويتدبرونه فيعلمون به الحق من الباطل، ويذكرون به ما فرض عليهم.
ويحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابًا خاطب اللَّه بها رسله يفهمونها لا
348
يفهمها غيرهم، على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصهم إشارات يفهمها خواصهم ولا يفهمها غيرهم، هذا متعارف فيما بين الخلق أن يكون لهم فيما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا؛ فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابات من اللَّه خاطب بها رسله - وهم خواصه - يفهمونها ولا يفهمها غيرهم، ثم وجهُ فهمهم يكون لوجهين:
يخبرهم فيقول: إني إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا، أو كان البيان والمراد منها مقرونا بها وقت إنزالها ففهموا المراد منها بما أفهمهم اللَّه وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم؛ كقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أرى رسله شيئا لم ير ذلك غيرهم، ولا أطلعهم على ذلك، فهو من المتشابه على غيرهم، وأما على الرسل فليس من المتشابه.
349
وقال الفراء: يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة المتفرقة التي أنزلها من أب ت ث إلى آخرها كأنه قال: إني جمعت هذه الحروف المقطعة فجعلتها كتابًا، فأنزلتها؛ من نحو: (المص) و (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ) و (المر) ونحوه، واللَّه أعلم بما أراد به ذلك.
وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب مقدار ما حفظنا وفهمنا من أقاويل أهل العلم في ذلك.
352
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).
قيل: الحرج: هو الضيق في الصدر، ثم يحتمل ضيق الصدر وجوهًا:
يحتمل ضيق الصدر ما يحل عليه في ذلك من الشدائد والخطورات بتبليغه إلى الكفرة الذين نشئوا على الكفر والشرك، وخاصة الفراعنة والملوك الذين همتهم القتل والإهلاك لمن استقبلهم بالخلاف.
أو أن يوسوس في صدره الشيطان أنه ليس من عند اللَّه، أو أن يقول له: إنه من أساطير الأولين؛ على ما قال أُولَئِكَ الكفرة: (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
ثم يحتمل قوله: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) على النهي، أي: لا يكن في صدرك منه حرج، أي: لا يضق صدرك مما حمل عليك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ)، أي: شك أنه من عند اللَّه نزل.
وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي؛ لأنه بالنهي ما يكون عصمه.
ويحتمل: ليس على النهي، ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ كقوله:
353
(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، وكقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ): ليس على النهي؛ ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
ثم إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمنه عما كان يخاف من أُولَئِكَ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وأمنه من وساوس الشيطان؛ على ما روي في الخبر أنه قيل: ألك شيطان؟ فقال: " كان، ولكن أعنت عليه؛ فأسلم " أمَّن - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله عن ذلك كله؛ لما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتُنْذِرَ بِهِ).
يحتمل أنه أمره أن ينذر به الكفرة، ويبشر به المؤمنين؛ كقوله: (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)؛ فعلى ذلك قوله: (لِتُنْذِرَ بِهِ) الكفرة.
(وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
أي: بشرى على ما ذكرنا، ويكون في الإنذار بشرى؛ لأنه إذا أنذر فقبل الإنذار، فهو له بشرى.
ويحتمل قوله: (لِتُنْذِرَ بِهِ)، أي: الكل الموافق والمخالف جميعًا؛ كقوله: (لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: الذي ينتفع به المؤمنون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّبِعُوا... (٣)
لا تتبعوا أُولَئِكَ في التحليل والتحريم وفي الأمر والنهي؛ لأنه ليس إلى الخلق
354
التحليل والتحريم.
وقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).
أمر المؤمنين أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، على ما أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يتبع ما أنزل إليه من ربه؛ كقوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)؛ ليعلم أن ما أنزل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو منزل إلى المؤمنين جميعًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).
فيما ذكر، وما يحل وما يحرم، وما يأمر وينهى.
(وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ).
قيل: أربابًا، أي لا تتبعوا من دونه أولياء فيما يحلون ويحرمون، ويأمرون وينهون، أي: إنما عليهم اتباع ما حرم عليهم، واستحلال ما أحل لهم. وأما إنشاء التحليل والتحريم فلا.
وقال بعض أهل التأويل: أولياء الأصنام، والأوثان. ولكن لا يحتمل هاهنا،
356
ولكن قد ذكرنا أنهم كانوا يتبعون عظماءهم في التحليل والتحريم؛ كقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وكانوا لا يتخذون أُولَئِكَ الأحبار أربابًا في الحقيقة، ولكن كانوا يتبعونهم فيما يحلون ويحرمون ويصدرون عن آرائهم؛ فسموا بذلك لشدة اتباعهم أُولَئِكَ في التحليل والتحريم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ).
قال أهل التأويل: يعني بالقليل: المؤمنين، ولكن يحتمل قوله: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، أي: لا تتذكرون رأسًا؛ لأن الخطاب جرى فيه لأُولَئِكَ الكفرة، وفيهم نزلت الآية.
* * *
قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩)
357
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا... (٤)
قال أهل التأويل: كان يخوف أهل مكة بتكذيبهم الرسول بإهلاكه الأمم الخالية بتكذيبهم الرسل، بقوله: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا)؛ بتكذيبهم الرسل، فأنتم يا أهل مكة تهلكون بتكذيبكم الرسول، وإن كانوا لا يعرفون هم إهلاك الأمم الماضية أنه إنما أهلكوا بتكذيبهم الرسل، غير أنهم وإن كانوا لا يعرفون هم ذلك بأنفسهم؛ لما ليس عندهم كتاب - لكن يصلون إلى علم ذلك بمن عندهم الكتب - وهم أهل الكتاب - فيلزمهم الحجة، كالعجم وإن كانوا لا يعرفون الكتاب الذي أنزل بلسان العرب، فإن الحجة تلزمهم بذلك؛ لما كان لهم سبيل الوصول إلى علم ذلك بالعرب؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ، وإن لم يكن عندهم علم بإهلاك أُولَئِكَ؛ فتلزمهم الحجة بإعلام أهل الكتاب إياهم.
وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه أخبر عن إهلاك الأمم الخالية بتكذيبهم الرسل، وهو لم ينظر في كتبهم، ولا اختلف إليهم ليعلموه عن ذلك، ثم أخبرهم بذلك، فدل أنه إنما عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ).
قال أبو بكر الكيساني: البأس هو كل أمر معضل شديد من المرض والجرح وغيره، ويقول: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما طعن قيل له: لا بأس عليك، فقال: إن كان في القتل بأس كفى بذلك.
وأما غيره من أهل التأويل فقالوا: البأس: العذاب، " وبأسنا ": عذابنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ).
البيات: بالليل، والقيلولة: بالنهار عند الظهيرة، وهما وقتا الغفلة أو وقتا الأمن.
أخبر أنه إنما يأتيهم عذابه في حال الغفلة، أو في حال الأمن؛ لئلا يكونوا غافلين عن أمره، ولا يكونوا آمنين عذابه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا... (٥)
أي: ما كان دعواهم قبل نزول العذاب إلا أنهم قالوا: نحن على الحق وإن غيرهم على الباطل، فإذا جاءهم بأسنا اعترفوا بظلمهم؛ كقوله: (إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فما كان دعواهم حين نزول العذاب (إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)
يذكر في هذه الآية أنه يسألهم جميعًا: الرسل والمرسلين إليهم.
وقال في آية أخرى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وقال: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، ولكن قوله: (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) أي لا يسأل عما فعل وعن نفس ما ارتكب؛ كم أذنبت؟ وما فعلت؟ ولكن يسأل: لماذا فعلت؟ يسأل عن الحجة: لم أذنبت؟ ولم فعلت ذا؟ أو أن يسأل في وقت، ولا يسأل في وقت آخر.
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل عن ذنبه غيره، وإنما يسأل صاحبه وفاعله، يخبر - واللَّه أعلم - أن أمر الآخرة صلى خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يؤاخذ غيره بذنب آخر وربما يسأل إحضار قريبه، وأما في الآخرة فإنه لا يؤاخذ غيره بذنب آخر كذلك كان ما ذكرنا.
الآية٦ وقوله تعالى :﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ﴾ يذكر في الآية أنهم يسألهم جميعا : الرسل والمرسل إليهم. ١. وقال في آية أخرى :﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] ولكن قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] أي لا يسأل عما فعل وعن نفس ما ارتكب كقوله تعالى :﴿ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ﴾ [ غافر : ٨٤ ]. ما أذنبت ؟ وما فعلت ؟ ولكن يسأل : لماذا فعلت ؟ يسأل عن الحجة : لم أذنبت ؟ ولم فعلت ذا ؟ ويسأل في وقت، ولا يسأل في وقت.
وقال بعضهم ﴿ لا يسأل عن ذنبه ﴾ غيره، وإنما يسأل صاحبه وفاعله.
يخبر، والله أعلم، أن الآخرة على خلاف أمر الدنيا ؛ لأن في الدنيا قد يؤاخذ غير بذنب آخر، ربما، ويسأل إحضار قريبه، وأما في الآخرة فإنه لا يؤاخذ غير بذنب آخر، كذلك كان ما ذكرنا. أو أن يكون قوله تعالى :﴿ لا يسأل ﴾ عما أظهر، وأبدى، ولكن يسأل عما أسرّ، وأخفى ؛ لأن الملائكة قد يكتبون ما أبدوه، وأظهروه، كقوله تعالى :﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ﴾ [ ق : ١٨ ] فيقع السؤال عما أسرّوا على التقرير، ولا يسأل بعد ذلك.
وقوله تعالى :﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ﴾ قال بعض أهل التأويل : يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى الأمم، ويسأل قومهم : هل بلّغ الرسل إليهم الرسالة ؟ ويكون سؤاله٢ الرسل سؤال شهادة كقوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ الآية [ ١٤٣ ] [ أنهم قد بلّغوا ]٣ الرسالة.
وقال بعضهم : يسأل الملائكة عن تبليغ الرسالة إلى الأنبياء، ويسأل الأنبياء عليهم السلام عن تبليغ الملائكة إليهم. وأمكن أن يكون السؤال٤ للرسل عما أجيبوا، وكان سؤال الأمم عما أجابوا الرسل كقوله تعالى :﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ] وقوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ [ القصص : ٦٥ ]. أو يكون سؤال القوم سؤال تقرير عندهم وإقرار لما كانوا ينكرون التبليغ إليهم كقوله تعالى :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] هذا السؤال سؤال تقرير وتعيير، لا غير ؛ لأنه كان يعلم أنه لم يكن قال لهم ذلك، لكنه يسألهم سؤال تقرير ليقرّوا بذلك لئلا يقولوا : هو قال لهم ذلك ؛ لأنهم قالوا : عيسى هو الذي قال لهم ذلك. فعلى ذلك الأول.
١ في الأصل وم: عليهم..
٢ في الأصل وم: سؤالهم..
٣ في الأصل وم: لأنه قد بلغ..
٤ ساقطة من م..
أو أن يكون قوله: (لَا يُسْأَلُ): عما أظهر وأبدى؛ لكن يسأل عما أسر وأخفى؛ لأن الملائكة قد يكتبون ما أبدوه وأظهروه؛ كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فيقع السؤال عما أسروا على التقرير، ولا يسأل بعد ذلك.
وقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).
قال بعض أهل التأويل: يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى الأمم، ويسأل قومهم: هل بلغ الرسل إليهم الرسالة؟ ويكون سؤالهم الرسل سؤال شهادة - كقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.....) الآية - أنه قد بلغ الرسالة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسأل الملائكة عن تبليغ الرسالة إلى الأنبياء، ويسأل الأنبياء - عليهم السلام - عن تبليغ الملائكة إليهم، وأمكن أن يكون السؤال للرسل عما أجيبوا، وكان سؤال الأمم عما أجابوا الرسل؛ كقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ)، وكقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ).
أو أن يكون سؤال القوم سؤال تقرير عندهم، وإقرار لما كانوا ينكرون التبليغ إليهم؛ كقوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
هذا السؤال سؤال تقرير وتعيير لا غير؛ لأنه كان يعلم أنه لم يكن قال لهم ذلك، لكنه سألهم سؤال تقرير؛ ليقروا بذلك؛ لئلا يقولوا: هو قال لهم ذلك؛ لأنهم قالوا: عيسى هو الذي قال لهم ذلك؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧)
عن عملهم وصنيعهم؛ ولكن يسألون لما ذكرنا، واللَّه أعلم.
يشبه أن يكون: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) ذكر هذا؛ لما يحتمل أن يظن به الخفاء عليه؛ لما ذكر من المسألة لهم والسؤال، وهو الاستخبار عما يسر ويضمر؛ ليظهر ذلك، هذا هو معنى السؤال في الشاهد والاستخبار؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) على أن سؤاله ليس بسؤال استخبار واستظهار له؛ ولكن سؤال توبيخ وتقرير، أو سؤال شهادة؛ وعلى هذا يخرج الابتلاء منه والامتحان؛ لتقرير الأمر والنهي، لا لإظهار شيء خفي عليه، وإن كان في الشاهد يكون كذلك.
أو أن يصير ما قد خفي عليهم باديًا ظاهرًا عندهم؛ فسمى ذلك الأمر منه والنهي؛ ابتلاء وامتحانًا؛ لما هو عند الخلق ابتلاء وامتحان، وإن كان عند اللَّه لا يحتمل ذلك؛ فسمي بالذي فيما بينهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ).
قال الحسن: يكون ميزانًا له كفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات؛ فمن ثقلت موازينه دخل الجنة، ومن خفت موازينه دخل النار.
وقال غيره من أهل التأويل: يريد بـ " الموازين " الحسنات والسيئات نفسها؛ فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار. إلى هذا ذهب أكثر أهل التأويل، ولا يحتمل ما قالوا.
أما قول الحسن: ميزان له كفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات - لا يحتمل؛ لأنه قال: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). إذا ثقلت إحدى الكفتين خفت الأخرى، وإذا خفت إحداهما ثقلت الأخرى؛ فكل واحدة منهما فيمن تثقل موازينه وتخف، وقد أخبر في الآية أن من ثقلت موازينه فأُولَئِكَ هم المفلحون، ومن خفت
361
موازينه (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).
ولا يحتمل -أيضًا- ما قال غيره من أهل التأويل: إنه أراد ب " الموازين " ْالحسنات، والسيئات؛ لأن الآية في المؤمنين والكافرين، فلا سيئة ترجح في المؤمن مع إيمانه، ولا حسنة ترجح في الكافر مع شركه، إلا أن يقال: إن توزن حسناته وتقابل بسيئاته دون إيمان، وكذلك الكافر تقابل سيئاته بحسناته دون الشرك؛ فذهبت حسناتهم التي كانت لهم في الدنيا بما أنعم اللَّه عليهم في الدنيا؛ فقد عجل لهم جزاء حسناتهم التي عملوا في الدنيا؛ بما أنعم عليهم في الدنيا.
وأما المؤمن فيتجاوز عن سيئاته ويتقبل عنه أحسن ما عمل؛ كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ).
أو أن يكون ما ذكر من الميزان هو الكتاب الذي ذكر في آية أخرى؛ كقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وكما قال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوزن هو العدل؛ كقوله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ)، لم يقل: نضع الموازين بالقسط، ولكن قال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ)، والقسط: هو العدل، فهو إخبار عن العدل أنه يعدل بينهم يومئذ.
363
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوزن يومئذ الحق، أي: الجزاء يومئذ الحق؛ يجزي للطاعة الحسنة والثواب، وللسيئة عقاب وعذاب، فهو حق.
وقال بعضهم: قوله: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) أي: الطاعة حق، كل مطيع يومئذ فهو حق.
ويحتمل أن يكون الوزن الحدود، والتقدير كقوله: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي: محدود مقدر؛ فعلى ذلك قوله: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)، أي: الحد يومئذ الحق، لا يزاد على السيئات، ولا ينقص من الحسنات التي عملوا في الدنيا، والله أعلم بما أراد بالوزن.
ثم قال أهل التأويل في قوله: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، أي: غبنوا؛ وذلك أنه ما من أحد من مؤمن وكافر إلا وله في الجنة والنار منزل وأهل، فيرث المؤمن المنزل الذي كان للكافر في الجنة، ويرث الكافر المنزل الذي للمؤمن في النار؛ فذلك الخسران الذي خسروا، لكن هذا لا يحتمل أن يكون اللَّه - تعالى - يجعل للكافر في الجنة منزلًا وأهلًا مع علمه أنه لا يؤمن، ويختم على كفره، ويحتمل الخسران الذي ذكر هو أنهم خسروا في الدنيا والآخرة لما فات عنهم النعم التي كانت لهم في الدنيا ولم يصلوا إلى نعيم الآخرة، فذلك هو الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩) قال الحسن: (بِآيَاتِنَا): ديننا يكذبون، ولكن كذبوا حججنا. (يَظْلِمُونَ) أي: يضعونها في غير موضعها، وهو ما ذكر من ظلمهم الآيات؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ثم المسألة فيمن ارتكب كل ذنب وكبيرة في حال كفره عمره ثم آمن في آخره، صار ما كان ارتكب في حال كفره من الكبائر مغفورًا معفوا عنه غير مؤاخذ بها، ومن ارتكب ذلك في حال إيمانه، وختم على الإيمان لم يعمل الإيمان في تكفيره وكان مؤاخذًا به، وذلك واللَّه أعلم؛ لوجهين:
364
أحدهما: أن ليس على الكافر أنفس أفعال الطاعات وأعينها، إنما عليه قبول تلك الأعمال، فإذا أسلم، فقد قبلها ولم يكن عليه في ذلك الوقت إلا القبول؛ لذلك لم يؤاخذ بما كان منه من الأعمال.
وأما المؤمن فعليه أنفس أفعال تلك الطاعات، وتلك الأعمال، وقد كان منذ القبول آخذا بما كان منه التفريط في تلك الأعمال.
والثاني: أن الكافر إذا أسلم بعد ما ارتكب من الكبائر؛ لم يجرح إيمانه، ولا أدخل فيه نقصًا؛ فلم يؤاخذ بما كان منه لما قدم على ربه بإيمان كامل.
وأما المؤمن إذا ارتكب كبائر فقد جرح الإيمان، وأدخل فيه النقصان بعمله الذي يخالف الإيمان، ولا يوافقه؛ لذلك افترقا.
ويشبه أن يكون قوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) على التمثيل ليس على تحقيق الميزان والخفة، ولكن على الوصف بالعظم لأعمال المؤمنين وبالخفة والتلاشي لأعمال الكافرين؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ضرب لأعمال المؤمنين المثل بالشيء الثابت والطيب، ووصف أعمالهم بالثبات والقرار فيه، وضرب لأعمال الكافرين المثل وشبهها بالشيء التافه التالف، ووصفها بالبطلان والتلاشي كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ): وصف أعمالهم بالطيب والثبات والقرار، ووصف أعمال الكافرين بالخبث والتلاشي والبطلان كقوله: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) وقال في آية أخرى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) وكقوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)، ونحوه من الآيات: وصف أعمال المؤمنين بالثبات
365
والقرار، وأعمال الكفرة بالذهاب والبطلان؛ فعلى ذلك قوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) وصف بالعظم والقرار والثبات، وقوله: [(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)] وصف بالبطلان والتلاشي ألا يكون لهم من الخيرات: أشيء ينتفعون به، في الآخرة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (١٠)
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) قال أبو بكر الكيساني: " مكناكم "، أي: ملكناكم في الأرض (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) تتعيشون بها، يذكرهم نعمه ومنته عليهم بما ملكهم في الأرض، وجعل لهم منافع ليشكروا عليها.
وقال الحسن: " مكناكم "، أي: جعلناكم مستخلفين في الأرض: يذكرهم - عز وجل -أيضًا- نعمه عليهم بما جعلهم خلفاء الأولين، وجعل لهم معايش ويخوفهم زوال ذلك عنهم بما صار ذلك لهم بزوالها عن الأولين، وأمكن أن يذكرهم هذا بما جعل لهم مكان القرار، وموضعِ الانتشار والتقلب والتعيش، والبشر لا بد له من ذلك، وكله يرجع إلى واحد كقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)، أي: جعلنا الحرم آمنًا لكم بحيث تأمنون فيه وتتقلبون وتتعيشون فيه، ويتخطف الناس من حولهم، فهو يذكر لهم عظيم نعمه ومننه التي جعلها لهم هذا إذا كان الخطاب به لأهل مكة، وإن كان الخطاب به للناس كافة، فيخرج على تذكير النعم لهم حيث جعل الأرض لهم بحيث يقرون فيها ويتقلبون فيها.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) هو يحتمل وجوهًا، وكذلك قوله: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ):
أحدها: أنهم كانوا يقرون أنه خالقهم بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) كانوا يقرون بألوهيته ويصرفون العبادة إلى غيره؛ فلذلك قال:
(قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ).
والثاني: ألا تشكرونه ولا تذكرونه ألبتَّة.
والثالث: يحتمل (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أي: المؤمنون يشكرون، ولا يشكر أُولَئِكَ، والمؤمنون قليل وهم أكثر.
والرابع: أي: ليس في وسعهم القيام بشكر أجميع ما أنعم عليهم؛ لكثرة نعمه لا يتهيأ لهم القيام بشكر واحدة، فكيف يشكرون، الجميع؟! فذلك الشكر قليل.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) قال الحسن: قوله (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) أراد آدم خاصة؛ لأنه قال: (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أخبر: أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم بعد الخلق، ولو كان المراد منه نحن، لكان السجود بعد خلقنا، وقد كان السجود قبل ذلك.
وقال غيره: المراد منه البشر كله؛ لأنه قال (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أخبر أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم، ولو كان المراد آدم بقوله (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) خاصة، لكان لابد أن يذكر آدم ثانيًا؛ فدل أنه أراد به ذريته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ خلقناكم: أي، آدم، (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) في أرحامكم، ويحتمل ما قال الحسن، ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) أي: قدرناكم من ذلك الأصل وهو نفس آدم؛ لأن الخلق هو التقدير؛ كما تقول: أنا خلقته، أي: قدرته،
يقول: - واللَّه أعلم - (خَلَقْنَاكُمْ): أي قدرناكم جميعًا من ذلك الأصل والكيان، ومنه صورناكم، (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ) أي: وقد قلنا للملائكة (اسْجُدُوا لِآدَمَ) وذلك جائز في اللغة.
وقد يقول بعض أهل الكلام: إن النطفة هي إنسان بقوة، ثم تصير إنسانًا بفعل.
ويقول بعضهم: هي كيان الإنسان، فجائز أن يكون إضافته إلى ذلك الطين كما هو كيان وأصل لنا.
وقوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قال الحسن: إبليس لم يكن من الملائكة، وذلك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وصف الملائكة جملة بالطاعة له والخضوع بقوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وقال: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وغيره من الآيات ولم يكن من إبليس إلا كل سوء، وقال أيضًا: خلق الملائكة من نور وإبليس من نار على ما ذكر، والنار ليست من جوهر النور؛ دل أنه ليس من الملائكة.
وقال في قوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ): مثل هذا يجوز أن يقال: دخل هذه الدار أهل البصرة إلا رجلاً من أهل الكوفة، دل الاستثناء على أن دخل هنالك أهل الكوفة؛ فعلى ذلك يدل استثناء إبليس على أن كان هناك أمر بالسجود لآدم لغير الملائكة أيضًا، ولكن ليس لنا إلى معرفة ذلك فائدة: أنه كان من الملائكة أو من غيره، إنما علينا أن نعرف أنه عدو لنا، وقد ذكرنا هذا فيما سبق.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ... (١٢) قيل: قوله: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي: ما منعك أن تسجد على ما ذكر في آية أخرى وألا زائدة.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ...) بم علم عدو اللَّه أن المخلوق من النار خير من المخلوق بالطين إلا أن يقال بأن النار جعلت لمصالح الأغذية،
فمن هنا وقع له ذلك أنها خير من الطين، فيقال: إن النار وإن جعلت لصلاح الأغذية؛ فالطين جعل لوجود الأغذية فالذي جعل لوجود الشيء هو أنفع وأكبر مما جعل لمصالحه، ولعل الأغذية تصلح للأكل بغيرها بالشمس وغيرها.
وبعد فإن الطين مما يقوم للنار ويطفئها ويتلفها، والنار لا تقوم للطين ولا تتلفه؛ فإذا كان كذلك فلا يجوز أن يقع من هذا الوجه أنها أفضل وأخير من الطين.
ثم اختلف في الجهة التي كفر عدو اللَّه إبليس:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن إبليس عدو اللَّه لم ير لله على نفسه طاعة بأمر السجود لآدم؛ لذلك كفر.
وقال آخرون: إنما كفر عدو اللَّه لما لم ير الأمر بالخضوع والطاعة ممن فوقه لمن دونه حكمة؛ فكفر لما لم ير أنه وضع الأمر بالسجود موضعه، بل رآه - لعنه اللَّه - واضعًا أمرًا في غير موضعه.
وقال غيرهم: كفر عدو اللَّه بالاستكبار والتكبر على آدم لا لمعنى آخر.
وقيل: أول من أخطأ في القياس وزل فيه إبليس لعنه اللَّه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا... (١٣)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا)، يعني من السماء؛ لأنه لعنه اللَّه كان في السماء، فأمر بالهبوط منها؛ لما جعل السماء معدنًا ومكانًا للخاضعين المتواضعين، فأمر بالهبوط منها إلى مكان جعل ذلك المكان مكان الخاضعين والمتكبرين جميعًا وهي الأرض، والأرض معدن الفريقين جميعًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأمر بالهبوط منها أمر بالخروج من الأرض إلى جزائر البحور؛ لأن الأرض هي قرار أهلها وجزائر البحور ليست مكان قرار لأحد؛ ليكون فيها على
الخوف أبدًا؛ ألا ترى أنه قال: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) والبحار مما تميد بأهلها.
ْوأمكن أن يكون الأمر بالهبوط منها أمرًا بالخروج من الصورة التي كان فيها إلى صورة أخرى لا يعرف أبدًا ولا يرى عقوبة له لتركه أمر اللَّه وارتكابه نهيه (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) في تلك الصورة أو في تلك الأرض؛ حتى لا يقر أبدًا، ويكون على خوف أبدًا.
ويحتمل في السماء؛ لما ذكرنا.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) وجه صغاره: أنه ما من أحد ذكره إلا وقد لعنه، ودعا عليه باللعن، فذلك صغاره، وأمكن أن يكون صغاره؛ لما صيره بحال يغيب عن الأبصار، ولا يقع عليه البصر، أو لما طرده عن رحمة اللَّه.
* * *
قوله تعالى: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧)
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أنظره إلى النفخة الأولى؛ لئلا يذوق الموت؛ فيصل حياة الدنيا بحياة الآخرة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وقَالَ بَعْضُهُمْ: أنظره إلى يوم البعث.
وظاهر ما خرج من الخطاب أن يكون أنظره إلى يوم البعث؛ لأنه سأل ربه أن ينظره إلى يوم البعث حيث، قال: (أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فقال: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) خرج ذلك جوابًا لسؤاله، وما ذكر من الوقت المعلوم.
وفي آية أخرى يجيء أن يكون هو ذلك اليوم.
وقال غيره: أنظره ولم يبين له ذلك الوقت الذي أنظره إلى ذلك الوقت؛ حتى يكون أبدًا على خوف ووجل؛ ألا ترى أنه قال: (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي
الآية ١٥ وقال بعضهم : أنظره إلى يوم البعث ﴿ قال أنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ ﴿ قال إنك من المنظرين ﴾ خرج ذلك جوابا لسؤاله، وما ذكر من الوقت المعلوم في [ الآية الأخرى ]١ يجيء أن يكون هو ذلك اليوم.
وقال غيرهم٢ : أنظره، ولم يبيّن له ذلك الوقت الذي أنظره إلى ذلك الوقت، حتى يكون أبدا على خوف ووجل.
ألا ترى أنه قال :﴿ فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم ﴾ ؟ [ الأنفال : ٤٨ ] لو كان الوقت [ الذي ]٣ أنظره معلوما عنده لكان لا يخاف الهلاك بدون ذلك الوقت. دل أنه كان غير معلوم عنده.
١ في الأصل وم: آية أخرى. ولعل المقصود قوله الآنف الذكر [الحجر: ٣٨]..
٢ في الأصل وم: غيره..
٣ ساقطة من الأصل وم..
بَرِيءٌ مِنْكُمْ) لو كان الوقت الذي أنظره معلومًا عنده، لكان لا يخاف الهلاك بدون ذلك الوقت؛ دل أنه كان غير معلوم عنده.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)
قال الحسن: قوله: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي)، أي: بما لعنتني.
والإغواء هو اللعن كقوله (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)، أي: من الملعونين؛ فيعني ذلك قوله (أَغْوَيْتَنِي) أي: لعنتني. وقال أبو بكر الكيساني: أضاف الإغواء إلى نفسه؛ لما كان سبب ذلك منه، وهو الأمر الذي أمره بالسجود لآدم والخضوع له.
ويجوز أن يضاف إليه ذلك؛ لما كان منه السبب نحو قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي)، فطلب منه الإذن بالقعود، ولا تكلفني بما لا أقوم فتفتنني بذلك، وقال: إنما أضاف ذلك إليه؛ لما كان منه سبب ذلك الافتتان؛ فعلى ذلك هذا.
وقال بعض المعتزلة: هذا قول إبليس (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) وقد كذب عدو اللَّه لم يغوه اللَّه؛ فيقال لهم فإن كان إبليس عدو اللَّه قد كذب في قوله (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) فيما أغويتني فتقولون بأن نوحًا - صلوات اللَّه عليه - قد كذب حيث قال: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)، أضاف الإغواء إليه؛ دل هذا على أن إبليس لم يكذب بإضافة الإغواء إلى اللَّه.
ولكن عندنا أنه أضاف الإغواء إلى نفسه؛ لما خلق فيه فعل الغواية والضلال، على ما ذكرنا في غير موضع، ليس كما قال هَؤُلَاءِ: إنه أضيف إليه لمكان ما كان منه سبب ذلك؛ لأنه لو جاز أن يضاف فعل الإغواء إليه لسبب الإغواء لجاز أن يضاف ذلك إلى الرسل والأنبياء؛ لأنه كان منهم الأمر لقومهم والدعاء إلى توحيد اللَّه، ثم كذبوا في ذلك؛ فكان سبب إغواء أُولَئِكَ هم الرسل، وذلك بعيد.
وكذلك لو كان الإغواء هو اللعن، لكان كل لاعن عليه فهو مغويه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَغْوَيْتَنِي) أي: خذلتني.
والوجه فيه: ما ذكرنا: أنه خلق فيه فعل الغواية والضلال، وكذلك من كل كافر خذله؛
لما علم منه أنه يختار الغواية والضلال.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) هو المكث، ليس على حقيقة القعود، ولكن على المنع عن السلوك في الطريق أو على التلبيس عليهم الطريق المستقيم والستر عليهم؛ لأن من قعد في الطريق منع الناس عن السلوك فيه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) قال: الحسن: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل الآخرة؛ تكذيبًا بالبعث والجنة والنار، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) قال: من قبل دنياهم يزينها لهم ويشهيها إليهم، (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) قال: من قبل الحسنات يثبطهم عنها، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) قال: من قبل السيئات يأمرهم بها، ويحثهم عليها، ويزينها في أعينهم.
وعن مجاهد: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قال: من حيث يبصرون (وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) من حيث لا يبصرون.
وقيل (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل آخرتهم، فلأخبرنهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث، على ما ذكر الحسن.
(وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من قبل دنياهم: آمرهم بجمع الأموال فيها لمن بعدهم من ذراريهم وأخوف عليهم الضيعة، فلا يصلون من أموالهم زكاتها، ولا يعطون لها حقها، (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) من قبل دينهم، فأزين لكل قوم ما كانوا يعبدون، فإن كانوا على ضلالة زينتها لهم، وإن كانوا على هدى شبهته عليهم، حتى أخرجهم منه، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) من قبل اللذات والشهوات فأزينها لهم.
هذا الذي ذكر أهل التأويل يحتمل.
ثم ذكر الأمام والخلف وعن أيمان وعن شمال، ولم يذكر فوق ولا تحت؛ فيحتمل أن يدخل ما فوق وما تحت بذكر أمام واليمين والشمال والخلف؛ كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا
372
مِنَ السَّمَاءِ)، دخل " ما فوق " بذكر ما بين أيديهم، ودخل " ما تحت " بذكر ما خلفهم؛ فعلى ذلك هذا يدخل " ما تحت " و " ما فوق " بذكر ما ذكر؛ فيصير كأنه قال: فيأتيكم من كل وجه.
ويحتمل أنه لم يذكر هذا؛ لما أنه لا سلطان له على منع الأرزاق والبركات؛ لأن أرزاق الخلق والبركات مما ينزل من السماء من المطر، ويخرج من الأرض من النبات؛ فليس له سلطان يمنع إنزال المطر وإخراج النبات من الأرض، وله سلطان على غير ذلك.
أو يكون لما يشغلهم ويشهيهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من اللذات والشهوات لما إذا رأى أشياء أعجبته أتبع النظر إليها واحدًا بعد واحد من أمام ووراء ويمين وشمال، ولا كذلك من تحت ولا من فوق أو أن يكون؛ لما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما تلا هذه الآية قال: إن اللَّه منعه من أن يأتيهم من فوقهم، ولو كان ذلك لما نجا أحد، فأعمالهم تصعد إلى اللَّه، ورحمته تنزل عليهم.
وقال قتادة: أتاك اللعين من كل نحو يا ابن آدم، غير أنه لا يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة ربك؛ إنما تأتيك الرحمة من فوقك.
والذي ذكرنا أنه على التمثيل أنه يأتيه من كل جانب أشبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) يخرج على وجهين:
أحدهما: ليس على إرادة " بين " و " خلف " و " أيمان " و " شمال " ولكن على إرادة
373
الجهات كلها؛ كأنه يقول: لآتينهم من كل جهة.
والثاني: ما ذكر الحسن وأهل التأويل: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ): الآخرة تكذيبًا بها، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ): الدنيا تزيينًا بها عليهم، (وَعَنْ أَيْمَانِهِ): الحسنات، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ): السيئات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).
هذا من عدو اللَّه ظن ظنه لا قاله حقيقة، لكن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه قد صدق ظنه بقوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ).
* * *
قوله تعالى: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اخْرُجْ مِنْهَا).
يحتمل (مِنهَا): من السماء.
ويحتمل من الأرض.
ويحتمل من الصورة التي كان فيها على ما قلنا في قوله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا). وقيل: الجنة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَذْءُومًا مَدْحُورًا).
قيل: [مَذْءُومًا] مَدْحُورًا، أي: مذمومًا ملومًا عند الخلق جميعًا.
مدحورًا قيل: مقصيًّا مبعدًا عن كل خير. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: مذءوم ومذموم
ومدحور واحد مباعد مطرود.
وقوله: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ).
أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يملأ جهنم من إبليس ومن تبعه وأطاعه؛ لأنهم إنما يتبعونه ويطيعونه في الكفر والشرك باللَّه.
تعلق الخوارج بظاهر قوله: (لمَن تَبِعَكَ مِنهُمْ)، وكل مرتكب معصية تابع له؛ لذلك استوجب الخلود.
وقالت المعتزلة: كل مرتكب كبيرة بوعيد هذه الآية؛ لأنه تابع له.
وعندنا: ليس لهم في الآية حجة في تخليد من ذكروا في النار؛ لأنه إنما ذكرت على أثر نقض الدِّين ورد التوحيد؛ فكأنه قال: لمن تبعك في نقض الدِّين ورد التوحيد لأملأن جهنم منكم أجمعين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا... (١٩)
كان السكون في موضع من القرار فيه والأمن؛ كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ)؛ لتقروا فيه وتأمنوا؛ فقوله لآدم: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أسكنهما عز وجل ليقروا فيها ويأمنوا من كل ما ينقصهما من تلك النعم التي أنعم عليهما؛ لأن الخوف، مما [ينغص] النعم ويذهب بلذتها، فلما أسكنهما عَزَّ وَجَلَّ الجنة أمنهما عن ذلك كله.
ثم فيه أن أول المحنة والابتلاء من اللَّه لعباده إنما يكون بالإنعام والإفضال عليهم، ثم بالجزاء والعدل بسوء ما ارتكبوا؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ امتحن آدم أولًا بالإفضال والإنعام عليه؛ حيث أسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ووسع عليه نعمه، ثم امتحنه بالشدائد وأنواع المشقة؛ جزاء ما ارتكبوا من التناول من الشجرة التي نهاه عن قربالها، فهو ما ذكرنا أن أشرط، امتحانه عباده في الابتداء يكون بالإفضال والإنعام، ثم بالعدل والجزاء لسوء صنيعهم.
375
ألا ترى أنه قال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أخبر أن ما يصيبنا هو من كسب أيدينا وهو جزاء ما كسبنا.
وفيها وفي غيرها من القصص والذكر دليل إثبات، رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأنه أخبر عما كان من غير أن اختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك ولا نظر في الكتب التي فيها ذكرها، دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى.
ثم اختلف أهل التأويل في الجنة التي أسكن عَزَّ وَجَلَّ آدم فيها وزوجته:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الجنة التي يكون عود أهل الإسلام إليها في الآخرة، ولهم وعد عَزَّ وَجَلَّ تلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي جنة أنشأها لآدم ليسكن فيها في السماء، ولكن لا ندري ما تلك الجنة، وليس لنا إلى معرفة تلك الجنة حاجة، إنما الحاجة إلى ما ذكر من المحن.
واختلف -أيضًا- في الشجرة التي نهي آدم عن قربانها:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة العلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة الحنطة.
وقد ذكرنا أقاويل أهل التأويل واختلافهم في صدر الكتاب قدر ما حفظناه.
وكذلك اختلفوا في وسوسة الشيطان لآدم وحواء: أنه كيف وسوس إليه ومن أين
376
كان، وهذا -أيضًا- قد ذكرناه في تلك القصة. والحسن يقول: إنما وسوس إليهما من الدنيا لا أن كان دخل الجنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وسوس إليهما من رأس الجنة ومن فيها بكلمتهما.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ).
لم يرد به الدنو منها، ولكن أراد الذوق والأكل منها؛ لأنه قال: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) دل أن النهي لم يكن للدنو منها، ولكن للذوق والأكل منها.
وفيه: أن الامتحان من اللَّه مرة يكون بالحل، ومرة يكون بالحرمة؛ لأنه أذن له التناول مما فيها من أنواع النعم، وحرم عليه التناول من واحدة منها؛ فذلك محنة منه، ثم النهي عن التناول من الشيء يخرج على وجوه:
أحدها: ينهى بحق الحرمة لنفسه، وينهى بحق إيثار الغير عليه، وينهى عن التناول منه لداء فيه وآفة، وينهى لما يخرج التناول منها بحق الجزاء فلم يكن بعد وقت الجزاء له.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا... (٢٠)
قوله: (مَا وُورِيَ) أي: ستر وغطي، وسوءاتهما: عورتهما، والسوءة: العورة في اللغة.
377
وفيه أنه يجب أن نكون على حذر من شر إبليس اللعين؛ لئلا يجد فرصة علينا؛ فإنه أبدًا على سلب النعم التي أنعمها اللَّه على عباده، حيث احتال كل حيلة؛ حتى أبدى لهما ما ووري وستر عنهما من العورة وعمل في إخراجهما من النعم واللذات، وأوقعهما في الشدائد والمشقة.
وفيه أنه ليس حال عليه أشد من أن رأى أحدًا في النعم والسعة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)
قد ذكرنا معنى هذا -أيضًا- في صدر الكتاب.
378
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
قال الحسن قاسمهما في وسوسته إياهما إني لكما لمن الناصحين وهذا الذي يقول الحسن يومئ إلى أن آدم قد علم أنه الشيطان.
وقال أبو بكر الكيساني: إنه قد وقع عند آدم أن الشجرة التي نهاه ربه أن يتناول منها هي المفضلة على جميع الشجر، فلما وسوس إليه الشيطان، وقال له ما قال: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)؛ فوافق ظنُّه قول اللعين وما دعاهما إليه، ثم اشتغل فنسي ذلك؛ فتناول على النسيان، والنسيان على وجهين:
نسيان الترك على العهد، ونسيان السهو، ولا يحتمل أن يكون آدم ترك ذلك عمدًا؛ فهو على نسيان السهو، إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم أو كلام نحوه.
وقرأ بعضهم قوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ)، بكسر اللام من الملك؛ ذهب في ذلك إلى ما قال: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى). وقراءة العامة الظاهرة: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ)، بنصب اللام من الملائكة، وقد ذكرنا جهة رغبة آدم في أن يصير ملكًا؛
حيث تناول منها، في صدر الكتاب على قدر ما حفظنا.
* * *
قوله تعالى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ)، أي: أوردهما، يقال: دلاني فلان بحبل غرور، أي: أنه زين ألك، القبيح حتى يرتكبه، وأصل التدليه من الدلو، وهو من الدعاء، أي: دعاهما بغرور، ودعاؤه إياهما بغرور، هو قوله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
381
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)، وقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).
وقوله: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا).
فَإِنْ قِيلَ: كيف خصّ السوءة بالذكر، ومنته في اللباس في كل البدن لا في السوءة خاصة؟ وكذلك قوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، ذكر منته فيما أنعم علينا من ستر العورة وذلك في العورة وفي غيرها من البدن في دفع البرد والحرّ وغير ذلك؟!
قيل: لأن كشف العورة مستقبح في الطبع والعقل جميعًا، وأما كشف غيرها من البدن فليس هو بمستقبح في الطبع ولا في العقل، وربما يبدي المرء لغيره من البدن سوى العورة عند الحاجة، ويستر عند غير الحاجة، وأما العورة فإنه لا يبديها إلا في حال الضرورة؛ لذلك كان ما ذكر.
أو أن يقال: إن المفروض من الستر هو قدر الضرورة، والآخر يلبسه: إما بحق التجمل، وإما بحق دفع البرد والحرّ والأذى؛ لذلك كان تخصيصه بالذكر، وإلا المنة والنعمة عظيمة في لباس غيره من البدن.
فَإِنْ قِيلَ: إن اللَّه كنى عن الجماع مرة باللمس ومرة بالغشيان، وعن الخلاء بالغائط، وهو المكان الذي تقضى فيه الحوائج، وكذلك جميع ما لا يستحسن ذكره
382
مصرحًا فإنما ذكره بالكناية، وهاهنا ذكر السوءة في العورة؟!
قيل: السوءة والعورة هما كناية، لم يذكر الفرج ولا الذكر والدبر؛ فهو كناية.
والثاني في ذكر تخصيص السوءة؛ وذلك أن قصد الشيطان إنما كان إلى إبداء عورتهما لا غير.
ألا ترى أن ذلك لم يجعل لغير البشر عورة تستر؛ ولذلك خصّ الستر بالقبر إذا مات يقبر؛ لأجل عورته، ولا يقبر غيره من الدواب إذا هلك، ولا يستر في حال حياته؛ فخرج ذكر تخصيص السوءة لما ذكرنا أن اللعين قصد بذلك قصد إبداء عورتهما لا غير.
ألا ترى أنه قال: (لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا) كان قصده إلى ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: طفقا، أي: أخذا، تقول طفقت أفعل كذا، أي: أخذت، والخصف: الخياطة في النعل والخف، وهو مستعار هاهنا.
وقال مجاهد: يخصفان، أي: يرفعان كهيئة الثوب.
وقيل: يخصفان: يغطيان.
ثم قوله: (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
إما حياء أحدهما من الآخر أو حياء من اللَّه تعالى؛ ولهذا نقول: إنه يكره للرجل في الخلوة أن يكشف عورته ويبديها، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال: " فاللَّه أحق أن
383
يُستَحيا منه " أو حياء أحدهما من الآخر؛ لما بدت لكل واحد منهما عورة صاحبه؛ ولهذا كره أبو حنيفة - رحمه اللَّه - أن ينظر الرجل إلى فرج زوجته، والمرأة إلى فرج زوجها.
أو لما وقع بصر كل واحد منهما على عورته؛ فذلك يكره -أيضًا- أن ينظر المرء إلى فرجه.
ألا ترى أنه قال: (لِيُبْدِيَ لَهُمَا) ولم يقل: ليبديهما؛ فهذا يدل على أنه لا ينبغي أن ينظر إلى فرج زوجته، ولا الزوجة إلى فرجه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ.....) الآية.
يحتمل قوله: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا) وحيا أوحى إليهما على يدي ملك؛ كقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) أضاف إلى نفسه؛ لما ينفخ فيه بأمره؛ فعلى ذلك هذا.
أو إلهامًا؛ ألهمهما كقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ).
وكقوله: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ).
وكقوله (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، ونحوه؛ وإنما هو إلهام.
384
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا... (٢٣)
حيث أوقعناها في الشدائد وكد العيش.
والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، قال الحسن هن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه؛ بقوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ)، قال آدم ما
385
ذكر في الآية، وكذلك قال نوح: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقال إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، وقال نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) بعضه خرج على الأمر، وبعضه على السؤال، وكله على الدعاء والسؤال ليس على الأمر، وإن خرج ظاهره مخرج الأمر؛ لأن الأمر ممن هو دونه لمن فوقه دعاء وسؤال، وممن هو فوقه لمن دونه أمر، لو أن ملكًا من الملوك إذا أمر بعض خدمه بأمر أو بعض رعيته فهو أمر، وإذا أمره بعضُ خدمه أو رعيته - الأميرَ - شيئًا، فهو ليس بأمر، ولكنه سؤال ودعاء؛ فعلى ذلك دعاء الأنبياء - عليهم السلام - ربهم.
فَإِنْ قِيلَ: إن الرسل سألوا ربهم المغفرة لزلاتهم، فلا يخلو: إما أن أجيبوا في ذلك، أو لم يجابوا؛ فإن لم يجابوا فيما سألوا، فهو عظيم، وإن أجيبوا في ذلك - والمغفرة في اللغة: الستر - كيف ذكرت زلاتهم في الملأ إلى يوم القيامة؟
قيل: لوجوه:
386
أحدها: أنهم لما ارتكبوا تلك الزلات عظم ذلك عليهم، واشتغلت قلوبهم بذلك؛ لعظيم ما ارتكبوا عندهم، لم يخطر ببالهم عند سؤالهم المغفرة ستر ذلك على الناس، وكتمانها عنهم بعد أن أجاب اللَّه بالتجاوز عنهم في ذلك.
أو أن يقال: أراد بإفشاء ذلك وإظهاره إيقاظ غيرهم وتنبيههم في ذلك؛ ليعلموا أن الرسل مع جليل قدرهم، وعظيم منزلتهم عند اللَّه لم يحابهم في العتاب والتوبيخ بما ارتكبوا؛ فمن دونهم أحق في ذلك.
أو أن ذكر ذلك؛ ليعلموا أنه ليس بغافل عن ذلك، ولا يخفى عليه شيء، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، وقال: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، وقال: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، فأعلمنا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن آدم نسي أمر ربِّه؛ فقال قوم من أهل العلم: أكل آدم من الشجرة وهو ناس لنهي اللَّه إياه عن أكلها، وكان أكله منها ظلمًا منه لنفسه وعصيانًا لربِّه، وإن كان فعل ذلك ناسيًا.
ثم إن اللَّه تفضل على أمة مُحَمَّد؛ فرفع عنهم في الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
وقال قوم يعني قوله: (فَنَسِيَ) أي: ترك أمر ربه من غير نسيان، وقالوا: هذا كقول اللَّه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم).
ولا ندري كيف كان ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إن الخطأ والنسيان في الأحكام موضوع بهذا الحديث، فيقال: فما تقولون في قتل الخطأ: هل فيه الدية والكفارة؛ وما تقولون في رجل
387
أفسد متاع رجل وأحرقه ناسيًا أو مخطئا؟
فإن قالوا: ذلك لازم عليه؛ قيل فكيف قلتم: إن الحديث جاء في الأحكام، وأنتم توجبون الضمان؟
وقَالَ بَعْضُهُمْ وجه الحديث عندنا: أن الأمم قبل أمتنا كانت مأخوذة بالخطأ والنسيان فيما بينها وبين ربها، فرفع اللَّه تعالى الحرج عن هذه الأمة في ذلك؛ تفضلًا منه علينا من بين الأمم، فأما الغرامات والضمانات في الأحكام التي بين الناس فهي لازمة لهم خطأ فعلوا أو عمدا، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) دلالة النقض على المعتزلة؛ لأنهم
388
يقولون: الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر. ثم من قوله: إن الرسل والأنبياء معصومون عن الكبائر، فزلة آدم لا شك أنها صغيرة لما ذكرنا، ثم قال: إن لم يغفر لكان من الخاسرين فإذا لم يكن له أن يعذبه فيصير وكأنه قال أجرمت وخطئت علينا لتكونن من الخاسرين، وفائدة تقدير آدم وحواء أن يكونا من الملائكة
389
لأن المَلَكَ كما ذكرنا أنه لا يفتر عن العبادة، ولا يعصي... ربه، ولا يحتاج إلى شيء من المؤنة، ومن قرأ: ملكين؛ لأن الملك يكون نافذ الأمر والنهي في مملكته، وذلك مما يرغب فيه.
أو أن يكون أراد بذلك؛ ليشغلهما عن نهي ربهما؛ حتى ينسيا ذلك فيتناولا من تلك الشجرة على ما فعلا وفيما ذكر الخلود لأنه ليس بشيء ألذ ولا أشهى من الحياة.
والأشبه أن يقال: إنه لم ينسيا نهي اللَّه إياهما عن التناول منها ولكن نسيا قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)؛ لذلك تناولا، ولو ذكرا قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) ما تناولا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ... (٢٤)
عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: آدم وحواء وإبليس والحية. وقال الحسن: آدم ووسوسة الشيطان لأن من قوله: إن الشيطان لم يكن في السماء، إنما وسوس آدم وحواء من بعد؛ فالأمر بالهبوط لوسوسة الشيطان؛ ولذلك بقت في أولاده إلى يوم القيامة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: دل قوله: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) على أن الأمر بالهبوط إنما كان من السماء وكانوا في السماء.
ثم قوله: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) كأن الأمر بالهبوط لم يكن معًا؛ لأن إبليس أمر بالهبوط حين أبى السجود وآدم وحواء حين تناولا من الشجرة، ثم جمعهم في الأمر بالهبوط؛ ليعلم أن ليس في الجمع بالذكر دلالة وجوب الحكم والأمر مجموعًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اهْبِطُوا) لا يفهم منه الهبوط من الأعلى.
ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (اهْبِطُوا مِصْرًا) أي انزلوا فيه.
وقوله: (عَدُوٌّ)، وهو عدو لنا إما بالكفر، وإما بالسعي في هلاكنا، وكل من يسعى في هلاكنا فهو عدو لنا ونحن عدو له.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
قيل: إلى منتهى آجالكم، وإبليس: إلى النفخة الأولى. ويشبه أن يكون هذا ليس على التوقيت، ولكن على الدوام والقرار فيها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥)
قيل: الأرض فيها تعيشون، وفيها تموتون عند انقضاء آجالكم، ومنها تخرجون في القيامة.
* * *
قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ
عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا... (٢٦)
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن: أنزلنا ماء القراح من السماء ليتخذ منه اللباس ما يواري عوراتهم، ويتخذ منه الطعام والأشياء التي بها قوام أنفسهم.
ويحتمل قوله: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) أنزل الماء والأسباب التي بها يتخذ اللباس والأطعمة والأشربة، والعلم في ذلك الماء والأسباب، والعلم بذلك، وإلا ما عرف الخلق أن كيف يتخذ ذلك لباسًا والأطعمة والأشربة.
وفيه دليل إثبات الرسالة؛ لأنهم لم يعرفوا ذلك إلا بوحي من السماء.
أو أن يكون قوله: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا)، أي: جعل لكم وأنشأ لكم ما تتخذون منه اللباس والطعام والشراب ليس على الإنزال، ولكن على أن جعل لكم ذلك؛ كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ).
وقوله: (جَعَلَ لَكمُ) أي: أنشأ لكم (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ)، وهو أن خلق لنا ذلك.
وفيه دليل خلق أفعال الخلق؛ لأنه إنما صار طعامًا بفعل من العباد لا أنه أنزل من السماء هكذا، ثم أخبر أنه جعل ذلك لنا، دل أنه خلق فعل الخلق فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِيشًا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: مالًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: معاشا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس، وريش ما ستر به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى).
في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى)، بالرفع على الابتداء أي
393
لباس التقوى خير، ومن نصبه -أيضًا- فإنما ينصبه على الجواب لما تقدم؛ وإلا الحق فيه الرفع.
ثم اختلف فيه أهل التأويل قال الحسن: لباس التقوى: الدِّين.
وقال أبو بكر الأصم: القرآن.
394
وقيل: العفاف.
وقيل: الحياء.
وقيل: الإيمان، فكله واحد، أي: كل ما ذكر من لباس التقوى خير من اللباس الذي ذكر؛ لأن الدِّين والإيمان والقرآن والحياء يزجره ويمنعه من المعاصي فهو خير لأنه لباس في الدنيا والآخرة؛ لأن المؤمن التقي العفيف الحيي لا يبدو له عورة، وإن كان عاريًا من الثياب وأن الفاجر لا يزال تبدو منه عورته، وإن كان كاسيا من الثياب، لا يتحفظ في لباسه؛ فلباس التقوى خير، وهو كقوله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) هذا التأويل للقراءة التي تقرأ بالرفع: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) على الابتداء.
وأمَّا من قرأ بالنصب فهو رده إلى قوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا)، ثم أنزلنا عليكم -أيضًا- لباسًا تتقون به الحر والبرد والأذى؛ فيكون فيه ذكر لباس سائر البدن، وفي الأول ذكر لباس العورة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ).
يحتمل قوله: (ذَلِكَ) الذي اتخذ منه اللباس والأطعمة والأشربة من آيات الرسالة؛ لأن كل ذلك إنما عرف بالرسل بوحي من السماء، وهو ما ذكرنا أن فيه دليل إثبات الرسالة.
ويحتمل ذلك من آيات اللَّه أي: من آيات وحدانية اللَّه وربوبيته؛ لما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما؛ دل ذلك أن منشئهما ومدبرهما واحد؛ لأنه لو كان تدبير اثنين، ما اتسق تدبيرهما؛ لاتصال منافع أحدهما بالآخر.
395
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
أي: لعلهم يوفقون للتذكير، ولعلهم يتقون، أي: لعلهم يوفقون للتقوى، ولعلهم يوفقون للشكر لأنه حرف شك هذا يحسن أن يقال، واللَّه أعلم، أو نقول: لكي يلزمهم التذكر والتشكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ... (٢٧)
قَالَ بَعْضُهُمْ: خاطب به أهل مكة في تكذيبهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومخالفتهم أمره في ألا يخرجكم من الأمن والسعة، كما أخرج أبويكم من دار الأمن والسعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: احذروا دعاءه إلى ما يدعوكم إليه؛ فإنه يمنع عنكم في الآخرة الكرامة والثواب؛ كما أخرج أبويكم من دار الكرامة والمنزلة.
وقال أهل التأويل (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)، أي: لا يضلنكم الشيطان ويغويكم، كما فعل بأبويكم: أخرجهما من الجنة.
وقال آخرون: قوله: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) بما تهوى أنفسكم، ومالت إلى شهواتها وأمانيها، كما أخرج أبويكم من الجنة بما هوته أنفسهما واشتهائهما، يحذرهم اتباع هوى النفس وشهواتها وأمانيها؛ فإن السبب الذي به كان إخراجهما هو هوى النفس وأمانيها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا).
يحتمل قوله: (يَنْزِعُ) أي: نزع، عنهما لباسهما وهذا في القرآن كثير يفعل بمعنى فعل.
ويحتمل على الإضمار؛ كأنه قال: أراد أن ينزع عنهما لباسهما؛ ليريهما سوءاتهما، وقد ذكر أن المفروض من الستر هو ستر العورة لا غير، احتيج إليه أو لم يحتج، وأمَّا غيره من الستر فإنما هو لدفع الأذى من الحر والبرد أو للتجمل، والمفتون بالشيء هو المشغوف به والمولع به.
يقول: لا يمنعنكم عن دخول الجنة، كما أخرج أبويكم من الجنة، وكان قصده ما
396
ذكر من نزع اللباس وإبداء العورة وهو ما ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ).
قيل: قبيله: جنوده وأعوانه، حذرنا إبليسَ وأعوانَه؛ بما يروننا ولا نراهم، فإن قيل: كيف كلفنا محاربته، وهو بحيث لا نراه وهو يرانا ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو لا نقدر القيام بمحاربته وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه؟ قيل إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم، إذ لم يجعل، له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكر، نحو قوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ...) الآية، وقوله - تعالى -: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب جعلت لنا، فهذا يدل على أن اللَّه يجوز أن يكلفنا بأشياء لم يعطنا أسباب تلك الأشياء، بعد أن جعل في وسعنا الوصول إلى تلك الأسباب، وإن لم يكن لنا وقت التكليف تلك الأسباب، من نحو: الأمر بالصلاة، وإن لم نكن على الطهارة؛ إذ جعل في وسعنا الوصول إلى الطهارة، ونحو الأمر بأداء الزكاة، وإن لم
397
يكن وقت الأمر من نؤدي إليه حاضرًا، أو نحو الأمر بالحج وغيره من العبادات، وإن كان لا يصل إلى أداء ما افترض عليه إلا بعد أوقات مع احتمال الشدائد، وهذا يرد - أيضًا - على من يقول: إنه لا يلزم الأوامر والمناهي من جهلها، ولا يكلف إلا بعد العلم بها؛ لأنه يتكلف حتى لا يلزمه فرض من فرائض اللَّه وعبادة من عباداته؛ لأنه لا يكسب أسباب العلم؛ لئلا يلزمه ذلك، فهذا بعيد محال، والوجه فيه ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
اختلف أهل الاعتزال فيه؛ قال أبو بكر الأصم: الجعل من اللَّه على وجوه:
أحدها: السبب أي: أعطينا لهم السبب الذي به صاروا أولياء لهم، كما يقول الرجل لآخر: جعلتُ لك الدار والعبيد والمال، وهو لم يجعل له ذلك، ولكن أعطاه ما به صار ذلك، وهو إنما أعطاه سبب ذلك؛ فيضاف ذلك إليه؛ فعلى ذلك ما أضاف الجعل إليه؛ لما أعطاه السبب.
وقال جعفر بن حرب: " الجعل " هو التخلية، خلى بينهم وبين أُولَئِكَ؛ فأضاف ذلك إليه بالجعل، كما يقال للرجل: جعلت عبدك قتالًا ضرابًا، إذا خلى بينه وبين ما يفعله، وهو قادر على منعه عن ذلك، فعلى ذلك فبما أضاف الجعل إلى نفسه: هو أن خلى بينهم وبين أُولَئِكَ، يعملون ما شاءوا.
398
وقال الحسن: من حكم اللَّه أن من عصى يكون عدوا له، ومن أطاع يكون وليًّا له، ومن أطاع الشيطان فهو وليه، ومن عصاه يكون عدوًّا له؛ فكذا حكم اللَّه - تعالى - في كل من أطاعه يكون وليًّا له، ومن عصاه يكون عدوًا له.
وقال غيرهم من المعتزلة قوله: (جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)، أي: وجدناهم كذلك أولياء لهم.
ولكن لو جاز إضافة ذلك إلى اللَّه - تعالى - كما ذكر هَؤُلَاءِ - لجاز إضافة ذلك إلى الأنبياء؛ لأنه قد كان منهم التخلية في ذلك، والتسمية لهم بذلك، والحكم على ما قال الحسن، فإذا لم يجز إضافة ذلك إليهم؛ دل أنه قد كان من اللَّه في ذلك صنع لم يكن ذلك من الأنبياء، وهو أن خلق منهم فعل الولاية لهم؛ لما علم منهم أنهم يختارون ولايتهم ويتولونهم؛ كقوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، وبالله العصمة والنجاة.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً).
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل معصية فاحشة، والفاحشة: كل ما عظم فيه النهي، فإذا ارتكبوا ذلك فهو فاحشة.
وقال مجاهد: فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.
وقال غيره من أهل التأويل: الفاحشة هو ما حرموا من الحرث والأنعام والبنات، وغيره من نحو السائبة والحامي وغيره، لكن الفاحشة ما ذكرنا: أن كل ما عظم النهي فيه والزجر فهو فاحشة، والفاحشة هو ما عظم من الأمر، يعرف ذلك بوجهين:
399
أحدهما: يعظم ذلك في العقل، والثاني: بالسمع يرد فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا).
ادعوا في ذلك أمر اللَّه ورضاه به، ويقولون: لو لم يرض بذلك ولم يأمر، لكان ينكلهم وينتقم منهم، يعنون آباءهم، فاستدلوا بتركهم وما فعلوا على أن اللَّه قد كان رضي بذلك، وأمرهم أن يفعلوا ذلك؛ فدل تركه إياهم على ذلك على أنه قد أمرهم بذلك، ورضي عنهم؛ كمن يخالف في الشاهد ملكًا من الملوك في أمره ونهيه، فإنه ينكله على ذلك وينتقم منه؛ إذا كان قادرًا على ذلك، فإذا لم يفعل ذلك به دل ذلك منه على الرضا به؛ فعلى ذلك اللَّه: لما لم ينتقم منهم ولم ينكلهم، دل ذلك على الرضا والأمر به.
والثاني: كأنهم أخذوا ذلك من المسلمين لما سمعوا من المسلمين قالوا: " ما شاء الله كان " ظنوا أن ما كان من آبائهم كان بأمر من اللَّه ورضاه، لم يفصلوا بين المشيئة والأمر: المشيئة والإرادة هي صفة فعل كل فاعل يفعله على الاختيار، نحو أن يقال: شاء فعل كذا، أو أراد أمر كذا، ولا يجوز أن يقال: أمر نفسه بكذا، أو نهى نفسه عن كذا.
وأما قولهم: إن لم ينكل آباءهم، ولم ينتقم منهم بما فعلوا، دل أنه رضي بذلك، فيقال: إن فيهم من فعل على خلاف فعلهم وغير صنيعهم ضد ما فعل أُولَئِكَ، ثم لم يفعل بهم ذلك؛ فهل دل ذلك على الرضا منه بذلك؛ فإن قلتم: بلى فقد رضي بفعلين متضادين.
وإن قلتم: لا فكيف دل ذلك في أُولَئِكَ على الرضا والأمر، ولم يدل فيمن فعلوا بخلاف فعلهم؛ فهذا تناقض؟! وقد ذكرناه فيما تقدم، واللَّه أعلم.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُل) لهم يا مُحَمَّد.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
إن اللَّه أمر بهذا وحرم هذا، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) الفحشاء: هو ما ذكرنا ما عظم النهي فيه، أو كل ما يشتد فيه النهي ويغلظ أو يكثر هو الفحشاء.
ألا ترى أنه يقال لكل شيء يكثر: فحش، من نحو الكلام وغيره أنه إذا خرج عن حده
400
وجاوزه يقال: فحش؛ فعلى ذلك الفحشاء - هاهنا - هو ما جاوز حده في القبح، أو جاوز الحد من الكثرة، وهم قد أكثروا الافتراء على اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: بل تقولون على اللَّه ما لا تعلمون: إنه أمر بذلك.
وقيل: قوله: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ) أي: تعلمون أنكم تقولون على اللَّه ما لا تعلمون؛ لأنهم لم يكونوا يؤمنون بالرسل، ولا كان لهم كتاب، فكيف تعلمون أن اللَّه أمركم بذلك، وهو كقوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) لا يجوز ألا يعلم اللَّه، ولكن على النفي لذلك، ليس كما تقولون وتنبئون، ولكن يعلم خلاف ذلك وضده، ويكون في نفي ذلك إثبات غيره؛ فعلى ذلك يعلمون أنهم يقولون على اللَّه ما لا يعلمون.
وأسباب العلم بهذا: إما الرسل يخبرون عن اللَّه ذلك، وإما الكتاب يجدونه فيه مكتوبًا، فيعلمون فتتسع الشهادة بذلك، وهم قوم لا يصدقون الرسل، ولا يؤمنون بخبرهم، وليس لهم كتاب -أيضًا- يقرءونه، فما بقي إلا وحي الشيطان إليهم؛ كقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ... (٢٩)
والقسط: هو العدل في كل شيء: في القول والفعل وغيره، كقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، وكقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ). وأصل العدل: هو محافظة الشيء على الحد الذي جعل له، ووضعه موضعه.
401
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
اختلف فيه؛ قيل: (أَقِيمُوا)، أي: سووا وجوهكم نحو الكعبة، (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، أي: في كل مكان تكونون فيه، وهو كقوله: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي: اجعلوا بيوتكم نحو الكعبة؛ كقوله - تعالى -: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
وقيل: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ)، أي: اجعلوا عبادتكم لله، ولا تشركوا فيها غيره؛ كقوله: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، ويشبه أن يكون الوجه كناية وعبارة عن الأنفس؛ كأنه قال: أقيموا أنفسكم لله، لا تشركوا فيها لأحد شركًا كقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) أي بجعل نفسه لله سالمًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
يحتمل الدعاء نفسه، أي: ادعوه ربًّا خالقًا ورحمانًا، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): بالوحدانية والألوهية والربوبية.
ويحتمل قوله: (وَادْعُوهُ)، أي: اعبدوه مخلصين له العبادة، ولا تشركوا غيره فيها.
ويحتمل: أي دينوا بدينه الذي دعاكم إلى ذلك وأمركم به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
قال قائلون: هو صلة قوله: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)؛ كأنهم سألوا مما يعودون إذا بعثوا، فقال: (كَمَا بَدَأَكُم): خلقكم، (تَعُودُونَ) مثله.
ويحتمل أن يكون هو صلة قوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، يعودون كما كانوا في البداءة: الكافر كافرًا، والمؤمن مؤمنًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ): هو من الدائمة، ليس من الابتداء؛ لأنه
402
لا يجوز أن يقال لصبي: كافر أو مؤمن، وهو الدوام والمقام فيه إلى وقت الموت، وهو في الدنيا البداءة، وفي الآخرة الإعادة، وهو كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وقوله: (يَبْدَأُ) ليس يريد ابتداء نشوئه؛ ولكن كونه في الدنيا؛ فعلى ذلك قوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.....) الآية، يخرج على وجهين:
أحدهما، أي: كما كنتم في الدنيا تعودون في الآخرة كذلك: المؤمن مؤمن والكافر على كفره.
والثاني: كما أنشأكم في الدنيا لا من شيء؛ فعلى ذلك يبعثكم كذلك، لا يعجزه شيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِيقًا هَدَى... (٣٠)
بما هداهم اللَّه بفضله.
(وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ).
بما اختاروا من فعل الضلال؛ فأضلهم اللَّه؛ كقوله: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) وقوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).
فيه دلالة لزوم الحجة والدليل في حال الحسبان والظن إذا كان بحيث الإدراك والوصول إليه؛ لأنه قال: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه أنهم عند أنفسهم مهتدون، ولم يكونوا، ثم عوقبوا على ذلك؛ دل أن الدليل والحجة قد يلزم، وإن لم يعرف بعد أن كيف يكون سبيل الوصول إلى ذلك، وهذا يرد قول من يقول بأن فرائض اللَّه لا تلزم إلا بعد العلم بها والمعرفة.
* * *
قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
يحتمل أن يكون الخطاب - وإن خرج مخرج الأمر - بأخذ الزينة واللباس، فهو على النهي عن نزعها؛ لأن الناس يكونون آخذين الزينة وساترين عوراتهم غير بادين بها فإذا كان كذلك فهو على النهي عن نزع لباسهم وإبداء عوراتهم، وهو ما ذكر في بعض القصة أن أهل الشرك كانوا إذا طافوا بالبيت نزعوا ثيابهم، ويقولون: لا نطوف في ثيابنا التي أذنبنا فيها، فإن كان التأويل ما قال ابن عَبَّاسٍ وهَؤُلَاءِ: فيكون فيه إضمار؛ كأنه قال: خذوا زينتكم عند هذا المسجد، كما تأخذون عند كل مسجد سواء.
وإلا خرج تأويل الآية على وجوه:
أحدها: يقول: صلوا في كل مسجد، ذكر هذا لمن لا يرى الصلاة إلا في مسجده، على ما روي: " أن لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ".
والثاني: يقول: صلوا بكل مسجد، وبكل مكان؛ كقوله - عليه السلام -:
404
" جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسجِدًا وَطَهُورًا ".
والثالث: بجعل الزينة العبادة نفسها؛ بقوله: (خُذُوا زِينَتَكُمْ).
ويحتمل ما ذكره أهل التأويل: كانوا يستعيرون من أهل مكة ثيابًا يطوفون فيها، فإن لم يجدوا بها طافوا فيها عراة بادين عوراتهم، فنهاهم اللَّه - تعالى - عن ذلك، وقال: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، أي: لا تنزعوا ثيابكم التي على عوراتكم؛ فهو على النهي عن نزع الثياب وإبداء العورة، وكذلك قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا).
يخرج على النهي عما حرموا على أنفسهم من أنواع المنافع والنعم التي أحل اللَّه لهم: من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ومن نحو ما حرموا من الزرع والطعام، وكقوله: (وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا). خرج قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) على النهي عما حرموا مما أحل لهم، لا على الأمر بالأكل والشرب؛ لأن كل أحد يأكل ويشرب، ولا يدع ذلك؛ فدل أنه خرج على النهي عما حرموا؛ كأنه قال: لا تحرموا ما تحرمون، ولكن كلوا واشربوا وانتفعوا بها.
فإن كان على ابتداء الأمر بأخذ الزينة، فهو - واللَّه أعلم - أمر بأخذ الزينة والتجمل عند كل مسجد، والمسجد هو مكان كل عبادة ونسك، على ما يكون في غير ذلك من الأوقات يتزينون ويتجملون عند اجتماع الناس؛ فعلى ذلك يكونون في مكان العبادة والنسك.
أو أن يكون لما في المسجد من اجتماع الناس للعبادة، فأمروا بستر عوراتهم في ذلك.
405
ويكون قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)، أي: كلوا واشربوا واحفظوا الحدّ في ذلك ولا تجاوزوه، وهو نهي عن الكثرة.
أو ما ذكرنا أنه نهاهم عن التحريم وترك الانتفاع بها، وفي تحريم ما أحل اللَّه وترك الانتفاع بها إسراف.
(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)؛ لأنه لا يحب الإسراف، وقد ذكرنا أن المفروض من الستر هو ما يستر به العورة، وأما غيره فإنما هو على دفع الأذى والتجمل.
ألا ترى أنه قال: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)، وقال: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، منَّ علينا بما أنزل مما نستر به عوراتنا، وإن كانت له المنة في الكل، وذلك -أيضًا- قبيح في الطبع أن ينظر أحد إلى عورة آخر، وعلى ذلك جاءت الآثار في الأمر بستر العورة، روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك "، فقيل: يا رسول اللَّه؛ فإن كان بعضنا في بعض؟، فقال: " إن استطعت ألا تظهر عورتك فافعل ". فقيل: فإذا كان أحدنا خاليًا، فقال: " فاللَّه أحق أن يُسْتَحْيا منه ".
وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة "، ومثله كثير، وفيما ذكرنا كفاية؛ وعلى ذلك يخرج الأمر بالإخبار بستر العورة؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ.....) الآية، لئلا تُرَى عورته؛ لأنه يكون جفاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... (٣٢)
406
قال أبو بكر الأصم: الزينة - هاهنا -: هي اللباس؛ لأنه ذكر على أثر ذلك اللباس، وهو قوله: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، والطيبات من الرزق: ما حرموا مما أحل الله لهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغير ذلك، مما كانوا يحرمون الانتفاع به؛ كقوله: (وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ).
وقال الحسن: زينة اللَّه هي المرْكَب؛ كقوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)، جعل اللَّه ما يركب زينة للخلق، وهم كانوا يحرمون الركوب والانتفاع بها، فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)، وقال: (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ): ألبانها ولحومها.
وقال غيره من أهل التأويل: زينة اللَّه - هاهنا -: النبات وما يخرج من الأرض مما هو رزق للبشر، والدواب جميعًا؛ كقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ....) وكقوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) سمى لنا ما أخرج من الأرض: زينة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
اختلف فيه؛ قال الحسن: هي، يعني: الطيبات خالصة للمؤمنين في الآخرة لا يشاركهم الكفرة فيها، فأمّا في الدنيا فقد شاركوهم؛ فالتأويل الأول يخرج على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: قل هي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة، وفي الحياة الدنيا لهم جميعًا؛ كقوله: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ).
ويحتمل قوله: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)؛ لأنهم لم يحرموا الطيبات التي أحل اللَّه لهم، بل انتفعوا بها، وحرمها أُولَئِكَ ولم ينتفعوا بها، فكانت هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ لما انتفعوا بها في الدنيا، وتزودوا بها للآخرة، وكانت لهم خالصة يوم القيامة، وإنما كان خالصًا لهم يوم القيامة، لما لا يكون لأهل الشرك ذلك؛ لما لم يتزودوا للمعاد، وقد كانت لهم في الدنيا لو لم يحرموها وانتفعوا بها.
407
وفي قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) دليل إباحة الزينة والتناول من الطيبات، وقد يحتمل أن يكون خرج على النهي والإنكار على ما كان يفعله أهل الشرك؛ من نحو تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، فقال: قل من حرم ما حرمتم إذا لم يحرمه اللَّه.
ألا ترى أنه قال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) يقول - واللَّه أعلم - لم يحرم ما حرمتموه من هذه الأشياء؛ ولكن حرم الفواحش وما ذكر، ولم يذكر جوابهم أنهم ماذا يقولون؛ فهو يخرج على وجهين:
إن قالوا: حرمه اللَّه، فيقال لهم: من حرمه وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب؟! فإن قالوا: حرمه فلان، فيقال: كيف صدقتم فلانًا في تحريم ذلك، ولا تصدقون الرسل فمما يخبرون عن اللَّه - تعالى - مع ظهور صدقهم؟! يذكر سفههم في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ)؛ كأنه يقول: ليس لأحد تحريم ما ذكرنا؛ إنما التحريم إلى اللَّه، وإنما حرم ما ذكر، وقد يحتمل ما ذكرنا من نزعهم الثياب عند الطواف ويطوفون عراة، على ما ذكر في القصة، وإلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ والحسن وقتادة وعامة أهل التأويل، وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. حيث قال: " ألا لا يطوفن بهذا البيت عريان ولا مُحْدث ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ). أي: نبين الآيات. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). أي: لقوم ينتفعون بعلمهم، أو نقول): (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ)، أي: كذلك نفصل حكم آية من حكم آية أخرى، نفصل هذا من هذا، وهذا من هذا.
وقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) إنه إذا لم يفهم من زينة اللَّه ما يفهم من زينة الخلق - لأن زينة الخلق ما يتزينون به ويتجملون - لا يجب أن يفهم من استوائه استواء الخلق، ولا
408
من مجيئه مجيء الخلق؛ لأن استواء الخلق هو انتقال من حال إلى حال، ولا يجوز أن يفهم منه ذلك، على ما لم يفهم من زينة اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ... (٣٣)
يشبه أن تكون هذه الآية مقابل قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)، كما خرج آخر الآية وهو قوله: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)، مقابل الأول وهو قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، والنهي هناك نهي تحريم كالتنصيص على التحريم هاهنا، وتكون الفحشاء التي ذكر في هذه الآية الفواحش التي ذكر في تلك، والمنكر الذي ذكر هاهنا هو الإثم الذي ذكر في تلك، وذكر البغي هاهنا وهنالك.
ثم الفحشاء: هو الذي ظهر قبحه في العقل، والسمع.
والمنكر: هو الذي ظهر الإنكار فيه على مرتكبه.
والإثم هو الذي يأثم المرء فيه.
409
والبغي: هو من مظالم الناس يظلم بعضهم على بعض.
410
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفواحش هن الكبائر، والإثم هو الصغائر، والبغي هو أخذ ما عصم من مال أو نفس بعقد الإسلام، على ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يقولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "، فكل ما صار معصومًا بالإسلام من مال أو نفس، فأخذ ذلك بغي وظلم إلا ما ذكر بحقها.
وأصل البغي هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له.
وقال أهل التأويل: الفواحش هي الزنى، ما ظهر منها علانية، وما بطن منها: سرًّا، لكن الفواحش ما ذكرنا أن ما أظهر قبحه، في العقل وفحشه السمع فهو فاحشة، والفواحش هي ما ذكرنا أن ما قبح في العقل والسمع وأفحش فيهما، فهي الفاحشة.
وأصل المنكر: كل ما لا يعرف؛ كقول إبراهيم: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) والمنكر: ما أنكره العقل والسمع أيضًا.
411
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).
أي: وحرم -أيضًا- أن تشركوا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا): ليس على أنه ينزل سلطانًا على الإشراك بحال؛ ولكن على أنهم يشركون باللَّه من غير حجج وسلطان؛ لأن أهل الإسلام هم الذين يدينون بدين ظهر بالحجج والآيات، وهم يدينون بدين لا يظهر بالحجج والآيات، ولكن بما هوت أنفسهم واشتهت.
ويحتمل قوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)، أي: عذرًا؛ لأنه يجوز أن يعذر المرء بحال في إجراء كلمة الكفر على لسانه عند الإكراه، ولا يصير به كافرًا إذا كان قلبه مطمئنا بالإسلام ومنشرحًا به؛ كقوله: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) أي: يشركون باللَّه من غير أن ينزل بهم حال عذر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
أي: يعلمون أنهم يقولون على اللَّه ما لا يعلمون أنه حرم كذا، وأمر بكذا.
وقوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أنكم تقولون على اللَّه ما لا تعلمون، هذا على الجهل، والأول على العلم؛ كقوله: (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ) أي: تنبئون اللَّه بما يعلم أنه ليس ما تقولون.
* * *
قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ): هو بعث الرسول إليها أي لا يهلكون إلا بعد، بعث الرسل إليهم، فإذا أتاهم الرسول، فكذبوه وعاندوا، فعند ذلك يهلكون، وهو كقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا).
ويحتمل أن لكل أمة أجلًا لا تهلك قبل بلوغ أجلها لا تستأخر ولا تستقدم. فهذا يرد
على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن من قتل إنما هلك قبل بلوغ أجله، ويجعلون القاتل منه مستقدمًا لأجل ذلك المقتول، واللَّه - تعالى - يقول: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ): إذا جاء لا يستأخرون، وإذا لم يجئ لا يستقدمون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ... (٣٥)
قال أهل التأويل: (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)، أي: سيأتينكم رسل منكم، أو سوف يأتيكم يقصون عليكم ثم يحتمل قوله:
(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي)، أي: هداي؛ كقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فعلى ذلك قوله (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) أي: هداي، (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
ويحتمل الآيات: الحجج والبراهين التي يضطر أهلها إلى قبولها إلا من عاند وكابر.
(فَمَنِ اتَّقَى). اتقى الشرك. (وَأَصْلَحَ). وآمن باللَّه وعمل صالحًا.
(فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وقوله: (فَمَنِ اتَّقَى) يحتمل: اتقى ما نهى الرسل أو اتقى المهالك، وأصلح فيما أمر به الرسل، أو أصلح أمره وعمله. (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في ذهاب ما أكرمهم به مولاهم ولا فوته؛ لأن [خوف الفوت مما ينقص النعم].
(وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): تبعاته وآفاته: يخبر أن نعيم الآخرة على خلاف نعيم الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦)
ظاهر تأويلها، وقد ذكرنا في غير موضع حتى لم يأخذوا على أحد منهم.
413
وفي قوله: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) له على خلقه منن كثيرة ونعم عظيمة، حيث بعث الرسل من جنس المرسل إليهم:
أحدها: أن كل ذي جنس وجوهر يستأنس بجنسه وجوهره، ويستوحش بغيره، فمنَّ عليهم؛ حيث بعث الرسل من جنسهم وجوهرهم، يستأنس بعضهم ببعض ويألف بعضهم بعضًا؛ فذلك آخذ للقلوب وأدعى إلى الاتباع والإجابة.
والثاني: بعث الرسل من قومهم الذين نشئوا بين أظهرهم، وعرفوا صدقهم وأمانتهم؛ ليعلموا أنهم صادقين فيما يدعون من الرسالة؛ حيث لم يظهر منهم الكذب والخيانة قط، حتى لم يأخذوا على أحد منهم الكذب.
والثالث: أن الرسل لو كانوا من غير جنسهم وغير جوهرهم، لم يعرفوا ما أوتوا من الآيات والبراهين أنها آيات وحجج؛ لما لا يعلمون أن وسعهم لا يبلغ هذا، وطوقهم لا يصل إلى ذلك، وإذا كانوا منهم يعرفون ذلك إن أتوا بشيء خرج عن وسعهم أنها آيات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
قال الحسن: ديننا. ويحتمل (بِآيَاتِنَا) حججنا أي: كذبوا بحججنا، فإذا كذبوا بحججه كفروا به؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يعرف من طريق الحس والعيان؛ ولكن إنما يعرف من طريق الحجج والآيات والدلائل؛ فيكون الكفر بآياته وحججه كفرًا به، ويشبه أن تكون آياته آيات الرسالة وحججها.
ويحتمل آياته - هاهنا - رسله، أي: كذبوا برسلنا، سمى رسله آياته؛ لأن أنفس الرسل كانت آيات للخلق تدلهم على وحدانية اللَّه، ورسالتهم من أعلام جعلت من أنفسهم من صدقهم وأماناتهم.
(وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا).
أي: استكبروا عن التدبر فيها والنظر.
414
الآية ٣٦ وقوله تعالى :﴿ والذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ظاهر تأويلها قد ذكرناه في غير موضع حين١ لم يأخذوا على أحد منهم [ الصّدق ]٢.
وقوله٣ تعالى :﴿ يا بني آدم إما يأتينّكم رسل ﴾ به على خلقه منن كثيرة، ونعمه عظيمة حين٤ بعث الرسل من جنس المرسل إليهم :
أحدها : أن كل ذي جنس وجوهر مستأنس بجنسه وجوهره، ويستوحش بغيره، فمنّ عليهم حين٥ بعث الرسل من جنسهم وجوهرهم ؛ يستأنس بعضهم ببعض ؛ ويألف٦ بعضهم بعضا، فذلك آخذ للقلوب وأدعى إلى الاتّباع والإجابة.
والثانية٧ : بعث الرسل من قومهم الذين نشؤوا بين أظهرهم، وعرفوا صدقهم وأمانتهم ليعلموا أنهم صادقون٨ في ما يدعون من الرسالة حين٩ لم يظهر منهم الكذب والخيانة قط حتى لم يأخذوا على أحد منهم الكذب.
والثالثة١٠ : أن الرسل لو كانوا من غير جنسهم وغير جوهرهم لم يعرفوا ما أوتوا من الآيات والبراهين /١٧٣-أ/ أنها آيات وحجج لما لا يعلمون أن وسعهم لا يبلغ هذا، وطوقهم لا يصل إلى ذلك. وإذا كانوا منهم يعرفون ذلك، إذا أوتوا بشيء خرج عن وسعهم، أنها آيات.
وقوله تعالى :﴿ والذين كذّبوا بآياتنا ﴾ قال الحسن : بديننا١١ ﴿ واستكبروا عنها ﴾ وتحتمل : آياتنا حججنا ؛ أي كذّبوا بحججنا فإذا كذّبوا بحججه كفروا به ؛ لأنه عز وجل لا يعرف من طريق الحسّ والعيان، ولكن إنما يعرف من طريق الحجج والآيات والدلائل، فيكون الكفر بآياته وحججه كفرا به. ويشبه أن تكون آياته آيات الرسالة وحججها.
وتحتمل آياته ههنا رسله أي كذّبوا برسلنا ؛ سمّى رسله آياته ؛ لأن [ الرسل أنفسهم كانوا آيات ]١٢ للخلق تدلّهم على وحدانية الله، ورسالتهم من أعلام جعلت من أنفسهم من صدقهم وأمانتهم ﴿ واستكبروا عنها ﴾ أي استكبروا١٣ التدبّر فيها والنظر ﴿ أولئك أصحاب النار ﴾ لأنهم يصحبون النار والسبب الذي يوجب لهم النار أبدا، فسمّوا أصحاب النار لما هم يصحبونها دائما، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حتى..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: وفي قوله..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ في الأصل وم: حيث..
٦ في الأصل وم: وتأليف..
٧ في الأصل وم: والثاني..
٨ في الأصل وم: صادقين..
٩ في الأصل وم: حيث..
١٠ في الأصل وم: والثالث..
١١ في الأصل وم: ديننا..
١٢ في الأصل: أنفس الرسل كانت، في م: أنفس الرسل كانت آيات..
١٣ في الأصل: استكبرت، في م: استكبر..
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ).
لأنهم يصحبون النار والسبب الذي يوجب لهم النار أبدًا؛ فسموا أصحاب النار بذلك؛ كما يقال: صاحب الدار وصاحب الدابة؛ لأنه هو يصحبها دائمًا؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ سموا أصحاب النار؛ لما هم يصحبونها دائِمًا أبدًا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٧) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ).
قد ذكرنا فيما تقدم أن قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ): إنما هو حرف استفهام وسؤال لم يخرج له جواب، لكن أهل التأويل عرفوا ذلك، فقالوا: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا، أجابوا على ما عرفوا من السؤال؛ وإلا ليس قولهم: لا أحد أظلم، نفس قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ)، أي: لا أحد أفحش ظلمًا ولا أقبح ظلمًا ممن افترى على اللَّه كذبا، مع علمه أنه خالقه، وأنه متقلب في نعمه، وأحاطت به أياديه وإحسانه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ): أي لا أحد، أفحش ظلما ولا أقبح ظلمًا ممن افترى على اللَّه كذبًا.
وقوله: (افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، قيل: الافتراء هو اختراع الكذب من نفسه من غير أن سبق له أحد في ذلك؛ كقوله: (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)، وأما الكذب، فقد يكون مما أنشأ هو أو مما قد سبق له أحد فسمع منه ثم افتراه على الله فهو أنواع:
يكون بما قالوا: إن له ولدًا، وقالوا: إن له شريكًا وصاحبة، وبما عبدوا غير الله
415
وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) ويكون ما قالوا، (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ويكون بما حرموا من أشياء على أنفسهم فأضافوا ذلك إلى اللَّه، ونحو ذلك من الافتراء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ).
اختلف فيه: قال الحسن: إن من أطاع اللَّه في أمره ونهيه، وأطاع رسله، فقد كتبت له الجنة خالدًا فيها أبدًا، فذلك نصيبه وحظه من الكتاب الذي كتب له، ومن عصى
اللَّه وخالف رسله، كتبت له النار خالدا فيها أبدًا، فهو نصيبه من الكتاب.
وقال أبو بكر الكيساني:
في قوله: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ)، أي: حظهم من الخير والعقاب في الآخرة، وهو قول الْقُتَبِيّ ويحتمل وجهين آخرين غير هذين:
أحدهما: ما حرفوا من الكتب وغيروها، ثم أضافوا ذلك ونسبوه إلى اللَّه؛ كقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وقوله - عز وجل -: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فصار ما حرفوا هم وغيروه سنة فيهم يعملون بها إلى يوم القيامة، فينالون هم جزاء ذلك يوم القيامة. والثاني: قوله: (يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ) مما كتب لهم من الرزق والنعمة، يستوفون ذلك المكتوب لهم، ثم يموتون.
ثم قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ).
على هذا التأويل جاءتهم الرسل بقبض أرواحهم، وهو ظاهر.
416
وعلى تأويل من حمل ذلك على الجزاء في الآخرة: فهو يجعل المتوفَى في النار؛ لشدة العذاب، وإن كانوا لا يموتون، وهو كقوله: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)، أي تأتيه أسباب الموت.
وعلى تأويل من يجعل قوله: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ): في الدنيا في استيفاء الرزق وما كتب لهم؛ يكون قوله: (حَتَّى) على الإثبات وعلى تأويل من يقول بأن ذلك في الآخرة فيجيء أن يكون على الصلة والإسقاط.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
تقول لهم الملائكة في النار على تأويل هَؤُلَاءِ وعلى تأويل أُولَئِكَ: عند قبض أرواحهم، أو بعد قبض أرواحهم.
وقوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، أي: تعبدون من دون اللَّه، وتقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، وقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) أو الأكابر التي ذكر بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، أين أُولَئِكَ الذين كنتم تعبدون من دون اللَّه؟!
(قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا).
وهلكوا، أي: بطل عبادتنا التي عبدناهم؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ)، أي: هلكنا وبطلنا.
(وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).
فإن كان قوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ): الكبراء منهم والرؤساء يكون قوله: (ضَلُّوا عَنَّا)، أي: شغلوا بأمرهم عنا، وإن كان الأصنام يكون قوله: (ضَلُّوا عَنَّا) أي: بطل ما كنا نطمع من عبادتنا إياهم، وهو قولهم: (شُفَعَاؤُنَا عَندَ اللَّهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ... (٣٨)
قوله: (فِي أُمَمٍ) يحتمل مع أمم، وذلك جائز في اللغة؛ يقال: جاء فلان في جنده.
وقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ).
417
المتبوعين والأتباع جميعًا معًا والعرب تضع حروف الخفض بعضها في موضع بعض؛ كقوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قيل: مع عبادي. ويحتمل " في " موضعه كأن المتبوعين يدخلون النار قبل الأتباع فقيل لهَؤُلَاءِ الأتباع (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ). وفيه دليل أن الكفار من الجن يعذبون كما يعذب الكفار من الإنس.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).
لعن الأتباع المتبوعين؛ لما هم دعوهم إلى ذلك، وهم صرفوهم عن دين اللَّه؛ كقولهم: (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا....)، وكقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا....)، وغير ذلك من الآيات.
ولعن المتبوعون الأتباع؛ لما يزداد لهم العذاب بكثرة الأتباع وبقدرهم؛ فيلعن بعضهم بعضًا.
وفيه دليل أن أهل الكفر وإن اختلفوا في مذاهبهم فهم إخوة وأخوات بعضهم لبعض، كالمؤمنين بعضهم إخوة وأخوات لبعض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من التدارك، أي: حتى إذا تداركوا وتتابعوا فيها.
وقيل: هو من الدرك؛ لأن النار دركات، لا يزال أهل النار يهوون فيها لا قرار لهم في ذلك؛ وفي القرار بعض التسلي والراحة، فلا يزالون يهوون فيها دركًا فدركًا.
وقيل: ولذلك سميت هاوية.
وقيل: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا)، أي: اجتمعوا فيها؛ فعند ذلك يتلاوم بعضهم بعضًا، فإن كان على التدارك فهو كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ). وإن كان على الاجتماع فهو للتضييق؛ كقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ) ويجتمعون يلعن بعضهم بعضًا.
418
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ).
يحتمل قوله: (أُخْرَاهُمْ): الذين أكانوا، في آخر الزمان، (لِأُولَاهُمْ): الذين شرعوا لهم ذلك الدِّين.
(رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).
ويحتمل قوله: (أُخْرَاهُمْ) الذين دخلوا النار أخيرًا وهم الأتباع، (لِأُولَاهُمْ) الذين دخلوا النار أولًا، وهم القادة والمتبوعون، (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ)، يعني: القادة والسادة، (أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) هو؛ كقوله: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)، ويشبه أن يكون قوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ): ليس على القول بعضهم لبعض، ولكن على الدعاء عليهم واللعن؛ كقوله: (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا). وقوله: (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لكل ضعف النار؛ لأنها لا تزال تزداد وتعظم وتكبر فذلك الضعف، وذلك للأتباع والمتبوعين جميعًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)، أي: للمتبوعين والقادة ضعف، قال لهم مالك، أو خزنة النار، أو من كان: ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة بعد أن يقال لهم ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ).
في الدنيا أن لكم ضعفًا منها.
وقيل: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ): للحال بأن لكل ضعفًا من النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ... (٣٩)
يحتمل (أُولَاهُمْ) هو ما ذكرنا: الذين شرعوا لهم ذلك الدِّين، وسنوا لهم (لِأُخْرَاهُمْ) الذين كانوا في آخر الزمان.
ويحتمل (أُولَاهُمْ): الذين دخلوا أولًا، (لِأُخْرَاهُمْ): هم الذين دخلوا النار أخيرًا، وهم الأتباع.
(فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ).
قيل فيه بوجهين:
يحتمل ماكان لكم علينا من فضل في شيء؛ فقد ضللتم كما ضللنا، أي: لم يكن لنا عليكم فضل سلطان، ولا كان معنا حجج وآيات قهرناكم عليها، إنما دعوناكم إلى ذلك فاستجبتم لنا، وقد كان بعث إليكم الرسل مع حجج وآيات فلم تجيبوهم، وهو كخُطبة إبليس حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ...) فيقول هَؤُلَاءِ القادة للأتباع مثل قول الشيطان لجملتهم.
وقيل: قوله (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)، يعني: تخفيف العذاب.
أي: نحن وأنتم في العذاب سواء، لا فضل لكم علينا من تخفيف العذاب في شيء.
أحد التأويلين في قوله: (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) يرجع إلى الآخرة والآخر إلى الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).
من الشرك والتكذيب لآيات اللَّه، وكذلك جزاء بما كانوا يكسبون ويعملون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا... (٤٠)
هذا قد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني بأبواب السماء أبواب الجنان؛ لأن الجنان تكون في السماء؛ فسمى أبواب السماء لأن الجنان فيها،
ألا ترى أنه قال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) وما يوعد لنا هو
420
الجنة، ثم أخبر أنها في السماء.
ألا ترى أنه قال: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أكأنه قال: لا تفتح لهم أبواب الجنان ولا يدخلون الجنة، - أيضًا.
وقال آخرون: أبواب السماء هي أبواب السماء؛ وذلك أن أعمال المؤمنين ترفع إلى السماء وتصعد إليها أرواحهم، وأعمال الكفرة وأرواحهم ترد إلى أسفل السافلين؛ كقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، وقال في الكافر: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فإذا كانت أعمال المؤمنين وأرواحهم ترفع إلى السماء وتصعد إليها، أخبر أن الكافرين، لا تفتح لهم أبواب السماء ولا لأعمالهم، ولكن ترد إلى السجين.
وأمكن أن يكون على التمثيل ليس على تحقيق السماء؛ ولكن ذكر السماء لما أن السماء هي مكان الطيبات من الأشياء وقرارها، لا مكان الخبائث والأقذار، والأرض هي مكان ذلك، وأعمال الكفرة خبيثة؛ فكنى عن أعمالهم الخبيثة بالأرض لما أن الأرض هي معدن الخبائث والأنجاس.
وكنى عن أعمال المؤمنين الطيبة بالسماء، وهو كما ضرب مثل الإيمان: بالشجرة الطيبة الثابتة وفرعها في السماء، وضرب مثل الكفر: بالشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض، ليس على أن يكون قوله: (وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) على تحقيق السماء، ولكن على الوصفت بالطيب والقبول؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ).
لا يستقيم مثله على الابتداء إلا على نوازل تسبق، خرج ذلك جوابًا لها؛ نحو قوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى....) الآية.
أو أن ذكروا أعمال أنفسهم أنهم يعملون كذا؛ فقال: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ
421
الْجَنَّةَ).
فَإِنْ قِيلَ: كيف خوفهم بما ذكر من سدّ الأبواب عليهم، وجعل النار لهم مهادًا وغواشيًا، وهم لا يؤمنون بذلك كله، فكيف خوفوا به؟
قيل: إن المرء إذا خوف بشيء فإنه يخاف ويهاب ذلك، وإن لم يتيقن بذلك، ولا تحقق عنده ما خوف به؛ حتى يستعدّ لذلك، ويتهيأ وإن كان على شك من ذلك وظن؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ خوفوا بالنار وأنواع العذاب، وإن كانوا شاكين في ذلك غير مصدقين؛ لما يجوز أن يهابوا ذلك، أو أن يخوف بذلك المؤمنين؛ كقوله: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، وقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
أو أن يكون التخويف لمن آمن منهم بالبعث؛ لأن منهم من قد آمن بالبعث والجزاء والثواب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) هذا على الإياس أنهم لا يدخلون أبدًا الجنة كما لا يدخل ما ذكر في سمّ الخياط فإنه لا يدخل أبدًا ثم قوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: حتى يدخل البعير في خرق الإبرة.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى يدخل الجمل الذي يشد به السفينة في خرق الإبرة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: يعني خرق الإبرة أو المسلة، والجمل: الحبل، والخياط: الإبرة
422
أو المسلة.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس بالجمل ذي القوائم أولكنه الجمل، يعني: القلس.
وقال ابن مسعود: هو الجمل ذو القوائم - الأربع، واللَّه أعلم بما أراد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ).
أي: كذلك نجزي كل مجرم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ... (٤١)
قيل: الفرش.
(وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ).
هي اللحف أو الحواشي، ما يتغشاهم فيه النار تحيط بهم من تحت ومن فوق وأمام وخلف؛ كقوله: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: لا يتقي لما يحيط بهم العذاب، وهو كقوله - تعالى -: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ....) الآية، أخبر أن النار تحيط بهم؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
الآية ٤٢ وقوله تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلّف نفسا إلا وسعها ﴾ قال أبو بكر الكيسانيّ : قوله تعالى :﴿ لا نكلّف نفسا إلا وسعها ﴾ ليس من جنس ما ذكر من قوله تعالى :﴿ آمنوا وعملوا الصالحات ﴾لكنه صلة قوله تعالى :﴿ يا بني آدم إما يأتينّكم رسل منكم يقصّون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح ﴾ [ الأعراف : ٣٥ ] [ كأنه ]١ يقول في ما تقدم ذكره :﴿ لا نكلّف نفسا إلا وسعها ﴾.
وأما عندنا فإنه يستقيم أن يجعل صلة ما تقدم ؛ أي لا نكلّف نفسا من الأعمال الصالحات إلا وسعها ودون طاقتها ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾.
وقال الحسن : قوله تعالى :﴿ لا نكلّف نفسا إلا ﴾ ما تسع، ويحتمل [ أن يكون ]٢ صلة قوله تعالى :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ] [ كأنه ]٣ يقول :﴿ لا نكلّف نفسا إلا ﴾ ما تسع، ويحل، لا ما تسع، ولا يحل.
١ في الأصل وم: وهي..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: وهو..
قال أبو بكر الكيساني: قوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ): ليس من جنس ما ذكر من قوله: (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؛ لكنه صلة قوله: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ)، يقول فيما تقدم ذكره: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وأما عندنا: فإنه يستقيم أن يجعل صلة ما تقدم، أي: لا نكلف نفسًا من الأعمال الصالحات إلا وسعها، بل نكلفها دون وسعها ودون طاقتها (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقال الحسن: قوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا): إلا ما يسع ويحتمل، وهو صلة قوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا)، يقول: لا يكلف نفسًا إلا ما يسع ويحتمل، لا ما لا يسع ولا يحتمل.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ... (٤٣)
قأل الْقُتَبِيّ: الغل: الحسد والعداوة.
وقيل: الغل والغش واحد، وهو ما يضمر بعضهم لبعض من العداوة والحقد.
وقيل: الغل: الحقد.
ثم اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ): في الدنيا، ينزع اللَّه - عز وجل - من قلوبهم الغل، يعني: من قلوب المؤمين، ويجعلهم إخوانًا بالإيمان؛ كقوله: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً) الآية، أخبر أنهم كانوا أعداء (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإيمان الذي أكرمهم به؛ حتى صاروا إخوانا بعد ما كانوا أعداء.
قال الحسن: ليس في قلوب أهل الجنة الغل والحسد؛ إذ هما يهمان ويحزنان؛ إنما فيها الحب.
424
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الآخرة، ينزع اللَّه - تعالى - من قلوبهم الغل الذي كان فيما بينهم في الدنيا، ويصيرون جميعًا إخوانًا؛ كقوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال اللَّه - تعالى -: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت في علي وأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار وسلمان وأبي ذر - رضوان اللَّه عليهم أجمعين -
425
فينزع في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في الدنيا من العداوة والقتل الذي كان بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والأمر الذي اختلفوا فيه، فيدخلون الجنة؛ هذا - والله أعلم - لأن الذي كان بينهم من الاختلاف والقتال كان دنيويا لم يكن؛ بسبب الدِّين، فذلك يرتفع في الآخرة ويزول، وأما العداوة التي هي بيننا وبين الكفرة: فهي لا تزول أبدًا في الدنيا والآخرة؛ لأنها عداوة الدِّين والمذهب، فذلك لا يرتفع أبدًا.
ويشبه أن يكون قوله: (وَنَزَعْنَا) على ابتداء النزع، لا على أن كانوا فيه؛ كقوله - تعالى -: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، على ابتداء: المنع، أي: لولا إخراجه إياهم من ذلك، وإلا كانوا فيه؛ فعلى ذلك قوله: (وَنَزَعْنَا) أي: لم نجعل في قلوبهم الغل رأسًا، ولو تركهم على ما هم عليه لكان فيهم ذلك.
وفيه دلالة أن لله في فعل العباد صنعًا؛ لأن الغش والغل، من فعل العباد يذمون على ذلك. ثم أخبر أنه نزع ذلك من قلوبهم، واستأدى منهم الشكر بذلك بقوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا.....) الآية.
وقد ذمّ من طلب الحمد على ما لم يفعل؛ فدل طلب الحمد منهم على أن له فيه صنعًا؛ بذلك طلب منهم الحمد، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ).
ذكر هذا - واللَّه أعلم - لما علم عَزَّ وَجَلَّ من طباع الخلق الرغبة في هذه الأنهار الجارية في الدنيا، فيما يقع عليها الأبصار، فرغبهم في الآخرة بما كانت طباعهم وأنفسهم تميل إلى ذلك في الدنيا؛ ليرغبوا فيما أمر وينتهوا عما نهى، وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القصور والخيام والجواري والغلمان والأكواب والأباريق، وغير ذلك مما ترغب طباع الخلق في ذلك في الدنيا وتميل أنفسهم
426
إلى ذلك؛ وأعدها لهم في الآخرة ترغيبًا منه لهم في ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ)، قال الحسن وغيره: هدانا: دلنا لهذا.
(وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).
وأما عندنا: ليس هو هداية الدلالة والبيان؛ ولكن الهداية التي أكرمهم اللَّه بها بفضله ولطفه، وهي توفيقه إياهم إلى الهدى؛ لأنه خرج مخرج الامتنان والفضل، ولو كان دلالة وبيانًا لكان لا معنى لتلك المنة وذلك الفضل؛ لأن عليه الدلالة والبيان.
والثاني: أنه لو كان على الدلالة والبيان لكان ذلك على كل أحد: على الرسل وغيرهم؛ لأن عليهم البيان والدلالة، فدل أنه ليس على الدلالة والبيان، ولكن غيره.
والثالث: أنه لا أحد عند نفسه أنه يزيغ ويضل وقت ما هداه اللَّه ووفقه. وقد يجوز أن يكون ذلك في الدلالة والبيان؛ دلّ أنه لم يحتمل ما قال أُولَئِكَ من الدلالة والبيان، واللَّه الموفق.
وقال بعض الناس: إن المعتزلة خالفوا اللَّه عما أخبر، وخالفوا الرسل عما أخبروا عن اللَّه تعالى، وخالفوا أهل الجنة والنار، وخالفوا إبليس:
أما مخالفتهم اللَّه فقوله: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) ونحوه.
أما مخالفتهم الرسل فقوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ... ) الآية، وقول أهل النار قالوا: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ)، وقول إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي): هو أعلم باللَّه من المعتزلة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).
يحتمل وجوهًا: يحتمل جاءوا بالحق، أي: بالدِّين الذي هو حق، أو جاءوا بالأعمال التي من عمل بها كان صوابًا ورشدًا، وكل حق هو صواب ورشد، ويحتمل جاءت رسل ربنا بالحق، أي: بالصدق ونحوه.
427
(بِالْحَقِّ): له وجهان:
أحدهما: بالحق الذي استحقه اللَّه على عباده.
والثاني: أنهم جاءوا بالذي هو حق في العقول وصواب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ).
قوله: (تِلْكُمُ): إنما يتكلم عن غائب، وهم فيها، لكن تأويله - واللَّه أعلم - أن تلكم الجنة التي كنتم وعدتم في الدنيا وأخبرتم عنها هذه.
(أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أي: أورثكم أعمالكم.
وفيه دلالة أن الإيمان من جملة أعمالهم؛ حيث قال: أورثتموها بما كنتم تعملون، وإنما يورث ذلك بالإيمان وسائر الأعمال بل إنما يصح بالإيمان، ذكر أنهم أورثوا الجنة بما عملوا، وإن كانوا ينالونها بفضل اللَّه جزاء وشكرًا؛ لقولهم الذي قالوا: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ... (٤٤)
ما وعد المؤمنين - عَزَّ وَجَلَّ - الجنة وما فيها من النعيم واللذات والشهوات، بقوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)، وقوله: (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ): هذا الذي وعد للمؤمنين، ووعد الكفار النار، وما فيها من الشدائد وأنواع العذاب، فأقروا أنهم قد وجدوا ما وعدهم ربهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا): إن المراد بالحق الذي ذكر: الوعد الذي وعدهم وتفسير الحق الصدق، وإن كان الموعود فتأويله: وجدتموه كائنا حاضرا، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا).
(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
أي: وجبت لعنة اللَّه على الظالمين الذين وعدوا في الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) يحتمل الملك، ويحتمل غيره، وليس يعرف ذلك إلا بالخبر، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
فَإِنْ قِيلَ: يذكر في الآية نداء أهل الجنة أهل النار، وأهل النار أهل الجنة، ونداء
بعضهم بعضًا لا يكون إلا بحيث يكون بعضهم قريبًا من بعض، وقد جاء في الأخبار من وصف الجنة وسعتها ما روي أن أقل ما يكون لواحد من الجنة مثل عرض الدنيا، وما ذكر أن الحور العين لو نظرت نظرة إلى الدنيا لامتلأت الدنيا من ضوئها ونورها، وكذلك من ريحها وعطرها، وقد جاء في وصف النار أن شرارة منها لو وقعت في - الدنيا لأحرقتها أو كلام نحو هذا؛ فإذا كان بعضهم من بعض بحيث يسمعون بعضهم نداء بعض، ألا يتأذى أهل الجنة بالنار، وألا ينتفع أهل النار بنعيم الجنة، وكيف يعرف ذلك؟ قيل - واللَّه أعلم وذلك أن اللَّه قادر -: أن يوقع نداء هَؤُلَاءِ بمسامع أُولَئِكَ ونداء أُولَئِكَ بمسامع هَؤُلَاءِ، مع بعد ما بينهما؛ فيسمع كل فريق نداء الفريق الآخر.
أو أن يكون اللَّه - تعالى - ينقض بنية هذا الخلق، وينشئهم في الآخرة على غير هذه البنية، مع ارتفاع الآفاق أوالحجب فيسمع بعضهم من بعض من بعد الذي ذكر، وينظر بعضهم بعضا لأن في الدنيا الآفات، والحجب هي التي تمنع ذلك، فإذا ارتفع ذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
أو يقرب الجنة من النار والنار من الجنة؛ بحيث يسمع بعضهم من بعض ما ذكر من النداء.
أو يجعل ذلك في مسامعهم بما شاء وكيف شاء؛ كتسبيح الجبال وخطاب النمل وجوابه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... (٤٥)
الصد: يكون منع الغير، ويكون منع نفسه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبِيلِ اللَّهِ)، قيل: دين اللَّه.
قال الحسن: سبيل اللَّه: دين اللَّه الذي ارتضى لعباده، وأمرهم بذلك، وإلى ذلك دعاهم رسله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)
أي: يبغون الدِّين الذي فيه عوج، وهو دين الشيطان؛ كقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، فالعوج هو التفرق الذي ذكر في تلك الآية، وأمكن أن يكون قوله: (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)، أي: طعنًا في دين اللَّه، وقد كانوا يبغون طعنًا في دين اللَّه.
* * *
قوله تعالى: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ).
يشبه أن يكون ما ذكر من الحجاب ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) فأمكن أن يكون الحجاب المذكور بينهما هو السور الذي ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هم قوم استوت حسناتهم بسيئاتهم، لم يبشروا بالجنة حتى لا
430
يخافوا عقوبته، ولا أيسوا حتى لا يطمعوا ولا يرجوا دخولهم فيها.
وقال آخرون: هم أهل كرامة اللَّه، أكرمهم بذلك، يرفعهم على ذلك السور لينظروا إلى حكم اللَّه في الخلق وعدله فيهم، وينظرون إلى إحسان اللَّه فيمن يحسن إليه، وعدله فيمن يعاقبهم.
وقيل: هم الأنبياء.
والأشبه أن الأنبياء يكونون على الأعراف يشهدون على الأمم؛ كقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) وقال قائلون: هم الملائكة، لكن ملائكة اللَّه ما يسمون رجالًا، ولم نسمع بذلك، واللَّه أعلم بذلك.
ثم اختلف فيه: قيل: سموا أصحاب الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار سمي بذلك؛ لارتفاعه، وكل مرتفع عند العرب أعراف، وهو قول الْقُتَبِيّ.
وقال غيره: الأعراف: هو عرف كعرف الديك والفرس، وهو أيضًا من الارتفاع.
وقال الحسن: هم أصحاب التعريف، يعرفون أهل النار عدل اللَّه فيهم وحكمه، وأن ما حل بهم من الشدائد وأنواع العذاب إنما حل بهم مما كان منهم في الدنيا من صدهم الناس عن سبيل اللَّه، واستكبارهم على الرسل، يعرفونهم أن ما نزل بهم إنما نزل بعدل منه، ويعرفون أهل الجنة فضل اللَّه وإحسانه إليهم أن ما نالوا هم إنما نالوا بفضل منه
431
وإحسان.
أو قوم نصبهم اللَّه لمحاجة أهل النار؛ كصقوله: (مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) فهذه هي المحاجة التي يحاجون بهها أهل النار.
أو أن يقال: هم قوم نصبوا يترجمون بين أهل الجنة وأهل النار، يؤدون كلام بعضهم إلى بعض، وينهون مخاطبات بعض إلى بعض، من ذلك قوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)، وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ)، ونحوه. واللَّه أعلم من هم؟
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)،
قيل: المؤمن يعرف ببياض وجهه، والكافر: بسواد وجهه.
ويحتمل ما قال الحسن: هو أن يعرفوا بالمنازل والأماكن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ).
يعني: نادى أصحابُ الأعراف أصحاب الجنة.
(أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).
ليس أن يقولوا سلام عليكم باللسان خاصة؛ ولكن في كل كلام سديد وقول حسن وصواب؛ كقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، أي: سديدا صوابًا، وكذلك قوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، ليس على أن يقولوا: سلام عليكم، ولكن يقولون لههم قولا صوابًا محكمًا؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ).
اختلف فيه: قال عامّة أهل التأويل: هم أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة
432
وهم يطمعون دخولها.
وقيل: هم كفار أهل النار يطمعون أن ينالوا منها؛ كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، إلى هذا الوقت كانوا يطمعون دخولها والنيل منها، ثمّ أيسوا بهذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أهل الجنة يطمعون دخولها قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة، وقبل أن يدخل أهل النار النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ... (٤٧)
قيل: وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف إلى أهل النار.
(قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
من شدة ما يرون من العذاب وما نزل بهم.
وقيل: وإذا صرفت أبصار أهل الجنة تلقاء أصحاب النار، قالوا ذلك.
وفي حرف أبي: وإذا قلبت أبصارهم نحو أصحاب النار، قالوا: عائذون بك أن تجعلنا ربنا مع القوم الظالمين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
إن كان ذلك الدعاء من الأنبياء أو من أهل كرامة اللَّه من الذين كانوا على الأعراف، فذلك منهم شهادة أنهم ظلمة وكفرة، ومعنى التعوذ منهم من النار؛ لأنهم لم يدخلوا الجنة بعد؛ فيخافون لقصور كان منهم في شكر المنعم، أو بالطبع يتعوذون كما يتعوذ كل أحد إذا رأى أحدًا في البلاء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ... (٤٨)
قال عامة أهل التأويل: يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون، ولكن أمكن أن يعرفوا بالأعلام التي كانت لهم في الدنيا سوى سواد الوجوه؛ لأنهم يخاطبونهم بقوله: (قَالُوا مَا
الآية ٤٨ وقوله تعالى :﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ﴾ قال عامة أهل التأويل : يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون، ولكن أمكن أن يعرفوا بالأعلام التي كانت لهم في الدنيا سوى سواد الوجوه ؛ لأنهم يخاطبونهم بقوله :﴿ قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ فلو لم يعرفوهم١ بآثار كانت لهم في الدنيا لم يكونوا يعاتبونهم بجمع الأموال والاستكبار في الدنيا، ولا يقال للفقراء ذلك، إنما يقال للأغنياء لأنهم هم الذين يجمعون الأموال، وهم المستكبرون على الخلق كقوله تعالى :﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذّبين ﴾ [ سبأ : ٣٥ ] ويشبه أن يخاطب الكل فيهم من قد جمع، واستكبر، وذلك جائز. هذا على تأويل من يجعل أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم بسيئاتهم.
١ في الأصل وم: يعرفهم..
أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)، فلو لم يعرفوهم بآثار كانت لهم في الدنيا، لم يكونوا يعاتبونهم بجمع الأموال والاستكبار في الدنيا، ولا يقال للفقراء ذلك، إنما يقال للأغنياء؛ لأنهم هم الذين يجمعون الأموال وهم المستكبرون على الخلق؛ كقوله: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).
ويشبه أن يخاطب الكل، وفيهم من قد جمع واستكبر، وذلك جائز، هذا على تأويل من يجعل أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم بسيئاتهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ... (٤٩)
قال عامة أهل التأويل: أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة، ولكن يدخلون النار، فتقول الملائكة لأهل النار: هَؤُلَاءِ الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).
ويحتمل أن يكون القسم الذي ذكر في الآية كان منهم في الدنيا، كانوا يقسمون أنه لا يدخلون هَؤُلَاءِ الجنة، يعنون: أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كقوله (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، كانوا يقولون: إن الذي هم عليه لو كان خيرًا لنالوا هم ذلك؛ إذ نالوا هم كل خير في الدنيا، يعنون أنفسهم؛ فعلى ذلك ينالون في الآخرة مثله، ونحو ذلك من الكلام الذي يقولون في الدنيا؛ فيقولون لهم في الآخرة: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ).
وأمكن أن يكون قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) لأهل الجنة قبل أن يدخلوها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).
قال الأصم: يكون الحزن في فوت كل محبوب، والخوف في نيل كل مكروه؛ كقول يعقوب: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، ذكر الحزن عند فوت محبوبه، أوالخوف، عند نيل المكروه، ولكن عندنا الحزن إنما يكون بفوت الموجود من المحبوب، والخوف بما سيصيبه من المكروه.
قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
قال الحسن: الماء مما رزقهم اللَّه، ولكن مكرر مثنى.
وقال أبو بكر: طلبوا الماء؛ ليدفعوا عن أنفسهم ما اشتد بهم من الظمأ والعطش، ثم تقع لهم الحاجة إلى الطعام؛ لأن الرجل إذا اشتد به العطش والظمأ لا يتهيأ له الأكل.
ولكن يشبه أن يكون طلب بعضهم الماء وبعضهم الطعام الذي رزقهم اللَّه، وهذا جائز، وإن لم يذكر؛ كقوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) لم يكن هذا القول من الفريقين؛ ولكن كان من اليهود (إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا)، ومن النصارى: (أَوْ نَصَارَى)، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
قيل: هذا مقابل قولهم في الدنيا للمؤمنين: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ قال لهم المؤمنون في الآخرة مقابل ما قالوا لهم في الدنيا: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
وهذا - واللَّه أعلم - ليس على التحريم، ولكن على المنع؛ لأن الكفرة لا ينالون بعد أن نالوا ذلك حرامًا كان أو حلالًا، ولكن على المنع؛ كقوله - تعالى -: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ) ليس هو تحريم حرمة أكل، ولكن منع، ويشبه أن يكون ذلك محرمًا على المؤمنين إطعام الكافرين من ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا... (٥١)
قال الحسن: اتخذوا دينهم الذي كلفوا به وأمروا أن يأتوا به لهوًا ولعبًا.
وجائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا) أي: اتخذوا دينهم الملاهي التي كانوا يلهون ويلعبون؛ كقوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) أي: اتخذوا دينهم الذي دانوا به لهوا ولعبا؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، وفي إنكارهم البعث إنكار الجزاء للحسنات والسيئات، وفي الحكمة إيجاب ذلك، فمن لم ير ذلك فهو لاه ولاعب، واللهو واللعب هو الذي لا عاقبة له، وكل من عمل عملًا لا عاقبة له فهو لعب ولهو، وكل من يعمل لعاقبة فهو ليس بلعب ولا لهو، وهم كانوا يعملون لا لعاقبة؛ لذلك كان لهوًا ولعبًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الحياة الدنيا لا تغر أحدًا، ولكن أضيف إليها التغرير لما كانت سببا من أسباب الاغترار بها، فاضيف إليها؛ كقوله: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)، أضاف الفرار إلى الدعاء، وقد يضاف الشيء إلى سببه؛ كقوله: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) أي: يبصر به.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضيف ذلك إليها؛ لما كان منها من السبب من الهيئة ما لو كان ذلك من ذي العقل والتمييز كان ذلك غرورًا؛ من نحو التزيين وغيره.
وجائز إضافة التغرير إليها على إرادة أهلها، أي: غرهم أهلها، وهم القادة والرؤساء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا).
لا يجوز أن يضاف النسيان إلى اللَّه - تعالى - بحال، ولكن يجوز أن يقال: يجزيهم جزاء نسيانهم، فسمي الثاني باسم الأول، وإن لم يكن الثاني نسيانًا؛ نحو قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، والثانية ليست بسيئة، ولكن جزاء السيئة، لكنه سماها باسم السيئة؛ لما هي جزاء لها؛ فعلى ذلك هذا، وكقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) والثاني ليس باعتداء، ولكنه جزاء الاعتداء، فسماه باسم الاعتداء؛ لما هو جزاؤه؛ فعلى ذلك سمى الثاني نسيانا؛ لأنه جزاء النسيان، وإن كان اللَّه لا يجوز أن ينسى، أو يسهو عن شيء، أو يغفل، ولأن في النسيان تركا، وكل منسي متروك، فيتركهم
في العذاب والهوان كما تركوا هم أمر اللَّه ونهيه في الدنيا.
وقال الحسن: إن اللَّه لا ينسى شيئًا ولا يسهو، ولكن الكفرة يكونون على الكرامة والرحمة والمنزلة كالشيء المنسي، وعن العذاب والهوان لا، أو كلام نحو هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: " ما " هاهنا صلة؛ كأنه قال؛ وكانوا بآياتنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على ما ذكر، أي: اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) يحتمل بكتاب.
أي: بيناه؛ والتفصيل: التبيين.
ويحتمل قوله: (فَصَّلْنَاهُ) أي: فرقناه في إنزاله، لم ننزله جملة واحدة؛ كقوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) أي: فرقناه في الإنزال على قدر النوازل بهم؛ ليعلموا حكم كل آية نزلت بالنوازل التي وقعت بهم، لا تقع لهم الحاجة إلى معرفة ما في كل آية نزلت عليهم على حدة، بل يعرفون ذلك بالنوازل.
أو أنزله مفرقًا.
أو أن يكون معرفة ما فيه من الأحكام إذا كان منزلا بالتفاريق أهون وأيسر على الطباع من معرفة ما فيه إذا نزل جملة.
ثم قوله: (فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) يحتمل وجوهًا:
يحتمل: فصلناه، أي: بيناه بالحجج والبراهين على علم منه أن الخلائق لا تقوم بإتيان مثله؛ ليعلم أنه من عنده نزل.
أو أنزله مفصلًا على علم منه بمن يصدقه ويتبعه، وبمن يكذبه ولا يتبعه.
أو على علم منه بمصالح الخلق إن أنزله صلح الخلق، أي: على علم منه بمعاملة القوم إياه أنزله؛ لأن المنفعة في إنزاله للمنزل عليهم، لا للمرسل والمنزل، فضرر الرد والمنفعة لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) قال أبو بكر: هو هدىً للكل: للمؤمن والكافر جميعًا، ورحمة للمؤمنين خاصة.
وأمّا عندنا: فهو هدىً للمؤمنين، وعمى على الكافرين؛ على ما ذكر: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، خص المؤمنين بالهدى لهم؛ لأنهم هم المخصوصون بالانتفاع به دون أُولَئِكَ، وعلى أُولَئِكَ عمى ورجس؛ على ما ذكر، وصار للمؤمنين حجة على أُولَئِكَ، وقوله: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، هذا للكافرين، وقال للمؤمنين: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ... (٥٣) أي: ما ينظرون إلا وقوع ما وعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من نزول بأس اللَّه بهم، أي لا يؤمنون إلا بعد وقوع البأس بهم، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ)، والتأويل هو ما ينتهي إليه الأمر ويئول، وما يقع بهم من البأس الموعود لهم، وإيمانهم ما ذكر من قولهم: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، يعني: بالحق الواقع بهم من بأس اللَّه الذي كانت الرسل تعدهم، أي: إن ما وعدوا من وقوع الباس بنا كان حقًّا.
ويحتمل قوله: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) أي: بالتوحيد، أي: إن الذي جاءت به الرسل في الدنيا من التوحيد كان حقًّا.
أو أن الذي أخبر الرسل عن هذا اليوم كان حقًّا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا).
كأنهم إذا حل بهم ووقع ما أوعد لهم الرسول من البأس، تمنوا عند ذلك الشفعاء الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا؛ كقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ).
أو طلبوا الشفعاء كما كانوا يطلبون في الدنيا شفعاء إذا بدا لهم أمر عظيم، فيشفع بعضهم بعضًا، ويعين بعضهم بعضًا في هذه الدنيا، فعلى ما كان لهم في الدنيا تمنوا في الآخرة ذلك، فإذا أيسوا عن ذلك وأيقنوا أن لا شفيع يشفع لهم، فعند ذلك قالوا: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، لا أنهم قالوا ذلك مجموعًا؛ كقوله: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا...) إلى قوله: (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لو ردوا في الدنيا، لعادوا إلى ما نهوا عنه.
وقال آخرون: لو ردوا إلى المحنة إلى الأمر والنهي لصاروا إلى العمل الذي كانوا يعملون.
ثم أخبر أنهم قد خسروا أنفسهم بعملهم الذي عملوا في الدنيا، وبعبادتهم غير اللَّه: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، أي: بطل عنهم ما كانوا يفترون أن هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عند اللَّه، وقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وغير ذلك من الافتراء؛ ذلك كله قد بطل عنهم، فبقوا حيارى، وانقطع رجاؤهم وأملهم الذي طمعوا.
قوله: (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من رحمة اللَّه.
وقيل: مما وعدوا لو أطاعوا.
وقيل: أهلكوها.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).
وذكر ما بينهما في مواضع، ولم يذكر في مواضع، وذلك داخل في ذلك بقوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) الذي صنع ذلك (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)، ثم جمع اليومين الأولين مع هذا الذي ذكر فيه وقال: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) ليعلم أن ذا خلق في يومين، ثم قال: (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، إلى قوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) فتصير ستة الأيام التي أبهمها في غير ذلك، واللَّه أعلم.
439
ثم قد بين - عَزَّ وَجَلَّ - فساد قول كل من عبد غيره، وعجز كل ذلك عما له يُعبد وجهله بمعنى العبادة، وخروجه عن الاستحقاق بما فيه من آثار التدبير، وعليه من دلالة التقدير واستحقاق جميع معاني الخلقة، ودخوله تحت الصنعة، وحاجته إلى من احتاج إليه كل مما هي التي تبعث على العبادة وتوجب إظهار الذلة والخضوع لمن هو كذلك في الخلقة والجوهر، فألزمهم الفزع إلى من يدلهم إلى الرب الحق، ويدعوهم إلى المعبود المتعالي عن الأشباه والأضداد بما يوجب الشبه والمشاكلة، وفي وجوب ذلك دليل جاعل أخذ له شكلا، وذلك آية الصنعة ودلالة الحدث، وفي تحقيق الضد خوف ذهاب وفساد فتضمحل الألوهية وتستوجب حق الدخول تحت التقدير، والقيام على ما شاء من له التدبير؛ جل اللَّه سبحانه عن توهم ذلك، فأكرم من بعثته الحاجة إلى معرفته ورفعته الخلقة إلى العلم بمن أنعم عليه واختصه من بين كثير من خلقه بما ركب فيه ما به يدبر أمر غيره، وبه يعرف قدر النعم عليه لمن أكرمه به؛ ليشكر له فيما أولاه ويحمده على ما أعطاه، فمن بإظهار ذلك على لسان رسوله الذي عرف خلقه بما نصب من أدلة صدقه، وأبان من حجج عصمته عن الكذب فيما ينبئ، وإصابته فيما يخبر، فقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ) أي، الذي لا ربَّ لكم سواه ولا لأحد من الخلائق، هو اللَّه الذي لا إله غيره؛ ليوجهوا إليه العبادة في الحقيقة، وليؤدوا إليه شكر ما أنعم عليهم، وإن كانت نعمه أعظم من أن يجزيها العباد، وحقه أجل من أن يقوم به العباد، ولولا أن اللَّه - سبحانه - لم يورد من البيان على ربوبيته، والدليل على ألوهيته سوى ما أنطق به على لسان رسوله بعد الإيضاح أنه لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق لكان ذلك بيانًا شافيًا، لكنه بفضل رحمته بين الأدلة التي تحقق ذلك وتعلم أنه كما جاء به رسوله، إلا أن يعانَد الحق ويكابَر العقل، فقال عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) إلى آخر ما ذكر دلالة خلق ما ذكر من آثار التدبير وعجيب التقدير الذي به قوام كل ممن يحتمل المنافع والمضار واتصال ما بين السماء والأرض على تباعد بعض من
440
بعض في المنافع مع جميع الأضداد التي من طبعها التنافر في أصل ما ذكر حتى صارت كالأشكال، بعد أن كانت السماوات والأرض مشبهة لا تشعر بما فيها من الحكمة، ولا بالذي فيه من أنه من أي وجه يقضي الحاجة؛ ليدل أن مدبر الكل واحد، وأنه عليم حكيم وضع كل شيء موضعه ودل كل ذي عقل على الوجه الذي يظفر بحاجته، ويقيم به أوده، ويصل إلى بغيته، وسخر الذي ذكر، فصير كلا من ذلك جاريا دائبًا بما لا ينتفع هو به، ولا مضرة عليه فيه؛ ليعلم أنه لغيره قدر ولحاجة غيره سير، وكذلك الذي جبل على القرار وأمسك عن الزوال من غير أن كان له في حقيقة أحد الوجهين نفع أو ضرر؛ ليعلم أن تدبير ذلك جرى لا له، ولكن لأهل الممتحنين الذين بهم يظهر العز والشرف ونيل الجود والكرم، ويعظم الملك والسلطان؛ إذ عندهم تمييز الأحوال، وتفريق الأمور، وتوجيه إلى حقه وإعطاء كل ذي فضل فضله. فيعلم من هذا وصفه أنه لم ينشأ عبثًا، ولا خلق باطلًا؛ إذ به يعظم قدر كل خلق، ويشرف جلالة كل جليل، لم يجز إمهال مثله، فيكون خلق الجميع لغير شيء مما في ذلك من فنائه وتبدّده الذي في الحكمة قصد مثله في العقل يوجب العبث ثبت أنه خلق للمحنة ولدار البقاء، لكن جعل البقاء جزاء، والفناء محنة؛ ليكون البقاء هو المنتهى، فيعظم القصد في الابتداء؛ إذ فاسد أن يجعل المحنة للبقاء، فيدل على حاجة الممتحن مع ما في ذلك زوال الجزاء؛ إذ محال تقديمه على ما له الجزاء، واللَّه الموفق.
ثم الأصل أن اللَّه سبحانه جعل العقل جزءًا من عالمه، وجعله دليلًا لأهله في معرفة المساوئ والمحاسن، وعلمًا للتمييز بين الحكمة والسفه، وبين الإتقان والعبث، وجعله بالذي يعرف المحمود من المذموم، والمرغوب فيه من المزجور عنه، فلم يجز أن يكون إنشاء كل العالم على غير الحكمة؛ لأنه سفه، وهو بالذي جزء من العالم يعلم به الذميم من الحميد ثبت أنه أنشئ للحكمة.
وعلى ذلك تقدير كل عاقل على احتمال ما يضره وينفعه بحق الجزاء والمحنة، فثبت أن ذلك للمحنة، وأن المحنة ثم الهلاك بلا جزاء ولا نقع للممتحن عبث -أيضًا- وسفه، فلزم به القول بالبعث وإثبات دارين مما كان لكل شاهد دليل غائب يحمد عليه أو يذم، وكذا فعل كل ذي عقل إنما هو لعاقبة يحمد عليها، أو بفعل عبث فيذم عليه.
فعلى ذلك أمر تدبير هذه الدار من أخرى، فلا يجوز أن يخلي الجملة عن الدلالة، ولا
441
يخلو كل جزء منها؛ إذ جملة الأفعال عن العواقب، والواحد منها إذا خرج يصير عبثًا وسفهًا، فثبت بالذي ذكرت القول بالتوحيد، وبالدارين، وبالرسالة؛ إذ بها تعرف العواقب بما هي غائبة، وحقائق كل غائب تعرف بالإخبار عنها والدلالة عليها، ثم لا دلالة على ماهية الجزاء ولا بالشكر ولا العبادة، إنما الدلالة من حيث التدبير على العلم بها جملة، فلزم القول بالرسل، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم قوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يحتمل وجهين.
أحدهما: خلق أصول الأشياء التي يكون غيرها بحق التولد عن ذلك والانقلاب.
ويحتمل أن يكون على خلق كلية كل شيء، مما عليه تركيب هذا العالم إلى أن يبدل بعالم آخر، لا يبيد ولا يفنى؛ فإن كان على الأول فهو ستة من السبعة التي عليها مدار المدد والأزمنة؛ إذ جعل - جل ثناؤه - جميع ما ذكر من الخلائق تحت الأزمنة والأوقات، ويزول بزوال مدارها، وكذلك عندنا كل الحوادث؛ إذ لكل منها بدء يصير
442
ذلك وقت ابتدائه، وذلك ينقض على الباطنية قولهم: المبدع الأول لا يقع عن الزمان والمكان، وأنه لا يبيد ولا يفنى، ولو كان كذلك لم يكن مبدعًا، ولكن كان قديمًا لا يقع عليه الإبداع، فلمّا وقت ثبت له البدء؛ فيجب وصفه بالوقت من حيث الابتداء، وهو - أيضًا - معلول عندهم، وعلته فيه وهو الإبداع، مما لو زالت علته لباد، وإذا ثبت أنه معلول ثبت أن علة أوجبته وأحدثته بعد أن لم يكن، فوجب له وقت به كان أو كان فيه، واللَّه أعلم.
ثم على هذا كان إنشاء من ذكر في الأيام الستة، ولم يذكر في ذلك ممتحنًا؛ فيشبه أن يكون وقت كون الممتحنين يوم السابع، وبهم تم ظهور الملك، واستوى على العرش، وهو الملك إذا لم يكن قبل ذلك من له التمييز، ومعرفة الملك والسلطان، وقدر العلم بالمحامد والمعالي، وأضداد ذلك إنما يكون بأُولَئِكَ الذين ركب فيهم العقول، وأكرموا بالتمييز، ومما لهم يجعل العالم وهم المقصودون من الإنشاء؛ لذلك جعل كل من سواهم مسخرًا لمنافعهم، داخلًا تحت أفهامهم، مما يحتمل أكثر ذلك تدبير ليعلم أنهم قصدوا لأنفسهم، أو لمعرفة ما عليهم من شكر النعم والعبادة، فكان بهم ظهور تمام الملك، وبلوغه النهاية، فأخبر بالاستواء إذ هو وصف العلو والرفعة، ووصف التمام في الرتبة والقدر؛ كقوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) وذلك في معنى الاستواء على العرش؛ من حيث ظهور الملك، وبيان الحجة والربوبية للمستدلين والمعبرين.
وإن كان التأويل هو الثاني يخرج على وجهين.
أحدهما: ما قال بعض أهل التفسير: إن كل يوم من أيام الآخرة، وذلك ألف سنة، لم يبين لنا مقدار ذلك؛ فجائز أن يكون منتهى تدبير هذا العالم إلى ذلك ستة أيام، بمعنى ستة آلاف سنة على القدر الذي قدره اللَّه، ثم يكون اليوم السابع هو يوم القيامة، لا يبيد أبدًا، ولا ينقضي، فيه يبدل العالم، ويُقر كل ممتحن له بالملك والجلال، وإن كان كذلك في الأزل ففي ذلك اتفاق القول من طريق الاختيار، والعلم بذلك من كل جبار وغيره.
وعلى نحو ما قيل: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وقيل: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) وقيل: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، ونحو ذلك.
على أن له الملك أبدًا، وكذلك لم يكن يخفى عليه شيء، لكن ذلك مما يعلم كل أنه كذلك، فبذلك يتم ظهور كل معنى من ذلك، وإن كانت حقيقته موجودة قبل ذلك.
وعلى ذلك القول: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)، ونحو ذلك.
443
إنه إذ ذلك يظهر لكل معلومه: فأضيف إليه بحرف الابتداء، وهو عن ذلك متعال؛ فعلى هذا جميع ما بيّنا، وبذلك ظهور تمام شرائط الملك، والاعتراف من الكل بذلك، واللَّه أعلم.
والثاني: أن تكون تلك الأيام الستة على ما في علم اللَّه تعالى تقديرها، لا يعلمه أحد سواه إلا من طريق الجملة التي أدى، وقد بيِّن يومًا كخمسين ألف سنة، ويومًا كألف سنة حده لا يعلمه غيره، ثم كان يوم السابع يوم تبلى السرائر وتقع العقوبة والمثوبة، وهو المقصود من خلق العالم الأول؛ فيكون ما ذكرت من تمام الظهور، واللَّه الموفق.
وعلى هذا لو قيل لما قيل يحملون العرش، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قيل: ليس أن المراد من هذا العرش الأوّل، وجائز أن يكون هذا هو السرير المعروف، منشأه من النور، ومما شاء؛ ليكرم به أولياءه يوم القيامة، والأول هو الملك الذي ظهر تمامه وعلوه على ما بينا.
ثم لو كان العرش الذي قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، هو ما فهمه أهل التشبيّه من مكان، لم يكن ليجب أن يفهم من الاستواء عليه [الاستقرار].
444
وأن يكون لله مكان يوصف بالكون فيه وعليه؛ لأنه ليس في كون أحد في مكان - وإن جل قدره، وعظم خطره - رفعة ولا نباهة فيما يتعارف من أمر الملوك والأجلة، بل كل منسوب إلى مكان من جهة التمكين فيه والقرار، منسوب إلى استعانة وحاجة منه إليه، جل اللَّه عن ذلك، وعلى أنه إما أن يكون مثله أو أعظم منه، لكان له عديلًا بالعظمة أو دونه، ومن السخف الجلوس على مكان لا يطمئن به أو يقصر عنه، إذ قد يجوز أن يزاد فيه؛ فيكون أعظم منه، جل اللَّه عن هذا الوصف وتعالى.
" بل كان ولا مكان فهو على ما كان يتعالى عن الاستحالة والتغير ": إذ هو أثر
450
الحدث، وأمارة الكون، بعد أن لم يكن، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم الأصل أنه لو كان فهو بإضافة اللَّه إلى العلو عليه تعظيمًا له، وعلى ذلك في كل شيء يضاف إلى اللَّه أو اللَّه إليه من جهة الخضوع فهو على تعظيم ذلك، لا على أن يفهم منه ما يفهم مثله من الخلائق؛ نحو القول بأن المساجد لله، وناقة اللَّه وزينة اللَّه، وحدود اللَّه، ونحو ذلك.
فما بال المشبهة فهمت من إضافة الاستواء على العرش المعنى المكروه على احتمال الاستواء معاني سوى الذي ذكر، أو أن يقال: استوى: ثم واستوى: قصد، واستوى: علا، واستوى: استقر، واستوى: استولى؛ فإذا كان معناه يتوجَّه إلى هذه الوجوه، لم يحتمل أن يكون أحد يقدر من ذلك؛ إذ هو ما يتوجه إليه، ويعتمد عليه لولا الجهل به.
ثم الأصل أن الإضافات إلى الأشياء يفترق المقصود بها، وإن كان في ظاهر المخرج واحدًا باختلاف مَنْ إليه القصد بالإضافة، والإضافة جميعًا. يقال: جاء الحق، وجاء فلان، وبيت فلان، وبيت اللَّه.
وقيل في الملائكة: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، وقال في الفسقة: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)، ونحو ذلك لا على الجمع في المعنى، فالاستواء الذي يتوجّه إلى وجوه أحق بذلك، واللَّه الموفق.
ثم قد قيل في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) بوجوه.
أحدها: ما قال أبو بكر الأصم: هو على التقديم والتأخير، كأنه قال: إن ربكم اللَّه الذي استوى على العرش ثم خلق ما ذكر؛ فيكون معناه: خلق كذا، وقد استوى على
451
العرش؛ كقوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) بمعنى: وقد جعل منها زوجها، وعلى هذا ليس في قوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ...) (... ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الشبهة التي في الأول كما لم يكن في قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) إذا صرف إلى " عند " شبهة؛ فيكون: وقد استوى: خلق العرش؛ كقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) بمعنى: ثم خلق السماء أو قصد خلقها، ونحو ذلك.
وقال الحسن: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: استوى عليه أمره، وصنعه، أي: لم يختلف عليه صنع العرش، وأمره - وإن جل - أمر غيره وصنعه، كقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) على استواء الأمر في التدبير والصنع.
وقال الحسن: معناه: استولى على العرش، كما يقال، استوى فلان على بغداد، بمعنى: استولى.
وقال قوم: معناه: استوى عليه، وهو فوق كل شيء في القدرة والعظمة، تعظيمًا له على غير اختلاف عليه في التحقيق بينه وبين غيره؛ كالذي ذكر بأن الأمر كله يوم القيامة له، والمساجد له، على التفصيل دون تخصيص له في ذاته من حيث ذلك.
وقال قوم: إذ كان العرش فوق كل شيء في تقدير المعارف، فقال: هو علاه بمعنى لا يوصف في الخلق، ولكن على ما كان، ولا خلق.
ونحن نقول - وباللَّه التوفيق -: قد ثبت من طريق التنزيل بأنه استوى على العرش، وقد لزم القول بأنه ليس كمثله شيء، وعلى ذلك اتفاق القول ألا يقدر كلامه بما عرف من كلام الخلق، ولا فعله به، وما يوجبه، ولا علمه، ولا ما قيل: هو رب كذا، أو مالك
452
كذا، لا يراد به المفهوم من الخلق، لكن الوجه الذي يليق به، وما يوجبه حق الربوبية؛ فمثله في الأول.
ثم يلزم تسليم المراد لما عنده إذ لم يبينه لنا، وقد ثبت نفي ما يفهم من غيره.
وبعد؛ فإن القول فيه بالمكان يفسد بالذي به يحتج بوجوه.
أحدها: إن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) إخبار عن فعله الذي في التحقيق، يضاف إليه في خلق الخلق على اختلاف المخرج في القول؛ نحو: أن ذكر مرة أبدع، ومرة (فَطَرَ)، (وَجَعَلَ)، (وَأَنزَلَ) وأثبت، وكتب، (وَأَعطَى)، وأنشأ، وغير ذلك من الألفاظ.
حقيقة ذلك: أنه خلق إذ ذلك معنى فعله في الحقيقة، وعلى ذلك كون وفعل وأمر في بعض المواضع، ثم يجب توجيه كل من ذلك إلى الوجه الذي يليق فيه القول بخلق، وكذا في (هَدَى) (وأَضَلَّ) (وَزَيَّنَ) وأتقن وأحكم، ونحو ذلك.
453
فكذلك في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) يجب أن يقابل ذلك بخلق؛ إذ هو إضافة إلى فعله.
ثم يخرج على وجهين.
أحدهما: ثم خلق العرش، ورفعه، وأعلاه، بعد أن كان العرش على الماء؛ كقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)، وليس ثم تَنَقُّل من حال إلى حال؛ إذ لو كان كذلك لكان يصير حيث ثم ينتقل من خلق إلى خلق فيما يخلق، فيكون في الوقت الذي يصير إلى العرش صائرًا إلى الثرى، وفي الوقت الذي يحدث خلق ما في الأرض؛ وما في السماء، متنقلًا من ذا إلى ذا، وذلك تناقض فاسد، وفي ذلك بطلان معنى القول بالاستواء على العرش، بل يكون أبدًا غير مستوٍ عليه حتى يفرغ من خلق جميع ما يكون أبدًا، وذلك متناقض فاسد، جل اللَّه عن هذا التوهم، وباللَّه التوفيق.
والثاني: أن يكون قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: إلى العرش في خلقه، ورفعه، وإتمامه، دليل احتماله على ذلك أن على من حروف الخفض وقد يوضع بعض موضع بعض؛ كقوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ)، بمعنى: عن الناس، وقوله: (إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِم)، بمعنى: عند ربهم، مع ما قال اللَّه: (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)، بمعنى إليه، وعلى ذلك: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: إلى العرش وهو على الماء كما ذكر ما فرفعه وأتمه؛ كما قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) فخلق ما ذكر، واللَّه أعلم.
454
والوجه الثاني: المذكور في الآية من اسم الرب وخلق ما ذكر وتسخير الذي وصفه ثم لم يتوهم في شيء من ذلك المعنى الذي يضاف إلى الخلق أنه رب كذا أو سخر كذا أو صنع كذا ملحد ولا موحد فكيف احتمل قلبي المشبهي في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، لولا جهله به وتقديره بالذي عليه أمر نفسه، واللَّه الموفق.
والثالث: أن الناس في خلق اللَّه الخلق مختلفون.
فمنهم من جعله الخلق نفسه، دون أن يكون اللَّه بذاته يلحقه وصف سوى إضافة الخلق إليه في أن كان به، فعلى ذلك قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) إنما هو ما ذكر من غير أن كان سبحانه يلحقه وصف لم يكن له.
ومنهم مَنْ يراه خالقًا بذاته؛ ليكون جميع الخلائق إلى الأبد بتكوينه الذي يعبر عنه بقوله: كن من غير أن كان ثَمَّ كاف أو نون على كون كل شيء عليه به من غير تغيير عليه، ولا زوال عما كان عليه إذ لا شيء غيره، فكل معنى لو حقق أوجب تغيرًا أو زوالًا أو قرارًا أو نحو ذلك، فاللَّه يجل عنه ويتعالى؛ إذ ذلك علم الحدث، وأمارة الغيرية، ولا قوة إلا باللَّه.
والرابع: هو الذي يرى فعله على ما عليه فعل الخلق من التحرك والزوال والسكون والقرار، إضافة من ذلك وصفه إلى مكان دون مكان، وحال دون حال، محال فاسد؛ لذلك بطل القول بالمكان في جميع الأقاويل، وأيّد الذي ذكرت ما ختم به الآية من قوله: (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وصف ذاته بالربوبية وبالتعالي عن جميع معاني المربوبين؛ إذ من حيث التشاكل يوجب خروجه من أن يكون ربًّا، والآخر من أن يكون مربوبًا، فإذا ثبت أن كل شيء من كل جهة مربوب؛ ثبتت سبحانيته من ذلك
455
الوجه، واللَّه الموفق.
ثم قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) هو على وجهين:
أحدهما: إضمار ما بينهما على ما جرى الذكر به في غيره.
والثاني: أن ذكر من وقت ابتداء الكون إلى الانتهاء لا على تحقيق ذلك في كل وقت كما يقال: كان كذا في شهر كذا، لا على إحاطة كلية أجزاء الشهر به؛ فمثله معنى (سِتَّةِ أَيَّامٍ) ومعنى التوقيت ليس على حاجة إلى ذلك؛ إذ الوقت داخل فيما خلق، لكن على وجوه، وإن كان اللَّه سبحانه وتعالى قادرًا على إنشاء جميع ما ذكر بدفعة واحدة:
أحدها: ما ذكرت من معنى أن الأيام لمدار مدد الخلق وأطول ما عليه تفنى الأعمار.
والثاني: على بيان منتهى العالم.
والثالث: على إدخال كل ذلك مع علو درجات كثير منها وجلالة أقدارها في الأعين، حتى لا أحد ينظر إليها إلا بعين التعظيم، وحتى بكثير منها قام تدبير العالم وحتى عبد دون اللَّه تعظيمًا، وإن كان في ذلك دلالة خروجه عن الاستحقاق، فصيرها اللَّه داخلة تحت الأزمنة والمدد مقهورة بها، حتى لو أريد بكل جهد وحيل إخراج شيء من ذلك أو تخليص الجبابرة من ذلك، لما تهيأ لهم ليعلم ذلة الخلق وأمارات الحدث، وعلامة الحاجة، ثم كانت الأوقات مترادفة متتابعة، لو أسقطت عنها الأولية لبطل الكل، ولما جاوز الحساب بالواحد، ولما انتهى إلى ما هو بعد لما مضى ليعلم به أولية كل شيء من العالم، وحدثه مع ما جعلت الأيام تدور على أمر واحد بها بجميع المحتاجين ممن ذكرت، فثبت لذلك بأسماء معروفة أمكن قصد كل منها على الإشارة إليه باسمه المعروف يحفظ فيه المواعيد، ويعلم به ما يجب من الحقوق، ويبطل، واللَّه أعلم.
ثم الأصل إذ جعلت هذه الدار دار المحنة، والمحنة إنما كونها تختلف الأحوال جعلت الأحوال مختلفة، نحو: موت وحياة، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وجمع الخلق
456
على حالة منها بأضدادها، وفي ذلك الجهل باللذات والآلام، فيجب بذلك اختلاف الأحوال، وعلى ذلك جرى أمر خلق الخلائق، وعلى هذا أمر الأرزاق وغير ذلك، فعلى ذلك أمر خلق ما ذكر في أيام مختلفة ثم يجمع في البعث بمرة، وفي حال من حال اللذات، والبعث بمرة مع ما كان اختلاف الأحوال أقرب إلى الدلالة، وأوضح للحجة؛ فلذلك جعل في هذه الدار إلزام الحجة وإظهار المحنة والكلفة، واللَّه الموفق.
والأصل أن العقول إنشاءات متناهية تقصر عن الإحاطة بكلية الأشياء، والأفهام متناقصة عن بلوغ غاية الأمور؛ إذ هن من أجزاء العالم الذي هو بكليته متناهٍ، وأسباب الإدراك التي يدرك بها باداء المشاعر التي تعجز عن كنه ما يقع عليها من الظواهر، فضلًا عما استتر منها، وإذا كان هذا وصف ما يدرك به مبلغ الحكمة، فهو قاصر عن الإحاطة بالحكمة الموضوعة من البشر، فمن رام الإحاطة بها أو بلوغ حكمة الربوبية من غير إشارة منه، فهو يظلم العقل، ويحمل عليه ما يعلم عجزه عنه، ومعلوم أن المذكور من الأيام في خلق ما ذكر حكمة بالغة، وإن قصرت العقول عن الإحاطة بها؛ إذ الذي قدَّرها هو الذي حمد الحكمة، وأوجب لأهل العقل في ذم السفه وأهله، فأوجب ذلك تحقيق الحكمة لذلك، وإن لم يبلغها إلا مقدار ما يكرم به، واللَّه الموفق.
وقوله: (مُسَخَّرَاتٍ) ما ذكر، فكذلك سخرهن بالسير فيما يرجع إلى منافع الخلق، وجعل فيهن آية لولا العيان لم يكن يصدق به أحد ممن يجحد البعث والرسل ونحوهم، إذ الخبر عن سير جوهر واحد في اليوم الواحد مسيرة أكثر من ألف سنة، وتولد جواهر بمعونة من يبعد عنه مقدار خمسمائة عام، ونضج كل شيء وصلاحه به أبعد عن احتمال القبول من إعادة شيء بعد الفناء أو إرسال الرسل بإعلام ما خفي من المصالح والأمور، إذ ذلك أمر متعالم في صنع الخلق معاني ذلك فيما به تقلب الزمان من
457
الليل والنهار، ولكن اللَّه سبحانه أظهر لهم من قدرته، وعظيم حكمته بما بسط لهم الأرض، بغلظها وسعتها، ورفع عليها السماء بغير عمد ترى، فأقر كلًا من ذلك لحاجة أهلها إلى إقرارها، وسيَّر فيها بالتسخير ما ذكر؛ لحاجة الأهل في تسيير ذلك؛ ليعلم ألا يعجزه شيء ولا يخفى عليه أمر، ولا يدخل في تدبيره عوج، ولا في خلقه تفاوت، وأن الذي أظهر إذا قوبل بالذي وعد يضاعف عليه بوجوه له مع ما كان الذي أظهر هو إبداع على غير احتذاء، وإنشاء الإعادة. واللَّه الموفق.
ثم من عجيب قدرته سبحانه في قوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) أن اللَّه تعالى يظهر النور في ابتداء النهار من طرف من أطراف السماء، والظلمة في أول الليل، ثم ينشر ذلك ويبسطه في جميع أطراف السماء والأرض، وما بينهما من جميع الأقطار والجوانب، في قدر لحظة بصر، وطرفة العين، ما لو أريد تقدير ذلك بالهندسة، وبجميع ما في الخلق من المقادير لما أحيط بالذي انبسط ذلك النور والظلام؛ ليعلم أن اللَّه على ما يشاء قدير، وأنه لو أراد لخلق جميع ما ذكر في أدق مدة وألطف وقت، وأنه القادر على البعث، وجميع ما جاءت به الرسل، على أنه بالذي ذكرت يلبس وجوه كلية الأشياء السنن، ويجليها بطرف عين بالتدبير، والعلم الذي له يوجب ذلك مما يعجز عن توهم مثله جميع الحكماء، فضلًا عن إدراكه؛ ليعلم أنه عليم لا يجهل، عزيز لا يعجزه شيء، حكيم لا يتفاوت صنعه، ولا يتناقض تدبيره، ولا قوة إلا باللَّه.
وقريبًا من ذلك ما جعل في جوهر الإنسان من البصر الذي يبصر بأول أحوال الفتح
458
قدر خمسمائة سنة، والفكر الذي يبلغ به من غير أن يزول عن مكانه، منتهى مرجع الخلق من الجنة والنار، ويبصر به المعاد والمعاش، والعقل الذي يعرف حقائق من غاب عنه وحضر، مما له صورة وطينة أو إحداهما وما ليس له واحد من الأمرين على قصور الحواس عن إدراك صورة شيء لا طينة له؛ ليعلم أن الذي قدر على تقدير مثله في جوهر واحد وعلم كيف يصنع فيه؛ ليعلم ذلك العلم، قادر على كل شيء، حكيم، عليم.
وهذا معنى ما قيل إن الإنسان هو العالم الصغير، بمعنى أنه يوجد فيه لكل أمر من الأمور للعالم الكبير فيه مثالًا، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (بِأَمْرِهِ).
قال أبو بكر: يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه أمره كما يقال: أتاه أمر اللَّه، أي: الموت، والعذاب، ونحو ذلك على إرادة ذلك الذي نزل به.
والثاني: أن يطلعن ويغربن بأمر توحيد اللَّه والإيمان به بما هو فيهن من عجيب الحكمة، ورفع التقدير.
وقال الحسن: بأمره الذي به كون الأشياء من " كن ".
فالقول الأول هو قول من لا يرى خلق الخلق غير الخلق.
والثاني قول من يرى " كن " عبارة عن التكوين الذي يكون به الخلق أبد الآبدين، من غير أن كان ثَمَّ في الحقيقة كاف أو نون.
لكنه جاء ما يفهم به المراد من الكلام يراد في ذلك نفي الصعوبة عنه، وتيسير الأمر عليه، وذلك يكون في الحقيقة غير الخلق إذ أخبر في الخلق أنه كان به، وكل شيء يكون بشيء في المتعارف من القول يكون غيره.
وكذلك قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فيه وجهان:
أحدهما: الإخبار عن تكوين الخلق الذي هو له.
459
والثاني: عن الأمر في خلقه بما شاء ولا يُرَدُّ شيء من أمره عن الوجه الذي أمر، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) يذهب بضوء النهار ظلمة الليل، وضوء النهار بظلمة الليل، إذا جاء هذا ذهب سلطان الآخر.
(يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) قيل: سريعًا، وهو أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يظهر النور في ابتداء النهار في طرف من أطراف السماء، والظلمة في أول الليل، ثم ينشر ذلك في جميع أطراف السماء والأرض وما بينهما من جميع الآفاق والجوانب في قدر لحظة بصر وطرفة عين، ما لو أريد تقدير ذلك بجميع ما في الخلق من المقادير ما قدروا عليه؛ ليعلم أن اللَّه على ما يشاء قدير، وأنه لو أراد أن يخلق جميع ما ذكر أنه خلق في ستة أيام لقادر أن يخلقه في طرفة عين، لكنه خلقه في ستة أيام لحكمة في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) لا يكون مما ذكر طلب حقيقة، لكن ذكر الطلب؛ لأن ما كان من كل واحد منهما للآخر لو كان ممن يكون له الطلب كان طلبًا وهربًا من غلبة كل واحد منهما صاحبه، وهو ما ذكرنا في قوله تعالى: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أنها أنشئت على هيئة وجهة لو كان ذلك ممن يكون منه التغرير كان غرورًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) أي: بتكوينه، أي أنشأها، وكَوَّنَها مسخر ات لهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ بأمره ينفعن البشر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الأمر ها هنا هو التكوين.
وقيل: ألا له الخلق والتدبير في الخلق.
وقيل: له الأمر في الخلق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ): تعالى اللَّه عما فهمت المشبهة من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
460
وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: ادعوا، أي: اعبدوا ربكم؛ كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي)، ذكر في الابتداء الدعاء وفي آخره العبادة، فكان الأمر بالدعاء أمرًا بالعبادة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الدعاء ها هنا هو الدعاء، وقد جاء " أن الدعاء مخ العبادة "؛ لأن العبادة قد تكون بالتقليد، والدعاء لا يحتمل التقليد، ولكن إنما يكون عند الحاجة لما رأى في نفسه من الحاجة والعجز عن القيام بذلك؛ فعند ذلك يفزع إلى ربه، فهو مخ العبادة من هذا الوجه.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أي: وحدوا ربكم (تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
قيل: (تَضَرُّعًا) خضوعًا، (وَخُفْيَةً) إخلاصًا.
وقيل: (تَضَرُّعًا): ظاهرًا. (وَخُفْيَةً): سرًا.
وأصله: أن اعبدوا ربكم في كل وقت وكل ساعة، أو ادعوا خاضعين مخلصين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): قيل: المجاوزين الحد بالإشراك باللَّه.
وقيل: لا يحب الاعتداء في الدعاء؛ نحو أن يقول: اللهم اجعلني نبيًا أو ملكًا أو أنزلني في الجنة منزل كذا، وموضع كذا.
وروي عن عبد اللَّه بن مغفل سمع ابنه يقول: " اللهم إني أسألك الفردوس "
461
وأسألك كذا، فقال له عبد اللَّه: سل اللَّه الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور ".
ويحتمل الاعتداء في الدعاء: هو أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له؛ نحو: أن يسأل كرامة الأخيار والرسل.
وأصل الاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له.
وعن الحسن، قال في قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً): علمكم كيف تدعون ربكم، وقال للعبد الصالح حيث رضي دعاءه: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا).
وقال أنس، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عمل البر كله نصف العبادة، والدعاء نصف العبادة ".
ومنهم من صرف قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) إلى الدعاء، وقال: يكره للرجل أن يرفع صوته في الدعاء، ويروون على ذلك حديثًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سممع قومًا يرفعون أصواتهم في الدعاء، فقال: " أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، ولكن... ".
462
وقوله: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) بعد ما بعث الرسل بإصلاحها من الدعاء إلى عبادة اللَّه، والطاعة، ويأمرون بالحلال، وينهون عن الحرام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا): بعد ما خلقها طاهرة عن جميع أنواع المعاصي، والفواحش، وسفك الدماء، وغير ذلك.
ويقال: (بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) بعد ما أعطاكم أسبابًا تقدرون بها على الإصلاح، وما به تملكون إصلاحها.
وجائز أن يكون المراد بإصلاح الأرض: أهلها، أي: لا تفسدوا أهلها؛ وهو كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)، والقرية لا توصف بالعتوّ، ولكن أهلها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ - (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: خوفًا: لما كان في العبادة من التقصير، وطمعًا في التجاوز والقبول؛ لأنه لا أحد يقدر أن يعبد ربه حق عبادة لا تقصير فيها.
وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا يدخل الجنة أحد إلا برحمته، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟: قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ".
وعلى ذلك ما روى: " أن الملائكة يقولون يوم القيامة: ما عبدناك حق عبادتك ".
ويجب على كل مؤمن أن يكون في كل فعل الخير خائفًا، راجيًا الخوف للتقصير، والرجاء للقبول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خوفًا من عذابه ونقمته، وطمعًا في جنته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
قال أهل التأويل إن الجنة قريب من المحسنين، ويقولون: أراد بالقريب: الوقوع فيها،
والنزول، ويحتمل أن يكون المراد بالرحمة صفته، فيكون تأويله: إن منفعة رحمة الله قريب من المحسنين.
وقال الحسن: إن رحمة اللَّه - وهي الجنة - قريب من الخائفين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ) أي: إجابة اللَّه قريب إلى من استجاب دعاءه، ويحتمل ما ذكرنا من منفعة رحمة اللَّه قريب إلى من ذكر.
ثم المحسنين يحتمل المحسنين إلى أنفسهم، أو المحسنين إلى خلقه، أو المحسنين إلى نعم اللَّه، أي: أحسنوا صحبة نعمه، والقيام لشكرها، واجتناب الكفران بها. أو يريد الموحدين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ... (٥٧)
يذكرهم عَزَّ وَجَلَّ في هذا حكمته وقدرته ونعمه؛ ليحتج بها عليهم بالبعث، أما حكمته فبما يرسل الرياح والأمطار، ويسوقها إلى المكان الذي يريد أن يمطر فيه ما لم يعاينوا ذلك وشاهدوه ما عرفوا، أنْ كيف يرسل المطر من السماء، وكيف يرسل الريح، ويسوق السحاب، ففي ذلك تذكير حكمته إياهم. وأما نعمه: فهو ما يسوق السحاب بالريح إلى المكان الذي فيه حاجة إلى المطر، فيرسل على ذلك المكان المطر، وذلك من عظيم نعمه؛ ليعلم أن ذلك كان برحمته، لا أنهم كانوا مستوجبين لذلك.
وأما ما ذكرهم من قدرته: فهو ما ذكر من إحياء الأرض بعد ما كان ميتة؛ ليعلم أن الذي قدر على إحياء الأرض، وإخراج النبات والثمر بعدما كان ميتًا، لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد موتهم، على ما قدر على إحياء الأرض بالنبات وإحياء النخل بالثمار بعدما كان علم كل أن لا نبات فيها ولا ثمار فيه؛ فإذا خرج النبات منها والثمار من النخيل على ما خرج في العام الأول، دل ذلك على وحدانيته وقدرته على إحياء الموتى وبعثهم بعدما ماتوا وصاروا ترابًا على قدر ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) دلالة ألا تفهم من اليدين الجارحتين على ما يفهم من الخلق، كما لم يفهم أحد بذكر اليد في المطر الجارحة؛ لأنه لا جارحة له؛ فعلى ذلك لا يفهم من ذكر اليد له الجارحة من قوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) وكذلك قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، لم يفهم من قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) الجارحة للقرآن، فعلى ذلك لا يفهم مما ذكر، من يديه
464
الجارحة، ومن فهم ذلك فإنما يفهم لفساد في اعتقاده.
وكذلك ما ذكر من الاستواء على العرش، والاستواء إلى السماء، لا يفهم منه ما يفهم من استواء الخلق؛ لأنه بريء عن جميع مشابه الخلق، ومعانيهم، وهو ما وصف حيث قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: يرسل الرياح - نَشْرًا - نَشَرًا - بُشْرى - والنشر: هو من جمع نشور، وهو من الإحياء، ونشرًا من التفريق، وبشْرى بالباء -: من البشارة، ثم قيل في قوله: " نشرًا " اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هو الذي يفرق ويسوق ذلك السحاب.
وقيل: الريح هو الذي يرسل، ويسوق ذلك السحاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) قيل: أقلت: حملت. وقيل: رفعت الماء، وهو واحد، ثقالًا مما فيه من الماء (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) إلى بلد ميت، (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ) أي: البلد.
(فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: من كل الثمرات ما يشاهدون من الثمرات.
كذلك يخرج الموتى بعد ما ماتوا وذهب أثرهم كما أخرج النبات والثمار من الأرض والنخل من بعد ما ماتوا وذهب أثر ذلك النبات وذلك الثمار، فعلى ذلك يخرج الموتى بعد ما ذهب أثرهم حتى لم يبق شيء.
(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ): وتتفكرون وتعرفون قدرته وسلطانه على الإحياء بعد الموت، أو تذكرون، أي: تتعظون.
وبعد، فإن إعادة الشيء في عقول الخلق أهون وأيسر من ابتداء الإنشاء.
ألا ترى أن الدهرية والثنوية وهَؤُلَاءِ قد أنكروا الإنشاء لا من شيء، ورأوا وجود الأشياء وخروجها وإعادتها عن أصل وكيان وهو ما ذكر.
(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: في عقولكم.
465
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا... (٥٨)
ذكر المثل ولم يذكر المضروب، وأهل التأويل قالوا: ضرب المثل للمؤمن والكافر، ثم يحتمل ضرب المثل وجوهًا.
أحدها: أنه وصف الأرض التي يخرج منها النبات بالطيب، ووصف الأرض التي لا يخرج منها النبات بالخبث، فعلى ذلك المؤمن لما كان منه من الأعمال من الطاعة لربه، والائتمار لأمره موصوف هو بالطيب، وجعله من جوهر الطيب، والكافر لما يكون منه من الأعمال الخبيثة، ولا يكون له من الأعمال الصالحة من الطاعة لربه خبيث، كما أن الأرض التي يخرج منها النبات الذي ينتفع به موصوفة بطيب الأصل والجوهر، والتي لا يخرج منها النبات ولا ينتفع به موصوفة بخبث الأصل.
وأمكن أن يكون من وجه آخر، وهو أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل هذا القرآن مباركًا، شفاء للخلق على ما وصفه اللَّه تعالى في غير موضع من الكتاب، ووصف الماء الذي ينزل من السماء بالبركة والرحمة، فإذا نزل ذلك الماء المبارك في الأرض الطيبة الجوهر، خرج منها النبات، والأنزال ينتفع بها، وإذا نزل في الأرض السبخة الخبيثة، لم يخرج لخبث أصلها، فعلى ذلك هذا القرآن هو مبارك شفاء، فيسمعه المؤمن، فيتبعه، ويعمل به، والكافر يسمعه ولا يتبعه، ولا يعمل به، فصار مثل المؤمن الذي يسمع هذا القرآن ويتبعه ويعمل بما فيه، كمثل الماء الذي يدخل في الأرض فيخرج منه النبات؛ لطيب جوهرها وأصلها، والكافر مثل الأرض التي لا يخرج منها النبات لخبث أصلها وجوهرها، وأصله: أنه ضرب مثل الذي هو مستحسن بالعقل بالذي هو مستحسن
466
بالطبع؛ لأن ما حسن في الطبع فإنما معرفته حسن، وما حسن في العقل فإنما يعرف حسنه بالدلائل وهو غائب، فضرب مثل الذي معرفة حسنه بالعقل وهو غائب بالذي معرفة حسنه حس ومشاهدة فالإيمان حسن وغائب ضرب مثله بالذي طريق معرفة حسنه بالحس والمشاهدة، وهو ما ذكر من النبات الذي يخرج من الأرض، وذلك يدل على طيب أصلها وجوهرها، والتي لا تخرج شيئًا هو لخبث جوهرها وأصلها، فعلى ذلك المؤمن والكافر، ثم حسن عمل هذا وطيبه وقبح عمل الآخر وخبثه إنما يظهر في الآخرة وذلك يوجب البعث لأنهما جميعًا استويا في هذه الدنيا، فدل أن هنالك دارًا أخرى فيها يظهر الطيب من الخبيث طاب عمل المؤمن، وجميع ما يكون منه حسنًا لطيب أصله، وخبث عمل الكافر وقبح ما يكون منه لخبث أصله، كالأرض التي ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: " بإذن ربه " يحتمل بعلمه وتكوينه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا نَكِدًا).
قال الحسن: خبيثًا، أي: لا يخرج إلا خبيثًا.
وقال أبو بكر: نَكِدًا، أي: لا منفعة فيه.
وقيل: إلا عسيرًا.
وقيل: إلا قليلًا وهو واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).
أي: لقوم ينتفعون بالآيات.
* * *
قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٠) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤)
467
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ... (٥٩) كما أرسلناك إلى قومك ولست أنت بأول رسول؛ كقوله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ).
وفيه دلالة أن الإيمان يصح بالأنبياء والرسل، وإن لم تعرف أنسابهم؛ لأن اللَّه - عز وجل - ذكر الأنبياء والرسل بأساميهم، ولم يذكر أنسابهم، دل ذلك أن الإيمان يكون بهم إيمانا وإن لم تعرف أنسابهم؛ وكذلك يصح الإيمان وإن لم تعرف أسماؤهم؛ لأن هن الأنبياء هن لا يعرف اسمه، فيصح الإيمان بجملة الأنبياء، وإن لم تعرف أسماؤهم، وفي ذلك دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر عن رسالة نوح، فدل أنه باللَّه عرف ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
قيل: قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ). ، أي: وحدوا اللَّه، سموا التوحيد عبادة لأن العبادة، لا تكون ولا تصح إلا بالتوحيد فيها لله خالصا سمي بذلك مجازًا إذ يجوز أن يكون عبادة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
أي: ما لكم من الإله الحق الذي ثبتت ألوهيته وربوبيته بالدلائل والبراهين من إله غيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنِّي أَخَافُ)، أي: إني أعلم أن ينزل عليكم عذاب يوم عظيم إن متم على هذا.
أو قَالَ بَعْضُهُمْ: الخوف هو الخوف، وهو خوف إشفاق، وذلك يحتمل أن يكون في الوقت الذي كان يطمع في إيمان قومه، ثم آيسه اللَّه عن إيمان قومه بقوله: (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
هو يوم عظيم للخلق؛ كقوله (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ). (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ)، وهو عظيم للخلق على ما وصف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ... (٦٠)
هم أشراف قومه وسادتهم؛ كقوله: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا....)، الآية، وكانوا هم أضداد الأنبياء والرسل؛ لأنهم كانوا يدعون الناس إلى ما يوحي إليهم الشياطين، والرسل كانوا يدعون إلى ما يوحي إليهم اللَّه، وينزل عليهم؛ لذلك قالوا: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)؛ لأنهم ظنوا أن ما أوحى إليهم الشيطان هو الحق، وأن ما يدعو إليه الرسل هو ضلال وباطل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ... (٦١)
أي: لست أنا بضال؛ لأنه إذا نفى الضلال عنه، نفى أن يكون ضالاً، وهو حرف رفق ولين، وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل أن يعاملوا قومهم؛ لأن ذلك أنجع في القلوب، وإلى القبول أقرب.
(وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، والعالم هو جوهر الكل.
ويحتمل قوله: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: لفي خطإ مبين، ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: نسبوه إلى الخطأ؛ لما رأوه خالف الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل لمن خالفهم.
والثاني: نسبوه إلى الخطأ؛ لأنه ترك دين آبائه وأجداده، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي... (٦٢)
رسالته التي أمرني بتبليغها إليكم، قبلتم أو رددتم؛ أُوعدتم أوْ وعدتم، لأني أبلغها
الآية ٦١ وقوله تعالى :﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ﴾ أي لست أنا بضال ؛ لأنه إذا نفى الضلال عنه نفى أن يكون ضالا، وهو حرف رفق ولين. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل أن يعاملوا قومهم ؛ لأن ذلك أنجع للقلوب، وإلى القبول أقرب.
﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾ والعالم هو جوهر الكل.
ويحتمل قوله تعالى :﴿ إنا لنراك /١٧٨-أ/ في ضلال مبين ﴾ أي في خطأ مبين. ثم يخرّج على وجهين :
أحدهما : نسبوه إلى الخطأ لمّا رأوه خالف الفراعنة والجبابرة الذين همهم القتل لمن خالفهم.
الثاني : نسبوه إلى الخطأ لأنه دين آبائه وأجداده، والله أعلم.
الآية ٦٢ وقوله تعالى :﴿ أبلغكم رسالات ربي ﴾ التي أمرني بتبليغها إليكم ؛ قبلتم، أو رددتم. ثم لأني أبلّغها على أي حال استقبلتموني، أو يقول :﴿ أبلّغكم رسالات ربي ﴾ رسالة ربي التي أرسلها إلي.
وقوله تعالى :﴿ وأنصح لكم ﴾ [ يحتمل قوله :﴿ وأنصح لكم ﴾ ]١ أي أدعوكم، وآمركم إلى ما فيه صلاحكم، وأنهاكم عما فيه فسادكم. والنصيحة هي الدعاء إلى ما فيه [ الصلاح والنهي عما فيه ]٢ الفساد. وتكون النصيحة لهم ولجميع المؤمنين.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ]٣ قال :( ألا إن الدين النصيحة، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ) [ البخاري : ٥٧ ] قال أبو القاسم الحكيم، رحمة الله عليه : النصيحة هي النهاية من صدق العناية.
ثم أخبر أنه يبلّغهم ﴿ رسالات ربي ﴾ ولم يبيّن في ماذا ؟ في كتاب أنزله عليه، أو يوحي [ إليه في غير كتاب ]٤، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى التصديق له في ما يبلّغ إليهم.
وقوله تعالى :﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ قد أتاه من الله العلم بأشياء ما لم يأت أولئك مثله، وهو كقول إبراهيم، صلوات الله عليه، لأبيه ﴿ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتّبعني ﴾ [ مريم : ٤٣ ] ويحتمل قوله تعالى :﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ من العذاب أن ينزل بكم ﴿ ما لا تعلمون ﴾ أنتم إذا دمتم على ما أنتم عليه.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: في غير كتاب يوحي إليه..
على أي حال استقبلتموني، أو يقول: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) رسالته التي أرسلها إليَّ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) يحتمل قوله: (وَأَنْصَحُ لَكُمْ): أي: أدعوكم وآمركم إلى ما فيه صلاحكم، وأنهاكم عما فيه فسادكم، والنصيحة هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد، وتكون النصيحة لهم، ولجميع المؤمنين.
روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، قال: " ألا إن الدِّين النصيحة قيل: لمن يا رسول اللَّه؟ قال: لله ولرسوله ولجميع المؤمنين ".
قال الشيخ أبو الفدا الحكيم - رحمة اللَّه عليه -: النصيحة: هي النهاية من صدق العناية، ثم أخبر أنه يبلغهم رسالات به، ولم يبين فيم ذا؟! في كتاب أنزله عليه، أو بوحي في غير كتاب يوحى إليه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى التصديق له فيما يبلغ إليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
قد أتاه من اللَّه العلم بأشياء ما لم يأت أُولَئِكَ مثله، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي) ويحتمل قوله: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ) من العذاب أنه ينزل بكم (مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنتم إذا دمتم على ما أنتم عليه.
وقوله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ... (٦٣)
أي: تعجبون بما جاءكم ذكر من اللَّه على يدي رجل منكم ما لا أقدر أنا ولا تقدرون أنتم على مثله، كانوا يعجبون وينكرون أن يكون رسل اللَّه من البشر بقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً)، ونحو ذلك كانوا ينكرون رسالة البشر وما ينبغي لهم أن ينكروا ذلك؛ لأنهم قد كانوا رأوا
تفضيل بعض البشر على بعض، وفي وضع الرسالة فيهم - أعني في الرسل - تفضيلهم، وذلك قد رأوا فيما بينهم، ولله تفضيل بعضهم على بعض؛ إذ له الخلق والأمر، ولكل ذي ملك وسلطان أن يصنع في ملكه ما شاء من تفضيل بعض على بعض وغيره.
أو يقول: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ): على يدي رجل منكم، ولو كان جاء الذكر على من هو من غير جوهركم، كان في ذلك لبس واشتباه عليكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُنْذِرَكُمْ) عذاب اللَّه: (وَلِتَتَّقُوا) معاصيه (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): إن اتقيتم ما نهاكم عنه، أو كان في قومه من يجوز أن يرحم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤)
يعني نوحًا فيما دعاهم إلى عبادة اللَّه ووحدانيته، ونهاهم عن عبادة غير اللَّه، أو كذبوه فيما آتاهم من آيات يبوته ورسالته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْجَيْنَاهُ).
يعني نوحًا، والذين آمنوا في الفلك.
(وَأَغْرَقْنَا).
الذين كذبوا بآياتنا، إذا كان إهلاك القوم إهلاك تعذيب وعقوبة، ينجي أولياءه ويبقيهم إلى الآجال التي قدر دهم، ويكون ذلك نجاة لهم من ذلك العذاب الذي حل بالأعداء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): أي: بآياتنا، التي جعلناها لإثبات
رسالته ونبوته، ويحتمل: كذبوا بآياتنا التي أعطيناه لوحدانية اللَّه وألوهيته.
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ).
عموا عن الحق.
* * *
قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا).
أي: وأرسلنا هودًا إلى عاد، وهو على ما ذكر في نوح، وهو قوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)؛ فعلى ذلك قوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)، أي: إلى عاد أرسلنا هودًا.
ثم تحتمل الأخوة وجوهًا أربعة:
أخوة النسب، وأخوة الجوهر، ويقال هذا إذا كان من جوهره، ولا يقال ذلك في غير جوهره، وأخوة المودة والمحبة، وأخوة الدِّين، ثم لم يكن بين هود وقومه أخوة الدِّين، ولا أخوة المودة، لكن يحتمل أخوة النسب؛ لأن البشر على بعد من آدم كلهم أولاده، فإذا كانوا كذلك فهم فيما بينهم بعضهم أخوة بعض؛ كأولاد رجل واحد، يكون
بعضهم أخوة بعض، وأخوة الجوهر على ما ذكرنا، يقال: هذا أخ هذا إذا كان من جنسه وجوهره، فهذين الوجهين يحتملان، والوجهان الآخران لا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
أي: اعبدوا اللَّه الذي يستحق العبادة و (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أي: ليس لكم من معبود سواه، وهو المعبود في الحقيقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا تَتَّقُونَ).
عبادة غير اللَّه، أو: أفلا تتقون اللَّه في عبادتكم غيره، وفي تكذيبكم هودًا، أو أن يقول: أفلا تتقون عذاب اللَّه ونقمته عليكم بمخالفتكم إياه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦)
قد ذكرنا قول الملأ من قومه، أي: أشراف قومه وساد، تهم (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
ذكر هاهنا ظنهم في تكذيبهم الرسول، وفي موضع آخر قطعوا في التكذيب وهو قوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ)، فكان قوله: (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) في ابتداء ما دعاهم إلى عبادة اللَّه ووحدانيته، كانوا على ظن فيه لما كان عندهم صدوقًا أمينًا قبل دعائهم إلى ما دعاهم، فلما أن أقام عليهم آيات الرسالة والنبوة وأظهر عندهم عيب ما عبدوا غير اللَّه، وأبطله، وتحقق ذلك عندهم - عند ذلك قالوا: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ليعلم أنهم عن عناد، كذبوا الرسل، فقال: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ... (٦٧) إن الرسل - عليهم السلام - كانوا أمروا أن يعاملوا الخلق بأحسن معاملة، وهو على ما أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال له: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)، ونحوه، فعلى ذلك الرسل الذين كانوا من قبل كانوا مأمورين بذلك؛ لذلك قال لهم هود لما تلقوه بالتكذيب والتسفيه قال: ليس بي ما تقولون وتنسبونني إليه، (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ
الآية ٦٧ وقوله١ تعالى :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ﴾ إن الرسل، صلوات الله عليهم، كانوا أمروا أن يعاملوا الخلق بأحسن معاملة، وهو ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين٢ قال تعالى له :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ] وقال٣ تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن السيئة ﴾ [ المؤمنون : ٩٦ ] ونحوه. فعلى ذلك الرسل الذين كانوا من قبل ؛ كانوا مأمورين بذلك. لذلك قال لهم هو، ولمّا بلّغوه بالتكذيب والتسفيه، ليس بي ما تقولون، وتنسبونني ﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾.
١ في الأصل وم: فقال..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: قوله..
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أي: أدعوكم إلى وحدانية اللَّه، وعبادته، والتمسك بالدِّين الذي به نجاتكم، وكل من دعا آخر إلى ما به نجاته فهو ناصح له.
ويحتمل قوله: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)، أي: كنت ناصحًا لكم قبل هذا أمينًا فيكم، فكيف تكذبونني وتنسبونني إلى السفه، وأنا أمين على الرسالة والوحي الذي وضع الله عندي؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي): شئتم أو أبيتم.
أو يقول: أبلغكم رسالات ربي خوفتموني أو لم تخوفوني، قبلتم عني أو لم تقبلوا.
أو يقول: أبلغكم رسالات ربي، فكيف تنسبونني إلى السفه والافتراء على اللَّه؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
يحتمل قوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ) وجوهًا:
أحدها: أنه جعلكم خلفاء قوم أهلكهم بتكذيبهم الرسل، ولم يهلككم، فاحذروا أنتم هلاككم بتكذيبكم الرسول كما أهلك أُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل.
أو أن يقال: جعلكم خلفاء قوم صدقوا رسولًا من البشر وهو نوح، فكيف كذبتموني في دعوى الرسالة لأني بشر ودعائي إلى عبادة اللَّه ووحدانيته؟! هذا تناقض.
والثاني: أن اذكروا نوحًا وهو كان رسولاً من البشر، فكيف تنكرون أن يكون الرسول أبشرًا؛ وكان الرسل جميعًا من البشر.
والثالث: أن اذكروا نعمة اللَّه التي أنعمها عليكم من السعة في المال، والقوة في الأنفس، وحسن الخلقة، والقامة، وكان لعاد ذلك كله؛ كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)....). هذا في السعة في المال، وأما القوة في الأنفس والقامة ما ذكر في قوله: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) أو قوله: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)، فيه وصف لهم بالقوة، وطول القامة، وعلى ذلك فسر بعض أهل التأويل.
وقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) يعني: قوة وقدرة.
وقال غيره: هو الطول والعظم في الجسم، وذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في عاد أشياء أربعة خصَّهم بها من بين غيرهم.
أحدها: العظم في النفس؛ كقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً).
الآية ٦٩ وقوله تعالى :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ يحتمل قوله ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء ﴾ [ وجوها :
أحدها : أنه جعلكم خلفاء ]١ قوم أهلكهم بتكذيبهم الرسل، ولم يهلككم، فاحذروا أنتم هلاككم بتكذيبكم الرسول كما أهلك أولئك بتكذيبهم الرسل. أو أن يقال :﴿ جعلكم خلفاء ﴾ قوم صدّقوا رسولا من البشر، وهو نوح، فكيف كذّبتموني في دعوى الرسالة لأني بشر، ودعائي إلى عبادة الله ووحدانيته ؟ هذا تناقض.
والثاني : أن اذكروا نوحا، وهو كان رسولا من البشر، فكيف تنكرون أن يكون الرسول من البشر، وكان الرسل جميعا من البشر.
والثالث : أن اذكروا نعمته التي أنعمها عليكم من السعة في المال والقوة في الأنفس وحسن الخلقة والقامة، وكان لعاد ذلك كله كقوله تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ﴾ ﴿ إرم ذات العماد ﴾ ﴿ التي ﴾ الآية [ الفجر : ٦و٧و٨ ] هذا في السعة في المال. وأما القوة في الأنفس والقامة [ فهي ]٢ ما ذكر في قوله تعالى :﴿ كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾ [ الحاقة : ٧ ] وقوله تعالى :﴿ كأنهم أعجاز نخل منقعر ﴾ [ القمر : ٢٠ ] وصف لهم بالقوة وطول القامة. وعلى ذلك فسّر بعض أهل التأويل.
وقوله تعالى :﴿ وزادكم في الخلق بصطة ﴾ يعني قوة /١٧٨-ب/ وقيل٣ : هو الطول والعظم في الجسم.
ذكر الله في عاد٤ أشياء ثلاثة خصهم بها من غيرهم : أحدها : العظم في النفس بقوله٥ تعالى :﴿ وزادكم في الخلق بصطة ﴾ وفي القوة بقوله تعالى :﴿ من أشد منا قوة ﴾ [ فصلت : ١٥ ] [ والثانية ]٦ : السعة في الأموال بقوله تعالى :﴿ بعاد ﴾ ﴿ إرم ذات العماد ﴾ [ الفجر : ٦و٧ ] و[ الثالثة ]٧ فضل العلم بقوله تعالى :﴿ وكانوا مستبصرين ﴾ [ العنكبوت : ٣٨ ].
وقوله تعالى :﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾ قال بعضهم : الآلاء هي في دفع البلايا، والنعماء هي في سوق النعماء إليه.
ولكنهما واحد ؛ لأنه ما من بلاء يدفع عنه إلا وفي ذلك سوق نعمة أخرى إليه، ولأن الله تعالى ذكر في سورة الرحمن الآلاء بجميع ما ذكر إنما ذكر على سوق النعم إليه بقوله٨ تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذّبان ﴾ حين٩ قال تعالى :﴿ الرحمن ﴾ ﴿ علّم القرآن ﴾ ﴿ خلق الإنسان ﴾ ﴿ علّمه البيان ﴾ [ الآيات : ١و٢و٣و٤ ] إلى [ آخر ]١٠ ما ذكر من السورة، وهو ذكر في سوق النعم لا في دفع البلايا.
وقوله تعالى :﴿ لعلكم تفلحون ﴾ إن ذكرتم نعمه، وشكرتم له عليها، ولم تصرفوا عبادتكم وشكركم إلى غيره، أو يقول : لكي يلزمكم الفلاح، أو حتى تكونوا من أهل الفلاح.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: وقال غيره..
٤ من م، في الأصل: عادة..
٥ في الأصل وم: كقوله..
٦ في الأصل وم: و..
٧ في الأصل وم: و..
٨ في الأصل وم: قوله..
٩ في الأصل وم: حيث...
١٠ ساقطة من الأصل وم..
والقوة، في قوله: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).
والسعة في الأموال بقوله: (بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ).
وفضل العلم بقوله: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الآلاء: هي في دفع البلايا، والنعماء هي في سوق النعماء إليه، ولكن هما واحد؛ لأنه ما من بلاء يدفع عنه إلا وفي ذلك سوق نعمة أخرى إليه؛ ولأن اللَّه - تعالى - ذكر في سورة الرحمن الآلاء بجميع ما ذكر إنما ذكر على سوق النعم إليه قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) حيث قال: (الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)، إلى آخر ما ذكر من السورة، وهو ذكر في سوق النعم لا في دفع البلايا.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أي: تفلحون إن ذكرتم نعمه، وشكرتم له عليها، ولم تصرفوا عبادتكم وشكركم إلى غيره، أو يقول: لكي يلزمكم الفلاح، أو حتى تكونوا من أهل الفلاح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا... (٧٠)
هذا يدل أن رسالته التي يبلغها إليهم هي دعاؤه إياهم إلى عبادة اللَّه وحده وتركهم عبادة من دونه، حيث قالوا: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) ولا شك أنه إنما جاءهم ليعبدوا اللَّه وحده، وجاءهم ليذروا ما كان يعبد آباؤهم.
ثم في قولهم تناقض؛ لأنهم كانوا ينكرون أن يكون من البشر رسول بقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)، لم يرضوا برسالة البشر، ورضوا بألوهية الأحجار والخشب، ثم يقلدون آباءهم في عبادتهم غير اللَّه، وفي آبائهم من يعبد اللَّه لا يعبد غيره، وهم الذين نجوا مع نوح، فكيف لم
يقلدوا من نجا منهم، ولم يعبدوا غير اللَّه دون أن قلدوا الذين عبدوا غير اللَّه؛ فذلك تناقض، حيث اتبعوا من هلك منهم بتكذيبهم الرسل وعبادتهم غير اللَّه، ولم يتبعوا من نجا منهم.
يذكر - عَزَّ وَجَلَّ - سفههم وتناقضهم في القول في إنكارهم الرسول من البشر، ولكن ذكر سفههم وتناقضهم بالتعريض لا بالتصريح، وكذلك عامة ما ذكر في كتابه من سفههم إنما ذكر بالتعريض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
إنه كان يعدهم العذاب إن لم يصدقوه فيما يدعوهم إليه، وترك تقليدهم آباءهم في عبادتهم غير اللَّه "
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ... (٧١)
قَالَ بَعْضُهُمْ: الرجس: العذاب، أي قد وجب عليكم العذاب بتكذيبكم هودًا، وتقليدكم آباءكم في عبادتكم غير اللَّه، (وَغَضَبٌ): وهو العذاب أيضا.
وجائز: أن يكون الرجس هاهنا الخذلان، وحرمان التوفيق والمعونة، أي: قد وقع عليكم ووجب الخذلان، وحرمان التوفيق باختياركم ما اخترتم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرجس: هو الإئم والخبث؛ كقوله - تعالى -: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)، وقوله: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وقوله: " اللهم إني أعوذ بك من الرجس " النجس الخبيث المخبث من الشيطان الرجيم ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا).
ومجادلتهم ما قالوا: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ) ويحتمل في (أَشمَآ) أي: بأسماء سميتموها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ).
قيل: حجة، أي: لم ينزل لهم حجة في عبادتهم غير اللَّه.
وقيل: السلطان هاهنا عذر، أي: لم ينزل لهم عذرًا في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَظِرُوا).
أي: انتظروا أنتم وعد الشيطان.
(إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وعد الرحمن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) أي: من حجة في تسميتهم الأصنام التي عبدوها دون اللَّه ما سموها آلهة وشفعاء ونحوه، كأنهم إنما جادلوه في تسميتهم آلهة وشفعاء، وأنْ ليس لهم حجة ولا عذر في عبادتهم غير اللَّه، ولا في إشراكهم غيره في العبادة والألوهية.
(فَانْتَظِرُوا): قال الحسن: انتظروا أنتم مواعد الشيطان، (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ): لمواعد اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْجَيْنَاهُ... (٧٢)
يعني هودًا (وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا).
إن من حكم اللَّه أنه إذا أهلك قومًا إهلاك تعذيب، استأصلهم وأنجى أولياءه ونصر هم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) يحتمل قوله (بِرَحْمَةٍ مِنَّا): برحمته التي هداهم عَزَّ وَجَلَّ، ولولا رحمته ما اهتدوا، لكنه رحمهم فهداهم، فبرحمته اهتدوا، ويحتمل أنه إنما أنجاهم من العذاب برحمة منه، وإلا كانت لهم ذنوب وخطايا يستحقون بها العذاب، لكنه أنجاهم بإحمة منه وفضل، واللَّه أعلم.
وفيه: أن من نجي إنما نجى برحمته وفضله، وإن كان رسولًا لا باستيجاب منه النجاة، وهو ما روي حيث قال: " لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة اللَّه، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) قيل دابر الذين كذبوا أي: أواخر الذين كذبوا واستأصلهم فلم يبق منهم أحد، وقيل (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا)، أي: أصل الذين كذبوا بآياتنا، ولم يبين لنا آياته التي أعطاها هودًا، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما أخبر أن ما حل بهم من العذاب إنما حل بتكذيبهم الرسول، وذلك كان سنة وحكمة في الأمم السالفة.
* * *
قوله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا).
قد ذكرنا أنه صلة قوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)، كأنه قال: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا.
478
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخَاهُمْ) قد ذكرنا أنه تحتمل الأخوة وجوهًا أربعة: أخوة النسب، وأخوة الجوهر والشكل على ما يقال: هذا أخو هذا إذا كان من جوهره وشكله، وأخوة المودة والخلة، وأخوة الدِّين، ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من أخوة صالح كان أخوهم في النسب، أو في الجوهر على ما ذكرنا في هود، ولا يحتمل أن يكون في المودة والدِّين، وأما أخوة النسب فإنه يحتمل لما ذكرنا أن بني آدم كلهم إخوة، وإن بعدوا؛ لأنهم كلهم من أولاد آدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
قد ذكرنا أن الرسل بأجمعهم إنما بعثوا ليدعوا الخلق إلى وحدانية اللَّه، والعبادة له؛ وأن لا معبود سواه يستحق العبادة من الخلق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قيل فيه بوجهين.
قيل: (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)، ما ذكر من الناقة التي جعلها اللَّه آية لرسالة صالح، وهي: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً).
وقيل: (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) آيات ظهرت لهم على لسان صالح، وجرت على يديه ما يدلّ على رسالة صالح ونبوته، لكنهم كابروا تلك الآيات في التكذيب وعاندوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً).
وجه تخصيص إضافة تلك الناقة إلى اللَّه يحتمل وجوهًا، وإن كانت النوق كلها لله في الحقيقة:
أحدها: لما خصت تلك بتذكير عبادته تعالى إياهم ووحدانيته تعظيمًا لها، على ما خصت المساجد بالإضافة إليه، بقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)؛ لما جعلت تلك البقاع لإقامة عبادة اللَّه، فخصت بالإضافة إليه تعظيمًا لتلك البقاع فعلى ذلك هذه الناقة خصت بالإضافة إليه، لما جعلها اللَّه آية من آياته خارجة من غيرها من النوق
479
مخالفة بنيتها بنية غيرها؛ إما خلقة، وإما في ابتداء إحداثها وإنشائها أو في أي شيء كان، فأضافها إليه لذلك، واللَّه أعلم.
ثم لا يجب أن يتكلف المعنى الذي له جعل الناقة آية؛ لأنه - جل وعلا - لم يبين لنا ذلك المعنى، فلو تكلف ذكر ذلك فلعله يخرج على خلاف ما كان في الكتب الماضية، فهذه القصص وأخبار الأمم الماضية إنما ذكرت في القرآن؛ لتكون آية لرسالة مُحَمَّد - صلوات اللَّه عليه وسلامه - فلو ذكرت على خلاف ما كان كان لهم في ذلك مقال.
ويحتمل معنى الإضافة إليه وجهًا آخر، وهو: أنه لم يجعل منافع هذه الناقة لهم، ولا جعل عليهم مؤنتها، بل أخبر أنْ ذروها تأكل في أرض اللَّه، جعل مؤنتها فيما يخرج من الأرض، ليست كسائر النوق التي جعل مؤنتها عليهم، ومنافعها لهم بإزاء ما جعل عليهم من المؤن، فمعنى التخصيص بالإضافة إليه لما لم يشرك فيها أحدًا ولا في منافعها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ.
دلالة أن تلك الناقة كان غذاؤها مثل غداء سائر النوق، وإن كانت خارجة عن طباع سائر النوق من جهة الآية؛ ليعلم أنها وإن كانت آية لرسالته ودلالة لنبوته فتشابهها لسائر النوق في هذه الجهة لا يخرجها عن حكم الآية، فعلى ذلك الرسل وإن كانوا ساووا غيرهم من الناس في المطعم والغذاء لا يمنع ذلك من أن يكونوا رسلًا، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ).
يحتمل: لا تتعرضوا لها قتلًا ولا قطعًا ولا عقرًا لما ليست هي لهم، (فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
480
أَلِيمٌ)، وفي مواضع أخر: (فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)، فهذا يدل على أنه إنما أراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة؛ لأنه قد يأخذهم عذاب الآخرة بكفرهم، فالوعيد بأخذ العذاب لهم عذاب الدنيا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ... (٧٤) قد ذكرنا تأويله في قصة هود.
(وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).
قيل: أنزلكم فيها تتخذون من سهولها قصورًا.
(وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ما أنعم عليهم من سعة المال، وبسط الرزق لهم، وما خصهم من اتخاذ البيوت من الجبال دون غيرهم من الناس، خص هؤلا بسعة الرزق وبسط الأموال، وقوم هود بالقوة والبطش، بقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)، وقال في آية أخرى: (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، وقال: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)، كان خصهم بفضل القوة والبطش والطول من بين غيرهم، وهَؤُلَاءِ بسعة الأرزاق لهم وبسط الأموال، (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ)، من السعة في الأموال والبسط، وبما جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبما أقدركم على اتخاذ البيوت من الجبال لم يقدر على مثله أحد؛ لأن غيرهم من الخلائق إنما ينتفعون بالجبال على ما هي عليها، وأما هم فقد مكّن لهم على نحتها واتخاذها بيوتًا.
(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
أي: اذكروا نعمته، ولا تشركوا في عبادتكم غيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ... (٧٥)
قد ذكرنا أن الملأ من قومه هم كبراؤهم وسادتهم، استكبروا عليه لما رأوه دون أنفسهم في أمر الدنيا، فلم يتبعوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ).
الآية ٧٥ وقوله تعالى :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه ﴾ قد ذكرنا أن الملأ من قومه هم كبراؤهم وساداتهم استكبروا عليه لما رأوه دون أنفسهم في أمر الدنيا، فلم يتّبعوه.
وقوله تعالى :﴿ للذين استضعفوا لمن آمن منهم ﴾ فيه دلالة أن من المستضعفين من قومه من لم يكن آمن [ في حين ]١ خص لمن آمن منهم. وفيه أن أول من اتبع الرسل هم الضعفاء [ كذلك كان الأتباع للرسل جميعا الضعفاء ]٢.
وقوله٣ تعالى :﴿ أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ﴾ قول هؤلاء الذين آمنوا بصالح عليه السلام وصدّقوه برسالته [ وهو يحتمل وجهين :
أحدهما ]٤ : لم يخرج في الظاهر جواب ما سألوا لأنهم قالوا :﴿ أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ﴾ ؟ إنما سألوهم عن علمهم برسالته، لم يسألوهم عن إيمانهم. فهم إنما أجابوا عن غير ما سألوا في الظاهر.
لكن يجوز أن يكنّى بالعلم [ عن ]٥ الإيمان، فكأنهم٦ قالوا لهم : تؤمنون بصالح، وتصدّقونه ؛ لأن العلم بالشيء، فيه يقع بلا صنع، والأيمان لا يكون بصنع منهم، فكأنهم إنما سألوهم عن الإيمان به، لذلك قالوا :﴿ إنا بما أرسل به مؤمنون ﴾.
والثاني : كأنهم قالوا : بل علمنا أنه مرسل من ربه، وإنا ﴿ بما أرسل به مؤمنون ﴾
وفيه دلالة أن من مكّن له من العلم بأسباب، جعلت له، يصل بها إلى العلم به، لم يعذر٧ بجهله في ذلك بعد ما أعطي أسباب العلم حين٨ قالوا :﴿ أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ﴾ أي لا تعلمون.
١ في الأصل: من حيث..
٢ من م: ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: وقولهم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ في الأصل وم: فكانها..
٧ في الأصل وم: يقدر..
٨ في الأصل وم: حيث..
فيه دلالة أن من المستضعفين من قومه من لم يكن آمن؛ حيث خص لمن آمن منهم.
وفيه: أن أول من اتبع الرسل هم الضعفاء، وكذلك كان الأتباع للرسل جميعًا الضعفاء.
وقولهم: (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)، قول هَؤُلَاءِ الذين آمنوا بصالح وصدقوه في رسالته لم يخرج في الظاهر جواب ما سألوا؛ لأنهم قالوا: (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)، إنما سألوهم عن علمهم برسالته، لم يسألوهم عن إيمانهم به، فهم إنما أجابوا عن غير ما سئلوا في الظاهر، لكن يجوز أن يكنى بالعلم عن الإيمان، فكأنهم قالوا لهم: تؤمنون بصالح وتصدقونه؟ لأن العلم بالشيء قد يقع بلا صنع، والإيمان لا يكون إلا بصنع منهم؛ فكأنهم إنما سألوهم عن الإيمان به؛ لذلك قالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ).
والثاني: كأنهم قالوا: بل علمنا أنه مرسل من ربه، وإنا بما أرسل به مؤمنون.
وفيه: دلالة أن من مكن له من العلم بأسباب جعلت له يصل بها إلى العلم، لم يعذر بجهله في ذلك بعد ما أعطي أسباب العلم؛ حيث قالوا: أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه، أي: لا تعلمون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦) فيه دلالة أن الإيمان: هو التصديق في اللغة، والتكذيب: هو ضد ما يكون به التصديق؛ حيث أجابوا بالتكذيب لإيمانهم به؛ لقولهم: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فهَؤُلَاءِ لم يعرفوا جميع الطاعات إيمانًا على ما عرفه بعض الناس، إنما عرفوه تصديقًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ... (٧٧)
أضاف هاهنا العقر إليهم جميعًا، وفي موضع آخر أضاف إلى الواحد بقوله: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ)، وفي سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) كذلك أضاف إلى الواحد: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا)، لكن فيما كان مضافًا إليهم
482
جميعًا يحتمل أن تولى واحد منهم عقرها بمشورتهم جميعًا، ومعونتهم، وتدبيرهم، وتراضيهم على ذلك، فأضيف إليهم ذلك لاجتماعهم على ذلك، وإلى الواحد فيما تولى جرحها ومنعها عن السير، ففيه دلالة لمذهب أصحابنا أن قطاع الطريق إذا تولى بعضهم القتل، وأخذ الأموال، ولم يتول بعضهم يتشاركون جميعًا: من تولى منهم، ومن لم يتول في حكم قطاع الطريق بعد أن يكون بعضهم عونًا لبعض، وكذلك إذا اجتمع قوم على قتل واحد، فتولى بعضهم القتل ولم يتول بعض بعد أن كانوا في عون أُولَئِكَ، فإنهم يقتلون جميعًا، وعلى ذلك يخرج قول عمر - رضِي اللَّه عنه - حيث قال: " لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم " وأهل صنعاء إذا اجتمعوا لا سبيل للكل أن يتولوا قتله، فدل أنه على العون والنصر لبعضهم بعضًا فيتشاركون جميعًا في القصاص على ما تشارك أُولَئِكَ جميعًا في العذاب: من تولى عقرها ومن لم يتول، بعد أن كان ذلك العقر بمعونتهم، وبتراضيهم على ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ... )
إنما أخذهم العذاب لما استعجلوا منه العذاب، وكذبوه فيما يوعدهم العذاب ويعدهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ).
العتو: هو النهاية في التمرد، والخلاف لأمره على العلم منهم بالخلاف لا على
483
الآية٧٧ وقوله تعالى :﴿ فعقروا الناقة ﴾ أضاف ههنا العقر إليهم جميعا. وفي مواضع١ أخر أضاف إلى الواحد بقوله تعالى :﴿ فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ﴾ [ القمر : ٢٩ ] وفي سورة ﴿ والشمس وضحاها ﴾ كذلك أضاف إلى الواحد [ بقوله تعالى ]٢ :﴿ إذ انبعث أشقاها ﴾ [ الآية : ١٢ ].
لكن في ما كان مضافا إليهم جميعا يحتمل أن يتولّى واحد منهم عقرها بمشورتهم جميعا ومعونتهم وتدبيرهم وتراضيهم على ذلك، فأضيف على ذلك إليهم لذلك لاجتماعهم على ذلك، وإلى الواحد في ما تولّى جرحها ومنعها عن السير.
ففيه دلالة لمذهب أصحابنا : أن قطّاع٣ الطريق، إذا تولّى بعضهم القتل وأخذ الأموال، ولم يتولّ بعضهم، يشاركون جميعا : من تولّى منهم ومن لم يتول في حكم قطّاع الطريق بعد أن يكون بعضهم عونا لبعض. وكذلك إذا اجتمع قوم على قتل واحد، فتولّى بعضهم القتل، ولم يتولّ بعض، بعد أن كانوا في عون أولئك، فإنهم يقتلون جميعا.
وعلى ذلك يخرّج قول عمر رضي الله عنه حين٤ قال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء [ لقتلهم. وأهل صنعاء ]٥ إذا اجتمعوا لا سبيل للكل أن يتولّوا قتله. فدل أنه على العون والنصر لبعضهم بعضا، فيشاركون جميعا في القصاص على ما شارك أولئك جميعا في العذاب : من تول عقرها ومن لم يتول بعد أن كان ذلك العقر بمعونتهم وبتراضيهم على ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ﴾ ﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ إنما أخذهم العذاب لما استعجلوا منه العذاب، وكذّبوه في ما يوعدهم العذاب، ويعدهم.
وقوله تعالى :﴿ وعتوا عن أمر ربهم ﴾ العتوّ هو النهاية في التمرد والخلاف لأمر على العلم منهم بالخلاف لا على الغفلة والجهل.
١ في الأصل وم: موضع..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، في الأصل: قاطع..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
الغفلة والجهل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ... (٧٨)
قيل: الزلزلة.
وقيل: الصيحة، وقال في آية أخرى (فأخذتهم الصيحة) وقال في آية أخرى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)، والقصة في ذلك كله واحد، فجائز أن يكون ذلك واحدًا، وإن اختلفت ألفاظه، وهو عبارة عن العذاب، وجائز أن تكون الصيحة لما صيح بهم صعقوا جميعًا فماتوا، وهو واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ).
قيل: ميتين وقيل لازقين بالأرض قد ماتوا وذهبوا، ويقال: جثم الطائر: إذا لزق بالأرض، يقال: أجثمته، أي: ألزقته بالأرض، والمجثمة يقال: طائر يشد جناحاه
ورجلاه، ثم يوضع بالأرض، ثم يرمي بالنبل حتى يموت، يقال: جثمت الطائر، أي: شددت رجليه وجناحيه.
يقال: جثم يجثم جثمًا: إذا فعل ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ... (٧٩)
أي: أعرض عنهم، وخرج من بينهم حين علم أن العذاب ينزل بهم.
وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، والنصيحة ما ذكرنا أن كل من دلّ آخر على ما به نجاته وسعى على دفع البلاء والهلاك عنه، فهو ناصح له، فعلى ذلك صالح وغيره من الرسل قد دلوا قومهم على ما به نجاتهم، وسعوا على دفع الهلاك عنهم، لكنهم لم يقبلوا النصيحة منهم.
* * *
قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ).
ذكر في غيره من الأنبياء دعاءهم قومهم إلى عبادة اللَّه ووحدانيته، على ما قال نوح: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء، ولم يذكر في لوط ذلك هاهنا، ولا يحتمل أن لم يكن منه الدعاء إلى ما كان من غيره من الأنبياء إلى توحيد اللَّه وعبادته قبل النهي عن
485
الفواحش، والتعيير عليها، وهو ما ذكر في آية أخرى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣). لأنه كان من الأنبياء - صلوات اللَّه وسلامه عليهم - دعاء قومهم إلى عبادة اللَّه، ووحدانيته أولًا، ثم النهي عما ارتكبوا من الفواحش والمعاصي، والتعيير عليها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) قوله: (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) يحتمل أن يكون منهم ما كان من سائر الأقوام تقليد الآباء في العبادة لغير اللَّه؛ كقولهم: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) وقولهم: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)، و (مُقْتَدُونَ)، وقوله: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، ونحو ما قالوا؛ فعلى ذلك من قوم لوط للوط لما دعاهم إلى عبادة اللَّه، ووحدانيته، فأجابوه بما أجاب الأقوام لأنبيائهم من التقليد لآبائهم؛ فقال: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)، أي: تعملون أنتم أعمالًا لم يعملها آباؤكم، ولا تقلدون آباءكم في تركها من نحو ما ذكر من إتيان الفاحشة، فقال: (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) يعيرهم، ويسفه أحلامهم في إتيان ما يأتون من الفاحشة التي لم يسبقهم أحد من العالمين، على علم منهم أن ذلك فاحشة.
ألا ترى أنهم قالوا: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) دل هذا القول على أن ما يأتون من الفواحش يأتون على علم منهم أنها فواحش؛ حيث قالوا: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
ثم قوله: (الْفَاحِشَةَ) لما في العقل والشرع؛ لأن ما حرم من المحرمات على الخلق، وأحل المحللات محنة منه لهم على ذلك، ثم جعل فيما أحل لهم من الأطعمة
486
والأشربة والاستمتاع بالنساء والجواري دوامًا لهذا العالم؛ لأنهم لو تركوا التناول من ذلك لهلكوا، فإذا هلكوا انقطع هذا العالم لما ينقطع نسلهم، ثم ركب فيهم الشهوات
487
الآية ٨٠ وقوله تعالى :﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ﴾ ذكر في غيره من الأنبياء دعاءهم قومهم إلى عبادة الله ووحدانيته على ما قال نوح :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ [ الأعراف : ٥٩و. . ] وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء، ولم يذكر في لوط ذلك إلا ههنا، ولا يحتمل أن لم يكن منه الدعاء إلى ما كان من غيره من الأنبياء إلى توحيد الله وعبادته قبل النهي عن الفواحش والتعيير عليها، وهو ما ذكر في سورة١ أخرى :﴿ كذّبت قوم لوط المرسلين ﴾ ﴿ إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون ﴾ ﴿ إني لكم رسول أمين ﴾ ﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾ [ الشعراء : ١٦٠و١٦١و١٦٢و١٦٣ ] كان من الأنبياء، صلوات الله عليهم، دعاء قومهم إلى عبادة الله ووحدانيته أولا، ثم النهي عما ارتكبوا من الفواحش /١٧٩-ب/ والمعاصي والتعيير عليها.
وقوله تعالى :﴿ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾ وقوله تعالى :﴿ ما سبقكم بها من أحد ﴾ يحتمل أن يكون منهم ما كان من سائر الأقوام تقليد الآباء في العبادة لغير الله كقولهم :﴿ أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ﴾ [ الأعراف : ٧٠ ] وقولهم :﴿ وإنا على آثارهم مهتدون ﴾ [ الزخرف : ٦٦ ] وقولهم٢ ﴿ وإنا على آثارهم مهتدون ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ] وقولهم٣ ﴿ بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ﴾ [ الشعراء : ٧٤ ] ونحو ما قالوا.
فعلى ذلك من قوم لوط للوط لمّا دعاهم إلى عبادة الله ووحدانيته، فأجابهم بما أجاب الأقوام لأنبيائهم من التقليد لآبائهم، فقال :﴿ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾ أي تعملون أنتم أعمالا لا يعملها آباؤكم، ولا تقلّدون آباءكم في تركها من نحو ما ذكر من إتيان الفاحشة فقال :﴿ ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾ يعيّرهم، ويسفّه أحلامهم في إتيان ما يأتون من الفاحشة التي لم يسبقهم أحد٤ بها من العالمين على علم منهم أن ذلك فاحشة.
ألا ترى [ أنهم ]٥ قالوا :﴿ إنهم أناس يتطهرون ﴾ ؟ [ الأعراف : ٨٢ ] ذكر هذا القول على ما يأتون من الفواحش ؛ يأتون على علم منهم أنها فواحش حين٦ قالوا ﴿ إنهم أناس يتطهرون ﴾ [ الأعراف : ٨٢ ].
ثم قوله تعالى :﴿ الفاحشة ﴾ لما [ هو ]٧ في العقل والشرع [ فاحش ]٨ ؛ لأن ما حرّم من المحرمات على الخلق [ وأحل المحلّلات نعمة وفضل ]٩ منه لهم على ذلك. ثم جعل في ما أحل لهم من الأطعمة والأشربة والاستمتاع بالنساء والجواري دواما١٠ لهذا العالم ؛ لأنهم لو تركوا التناول من ذلك لهلكوا، وانقطع هذا العالم لما ينقطع نسلهم. ثم ركّب فيهم الشهوات والحاجات التي تبعثهم على التناول مما أحل لهم ليدوم هذا العالم ؛ لأنه أحل لهم الشهوة١١ خاصة، ولكن لما ذكرنا. فأخبر أن ما يأتون هم فاحشة لما ليس إتيانهم إياها١٢ ؟ إلا لنفس قضاء الشهوة ؛ إذ ليس في ذلك دوام العالم وبقاؤه. فهو في العقل فاحش محرّم، وإن لم يرد فيه النهي، والله أعلم.
١ في الأصل وم: آية..
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: وقوله..
٤ في الأصل وم: هم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: حيث..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ في الأصل: وأهل المحلات، في م: وأهل المحللات..
١٠ في الأصل وم: داوم..
١١ في الأصل وم: للشهوة..
١٢ في الأصل وم: آباءهم..
والحاجات التي تبعثهم على التناول مما أحل لهم ليدوم هذا العالم؛ لأنه ما أحل لهم للشهوة خاصة، ولكن لما ذكرنا فأخبر أن ما يأتون هم هو فاحشة؛ لما ليس إتيانهم إياها إلا لنفس قضاء الشهوة، إذ ليس في ذلك دوام العالم وبقاؤه، فهو في العقل فاحش محرم، وإنْ لم يرد فيه النهي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) الإسراف: هو الإكثار من الشيء، والمجاوزة عن الحد؛ كقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، القتر: هو التضييق، والإسراف: هو الإكثار، حيث قال:
(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، فإذا كان الإسراف هو الإكثار من الشيء، فكأن لوطا سماهم مسرفين لما أكثروا من ذلك النوع من الفواحش، وجاوزوا الحد، والله أعلم.
ويحتمل قوله: (قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وجوهًا ثلاثة:
أحدها: ما ذكرنا من إكثار الفعل.
والثاني: مسرفون؛ لما ضيعوا ما أنعم اللَّه عليهم؛ حيث أعطى لهم الأزواج فضلًا منه ونعمة، حيث أخبر: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) وكقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) ونحوه منَّ جلَّ وعلا بما جعل لهم من الأزواج، ثم هم لم يشكروه على ما أنعم عليهم، بل ضيعوها، وجعلوها في غير ما جعل هو لهم، فذلك إسراف منهم.
والثالث: الإسراف: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل لهم، فنهم قد جاوزوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢)
قوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا)
كذا كان من قومه أجوبة ليس على أنه لم يكن منهم من أول الأمر إلى آخره هذا، ولكن لم يكن من جواب قومه وقت ما نهاهم عما ارتكبوا من الفواحش وعيَّرَهم عليها إلا ما ذكر: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) لما ينهاهم ويعيرهم على ذلك، ويحتمل ما قال أهل التأويل: (يَتَطَهَّرُونَ): من أدبار الرجال.
وقيل: يتحرجون عن ذلك، ويعيبون عليهم، في ذلك.
والثاني: ما كان جواب قومه لبعضهم إلا أن قالوا أخرجوهم وأما للوط كان منهم له أجوبة؛ كقوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) كذا، وقال في آية أخرى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ)، هذا فيما بينهم وبين لوط؛ ولأول فيما بينهم قَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: (أَخْرِجُوهُمْ)، أو لاختلاف المشاهد والمجالس.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣)
الغابر: الغائب، يقال: غبرت، أي: غبت، أي: كانت من الغائبين عن لوط وأهله وقت العذاب.
وقيل: من الغابرين، أي: من الباقين في العذاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا... (٨٤)
اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قلبت قرية لوط، وجعل عاليها سافلها على ما ذكر في الآية (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)، ثم أمطر على من كان غاب منهم الحجارة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قلبت القرية فأمطرت على أهلها كالمطر.
وقال آخرون: قلبت الأرض وأمطر عليها حجارة من سجيل تسوى الأرض، أو كلام نحو هذا.
ثم العذاب في الأمم لم يأتهم في الدنيا بنفس الكفر، ولكن لما كان منهم من استحلال أشياء حرمت عليهم، ومن قتل الأنبياء، وأذاهم، والمكابرات التي كانت منهم
الآية ٨٤ وقوله تعالى :﴿ وأمطرنا عليهم مطرا ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم : قلبت قريات لوط، وجعل عاليها سافلها على ما ذكر في الآية :﴿ جعلنا عاليها سافلها ﴾ [ هود : ٨٢ والحجر : ٧٤ ] ثم أمطر على من غاب منهم الحجارة، وقال بعضهم : قلبت القريات، فأمطرت على أهلها كالمطر، وقال آخرون : قلبت الأرض، وأمطر ﴿ عليها حجارة من سجّيل ﴾ [ هود : ٨٢ والحجر : ٧٤ ] لتسوّى١ الأرض، أو كلاما٢ نحو هذا.
ثم العذاب في الأمم لم يأتهم في الدنيا بنفس الكفر، ولكن لما كان منهم من استحلال أشياء [ حرّمت عليهم من ]٣ قتل الأنبياء وأذاهم والمكابرات التي كانت٤ منهم بعد علمهم أنهم على باطل وعناد.
وقوله تعالى :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ هذا الخطاب جائز أنه ليس لرسول الله خاصة، ولكن لكل أحد أمر بالنظر في ما حل بالأمم السالفة بتكذيبهم الرسل وعنادهم ليكونوا على حذر من٥ صنيعهم لئلا يحل بهم ما حل بأولئك، وجائز أن يكون الخطاب لرسوله خاصة. فإن كان له كان٦ أمره أن ينظر في عاقبة المجرمين [ لئلا يرحمهم ]٧ ولا يدعو عليهم بالهلاك والعذاب.
١ من م، في الأصل: سوى..
٢ في الأصل وم: كلام..
٣ في الأصل وم: حرم عليهم ومن..
٤ في الأصل وم: كان..
٥ في الأصل وم: عن..
٦ في الأصل وم: فكان..
٧ في الأصل وم: ليرحمهم..
بعد علمهم أنهم على باطل وعناد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).
هذا الخطاب جائز أنه ليس لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة، ولكن لكل أحد أمر بالنظر فيما حل بالأمم السالفة؛ بتكذيبهم الرسل، وعنادهم؛ ليكونوا على حذر من صنيعهم، لئلا يحل بهم ما حل بأُولَئِكَ.
وجائز أن يكون الخطاب لرسوله خاصة، فإنْ كان له فكأنه أمره أن ينظر في عاقبة المجرمين ليرحمهم، ولا يدعو عليهم بالهلاك والعذاب.
* * *
قوله تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا).
هو ما ذكرنا فيما تقدم، أي: أرسلنا شعيبا إلى مدين رسولًا.
وقوله: (أَخَاهُمْ) قد ذكرنا فيما تقدم الأخوة وأنها تكون لوجوه: أخوة النسب، وأخوة الجوهر، وأخوة المودة والخلة، وأخوة الدِّين، فلا تحتمل أخوة الأنبياء أُولَئِكَ أخوة الدِّين والمودة، لكن تحتمل أخوة الجوهر والنسب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
491
قد ذكرنا -أيضًا- أن الرسل إنما جاءوا، وبعثوا بالدعاء إلى توحيد اللَّه، والعبادة له، وأن لا معبود يستحق العبادة سواه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كانت نفس شعيب بينة وحجة لقومه لكنا لا نعلم ذلك، غير أنا نعلم أنه كانت معه آيات وبراهين، لكن اللَّه لم يبين لنا ذلك، ونفس مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت حجة وبينة بالأعلام التي جعلت له في نفسه؛ من ذلك الختم الذي كان بين كتفيه، والنور الذي
492
كان في وجه من كان في صلبه وقت كونه فيه، والضوء الذي رُوِيَ أنه كان وقت
494
ولادته، والغمام الذي أظله وقت غيبته عن أهله، وحفظه نفسه عن جميع ما كان يتعاطاه قومه من عبادتهم الأصنام وتعاطيهم الفواحش، فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بريئًا من ذلك كله،
495
ولم يؤخذ عليه كذب قط، وقد كان نشأ بين أظهرهم، وغير ذلك من الأعلام التي كانت في نفسه ظاهرة لقومه، فلو لم يكن له آيات غيرها، لكانت واحدة منها كافية لمن لم يكابر، فكيف وقد كانت له آيات حسية وعقلية سوى ما ذكرنا تقهر المنصفين على قبولها!
ويحتمل قوله: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: حجة على أنه رسول أو على توحيد اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ) وذكر في هود في قصته: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)، وليس في قوله: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ) أنهم كانوا لا يوفون ولكن فيما ذكر في سورة هود. (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ).
ودل قوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) وإن الأشياء ملك لهم، وإن كانت في قبض أُولَئِكَ، وفي أيديهم، ثم يحتمل الأمر بإيفاء الكيل والميزان وجوهًا:
أحدها: لما كانوا أمناء؛ لئلا تذهب عنهم تلك الأمانة التي كانت لهم في قومه.
والثاني: لئلا يظلموا الناس في منع حقوقهم وأموالهم.
والثالث: للربا، كان ما منعوا منه من الكيل والوزن ربا لهم، يدل على ذلك قوله: (بِالْقِسْطِ) ذكر العدل، فلو كان يجوز تلك الزيادة والنقصان إذا طابت أنفسهم بالزيادة والنقصان، لكان لا معنى لذكر القسط فيه؛ لأن من زاد آخر على حقه لم يمنع عن ذلك، ولم يذم، دل النهي عن ذلك على أنه للربا ما منعوا عن ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).
أي: بعد أن جعلها لكم صالحة لمعاشكم ومقامكم فيها، أو بعد ما أمر وبين لكم ما به صلاحكم وصلاح دينكم، أو بعد ما أرسل من الرسل ما بهم صلاح الأرض وأهلها.
(ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).
496
قال بعض أهل التأويل: قوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، أي: وفاء الكيل والميزان خير لكم من النقصان؛ لما ينمو ذلك الباقي ويزداد، فذلك خير لكم من النقصان الذي تمنعون، فلا ينمو شيئًا، وهو كقوله: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ).
ويحتمل: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، أي: أمنكم في الآخرة خير لكم من نقصان الكيل والميزان في الدنيا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ... (٨٦)
يحتمل ما قاله أهل التأويل: إن كبراء أهل الشرك ورؤساءهم كانوا يُقعدون في الطرق أناسًا يصدون الذين يأتون شعيبًا للإيمان من الآفاق والنواحي، ويكون معنى قوله: (مَنْ آمَنَ بِهِ) على هذا التأويل، أي: من أراد أن يؤمن به.
ويحتمل قوله: (وَلَا تَقْعُدُوا) ليس على القعود نفسه، ولكن على المنع من إقامة الشرائع التي شرع اللَّه لشعيب؛ كقول إبليس: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ليس هو على القعود نفسه، ولكن على المنع؛ يمنعهم عن صراطه المستقيم، فعلى ذلك قوله: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ) كانوا يمنعون من آمن به عن إقامة الشرائع والعبادات التي دعوا إلى إقامتها، ويوعدون على ذلك
497
ويخوفونهم؛ فعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: (مَنْ آمَنَ بِهِ) على وجود الإيمان،
498
وعلى التأويل الأول يكون: من أراد أن يؤمن به، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا).
قيل: تلتمسون لها أهل الزيغ.
وقيل: تبغون هلاكًا للإسلام، وإبطالًا.
وقيل: تبغون السبيل عوجًا عن الحق، وكله واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ).
يحتمل وجهين: إذ كنتم قليلًا في العدد، فكثر عددكم زمن لوط، كأنهم إنما توالدوا من بقية آل لوط.
ويحتمل: إذ كنتم قليلًا في الأموال والسعة في الدنيا فكثركم، أي: كثر لكم الأموال ووسع عليكم الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
أمر بالنظر فيما حل بالأمم الخالية بإفسادهم في الأرض، وتكذيبهم الرسل؛ لأن من نظر في ذلك، وتفكر فيما حل بهم منعه ذلك عن الفساد في الأرض والتكذيب للرسل؛ إذ علم أن ما حل بهم إنما حل بهم لما ذكر، واللَّه أعلم.
كأنه أمر بالنظر في الأسباب التي صار بها من تقدمهم أهل فساد، ونزل بهم الهلاك لينزجروا عن مثل صنيعهم، وإلا كانوا عند أنفسهم أهل صلاح لا أهل فساد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا... (٨٧)
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان قوم شعيب قليلًا حين أدرك ذلك شعيب، وقوم آخرون معه يقول لهم ذلك شعيب عليه السلام، وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به، وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا يا معشر المؤمنين، (حَتَّى يحكمَ اللَّهُ بَيْنَنَا): يقضي عليهم بالهلاك، ولم يكن شعيب أمر بالقتال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ)، يعني المؤمنين، (آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ): من العذاب، (وَطَائِفَةٌ): يعني الكفار، (لَمْ يُؤْمِنُوا): بالعذاب، (فَاصْبِرُوا): يا معشر الكفار، (حَتَّى يحكمَ اللَّهُ بَيْنَنَا): في أمر العذاب في الدنيا، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) ويحتمل غير هذا، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ويقولون: اللَّه أمرهم بذلك في أشياء يفعلونها، ويقول هَؤُلَاءِ: إن الذي نحن عليه هو الذي أمرنا اللَّه بذلك، فيقول لهم: اصبروا حتى يحكم اللَّه بيننا بأنه بماذا أمر: بالذي عليه الكفار، أم بالذي نحن عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قد ذكرنا في غير موضع أن الملأ من قومه هم كبراؤهم ورؤساؤهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اسْتَكْبَرُوا) أي استكبروا، عن الخضوع والطاعة لمن هو دونهم عندهم؛ لأنهم كانوا يضعفون شعيبًا فيما بينهم ويزدرونه كقولهم له: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) ثم لم يروا الأمر بالخضوع لمن هو دونهم في أمر الدنيا عدلًا، وهم إنما أخذوا من إبليس اللعين وإياه قلدوا حيث قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، حين أمر بالسجود لآدم، ولم ير اللعين الأمر بالخضوع لآدم من اللَّه عدلًا، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لم يروا الخضوع لمن دونهم عندهم عدلًا؛ فاستكبروا عليه، فكفروا لذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ).
قال الحسن: لنخرجنك، أي: لنقتلنك، والذين آمنوا معك من قريتنا.
وقال غيره: لنخرجنك: الإخراج نفسه، أي: نخرجنك ومن معك من المؤمنين من قريتنا إن لم تتبع ديننا، وقد كان منهم للأنبياء المعنيين جميعًا التوعد بالقتل والإخراج
جميعًا؛ كما قال: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ)، وكقول قوم لوط للوط: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، وكقول قوم نوح: (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) وما أخبر عن قول هَؤُلَاءِ لرسولنا حيث قال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)، قد كان من القوم إلى الأنبياء والرسل - عليهم السلام - المعنيان جميعًا التوعد بالقتل والإخراج جميعًا؛ فعلى ذلك يحتمل ذلك من قوم شعيب ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وكذلك كانوا يقولون للرسل جميعًا؛ حيث قالوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا...)، هكذا كانت عادة جميع الكفرة أنهم كانوا يخوفون الرسل بالإخراج مرة وبالقتل مرة ثانية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا).
يحتمل قوله: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) لما عندهم أنه كان على دينهم الذي هم عليه لما لم يروا منه عبادته لله فيما عبده سرا، فقالوا: (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) على ما كان عندهم أنه على ذلك؛ وهو كما قالوا لصالح: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) كان عندهم أنه على دينهم قبل ذلك، فعلى ذلك يحتمل قول هَؤُلَاءِ لتعودن من العود إلى ما كان عندهم أنه على ذلك.
ويحتمل على ابتداء الدخول فيها والاختيار؛ كقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
على منع الدخول فيها؛ لا أنهم كانوا فيها، ثم أخرجهم فعلى ذلك الأول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ).
يقول: لنعودن في ملتكم، وإن كنا كارهين، أي: قد تأبى عقولنا، وتكره طباعنا من الدخول في ملتكم فكيف نعود فيها؟ (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا... (٨٩)
يحتمل قوله: (إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ) وجوهًا ثلاثة:
501
أحدها: أن ذلك منه إخبار عن قومه لا عن نفسه، أي: افتروا على اللَّه كذبًا إن عادوا في ملتكم بعد إذ نجاهم اللَّه منها، وما يجوز لهم أن يعودوا فيها، وأما هو فإنما أجابهم عن نفسه بما ذكر في سورة هود: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ). أجاب هو قومه كما أجاب غيره من الرسل قومهم حين أوعدوهم بالقتل والعقوبة، كما قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ "، وكما قال هود: (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)، ونحو ذلك من الجوابات التي كانت من الأنبياء - عليهم السلام - لأقوامهم.
ويحتمل أن يكون على الابتداء من غير أن كان فيها؛ كقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) رفعها ابتداء من غير أن كانت موضوعة، وكقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، إخراج ابتداء لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم.
ويحتمل ما ذكرنا أنه أجابهم على ما عندهم أنه كان على دينهم، فأجاب لهم على ما عندهم أنه على ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا) أي: ما يجوز لنا أن نعود فيها، وقول شعيب: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ) تعريض تسفيه منه إياهم أنكم قد افتريتم على اللَّه كذبًا لا تصريح؛ حيث لم يقل: قد افتريتم أنتم على اللَّه كذبًا، قال: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ)، وذلك منه تلطف بهم وترقق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا).
اختلف في تأويله:
قال الحسن: من حكم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن من قبل دينه وأطاع رسوله أن يكون وليًّا له، وسمى مؤمنًا، ومن رد دينه وعصى رسوله يتخذه عدوًّا له، ويكون كافرًا.
وقال أبو بكر الكيساني: قوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا): أن يتعبدنا، ويمتحننا ببعض ما كانوا يتقربون به.
ويشرع لهم ما يحل ويسع، لم يرد به الدِّين الذي هم عليه، لكن هذا لا يحتمل؛ لأن سؤالهم كان العود إلى ملتهم، فعلى ذلك خرج الثنيا.
وقال أبو جعفر بن حرب: قوله: (إِلَّا أَن يشَآءَ اللَّهُ): إلا أن يأمرنا اللَّه بما يؤيسهم
502
بذلك على الإياس، وقطع الرجاء، أي: لا يشاء اللَّه ألبتَّة ذلك؛ كما يقال: كان كذا إن صعدت السماء، وكقوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) فعلت كذا، مما يعلم أنه لا يكون؛ فعلى ذلك هذا كله بعيد محال.
أما قول الحسن: إن من حكم اللَّه أنه من رد دينه وعصى رسوله، أنه يكون من الكافرين، ومن قبل دينه وأطاع رسوله، يكون من المؤمنين، فليس فيه سوى أنه يقول: إنه يعلم من كفر به ومن آمن به، فلا معنى للاستثناء لو كان التأويل ما ذكر.
وأما قول أبي بكر: إنه يتعبدهم ويمتحنهم بما يتقربون في دينهم وملتهم مما يجوز أن يأذن في ذلك، فذلك لا يحتمل؛ لأنه ذكر الملة التي كانوا هم عليها، فإليها ترجع الثنيا لا يجوز أن تصرف الثنيا، إلى غيرها.
503
وأما قول من يقول بالإياس وقطع الطمع عن ذلك: فذلك -أيضًا- بعيد؛ لأن الإياس إنما يكون فيما يعلم أنه لا يكون ألبتَّة من نحو ما ذكر من قوله: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، ونحوه، وأمَّا مثل هذا فإنهم لا يفهمون منه الإياس وقطع الرجاء، بل كانوا يأتون بالفواحش، ويقولون: اللَّه أمرهم بذلك، فأنَّي يقع لهم الإياس بذلك؟!
وأمَّا عندنا فإنه على حقيقة المشيئة، وذلك أن مَن علم اللَّه منه أنه يختار الكفر، ويؤثر ذلك على فعل الإيمان والطاعة - يشاء ذلك له على ما علم أنه يختار، ومن علم منه أنه لا يختار ذلك لا يشاء؛ إذ لا يجوز أن يعلم منه غير الذي يكون أو أن يشاء غير الذي علم أنه يكون منه؛ لأنه جهل وعجز.
وأصله: أن شعيبًا خاف أن تسبق منه زلة ويصير منه الاختيار لذلك فيشاء الله بذلك الزيغ والضلال، وكذلك جميع الأنبياء خافوا ذلك؛ كقول إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، وقول يوسف حيث قال: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)، كان خوف الأنبياء - عليهم السلام - أكثر من خوف غيرهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا).
معناه - واللَّه أعلم - أنه لا نعلم إلى ماذا تصير عاقبة أمرنا، وعلم اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا).
قيل: على اللَّه اعتمدنا فيما تخوفُنَّنا من الإخراج، وإليه نلجأ في سلطانه وملكه، وبه نثق في وعده بما يعدنا من النصر والظفر على الأعداء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
504
قيل: قوله: (افْتَحْ)، أي: احكم بيننا وبين دومنا بالحق.
روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما كنت أعلم ما معنى الفتح في الآية حتى تزوجت امرأة من بني كذا، فوقعت بيننا مخاصمة، فقالت لي: تعال حتى أفاتحك إلى فلان، فعند ذلك عرفوا أن المفاتحة هي المحاكمة.
وقوله: (بِالْحَقِّ) قيل: هو العذاب الذي كان وعد لهم أن ينزل عليهم بتكذيبهم شعيبًا وبأذاهم إياه.
ثم ليس، للمعتزلة أدنى تعلق بقوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، يقولون: هو الدعاء والسؤال، وإن كان لا يحكم إلا بالحق، فعلى ذلك يقولون في قوله: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، ونحوه وكذلك يقولون في قوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) لكن عندنا يخرج قوله: (احْكُمْ بِالْحَقِّ) و: (افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) على وجوه:
أحدها: يقول: ربنا افتح بيننا بحكمك وهو الحق.
والثاني: يقول: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ في حادث الوقت كما حكمت في الوقت الماضي، وهو كقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو النبوة والهداية.
والثالث: على استعجال العذاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ... (٩٠)
قد ذكرنا أن الملأ هم كبراؤهم وسادتهم، يقولون للأتباع والسفلة: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ).
قال أبو بكر: لجاهلون،
ثم يحتمل قوله: (إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) وجوهًا:
أحدها: أن شعيبًا كان يحذر قومه بالتطفيف في الكيل والوزن، ويأمرهم بوفاء حقوق الناس، بقوله: فأوفوا الكيل ولا تكونوا كذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، فيقول الكبراء والرؤساء للسفلة: لئن اتبعتم شعيبًا في دينه وما يأمركم به من وفاء الحق للناس، فإنكم إذًا لخاسرون للأرباح.
والثاني: أنه كان يحذرهم ويمنعهم عن عبادة الأصنام والأوثان، ويدعوهم إلى عبادة اللَّه، ويرغبهم في ذلك، وهم كانوا يعبدون تلك الأصنام لتقربهم عبادتهم إياها إلى اللَّه زلفى، وتكون لهم شفعاء في الآخرة، فقالوا: لئن اتبعتم شعيبًا فيما يدعوكم إليه وينهاكم عنه، لكنتم من الخاسرين، لا شفعاء لكم في الآخرة.
والثالث: أنهم كانوا يوعدون شعيبًا بالإخراج بقولهم: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ) فقالوا: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا) وهو يخرج لا محالة فتخرجون أنتم فصرتم من الخاسرين، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ... (٩١)
قيل: الصيحة.
وقيل: الزلزلة.
قيل: أصابهم حر شديد، فرفعت لهم سحابة، فخرجوا إليها يطلبون الروح تحتها فلما كانوا تحتها، سال عليهم العذاب، ورجفت بهم الأرض، فهلكوا، وهو ما ذكر في آية أخرى عذاب يوم الظلة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ).
قد ذكرنا قوله: (جَاثِمِينَ) فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢)
الآية ٩٢ وقوله تعالى :﴿ الذين كذّبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذّبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾ هو، والله أعلم.
مقابل قولهم ﴿ لئن اتّبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾ وجواب لهم : يقول :﴿ الذين كذّبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾ لا الذين اتّبعوه١.
وقوله تعالى :﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ قيل : كأن لم يعيشوا فيها، ولم ينعموا قط، وقيل : كأن لم يقيموا فيها.
قال القتبيّ : يقال : غنينا بمكان كذا وكذا، أي أقمنا، ويقال للمنازل مغان ؛ واحدها : مغنى، ويقال :﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ أي كأن لم يكونوا فيها قط.
وهو، والله أعلم، لما كانوا يستقلون نعم الله عليهم، ويستحقرونها، حتى ﴿ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ﴾ [ الكهف : ١٩ والمؤمنون : ١١٣ ] وقال٢ تعالى :﴿ كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ﴾ [ يونس : ٤٥ ] ونحوه. وكله إخبار عن قطع آثارهم أنه لم يبق منهم أحد، يحزن عليهم، أو يبكي عليهم، حتى قال شعيب ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ [ الأعراف : ٩٣ ].
وجائز أن يكون قول شعيب حين٣ قال :﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ حين علم أنهم يهلكون، وينزل بهم العذاب أي لا أحزن عليهم لما٤ ذكر.
وقال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ؛ قال ذلك في الوقت الذي قال :﴿ ولا تقعدوا بكل صراط ﴾ [ الأعراف : ٨٦ ] يقول : كيف أحزن على قوم، وعملهم ما ذكر ؟
١ في الأصل وم: اتبعوا..
٢ في الأصل وم: وقوله..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ في الأصل وم: ما..
الآية ٩٣ وقوله تعالى :﴿ فتولّى عنهم ﴾ حين رآهم هلكى، فقال :﴿ فكيف آسى على قوم ﴾ أي كيف أحزن على قوم، قد كذّبوني، واختاروا عداوتي، وصاروا عليّ أعداء ؟ فكيف أحزن عليهم بالهلاك، وهم أعدائي.
وقوله تعالى :﴿ وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ﴾ قد ذكرنا١.
١ كان ذلك في تفسير الآيتين ٧٨ و٧٩..
هو - واللَّه أعلم - مقابل قولهم: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) وجواب لهم يقول: الذين كذبوا شعيبًا هم الخاسرون لا الذين اتبعوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).
قيل: كأن لم يعيشوا فيها، ولم ينعموا قط.
وقيل: كأن لم يقيموا فيها.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: يقال: غنينا بمكان كذا وكذا، أي: أقمنا، ويقال للمنازل: مغان، واحدها: مغنى، ويقال: كأن لم يغنوا فيها، أي: كأن لم يكونوا فيها قط.
وهو - واللَّه أعلم - لما كانوا يستقلون نعم اللَّه عليهم، ويستحقرونها، حتى قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، وقوله: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ)، ونحوه، وكله إخبار عن قطع آثارهم أنه لم يبق منهم أحد يحزن عليهم أو يبكي عليهم، حتى قال شعيب: (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ).
وجائز أن يكون قول شعيب حيث قال: (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) حين علم أنهم يهلكون، وينزل بهم العذاب، أي: لا أحزن عليهم على ما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير، قال ذلك في الوقت الذي قال: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ) ويقول: كيف أحزن على قوم وعملهم ما ذكر.
وقوله: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ).
حين رآهم هلكى، فقال: فكيف آسى على قوم، أي: كيف أحزن على قوم قد كذبوني، واختاروا عداوتي، وصاروا علي أعداء، فكيف أحزن عليهم بالهلاك، وهم أعدائي.
وقوله: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ). قد ذكرنا هذا.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ).
507
في الآية إضمار - واللَّه أعلم - من وجهين:
أحدهما: قوله: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها المكذبين له بالبأساء، وما ذكر، وإلا لا يحتمل أن يرسل إليهم رسولًا ثم يأخذهم بما ذكر من غير أن كان منهم رد وتكذيب له.
والثاني: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ) أهلكناها (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا) وقبل الهلاك (بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ثم لم يأخذ اللَّه قومًا بالهلاك قبل أن يبعث رسولًا إليهم، وقبل: أن يغتروا هم ما أنعم عليهم بأنفسهم؛ كقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا....) الآية؛ وقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقال: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)، وغير ذلك من الآيات، أخبر أنه لا يأخذهم بالعذاب والهلاك إلا بعد قطع العذر لهم من جميع الوجوه، وإن كان له الإهلاك قبل أن يبعث إليهم الرسول لما ركب فيهم من العقول السليمة مما بها يوصل إلى فهم كل ما جعل فيهم من آثار وحدانيته وآيات ربوبيته، وما جعل لهم من السمع والنطق ما به يوصل إلى سمع كل ما غاب والنطق بكل ما يريدون، ما لم يجعل ذلك لغيرهم من البهائم، وما أنعم عليهم من تصوير الصور ما لم يتمن أحد تحويله منها إلى غيرها من الصور، لكنه لا يهلكهم إلا بعد بعث الرسل إليهم لما أن الخلق على مراتب؛ منهم من يفهم بالعقل لا يحتاج إلى معونة السمع، وهم الحكماء والعلماء الذين يدركون الأشياء بالبديهة، ومنهم من لا يدرك إلا بمعونة السمع وهم كالصبيان، إنهم لا يدركون إلا بالسمع وفضل التنبيه، ومنهم من لا يدرك بالعقل ذلك ولا بالسمع حتى تصيبهم الشدائد والعبر في أنفسهم وفيما أنعم عليهم، وهم كالبهائم الذين لا عقل لهم ولا سمع، ولكن يعرفون الشدائد وما يصيبهم من البلاء، فعلى ذلك يمتحنهم عَزَّ وَجَلَّ، ويبتليهم بالشدائد والبلايا أولًا، فإن رجعوا عن ذلك وعرفوا نعمه، وإلا أهلكهم بعد ذلك فعند ذلك ينتهون ويتذكرون، وذلك قوله، (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
508
وقوله: (بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) قد ذكرناه في صدر الكتاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
أي: لكي يكون عليهم التضرع، أو لكي يلزمهم التضرع والتذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ... (٩٥)
وهو ما ذكر أهل التأويل السعة والرخاء بعد الشدة والقحط، وما حل بهم من البلايا (حَتَّى عَفَوْا).
قيل: جمعوا وأكثروا، أي: كشف عنهم ذلك حتى كثروا فعند ذلك أهلكهم بغتة؛ لأن الهلاك في حال الشدة والبلاء لا يكون أخذا ببغتة؛ لأن كل من حل به بلاء وشدة يخاف فيه الهلاك فإذا أهلك في تلك الحال لم يكن أخذًا بالهلاك بغتة.
ألا ترى أنه سمى الموت الذي يموت به المؤمن من غير مرض حل به بغتة، والذي يموت بمرض يتقدم الموت لا، وأن الموت في الوجهين جميعًا لا يعلم بحلوله، لكنه إذا لم يتقدمه مرض فهو لا يخاف منه، وإذا كان به مرض خاف منه فلم يكن فجأة، فعلى ذلك إذا أخذوا في حال الشدة لم يكن أخذًا بالبغتة لما يخافون فيه الهلاك، وإذا كانوا في سعة ورخاء لا يخافون فيؤخذون في تلك الحال، فذلك أخذ ببغتة.
وقال: (حَتَّى عَفَوْا)،
قيل: كان أهلك بعضهم وترك بعضًا حتى عفوا، أي: كثروا من ذلك البعض، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا من البأساء والضراء والشدائد والقحط، ثم كشف ذلك عنهم فكثروا، ثم أهلكهم، واللَّه أعلم.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ).
قالوا: إن آباءنا قد كان ينزل ذلك بهم وتصيبهم مرة شدة ومرة نعمة ولم يكن ذلك بعقوبة لهم، فعلى ذلك ما يصيبنا من الشدائد والبلايا ليس ذلك بعقوبة لنا، ولكن دوران الدهر وتصرفه على الشدّة والبلاء مرة، ومرة على الخصب والسعة، ثم أخبر أنه أخذهم بغتة بعد قولهم: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ).
* * *
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا).
قيل: آمنوا واتقوا قبل أن يهلكوا بعد ما أصابهم من الشدائد والبلايا؛
(لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ....) الآية.
أي: لأعطوا كل خير ينال من السماء والأرض، والبركة ما ينال من كل خير على غير - مؤنة وقيل: البركة: كل شيء ينال بلا تبعة عليه ولا شدة - ذكر هاهنا أنه يفتح عليهم بركات من السماء والأرض لو آمنوا واتقوا، وذكر إذا لم يؤمنوا ونسوا ما ذكروا به أنه يفتح عليهم أبواب كل شيء، ولم يذكر البركة، ففيما لم يذكر البركة ينقصهم ما فتح عليهم من كل شيء ويسوؤهم وفيما ذكر فيه البركة بعد الإيمان لا يلحقهم من ذلك تبعة ولا غرم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يحتمل قوله: ولكن كذبوا النعم التي أنعمها عليهم، أي: الرسل، فأخذناهم بما كانوا يكسبون من التكذيب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧)
خرج هذا في الظاهر مخرج الاستفهام، ولكن في الحقيقة على الإيجاب؛ كقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ)...)، الآية، هذا في الظاهر وإن خرج مخرج الشك والارتياب، فهو في الحقيقة على الإيجاب؛ كأنه قال: في قلوبهم مرض وارتابوا وخافوا أن يحيف اللَّه عليهم، فعلى ذلك قوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى)، على الإيجاب، كأنه قال: قد أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا، (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى) الآية.
ثم اختلف في قوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) إلى آخر ما ذكر: قال الحسن: هذه الآيات في الأمم السالفة، أخبر عن أمنهم بنزول بأس اللَّه وعذابه بهم، لكن ذكر في هذه الأمة ليكونوا على حذر عن مثل صنيعهم.
وقال الآخرون: هذه الآيات في قرى هذه الأمة لا في الأمم السالفة، يقول: أمن هَؤُلَاءِ بأسنا كما أمن أُولَئِكَ منه فإنهم إذا صنعوا مثل صنيعهم ينزل بهم في الآخرة من العذاب مثل ما أنزل بأُولَئِكَ في الدنيا من العذاب.
وقوله: (بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ) و (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
أخبر أن العذاب إنما نزل بهم في حال الأمن وهو وقت النوم واللعب؛ لأنه هو وقت الغفلة والسهو، وآمن ما يكون الإنسان إنما يكون في حال النوم، وإنما نزل بهم في وقت الغفلة والسهو، يذكر بهذا - واللَّه أعلم - أهل مكة وغيرهم من الكفرة بتكذيبهم رسول اللَّه؛ لئلا يكونوا آمنين عن بأس أبدًا في وقت من الأوقات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)
المكر في الشاهد: هو أن يراقب من عدوه حال غفلة لينتقم منه وينتصر، فإذا كان ما ذكرنا فسمى ما ينزل بهم من العذاب في حال الغفلة مكرًا، وعلى ذلك الامتحان فيما بين الخلق: هو استظهار ما خفي على بعضهم من بعض، فيأمرون بذلك وينهون، فسمى اللَّه - تعالى - ذلك امتحانا لمعنى الأمر والنهي، وإن لمحانت الخفيات عن الخلق ظاهرة له بادية عنده.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
فالآية على المعتزلة؛ لأنهم يأمنون مكر اللَّه في الصغائر حيث قالوا: الصغائر
الآية ٩٨ وقوله تعالى :﴿ بأسنا بياتا وهم نائمون ﴾ [ وقوله تعالى ]١ ﴿ ضحى وهم يلعبون ﴾ أخبر أن العذاب إنما نزل بهم في حال الأمن، وهو وقت النوم واللعب ؛ لأنه هو وقت الغفلة والسّهو، وآمن ما يكون الإنسان إنما يكون في حال النوم. وإنما نزل بهم في وقت الغفلة والسهو ؛ يذكّر بهذا، والله أعلم، أهل مكة وغيرهم من الكفرة بتكذيبهم رسول الله لئلا يكونوا آمنين عن بأس أبدا في وقت من الأوقات، والله اعلم.
١ في الأصل وم: و..
الآية ٩٩ وقوله تعالى :﴿ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ المكر في الشاهد هو أن يراقب من عدوّه حال غفلة لينتقم منه، وينتصر١. فإذا كان ما ذكرنا، سمّى ما ينزل بهم من العذاب في حال الغفلة مكرا٢، وعلى ذلك الامتحان في ما بين الخلق هو استظهار ما خفي على بعضهم من بعض، فيأمرون بذلك، وينهون، فسمّى الله تعالى ذلك امتحانا لمعنى الأمر والنهي، وإن كانت الخفيّات عن الخلق ظاهرة بادية عنده.
وقوله تعالى :﴿ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ الآية على المعتزلة لأنهم يأمنون٣ مكر الله في الصغائر، [ ويقولون : الصغائر ]٤ مغفورة، ليس له أن يعذّبهم عليها ؛ [ فهم آمنون ]٥ عن مكره، وييأسون من رحمته. لقولهم في الكبائر ليس٦ له أن يعفو عنهم. وقد أخبر ﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ [ يوسف : ٨٧ ] وهم قد أيسوا من رحمة الله في الكبائر، وأمنوا مكره في الصغائر. فهاتان الآيتان على المعتزلة.
وقوله تعالى :﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾ هو٧ جزاء مكرهم ؛ سمّى جزاء المكر مكرا [ كما ]٨ سمّى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء ولا سيئة، فعلى ذلك تسمية جزاء المكر مكرا، وإن لم يكن الثاني مكرا، والله أعلم.
ألا ترى أنه لم يجز أن يسمّى مكارا، ولو كان على حقيقة المكر يسمى بذلك ؟ دل أنه جزاء. وجائز أن يكون المراد من مكره جزاء مكرهم، [ ولذلك ]٩ سمّى الجزاء باسم المكر لأنه جزاؤه كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] والثانية ليست بسيئة.
١ من م، في الأصل: وينتظر..
٢ في الأصل وم: مكروا..
٣ في الأصل وم: يأمنوا..
٤ ساقطة من الأصل وم...
٥ في الأصل وم: فهو آمن.
٦ أدرج قبلها في الأصل وم: أن..
٧ في الأصل: و، في م: أو..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ ساقطة من الأصل وم..
مغفورة، ليس له أن يعذبهم عليها، فهو أمن من مكره، وييأسون من رحمته لقولهم في الكبائر: إنه ليس له أن يعفو عنهم، وقد أخبر (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وهم قد أيسوا من رحمة اللَّه في الكبائر، وأمنوا مكره في الصغائر، فهاتان الآيتان على المعتزلة.
وقوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ) أي: جزاء مكرهم سمي جزاء المكر مكرًا، كما سمى جزاء السيئة سيئة، وجزاء الاعتداء اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء، ولا سيئة، فعلى ذلك تسمية جزاء المكر مكرًا، وإن لم يكن الثاني مكرًا، واللَّه أعلم.
ألا ترى أنه لم يجز أن يسمى مكارًا ولو كان على حقيقة المكر لسمي بذلك؛ فدل أنه جزاء، وجائز أن يكون المراد من مكره جزاء مكرهم سمّي الجزاء باسم المكر؛ لأنه جزاؤه؛ كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، والثانية ليست بسيئة.
* * *
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا).
على تأويل من يجعل الآية في الأمم السالفة، يقول: أو لم يوفقوا ولم يهدوا للصواب بهلاك أمة بعد أمة، وقوم بعد قوم، وعلى تأويل من يقول بأن الآية في هذه الأمة، يقول: ألم يبن لهَؤُلَاءِ الذين ورثوا الأرض من بعد هلاك أهلها أن لو نشاء أصبناهم بعذاب بذنوبهم، كما أصاب أُولَئِكَ العذاب بذنوبهم.
وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا)، أي: من بعد هلاك أهلها.
وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ) على إسقاط الواو والألف، أي: لم يهد للذين يرثون الأرض،
512
ثم يحتمل قوله: لم يهد لهم أولم يتفكروا بما أهلك الأولين وما حل بهم بتكذيبهم الرسل أنهم كانوا إذا تركوا التفكر والنظر فيهم وما نزل بهم لم يهد لهم.
والثاني: قد هداهم لكن نفى ذلك عنهم لما لم ينتفعوا به، وهو ما نفي عنهم من السمع والبصر والعقل لما لم ينتفعوا به.
ويحتمل على غير إسقاط وكأنه قال: أو لم يهد للذين يرثون الأرض، أو لم يهدهم الرسول قدرة اللَّه في إهلاك الأمم الخالية، فعلى ذلك، هو قادر على إهلاك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها يحتمل هذه الوجوه التي ذكرنا. واللَّه أعلم.
أو يقول: أو لم يهد لهم وراثة الأرض من بعد هلاك أهلها أنهم بما أهلكوا حتى يرتدعوا ويمتنعوا عن مثله.
وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) يخرج على وجهين:
أحدهما: قد هداهم وبين لهم أن من تقدمهم، إنما هلكوا بما أصابوا من ذنوبهم من التكذيب والعناد، لكن لم يهتدوا لعنادهم.
والثاني: لم يهدهم لما لم يتفكروا فيها، ولم ينظروا، على التلاوة قرئت بإسقاط الواو.
وقوله: (أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ).
فإن كانت في الأمم السالفة، فقوله: أن لو نشاء أصبنا قومًا بعد قوم بذنوبهم.
وإن كانت في المتأخرين فيكون قوله: أن لو نشاء أصبنا هَؤُلَاءِ بذنوبهم على ما أصاب أُولَئِكَ بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون، والطبع يحتمل الختم، أي ونختم على قلوبهم، ويحتمل الطبع ظلمة الكفر، أي: ستر قلوبهم بظلمة الكفر؛ كقولهم: وكل شيء ستر شيئًا وتغشاه فهو طبع.
(فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) يحتمل وجهين:
يحتمل لا يسمعون لما لاينتفعون به.
ويحتمل: لا يسمعون، أي: لا يجيبون؛ كقوله: سمع اللَّه لمن حمده، قيل:
513
أجاب اللَّه لمن حمده، أي: دعاءه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا... (١٠١)
قوله: (تِلْكَ الْقُرَى) أي: قصصنا عليك: بما قص عليه من الأنبياء، يخبر رسوله أن القرى التي كانت من قبل قد سألوا رسلهم الآيات، فجاءوا بها، ولم يصدقوها، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ، إنك لو أتيت ما سألوك من الآيات لم يؤمنوا بها، ولم يصدقوها، يخبره عن تعنتهم ومكابرتهم وعنادهم.
والثاني: يذكر أن الآيات ليس يجب أن يأتوا بها من الجهة التي يريدون، إنما يجب أن يأتوا بما هو حجّة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يحتمل وجوهًا:
يحتمل الأنباء التي أنبأت الرسل أقوامهم من نزول العذاب بهم بالتكذيب والكفر بها.
ويحتمل البينات التي تدل على صدق الرسل بما يقولون ويخبرون بعد ما سألوهم الآيات، لكن ردوها رد عناد ومكابرة بعدما عرفوا أنها حق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ).
أي: ما كانوا ليؤمنوا لما رأوا بأسنا بما كذبوا من قبل، أي: لا ينفعهم إيمانهم عند رؤيتهم بأس اللَّه؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).
ويحتمل: ما كانوا ليؤمنوا بسؤالهم الآيات إذا أتاهم الآيات بما كذبوا من قبل؛ لأن تركهم الإيمان وتكذيبهم الرسل ليس لما لم يكن لهم الآيات، ولكن للتعنت، فأخبر أنهم وإن سألوا الآيات فإنهم لا يؤمنون.
والثالث: ما كانوا ليؤمنوا بما يخبرهم الرسول من إتيان العذاب بهم بما كذبوا من قبل من الأنباء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ... (١٠٢)
يحتمل العهد المذكور وجوهًا ثلاثة:
أحدها: عهد الخلقة؛ لما في خلقة كل أحد من الشهادة بالوحدانية له والألوهية، فلم يوفوا بتلك العهود بل نقضوها.
الآية ١٠٢ وقوله تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ يحتمل العهد المذكور وجوها ثلاثة :
أحدها : عهد الخلقة لما في خلقة كل أحد الشهادة بالوحدانية له والألوهية، فلم يوفوا بتلك العهود، بل نقضوها.
والثاني : العهد الذي أخذ الله عليهم على ألسن الرسل كقوله تعالى :﴿ وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي ﴾ الآية [ المائدة : ١٢ ] فلم يوفوا بذلك.
والثالث : ما أعطوا هم من أنفسهم من العهد كقول فرعون لموسى :﴿ يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون ﴾ [ الزخرف : ٤٩ ] فلم يوفوا بما أعطوا هم من العهود.
وقوله تعالى :﴿ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وقد وجدنا أكثرهم فاسقين بنقض العهد، والله أعلم.
والثاني: العهد الذي أخذ اللَّه عليهم على ألسن الرسل؛ كقوله: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي.....) الآية، فلم يوفوا بذلك.
والثالث: ما أعطوا هم من أنفسهم من العهد؛ كقول فرعون لموسى: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)، فلم يوفوا بما أعطوا هم من العهود.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ).
أي: وقد وجدنا أكثرهم فاسقين بنقض العهد، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى).
يحتمل قوله: ثم بعثنا من بعد هلاك قرون كثيرة موسى رسولًا بآياتنا إلى فرعون وملئه، يحتمل قوله: (بِآيَاتِنَا)، حججنا، ثم يحتمل حجج وحدانية اللَّه وألوهيته، ويحتمل آيات رسالته ونبوته، وعلى قول الحسن: بآياتنا: ديننا، وعلى ذلك يتناول جميع الآيات التي ذكرت في القرآن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ).
إن موسى كان مبعوثًا إليهم جميعًا إلى فرعون والملأ والأتباع جميعًا، لا أنه كان مبعوثًا إلى فرعون وملئه خاصة دون الأتباع، وكذلك ذكر في مكان آخر إلى فرعون خاصّة، وهو بعث إليهم جميعًا، لكن يخرج تخصيص ذكر هَؤُلَاءِ القادة - واللَّه أعلم - لما أن
الذي ينازع الأنبياء والرسل هم الكبراء والرؤساء دون الأتباع والسفلة، والأتباع هم الذين يصدرون لآراء الكبراء، ويتبعونهم فيما يدعونهم إليه، وعلى ذلك سموا الكبراء والرؤساء أضداد الرسل، وإلا كان موسى مبعوثًا إليهم جميعًا؛ الوضيع منهم والرفيع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَظَلَمُوا بِهَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَظَلَمُوا بِهَا) أي: ظلموا بالآيات والحجج التي أتى بها موسى إلى فرعون وقومه، سمي ظلمًا؛ لأنهم سموا تلك الآيات سحرًا بعد ما عرفوا أنها منزلة من اللَّه، فوضعوها غير موضعها، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه.
وقال قائلون: قوله: (فَظَلَمُوا بِهَا) أي: ظلموا نعم اللَّه التي أنعمها عليهم حيث عبدوا غيره، فصرفوا شكر تلك النعم إلى غير الذي أنعمها عليهم، فذلك ظلم، شكروا من لم ينعم عليهم وصرفوا عمن أنعم عليهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل: ظلموا الأتباع بتلك الآيات حيث منعوهم عن اتباع الرسول واستتبعوهم.
أو يقول: ظلموا بها أنفسهم حيث تركوا اتباعها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
هذا الخطاب في الظاهر لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان المراد بالخطاب غيره، أمر كلًّا بالنظر في عاقبة المفسدين لما حل بهم بفسادهم؛ لأن من نظر في عاقبة ما حل بغيره بمعصية أو فساد يمتنع عن مثله، وأمكن أن يكون الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لوجهين:
أحدهما: لما له بما حل بهم بعض التسلي لأذاهم إياه؛ لأن من توسم حلول الهلاك على عدوه في العاقبة صبر على أذاه، ويكون له بعض التسلي في ذلك والثاني يذكرهم وينبئهم بما يحل بهم في العاقبة؛ ليمتنعوا عما ارتكبوا من المعاصي؛ لأن ذلك أزجر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤)
فَإِنْ قِيلَ: كيف قال إني رسول اللَّه وذلك يخرج في الظاهر مخرج الامتداح والتزكية، وقد نهينا عن ذلك؛ لأنه أخبر أنه بمحل الذي توضع الرسالة فيه، وأنه
أهلٌ لها؟ قيل: ليس فيه امتداح نفسه ولا تزكية له؛ لأنه إنما يذكر منة اللَّه تعالى أنه جعله بحيث توضع فيه الرسالة، وجعله أهلًا لها والتزكية والامتداح إنما يقع فيما هو فعله حقيقة لا فعل اللَّه، أو إن كان تزكية وامتداحًا فهو أمر بذلك، فجاز ذلك بالأمر.
أو أراد بذلك تعريفه؛ لما كان من عادة الملوك أنهم إذا بعث بعضهم إلى بعض رسولًا فإنهم لا يستقبلون الرسل بالمكروه والشر، بل يعظمون الرسل ويكرمونهم، وإن كان بينهم معاداة، فذكر أنه رسول من ربِّ العالمين؛ لئلا يستقبل بالمكروه.
وقوله: (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قيل: العالم: هو جوهر الكل، وهو قول الفلاسفة.
وقال أبو بكر الأصم: رب العالمين، أي: مليك الخلائق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ... (١٠٥)
قال أهل التأويل: إن موسى لما قال لفرعون إني رسول من رب العالمين فقال له كذبت فعند ذلك قال له موسى (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، وأمكن أن يكون ذلك منه على غير تكذيب القول من فرعون ولكنه قال ذلك؛ لما أنه حقيق على كل أحد أكرمه اللَّه بالرسالة واختاره لها ألا يقول على اللَّه إلا الحق، أو أن يقول: إني رسول من ربّ العالمين حقيق على بعد ما أكرمني بالرسالة أن لا أقول على اللَّه إلا الحق.
وقوله: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ): قد ذكرنا ألا يصح الابتداء بهذا إلا بعد أن يسبق من فرعون كلام خرج ذلك الكلام من موسى جوابًا لما كان منه، وهو ما قال أهل التأويل: أنه قال له: لما قال: إني رسول من رب العالمين إليك -: كذبت؛ لم يرسلك إلينا، وكلامًا نحو هذا؛ فعند ذلك قال: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي ما كان ينبغي لي أن أقول على اللَّه الكذب وهو كما، قال عيسى: (سُبْحَانَكَ مَا
517
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)، لما قال له: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كان ذلك القول من عيسى بعد ما ادعى قومه على عيسى أنه قال لهم ذلك، وكذلك قول الملائكة: (قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، بعد ما قال لهم: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)، فعند ذلك قالوا: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، خرج ذلك القول منهم جواب ما تقدم، فعلى ذلك قول موسى: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، خرج على تقدم قول كان منهم، والله أعلم.
ومن قرأ: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) فتأويله: محقوق: عليَّ ألا أقول على اللَّه إلا الحق، ومن قرأ بتشديد (عَلَيَّ) فتأويله: حق عَلَيَّ ألا أقول على اللَّه إلا الحق.
518
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
يحتمل: (بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ما يبيّن وحدانية اللَّه تعالى وألوهيته.
ويحتمل: ببينة الرسالة ما يبين أني رسول رب العالمين، غير كاذب عليه ولا مفتر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: لا تستعبدهم؛ فإنهم ليسوا بعبيد، لم يرد إرسالهم معه، ولكن طلب استنقاذهم من العبودة " كقوله: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)
دل قول فرعون: (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) أن موسى أراد بقوله: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ....): الآية.
ودل قوله: (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنه لعنه اللَّه، قد كان عرف أنه ليس بإله، وعرف عبودة نفسه حيث طلب منه الآية على صدق ما ادعى من الرسالة، ولو كان عنده أنه إله، لكان قال لموسى: أنا الإله فمتى أرسلتك، ولم يطلب منه الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧)
قال أَبُو عَوْسَجَةَ الثعبان: الحيَّة: قال: كل حيّة تسمى ثعبانًا، والثعابين جماعة.
الآية ١٠٧ وقوله تعالى :﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾ قال أبو عوسجة : الثعبان الحية، قال : كل حية تسمّى ثعبانا، أو الثعابين جماعة. وعن ابن عباس رضي الله عنه، [ أنه ]١ قال : الثعبان هي الحية الذكر.
وقوله تعالى :﴿ مبين ﴾ أي مبين أنها حية، وهو كما ذكرنا ﴿ فإذا هي حية تسعى ﴾ [ طه : ٢٠ ] لا يشك أحد أنها ليست بحية. ويحتمل﴿ مبين ﴾ أي مبين أن ذلك التغيير والتحويل لا يكون إلا من الله.
١ ساقطة من الأصل وم..
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الثعبان هي الحية الذكر.
وقوله: (مُبِينٌ) أي: مبين أنها حية، وهو كما ذكر: (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى).
(مُبِينٌ): لا يشك أحد أنها ليست بحية، ويحتمل (مُبِينٌ) أي: مبين أن ذلك التغيير والتحويل لا يكون إلا من اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)
ذكر نزع يده ولم يذكر من ماذا، فهو ما ذكر في آية أخرى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي: من غير أذى ولا آفة، وقال أهل التأويل: من غير برص، ولكن عندنا: من غير سوء من غير أن تستقبح أو تستقذر؛ لأن خروج الشيء عن خلقته وجوهره مما يستقذر، فأخبر أنه لم يكن كذلك.
فَإِنْ قِيلَ لنا: ما الحكمة في إدخال يده جيبه على ما هي عليه وإخراجه إياها بيضاء من غير أن كانت كذلك قبل أن يدخلها، وكذلك صيرورة العصا حيَّة بعد ما طرحها على الأرض دون أن تصير حيَّة وهي في يده قبل ذلك؟ قيل - واللَّه أعلم -: إنه إنما أراهم آيته بعد ما أخرج العصا عن سلطانه وتدبيره؛ ليعلم أنها إنما صارت لا بتدبيره وتغييره ولكن باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وكذلك اليد صيرها آية بعدما غيبها عن بصره وتدبيره؛ ليعلم أنها صارت كذلك لا به ولكن باللَّه عَزَّ وَجَلَّ والآية: هي التي تخرج عن وسع الخلق وتدبيرهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩)
وقال في آية أخرى: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) يحتمل أن يكون فرعون قال للملأ: إن هذا كذا، ثم قال الملأ لقومه: إن هذا لساحر عليم، أراد - واللَّه أعلم - تلبيس ما أتى به موسى من الآية على قومه، وأراد بقوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، إغراء قومه عليه.
والسحر عندنا هو من آيات الرسالة ولو كان ما أتى به موسى سحرًا كان ذلك
521
من آيات رسالته ونبوته؛ لأنه لا يستفاد إلا بعلم من السماء وخبر منها، وكذلك هذه الحرف والمكاسب التي تكتسب في الخلق؛ لأنه لا يعلم إلا بالوحي من السماء، لكنه ليس بآية على الإشارة، ولو كان ما أتى به سحرًا لكان له آية؛ لأنه نشأ بين أظهرهم لم يروه اختلف إلى ساحر قط ولا عرفوا أنه تعلم ذلك من أحد، فدل ذلك أنه من الآية، لكنه أخرج ذلك عما عرفوا من السحر لما لا أحد يعرف أنه لم يختلف فهب ذلك، ولا تعلم من أحد، فأخرجه عن وسع السحرة وتدبيرهم؛ ليعرف كل أحد أنه من آيات رسالته
525
ونبوته لا السحر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠)
كان موسى لا يريد أن يخرجهم من أرضهم، ولكن - واللَّه أعلم - كأنه قال فرعون لقومه: لو اتبعتم موسى وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه لأخرجتكم من أرضكم، لكن أضاف ذلك إلى موسى لما كان هو سبب إخراجهم، واللَّه أعلم.
أو يقول: يريد أن يذهب بعيشكم الطيب وراحتكم وتلذذكم بأنواع التلذذ؛ لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل، ويستخدمونهم، ويستريحون هم وينعمون، فيقول للقبط: يريد أن يذهب بذلك كله عنكم.
وجائز أن يكون موسى لم يكن يريد أن يخرجهم من أرضهم، ولكن يريد أن يخرجهم من دينهم الذي كانوا عليه، ولكنه كان يغري قومه عليه.
وقوله: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ).
دل هذا القول من فرعون أنه كان يعرف أنه ليس بإله ولا رب؛ لأنه لو كان ما يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) لكان لا يطلب من قومه الأمر والإشارة في ذلك، دل ذلك أنه كان يعرف عجزه وضعفه؛ لكنه يكابر ويلبس على قومه ويموه بقوله: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ).
وقوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) هذا الحرف حرف إغراء وتحريش عليه، وقوله: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) هو حرف تقريب حيث جعل إليهم الأمر والإشارة، وجعلهم من أهل مشورته.
وقوله: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١)
هذا الحرف لا يقال ابتداء إلا أن يكون هنالك تقدم شيء، فكأنه هم بقتله؛ كقوله: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، فقالوا له: (أَرْجِهْ)، أي: أَخِّرْه واحبسه ولا تقتله ليتبين سحره عند الخلق جميعًا، كانوا يمنعون فرعون عن قتله.
ألا ترى أنه قال: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)، لو لم يكن منهم منع عن قتله لم يكن ليقول لهم: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى).
الآية ١١١ وقوله تعالى :﴿ قالوا أرجه وأخاه ﴾ هذا الحرف لا يقال ابتداء إلا أن يكون هنالك تقدم شيء ؛ فكأنه همّ بقتله كقوله ﴿ ذروني أقتل موسى وليدع ربه ﴾ [ غافر : ٢٦ ] فقالوا له :﴿ أرجه ﴾ أي١ أخّره، واحبسه، ولا تقتله، ليتبيّن سحره عند الخلق جميعا. كانوا يمنعون فرعون عن قتله. ألا ترى أنه قال :﴿ ذروني أقتل موسى ﴾ [ غافر : ٢٦ ] لو لم يكن منهم منع عن قتله لم يكن ليقول لهم ﴿ ذروني أقتل موسى ﴾ ؟
وقوله تعالى :﴿ قالوا أرجه وأخاه ﴾ قال القتبيّ :﴿ أرجه وأخاه ﴾ هارون : يقول : احبسه، أي أخّره. ومنه قوله تعالى :﴿ ترجي من تشاء ﴾ [ الأحزاب : ٥١ ] ومنه سمّيت المرجئة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه ﴿ أرجه وأخاه ﴾ ولا تقتلهما ﴿ وأرسل في المدائن حاشرين ﴾ أي أرسل إلى المدائن الشرط، فأتوه من المدائن حاشرين ؛ أي يحشرون عليه٢ السحرة والناس. إلى هذا يذهب ابن عباس رضي الله عنه.
١ من م، في الأصل: إلى..
٢ في الأصل وم: عليك..
وقوله: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ).
قَالَ الْقُتَبِيُّ: أَرْجِهْ وَأَخَاهُ هارون، يقول: احبسه، أي: أخره، ومنه قوله: ترجي من تشاء، ومنه سميت المرجئة.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) ولا تقتلهما (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) أي: أرسل إلى المدائن الشرط، يأتون من المدائن حاشرين، أي: يحشرون عليك السحرة والناس. إلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقوله: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) لا تقتله حتى يأتوك بكل ساحر عليم، أي: ليجتمع كل أنواع السحر عنده، ليتبيِّن سحره، وإلا كان ساحر واحد كافيًا، ولكن أرادوا واللَّه أعلم بقوله: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) ليجتمع جميع أنواع السحر عنده لتبين سحره.
* * *
قوله تعالى: (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤): في المنزلة والقدر عندي، هذا يدل أن همة الساحر ليس إلا الدنيا؛ لأنهم طلبوا من فرعون الأجر والقدر والمنزلة عنده إنْ كانوا هم الغالبين، ولا
الآيتان ١١٣و١١٤ وقوله تعالى :﴿ وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ﴾ ﴿ قال نعم وإنكم لمن المقربين ﴾ في المنزلة والقدرة عندي.
هذا يدل أن همّة الساحر ليست١ إلا الدنيا، لأنهم طلبوا من فرعون الأجر والقدر والمنزلة عنده، إن كانوا هم الغالبين. ولا يجوز من همّته الدنيا، وما ذكر، أن تكون له الرسالة بحال. /١٨٢-ب/ وهمّة الأنبياء كانت الدين وطلب الآخرة.
١ في الأصل وم: ليس..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٣:الآيتان ١١٣و١١٤ وقوله تعالى :﴿ وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ﴾ ﴿ قال نعم وإنكم لمن المقربين ﴾ في المنزلة والقدرة عندي.
هذا يدل أن همّة الساحر ليست١ إلا الدنيا، لأنهم طلبوا من فرعون الأجر والقدر والمنزلة عنده، إن كانوا هم الغالبين. ولا يجوز من همّته الدنيا، وما ذكر، أن تكون له الرسالة بحال. /١٨٢-ب/ وهمّة الأنبياء كانت الدين وطلب الآخرة.
١ في الأصل وم: ليس..

يجوز من همته الدنيا، وما ذكر أن يكون له الرسالة بحال، وهمَّة الأنبياء كانت الدِّين وطلب الآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥)
هذا ليس على إلقاء هذا، وترك أُولَئِكَ الإلقاء؛ لأنه لو كان على إلقاء أحدهما لكان لا يتبين السحر من الآية، لكن إلقاء الأول كأنهم قالوا: يا موسى إما أن تلقي أولًا أو نحن الملقون أول مرة، وهو كما ذكر في آية أخرى: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) وقول موسى: (أَلْقُوا... (١١٦) كأنه أمره ربه أن يأمر بذلك؛ قال موسى: (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) هذا يدل أن السحر إنما يأخذ الأبصار على غير حقيقة كانت له، وهو كالسراب الذي يرى من بعيد؛ كقوله: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً...) الآية، فعلى ذلك السحر يأخذ الأبصار ظاهرًا، فإذا هو في الحقيقة باطل لا شيء، وكالخيال في القلوب لا حقيقة له، وكان قصدهم بالسحر استرهاب الناس، وتخويفهم به.
ألا ترى أنه ذكر في آية أخرى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، وقد ذكرنا أن ما جاء به الرسل لو كان سحرًا في الحقيقة، لكان ذلك حجة لهم في إثبات الرسالة؛ لأن قومهم لم يروهم اختلفوا إلى ساحر قط، فيدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك باللَّه تعالى، وهو كالأنباء التي أتى بها رسول اللَّه - ﷺ -.
وقوله: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، يخرج على وجهين:
أحدهما: أخذ سحرهم بصره كما أخذ أعين الناس.
والثاني: خاف أن سحرهم يمنع أُولَئِكَ عن رؤية حقيقة ما جاء به.
وقوله: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أي: أخذوا كقوله: (مَسْحُورُونَ).
أي: مأخوذ أعينكم.
الآية ١١٦ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ قال ألقوا ﴾ كأنه أمره بذلك، فقال٢ موسى ﴿ ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم ﴾ هذا يدل أن السحر إنما يأخذ الأبصار على غير حقيقة كانت له، وهو كالسراب الذي يرى من بعيد كقوله تعالى :﴿ يحسبه الظمآن ماء ﴾ الآية :[ النور : ٣٩ ] فعلى ذلك السحر يأخذ الأبصار ظاهرا، فإذا هو في الحقيقة باطل، لا شيء، وكالخيال٣ في القلوب لا حقيقة له. وكان قصدهم بالسحر استرهاب الناس وتخويفهم به.
ألا ترى [ أنه ]٤ ذكر في آية أخرى ﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى ﴾ ؟ [ طه : ٦٧ ] وقد ذكرنا أن ما جاء به الرسل لو كان سحرا في الحقيقة لكان ذلك حجة لهم في إثبات الرسالة ؛ لأن قومهم لم يروهم اختلفوا إلى ساحر ؛ فيدل ذلك [ أنهم إنما عرفوا ذلك ]٥ بالله تعالى، وهو كالأنباء٦ التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى ﴾ يخرّج على وجهين :
أحدهما : أخذ سحرهم بصره كما أخذ أعين الناس.
والثاني : خاف أن سحرهم يمنع أولئك عن رؤية حقيقة ما جاء به.
وقوله تعالى :﴿ سحروا أعين الناس ﴾ أي أخذوا٧ كقوله تعالى :﴿ نحن قوم مسحورون ﴾ [ الحجر : ١٥ ] أي [ مأخوذة أعيننا ]٨.
١ في الأصل وم: وقول موسى..
٢ الفاء ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: وكالجبال..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ من م، في الأصل: كالأنبياء..
٧ في الأصل وم: حيروا..
٨ في الأصل وم: مأخوذ أعينكم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ... (١١٧) فيه أن موسى كان لا يلقي عصاه إلا بعد الأمر بالإلقاء، وكذلك قوله: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) و (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)، ونحوه، كان لا يضرب بالعصا، ولا يلقي إلا بعد الأمر بالإلقاء والضرب؛ ليعلم أن في ذلك امتحانًا لموسى فيما يؤمر بالإلقاء على الأرض لتصير حية، وفيما يأمره بالضرب بها الحجر والبحر، ولله أن يمتحن عبده بما شاء من أنواع المحن، وإلا كان قادرًا أن يفلق البحر على غير الأمر بالضرب بالعصا، وكذلك يفجر الحجر، ويشقه على غير ضرب بالعصا، وكذلك يصير العصا حية وهي في يده، ولكن أمره بذلك كله - واللَّه أعلم - امتحانا منه إياه وابتلاء، إذ هي دار محنة وابتلاء؛ إذ في زمن موسى كان السحر هو الظاهر، وكان الناس وقتئذ يعملون بالسحر، فجاء موسى من الآيات على رسالته بنوع ما كانوا يعملون به، ومن جنس ذلك؛ ليعرفوا بخروجه عن وسعهم أن ذلك أليس بسحر، ولكن آية سماوية، وكذلك ما جاء عيسى من الآيات جاء بنوع ما كان يعمله قومه، وهو الطب، فجاء بنوع الطب ليعلموا أنه بالله عرف ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ).
قَالَ الْقُتَبِيُّ: تلقف: تلتقم وتلقم، اشتقاقه من اللقم والابتلاع.
وقوله: (مَا يَأْفِكوُنَ) قيل: ما يكذبون.
قال الحسن: (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) حبالهم وعصيهم.
وقيل: (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) ما جاءوا به من الكذب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَقَعَ الْحَقُّ... (١١٨)
قيل: أي: ظهر الحق، (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي: بطل ما عملوا من السحر.
والثاني: (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: ترك السحرة العمل بالسحر إذ ظهر الحق لهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ... (١١٩)
أي: عند ذلك غلب السحرة؛ لأنهم قالوا لفرعون في الابتداء: (إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)، فذكر هاهنا أنهم غلبوا عند ظهور الحق، لا أنهم صاروا غالبين، وقوله: (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ) وليس غلبة القهر والقسر، ولكن غلبة بالحجج والبراهين، أي: غلبوا بالحجج والآيات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ).
قال بعض أهل التأويل: رجع السحرة لما غلبوا صاغرين مذللين.
لكن نقول: رجع فرعون وقومه إلى منازلهم مذللين لا السحرة؛ لأن السحرة قد آمنوا فلا يحتمل أن يوصفوا بالرجوع صاغرين مذللين، وقد رجعوا مع الإيمان.
وقوله: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) اختلف فيه:
الآية ١١٩ وقوله تعالى :﴿ فغلبوا هنالك ﴾ [ أي عند ذلك غلب السحرة لأنهم قالوا لفرعون في الابتداء ﴿ إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ﴾ فذكر ههنا أنهم غلبوا عند ظهور الحق، لا أنهم صاروا غالبين. وقوله تعالى :﴿ فغلبوا هنالك ﴾ ]١ ليس غلبة القهر والقسر، ولكن غلبة بالحجج والبراهين ؛ أي غلبوا بالآيات والحجج.
وقوله تعالى :﴿ وانقلبوا صاغرين ﴾ قال بعض أهل التأويل : رجع السّحرة لمّا غلبوا صاغرين مذلّلين. لكن نقول : رجع فرعون وقومه إلى منازلهم مذلّلين، لا السحرة، لأن السحرة قد آمنوا، فلا يحتمل أن يوصفوا بالرجوع صاغرين مذلّلين، وقد رجعوا مع الإيمان.
١ من م..
الآية ١٢٠ وقوله تعالى :﴿ وألقي السحرة ساجدين ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم : قوله تعالى :﴿ وألقي ﴾ أي أمروا بالسجود فسجدوا. وقال آخرون : قوله تعالى :﴿ وألقي ﴾ أي لسرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا.
والآية ترد على المعتزلة لأنهم ينكرون أن١ يكون لله تعالى في فعل العباد صنع، وههنا قد أضيف الفعل إلى غيرهم بقوله تعالى :﴿ وألقي السحرة ساجدين ﴾ دل أن لله٢ في فعل العباد صنعا٣ وهو أن خلق فعل السجود منهم.
وقال جعفر بن حرف، يجوز أن يضاف الفعل إلى غير، وإن لم يكن لذلك الغير في ذلك الفعل صنع، نحو ما يقال في السفر : إن هؤلاء خلّفوا أولئك، [ وهم لم يخلّفوا أولئك ]٤ في الحقيقة، ولا صنع لهم في التخلّف، ثم أضيف إليهم فعل التخليف. فعلى ذلك يقال : إن لهم في ذلك تخليفا٥ ؛ وهم إنهم إذا لم ينتظروهم خلّفوهم، ولهم في ذلك صنع، فأضيف الفعل إليهم، أو أن يقال : إنهم لا يملكون إلقاء هؤلاء، فأما الله سبحانه وتعالى [ فهو ]٦ قادر أن يلقيهم ؛ أي بما يخلق منهم فعل السجود، فأضيف الفعل إليه.
١ من م، في الأصل: أي..
٢ من م، في الأصل: الله..
٣ في الأصل وم: صنع..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ في الأصل وم: تخليف..
٦ ساقطة من الأصل وم..
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَأُلْقِيَ)، أي: أمروا بالسجود، فسجدوا.
وقال آخرون: قوله: (وَأُلْقِيَ)، أي: لسرعة ما سجدوا، كأنهم ألقوا، والآية ترد على المعتزلة؛ لأنهم ينكرون أن يكون لله تعالى في فعل العباد صنع، وهاهنا قد أضيف الفعل إلى غيرهم بقوله: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) دل أن لله في فعل العباد صنعًا. وهو أن خلق فعل السجود منهم.
وقال جعفر بن حرب: يجوز أن يضاف الفعل إلى غير، وإن لم يكن لذلك الغير في ذلك الفعل صنع؛ نحو: ما يقال في السفر: إن هَؤُلَاءِ خلفوا أُولَئِكَ، وهم لم يخلفوا أُولَئِكَ في الحقيقة، ولا صنع لهم في التخليف، ثم أضيف إليهم فعل التخليف، فعلى ذلك هذا.
يقال: إن لهم في ذلك صنعًا، وهو أنهم إذا لم ينتظروهم فقد خلفوهم، فلهم في ذلك صنع، فأضيف إليهم.
أو أن يقال: إنهم لا يملكون تخليف هَؤُلَاءِ فأما اللَّه سبحانه وتعالى فهو قادر أن يلقيهم أي: بما يخلق منهم فعل السجود، فأضيف الفعل إليه لذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢) قال بعض أهل التأويل: إنهم لما قالوا: آمنا برب العالمين، قال لهم فرعون: إياي تعنون، فعند ذلك قالوا: لا، ولكن ربّ موسى وهارون، ولكن لا ندري هذا، وموسى أول ما جاء فرعون ودعاه إلى دينه قال له: (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فلا يحتمل أن يشكل عليه قولهم: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وإنهم إياه عنوا بذلك، وجائز أن يكون آمَنَّا بِرَبِّ الذي أرسل موسى وهارون رسولًا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢١:الآيتان ١٢١و١٢٢ وقوله تعالى :﴿ قالوا آمنا برب العالمين ﴾ ﴿ رب موسى وهارون ﴾ قال بعض أهل التأويل : إنهم لمّا ﴿ قالوا آمنا برب العالمين ﴾ قال لهم فرعون : إياي تعنون ؟ فعند ذلك قالوا : لا، ولكن ﴿ رب موسى وهارون ﴾ ولكن لا ندري هذا، وموسى أول ما جاء فرعون، ودعاه إلى دينه، قال له :﴿ يا فرعون إني رسول من رب العالمين ﴾ [ الأعراف : ١٠٤ ] فلا يحتمل أن يشكل عليه قولهم :﴿ آمنا برب العالمين ﴾ [ فيظن ]١ أنهم إياه عنوا بذلك.
وجائز أن يكون ﴿ آمنا برب العالمين ﴾ الذي أرسل موسى وهارون رسولين٢.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: رسولا..

قوله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
قوله: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).
هذا يدلّ على أن الإيمان هو التصديق لا غير؛ لأنه لما قال السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وقال لهم فرعون: (آمَنْتُمْ بِهِ) وهم لم يأتوا بسوى التصديق، دل على أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا) هذا من فرعون نوع من التمويه على قومه كما قلنا في الابتداء (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) هو حرف التمويه والتلبيس على قومه فعلى ذلك قوله: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) هو تمويه منه وتلبيس على قومه، لئلا يؤمنوا كما آمن السحرة برب موسى.
وقوله: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ).
أي: شيء صنعتموه فيما بينكم وبين موسى، وهو كما قال في آية أخرى: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
هذا لجهله بأشدّ العقوبة والنكال، وإلا لم يوعدهم بقطع الأيدي والأرجل من
الآية ١٢٤ وقوله تعالى :﴿ لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ﴾ هذا لجهله بأشد العقوبة والنكال، وإلا لم يوعدهم بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، إذ ذلك أيسر، وأقل في العقوبة من القطع من جانب. والقطع من جانب أشد وأنكل من القطع من خلاف، إذ القطع من خلاف لا يمنع القيام ببعض المنافع، ولا يعمل في إتلاف النفس ؛ إذ جعل ذلك حدّا في بعض العقوبات، ولم يجعل القطع من جانب عقوبة بحال دل أنه أشد وأنكل، ويعمل في إهلاك النفس، والقطع من خلاف لا يعمل.
دل أنه لجهله ما قال، أو أنه١ اختار القطع من خلاف لتكون مؤنة الطلب عليهم لا عليه ؛ لأن المقطوع من خلاف قد يمكن له الصعود على الخشبة، والثاني لا، والله أعلم.
١ في الأصل وم: أن..
خلاف؛ إذ ذلك أيسر وأقل في العقوبة من القطع من جانب، والقطع من جانب أشد وأنكل من القطع من خلاف؛ إذ القطع من خلاف لا يمنع القيام ببعض المنافع، ولا يعمل في إتلاف النفس؛ إذ جعل ذلك حدّا في بعض العقوبات، ولم يجعل القطع من جانب عقوبة بحال، فدل أنه أشد وأنكل، ويعمل في إهلاك النفس، والقطع من خلاف لا يعمل، دل أنه لجهله ما قال.
أو أن اختار القطع من خلاف ليكون مؤنة الصلب عليهم لا عليه؛ لأن المقطوع من خلاف قد يمكن له الصعود على الخشبة، والثاني: لا، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
وقال في موضع آخر (لَا ضَيرَ)، هذا - واللَّه أعلم - يخرج على وجهين:
أحدهما: على الإقرار منهم بالبعث، والإيمان به.
والثاني: وعيد منهم لفرعون لعنه اللَّه؛ حيث أوعدهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب وغير ذلك من العقوبات، فقالوا: إنا وأنت إلى ربنا منقلبون، فتجزى وتعاقب جزاء صنيعك بنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا... (١٢٦)
قيل فيه بوجهين:
قيل: قوله: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا) أي: وما تعيب علينا، وتطعن إلا بما كان منا من الإيمان بآيات ربنا لما جاءتنا، وهو ما جاءهم من الآيات.
وقيل: وما تعاقبنا وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا، وكان الحق عليك - وعلينا - أن تؤمن بها كما آمنا نحن.
534
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).
قوله: (أَفْرِغْ). قيل: أنزل علينا صبرًا.
وقيل: أتمم لنا صبزا.
وقيل: اصبب علينا صبرًا، وهو كله واحد.
ثم يحتمل سؤالهم الصبر لما لعله إذا فعل بهم بما أوعد من العقوبات لم يقدروا على التصبر على ذلك، فيتركون الإيمان؛ لذلك سألوا ربهم الصبر على ذلك ليثبتوا على الإيمان به.
(وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ).
سألوا ربهم -أيضًا- التوفي على الإسلام، وهكذا كان دعاء الأنبياء، كما فال يوسف: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا...) الآية.
535
الآية ١٢٦ وقوله تعالى :﴿ وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ قيل : لوجهين : قيل : قوله تعالى :﴿ وما تنقم منا ﴾ أي وما تعيب علينا، وتطعن الإيمان بما كان منّا من الإيمان ﴿ بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ وهو ما جاءهم من الآيات. وقيل : وما تعاقبنا، وما تنتقم ﴿ منّا إلا أن آمنا بآيات ربنا ﴾ وكان الحق علينا، وعليك أن تؤمن بها كما آمنا نحن.
وقوله تعالى :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ قوله تعالى :﴿ أفرغ ﴾ قيل : أنزل ﴿ علينا صبرا ﴾. وقيل أصبب ﴿ علينا صبرا ﴾ وهو كله واحد.
ثم يحتمل سؤالهم الصبر لما لعله إذا فعل بهم بما أوعد من العقوبات لم يقدروا على التصبّر، فيتركوا١ الإيمان. لذلك سألوا ربهم الصبر على ذلك ليثبتوا على الإيمان به.
[ وقوله تعالى ]٢ :﴿ وتوفّنا مسلمين ﴾ سألوا ربهم أيضا التوفّي على الإسلام. وهكذا كان دعاء الأنبياء كما قال يوسف :﴿ توفّني مسلما ﴾ الآية :[ يوسف : ١٠١ ] وكذلك كان أوصى /١٨٣-أ/ إبراهيم بنيه حين٣قال :﴿ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ البقرة : ١٣٢ ] وهكذا الواجب على كل مؤمن ومسلم أن يتضرع إلى الله في كل وقت، ويبتهل إليه في كل ساعة لئلا يسلب الإيمان لكسب يكتسبه ؛ إذ الأنبياء والرسل، صلوات الله عليهم، مع عصمتهم كانوا يخافون ذلك ليعلم أن العصمة لا تسقط الخوف، ولا تؤمن من الزلات.
وقوله تعالى :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ دلالة على أنهم علموا أنهم إذا أفرغ عليهم الصبر صبروا ؛ إذ لو لم يعلموا ذلك لم يكن لسؤالهم الصبر معنى.
فهذا على المعتزلة في قولهم : إنه [ لا ]٤ يفرغ، ولا يصبر، وإنه قد أعطاهم غاية ما يصلح في الدين، فدل سؤالهم ذلك على أنه لم يعطهم، وأن عنده مزيدا٥ لو أعطى لهم ذلك كان.
١ في الأصل وم: فيتركون..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: حيث.
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: مزيد..
وكذلك أوصى إبراهيم، بنيه؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وهكذا الواجب على كل مسلم ومؤمن أن يتضرع إلى الله في كل وقت، ويبتهل إليه في كل ساعة؛ لئلا يسلب الإيمان لكسب يكتسبه؛ إذ الأنبياء والرسل - عليهم السلام - مع عصمتهم كانوا يخافون ذلك ليعلم أن العصمة لا تسقط الخوف، ولا تؤمن عن الزلات.
وقوله: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) دلالة على أنهم علموا أنهم إذا أفرغ عليهم الصبر صبروا؛ إذ لو لم يعلموا ذلك لم يكن لسؤالهم الصبر معنى، فهذا على المعتزلة في قولهم: إنه يفرغ ولا يصبرون، وإنه قد أعطاهم غاية ما يصلح في الدِّين، فدل سؤالهم ذلك على أنه لم يعطهم، وأن عنده مزيدًا لو أعطى لهم ذلك كان.
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ... (١٢٧)
قَالَ بَعْضُهُمْ: في إخراجكم من أرض مصر وإفسادهم العيش عليكم، أو ما ذكروا
537
من ترك عبادة فرعون وخدمته.
(وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وقد قرئ: [(وَإِلِاهَتِكَ)] فمن قرأه: [(وَإِلِاهَتِكَ)] حمله على العبادة، أي: يذرك وعبادتك، ومن قرأه [(وَآلِهَتَكَ)]، وهو قول ابن عَبَّاسٍ ومجاهد، قالوا: إن
538
فرعون لعنه اللَّه، قد كان جعل لقومه آلهة يعبدونها؛ ليتقربوا بعبادتهم تلك الأصنام إلى فرعون، على ما كان يعبد أهل الشرك الأصنام دون اللَّه، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فقالوا: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) التي جعلت لهم.
وقال آخرون: إن فرعون كان يعبد الأصنام والأوثان على ما عبد غيره.
وقال غيرهم: لا يحتمل أن يكون هو عبد الأصنام، ولكن جعل لقومه الأصنام على ما ذكرنا.
ألا ترى أنه قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) ثم قال اللعين: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ) يعني: رجالهم، (وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)؛ لأنه لا يحتمل قتل الأبناء، ولم يكن منهم إليه صنع إنما كان ذلك من الرجال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قد كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له: إنه يولد مولود يذهب بملكك، ويغير دين أهل الأرض، فلم يزل يقتلهم في ذلك العام الذي قيل له: إنه يولد مولود يذهب بملكه، ويترك البنات، فذلك قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) قيل: مسلطون عليهم.
فَإِنْ قِيلَ لنا: ما الحكمة في ذكر هذه القصص والأنباء السالفة في القرآن؟
قيل: لوجوه - واللَّه أعلم -:
أحدها: أن فيها دليل إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأن هذه القصص والأنباء كانت في كتبهم ثابتة مبينة، وقد علموا أن لسانه كان على غير ما كانت كتبهم، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك؛ ليتعلم منه، ولا سمع عن أحد منهم ثم أنبأهم على ما كانت، دل أنه إنما عرف ذلك بمن يعلم علم الغيب.
539
والثاني: أن البشر جبلوا على حبِّ السماع للأخبار والأحاديث، وحبب ذلك في قلوبهم حتى إن واحدًا منهم يولد أحاديث وينشئها من ذات نفسه لأن يستمعوا في ذلك إليه ويسمعوا منه، فذكر لهم هذه الأنباء والقصص ليكون استماعهم إليها وسماعهم لها، وذلك أحسن وأوفق إذ أخبر أن ذلك أحسن القصص؛ بقوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ).
والثالث: ذكر لهم هذا ليعلموا ما حل بهم في العاقبة من الهلاك والاستئصال، وأنواع العذاب لفسادهم وتكذيبهم الرسل، وما عاقبة المفسد منهم والمصلح؛ ليكون ذلك زجرًا لهم عن صنيع مثلهم.
والرابع: ذكر ذلك ليعرفوا كيف كانت معاملة الأنبياء والرسل أعداءهم، ومعاملة الأعداء الرسل ليعاملوا أعداءهم مثل معاملتهم.
والخامس: أنهم كانوا ينكرون أن يكون من البشر رسول، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا كلهم من البشر.
والسادس: أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان، ويقولون: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فأخبر أن كان في آبائهم السعداء، وهم الأنبياء والأشقياء، فكيف اقتديتم أنتم بالأشقياء منهم؟! وهلا اتبعتم السعداء دون الأشقياء!
والسابع: فيها أن كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عرفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن يأمر به، ومن ينهى عنه.
وأيضًا إن فيه ذكر الصالحين منهم بعدما ماتوا وانقرضوا فكانوا بالذكر كالأحياء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا... (١٢٨)
يحتمل قوله: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ): على أداء طاعته، وبما يتقربون إلى اللَّه تعالى ويكون لهم زلفى لديه.
أو أن يقول لهم: استعينوا باللَّه بالنصر لكم والظفر، واصبروا على أذاهم والبلاء.
(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل أن يخرج ذلك من موسى مخرج الوعد لهم بالنصر والظفر على الأعداء، وجعل الأرض لهم من بعد إهلاك العدو، وهو كما ذكر في موضع آخر: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
ويحتمل أن يخرج ذلك منه مخرج التصبر على الرضا بقضاء اللَّه - تعالى - أن الأرض له يصيرها لمن يشاء، فاصبروا أنتم على البلاء، وارضوا بقضائه.
(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
قال الحسن: (وَالْعَاقِبَةُ)، أي: الآخرة للمتقين خاصة، وأمّا الدُّنيَا فإنها بالشركة بين أهل الكفر وأهل الإسلام، يكون لهَؤُلَاءِ ما لأُولَئِكَ، وأمَّا الآخرة فليست للكفار إنما هي للمؤمنين خاصة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ...) الآية، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وقال غيره: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي عاقبة الأمر بالنصر، والظفر للمتقين على أعدائهم، وإن كان في الدفعة الأولى عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا... (١٢٩) يخرج هذا على وجهين:
أحدهما: أن يخرج مخرج استبطاء النصر والظفر لهم، كأنهم استبطئوا النصر
541
وإهلاك العدو والظفر عليهم، فقال لهم موسى عند ذلك: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ).
والثاني: أن يخرج ذلك منهم مخرج الاعتذار لموسى لما خطر ببال موسى أنهم يقولون: إن ما أصابهم من البلايا والشدائد إنما كان لسببه ولمكانه، فقالوا ذلك له اعتذارًا منهم له أن قد أصابنا ذلك نحن من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا؛ لئلا يوهم أنهم يقولون ذلك أو يخطر بباله ذلك، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكونوا قالوا ذلك على التعيير له والتوبيخ، يقولون: لم يزل يصيبنا من الأذى لسببك ولأجلك من قبل أن تأتينا من الاستخدام، ومن بعد ما جئتنا من أنواع الضرر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) والعسى من اللَّه واجب، فوعدهم إهلاك العدو واستخلافهم في الأرض.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: (أُوذِينَا): في سببك (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا) بالرسالة، يعنون بالأذى: قتل الأبناء واستخدام النساء، (وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) بالرسالة: من الشدائد التي أصابتهم من بعد، لكن الأول أقرب وأشبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
يحتمل هذا -أيضًا- وجهين:
أحدهما: أن يجعل لكم الأرض، ويوسع عليكم الرزق يمتحنكم في ذلك ويبتليكم، لا أنه يجعل لكم ذلك على غير امتحان تعملون ما شئتم في ذلك.
والثاني: يمتحنكم بالشدائد والبلايا؛ لينظر كيف تصبرون على ذلك.
ويحتمل وجهًا آخر وهو: أن يقول لهم: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تشكرون ربكم فيما أنعم عليكم.
وقوله: (فَيَنظُرَ) كيف الواقع لكم من الجزاء والثواب.
وقوله: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا): أمرهم - واللَّه أعلم - بطلب المعونة من اللَّه تعالى على قضاء جميع حوائجهم دينًا ودنيا، ويحتمل أن يكون على طلب التوفيق لما أمر به، والعصمة عما حذَّرَ عنه، وكذلك الأمر البين في الخلق من طلب التوفيق والمعونة من اللَّه، والعصمة عن المنهي عنه جرت به سنة الأخيار، وبالله المعونة.
542
ثم لا يصح ذلك على قول المعتزلة؛ لأن الدعاء بالمعونة على أداء ما كلف وقد أعطى؛ إذ على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفًا قد بقي شيء مما به أداء ما كلف عند اللَّه، وطلب ما أعطى كتمان للعطية؛ وكتمان العطية كفران، فيصير كأن اللَّه أمر بكفران نعمه وكتمانها وبطلبها منه تعنتًا، وظن مثله باللَّه كفر، ثم لا يخلو من أن يكون عند اللَّه ما يطلب فلم يعط التمام إذًا، أو ليس عنده، فيكون طلبه استهزاء به؛ إذ من طلب إلى آخر ما يعلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف مع ما كان الذي يطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف، فيبطل قولهم لا يجوز أن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدِّين فلا يعطي، أو ليس له ألا يعطي فكأنه قال: اللهم لا تجر ولا تظلم ومن هذا علمه بربه فالإسلام أولى به، فهذا مع ما لا يدعو اللَّه أحد بالمعونة، وإلَّا ويطمئن قلبه أنه لا يزل عند المعونة، ولا يزيغ عند العصمة، وليس مثله يملك اللَّه عند المعتزلة، ولا قوة إلا باللَّه.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ).
عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (بِالسِّنِينَ) قال: بالجوع، وقيل: بالقحط.
ومجاهد: (بِالسِّنِينَ) قال: بالجوائح ونقص من الثمرات دون ذلك.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: بالسنين: بالجدب؛ يقال: أصاب الناس سنة: أي جدب.
فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه أخذ آل فرعون، وكان فيهم بنو إسرائيل فما معنى التخصيص؟
قيل: يحتمل أن يكون ذلك لهم خاصّة دون بني إسرائيل، وإن كانوا فيهم؛ على ما ذكر
في بعض القصة أن القبط كانوا يشربون الدم وبنو إسرائيل الماء، أو كان الجدب والنقص من الثمرات يضر آل فرعون، ولا يضر بني إسرائيل؛ لما أنهم كانوا يأكلون للشهوة وبنو إسرائيل للحاجة، فمن يأكل للحاجة كان أقل حاجة إلى الطعام ممن يأكل للشهوة؛ فإذا لم يجدوا ما يأكلون للشهوة كان أضر بهم.
ألا ترى أنه قيل: " يأكل المؤمن في معيٍّ واحد والكافر لسبعة أمعاء ".
أو خرج تخصيص ذلك لهم لما أن في عقد بني إسرائيل أن لله أن يمتحنهم بجميع أنواع المحن: مرة بالشدة ومرة بالسعة، ومن عقد القبط لا، فأضيف إليهم ذلك لما لم يكن في عقدهم ذلك، وإن كانوا جميعًا في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
أي: يتعظون، " ولعل " من اللَّه واجب قد اتعظوا لكنهم عاندوا وكابروا، وإلا قد لزمهم الاتعاظ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ... (١٣١)
أي: الخصب والسعة (قَالُوا لَنَا هَذِهِ)، أي: هذا ما كنا نعرفه أبدًا وما جرينا على اعتياده، أو أن يقولوا: لنا هذه بفرعون وبعبادتنا له.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ).
قيل: الضيق والقحط.
(يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى).
وقالوا بشؤمه، وهذا كما قال العرب لمُحَمَّد: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)، كانوا يضيفون ما يصيبهم من الحسنة إلى اللَّه؛ لأنهم كانوا يقرون باللَّه، والقبط لا فيقولون ذلك من فرعون أو على الاعتياد.
فقال: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)؛ فعلى ذلك قال ها هنا: (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ). ثم يحتمل هذا وجوهًا: قيل: جزاء تطيرهم عند اللَّه في الآخرة.
وقيل: طائرهم وشؤمهم الذي كانوا تطيروا بموسى كان بتكذيبهم موسى، أضاف ذلك إلى ما عنده من الآيات؛ لأنهم بنزول تلك الآيات وإرسالها عليهم تطيروا بموسى، أوبتجدد، تلك الآيات تجدد تطيرهم وتشاؤمهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ)، أي: حظهم عند اللَّه، وكذلك قال في قوله: (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ)، وهو كما ذكر: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) لما كذبوا تلك الآيات زاد ما نزل بهم من الآيات من بعد رجسًا إلى رجسهم، فعلى ذلك شؤمهم وطائرهم الذي كان بتكذيبهم موسى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى): من الطيرة، وهو من التشاؤم، يقال: تشاءمت بفلان، أي: قلت: هو غير مبارك، وتطيرت بفلان -أيضًا- مثله، ويقال: تبركت به إذا قلت: هو مبارك، ويقال: تطيرت واطيرت منه وبه.
(أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ)، أي: شؤمهم ذلك الذي يخافون منه هو من عند اللَّه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): بأنه كان من عند اللَّه، كان بتكذيبهم موسى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
545
قال أبو بكر الكيساني: تأويله: كل ما تأتينا به تزعم أنه آية، تريد أن تسحرنا بها، فما نحن لك بمؤمنين.
وقال ابن عَبَّاسٍ، والحسن: هو: أي ما تأتينا (بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا...) الآية.
وقوله " مَهْ " زيادة، وهو قول الْقُتَبِيّ، ومعناه: أي ما تأتنا.
وقال الخليل: هو في الأصل " ما " " ما "، إحداهما زيادة، فطرحت الألف وأبدلت مكانها هاء؛ طلبًا للتخفيف.
وقال سيبويه النحوي: قوله: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ) أي: مه أي كأنهم قالوا
546
له: مه، أي: اسكت، كما يقول الرجل لآخر: مه، أي: اسكت، " ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ".
والسحر: هو التحيير، وأخذ الأبصار، ولا حقيقة له؛ كقوله: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)، أي: متحيرًا، وقوله: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ).
ثم دل قولهم: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أن ما قالوا: إن هذا ساحر، وإنه سحر عن علم بالآية والنبوة له قالوا ذلك، لا عن جهل وغفلة حيث قالوا: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) ذلك منهم إياس من الإيمان به، وقبول الآيات لأنهم أخبروا أنهم لا يقبلون الآيات، ولا يصدقونه في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ (١٣٣) إلى آخر ما ذكر.
قال أهل التأويل: لما قالوا ذلك أرسل اللَّه بعد السنين ونقص الثمرات الطوفان والآيات التي ذكر، ويحتمل أن يكون هذا وإن كان مؤخرًا في الذكر فهو مقدم؛ لما قال: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ) إلى آخره. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي: يتعظون.
ثم اختلف أهل التأويل في الطوفان:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الطوفان: الماء والمطر حتى خافوا الهلاك، وهو قول ابن عباس.
وعن عائشة، قالت: " سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الطوفان، فقال: الموت "، فإن ثبت فهو.
وقيل: الطوفان: هو أنواع العذاب.
547
والجراد: هو المعروف.
والقُمَّل، قَالَ بَعْضُهُمْ: هو بنات الجراد، يقال: الدباء.
وقيل: هو الجراد الصغار التي لا أجنحة لها.
(وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ).
قيل: مفصلات، أي معرفات، واحدًا بعد واحد، لم يرسل آية إلا بعد ذهاب أخرى، بعضها على إثر بعض.
وقيل: مفصلات، أي: بينات واضحات، ما علم كل أحد أنه ليس من أحد
548
وليس من عمل السحر، ولكن آية سماوية إذ لو كان سحرًا لتكلفوا في دفعه، واشتغلوا بالسحر على ما اشتغلوا بسحر العصا والحبال، فإذ لم يتكلفوا في ذلك، ولم يشتغلوا بدفع ذلك، بل فزعوا إلى موسى ليكشف ذلك عنهم، ووعدوه الإيمان به، وإرسال بني إسرائيل معه، دل فزعهم إليه في كشف ذلك عنهم على أنهم قد عرفوا أنه ليس بسحر، ولكنه آية أقروا بها أنها ليست بسحر، وأنها آيات إلا أنهم فزعوا عند ذلك إلى موسى فقالوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) ووعدوه الإيمان به، وبعث بني إسرائيل معه إن كشف عنهم الرجز.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا عَهِدَ عِندَك) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِمَا عَهِدَ عِندَك) ما عهد لك أنك متى دعوته أجابك.
وقيل: (بِمَا عَهِدَ عِندَكَ) أنَّا متى آمنا بك وصدقناك كشف عنا الرجز، فقالوا: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ).
قيل: الرجز: ألوان العذاب الذي كان نزل بهم من الطوفان والجراد والقمل
والضفادع، والدم، وما ذكر.
قالوا: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) يحتمل أن يكون كلما حل بهم نوع من العذاب سألوا أن يكشف عنهم، فقالوا: لئن كشفت لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ذلك، وعادوا إلى ما كانوا من قبل.
ويحتمل أن يكون قولهم لموسى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ): بعدما حل بهم أنواع العذاب، عند ذلك قالوا: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) فلما كشف ذلك عنهم نكثوا عهدهم، وهو قولهم: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك، وعادوا إلى ما كانوا، فعند ذلك كان ما ذكر من قوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) وقوله: (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ): بما تدعى بأنك رسول، (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ): أمكن أن يكون ليس على نفس الإرسال، ولكن على ترك الاستعباد، أي: لا نستعبدهم بعد هذا؛ لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)
قال الحسن: قوله: (كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ) لو أطاعوا وأوفوا بالعهد الذي عهدوا ولكنهم لما نكثوا ذلك انتقم منهم وهذا الحرف يؤدي إلى مذهب الاعتزال؛ لأنهم يقولون: إن من قتل أو عذب تعذيب إهلاك إنما هلك قبل أجله، وأجله الموت، لكن هذا يصلح ممن يجهل العواقب، وأمَّا اللَّه سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك أن يجعل له أجلين؛ أحدهما: الموت، والآخر: القتل، ولكن جعل أجل مَنْ في علمه أنه يُقتل القتل، ومَنْ يموت حتف أنفه الموت، وكذلك ما روي في الخبر أن: " صلة الرحم تزيد في العمر "، أي: مَنْ علم منه أنه يصل رحمه، جعل عمره أزيد ممن يعلم أنه لا يصل رحمه، لا أنه يجعل عمره إلى وقت، ثم إذا وصل رحمه زاد؛ لما ذكرنا أن ذلك أمر مَنْ يجهل العواقب، وأما من يعلم ما كان وما يكون أنه لو كان كيف يكون - لا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ... (١٣٦) يحتمل أن يكون قوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) ما ذكر على إثره من الغرق: (فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ).
ويحتمل أن يكون قوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) من الطوفان وأنواع العذاب الذي كان حل بهم، ثم كان الإغراق من بعد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
يحتمل الآيات التي جاء بها موسى على وحدانية اللَّه تعالى وربوبيته، وهي الحجج والآيات التي تقدم ذكرها من الطوفان والجراد والقمل، وما ذكر.
وقال الحسن: بآياتنا: ديننا.
وقوله: (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) قيل: معرضين مكذبين بها، لا أنهم كانوا على غفلة وسهو عنها، لكنهم أعرضوا عنها مكابرين معاندين كأنهم غافلين عنها، وجائز أن يكون: غافلين عما يحل بهم من العقوبة بتكذيبهم.
وقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا... (١٣٧)
هو ما سبق من الوعد لهم بوراثة الأرض، وإنزالهم فيها، وهو قوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، وكقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، كان وعدهم الاستخلاف والإنزال في أرض عدوهم، ثم أخبر أنه أنزلهم وأورثهم على ما - وعدهم بقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) باستعبادهم، وقوله: ، (مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) قيل: فيه بوجوه:
قيل: مشارق الأرض ومغاربها: مملكة فرعون مصر ونواحيها، ما يلي ناحية الشرق وناحية الغرب.
وقيل: كان في بني إسرائيل من بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها من نحو ذي القرنين، وداود، وسليمان.
551
وقيل: مشارق الأرض ومغاربها: أن فضلوا على أهل مشارق الأرض ومغاربها؛ كقوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، قيل: على عالمي هذا الزمان، ثم تفضيله إياهم على البهائم بالجوهر، والخلقة، وعلى الجن بالرسالة والنبوة والمنافع، وعلى جوهرهم من بني آدم بالرسالة والحكمة والملك؛ كقوله: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا).
قيل: أرض الشام.
وقيل: أرض مصر ونواحيها.
وقيل: سماها مباركة لأنها مكان الأنبياء - عليهم السلام.
وقيل: مباركة لكثرة أنزالها وسعتها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى).
552
قيل: هي الجنة، أي: تمت لهم الجنة بما صبروا، وقيل: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى) بما كان وعدهم أنه ينزلهم فيها، ويستخلفهم، تم ذلك الوعد لهم وهو كما قال: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) تم ما وعد لهم أن يمنَّ عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا صَبَرُوا) يحتمل: بما صبروا على أذى فرعون، ويحتمل: (بِمَا صَبَرُوا) من أداء ما أوجب عليهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ): على الوقف على (وَقَوْمُهُ) (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ): معطوف على قوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ): وهو من العرش الذي يتخذه الملوك.
وقيل: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) -أيضًا-، أي: أهلكنا ما كانوا يعرشون.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: يعرشون، أي: يبنون، والعرش: بيوت، والعرش: سقوف.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ)، أي: أهلكنا وأفسدنا، (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) عَرَش، يَعْرُش ويَعْرِش يعني: يبنون من البيوت والكروم والأشجار.
وقيل في قوله: (كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ): يعني بالاستضعاف: قتل الأبناء واستحياء النساء بأرض " مصر "، ورثهم اللَّه ذلك.
553
الآية ١٣٧ وقوله تعالى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾ هو ما سبق من الوعد بوراثة الأرض فيها وإنزالهم فيها، وهو قوله تعالى :﴿ عسى ربكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ] وكقوله تعالى :﴿ ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ﴾ [ القصص : ٥ ]. كان وعد لهم الاستخلاف والإنزال في أرض١عدوّهم. ثم أخبر أنه أنزلهم، وأورثهم على ما وعد لهم بقوله :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ﴾ باستعبادهم ﴿ مشارق الأرض ومغاربها ﴾ قيل فيه بوجوه.
قيل :﴿ مشارق الأرض ومغاربها ﴾ مملكة فرعون مصر ونواحيها ما يلي ناحية الشرق وناحية الغرب.
وقيل :﴿ مشارق الأرض ومغاربها ﴾ كان في بني إسرائيل من بلغ ملكه ﴿ مشارق الأرض ومغاربها ﴾ كقوله تعالى :﴿ وفضّلناهم على العالمين ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] قيل : عالمي زمانهم من نحو ذي القرنين وداوود وسليمان.
وقيل :﴿ مشارق الأرض ومغاربها ﴾ أن تصلّوا على أهل مشارق الأرض ومغاربها كقوله تعالى :﴿ وفضّلناهم على العالمين ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] قيل : عالمي زمانهم. ثم تفضيله إياهم على البهائم بالجوهر والخلقة، وعلى الجن بالرسالة والنبوّة والمنافع، وعلى جوهرهم من بني آدم بالرسالة والحكمة والملك كقوله تعالى :﴿ إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ﴾ [ المائدة : ٢٠ ].
وقوله تعالى :﴿ التي باركنا فيها ﴾ قيل : أرض الشام، وقيل : أرض مصر ونواحيها، وقيل :[ سمّاها مباركة ]٢ لأنها مكان الأنبياء عليهم السلام وقيل : مباركة لكثرة أنزالها وسعتها.
وقوله تعالى :﴿ وتمّت كلمة ربك الحسنى ﴾ قيل : هي الجنة، أي تمّت لهم الجنة ﴿ بما صبروا ﴾ وقيل :﴿ وتمّت كلمة ربك الحسنى ﴾ بما كان وعد لهم أن ينزلهم فيها، ويستخلفهم، تم ذلك الوعد ؛ وهو ما قال :﴿ ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ﴾ [ القصص : ٥ ] ثم ما وعد لهم أن يمنّ عليهم.
وقوله تعالى :﴿ بما صبروا ﴾ يحتمل ﴿ بما صبروا ﴾ على أذى فرعون. ويحتمل ﴿ بما صبروا ﴾ على٣ أداء ما أوجب عليهم، والله اعلم.
وقوله تعالى :﴿ ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ قال بعضهم : قوله تعالى :﴿ ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ﴾ على الوقف على ﴿ وقومه ﴾ [ فيكون قوله تعالى ]٤ ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ معطوفا على قوله تعالى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾ ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ وهو من العرش الذي يتخذه الملوك.
وقيل :﴿ ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ أيضا أي أهلكنا ما كانوا يعرشون.
قال القتبيّ : يعرشون أي يبنون، والعرش البيوت٥، والعرش السقوف٦. وقال أبو عوسجة :﴿ ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ﴾ أي أهلكنا، وأفسدنا ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ [ يعرشون، ويفرشون ]٧ ؛ يعني يبنون من البيوت والكروم والأشجار.
وقيل : في وقوله تعالى :﴿ كانوا يستضعفون ﴾ يعني بالاستضعاف قتل الأبناء واستحياء النساء بأرض مصر. ورّثهم الله ذلك. وقيل : في قوله تعالى :﴿ وتمّت كلمة ربك الحسنى ﴾ وهي٨ النعمة التي أنعم على بني إسرائيل ﴿ بما صبروا ﴾ على البلاء حين كلّفوا ما لا يطيقون من استعباد فرعون إياهم. والكلمة التي ذكر ما ذكر في [ السورة ]٩ القصص ﴿ ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ﴾ [ الآية : ٥ ].
١ من م، في الأصل: الأرض..
٢ في الأصل وم: سماء مباركا..
٣ في الأصل وم: من..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: بيوت..
٦ في الأصل وم: سقوف..
٧ في الأصل وم: يعرش ويفرش..
٨ من م، في الأصل: وهو..
٩ ساقطة من الأصل وم..
وقيل في قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى) هي النعمة التي أنعمها على بني إسرائيل بما صبروا على البلاء حين كلفوا ما لا يطيقون من استعباد فرعون إياهم، والكلمة التي ذكر ما ذكر في القصص من قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ).
* * *
قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ).
دل هذا على أن لله في فعل العباد صنعًا وفعلًا؛ حيث أضاف ونسب المجاوزة إلى نفسه، وهم الذين جاوزوا البحر، دل أن له في فعلهم صنعًا، وهذا ينقض على المعتزلة حيث أنكروا خلق أفعال العباد، وباللَّه المعونة والعصمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ).
العكوف: هو المقام والدوام، وقوله: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ)، أي: وجدوهم عكوفًا على عبادة الأصنام مقيمين على ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا).
يشبه أن يكون سؤالهم إلهًا يعبدونه لا على الكفر بربهم والتكذيب لرسوله، ولكن لما لم يروا أنفسهم أهلًا للعبادة لله، والخدمة له؛ لما رأوا في الشاهد أنه لا يخدم الملوك إلا الخواص لهم، والمقربون إليهم، ومن بعد منهم يخدم خواصهم، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ سألوا موسى إلهًا يعبدونه؛ لما لم يروا أنفسهم أهلًا لعبادة اللَّه، والخدمة له؛ لتقربهم
عبادة تلك الأصنام إلى اللَّه، ويخرج ذلك مخرج التعظيم لله والتبجيل، لا على الكفر وصرف العبادة عنه إلى غيره، وكذلك كان عادة العرب أنهم كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم عبادتها إلى اللَّه زلفى، وكذلك ما ذكر في بعض القصة أن فرعون كان يتخذ لقومه أصنامًا يعبدونها؛ لتقربهم تلك الأصنام إليه زلفى، فعلى ذلك سؤال هَؤُلَاءِ لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا)، واللَّه أعلم.
أو كان سؤالهم ذلك لما لم يروا في الشاهد أحدًا يخدم إلا لحاجة تقع له إلى ذلك، فرأوا أن اللَّه يتعالى عن أن يعبد ويخدم للحاجة، وهم يخدمون القادة والرسل ويعبدونهم لما رأوا أنهم ينالون من النعم، وأنواع المنافع من الرؤساء والكبراء؛ لذلك كانوا يخدمونهم، وأما أهل التوحيد فإنهم لا يرون العبادة لغير اللَّه؛ لأنه ما من أحد وإن بعد منزلته ومحله إلا وآثار نعم اللَّه عليه ظاهرة حتى عرف ذلك كل أحد، حتى لو بذل له جميع حطام الدنيا، أو أوعد بكل أنواع الوعيد؛ ليترك الدِّين الذي هو عليه، ما تركه ألبتَّة.
وفي أمر موسى - صلوات اللَّه عليه - خصلتان، إحداهما: أن يعلم أن كيف يؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وكيف يعامل مرتكب الفسق والمنكر يعامل على ما عامل موسى قومه باللين والشفقة، وإن استقبلوه بالعظيم من الأمر والمناكير. والثانية: [..... ]
ويحتمل أن يكون سؤالهم إلهًا يعبدونه لما أن أهل الكفر قالوا لهم: إن الرسل هم الذين أمروهم بعبادة الأصنام؛ كقوله: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، فعلى ما قالوا إن الرسل هم الذين أمروهم بذلك، سألوا موسى أن يجعل لهم إلهًا كما لهم آلهة.
وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ... (١٣٩)
أي: أن عبادتهم لهَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ، أي: مهلكهم ومفسدهم.
(وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
أي: باطل ما يأملون بعبادتهم هَؤُلَاءِ.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: التبار: الهلاك، وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المتبر: المفسد، يقال: تبرت الشيء، أي أفسدته، ويقال: رجل متبر، أي مفسد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠)
يحتمل قوله: فضلكم على العالمين بما هداكم ووفقكم للهداية بما لم يوفق ولم يهد أحدًا من العالمين من عالمي زمانكم.
ويحتمل قوله: (أَبْغِيكُمْ إِلَهًا) دونه وقد فضلكم بما استنقذكم من استخدام فرعون وقهره إياكم وإخراجكم من يده، وأعطاكم رسولًا يبين لكم عبادة إلهكم الحق.
وقوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) يقول: أما تستحيون من ربكم أن تسألوا إلهًا تعبدونه دونه، وقد فضلكم بما ذكر من أنواع النعم، واللَّه أعلم، وهو ما ذكر في قوله: (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.... (١٤١) الآية، يذكرهم نعمه عليهم بما استنقذهم من فرعون وآله وأهلكهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسُومُونَكُمْ).
قيل: يعذبونكم (سُوءَ الْعَذَابِ) قتل الأبناء، واستحياء النساء، فذلك قوله: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)، قيل في ذلك: يعني فيما أنجاكم من آل فرعون بلاء من ربكم عظيم، يعني: نعمة من ربكم عظيمة، ويقال: البلاء - بالمد -: هو النعمة، وبغير المد مقصورًا: الشدة.
* * *
الآية ١٤١ وقوله تعالى :﴿ أبغيكم إلها ﴾ دونه وقد فضّلكم بما استنقذكم من استخدام فرعون وقهره إياكم وإخراجكم من يده، وأعطاكم رسولا يبيّن لكم عبادة إلهكم الحق.
وقوله تعالى :﴿ أغير الله أبغيكم إلها وهو فضّلكم ﴾ يقول : أما تستحيون ربكم أن تسألوا إلها تعبدونه دونه، وقد فضلكم بما ذكر من أنواع النعم، والله اعلم، وهو ما ذكر من قوله تعالى :﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون ﴾ الآية : يذكّرهم نعمه عليهم بما استنقذهم من فرعون وآله وإهلاكهم١.
وقوله تعالى :﴿ يسومونكم ﴾ قيل : يعذّبونكم ﴿ سوء العذاب ﴾ قتل الأبناء واستحياء النساء. فذلك قوله تعالى :﴿ يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾ قيل في ذلك : يعني في ما ﴿ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾. ويقال : البلاء بالمد هو النعمة، وبغير المد مقصورا الشدة.
١ في الأصل: وإلهكم، في م: وأهلكم..

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ).
ذكر هاهنا ثلاثين ليلة ثم ذكر التمام بالعشر، وذكر في السورة التي فيها ذكر البقرة أربعين ليلة بقوله: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)، وهو واحد كان الميعاد له أربعين ليلة، لكن يحتمل ذكر ثلاثين مرة وعشرًا وجهين:
أحدهما: أن ثلاثين ليلة كان لأمر وعشرًا كان لأمر آخر، فذُكِرَت متفرقة لما كان الأمرين مختلفين.
والثاني: أنه كان في وقتين، كان هذا في وقت والآخر في وقت، والقصة واحدة، والميعاد واحد، فذكر التمام بعشر؛ كقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، وإن كانت في وقتين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).
قيل: تم الميعاد الذي وُعِدَ له أربعين ليلة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قول موسى لأخيه هارون: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)، وهو كان مبعوثًا معه، رسولان إلى فرعون مشتركان في تبليغ الرسالة إلى فرعون بقوله: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) وقوله: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقوله: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا
رَسُولَا رَبِّكَ)، وقوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)، فإذا كان هو رسولًا كموسى في تبليغ الرسالة، كيف احتاج إلى أن يقول موسى: اخلفني في قومي وهما - شرعًا - سواء في الرسالة؟
قيل: يحتمل هذا وجهين:
يحتمل أن يكونا كما ذكر رسولين، لكن من ولى اثنين أمرًا لم يكن لواحد منهما أن ينفرد به إلا بأمر الآخر، فعلى هذا كأنه قال له: اخلفني في الحكم بينهم، وأصلح ذات بينهم، ولا تتبع من دعاك إلى سبيل المفسدين.
أو يحتمل أن يكون موسى كان هو الرسول أولاً وكان إليه الحكم، وهارون كان دخيلًا في أمره ردءًا له على ما قال: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)، ولأن موسى كان هو المأمور بها أولًا والمبعوث إليهم دونه.
ألا ترى أنه كان هو المناجي ربه دون هارون، وكان هو المعطَى الألواح دون هارون؛ كقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، وهو الذي قال: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا)، وهو الذي نودي بالبركة دون هارون، وغير ذلك من الآيات، فإذا كان كذلك استخلفه موسى في قومه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا... (١٤٣) أي: لميعادنا الذي وعدناه.
قوله تعالى: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).
لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيته، سوى أنه أنشأ كلامًا وصوتًا أسمعه موسى كيف شاء بما شاء بكلام مخلوق وصوت مخلوق.
(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي....) الآية.
قال قائلون: إن موسى لم يسأل ربَّه الرؤية لنفسه، ولكن سأل لقومه لسؤال القوم له؛ كقوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)، لكن هذا بعيد؛ لأنه لو كان سؤاله إياه لسؤال قومه، لكان لا يقول: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، ولكن يقول: أرهم ينظرون إليك، فدل أنه لم يكن لذلك.
وقال قائلون: لم يكن سؤال ربه رؤية الرب، ولكن سأل ربه رؤية الآيات والأعلام والأدلة التي بها يُرَى، وذلك جائز سؤال الرؤية: سؤال رؤية الآيات والأعلام، وذلك أيضًا بعيد؛ لأنه قد أعطاه من الآيات والأعلام ما لم يكن له الحاجة إلى غيرها من الآيات؛ من
4
نحو: العصا التي كان يضرب بها الحجر فَتَفْجُرُ منه اثنتي عشرة عينًا، وما كان من فرق البحر وإهلاك العدو، واليد البيضاء، وغير ذلك من الآيات، فإذا بطل ذلك، دل أنه سأل حقيقة الرؤية، والقول بها لازم عندنا في الآخرة، وحق من غير إدراك ولا تفسير، والدليل على ذلك قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)، ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة؛ إذ لا يدرك غيره بغير الرؤية، فمع نفي الإدراك وغيره من الخلق لا يدرك إلا بالرؤية لا معنى له، واللَّه الموفق.
5
وأيضا قول موسى: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ....) الآية ولو كان لا يجوز الرؤية لكان منه جهل بربه، ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعًا لرسالته، أمينًا على وحيه.
وبعد فإنه لم ينهه ولا آيسه، وبدون ذلك قد نهى نوحًا وعاتب آدم وغيره من الرسل، وذلك لو كان لا يجوز لبلغ الكفر ثم قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
فَإِنْ قِيلَ: لعله سأل آية ليعلم بها؟
قيل: لا يحتمل ذا؛ لوجوه:
أحدها: أنه قال: (لَنْ تَرَانِي)، وقد أراه الآية.
وأيضا أن طلب الآيات يخرج مخرج التعنت؛ إذ قد أراه الآيات على ما ذكرنا، وذلك
12
صنيع الكفرة أنهم لا يزالون يطلبون الآيات، وإن كانت الكفاية قد أثبتت، لهم فمثله ذلك أيضًا.
وأيضا إنه قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي....) والآية التي يستقر معها الجبل هي دون التي لا يستقر معها؛ ثبت أنه لم يرد بذلك الآية.
وأيضًا محاجة إبراهيم - عليه السلام - قومه في النجوم وما ذكر بالأفول والغيبة، ولم يحاجهم بألّا يحب ربا يرى، ولكن حاجهم بألا أحب ربّا يأفل؛ إذ هو دليل عدم الدوام، ولا قوة إلا باللَّه.
وأيضًا قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)
ثم لا يحتمل ذلك الانتظار؛ لوجوه:
أحدها: أن الآخرة ليست بوقت للانتظار، إنما هي الدنيا، وهي دار الوقوع والجود إلا في وقت الفزع، وقيل: أن يعاينوا في أنفسهم ما له حق الوقوع.
والثاني: قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ): وذلك وقوع الثواب.
والثالث: قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ): و (إلى) حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الانتظار.
والرابع: أن القول به يخرج مخرج البشارة لعظيم ما نالوه من النعم، والانتظار ليس منه، مع ما كان الصرف عن حقيقة المفهوم قضاء على اللَّه، فيلزم القول بالنظر إلى اللَّه، كما قال على نفي جميع معاني الشبه عن اللَّه سبحانه على ما أضيف إليه من
13
الكلام والفعل والقدرة والإرادة أن يجب الوصف به على نفي جميع معاني الشبه،
14
وكذلك القول بالهيئة، فمن زعم أن اللَّه تعالى لا يقدر أن يكرم أحدًا بالرؤية، فهو يقدر في الرؤية التي فهمها من الخلق، وإذا كان القول بـ (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وغير ذلك من الآيات لا يجوز دفعها بالعرض على المفهوم من الخلق، بل يحقق ذلك على نفي الشبه، فمثله خبر الرؤية.
وأيضًا قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، وجاء في غير خبر النظر إلى اللَّه، وقد يحتمل غير ذلك مما جاء فيه التفسير، لكنه لولا أن القول بالرؤية كان أمرًا ظاهرًا، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجئ فيها إليها ويدفع به الخبر، واللَّه أعلم.
وأيضًا ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير خبر أنه قال: " إنكم سترون ربَّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون "، وسئل: " هل رأيت ربك؟ فقال: بقلبي
25
قلبي "، فلم ينكر على السائل السؤال، وقد علم السائل أن رؤية القلب إذ هي علم قد علمه، وأنه لم يسأل عن ذلك، وقد حذر اللَّه المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كقوا عنها بقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)، فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء، وذلك كفر في الحقيقة عند قوم، ثم لا ينهاهم عن ذلك ولا يوبخهم في ذلك، بل يليق القول في ذلك، ويرى أن ذلك ليس ببديع، واللَّه الموفق.
وأيضًا: إن اللَّه وعد أن يجزي أحسن مما عملوا به في الدنيا، ولا شيء أحسن من التوحيد، وأرفع قدرًا من الإيمان به؛ إذ هو المستحسن بالعقول والثواب الموعود من جوهر الجنة، حسنه حسن الطبع، وذلك دون حسن العقل؛ إذ لا يجوز أن يكون شيء حسنًا في العقول لا يستحسنه ذو عقل، وجائز ما استحسنه الطبع طبعا لا يتلذذ به كطبع الملائكة، ومثله في العقوبة؛ لذلك لزم القول بالرؤية لتكون كرامة تبلغ في الجلالة ما أكرموا به، وهو أن يصير لهم المعبود بالغيب شهودًا كما صار المطلوب من الثواب حضورًا، ولا قوة إلا باللَّه.
ولا يحتمل العلم؛ لأن كلًّا يجمع على العلم باللَّه في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس، وذلك علم العيان لا علم الاستدلال، وكثرة الآيات لا تحقق علم الحق الذي لا يعتريه ذلك، دليله قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ.....) الآية، وما ذكر من استعانة الكفرة بالكذب في الآخرة وإنكار الرسل عليهم، وقولهم:
26
(لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، وغير ذلك.
وبعدُ، فإنه إذ لا يجوز أن يصير علم العيان بحق علم الاستدلال، لم يجز أن يصير علم الاستدلال بحق علم العيان، فثبت أن الرؤية توجب ذلك.
وبعدُ، فإن في ذلك العلم يستوي الكافر والمؤمن والبشارة بالرؤية خُصَّ بها المؤمن، ولا قوة إلا باللَّه.
ولا نقول بالإدراك؛ لقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)؛ فقد امتدح بنفي الإدراك لا بنفي الرؤية، وهو كقوله: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)، كان في ذلك إيجاب العلم، ونفي الإحاطة، فمثله في حق الإدراك، وباللَّه التوفيق.
وأيضًا إن الإدراك إنما هو الإحاطة بالمحدود، واللَّه يتعالى عن وصف الحدِّ؛ إذ هو نهاية وتقصير عما هو أعلى منه على أنه واحدي الذات، والحدُّ وصف المتصل الأجزاء حتى ينقضي مع إحالة القول بالحد؛ إذ كان كل ما يحد أو به يحد، فهو على ذلك لا يتغير، على أن لكل شيء حدّا يدرك سبيله نحو الطعم واللون والذوق والحد، وغير ذلك من الحدود وخاصية الأشياء، جعل اللَّه لكل شيء من ذلك وجهًا يدرك ويحاط به، حتى العقول والأعراض، وأخبر اللَّه تعالى أنه ليس بذي حدود وجهات من طرق إدراكه بالأسباب الموضوعة لتلك الجهات، وعلى ذلك القول بالرؤية والعلم جميعًا، ولا قوة إلا باللَّه.
وبعدُ، فإن القول بالرؤية يقع على وجوه لا يعلم حقيقة كل وجه من ذلك إلا بالعلم بذلك الوجه حتى إذا عبر عنه بالرؤية صرف إلى ذلك، وما لا يعرف له الوجه بدون ذكر الرؤية لزم الوقف في ماهيتها على تحقيقها.
27
وأما الإدراك: فإنما هو معنى الوقوف على حدود الشيء.
ألا ترى أن الظل في التحقيق يُرَى، لكنه لا يدرك إلا بالشمس، وإلا كان مرئيًّا على ما يرى لوقت نسخ الشمس، ولكن لا يدرك بالرؤية إلا بما يتبين له الحد، وكذلك ضوء النهار يرى لكن حده لا يعرف بذاته، وكذلك الظلمة؛ لأن طرفها لا يرى فيدرك ويحاط به، وبالحدود يدرك الشيء، وإن كان يرى لا بها؛ ولذلك ضرب المثل بالقمر؛ لأنه لا يعرف حده ولا سعته ليوقف ويحاط به ويرى بيقين، ولا قوة إلا باللَّه.
والأصل فيه القول بذلك على قدر ما جاء، ونفي كل معنى من الخلق، ولا يفسر بما لم يجئ، واللَّه الموفق.
ثم زعم الكعبي أن الغائب إذا لم يخرج عن الوجوه التي بها يعلم، فكذلك لا يرى إلا بالوجوه التي بها يرى من المباينة للمدى، ولما حل فيه المرئي بالمسافة والمقابلة واتصال الهواء والصغر وعدم الصغر والبعد، ولو جازت الرؤية بخلاف هذه لجاز العلم به.
وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: وهذا خطأ؛ لأنه قدر برؤية جوهره، وقد علم أن غير جوهره جوهر يرون من الوجه الذي لا يقدر على الإحاطة بجوهره فضلًا عن إدراكه ببصره؛ نحو الملائكة والجن وغيرهم مما يروننا من حيث لا نراهم، والجثة الصغيرة نحو البق، ونحو ذلك مما يرى لنا لو توهم مثل ذلك البصر لما احتمل الإدراك، ويرى الملك الذي يكتب جميع أفعالنا، ويسمع جميع أقوالنا على ما لو أردنا تقدير ذلك بما عليه جبلنا للزم إنكار ذلك كله، وذلك عظيم، وكذلك ما ذكر من نطق الجلود، وغيرها مما لو امتحن بمثلها أمر الشاهد لوجد عظيمًا.
وبعدُ، فإنه في الشاهد يفصل بين البصرين في الرؤية والتمييز على قدر تفاوتهما بما اعتراهما من الحجب، مما لو قابل أحدهما حال الآخر على حاله وجده مستنكرًا، وإذا
28
كان كذلك يطل التقدير بالذي ذكر، واللَّه الموفق.
وأيضًا: إنه في الشاهد بكل أسباب العلم لا يعلم غير العرض والجسم، ثم جائز العلم بالغائب خارجًا منه، فمثله الرؤية.
والثالث: ما ذكرنا من رؤية الظل والظلمة والنور من غير شيء من تلك الوجوه.
والرابع: أنه قد يجوز وجود تلك المعاني كلها مع عدم الرؤية، إما بالحجب أو بالجوهر، فجاز تحقيق الرؤية على نفي تلك المعاني نحو ما أجيب القائل بالجسم عند معارضته بالفاعل والعالم؛ إذ وجد جسم لا كذلك، فيجوز وجود ذلك ولا جسم، فمثله في الرؤية على أن البعد الذي يحجبنا الرؤية يجوز أن يبلغه بصر غيرنا، فصار ارتفاع الرؤية بالحجاب، فإذا ارتفع جاز، ولا قوة إلا باللَّه.
وبعدُ، فإن الذي يقوله تقدير برؤية الأجسام، ولم يمتحن بصره بغير الأجسام والأعراض؛ إذ كيف سبيل الرؤية له.
وبعدُ، فإن كل جسم يرى، وإن كانت الدقة والبعد يحجبان فيجوز ارتفاعهما عن بصر غير فيرى على ما يرى ملك الموت مَنْ بأطراف الأرض ووسطها مما لو اعتبر ذلك ببصر البشر، لما احتمل الإدراك، فثبت أن الذي قدر به ليس هو سبب تعريف ما يبصره، ولكن بسبب تعريف ما يحجب به البصر، فإذا ارتفع رأى مع ما كان المنفي رؤيته لذاته عرض، وإلا فكل جسم يرى، فإن لزم إنكار الرؤية لما ليس بجسم أو لما لا يرى إلا بما ذكر للزم الإقرار به؛ لأن الذي لا يرى لذاته هو العرض، وإلا فكل غير يرى، ولا قوة إلا باللَّه.
وعورض بأمر الدنيا ومحال العرض بذلك لا تسقط المحنة وترفع الكلفة والدنيا هي لهما.
ثم ذكر في أمر موسى أن ذلك على علم الإحاطة بالآيات، وقد بيّنا فساد ذلك، وما ذلك العلم بالذي يسأل وهو رسول بعث إلى ما به نجاة الخلق، وذلك لا يكون بغير الممتحن؛ إذ هو تبليغ الرسالة والدعاء إلى العبادة وهي محنة، بل سأل الرؤية؛ ليجل قدره وليعرف عظيم محله عند اللَّه، أو أن يكون اللَّه أمره به؛ ليعلم الخلق جواز
29
ذلك، وباللَّه التوفيق.
ثم استدل بأنه لم ير من يعقل إنما أُري الجبل والجبل لا يعقل ليعلمه وليراه، فيقال له: ولو كانت الآية فالجبل لا يراها ولا يعقل، وإذا كان كذلك فالآية إذا صار اندكاك الجبل وانشقاقه لا أن أراه الآية يستدل بها، وفي هذا آية قد أرى موسى الآية، وهو اندكاك الجبل، واللَّه يقول: (لَنْ تَرَانِي)، وحملته على الآية، وقد رآها، ولا قوة إلا باللَّه.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى توبته لو كان سؤاله على الأمر؟
قيل: على العادة في الخلق من يحدثه عند الأهوال بلا حدوث ذنب، أو لما رأى من جلال اللَّه وعظمته فزع إلى التوبة وإحداث الإيمان به، وإن لم يكن ما يوجب ذلك، وذلك متعارف في الخلق.
ويحتمل أن يكون قوله: (لَنْ تَرَانِي) كان عنده جواز الرؤية في الشاهد، واحتمال وسعه ذلك بما وعد اللَّه في الآخرة فرجع عما كان عنده، وآمن بالذي قال: (لَنْ تَرَانِي)، وإن كان في الأصل إيمانه داخلًا على نحو إحداث المؤمنين الإيمان بكل آية تنزل، وبكل فريضة تتجدد، وإن كانوا في الجملة مؤمنين بالكل، واللَّه الموفق.
وقد بيّنا ما قالوا في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)، والأصل في الكلام أنه إذا كان على أمر معهود، أو يقرن به المقصود إليه صرف عن حقيقته، وإلا لا، وذلك نحو قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، و (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ).
وأصله: أن من قال: رأيت فلانًا، أو نظرت إلى فلان، لم يحتمل غير ذاته، وإذا قال: رأيته يقول كذا، ويفعل كذا، أنه لا يريد به رؤية ذاته، فمثله أمر قصة موسى، وهذه الآية.
وروي عن ضرار بن عمرو أنه أتى البصرة، فقال: يا أهل البصرة، إما أن كان
30
موسى مشبهًا، في ما أن كان اللَّه يُرَى؛ لأنه لو كان بالذي لا يرى فسأل ربَّه رؤيته، كان جاهلًا به، مشبهًا خلقه به، فدل أنه يرى.
ثم الأصل أن من تأمل الذي ذكره الكعبي عرف أنه مشبهي المذهب؛ لأنه لم يذكر المعنى الذي له يجب أن تكون الرؤية بتلك الشرائط، إنما أخبر أنه كذلك وجد، وهو قول المشبهة أنه وجد كل فاعل في الشاهد جسمًا، وكذا كل عالم، فيجب مثله في الغائب، ثم ذكر معنى رؤية الجسم، ولم يذكر معنى رؤية غير الجسم حتى يكون له دليلًا.
وبعدُ، فإنه نفي بالدقة والبعد وهما زائلان عن اللَّه تعالى، ثم احتج بامتداح الله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)، وقال: لا يجوز أن يزول فمثله عليه في قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وقوله: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يجوز أن يزول، ثم قد وصف اللَّه بالرؤية على إسقاط ما ذكر، فثبت أن ذلك طريق لا يؤدي عن كنه ما به الرؤية.
فَإِنْ قِيلَ: كيف يرى؟
قيل: بلا كيف؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة، بل يرى بلا وصف قيام، وقعود، واتكاء، وتعلق، واتصال، وانفصال، ومقابلة، ومدابرة وقصر، وطول، ونور، وظلمة، وساكن، ومتحرك، ومجانس، ومباين، وخارج، وداخل، ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا....) الآية.
قال أبو بكر الأصم: تجلي بالآيات والأعلام التي بها يرى لا رؤية الذات، وكذلك قال في قوله: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ): إنه إنما سأل ربه الآيات والأعلام التي بها يُرَى لا رؤية الذات، وقد بينا بُعْدَه وإحالته؛ لما قد أعطاه من الآيات والأعلام: ما فيه غنية عن غيرها، فلا يحتاج إلى غيرها.
31
وقال الحسن: إن موسى سأل ربه الرؤية في غير وقت الرؤية، وهو يقر بالرؤية، لكنه يقول: سألها في الدنيا وبنية هذا العالم لا تحتمل ذلك.
ألا ترى أنه قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، أخبر أن الجبل لا يستقر له، فكيف تستقر أنت؛ لكنه ينشيء بنية تحتمل ذلك.
وقال الحسن: لذلك قال موسى: إِنِّي (تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أن ليس في الدنيا الرؤية، إلى نحو هذا يذهب الحسن، وقد ذكرنا نحن الوجه على قدر ما حضر لنا.
وقال أهل التأويل: قوله: (تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)، أي: ظهر، لكن لا يفهم من ظهوره ما يفهم من ظهور الخلق على ما ذكرنا في قوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، وغيرهما من الآيات، لا يقدر استواؤه باستواء الخلق، وكذلك مجيئه، فعلى ذلك ظهوره، وباللَّه العصمة. وروي أن في التوراة " أنه جاء من طور سيناء، وظهر من جبل ساعور واطلع من جبل فاران " وتأويله جاء وحيه
32
على موسى في طور سيناء، وظهر على عيسى في جبل ساعور، واطلع على مُحَمَّد في جبل فاران، ثم العجب أن كيف اجترأ موسى بالسؤال بسؤال مثله؟! (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، لكنه يحتمل وجوهًا:
أحدها: على الأمر بالسؤال على ذلك؛ ليعلم أنه يرى، ويعتقدوا ذلك.
أو على الظن منه لما رأى أنه أعطاه أشياء لا يكون مثلها في الدنيا إنما يكون في الآخرة، خص بها؛ من نحو انفجار العيون من الحجر من غير مؤنة تكون لهم في ذلك من حفر الأنهار وإصلاحها وأنواع المؤن، ونحو ما أعطاهم من اللباس الذي ينمو ويزداد على قدر قامتهم وطولهم، ومن نحو ما أعطاهم من المن والسلوى على غير مؤنة ولا جهد، وذلك كله وصف الجنة، فلما رأى ذلك ظن أن الرؤية -أيضًا- تكون في الدنيا على ما كان له من أشياء لم يكن مثلها لأحد في الدنيا، أو لما رأى أنه سمع كلام ربه، وألقى على مسامعه كلامه لا من مكان، ولا من قريب، ولا من بعيد، ولا من أسفل، ولا من أعلى، ولا من فوق، ولا من تحت، لكنه سمعه بما شاء، وكيف
33
شاء، بلطفه، فعلى ذلك ظن أنه يجوز له أن يسأل ربه الرؤية، فيريه بما شاء كيف شاء بلطفه كما أسمع كلامه بلطفه لما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي... (١٤٤)
سمى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - موسى وسائر الأنبياء - عليهم السلام - بأسماء الجوهر: موسى، وعيسى، ونوح وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وسمى نبينا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبيًّا ورسولًا، وذلك يدل على تفضيله، وكذلك سمى سائر الأمم المتقدمة بـ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)، و (يَا بَنِي آدَمَ)، وسمى أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ونحوه،
فذلك يدل -أيضًا- على تفضيل أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيرها من الأمم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي).
كان مصطفى ومفضلًا بالكلام على الناس كافة الأنبياء وغيرهم؛ لأن اللَّه تعالى لم يكلم أحدًا من الرسل إلا بسفير سوى موسى؛ فإنه كلمه، ولم يكن بينهما سفير.
وأما قوله: (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي) على أناس زمانه، وأهله خاصة، ويحتمل: برسالاتي التي بين موسى وبين اللَّه تعالى، وهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن الله تعالى لا يرسل رسولًا إلا وهو يستحق الرسالة، ولو كان طريقه الاستحقاق لا الإفضال والإحسان، لم يكن للامتنان معنى، دلَّ أن طريقه الإفضال والإحسان لا الاستحقاق، واللَّه أعلم.
وعلى قول المعتزلة لا يكون اللَّه مصطفيًا موسى ولا غيره من الأنبياء، ولكن هم الذين اصطفوا أنفسهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) يخرج على وجهين:
أحدهما: القبول، أي: اقبل ما أعطيتك؛ كقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً).
ويحتمل قوله: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ)، أي: اعمل بما آتيتك بأحسن العمل، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمته التي أنعمها عليه، من التكليم والرسالة وغيرهما من النعم، والله الموفق.
* * *
قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
يحتمل قوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ) وجهين:
أحدهما: أنه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لما تولى كتابتها الملائكة البررة الكرام،
35
أضاف ذلك إلى نفسه تفضيلًا لهم وتعظيمًا على ما ذكر في الكتاب في غير موضع؛ من نحو قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، أخبر أن طاعة الرسول له طاعة، وغير ذلك، فكذلك هذا، واللَّه أعلم.
أو أضاف ذلك إلى نفسه لما كان ويكون إلى يوم القيامة، إنما يكون بـ كن الذي كان منه في الأوقات التي أراد أن يكون، فعلى ذلك كَتْبُ تلك الألواح كان تحت ذلك الكن، وإن كان أضاف بعض تلك الأشياء إلى نفسه؛ كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) و (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)، (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، كذا وخلق لكم كذا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ)، ونحو ذلك، فذلك كله كان تحت قوله: (كُنْ) فكان على ما أراد أن يكون، في الأوقات التي أراد أن تكون، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
يحتمل قوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ): مما يقع للعباد الحاجة إليه، ويحتمل: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من أمره ونهيه، وحله وحرامه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَوْعِظَةً).
قال: الموعظة: هي التي تحمل القلوب على القبول، والجوارح على العمل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الموعظة: هي التي تنهى عما لا يحل.
قال أبو بكر: الموعظة: هي التي تلين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة، وتصلح الأعمال الفاسدة.
قال الشيخ رحمه اللَّه -: وعندنا الموعظة: هي تذكر العواقب، وتحمله على العمل بها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
36
قيل: تقصيلًا لما أمروا به، ونهوا عنه.
وقيل: بيانًا لكل ما يحتاج إليه.
وقوله: (فَخُذْهَا) يحتمل -أيضًا- وجهين:
يحتمل قوله: (فَخُذْ)، أي: اقبل، على ما ذكرنا في قوله: (فَخُذ مَا آتَيتُكَ).
ويحتمل: اعمل بما فيها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِقُوَّةٍ) قال أهل التأويل: بجد ومواظبة، ولكن قوله: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) القوة المعروفة، وعلى قول المعتزلة لا يكون أخذًا بقوة، وقد أخبر أنه أخذها بقوة؛ لأنهم يقولون: إن القوة تكون قبل الفعل، ثم يقولون: إنها لا تبقى وقتين، فيكون في الحاصل لو كانت قبل الفعل أخذًا بغير قوة دل أنها مع الفعل، وتقول المعتزلة: دل قوله: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) على أن القوة قد تقدمت الأمر بالأخذ، لكن لا يكون ما ذكروا؛ لأنه أمر باخذ بقوة دل أنها تقارن الفعل لا تتقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا).
يحتمل قوله: (يَأْخُذُوا) ما ذكرنا من الوجهين القبول أو العمل، أي: مرهم يقبلوا بأحسن القبول.
ويحتمل: مرهم يعملوا بأحسن ما فيها من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام.
ويحتمل قوله: (بِأَحْسَنِهَا)، أي: بما هو أحكم وأتقن.
أو بأحسن مما عمل به الأولون؛ إذ فيه أخبار الأولين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ).
قال بعض أهل التأويل: قال ذلك لبني إسرائيل: سأريكم دار الفاسقين، يعني: سنة الفاسقين، وهو الهلاك؛ كقوله تعالى: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ).
وسنته في أهل الفسق والكفر والهلاك.
37
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ): جهنم، وأمكن أن يكون الخطاب للفسقة، سأريكم يا أهل الفسق دار الفاسقين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... (١٤٦)
يخرج هذا على وجهين:
أحدهما: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) أي: سأصرفهم عن قبولها وتصديقها؛ إذ لم يستقبلوها بالتعظيم لها، بل استهزءوا بها واستخفوا بها على علم منهم أنها آيات من الله وحجة.
والثاني: سأصرف عن وجود الطعن والقدح فيها والكيد لها، ثم إن كل واحد من هذين الوجهين يتوجه على وجهين:
قال الحسن: إن للكفر حدًّا إذا بلغ الكافر ذلك الحد يطبع عليه، فلا يقبل ولا يصدق آياته بعد ذلك.
والثاني: أنهم كانوا يتعنتون في آياته ويكابرون في ردها مع علمهم أنها آيات وحجج من اللَّه، فإذا تعانتوا صرفهم عن قبولها وتصديقها، وهو كقوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم)، أي: خلق منهم فعل الزيغ وفعل الانصراف، وهكذا كل من يختار عداوة اللَّه، فاللَّه لا يختار له ولايته، ولكن يختار له ما اختار هو.
وأما قوله: (سَأَصْرِفُ) عن وجود الطعن فيها والقدح؛ وذلك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل للرسل والأنبياء أضدادًا من كبراء الكفرة وعظمائهم، وكانوا يطعنون في الآيات، ويقدحون فيها، فأخبر أنه يصرفهم عن وجود الطعن فيها والقدح والكيد لها، أي: لا يجدون فيها مطعنًا ولا قدحًا.
والثاني: قوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) الهلاك والإبطال، بل هم المهلكون والآيات هي الباقية، ثم اختلف في الآيات:
قال الحسن: آيَاتِيَ: ديني، وتأويله ما ذكرنا أنهم إذا بلغوا ذلك الحد صرفهم عنها.
وقال غيره: آياته: حججه وبراهينه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
كانوا يتكبرون هم على الرسل لما لم يروهم أمثالًا لأنفسهم وأشكالًا، وهكذا كل من تكبر على آخر يتكبر لما لم يره مثالًا لنفسه ولا شكلًا، أو يتكبر لما يرى نفسه سليمة عن العيوب، ويرى في غيره عيوبًا، أو يرى لنفسه حقوقًا عليه فيتكبر، فإذا كان التكبر لهذا، فالخلق كلهم أكفاء بعضهم لبعض؛ لأنهم أمثال وأشكال، وفيهم العيوب والحاجات، فلا يسع لأحد التكبر على أحد، وإنما التكبر لله تعالى، فله يليق لما لا مثل له ولا شكل، منزه عن العيوب كلها والحاجات؛ لذلك كان هو الموصوف بالكبرياء والعظمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِغَيْرِ الْحَقِّ)، أي: ليسوا هم بأهل الكبر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) أمكن أن يكون قوله: (يَرَوْا)، أي: إن علموا أنه آية لا يؤمنون به أبدًا، هذا في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا.
(وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا).
أي: وإن علموا أنه سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا ولا يتبعوه؛ مخافة أن تذهب بأسهم ومكانتهم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي: وإن علموا، أن ذلك هو سبيل الغى والباطل يتخذوه سبيلًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
يحتمل قوله: (ذَلِكَ) الصرف الذي ذكر عن آياته لما كذبوا الآيات بعد علمهم أنها آيات من اللَّه، (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) غفلة الإعراض والعناد لا غفلة الجهل والسهو.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ... (١٤٧)
أي: الذين كذبوا بالآيات والبعث بعد الموت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: أنهم كانوا مؤمنين من قبل فكذبوا الآيات، فكفروا بها، فحبطت الأعمال التي كانت لهم في حال الإيمان، وبطلت.
ويحتمل: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): المعروف الذي كانوا يفعلون في حال الكفر؛ من نحو صلة الرحم، والصدقات وغيره من المعروف، والخيرات التي عملوا بها، حبط ثواب ذلك كله إذا لم يأتوا بالإيمان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
أي: ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من الاستهزاء بالآيات والاستخفاف.
* * *
قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا).
قوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) كيفية وصف اتخاذ العجل ما ذكر في سورة طه بقوله: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ...)، الآية، وصف اللَّه - تعالى - قوم موسى بعضهم بالهداية، والعدالة، واتباع الحق بقوله: قوله تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)، وبعضهم وصفهم بالسفَاهَة، وقلة الفهم والضعف في الدِّين بقولهم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وقال: هاهنا: اتخذوا العجل إلهًا عبدوه، يذكر هذا - واللَّه أعلم - لما لم يعرفوا نعم اللَّه ولم يتفكروا في آياته وحججه، يذكر هذا لنا لننظر في آياته وحججه والتفكر في نعمه، فنؤدي شكرها، ونتدبر في آياته وحججه لنتبعها ولا نضيعها على
40
ما ضيع قوم موسى.
وقوله: (مِنْ بَعْدِهِ) أي: من بعد مفارقة موسى قومه.
وقوله: (مِنْ حُلِيِّهِمْ)، وقال في موضع آخر: (أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)، وكانت تلك الحلي عارية عندهم من قوم فرعون، بقوله: (أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) أضاف إلى فرعون، وأضاف هاهنا إلى قوم موسى، بقوله: (مِنْ حُلِيِّهِمْ) دل أن العارية يجوز أن تنسب إلى المستعير.
وفيه دلالة أن من حلف: لا يدخل دار فلان، فدخل دارًا له عارية عنده يحنث.
وقوله: (عِجْلًا جَسَدًا).
41
قَالَ بَعْضُهُمْ: صورته كانت صورة عجل، ولم يكن عجلاً في جوهره.
وقيل: الجسد هو الذي لا تدبير له، ولا تمييز، ولا بيان؛ لكنه ذكر فيه هنا ما لا يحتاج إلى هذا، وهو قوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) لكنه كأنه قال: عجلًا له جسد يذكر سفههم أنهم عبدوا من لا تدبير له ولا كلام ولا سبب للذي يغتر به أو دعاء، واختاروا، الهيئة من وصفه ما ذكر.
وقوله: (لَهُ خُوَارٌ) قيل: إن السامري قد أخذ قبضة من أثر الرسول، فألقى تلك القبضة في الحلي الذي ألقوه في النار؛ فصار شبه عجل له خوار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: صاغ من حليهم عجلاً؛ فنفخ فيه من تلك القبضة فخار خوارًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن السامري كان هيأ ذلك العجل الذي اتخذه بحال حتى إذا مسه وحركه: خار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان وضع في مهب الريح فيدخل الريح في دبره، ويخرج من فيه، فعند ذلك يخور. واللَّه أعلم.
وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا).
ذكر أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، وفي سورة طه: (وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) ليس فيه أنه إن كان يكلمهم أو يملك لهم ضرًا ونفعًا يجوز أن يعبد؛ ليعلم أن ذكر حظر الحكم في حالٍ لا يوجب إباحة ذلك في حالٍ أخرى.
وفيه: أن امتناع العلة عن اطرادها يوجب نقضها، وإن كان اطرادها في الابتداء في معلولاتها لم يدل على صحتها.
42
وفي قوله: (لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) (وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) ذكر سفههم لعبادتهم شيئًا لا يملك لهم ضرّا ولا نفعًا.
وقوله: (اتَّخَذُوهُ) أي: اتخذوه، إلهًا عبدوه، (وَكَانُوا ظَالِمِينَ) في عبادتهم العجل؛ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، والألوهية في غير موضعها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ... (١٤٩) هذا حرف تستعمله العرب عند وقوع الندامة وحلولها، وتأويله: لما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم، أي: ندموا على ما كان منهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا) أي: لئن لم يرحمنا ربنا، ويوفقنا للهداية والعبادة له، ويغفر لنا لما كان منا من العبادة للعجل، والتفريط في العصيان (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
ويحتمل قوله: (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا) ابتداء طلب الرحمة والمغفرة؛ كقوله: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ...) الآية.
ويحتمل التجاوز لما كان منهم والعفو.
وفي قوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ) بعد قوله: (لَهُ خُوَارٌ) دلالة أن الكلام هو ما يفهم منه المراد ليست الحروف نفسها؛ لأنه أخبر أن له خوارًا، ثم أخبر أنه كان لا يكلمهم، دل أن الصوت وإن كان ذا هجاء وحروف ليس بكلام، وذلك يدل لأصحابنا في مسألة: إذا حلف ألا يكلم فلانًا، ثم خاطبه بشيء لا يفهم مراده أن ذلك ليس بكلام، ولا يحنث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا... (١٥٠) والأسف: هو النهاية في الحزن والغضب؛ كقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، هو النهاية في الحزن والأسف في موضع الغضب، وكقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، أي: أغضبونا، لكن الغضب يكون على من دونه، والأسف والحزن على من فوقه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَضْبَانَ) أي: لله على قومه لعبادتهم العجل، وتركهم عبادة اللَّه حزنا على قومه لما يلحقهم بعبادتهم العجل من العقوبة، وهكذا الواجب على من رأى المنكر أنه يغضب لله على مرتكب ذلك المنكر لمعاينته المنكر، ويأسف عليه لما يلحقه من العقوبة والهلاك؛ رحمة منه له ورأفة، ويلزم الشكر لربه؛ لما عصمه عن مثله، وكذلك وصف رسوله - عليه السلام - بالأسف والحزن لتكذيبهم إياه حتى كادت نفسه تهلك حزنًا عليهم؛ حيث قال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، ذكر هذه القصة لنا؛ لنعرف: أن كيف نعامل أهل المناكير وقت ارتكابهم المنكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي).
يخرج هذا على وجهين:
أحدهما: بئسما خلفتموني: بئس ما اخترتم من عبادتكم العجل على عبادة اللَّه.
والثاني: بئسما خلفتموني باتباعكم السامري إلى ما دعاكم إليه بعد اتباعكم إياي وأخي رسول اللَّه وما أمركم به ودعاكم إلى عبادة اللَّه. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أعجلتم ميعاد ربكم؛ كقوله: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) أي: أعجلتم الوعد الحسن الذي وعد لكم ربكم، وهو قوله: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً).
وقال آخرون: قوله: (أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي: عذاب ربكم وغضبه بعبادتكم العجل
44
واتخاذكم له إلهًا، وقد سمى اللَّه تعالى العذاب في غير موضع من القرآن: أمرًا؛ كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، ونحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ).
قال أكثر أهل التأويل: ألقى الألواح، أي: طرحها على الأرض غضبًا منه، فوقع منها كذا وكذا، وبقي كذا، لكن لا يجوز أن يفهم من قوله: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ) طرحها لا غير؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ)، ليس يفهم منه الطرح والإلقاء، ولكن إنما فهم منه الوضع، فعلى ذلك قوله: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ) أي: وضع؛ لأنه أخذ رأسه ولحيته، أعني: رأس أخيه هارون، ولا سبيل له إلى أن يأخذ رأسه ولحيته والألواح في يديه، فوضعها على الأرض، ثم أخذ رأسه ولحيته يجرُّه إليه، على ما ذكر في سورة طه؛ حيث قال: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) دل هذا أنه كان أخذ رأسه ولحيته جميعًا لشدة غضبه لله على صنيع قومه.
وفي الآية دلالة العمل بالاجهاد؛ لأنه قال: (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي)، ولا يحتمل أن يكون موسى يأخذ رأسه بالوحي لأمر من اللَّه، ثم يقول له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، ولا تفعل كذا.
وفيه أيضًا: أن هارون لما قال له: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ) إنما قال ذلك بالاجتهاد؛ حيث قال: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) لأنه لو كان يقول له بالوحي أو بالأمر، لم يكن ليعتذر إليه بقوله فلا تشمت بي الأعداء.
وقوله: (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ).
فيه دلالة أنه إنما أخذ شعر رأسه؛ لأنه لو كان أخذ رأسه، لكان لا يحتاج إلى أن يجره إليه؛ دل أنه كان أخذ بشعر رأسه.
وكذلك قوله: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي)، فيه دلالة لأصحابنا أن من
45
مسح رأسه ثم أزال شعره، لم يسقط عنه حكم المسح، وإذا مسح على لحيته ثم سقطت زال عنه حكمه، ولزم غسل ذقنه؛ لما سمى الشعر رأسًا، وسمى اللحية لحية، وسقوطها يسقط حكم المسح، وسقوط شعر الرأس لا. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي).
خرج هذا صلة قول موسى لهارون لما قال له: (يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)، فقال عند ذلك: (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي... (١٥١)
قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خص أخاه بسؤال المغفرة؛ لأنهم جميعًا قد عبدوا العجل سوى أخيه هارون؛ لذلك خضه بسؤال المغفرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما قال ذلك جوابًا عما قال هارون: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ...) الآية.
ويحتمل أن يكون تخصيص السؤال له بالمغفرة لما سأل ربه أن يجعل هارون له وزيرا بقوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)، لما سأل ربه أن يشركه في أمره، ويشد به أزره، فعلى ذلك خصَّه بسؤال المغفرة. والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
لأن كل من يرحم دونه إنما يرحم برحمته.
وقوله؛ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ... (١٥٢)
أي: عبدوا العجل.
الآية ١٥٢ وقوله تعالى :﴿ إن الذين اتخذوا العجل ﴾ أي عبدوا العجل ﴿ سينالهم غضب من ربهم وذلّة في الحياة الدنيا ﴾ القتل والهلاك في الدنيا. وقال بعضهم : قوله ﴿ غضب من ربهم ﴾ القتل والهلاك ﴿ وذلّة في الحياة الدنيا ﴾ الجزية والسّبي والقهر.
ويحتمل قوله تعالى :﴿ وذلّة في الحياة الدنيا ﴾ ذكر الذّم بصنيعهم وثناء الخير على ما كان بصنيع الخير والمحمدة في الدنيا وثناء الخير.
وقوله تعالى :﴿ سينالهم غضب من ربهم ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أي قد نالهم ﴿ غضب من ربهم ﴾ وما ذكر.
والثاني : أن يكون هذا مذكورا في كتبهم : أن من اتخذ العجل معبودا ﴿ سينالهم غضب من ربهم ﴾ فإن كان هذا خبرا عما في كتبهم فسينالهم على الوعد صحيح، وإلا على الخبر قد نالهم.
[ وقوله تعالى ]١ :﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ أي كذلك نجزي كل مفتر على الله تعالى.
١ ساقطة من الأصل وم..
(سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: غضب من ربهم: عذاب في الآخرة لمن مات منهم على ذلك، (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) والقتل والهلاك في الدنيا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ): القتل، والهلاك، (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الجزية والسبي والقهر.
ويحتمل قوله تعالى: (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وذكر الذم بصنيعهم وثناء الشر، على ما كان بصنيع الخيرِ المحمدةُ في الدنيا وثناءُ الخير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: قد نالهم غضب من ربهم؛ لما ذكر.
والثاني: أن يكون هذا مذكورًا في كتبهم أن من اتخذ العجل معبودًا سينالهم غضب من ربهم، فإن كان هذا خبرًا عما في كتبهم، فسينالهم على الوعد الصحيح، وإلا على الخبر، أي: قد نالهم.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).
أي: كذلك نجزي كل مفتر على اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا... (١٥٣)
قال أهل التأويل: قوله: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) يعني: الذين عبدوا العجل.
(ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو: في كل من عمل السيئات - أي سيئة كانت - إذا تاب عنها، وندم عليها، وطلب من اللَّه المغفرة، غفر له.
قوله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ).
الذي غضب لله على قومه بعبادتهم العجل.
ولا يحتمل ما قاله أبو بكر الأصم: أن الغضب عقوبة وشتم؛ لأن الغضب معروف، لا بجوز أن يتأول ما قال هو.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ).
يعني: الألواح التي وضعها على الأرض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني في نسخة الألواح لما كانت نسخت من اللوح المحفوظ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى) أي: الكتب التي انتسختها بنو إسرائيل من تلك الألواح.
وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةٌ) أي: هدى من كل ضلالة، وبيان من كل غي وشبهة، ورحمة من كل سخط وغضب.
(لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).
أي: للذين يخشون ربهم فيعملون بها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا... (١٥٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لِمِيقَاتِنَا)، أي: لتمام الموعدة التي وعد، وهو الأربعون
48
الذي وعد، ولكن لا ندري ما ذلك الميقات الذي ذكر؟
وقوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا مع هارون، فَعُبِدَ العجل في أفنيتهم، فلم ينكروا ولم يغيروا عليهم، فأخذتهم الرجفة.
وقال الحسن: إنهم جميعًا قد عبدوا العجل إلا هارون، فالرجفة التي أخذتهم إنما أخذتهم عقوبة لما عبدوا العجل، ولسنا ندري من أُولَئِكَ السبعون الذين اختارهم موسى؟ وأمكن أن يكون موسى اختار السبعين ليخرجوا معه؛ فيكونوا شهداء له على إنزال التوراة عليه وكلام ربه.
وقيل: هم الذين تركهم في أصل الجبل، فلما جاءهم موسى بالتوراة قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهلكوا لقولهم ذلك، وقد ذكرنا أنا لا ندري من كانوا؟
وقيل: اختارهم موسى ليتوبوا إلى اللَّه مما عمل قومهم.
وقوله: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ).
قال بعض أهل التأويل: لو شئت أمتهم وإياي بقتل القبطي.
وقال آخرون: لو شئت أهلكتهم على نفس الإهلاك وإياي على القدرة، أي: تقدر على إهلاكي، ولكن لا تهلكنا لما لم يكن ما نستحقه ذلك، ويشبه أن يكون قوله:
49
(لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ) إهلاك فتنة وإياي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا).
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: لك أن تهلكنا ابتداء إهلاك السفهاء بما فعلوا.
والثاني: يقول: لو شئت أهلكتهم وإياي من قبل، ولم تهلكنا يومنا؛ لأن موسى إذا - أتى قومه وأخبرهم أنهم أهلكوا بسبب كذا لم يصدقه قومه بذلك، ولكنهم يتهمونه، ويقولون: أنت فتلتهم على ما ذكر في بعض القصة أنه خرج بهارون إلى بعض الجبال فمات هارون هناك، فأخبر قومه بذلك فكذبوه، وقالوا: أنت قتلته؛ فعلى ذلك جائز أن يكون هاهنا خاف أن يتهمه قومه في أُولَئِكَ ولا يصدقوه فيما حل بهم. والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا).
يحتمل هذا وجوهًا:
يحتمل: يراد به التقرير.
ويحتمل الإنكار والرد.
ويحتمل الإيجاب.
أما الإنكار: فيكون معناه: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، أي: لا تفعل ولا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، ومثل هذا قد يقال: يقول الرجل لآخر: أتفعل أنت كذا؟ على الإنكار، أي: لا تفعل؛ فعلى ذلك هذا. واللَّه أعلم.
ويراد به: الإيجاب؛ كأنه قال: لك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا، وما هي إلا
50
فتنتك أن يكون ذلك امتحانًا وابتلاء ابتداء، أي: تفعله امتحانًا وابتلاء لا تعذيبًا.
ويحتمل أن يكون على الاستفهام، لكن لم يخرج له الجواب؛ كقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ) ونحوه مما لم يخرج له جواب؛ فعلى ذلك هذا.
ويجوز أن يكون إهلاكه إياهم محنة بتفريط كان من بعضهم، وإن كان بعضهم برآء من ذلك على ما كان من أهل المركز من العصيان، وكان الفشل والهزيمة عليهم محنة منه إياهم؛ كقوله: (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ...) الآية؛ فعلى ذلك هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ).
قال أبو بكر: تضل بها، أي: تنهى من تشاء نهيًا ما لولا ذلك النهي لم يكن الفعل فعل الضلال، (وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) أي تأمره أمرًا ما لولا ذلك الأمر لم يكن الفعل، فعل الاهتداء، لكن حرف " من " إنما يعبر به عن الأشخاص دون الأفعال، فلو كان على ما ذكر هو، لقال: (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ)، فإن لم يقل ذا، ثبت أنه ليس على ما ذكر.
وتأويله عندنا: أنه يخلق فعل الضلال ممن يعلم أنه يختار ذلك، ويخلق فعل الهدى ممن يعلم أنه يختار ذلك، وهو خالق كل شيء.
وأصل ذلك: أن جميع ما يضاف إلى اللَّه من طريق الأفعال على اختلاف الإضافة باختلاف وجوهها حقيقة، ذلك من اللَّه خلق ما أضيف إليه من الوجه الذي يحق وصفه بأنه خالقه؛ فعلى ذلك قوله: (تَهْدِي) و (تُضِلُّ).
ويحتمل: توفق وتخذل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْتَ وَلِيُّنَا) أي: أنت أولى بنا.
ويحتمل: أنت ولي هدايتنا.
أو: أنت ولي نعمتنا.
(فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ).
51
الآية ١٥٥ وقوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ﴾ قال بعضهم :﴿ لميقاتنا ﴾ أي لتمام الموعدة التي وعد، وهو الأربعون الذي وعد. ولكن لا ندري ما ذلك الميقات الذي ذكر ؟
وقوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه ﴾ قال بعضهم : السبعين الذين اختارهم موسى ليكونوا مع هارون، فعبدوا العجل في أفنيتهم، فلم ينكروا، ولم يغيروا عليهما١، ﴿ فلمّا أخذتهم الرجفة ﴾ وقال الحسن : إنهم٢ جميعا قد عبدوا العجل إلا هارون، فالرجفة التي أخذتهم إنما أخذتهم عقوبة لما عبدوا العجل. ولسنا ندري من أولئك السبعون٣ الذين اختارهم موسى ؟
وأمكن أن يكون موسى اختار السبعين ليخرجوا معه، فيكونوا شهداء له على إنزال التوراة عليه كلام ربه.
وقيل : هم الذين تركهم في أصل الجبل، فلما جاءهم موسى بالتوراة قالوا ﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ [ البقرة : ٥٥ ] فأخذتهم الصاعقة، وهلكوا، لقولهم ذلك. وقد ذكرنا أنّا لا ندري من كانوا ؟
وقيل : اختارهم موسى ليتوبوا إلى الله مما عمل قومهم.
وقوله تعالى :﴿ فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم ﴾ قال بعض أهل التأويل : لو شئت أمتّهم وإياي بقتل القبطيّ. وقال آخرون :﴿ لو شئت أهلكتهم ﴾ على نفس الإهلاك ﴿ وإياي ﴾ على القدرة ؛ أي تقدر على إهلاكي، ولكن لا تهلكنا لما لم يكن ما نستحقه٤ ذلك. ويشبه أن يكون قوله ﴿ لو شئت أهلكتهم ﴾ إهلاك فتنة وإياي.
وقوله تعالى :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ هذا يخرّج على وجهين :
أحدهما : يقول، والله أعلم، لك أن تهلكنا ابتداء إهلاك [ وتهلك السفهاء ]٥ بما فعلوا.
والثاني : يقول :﴿ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ﴾ وما تهلكنا بقومنا٦ لأن موسى أتى قومه وأخبرهم أنهم أهلكوا بسبب كذا، لم يصدّقه٧ قومه بذلك، ولكنه يتهمونه، ويقولون : أنت قتلتهم٨ على ما ذكر في بعض القصة أنه خرج بهارون إلى بعض الجبال، فمات هارون هناك، فأخبر قومه بذلك، فكذّبوه، وقالوا : أنت قتلته.
فعلى ذلك جائز أن يكون ههنا خاف أن يتّهمه قومه في أولئك، ولا يصدّقوه في ما حل بهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء ﴾ يحتمل هذا وجوها : يحتمل ما يراد به التقرير، ويحتمل الإنكار والرد، ويحتمل الإيجاب.
أما الإنكار فيكون معناه ﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء ﴾ أي لا تفعل، ولا تهلكنا ﴿ بما فعل السفهاء منا ﴾ ومثل هذا قد يقال : يقول رجل لآخر : أتفعل أنت كذا على الإنكار ؟ أي لا تفعل، فعلى ذلك هذا، والله أعلم، ويراد به الإيجاب، كأنه قال : لك ﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك ﴾ أن يكون ذلك امتحانا وابتلاء ابتداء ؛ أي تفعله امتحانا وابتلاء لا تعذيبا.
ويحتمل أن يكون على الاستفهام، لكن لم يخرج له الجواب كقوله تعالى :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾ [ الرعد : ٣٣ ] وقوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممّن افترى على الله كذبا ﴾ [ الأنعام : ٢١ ] ومحوه مما لم يخرج له جواب. فعلى ذلك هذا.
ويجوز أن يكون إهلاكه إياهم محنة بتفريط كان من بعضهم يراه من ذلك على ما كان من أهل المركز من العصيان، وكان الفشل والهزيمة عليهم محنة منه إياهم كقوله تعالى :﴿ إذ تحسّونهم بإذنه ﴾ الآية [ آل عمران : ١٥٢ ].
فعلى ذلك هذا.
وقوله تعالى :﴿ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء ﴾ قال أبو بكر :﴿ تضل بها ﴾ أي تنهى من فعل الاهتداء، لكنّ حرف من إنما يعبّر به [ عن ]٩ الأشخاص دون الأفعال. فلو كان على ما ذكر هو لقال : تضل به ما١٠ تشاء. فإن لم يقل ذا ثبت أنه ليس على ما ذكر.
وتأويله عندنا أنه يخلق فعل الضلال ممن يعلم أنه يختار ذلك، ويخلق فعل الهدى ممن يعلم أنه يختار ذلك [ لقوله تعالى ]١١ :﴿ هو خالق كل شيء ﴾ [ الأنعام : ١٠٢ ].
وأصل ذلك أن جميع ما يضاف إلى الله من طريق الأفعال على اختلاف الإضافة باختلاف١٢ وجوهها، حقيقة ذلك من الله ؛ خلق ما أضيف إليه من الوجه الذي يحق وصفه بأنه خالقه. فعلى ذلك قوله تعالى :﴿ وتهدي ﴾ و﴿ تضل ﴾. ويحتمل : توفّق، وتخذل.
وقوله تعالى :﴿ أنت وليّنا ﴾ أي أنت وليّ بنا، ويحتمل : أنت وليّ هدايتنا أو أنت وليّ نعمتنا ؛ ﴿ فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ [ كقوله تعالى ]١٣ ﴿ وأنت خير الراحمين ﴾ [ المؤمنون : ١٠٩و١١٨ ] لأن كل أحد دونه إنما يرحمه١٤ ويغفر [ له ]١٥ برحمته.
١ في الأصل وم: عليهم..
٢ في الأصل وم: إنه..
٣ في الأصل وم: السبعين..
٤ في الأصل وم: يستحقه..
٥ في الأصل وم: والسفهاء..
٦ الباء ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: يصدقوا..
٨ من م، في الأصل: قتلهم..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ من م، في الأصل: من..
١١ ساقطة من الأصل وم..
١٢ في الأصل وم: بالاختلاف..
١٣ ساقطة من الأصل وم..
١٤ في الأصل وم: يرحم..
١٥ ساقطة من الأصل وم..
وأنت خير الراحمين؛ لأن كل أحد دونه إنما يرحم ويغفر برحمته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ... (١٥٦)
تحتمل الكتابة الإيجاب، أي: أوجب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أو الإثبات، أي: أثبت لنا وأعطنا في هذه الدنيا حسنة ويكون كقوله: (آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاكْتُبْ لَنَا)، أي: وفق لنا العمل الذي نستوجب به الحسنة في الدنيا والآخرة.
ويحتمل: اكتب لنا في الدنيا الحسنات، ولا تكتب علينا السيئات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً) تختم بها الدنيا وتنقضي بها، وإلا ما من مسلم إلا وله في هذه الدنيا حسنة أتاه إياها، وعلى ذلك يخرج قوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أنهم إنما سألوا حسنة لأن يختموا عليها، ويكون قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ)، كذا، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (هُدْنَا إِلَيْكَ)، أي: ملنا إليك.
وقال غيرهم: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)، أي: تبنا إليك.
وقيل: لذلك سمت اليهود أنفسهم يهودًا، أي: تائبين إلى اللَّه، لكن لو كان كما ذكر، كان قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا) أي: تائبا، وذلك بعيد، ولكن
52
إن كان لذلك سموا فهو - واللَّه أعلم - (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا)، أي: لم يكن على المذهب الذي عليه اليهود، وكذلك لم يكن على المذهب الذي ادعت النصارى أنه كان عليه، ولكن كان حنيفًا مسلمًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
قال الحسن: يشاء أن يصيب عذابه من كفر باللَّه وكذب رسله، وشاء من أطاع الله وصدق رسله أن يصيب رحمته.
ودل قوله: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) أنه لما شاء أن يصيبهم عذابه شاء العمل والفعل الذي كان به يصيبهم؛ لأن حرف " مَن " إنما يعبر به عن بني آدم، وليس جائز أن يشاء لهم الإيمان ثم يشاء لهم أن يصيبهم عذابه، ولكن إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون ويختارون فعل الضلال على فعل الهداية، شاء لهم ما اختاروا.
وقوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
ما من أحد من مسلم وكافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون، وفيها يتقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، لا حظ للكافر فيها، وذلك قوله: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ): معصية اللَّه والخلاف له، (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، وهو كقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) جعل طيبات الدنيا نعمها مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها؛ فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة.
ويحتمل قوله - واللَّه أعلم -: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أنهم إنما سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي اللَّه ومخالفته، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) يحتمل: يؤتون الزكاة المعروفة.
ويحتمل: تزكية النفس؛ كقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠).
53
ومعلوم أنه لم يرد به زكاة المال، ولكن زكاة النفس بالتوحيد والتقوى، وكذلك قوله: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، هو تلك الزكاة لا الزكاة المعروفة زكاة المال؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وإن كان على الزكاة المعروفة فذلك في قوم ثقل عليهم واشتد إخراج الزكاة من أموالهم؛ كقوله: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ...) كذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).
قد ذكرنا في غير موضع أن من آمن بآيات اللَّه وصدقها فقد آمن باللَّه وبرسله، ومن كذب بآياته كذب باللَّه وخالف رسله؛ لأن طريق معرفة اللَّه ورسله إنما هو من طريق الآيات والحجج، ليس من طريق المشاهدات والمحسوسات؛ لذلك كان الإيمان بالآيات إيمانًا باللَّه وبرسله، والتكذيب بها كفر باللَّه ورسله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ... (١٥٧)
أي: يقفون أثر الرسول في كل سيرته، وفي كل أمره ونهيه، ويطيعونه؛ سماه رسولا ونبيًّا بقوله: (الرَّسُولَ النَّبِيَّ) والرسول: المبعوث على تبليغ الرسالة والمأمور بها على كل حال، والنبي: المنبئ لهم أشياء عند السؤال والاستخبار، والرسول هو المأمور بالتبليغ سألوه أو لم يسألوا شاءوا أو أبوا، وكان لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كلاهما: الإنباء والتبليغ؛ كقوله: (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا).
الأمي: ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ...) الآية.
54
(الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ).
أي: يجدونه مكتوبًا في التوراة أنه رسول نبي، وأنه أمي.
55
قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ).
لئلا يقولوا: إنك أخذت هذا من الكتب المتقدمة ومن علومها وحكمتها، (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)؛ لئلا يقولوا: إنه من تأليفك، ويعلموا أنه من عند اللَّه جاء به، لا من ذات نفسه.
58
وفي قوله: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ...) إلى آخر ما ذكر - دلالة إثباث رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن أُولَئِكَ لم يأتوا بالتوراة، والإنجيل فيقولون: لا نجد ما تذكر في التوراة والإنجيل؛ دل ذلك منهم على أنهم وجدوه كذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ).
أي: يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه يأمر بما أمر اللَّه به، وينهى عما نهى الله عنه.
(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ).
ما أحل اللَّه لهم.
(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ما حرم اللَّه عليهم يجدونه في التوراة أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء ولا يحل شيئًا ولا يحرم إلا بأمر من اللَّه له، لكنهم ينكرونه إنكار عناد ومكابرة؛ كقوله - تعالى -: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، وغيره.
ويحتمل قوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) الآية، أي: يأمرهم بما هو معروف في العقل وشهادة الخلقة، وهو التوحيد، وكذلك ينهاهم عما هو في العقل وشهادة الخلقة منكر، وهو الكفر رجميع المعاصي.
(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) أي: يحل ما هو طيب في العقل والطبع، ويحرم ما هو خبيث في العقل والطبع جميعًا؛ لأن من الأشياء ما هو مستخبث في الطبع لم يجعل غذاء البشر فيه، وإنما جعل غذاءهم فيما هو مستطاب في الطبع بلغ غايته في الطيب، ولا كذلك جعل غذاء البهائم والأنعام؛ هذا محتمل، واللَّه أعلم.
ثم المعروف الطيبات لو تركت العقول والطباع على ما هي عليه، لكانت لا حاجة تقع إلى رسول يخبر أن هذا معروف، وأن هذا طيب أو خبيث أو منكر، ولكن تعرف العقول والطباع ذلك كله، لكن يعترض العقول من الشبه فتمنعها من معرفة ذلك، فاحتاجت إلى رسول يخبر عن ذلك.
59
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ).
قيل: ما غلظوا على أنفسهم من الشدائد.
وقيل: إصرهم: شدة من العبادة والعمل.
وقيل: إصرهم: عهدهم.
وقِيل: إصرهم: أي الثقل الذي كان بنو إسرائيل ألزموه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي: ذنبهم الذي كانوا يذنبون، أي: عقوبة الذنب الذي أذنبوا في الدنيا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
قال الحسن: إن اليهود قالوا: يد اللَّه مغلولة، أي: محبوسة عن عقوبتنا، فقال - عز وجل -: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا)، أي: غلت أيديهم إلى أعناقهم في النار، فأخبر أن أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما آمنوا به وصدقوه، رفعت تلك الأغلال التي كانت عليهم عن هذه الأمة بطاعتهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقِيل: الأغلال التي كانت عليهم: الشدائد التي كانت عليهم، من نحو ما لا يجوز لهم العفو عن الدم العمد، ولا أخذ الدية، وما لا يجوز غسل
60
النجاسات إلا العظم، وغير ذلك من الأشياء التي لم تحل لهم، فأحلت لهذه الأمة.
ويحتمل أن يكون الإصر والأغلال التي كانت عليهم: من نحو ما حرم من أشياء بظلم كان منهم وتحريم؛ نحو قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ) وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)، إلى قوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ)، حرمت تلك الأشياء عليهم؛ عقوبة لبغيهم وظلمهم الذي كان منهم، أخبر أنه وضع عن هَؤُلَاءِ ذلك، لم يحرم ذلك عليهم.
وفي هذه الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه أمي، والأمي ما ذكر في قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) كان لا يتلوه ولا يخطه بيده، ثم أخبر على ما كان في كتبهم من غير أن عرف ما في كتبهم، أو نظر فيها وعرف لسانهم؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه.
وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ).
61
أي: صدقوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
(وَعَزَّرُوهُ).
قيل: أعانوه بأموالهم.
(وَنَصَرُوهُ).
بأيديهم بالسيف.
وقال الحسن: قوله: (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) إنما هو كلام مثنى، وهو إعانة.
وقيل: (وَعَزَّرُوهُ) أطاعوه (وَنَصَرُوهُ) أعانوه، وقيل: (عَزَّرُوهُ)، أي: عظموه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ).
يعني: القرآن؛ سماه نورًا؛ لما ينير الأشياء عن حقائقها بالعقول؛ لأن النور في الشاهد هو الذي يكشف عن الأشياء سواترها؛ فعلى ذلك القرآن هو نور؛ لما يرفع الشبه عن القلوب، ويكشف عن سواترها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمى نورًا؛ لما ينير الأشياء ويعرف به ما غاب وما شهد، فيصير الغائب به له كالشاهد.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا).
فيه دلالة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثًا إلى الناس كافة، وكذلك روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود "، وسائر الأنبياء بعثوا إلى أقوام خاصة، وإلى البلدان والقرى المعروفة المحدودة.
وفيه أنه لما خاطبه أن يقول للناس: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) أنه لا سبيل له إلى أن
62
يخاطب الناس والخلق جميعًا فيقول: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، ولكن إنما يكون ببعث الرسل إليهم، فينزل قول الرسول أنه رسول اللَّه إليكم منزلة قول نفسه: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، فانتشر ذكره بتبليغ الرسل إليهم، كأنه هو بلغ ذلك وقال لهم: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، أو أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - سخر الخلق حتى بلغ بعضهم بعضًا رسالته، حتى فشا خبره، وانتشر ذكره في جميع آفاق الأرض شرقًا وغربًا، وذلك من عظيم آيات نبوته ورسالته.
ثم بيَّن أنه رسول مَنْ فقال: رسول (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ)، وذكر تخصيص السماوات والأرض وإن كان له ملك الكل؛ لما هما النهاية في ملك البشر عند البشر.
أو ذكر هذا؛ ليعلموا أن من في السماوات والأرض له عبيده وإماؤه.
أو ذكر هذا؛ ليعلموا أن التدبير فيهما جميعًا لواحد؛ حيث اتصلت منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ) ذكر هذا؛ لأن العرب سمت كل معبود إلهًا، وهم كانوا يعبدون الأصنام دونه ويسمونها آلهة، فنفى الألوهية عمن يعبدونهم دونه، وأثبتها له، وأخبر أنه هو المستحق لاسم الألوهية والعبادة لا غيره؛ لأنه يحيي ويميت، ومن يعبدون دونه لا يملك الإحياء ولا الإماتة، وذكر هذا - واللَّه أعلم - الحياة والموت؛ لأنه ليس شيء ألذ وأشهى في الشاهد من الحياة، ولا أمرَّ ولا أشد من الموت؛ ليرغبوا في ألذ ما غاب عنهم، وينفروا عن الأمر والأكره مما غاب عنهم، واللَّه أعلم.
أو ذكر أنه يحيي ويميت؛ ليدل أنه فعل واحد، لا عدد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ).
كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو السابق إلى كل خير؛ فعلى ذلك دعا الخلق إليه؛ كقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)؛ فعلى ذلك إنما أمر بالإيمان به بعد ما آمن هو.
63
وجائز أن يكون قوله: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ) أي: آمن رسول اللَّه باللَّه وكلماته التي كانت في الكتب الماضية، فأخبر بها على ما في كتبهم؛ ليعرفوا أنه إنما عرفها بالله تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلِمَاتِهِ) اختلف فيه؛ قال عامة أهل التأويل: كلماته: القرآن.
وذكر في بعض القراءات: " وكلمته " بلا ألف، فصرف التأويل إلى عيسى؛ كأنه قال: آمنوا باللَّه وبمُحَمَّد وبعيسى.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَكَلِمَاتِهِ) ما أعطاه من الحلال، والحرام، والأمر، والنهي، والحكمة، والأحكام التي أمر بها وشرعها لنا، على ما ذكر في إبراهيم أنه ابتلاه بكلمات فأتمهن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
قد ذكرنا الاتباع له، فإذا اتبعوه اهتدوا.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
64
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ... (١٥٩)
قيل: أمة يدعون إلى سبيل الحق.
(وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
أي: به يعملون وهو كقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). فعلى ذلك يحمل الأول على الإضمار والدعاء إلى سبيل الحق، فقال الحسن: (يهدُونَ بِالْحَقِّ) أي: يعملون، بالحق وبه يعدلون فيما بينهم؛ لكن الأول أقرب، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) جائز أن تكون الأمة التي أكرم من قوم موسى كانت في زمنهم يدعون الناس إلى الإيمان برسول اللَّه.
أو أن تكون الأمة من قومه في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقية من قوم موسى، مؤمنين به يدعون الناس إليه وبه يعملون.
وقوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا... (١٦٠)
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو ما ذكره: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) أي: جماعة.
وقيل: (وَقَطَّعْنَاهُمُ)، أي: جعلناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) فرقًا.
وقال غيرهم: قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) أي: جاوزنا بهم البحر، وجعلنا لهم اثنتي عشرة أسباطًا.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأسباط: الأفخاذ، والسبط واحد.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأسباط: القبائل، واحدها: سبط.
65
وقيل: الأسباط لهم كالقبائل للعرب. وقيل: ، الفخذ دون القبيلة.
وقيل: إن أولاد إسحاق تسمى: أسباطًا، وأولاد إسماعيل: قبائل وأفخاذًا؛ ولذلك يقال للعرب: قبيلة كذا، وفخذ كذا، ولسنا ندري كيف هو؟
وقيل: سبط الرجل: ولد ولده؛ على ما روي أن الحسن والحسين - رضي الله
66
عنهما - سبطا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ).
قيل: دل قوله: (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ) أنهم كانوا في المفازة، لا في البلدان والقرى؛ لأنهم لو كانوا في القرى، والقرى لا تخلو عن أنهار تجري فيها أو عيون الأرض.
ألا ترى أنه قال: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ) دل أنهم كانوا في المفازة؛ لأنه هنالك تقع الحاجة إلى الغمام، وأما في القرى فلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: انفجرت؛ على ما ذكر في سورة أخرى.
وقيل: إن هذه الكلمة بلسانهم، لا بلسان العرب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: تعبدهم عَزَّ وَجَلَّ بمعرفة كل منهم مشربه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن لئلا يزدحموا في ذلك فيقع في أولادهم التقاتل والإفساد والتنازع والاختلاف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى).
فيه أن جميع مؤنتهم كانت من السماء بلا مؤنة ولا تعب على أنفسهم.
وقوله - عز وبرل -: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ).
ما ذكر من المن والسلوى وغيره.
(وَمَا ظَلَمُونَا).
لا أحد يقصد قصد ظلم اللَّه، ولكن إذا تعدوا حدود اللَّه التي جعل لهم وجاوزوها
67
الآية ١٦٠ وقوله تعالى :﴿ وقطّعناهم اثنتي عشر أسباطا أمما ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه، هو ما ذكره ﴿ وقطّعناهم في الأرض أمما ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] أي جماعة، وقيل :﴿ وقطّعناهم ﴾ أي جعلناهم ﴿ اثنتي عشرة أسباطا ﴾ فرقا، وقال غيرهم : قوله تعالى :﴿ وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ﴾ أي جاوزنا بهم البحر، وجعلناهم ﴿ اثنتي عشرة أسباطا ﴾.
قال أبو عوسجة : الأسباط الأفخاذ، والسّبط واحد، وقال القتبيّ : الأسباط القبائل، واحدها سبط.
وقيل : الفخذ دون القبيلة، وقيل : إن أولاد إسحاق تسمى أسباطا، وأولاد إسماعيل قبائل وأفخاذ، ولذلك يقال للعرب : قبيلة كذا [ وفخذ كذا ]١ ولسنا ندري كيف هو٢ ؟ وقيل : سبط الرجل ولد ولده على ما روي أن الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ﴾ قيل :﴿ إذ استسقاه قومه ﴾ إنهم كانوا في المفازة لا في البلدان والقرى ؛ لأنهم كانوا في القرى، والقرى لا تخلو من أنهار، تجري فيها، أو عيون الأرض.
ألا ترى أنه قال :﴿ وظلّلنا عليهم الغمام ﴾ دل أنهم كانوا في المفازة ؟ لأنه هنالك تقع الحاجة على الغمام، وأما في القرى فلا.
وقوله تعالى :﴿ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ﴾ قال بعضهم : انفجرت على ما ذكر في سورة أخرى٣. وقيل : إن هذه الكلمة بلسانهم لا بلسان العرب.
وقوله تعالى :﴿ قد علم كل أناس مشربهم ﴾ قال بعضهم : تعبّدهم عز وجل بمعرفة كل منهم مشربه، وقال بعضهم : لا، ولكن لئلا يزدحموا في ذلك، فيقع٤ في أولادهم التقاتل٥ والإفساد والتّنازع والاختلاف.
وقوله تعالى :﴿ وظلّلنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى ﴾ فيه أن جميع مؤنهم كانت من السماء بلا مؤنة ولا تعب على أنفسهم.
وقوله تعالى :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ ما ذكر من المن والسلوى٦ وغيره ﴿ وما ظلمونا ﴾ أي لا أحد يقصد قصد ظلم الله، ولكن إذا تعدّوا حدود الله التي جعل لهم، وجاوزوها لهم، فقد ظلموا أنفسهم، لما رجع ضرر ذلك التعدّي إليهم. وهذه النعم التي ذكر لهم : جل، وعلا، إنما جعلها لهم في حال العقوبة والابتلاء من المن والسلوى والعيون والغمام.
ويدل هذا على أن عقوبات الدنيا، قد يشوبها لذة ونعمة، وكذلك لذّات الدنيا قد يمازجها شدائد وهموم ؛ فإنما تخلص وتصفو هذه النعم في الآخرة، وكذلك العقوبة هنالك تخلص، وتفارق اللذات.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ من م، في الأصل: وهو..
٣ وهو قوله تعالى: ﴿فانفجرت منه اثنتا عشرة﴾ [البقرة: ٢٠]..
٤ في الأصل وم: ليقع..
٥ من م، في الأصل: التقابل..
٦ وذلك في سورة البقرة الآية (٥٧) وسورة طه الآية (٨٠)..
فقد ظلموا أنفسهم؛ لما رجع ضرر ذلك التعدي إليهم.
وهذه النعم التي ذكر لهم - جل وعلا - إنما جعلها لهم في حال العقوبة والابتلاء من المن والسلوى، والعيون، والغمام، ويدل هذا على أن عقوبات الدنيا قد يشوبها لذة ونعمة، وكذلك لذات الدنيا قد يمازجها شدائد وهموم، فإنما تخلص وتصفو هذه النعم في الآخرة، وكذلك العقوبة هنالك تخلص وتفارق اللذات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ... (١٦١)
قال عامة أهل التأويل: قوله: (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس.
وأمكن أن تكون القرية التي ذكر - هاهنا - هي الأرض التي ذكرت في سورة المائدة، وهو قوله: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) أمرهم بالدخول فيها، ونهاهم عن الارتداد على أدبارهم، وأمرهم - هاهنا - بالسكون فيها، وأباح لهم التناول منها مما شاءوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُولُوا حِطَّةٌ).
أي: ارجعوا إلى السبب الذي يحط الأوزار، لا قولهم: حط عنا كذا، وهو كما قال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، أي: ائتوا بالسبب الذي به يغفر، وهو التوحيد.
(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) الآية.
قد مضى ذكر هذا في السورة التي فيها ذكر البقرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
هذا -أيضًا- ذكرناه فيها، سوى أنه ذكر - هاهنا - (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا)، وذكر في سورة البقرة: (فَأَنْزَلْنَا)، والقصة واحدة؛ ليعلم أن اختلاف الألفاظ لا يوجب اختلاف المعاني والأحكام، ولا تغييرها، وذكر هاهنا: (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ)، وذكر، هنالك: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، والفسق هو الخروج عن الأمر، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد كان منهم الأمران جميعًا: الخروج
الآية ١٦٢وقوله تعالى :﴿ فبدّل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ هذا أيضا ذكرنا فيها١ سوى أنه ذكر ههنا :﴿ فأرسلنا عليهم ﴾ وذكر في سورة البقرة ﴿ فأنزلنا ﴾ والقصة واحدة ليعلم أن اختلاف الألفاظ لا يوجب اختلاف المعاني والأحكام ولا تغييرها.
وذكر ههنا ﴿ بما كانوا يظلمون ﴾ وهنالك ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ والفسق هو الخروج عن الأمر، والظلم هو وضع الشيء [ في ]٢ غير موضعه. وقد كان منهم الأمران جميعا : الخروج عن أمر الله، ووضع الشيء أيضا في غير موضعه.
أكرم الله عز وجل هذه الأمة كرامات من الطاعة لرسولها الخضوع له والتعظيم له حتى لم يخطر ببال أحد الخلاف له بعد ما اتبعه، وآمن به، وأكرمهم أيضا من الفهم والحكمة والفقه حتى ذكر كأنهم من الفقه أنبياء، وقوم موسى عليه السلام وغيره من الأمم لم يكونوا مثل ذلك. ألا ترى أن قوم موسى قد خالفوه في أشياء أمرهم موسى بها ؟
١ كان ذلك في الآية (٥٩)..
٢ ساقطة من الأصل وم..
عن أمر اللَّه، ووضع الشيء -أيضًا- في غير موضعه. أكرم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الأمة كرامات من الطاعة لرسولها، والخضوع له، والتعظيم له، حتى لم يخطر ببال أحد الخلاف له بعد ما اتبعه وآمن به، وأكرمهم -أيضًا- من الفهم والحكمة والفقه، حتى ذكر: كأنهم من الفقه أنبياء، وقوم موسى وغيرهم من الأمم لم يكونوا مثل ذلك؛ ألا ترى أن قوم موسى قد خالفوه في أشياء أمرهم موسى بها.
* * *
قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) قال بعض أهل التأويل: القرية التي كانت حاضرة البحر هي أيلة.
وقال آخرون: أريحا.
69
ولسنا ندري ما تلك القرية، وليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة؛ إذ لا منفعة لنا في معرفتها، ولو كانت لنا حاجة إليها لبين لنا عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ....).
أمره بالسؤال عنها، ثم كان هو المبين لهم بقوله: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ)، والسؤال هو الاستخبار، والإخبار أبدًا إنما يلزم المسئول دون المستخبر، لكن الاستخبار يكون من وجهين:
أحدهما: ابتداء إخبار.
والثاني: طلب التصديق، فهاهنا لم يحتمل ابتداء الخبر، وهو على طلب التصديق؛ كأنه قال: ألم يكن كذا؟ فيقولون: نعم؛ يصدقونه بما يقول لهم.
وقال قائلون: لم يأمره بالسؤال حقيقة، ولكنه على التمثيل؛ كأنه قال: لو سألتهم يقولون لك كذا؛ كقوله: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) ليس على الأمر أن اسألهم، ولكن لو سألتهم كان كذا، وأجابوك بكذا، فعلى ذلك هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ).
عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: ابتدعوا السبت فعظموه، فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان.
وقال مجاهد: حرمت عليهم الحيتان يوم السبت، فكانت تأتيهم يوم السبت شرعًا بلا مؤنة أولا، تكلف، ابتلوا به، ولا تأتيهم في غير مثله.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (شُرَّعًا) هي التي قد دنت من الشط، والواحد: شارع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْبِتُونَ).
أي: لا يدخلون في السبت؛ كما يقال: لا يربعون ولا يخمسون، أي: لا يدخلون
70
فيه، ويسبتون أي يدخلون فيه، وكذلك يربعون ويخمسون.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (شُرَّعًا) أي: شوارع، (إِذْ يَعْدُونَ) أي: يتعدون الحق، ويقال: عدوت على فلان: إذا ظلمته.
وقال الكيساني: يقرأ: (يَسْبِتُونَ) بالرفع، ويقرأ بالفتح؛ فمن قرأها (يَسْبِتُونَ) بالفتح أراد سبتوا أي عظموا يقال: سبت يسبت سبتًا وسبوتًا إذا عظم، ومن قرأها برفع الياء أراد أنهم، دخلوا في السبت.
وقال قائلون: قوله: (شُرَّعًا) أي: كثيرة، أي: تكثر لهم الحيتان يوم السبت، وهو اليوم الذي حرم عليهم الحيتان، وتقل في غير ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ابتلاهم اللَّه بتحريم السمك في السبت؛ ليرى الخلق المطيع منهم من العاصي.
وقال قائلون: ابتلاهم بذلك لما كانوا يفسقون في السر؛ ليكون فسقهم وتعديهم ظاهرًا عند الخلق كما كان عند اللَّه؛ لئلا يقولوا عند التعذيب إنهم عذبوا بلا ظلم ولا تعد - واللَّه أعلم -.
وذلك قوله: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
وقال - قائلون في قوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ): إنما أمره أن يسألهم أما عذبهم اللَّه بذنوبهم؟ ثم أخبر عن ذنوبهم فقال: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي: يعتدون في السبت.
71
وقوله: (شُرَّعًا) أي: شارعات من غمرة الماء، أي: خارجات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا... (١٦٤)
وذكر في الأول أنهم كانوا ثلاث فرق:
فريق عدوا، وتركوا أمر اللَّه، وارتكبوا ما نهوا عنه.
وفريق نهوا أُولَئِكَ الذين اعتدوا وانتهكوا حرم اللَّه.
وفريق، قيل: لم يعتدوا، ولم يرتكبوا نهيه، ولا نهوا أُولَئِكَ الذين اعتدوا، وهم الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا...) الآية، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هم كانوا ثلاث فرق: فرقة وعظت، وفرقة موعوظة، وفرقة ثالثة، وهم الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ).
وهو ما ذكرنا أنه ذكرهم في الابتداء ثلاث فرق، وذكر في آخر الحال فرقتين: فرقة هي التي هلكت بالاعتداء، وفرقة هي التي نهت ونجت.
ثم اختلف أهل التأويل في الفرقة الثالثة:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا في الفرقة التي هلكت؛ لوجهين:
أحدهما: لما لم ينهوا أُولَئِكَ الذين اعتدوا، وكان فرض عليهم النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، فإذا لم ينهوا أُولَئِكَ هلكوا وشركوا في العذاب؛ كقوله: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ...) الآية.
والثاني: كانوا معهم لما نهوا الناهين بقوله: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ).
وقال قائلون: كانوا في الناجين.
قال الحسن: لأنهم كانوا نهوا أُولَئِكَ عن الاعتداء والظلم الذي كان منهم، وكان قولهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) بعد ما نهوهم ووعظوهم فلم يتعظوا، فإنما قالوا لأُولَئِكَ:
(لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) بعد ما نهوا ووعظوا، فقالوا: كيف تعظون قومًا لا يتعظون ولا ينتهون، فإنما قالوا ذلك بعد ما نهوا.
وقال قائلون: هذا القول منهم نهي؛ لأنهم أتوا بوعيد شديد بقولهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، فنفس هذا القول منهم نهي وزجر عما ارتكبوا؛ حيث أتوا بالنهاية من الوعيد، وهو الهلاك والعذاب الشديد.
ولكنا لسنا نعلم أنهم كانوا في الهلكى أو في الناجين، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، ولو كان لنا حاجة إلى ذلك لبينه لنا - عَزَّ وَجَلَّ - ولم يترك ذلك لآرائنا، سوى أنه بين من نجا منهم بالنهي عن الظلم والعدوان، وبين من أهلك وعذب بالظلم والعدوان بقوله: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ).
قرئ بالرفع والنصب أيضًا (مَعْذِرَةً) فمن قرأ بالرفع أضمر فيه هذه؛ كأنهم قالوا: هذه معدْرة إلى ربكم؛ كقوله: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا)، قيل: هذه سورة أنزلناها.
ومن قرأ بالنصب قال: (مَعْذِرَةً) أي: اعتذارًا منهم إلى ربهم (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) عما نهوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ... (١٦٥) أي: توكوا وأعرضوا عما ذكروا به.
(أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ).
قَالَ الْقُتَبِيُّ: شديد؛ وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ.
وقال غيره: أي: موجع، وهو واحد.
وقال الحسن: (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ) على الوقف، ثم قال: (بئيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ... (١٦٦)
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (عَتَوْا) أي: استكبروا؛ يقال: عتا يعتو عتوًّا، وكأن العتو هو النهاية في البأس، فكذلك قيل في قوله: (عَتَوْا) بائسًا، لكن سمي مرة: قساوة، ومرة: استكبارًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: حولت صورتهم وجسدهم صورة القردة، وكانت عقولهم على حالها عقول البشر لم تحول؛ ليعلموا تعذيب اللَّه إياهم وما أصابهم بهتكهم حرم اللَّه.
وقال قائلون: حول طباعهم طباع القردة، وأما الصورة والجسد على حاله.
وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وقوله: (خَاسِئِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من خسأ الكلب: صار قاصيًا مبعدًا؛ يقال: خسأته.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (خَاسِئِينَ): مبعدين؛ وكذلك قال في قوله: (اخْسَئُوا فِيهَا) أي: ابعدوا فيها وارجعوا فيها؛ يقال: خسأت فلانًا وأخسأته، أي: باعدته، فخسأ، أي: تباعد.
وقيل: الخاسئ: الذليل.
وفي قوله: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ....) إلى آخر ما ذكر من القصة وجهان:
أحدهما: دليل إثبات الرسالة والنبوة له؛ حيث أخبر عما كان من غير نظر له في كتبهم، ولا اختلاف إلى أحد ممن له علم في ذلك؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى.
والثاني: إنباء عن عواقب الظلمة والفسقة، وما حل بهم بظلمهم وانتهاكهم حرم اللَّه؛ ليكون ذلك زجرًا لنا عن ارتكاب مثله.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) قيل، تأذن: أي: قال ربك: ليبعثن.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) هو من الأذان، أي: أعلم ربك.
وقوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ...) الآية قال: نزلت هذه الآية بمكة في شأن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الكفار كانوا يمنعون من دار الإسلام واتباع مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - فوعدهم اللَّه ليبعثن عليهم من يقاتلهم ولأخذ منهم الجزية إلى يوم القيامة؛
جزاء ما كانوا يمنعون الناس عن اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإجابة له فيما يدعو إليه.
وقال قائلون: هو في بني إسرائيل، وهو ما قال: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ...) إلى قوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)، أخبر إن عادوا عدنا، ولم يبين إن عادوا عدنا بماذا، ثم بين في هذه الآية بقوله: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ).
وقال قائلون: هذا إنما كان في هَؤُلَاءِ الذين سبق ذكرهم في قوله: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ).
قال أبو بكر الأصم: الآية لا تحتمل في هَؤُلَاءِ؛ لأن من آمن منهم لا يحتمل ذلك، ومن صار منهم قرودًا لم يحتمل -أيضًا- بعد ما صاروا قرودًا، فهو - واللَّه أعلم - على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ).
يأخذهم في حال أمنهم، ليس كما يأخذ ملوك الأرض قومهم بعد ما يتقدم منهم إليهم تخويف، فعند ذلك يأخذونهم بالعذاب.
أو أن يقال: سريع العقاب، أي: عن سريع يأخذهم عقابه.
وقوله: (لَسَرِيعُ الْعِقَابِ): لمن كفر وكذب، غفور رحيم: لمن آمن وصدق بالله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا... (١٦٨)
يحتمل: فرقناهم في وقت بعد ما كانوا مجموعين.
ثم يحتمل الجمع وجهين:
كانوا مجموعين ثم تفرقوا، فصار بعضهم كفارًا وبعضهم مؤمنين.
أو كانوا مجموعين في المكان والمعاش والماء والكلأ ثم تفرقوا، فصاروا متفرقين في المكان والمعاش وغيره.
أو كانوا في الدِّين واحدًا، ثم صاروا أصحاب أهواء.
ويحتمل قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) أي: أمة بعد أمة، وجماعة بعد جماعة،
76
بعضهم خلفاء لبعض؛ على ماذكر: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ).
فإن كان قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ) في الدِّين والمذهب، فيكون تأويله: أمنهم الصالحون المؤمنون، ومنهم دون ذلك الكفار، ويكون قوله: (دُونَ ذَلِكَ) أي: غير ذلك كقوله يعيدونها دون اللَّه أي: غير اللَّه.
وإن كان في المعاش، فبعضهم دون بعض في المعاش؛ وسع على بعض المعاش، وشدد على بعض وضيق، فيكون بعضهم دون بعض في المعاش والرزق.
أو بعضهم دون بعض في الدِّين، بعضهم على الصلاح، وبعضهم أصحاب أهواء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ).
ابتلى بعضهم بالخصب والسعة، وبعضهم بالشدة والضيق؛ ليذكرهم الموعود من الثواب في الحسنات، ويزجرهم الموعود من العقاب عن السيئات.
(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
يتوبون ويرجعون عن ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فهو يخرج على وجوه:
أحدها: بلوناهم بالنعم والخصب والسعة؛ ليعرفوا فضل اللَّه وإحسانه فيرجعوا إليه بالشكر والثناء، و (وَالسَّيِّئَاتِ)، أي: بالبلايا في أنفسهم أو المصائب والضيق؛ ليعرفوا قدرة اللَّه وسلطانه، فيرجعوا إليه بالتضرع والفزع والدعاء والتوبة.
والثاني: معناه: أي: بلوناهم بالحسنات والسيئات؛ ليتقرر عندهم أن غيرهم أملك بهم من أنفسهم، فيرجعوا إليه أبتسليم، النفس لأمره وحكمه.
والثالث: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) المؤمن منهم والكافر، حتى إذا رأوا الاستواء في الدنيا وفي الحكمة التفريق بينهم، فيضطر الجميع إلى الإيمان بالبعث؛ إذ خروجهم من الدنيا على سواء.
والرابع: أنه إنما جعل النعيم في الدنيا ليعرفوا لذّة الموعود في الآخرة، وكذلك الشدة، فابتلاهم بالأمرين جميعًا؛ ليستعدوا للرجوع إلى الموعود لهم في الآخرة، والله
77
أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ... (١٦٩)
قال قائلون: هو صلة قوله: (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ)، والصالحون هم الذين آمنوا باللَّه، وحفظوا حدوده وحلاله وحرامه، (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني: الصالحين (فَخَلَفَ) لم يحفظوا حدوده ومحارمه.
وقال قائلون: هو صلة ما تقدم من ذكر الأنبياء والرسل؛ كأنه أخبر أنه خلف من بعدهم خلف، يعني: خلف الرسل والأنبياء (وَرِثُوا الْكِتَابَ) ووهو كما ذكر في سورة مريم، وهو قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، وإنما ذكر هذا من بعد ذكر الأنبياء والرسل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِثُوا الْكِتَابَ) علموا ما فيه.
(يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى).
إن أهل الكتاب كانوا يأخذون الدنيا على أحد وجوه ثلاثة:
منهم من كان يأخذها مستحلّا لها؛ كقوله - تعالى -: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ).
وكقوله: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
ومنهم من كان يأخذها بالتبديل، أعني: تبديل الكتاب؛ كقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ....) الآية وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
ومنهم من كان تناول على ما تناول أهل الإسلام على قدر الحاجة، وهاهنا لا يحتمل الأخذ إلا أخذ الاستحلال أو التبديل، والأخذ بالاستحلال - هاهنا - أقرب، كانوا يأخذون عرض هذا الأدنى مستحلين له.
(وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) يحتمل هذا وجوهًا:
يحتمل ما قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).
فيغفر لنا؛ كانوا يستحلون أموال الناس ويأخذونها، ثم يقولون: سيغفر لنا؛ لأنا أبناء اللَّه وأحباؤه.
والثاني: يحتمل أنهم قالوا: سيغفر لنا، مع علمهم أنه لا يغفر لهم؛ لما كان في كتابهم ألا يغفر لهم إذا تناولوا مستحلين.
أو أنهم إذا عوتبوا على ما فعلوا قالوا: سيغفر لنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
يحتمل قوله: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِهِ) أنهم إذا استحلوا ذلك أضافوا ذلك إلى اللَّه، وقالوا: اللَّه أمرنا بذلك، فقال: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، أي: لا يضيفوا إلى اللَّه ما استحلوا.
أو أن يقال: أخذ عليهم ألَّا يقولوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) فيما يوجبون على اللَّه من مغفرة ذنوبهم التي لا يزالون يعودون لها، ولا يتوبون عنها.
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) قال: يَأْخُذُونَه إن كان حلالًا أو حرامًا (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)، ومال: قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ) بعد أنبيائهم، ورثهم اللَّه الكتاب، وعهد إليهم في سورة مريم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى)، وهو ما ذكرنا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الخلف: الرديء من الناس ومن الكلام؛ يقال: هذا خلف من القول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
أي: فرءوا ما فيه وعلموه.
(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
أي: يتقون الشرك، أو يتقون مخالفة اللَّه ومعاصيه، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ما في كتابهم أن ترك مخالفة اللَّه خير في الآخرة.
ثم أخبر عن المؤمنين فقال: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ... (١٧٠) ما فيه من الحلال، والحرام (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
قوله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
وقوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ).
قيل: رفعنا الجبل؛ كقوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ).
وقيل: نتق: قطع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: حرف أخذ من كتبهم فلا ندري كيف كان.
وقيل: حركنا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.
وقال أبو عبيد: كل شيء قلعته من موضعه فرميت به.
ذكر هذا - واللَّه أعلم - ليصبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على سفه قومه؛ لأن قوم موسى مع كثرة ما عاينوا من الآيات التي جرت على يدي موسى، وعظيم ما كان لهم من موسى من النعم؛ من استنقاذه إياهم من استرقاق فرعون، وإخراجهم من يده، وفرق البحر لهم، ومجاوزته بهم، وتفجير الأنهار من الحجر، وإنزال المن والسلوى لهم؛ فجميع ما كان لهم من موسى ما ذكرنا لم يقبلوا التوراة ولم يقروا بها إلا بعد رفع الجبل عليهم والإرسال، فعند ذلك قبلوا؛ يصبر رسولنا؛ لئلا يضجر على مخالفة قومه إياه وكثرة سفههم.
ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من رفع الجبل فوقهم وجهين:
أحدهما: أنهم لما عاينوا ذلك آمنوا به وقبلوا الكتاب، لكن ذلك منهم إيمان دفع؛ إذ ذلك قهر، ولا يكون في حال القهر إيمان.
والثاني: صيَّر ذلك آية عظيمة وحجة واضحة معجزة، فقبلوها وحققوا الإيمان به، ثم تركوا ذلك، يدل على ذلك ما ذكر في سورة البقرة؛ حيث قال: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ
80
ذَلِكَ).
وقيل: فخلف من بعد بني إسرائيل خلف السوء وهم اليهود.
(وَرِثُوا الْكِتَابَ)، قيل: التوراة عن آبائهم وأوائلهم. (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) قالوا: رشوة (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) وكانوا يرتشون ويقولون: يغفر لنا؛ لأنهم زعموا أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ).
قيل: رشوة مثله أخذوها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ).
قالوا: لقد أخذ عليهم في التوراة ألَّا يستحلوا محرمًا، ولا يقولوا على اللَّه إلا الحق في التوراة (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
وقوله: (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ).
استحلال المحارم وأكلهم الحرام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ).
قيل: بالتوراة ولا يحرفونه عن مواضعه، ولا يستحلون محرمًا (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ).
أي: أيقنوا أنهم إن لم يقبلوا واقع بهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ).
قد ذكرنا هذا فيما تقدم.
قوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) يحتمل وجهين:
أحدهما: (خُذُوا)، أي: اقبلوا ما فيه.
والثاني: اعملوا بما فيه.
وفيه دلالة كون القوة مع الفعل.
وقوله: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) قيل: اعملوا بما فيه من الحلال والحرام، (لَعَلَّكُمْ
81
تَتَّقُونَ): العقوبة والمعصية.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
تكلم الناس في تأويل قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ....) الآية؛ فمنهم من يقول: ذلك عندما خلق آدم، أخرج من يكون من ذريته مثل الذر، فعرض عليهم قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) لكن اختلفوا؛ فمنهم من يقول: جعل بالمبلغ الذي يجري على مثله القلم؛ وهو قول الحسن.
ومنهم من يقول: عرض ذلك على الأرواح دون الأجساد.
ومنهم من يقول: بلا عرض أنه خلق صنفين، فقال: هَؤُلَاءِ في الجنة، وهَؤُلَاءِ للنار، ولا أبالي.
ومنهم من يقول: عرض الكل على ما عليه أحوالهم وآجالهم في الدنيا، واللَّه أعلم كيف كانت القصة، أو كيف ترى أحوال الفقر والغناء في الذر، أو كيف هَؤُلَاءِ في النار، ولا أبالي مع اجتماعهم على القول " ببلى " لما عرض عليهم في قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ).
وقد رأينا في تلك الأخبار ما كان الكف عما له المراد، وبخاصة حفظ العوام وأهل الضعف عن تبليغها ألزم وأعظم في النفع وأبعد عن الشبهة من روايتها وتكلف الكشف عنها، فنسأل اللَّه العصمة عما به الهلاك، والتوفيق للنصح بما به نجاة كل سامع ودفع كل شبهة وحيرة، فإنه لا قوة إلا باللَّه.
ومنهم من ذهب في تأويل الآية إلى المعروف من أمر ذرية آدم، والأخذ عن
82
الأصلاب، والإنشاء في الأرحام؛ على ما كان ويكون إلى يوم القيامة؛ على ما قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ...)، إلى قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)، وقال: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا...) الآية، وقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ...). وقال: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارً...)، وغير ذلك مما احتج اللَّه به من أول ما جرى به تدبير البشر إلى آخر ما ينتهي به أمره، مما يعجز عن تقديره وسع الخلق، ويستتر عن عقولهم كيفية بدء ذلك، وما عليه تنقله من حال إلى حال في كل طرفة عين، ولحظ بصر، مع ما فيه من عجيب التدبير وحسن التقويم الذي لو تكلف الخلق تصوير مثله بكل أنواع الحيل من الأصول الظاهرة، بحيث يبصره كل بصر - لكان يعجز عنه، فكيف في الظلمات الثلاث، مع ما ركب فيه من العقل والسمع والبصر، وما جعل في كل ما أنشأ فيه، ومنه مما لا يبلغ الأوهام فضلًا عن الإحاطة بما في ذلك من الحكمة؛ ولذلك قال اللَّه: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، وكأن ذلك هو العهد إلى جميع الذرية وإشهاد أنفسهم عليهم، يتعالى من دبرهم على ذلك وأنشأهم على ما فيهم عن أن يكون له شريك، أو يقدر أحد قدره، فذلك هو معنى إشهادهم على أنفسهم، أي: جعلهم على أنفسهم شهودا أن يعلموا أن مدبرهم هو ربهم، لا ربّ لهم غيره، وأنه ليس كمثله شيء، مع ما في جعل ذلك ذرية يعرف كل بما يرى من عجزه تدبير ولده، وجهله بأحواله في حال كونه في رحم أبويه بيان على أنه لا كان بآبائه وأمهاته علم، ولكن برب العالمين، وذلك هو الذي يمنعهم عن القول بالغفلة عن ذلك؛ إذ قد علمه كل منهم لآجال كونهم في الوقت الذي لا يذكره أحد.
والذي يبين أن هذا التأويل أحق من الأول ما دل عليه سياق الآية من ذلك قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ)، وأقاويل من ذكرت على الأخذ من ظهر آدم.
83
والثاني: قوله: (مِن ظُهُورِهِم) وفي قولهم: من ظهر آدم.
والثالث: قوله: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) وفي التأويل ألا تقولوا، فكيف يحذرهم عن القول بذلك وقد علم أنهم كذلك، ليس أحد منهم يذكر ذلك، ولا مما يتقرر عنده لو نبه بكل أنواع التنبيه؟
والرابع: قوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ)، ما في ذلك العرض مما يمنع عن هذا القول، وأيضًا أنه أذكر في بعض ذلك القول بأن هَؤُلَاءِ، في النار ولا أبالي، وفي القرآن الجمع بينهم في القول بـ بلى، وذلك عد توحيدًا منهم مع ما في القرآن: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا...) الآية، (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ...) الآية، وفي إثبات ذلك إثبات الموت والحياة أكثر من العدد الذي جاء به القرآن في الكل، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم قد يتوجه التأويل الثاني في قوله: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) إلى أوجه.
فأما ابتداء الآية فهو ذلك عند التحقيق؛ لأنه ذكر الأخذ من بني آدم ثم من ظهورهم، والمأخوذ من بني آدم ثم من ظهورهم هو النطف، وهو الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أعلمهم ما منه أنشأهم وقلبهم من حال إلى حال، إلى أن تمت النسمة وظهرت البشرية على ما أعلم كل في ذريته خروج بدئه من تدبير والديه، وقيامه على ما عليه مداره وقراره، وبتدبير من لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر؛ ليقولوا: إن الذي ذكر هذا هو ربهم الذي رباهم على ذلك، ليس كمثله شيء، فكان ذلك إعلامًا من اللَّه إياهم على أنفسهم، وشهادة منها بالخلقة أنه ربهم الذي رباهم وملكهم على ما جرى فيهم من تدبير اللَّه - جل ثناؤه - ولئلا يقولوا غدًا: إنهم عن هذا غافلين؛ إذ قد عرف ذا كل ذي عقل، وعرف أنه كان باللَّه - سبحانه وتعالى - لا بوالديه؛ ليجعلوا شرك الآباء والأمهات لأنفسهم حجة من حيث كانوا منهم، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يكون اللَّه أشهدهم على أنفسهم بما أراهم من أحوال ذريتهم في الانتقال
84
على أحوال على أن أنفسهم كذلك كانت دخل كل منهم بجوهرهم في ذلك التدبير؛ ليعلموا أن الذي دبرهم على ذلك دبر الكل، فيزول عنهم شبهة أن الكون بغير الرب الذي ليس كمثله شيء، فيزول عنهم به عذر الغفلة وعلاقة الشبهة بكفر الوالدين من حيث حق التبعية، أو سفه التقليد بما يعلم خروج الجميع من التدبير، ورجوع التدبير إلى غير؛ ليكون موضع الاستدلال بما أمرهم هو ودعاهم إليه، لا بما أمرهم به الآباء والأمهات.
ثم القول ببلى يكون نطقًا، ويكون خلقة، ويكون جواب الفطرة بحق التأمل، فالنطق أنه لا يسأل أحد قبل التلقين إلا وهو يقول بالرب والخالق؛ وعلى ذلك قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). والخلقة بما كان من حاجته إلى مقيم وإلى مدبر على شركة كل في ذلك إقرار له بالربوبية، وذلك معنى نفي التفاوت عن خلقه وفطرته بما يقلبه عن أحوال لو تأمل الخلائق إدراك كل حال منها ووجه التنقل وقدر التغير في كل حال لما تهيأ لهم؛ ليعلم أن في الفطرة شهادة بالتوحيد، وهذا معنى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل مولود يولد على الفطرة " أي: على حال لو تركت العقول والفكر فيها لشهدت بالتوحيد، وذلك أمعنى، قوله: (بَلَى) لا أن ثم قول لسان؛ بل نطق حال؛ كما قال الحكيم: كل صامت ناطق؛ لأن صمته دليل تدبير آخر، فهو ناطق بالبيان عن الواحد العزيز، ولا قوة إلا باللَّه.
وقد يحتمل الإشهاد أن جعلهم شهداء على أنفسهم بالعبودة لله، وأنه ربهم والمالك عليهم، والقول بـ " بلى " بما يلزم ذلك بالتأمل؛ فكأنه قال، واللَّه أعلم.
وفي الآية دلالة إثبات خلق اللَّه فعل الخلق، وقد أخبر اللَّه أنه أخذ ذلك، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: على ماذا يخرج تأويل السلف؟
قيل: لعلهم وجدوا فيه خبرًا ظنوا أن الآية تخرج عليه، فأولوها على ذلك، فإذا أريد
85
تسوية ذلك بالآية لابد من زيادات تلحق بها أو تخرج عنها، وإلا لا يخرج من ذلك عن أن يقول: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) أن يجعل " مِن " صلة؛ كأنه قال: وإذ أخذ ربك من بني آدم، وقد تكون كقوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ).
وبنو آدم يؤخذ من ظهر آدم كما يؤخذ ابن كل من ظهورهم، أي: أصل ابن كل من ظهره، وذكر ظهورهم؛ لما كان منسوبًا إليهم، وإن كان لو طرح حرف الصلة تزول الشبه، فحفظ في ذكرهم حق الوصل وإن كان حقه الإسقاط؛ كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ...) الآية، وغير ذلك مما كنى عن أهل القرية باسمها، وعلى ذلك أجري ذكر الفعل وإن لم يكن لها في الحقيقة فعل؛ فعلى ذلك هذا، فيصير في التحصيل كأنه قال: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهره، ثم يكون المأخوذ الذي عرض عليه مجعولًا على حد يعقل الخطاب، ومعنى قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فأجاب بالذي ذكر.
والخبر الذي فيه القسمة إما أن كان لا في هذا فوصل به، أو كان في الآية ذكر إجابة أحد الفريقين، أو كان بين الجميع اتفاق في هذا الحرف واختلاف فيما جاوز هذا، فالقسمة لما عداه، وقد يوجد في هذا القدر -أيضًا- اتفاق.
ثم قوله: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
على إضمار بعث الرسل وإنزال الكتاب بالإخبار عن ذلك؛ لئلا يدعوا الغفلة بما كانت منهم ذلك بما أوقظوا ونبهوا، أو بما لا يحتجون بما اعترضهم من الغفلة؛ إذ قد قطع عذرهم بغير ذلك من الأدلة والرسل، واللَّه أعلم.
أو لا يقولوا: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) أي: بعث الرسل، وإنزال الكتب لقطع هذا النوع من الشبه على الوجهين اللذين ذكرت؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ...) الآية، وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ....) الآية وقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ...) الآية، ويكون في التأويل الأول ظهور أمر الذرية للأولاد في الخروج عن تدبير الآباء والأمهات لقطع
86
الآية ١٧٣ وقوله تعالى :﴿ إنما أشرك آباؤنا من قبل ﴾ أي [ قبل ]١ بعث الرسل وإنزال الكتب لقطع هذا النوع من الشبه على الوجهين اللذين ذكرت [ كقوله تعالى ]٢ :﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ﴾ [ طه : ١٣٤ ] وقوله تعالى :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة ﴾ الآية [ القصص : ٤٧ ] وقوله تعالى :﴿ وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا ﴾ [ الإسراء : ١٥ ].
ويكون في التأويل الأول ظهور أمر الذّرّية للأولاد في الخروج عن تدبير الآباء والأمهات بقطع الحجاب بهذين الحرفين.
وفي الثاني نزول الكتب وإرسال الرسل مع ما أمكن جعل هذا في التأويلين٣ جميعا، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: التأويل..
الحجاج بهذين الحرفين، وفي الثاني نزول الكتب وإرسال الرسل مع ما أمكن جعل هذا في التأويلين جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ... (١٧٤) هو على وجهين:
أحدهما: على البيان، أي: نبين ما يكشف العمه ويزيل الشبهة.
والثاني: أن نفرقها ونضع كل واحدة منها في أحق مواضعها وأولى ذلك؛ لقطع العذر ودفع العلل.
وقوله: (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إن تأملوا ما هم عليه من الباطل، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
يخرج على وجوه:
أحدها: أن يكون ذلك الإهلاك ليس هو التعذيب، لكنه الإماتة؛ كقوله - تعالى -: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)، أي لك أن تميتنا إذ فعل السفهاء ما تبقيهم، وألا يبقيهم؛ لما يرجى من التوبة، أو يحدث منهم من لم يسفه، والإضافة إلى الجملة بوجهين أحدهما: على إرادة من سفه منهم.
والثاني: على الكل؛ إذ الموت حق مكتوب على جميع البشر، لا على التعذيب، والثاني على التعذيب، على معنى: لا تفعل أنت ذلك، كما يقول الرجل: أنا أفعل هذا، أو أنت تفعل هذا؛ على التبري والتبرئة، وقوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ)، أي؛ تفعله ابتلاء لا تعذيبًا.
والثالث: أن يكون على الإيجاب يجمعهم في ذلك، وإن كان الذي استحق بعضهم بحق المحنة؛ إذ له ذلك ابتداء، وذلك نحو أمر أحد بما ابتلاهم، وإن لم يكن منهم
جميعًا المعصية، وعلى ذلك أمر جميع أنواع المصائب يجمع فيها بين أهل الخير والشر بحق المحنة لا العقوبة، وإن كان ذلك في بعضهم عقوبة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا).
اختلف أهل التأويل في نبأ هذا:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان هذا نبيا فانسلخ منها، يعني: من النبوة وكفر بها.
لكن هذا بعيد محال أن يجعل اللَّه الرسالة فيمن يعلم أنه يكفر به، أو يختاره لوحيه، وهو يعلم أنه ليس هو بأهل له؛ بقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان بلعم بن باعوراء أعطاه اللَّه - تعالى - آيات فكفر بها وانسلخ منها.
88
وقيل: أعطي الاسم المخزون الذي كان يستجاب له به، جميع ما يسأل ربه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان أمية بن أبي الصلت؛ على ما قال عنه - عليه السلام -: إنه " آمن شعره وكفر قلبه ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في منافقي أهل الكتاب؛ قد كان أعطاهم اللَّه الآيات، فكفروا بها وكذبوها.
ولكن لا ندري فيمن نزلت، وهو في جميع مكذبي الآيات، ليس يجب أن ننص واحدًا، أو يشار إلى واحد نزلت فيه، ولكن نقول: إنها في جميع مكذبي الآيات.
وقوله: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا): خرج منها، وقيل: نزع منها.
89
وقيل: تركها؛ وكله واحد.
ثم يحتمل قوله: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) أي: كانوا قبلوها مرة، ثم ردوها من بعد القبول.
ويحتمل: أن لم يقبلوها ابتداء فخرجوا منها وكذبوها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ).
فيه دلالة أن اللَّه لا يتبع الشيطان أحد ولا يزيغه إلا بعد أن كان منه الاختيار للضلال والميل إليه؛ حيث قال: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) إنما أتبعه الشيطان بعد ما كان منه الانسلاخ والنزع.
وقوله: (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) قيل: كان في علم اللَّه أن يكون في ذلك الوقت من الغاوين.
وقيل: كان من الغاوين، أي: صار من الغاوين إذا انسلخ منها وخرج، والغاوي: الضال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا... (١٧٦)
يحتمل قوله: (لَرَفَعْنَاهُ بِهَا): عصمناه حتى لا ينسلخ منها ولا يكذب بها، أي: لو شئنا لوفقناه لها حتى يعمل بها.
أو أن يقال: لو شئنا لعصمناه حتى لا يختار ما اختار، لكنه إذ علم منه أنه يختار ذلك ويميل إليه، شاء ألا يعصمه، ولا يوفقه، فكيفما كان فهو على المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه لو شاء لرفعه بها، وكان له مشيئة الرفع، ثم أخبر أنه لم يرفع، ولو رفعه بها كان أصلح له في الدِّين؛ دل أنه قد يفعل به ما ليس هو بأصلح في الدِّين، وهم يقولون: إن، المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والقسر، لا مشيئة الاختيار، لكن ما ذكرنا أن الإيمان في حال الاضطرار والقهر لا يكون إيمانًا، فلا معنى لذلك، ولا يكون ذلك رفعًا؛ فيبطل قولهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ):
هو ما ذكرنا؛ لما علم منه أنه يخلد إلى الأرض ويميل إليها، لم يعصمه ولم يرفعه.
والإخلاد إلى الأرض: قال الحسن: سكن إلى الأرض.
90
وكذلك قال الكيساني: إن الإخلاد في كلامهم: السكون إلى الشيء والركون إليه.
وقال أبو عبيدة: هو اللزوم للشيء.
وفي قوله: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) دلالة أن الإزاغة من اللَّه وترك العصمة له؛ لما يكون من العبد الميل والركون إلى مخالفته، وترك الائتمار له، واتباع الهوى.
قال قتادة: قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) يقول: لو شئنا لرفعناه من إيتائه الهدى، فلم يكن للشيطان عليه سبيل، ولكن يبتلى من عباده من يشاء.
وقوله: (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ذكر الأرض يحتمل أن يكون كناية عن الدنيا؛ كقوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
ويحتمل أن يكون كناية عن الذل والهوان؛ لأن كل خير وبركة إنما يطلب من السماء، وهم إذا اختاروا ذلك اختاروا الذل والهوان.
وقال الحسن في قوله: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) الآية، قال: حال الشيطان بينه وبين أن يصحب الهدى بما مناه وزين له واتبع هواه، (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) قال: هذا مثل الكافر، أميت فؤاده كما أميت فؤاد الكلب.
وقوله: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) أي: ساء مثل الأفعال التي ضرب الله مثلها بانذي ذكر في القرآن، قال: (سَاءَ مَثَلًا)، صدق اللَّه وبئس المثل (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، فتدبروا وتفكروا في أمثال اللَّه التي ضرب واعقلوها؛ إلى هذا ذهب الحسن.
91
وقال غيره: وجه ضرب مثل الذي كذب بالآيات بالكلب، هو أن الكلب من عادته أنه يذل ويخضع لكل أحد؛ لما يطمع أن ينال منه أدنى شيء، ولا يبالي ما يصيبه من الذل والهوان في ذلك بعد أن ينال منه بشيء؛ فعلى ذلك الكافر والمكذب بالآيات لا يبالي ما يلحقه من الذل والهوان بعد أن يصيب من الدنيا شيئًا.
ويشبه أن يكون وجه ضرب المثل بالكلب؛ لما أن من عادة الكلاب أنها إذا ظفرت بالجيف تنكب لها، حتى إذا ينادي لها وتدعى لا تكترث إليه ولا تلتفت؛ فعلى ذلك هذا الكافر ينكب لكل جيفة ويخضع، ولا يلتفت إلى ما نودي ودعي إليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ).
أي: يخرج لسانه ويتنفس تنفسًا أشديدًا.
(أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ومعناه - واللَّه أعلم - أن الكلب إذا أصابه العطش والجوع لهث، وإذا لم يصبه لهث أيضًا، فعلى ذلك الكافر يميل إلى ذلك ويختار، أصابته شدة أو لم تصبه؛ أو كلام نحو هذا.
وقال قتادة: هذا مثل الكافر، ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب.
(ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) ضرب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مثل الكافر مرة بالكلب، ومرة بالميت، ومرة بالأعمى، ومرة بالتراب، ومرة بالأنعام،
92
ونحو هذا؛ وذلك لما فيه من معاني ما ذكر.
وقوله: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ...)، وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) أمر رسوله ليقص أنباء الأمم السالفة على هَؤُلَاءِ؛ ليكون زجرًا وتحذيرًا للكفار؛ ليعلموا ما حل بأُولَئِكَ بصنيعهم؛ ليحذروا عن مثل صنيعهم، ويكون عظة وتذكيرًا للمؤمنين؛ كقوله: (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) قد ذكرنا في غير موضع أن آياته، قيل: دينه.
وقيل: حججه وبر اهينه.
وقوله: (سَاءَ مَثَلًا) أي ساء مثل، الأفعال التي ضرب اللَّه مثلها بالذي ذكر في القرآن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)
شهد اللَّه - تعالى - أن من هداه فهو المهتدي؛ أي: من هداه اللَّه في الدنيا فهو المهتدي في الآخرة، ومن يضلل اللَّه في الدنيا فهو الخاسر في الآخرة، فلو كانت الهداية البيان والأمر والنهي - على ما ذكر قوم - لكان الكافر والمؤمن في ذلك سواء؛ إذ كان البيان والأمر والنهي للكافر على ما كان للمؤمن فلم يهتد، فدل أن في ذلك من الله زيادة معنى للمؤمن لم يكن ذلك منه إلى الكافر، وهو التوفيق والعصمة والمعونة، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن، ولو كان بيانًا لكان ذلك البيان من الرسل وغيره على قولهم؛ وكذلك قوله: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) أخبر أن من أضله فقد خسر؛ دل أنه كان منه زيادة معنى، وهو الخذلان والترك، أو خلق فعل الضلال، وليس على ما يقوله المعتزلة أنه قد هداهم جميعًا، لكن لم يهتدوا؛ فيقال لهم: أنتم أعلم أم اللَّه؟! كما قال لليهود: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)، فظاهر الآية على خلاف ما يقولون ويذهبون.
الآية ١٧٨ وقوله تعالى :﴿ من يهد الله فهو المهتدي ﴾ شهد الله تعالى من هداه فهو المهتدي ؛ أي من هداه الله في الدنيا فهو المهتدي في الآخرة ﴿ ومن يضلل ﴾ في الدنيا فهو الخاسر في الآخرة. فلو كانت١ الهداية البيان والأمر والنهي على ما ذكره قوم لكان الكافر والمؤمن في ذلك سواء ؛ إذ كان البيان والأمر والنهي للكافر على ما كان للمؤمن، فلم يهتد.
فدل أن في ذلك من الله زيادة معنى للمؤمن، لم يكن ذلك منه إلى الكافر، وهو التوفيق والعصمة والمعونة. ولو كان ذلك للكافر لاهتدى [ كما اهتدى ]٢ المؤمن. ولو كانت٣ بيانا لكان ذلك البيان من الرسل وغيرهم٤ على قولهم.
وكذلك قوله تعالى :﴿ ومن يضلل ﴾ الله ﴿ فأولئك هم الخاسرون ﴾ أخبر أن من أضله فقد خسر. دل أنه كان منه زيادة معنى، وهو الخذلان والترك، أو خلق فعل الضلال.
وليس على ما يقوله المعتزلة : إنه قد هداهم جميعا، لكن لم يهتدوا، فيقال لهم : أنتم أعلم أم الله تعالى كما قال تعالى لليهود :﴿ قل أأنتم أعلم أم الله ﴾ ؟ [ البقرة : ١٤٠ ] فظاهر الآية على خلاف ما يقولون، ويذهبون.
١ في الأصل وم: كان..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: كان..
٤ في الأصل وم: وغيره..
قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قالت المعتزلة: لم يخلقهم اللَّه - تعالى - لجهنم، ولكن خلقهم وذرأهم وأعطاهم من القوة ما يكسبون الجنة، غير أنهم عملوا أعمالا استوجبوا بها النار، فصاروا للنار بما عملوا من الأعمال، لا أن خلقهم لجهنم.
ثم اختلفوا هم في تأويل قوله: (ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر ما إليه آل عاقبة أمرهم؛ كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) لم يلتقطوه ليكون لهم ما ذكر، ولكن إنما التقطوه ليكون لهم ما ذكر بقوله: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، لهذا التقطوه، لكنه صار لهم ما ذكر، أخبر عما إليه آل أمره؛ فعلى ذلك هذا، وكما يقال:
............ لدوا للموت وابنوا للخراب
ولا أحد يلد للموت ولا يبني للخراب، ولكنه أنبأ بما يئول إليه عاقبة أمره من الموت والخراب؛ إلى هذا يذهب عامة المعتزلة.
وقال أبو بكر الأصم: الآية على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولقد ذرأنا كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أُولَئِكَ لجهنم، وأُولَئِكَ كالأنعام.
لكن هذا بعيد؛ لأنه لو جاز هذا في هذا لجاز مثله في جميع القرآن أن يجعل أول الآية في آخرها، وآخرها في أولها، فهذا محال.
94
وأما قولهم: إنه إخبار عما آل إليه عاقبة أمرهم، واستشهادهم بقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ...)، فهو يصلح: لمن يجهل عواقب الأمور، يخرج ذلك منه على التنبيه والإيقاظ؛ لما لم يعرفوا عاقبة ما أبه أصار إليه الأمر، فأما اللَّه - سبحانه عالم السر والعلانية وما كان ويكون في الأوقات التي تكون - لا يحتمل ذلك.
وقول الناس:
لدوا للموت، وابنوا للخراب.
فهو إنما يذكرون هذا عند التنبيه والإيقاظ لجهلهم بعواقب الأمور، وإن كانوا لا يبنون، ولا يلدون للموت والخراب، وما قصدوا له.
وأما التأويل عندنا على ما ذكر في ظاهر الآية أنه خلق لجهنم كثيرًا من الجن والإنس، لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الكفر والأعمال الخبيثة التي يستوجبون بها النار خلقهم لجهنم؛ لما علم منهم ذلك في الأزل أنهم يختارون الأعمال الخبيثة فذرأهم على ما علم منهم أنهم يختارون ويكون منهم، وكذلك خلق المؤمنين للجنة؛ لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الهدى، ويعملون أعمالًا طيبة يستوجبون بها الجنة، خلقهم للجنة لا أن خلقهم للجنة مرسلًا أو خلقهم لجهنم مرسلا، ولكن لما ذكرنا، والله أعلم.
وأما قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ويطيعه، وأما من علم أنه يكفر به ويعصيه فهو إنما خلقه لما علم أنه يكون منه؛ فمن كان علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة، ومن كان علم منه أنه يكون منه الكفر خلقه لذلك؛ لأنه لا يجوز أن يعلم منه المعصية وفعل الكفر فيخلقه على خلاف ذلك؛ دل أنه على ما ذكرناه، واللَّه أعلم.
أو أن يقال: قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، الفريق الذي علم منه العبادة، لا الكل؛ دليله قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، ولم
95
يقل: ذرأنا الكل؛ فهذه في فريق، وهذه في فريق آخر، وهذا التأويل يرجع إلى الخصوص؛ ألا ترى أن الصبيان والمجانين لم يدخلوا فيه؟!
أو أن يكون قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: إلا لأكلفهم العبادة وآمرهم بها؛ فإن كان هذا فهي على الكل: على الكافر والمؤمن جميعًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: ما خلقت الجن والإنس إلا لتشهد خلقتهم على وحدانية اللَّه، وصرف العبادة إليه، وقد شهدت خلقة كل كافر ومؤمن على وحدانية اللَّه، وألوهمته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا).
الفقه: هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، أو معرفة الشيء بمعناه الدال على مدبره؛ فهَؤُلَاءِ الكفرة لم يفقهوا؛ لما لم ينظروا إلى الأشياء لمعناها وحقائقها، إنما نظروا إلى الأشياء لظواهرها، وكذلك قوله: (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا) لما نظروا إلى ظواهرها، لم ينظروا إلى معانيها وحقيقتها؛ ليدلهم على تدبير منشئها وحكمته.
وكذلك قوله: (وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) لما كانت للأنعام قلوب وأعين وآذان، لكن لا يفقهون معناها وحقيقتها، وإن كانوا يسمعون النداء، وينظرون ظواهر الأشياء؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفار، وإن كانوا يسمعون ويبصرون ما ذكرنا بعد أن لم
96
يفقهوا معانيها وتدبير مدبرها، فهم كالأنعام.
وأصله: أنهم لما لم يستعملوا تلك الحواس فيما جعلت لهم، وإنما جعلت لهم لمعرفة حقائق الأشياء، وما أدرج فيها من المعاني والحكمة، فصاروا في الحقيقة كمن لا حواس له؛ إذ لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك؛ بل كانوا كمن ليس لهم تلك؛ لذلك نفى عنهم، واللَّه أعلم.
وقال قائلون: نفى عنهم هذه الحواس؛ لما لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك؛ بل كانوا كمن ليس لهم تلك الحواس للمعنى الذي جعلت تلك الحواس، فهم كالأنعام، بل هم أضل؛ لأن هَؤُلَاءِ إذا ضلوا الطريق فهدوا وأرشدوا لا يهتدون ولا يرجعون عن ذلك، والدواب إذا ضلوا الطريق فهدوا اهتدوا، وعرفوا، ومالوا إليه، فهم أضل من الأنعام لما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَل هُم أَضَلُّ) لأن بنية الأنعام لا تحتمل فهم ذلك، وبنية هَؤُلَاءِ تحتمل؛ إذ جعل لهم عقولاً تميز وتعرف حكمة مدبرها ومنشئها، لكنهم ضيعوها، ولم يكن من الأنعام تضييع؛ لذلك كان أُولَئِكَ أضل.
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) لما ختم اللَّه على قلوبهم؛ كقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) فمن ثَمَّ لم تفقه قلوبهم، ولم تبصر أعينهم، ولم تسمع آذانهم.
وقال: ثم ضرب لهم مثلا فقال: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) في الأكل؛ لأن همتهم ليست إلا الأكل والشرب، كهمة الأنعام والبهائم ليست همتهم إلا الأكل والشرب وقضاء الشهوة، فهي تسمع النداء ولا تعقل؛ فعلى ذلك الكافر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) في فهم ما ألقي إليهم (بَلْ هُمْ أَضَلُّ)؛ لأنهم أعطوا سبب فهم ذلك، والأنعام لا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ)؛ لأن الأنعام تعرف ربها، وتوحده، وتذكره؛ لقول اللَّه - تعالى -: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، الآية، وكقوله: (كُلٌّ
97
قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَ)، وهَؤُلَاءِ لا يعرفونه، ولا يوحدونه؛ فهم أضل.
أو أن يقال: هم أضل لا يهتدون وإن هدوا ودعوا، والأنعام تهتدي.
أو هم أضل؛ لأنهم يُضلُّون وَيُضلُّون غيرهم، والأنعام لا.
أو هم أضل؛ لأنهم لا ينتفع بهم، والأنعام ينتفع بها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ آلغَفِلُونَ).
عن فهم ما ألقي إليهم وأمروا به.
أو غافلون عما أوعدوا.
وقوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا... (١٨٠)
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل أنهم قد ظنوا أن في إثبات عدد الأسماء إيجاب إثبات عدد من الذات، فأخبر أن ليس في إثبات عدد الأسماء إثبات أعداد من الذات؛ إذ قد يسمي الشيء الواحد بأسماء مختلفة، ثم لا يوجب ذلك إثبات عدد ذلك ولا تجزئته؛ من نحو ما تسمي الحركة: حركة، عرضا، شيئًا، خلقًا، من غير أن أوجب ذلك إثبات عدد الحركة أو تجزئتها، وكذلك في جميع الأشياء؛ فعلى ذلك يخبر أنه ليس في إثبات عدد من الأسماء إثبات عدد من الذات؛ على ما ذكرنا.
ويحتمل أن يكون خرج هذا مقابل قول كان منهم، وهو أن وصفوا اللَّه بشيء لا يحسن أن يوصف به، وأضافوا إليه أشياء لا يصلح أن تضاف؛ من نحو قولهم: يا خالق الخنازير، ويا خالق الخبائث، ويا إله القردة، ونحوه؛ فأخبر أن ادعوه بالأسماء الحسنى مما ثبت عند الخلق أنه مسمى به، من نحو ما أعطاهم؛ يقال: يا هادي، يا مرشد، ونحوه.
ويقال بما أعطاهم من النعم: يا كريم، يا جواد، يا لطيف، ونحوه.
ويقال: يا خالق، يا رازق، يا اللَّه، يا رحمن، يا رحيم؛ لما ظهر في أنفسهم من ألوهيته وربوبيته، فقال: لا تدعوا بكذا، ولكن ادعوا بالأسماء التي ثبت عند الخلق تحقيقها، وأنه يسمى بها، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
98
وقد روي على هذا المعنى أخبر؛ روي أن رجلاً دعا في صلاته فقال: يا اللَّه، ويا رحمن، ويا رحيم، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم مُحَمَّد وأصحابه أنهم يعبدون إلهًا واحدًا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟! فأنزل اللَّه تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) ويحتمل قوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) أي: له الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لا الأصنام التي تعبدونها، نحو ما سموها آلهة وأربابًا، فقال: هذه الأسماء التي تدعون بها الأصنام لله فادعوه بها، ولا تدعوا بها الأصنام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ).
يحتمل أي: لا تكافئهم بصنيعهم ولا تجازهم بأذاهم إياك؛ فإن اللَّه هو المكافئ لهم والمجازي بصنيعهم؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وقوله: (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ).
قيل: الإلحاد هو الجور والميل عن الحق، والوضع في غير موضعه، وهم سموا ملحدين لما سموا غيره بأسمائه، أو لإشراك غيره في أسمائه.
أو سموا بذلك لما صرفوا شكر نعمه إلى غيره، وعبدوا دونه، مع علمهم أنه لم يكن منهم إليهم شيء من ذلك، إنما كان ذلك لهم من الله.
قال ابن عَبَّاسٍ: الإلحاد: الميل، في جميع القرآن.
وقيل: الإلحاد: التكذيب.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (يُلْحِدُونَ) أي: يجورون عن الحق ويعدلون.
وأصله: الجور والميل.
99
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال: هذه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له، والظفر على أعدائه في الدنيا.
وقال قائلون: هو حرف وعيد؛ أوعدهم - عَزَّ وَجَلَّ - بأذاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) أي: يهدون الخلق بالحق الذي عندهم، وهو القرآن والكتب التي عندهم.
وأمكن أن يكون الحق هو رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، به يهدون الناس، وبه يعملون.
وجائِز أن يكون قوله: (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي: يدعون الخلق إلى سبيل اللَّه؛ على ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
ويحتمل الحق - هاهنا - هو اللَّه؛ كقوله: (أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي: بالحق الذي يهدون يعملون؛ كقوله: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ...) الآية.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
قد ذكرنا هذا في غير موضع.
100
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ).
قال قائلون: هو صلة قوله: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه الوعد لرسول اللَّه بالنصر له، والظفر على أعدائه.
والاستدراج: هو الأخذ في حال الغفلة من حيث أمن الرجل بغتة؛ كقوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
وقال قائلون: الاستدراج: المكر، لكن معنى ما يضاف الاستدراج والمكر إلى الخلق غير المعنى الذي يضاف إلى اللَّه، والجهة التي تضاف إلى اللَّه غير الجهة التي تضاف إلى الخلق والجهة التي تضاف إلى الخلق مذمومة، والجهة التي تضاف إلى الله محمودة، وكذلك ما أضيف إلى اللَّه من المكر، والخداع والاستهزاء ونحوه، هو ما ذكرنا على اختلاف الجهات، والمعنى في الجهة التي تضاف إلى اللَّه غير الجهة التي تضاف إلى الخلق؛ لأن اللَّه - تعالى - يأخذهم بما يستوجبون ويستحقون بحق الجزاء والمكافأة، فلا يلحقه في ذلك ذم، وأما الخلق فيما بينهم يمكرون ويكيدون، لا على الاستحقاق والجزاء.
وعن الحسن في قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) قال: كلما جددوا لله معصية، جدد اللَّه لهم نعمة؛ ليستهزءوا ويأشروا ويبطروا، ثم يهلكهم.
101
الآية ١٨٢ وقوله تعالى :﴿ والذين كذّبوا بآياتنا ﴾ قد ذكرنا هذا في غير موضع. وقوله تعالى ﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ قال قائلون : هذا صلة قوله تعالى :﴿ ساء مثلا القوم الذين كذّبوا بآياتنا ﴾ [ الأعراف : ١٧٧ ] الآية. وقال بعضهم : فيه الوعد لرسول الله بالنصر والظفر على أعدائه. والاستدراج هو الأخذ في حال الغفلة١ من حيث أمن بغتة كقوله تعالى :﴿ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ [ الأعراف : ٩٥ ].
وقال قائلون : الاستدراج المكر، لكن معنى ما يضاف الاستدراج والمكر على الخلق غير المعنى الذي يضاف إلى الله، [ والجهة التي تضاف إلى الله غير الجهة التي تضاف إلى الخلق ]٢، والكيد٣ الذي يضاف إلى الخلق مذموم، والكيد٤ الذي يضاف إلى الله محمود، وكذلك ما أضيف إلى الله من المكر والخداع والاستهزاء ونحوه، وهو ما ذكرنا على اختلاف الجهات.
والمعنى في الجهة التي تضاف إلى الله غير الجهة التي تضاف إلى الخلق ؛ لأن الله تعالى يأخذهم مما يستوجبون، ويستحقون بحق الجزاء والمكافآت، فلا يلحقه في ذلك ذم. وأما الخلق في ما بينهم يمكرون، ويكيدون لا على الاستحقاق والجزاء.
وعن الحسن في قوله تعالى :﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ [ أنه ]٥ قال : كلما جدّدوا المعصية جدّد الله لهم نعمة ليستهزئوا، ويأشروا، ويبطروا، ثم يهلكهم. وقال بعضهم : يظهر لهم النعم، وينسيهم الشكر. وجائز أن يكون مما ذكر من الاستدراج والمكر والكيد عبارة عن العذاب، أي إن أخذي إياهم وعذابي شديد حين٦ قال :﴿ إن كيدي متين ﴾ [ الأعراف : ١٨٣ ] أي عقوبتي شديدة.
١ من م، في الأصل: الفضلة..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: والجهة..
٤ في الأصل وم: والجهة..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: حيث..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يظهر لهم النعم وينسيهم الشكر.
وجائز أن يكون ما ذكر من الاستدراج والمكر والكيد عبارة عن العذاب، أي: إن أخذي إياهم وعذابي شديد؛ حيث قال: (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، أي: عقوبتي شديدة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
أي: كيدوه أنتم وأمهلهم وأكيد لهم؛ كقوله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا...) الآية. فيخرج قوله: (وَأَكِيدُ كَيْدًا)، مخرج جزاء كيدهم؛ وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا)، أي: جزيناهم جزاء مكرهم؛ وكذلك قوله: (سَنمَنتَذ جهُم)، أي: نجزيهم جزاء استدراج وما هو عندهم كيد، وكذلك نفعل بهم ما هو عندهم مكر وخداع، وإن لم يكن من اللَّه مكر وخداع؛ كقوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: إعادة الشيء عندع أهون من الابئ اء، وإنى شت الإعادة والابتداء أسواء على اللَّه؛، فعلى ذلك قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ)، (كَيْدِي مَتِينٌ) ونحوه، أي: نفعل بكم ما هو استدراج وكيد عندكم، واللَّه أعلم.
ودل قوله: (وَأُمْلِي لَهُمْ) وعلى أنه لم ينشئهم لحاجة له إليهم، أو لمنفعة له فيهم، ولكن أنشأهم لحوائج أنفسهم، ولمنافع ترجع إليهم، حتى إن عملوا نفعوا أنفسهم، وإن تركوا ضروا أنفسهم.
- وقوله: (مَتِينٌ).
قيل: شديد، أي: عقوبتي شديدة، والمتين: هو المحكم القوي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ... (١٨٤)
إن الكفرة كانوا ينسبون رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إلى الجنون أحيانًا، والذي حملهم على ذلك - واللَّه أعلم - أنهم كانوا أهل العز والشرف في الدنيا، وكان لا يخالفهم أحد، ولا يستقبلهم بالمكروه إلا أحد رجلين: رجل ذو قوة وهيبة، وله أعوان
الآية ١٨٤ وقوله تعالى :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾ إن الكفرة كانوا ينسبون رسول الله إلى الجنون أحيانا. والذي حملهم على ذلك، والله أعلم، أنهم كانوا١ أهل العز والشرف في الدنياويّة، وكان لا يخالفهم أحد، ولا يستقبلهم بالمكروه إلا أحد رجلين : ذو هيبة وقوة، وله أعوان وأنصار، أو رجل به جنون لأنهم كانوا يقتلون من يخالفهم في شيء من الأمر. فلما رأوا رسول الله خالفهم، واستقبلهم بما يكرهون، ولم يروا معه أنصارا ولا أعوانا ؛ [ إنه لا يخالفهم ]٢ إلا بجنون فيه، فنسبوه إلى الجنون لذلك، والله أعلم.
ويحتمل أن تكون نسبتهم إياه إلى الجنون لما حرّم عليهم عبادة الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، وهم قد رأوا العقلاء منهم قد عبدوا الأصنام، ولم يحرّموا ذلك. فلما حرّم ذلك [ عليهم ظنوا أنه إنما حرّم ذلك ]٣ لآفة. لذلك حملهم نسبته إلى الجنون، والله أعلم.
ثم عاتبهم بتركهم التفكر فيه بقوله :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾ ليتبين لهم أنه ليس به جنون. وذلك يحتمل وجهين :
[ أحدهما ]٤ : أنهم لو تفكروا في رسول الله بما أخبرهم من المرغوب والمرهوب والمحذور في كتابهم على غير لسانهم واختلاف منه إلى أحد منهم ولا تعلّم لعلموا٥ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم و[ أن ما ]٦ أخبر إنما أخبر بالله.
والثاني٧ : أن يكون قوله تعالى :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾ أي قد تفكروا، وعرفوا أن ليس به جنون، وكذلك في قوله تعالى :﴿ أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ﴾ الآية :[ الأعراف : ١٨٥ ] أي قد تفكروا في ذلك، وعرفوا أن مثل هذا لم يخلق عبثا باطلا كما يقال : ألم تفعل كذا ؟ أي قد فعلت. لكنهم عاندوا، وكابروا آياته وحججه.
وأمكن أن يكون قوله :﴿ أو لم يتفكروا ﴾ أي في أنفسهم وفي أولئك الذين عبدوا [ كثيرا ]٨ من الأصنام والأوثان٩ ليظهر لهم أنهم على باطل وسفه، وليتبين لهم أن الحق هو ما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم لا ما كانوا هم عليه.
وفيه دلالة أن الحق يلزم، وإن كان لا يعلم ذلك إلا بالتفكّر والتدبّر، ما لحق هؤلاء من الوعيد الشديد والعقاب العظيم لما تركوا هم التفكر، وكان لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك. وقوله :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾ إنه ليس به جنة، هو١٠ جواب من الله. ويحتمل : لو تفكروا في صاحبهم أنه ليس به جنة.
ثم أخبر أنه ﴿ نذير مبين ﴾ ليس كما يقولون : إنه مجنون ؛ إذ معه آيات وبراهين، فهو ﴿ نذير مبين ﴾.
١ في الأصل وم: لأنهم..
٢ في الأصل وم: أنهم لا يخلفهم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل: وم: بالنسبة..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل: وم: ليعلموا..
٧ في الأصل: و. م: و..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ في الأصل وم: أو الأوثان..
١٠ في الأصل وم: وهذا..
وأنصار، أو رجل به جنون؛ لأنهم كانوا يقتلون من يخالفهم في شيء من الأمر، فلما رأوا رسول اللَّه خالفهم واستقبلهم بما يكرهون، ولم يروا ماله أنصارًا ولا أعوانًا ظنوا أنه لا يخالفهم إلا بجنون فيه، فنسبوه إلى الجنون لذلك، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن تكون نسبتهم إياه إلى الجنون لما حرم عايهم عبادة الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، وهم قد رأوا العقلاء منهم قد عبدوا الأصنام ولم يحرموا ذلك، فلما حرم ذلك عليهم ظنوا أنه إنما حرم ذلك لآفة، لذلك حملهم بالنسبة إلى الجنون، واللَّه أعلم.
ثم عاتبهم بتركهم التفكر فيه بقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)؛ ليتبين لهم أنه ليس به جنون، وذلك يحتمل وجهين:
أنهم لو تفكروا في رسول اللَّه بما أخبرهم من المرغوب والمرهوب والمحذور في كتابهم على غير لسانهم، واختلاف منه إلى أحد منهم، ولا تعلم - لعلموا أنه رسول، وأن ما أخبر إنما أخبر باللَّه. أو أن يكون قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)، أي: قد تفكروا فيه وعرفوا أن ليس به جنون؛ وكذلك في قوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.....) الآية، أي: قد تفكروا في ذلك، وعرفوا أن مثل هذا لم يخلق عبثًا باطلًا؛ كما يقال: أولم تفعل كذا، أي: قد فعلت، لكنهم عاندوا وكابروا آياته وحججه.
وأمكن أن يكون قوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) أي: في أنفسهم، وفي أُولَئِكَ الذين عبدوا من الأصنام والأوثان؛ ليظهر لهم أنهم على باطل وسفه، وفي نبين لهم أن الحق هو ما يدعوهم إليه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لا ما كانوا هم عليه.
وفيه دلالة أن الحق يلزم وإن كان لا يعلم ذلك إلا بالتنكر والتدبر؛ لما لحق هَؤُلَاءِ من الوعيد الشديد والعقاب العظيم لما تركوا هم التفكر، وكان لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك.
وقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ) أنه ليس به جنة:! هذا جواب من اللَّه.
ويحتمل: لو تفكروا في صاحبهم، لعرفوا أنه ليس به جنة.
ثم أخبر أنه نذير مبين، ليس كما يقولون: إنه مجنون؛ إذ معه آيات وبراهين، فهو نذير مبين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٨٥)
يحتمل هذا على الابتداء.
103
ويحتمل على الصلة بالأول، وهو أنهم إذا تفكروا في ملكوت السماوات والأرض، عرفوا ألوهية اللَّه وربوبيته؛ لما يرون من اتصال منافع بعض ببعض على بعد ما بينهما، واتساق التدبير في ذلك، فعرفوا أن ذلك كله مسخر لمن له التمييز، وأن المقصود في خلقه أهل التمييز، فإذا عرفوا ذلك عرفوا أنهم يحتاجون إلى من يعرفهم ذلك، ويعلمهم ما يحتاجون في ذلك.
ويحتمل على ابتداء الأمر بالتفكر في ملكوت السماوات والأرض (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)؛ ليدلهم على وحدانية اللَّه، وربوبيته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ).
كأن هذا نزل فيمن عرف صدقه، لكنه عاند في تكذيبه، فقال: (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) يحذرهم؛ ليرجعوا إلى تصديقه، مخافة الخروج من الدنيا على ما هم عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).
هذا يتوجه وجهين:
أحدهما: أنكم ممن تقبلون الأخبار والحديث، فإذا لم تقبلوا حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخبره ولم تصدقوه، فبأي حديث بعده تقبلون وتصدقون، ومعه حجج وبراهين؟ والله أعلم.
والثاني: أن يكون قوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يعني، بعد القرآن يؤمنون، وهو كما وصفه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ...) الآية، وقال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)، فإذا لم تقبلوا هذا ولم تصدقوه وهو بالوصف الذي ذكر، وأنتم ممن تقبلون الحديث، فبأي حديث بعده تقبلون.
وجائز أن يكون قوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يريد به في الآخرة؛ يقول: إذا اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون، أي: لا حديث بعده يؤمنون به، والتأويل الآخر في الدنيا.
104
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
وفي موضع آخر: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ)، ولو كانت الهداية الأمر والبيان على ما قاله قوم، لكان ذلك من غيره، وكذلك لو كان الإضلال والإزاغة والنهي هو التخلية، لكان ذلك يكون من غيره، وكل من أراد اللَّه أن يهديه أضله غيره، وكل من أضله اللَّه هداه غيره، فذلك محال مع ما في كل ما أضاف اللَّه الإضلال إلى الخلق ذمه، وفيما أضاف الهداية إليه مدحه، ثم أضافهما جميعًا إلى نفسه؛ دل أن هنالك زيادة معنى ليس ذلك في الإضافة إلى الخلق، وهو ما ذكر في غير موضع:
إما خلق فعل الضلال من الكافر، وخلق فعل الاهتداء والإيمان من المؤمن، أو كان منه التوفيق والمعونة في الهدى، والخذلان في الكفر.
وهذان الوجهان اللذان ذكرناهما لا يكونان من الخلق، إنما يكونان من اللَّه؛ لذلك كان معنى الإضافة إليه، وإنما يكون من الخلق الدعاء وغيره، لا ما قالته المعتزلة من البيان والأمر والنهي والتخلية؛ إذ لا يكون ذلك من الخلق، وباللَّه العصمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ) أي: من أهانه اللَّه بالضلالة، فلا أحد يملك إكرامه بالهدى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
لا ضرر يلحقه في طغيانهم؛ لذلك تركهم فيه، ودل ذلك على أنه لم ينشئهم لحاجة نفسه، ولا لدفع مضرة نفسه، ولكن لحاجة أنفسهم؛ كقوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)، وكقوله: (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، وهو حرف الوعيد.
* * *
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا... (١٨٧) قيل: (أَيَّانَ): متى قيامها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) أي: متى ثبوتها؛ يقال: رسا في الأرض: إذا ثبت، ورسا في الماء، ويقال للجبال: رواس؛ لثبوتها.
ثم اختلف في السؤال عما كان:
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان السؤال عن الفناء وفناء الخلق وهلاكهم؛ لأنه قال في آخره: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وونحوه قوله: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً...) الآية، وذلك يكون في الدنيا.
وقال قائلون: كان السؤال عن البعث وقيام الساعة؛ إنكارًا منهم إياها واستعجالا للعذاب؛ كقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) وقولهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا...) الآية، وغير ذلك من الآيات؛ يدل على أن السؤال كان عن الساعة، وليس قوله: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وأنه كان عن الفناء؛ إذ كانوا يعاينون الفناء؛ فلا يحتمل أن يكون السؤال عن ذلك.
ثم يحتمل بعد هذا وجهين:
أحدهما: إن كان السؤال من المكذب بها فهو سؤال استهزاء واستعجال لما ذكرنا، وإن كان من المصدق فهو سؤال استعلام وإشفاق؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا؛ كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا)، لما سمعوا من الآيات ما يقرب وقوعها؛ كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وقوله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)، وقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، ونحوه من الآيات، وما سمعوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة كهاتين ".
وفي بعض الأخبار قال: " كادت الساعة أن تسبقني " وغير ذلك من الأخبار،
106
حملهم ذلك على السؤال عنها؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا، زم أمره أن يقول: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، أي: لا يكشفها ولا يظهر وقتها إلا هو، ليس كالأمور التي تجري على أيدي الخلق، ويكون لغيره فيها تدبير من اخراج الثمار والنبات والأمطار، وغير ذلك من الأمور التي تجري على أيدي الخلق ويكون لهم فيها تدبير، أعني الملائكة الذين سلطوا على حفظ المطر والنبات، وأما الساعة فإنها تقوم من غير أن كان لأحد من الخلائق تدبير فيها أو علم، وهو ما وصفها اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، أخبر أن أمر الساعة خارج عن تدبير الخلق؛ بل تقوم بتدبير اللَّه من غير أن يجريها على يد أحدٍ، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
قيل: ثقلت على أهل السماوات والأرض.
ثم اختلف فيه: قال قائلون: قوله: (ثَقُلَتْ) أي: خفيت على أهل السماوات والأرض، فذكر الثقل؛ لأن كل من خفي عليه شيء ثقل عليه، فذكر أنها ثقيلة عليهم؛ لخفائها عليهم.
وقال قائلون: ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض؛ لكثرة أهوالها وشدة وقوعها.
وأمكن أن يكون قوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على نفس السماوات والأرض؛ على ما ذكر في قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) الآْية، وذلك من شدة هولها، ولكن إن كان على نفس السماوات والأرض، أي: لو كانت هي بحيث تعرف وتميز، وبنيتها بنية من يعرف ثقل شيء لثقلت عليها، وهو ما قلنا في قوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) والدنيا لا تغر أحدًا، أي: ما كان منها لو كان ممن يكون منه التغرير لكان تغريرًا؛ فعلى ذلك الأول.
107
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا).
اختلف فيه:
قال قائلون: قوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا)، أي: مكرم مشرف عنده ذو منزلة فيعلمك عنها، وكذلك قيل: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، قيل: بارًّا رحيمًا.
وقال قائلون: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي: عالم بها.
وقال قتادة: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) بهم، كأنك تحب أن يسألونك عنها.
وقال غيره: هو على التقديم والتأخير: يسألونك عنها كانك أحفي يعني كانك، استحفيت السؤال عنها حتى علمتها.
ثم قال: (قُلْ) مالي بها من علم (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنها كائنة.
ويحتمل: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنك لا تعلم أنها متى تكون؟ أو لا يعلمون ما عليهم وما لهم.
وقال الحسن في قوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): إذا جاءت ثقلت على أهل السماوات والأرض، وكبرت عليهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثقل ذكرها على أهل السماوات والأرض.
وقال قتادة: أثقل علمها على أهل السماوات والأرض.
وأصله: ما ذكرنا، أي: خفي علمها على أهل السماء والأرض، وإذا خفي الشيء ثقل.
وقوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) ما ذكرنا من التأويل، واللَّه أعلم.
108
وعلى قول بعضهم: الحفي: الخبير العالم، وقالوا: هو المشرف المكرم البار الذي لا يستخفي منه شيء ولا يلبس عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قال بعض أهل التأويل: قوله: (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا): الهدى والضلالة.
وقال قائلون من أهل التأويل: لا أملك جرَّ النفع إلى نفسي ولا دفع الضر عنها (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)، أي: إلا إن أقدرني اللَّه على ذلك فأملك ذلك.
ويشبه أن يكون قوله: (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) قال ذلك؛ لئلا يتخذوه معبودًا، لا ينسبوه إلى اللَّه بالذي لا يليق النسبة به أنحو، ما قالت النصارى: (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات اللَّه؛ لعظيم ما وقع عندهم من محل هَؤُلَاءِ وقدرهم، فقال: (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا)؛ لئلا ينسبوه إلى اللَّه من الوجه الذي نسب أُولَئِكَ، أظهر من نفسه العجز والعبادة، وهو ما قال عيسى صلوات اللَّه عليه حيث قال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ...) الآية.
وقال ابن عَبَّاسٍ في قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا): وذلك أن أهل مكة قالوا: ألا يخبرك ربك يا مُحَمَّد بالتجارة المربحة فتتجر فيها فتربح، أو لا يخبرك بسنة القحط والجدوبة، أو يخبرك بوقت السعة والخصب؟! فقال عند ذلك: (وَلَو كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) من جدوبة الأرض والقحط؛ (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) يقول: لتهيأت لذلك (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) من الضر والشدة؛ إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل.
وقالوا في قوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ومن العمل الصالح.
ولكن الوجه فيه غير ما ذهبوا إليه؛ لأنه إن كان لا يعلم متى يموت؟ لا يستكثر من
109
الخير ومن العمل الصالح، أو لو كان يعلم الغيب لاستكثر المال على ما قَالَ بَعْضُهُمْ؛ هذا بعيد.
ولكن التأويل - واللَّه أعلم - أن يجعل قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) أي: لا أعلم لكم نفعًا ولا ضرًّا، ولو كنت أعلم لكم الغيب لاستكثرت من الخير عند اللَّه، أي: لو كنت أعلم لكم ذلك لصدقتموني وآمنتم بي ولاستكثرت من الخير عند اللَّه بإيمانكم باللَّه وتصديقكم إياي.
أو أن يقال: لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا، ولو كنت أملك لكم ذلك لاستكثرت من الخير؛ لأنكم إذا رأيتموني أملك نفع ما غاب عنكم ودفع ضر ما غاب، لآمنتم بي وصدقتموني، فأنا بذلك استوجبت عند اللَّه خيرًا كثيرًا، يجعل قوله: (وَلَو كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) جواب ما تقدم من الكلام، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) أي: لا أعلم الغيب إلا قدر ما أوحي إليَّ (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أعلم الغيب قبل أن يوحى إلي، ولو كنت أعلم ذلك لاستكثرت من الخير بذلك.
وحاصل التأويل في قوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ): ما ذكرنا بتصديقكم إياي وإيمانكم بي، أو ما ذكرنا من السعة والخصب في الدنيا لأهله ولأصحابه، أو ما ذكرنا، أي: لو كنت أملك لكم نفع ما غاب عنكم ودفع ضرر ما غاب -أيضًا- لآمنتم بي وصدقتموني، فأنا بذلك استوجبت عند اللَّه خيرًا كثيرًا.
وجائز أن يكون قوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي: لو كنت أعلم من المصدق ومن المكذب لاستكثرت من الخير؛ لأنه لا يشتغل بمن يعلم أنه يرد ولا يجيب، وإنما يشتغل بمن يعلم منه أنه يجيب ولا يكذب، فيستكثر أتباعه والمطيعين لله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) هو صلة قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) كانوا يقولون: إن به جنونًا، فقال: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) من النسبة إلى الجنون، ويقول: ما مسني السوء منكم: سوء ردٍّ وتكذيب؛ لأنه لو علم الذي يجيبه ويصدقه من الذي لا يجيبه ولا يصدقه، لم يمسه سوء من الرد والأذى؛ لأنه لا يشتغل به
110
يعد ما أقام عليه الحجة وعلم من المجيب منكم ومن الرادِّ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [..... ].
* * *
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)
وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا...) الآية.
قال عامة أهل التأويل: إن آدم وحواء لما أهبطا تغشاها آدم، فحملت، فأتاها إبليس فقال: يا حواء، ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: لا أدري، قال: لعله بهيمة من هذه البهائم: ناقة، أو شاة، أو بقرة، قالت: لا أدري، فأعرض عنها، فلما
111
أثقلت أتاها فقال: كيف تجدينك؟ قالت: إني لأخاف أن يكون الذي ذكرت، ما أستطيع القيام إذا قعدت إلا بجهد، قال: أفرأيت إن دعوت اللَّه يجعله إنسانًا مثلك ومثل آدم أتسمينه بي؟ قالت: نعم، فانصرف عنها، وقالت لآدم: لقد أتاني آت فخوفني بكذا، وإني لأخاف مما ذكر، فدعوا اللَّه في ذلك بقوله: (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا)، يقول: جعلته إنسانًا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، فكان هذا دعاؤهما قبل أن تلد، فلما ولدت أتاها إبليس وقال: ألا تسمينه بي كما وعدتني؟ قالت: نعم، ما اسمك؟ قال: اسمي الحارث، فسمته: عبد الحارث؛ فذلك قوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا)؛ على هذا حمل أهل التأويل الآية وإلى آدم وحواء صرفوها، وذلك وخش من القول، قبيح في آدم وحواء ذلك، ولو ثبت ما قالوا: إنهما سميا ولدهما باسمه ونسباه إليه، لم يكن في ذلك إشراك؛ إذ لو كان في مثله إشراك لكان فيما أضاف العبيد والمماليك إلى الخلق إشراك في ألوهيته.
ثم التأويل عندنا على غير ما ذهبوا إليه - واللَّه أعلم - وهو أن قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يعني: من آدم، (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا): حواء، أي: خلق الذكور كلهم من آدم، وخلق الإناث كلهن من حواء؛ كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، أخبر أن الأزواج خلقهن من نفس الأزواج، فلما أضاف الزوجات
112
إلى أنفس الأزواج وأنهن من أنفسهم خلقهن؛ كان قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) كل زوجة وزوج إذا تغشاها وحملت دعا آدم وحواء: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إذ جميع الأولاد أولادهما، يدعون اللَّه في ذلك ليكون صالحًا؛ فمن كان مسلمًا منهما كان بدعائهما؛ فعلى هذا التأويل يحصل دعاؤهما لأولادهما الذين يولدون إلى يوم القيامة؛ لأنهما أب وأم، وقد يدعو الوالدان لأولادهما بالصلاح والخير؛ على هذا يجوز أن يخرج تأويل الآية، وأما ما قال أُولَئِكَ فهو بعيد محال، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن العرب كان إذا ولد لهم أولاد ذكور ينسبون إلى الأصنام التي يعبدونها ويضيفون إليها؛ تعظيمًا لها؛ يقولون: ابن اللات، وابن العزى، وابن المناة، ونحو ذلك، وكانوا يقتلون البنات، وكان إذا أصابتهم الشدة يفزعون إلى الله ويتضرعون إليه؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وكقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ....) الآية (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ....) الآية، فلما ذهب ذلك عنهم وانجلى عادوا إلى ما كانوا من قبلِ؛ كقوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، وقوله: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ...) الآية، فإذا كان من عادة العرب ما ذكرنا، كان إذا حملت زوجة منهم وثقل ما في بطنها، جعلا يدعوان اللَّه ربهما لئن آتيتنا صالحًا ذكرًا وسلمت من الولادة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) يعني: ذكرًا (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ
113
فِيمَا آتَاهُمَا) أي: جعلا لله شركاء في الولد الذي ولد لهما، وينسبونه إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها، فذلك قوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) فتعالى اللَّه عما يشركون، والله أعلم بذلك.
وقال الحسن: الآية في مشركي العرب، إلا قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) فإن ذلك في آدم وحواء.
ألا ترى أنه قال: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) دل أنه ما ذكرنا.
وقال أبو بكر الأصم: قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهي نفس آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: خلق كل نفس منكم من تلك النفس، وجعل لكل نفس منكم زوجة من تلك النفس ليسكن إليها؛ فعلى هذا التأويل يصرف آخر الآية إلى غير آدم وحواء.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله (فَمَرَّتْ بِهِ) أي: استمرت بالحمل، وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إن العرب كانت تعبد الأصنام تقليدًا لآبائهم وسلفهم، فيذكر سفههم أن النفس التي خلقتم منها لم تقلد أحدًا، ولم تشرك أحدًا، إنما اتبعت ما في العقل حسنه، أو ما في السمع من الأمر، فكيف اتبعتم أنتم النفس التي خلقتم منها، وهي لم تتبع إلا ما ذكرنا دون ما اتبعتم في الإشراك له آباؤكم.
ولو كانت القصة في آدم على ما يقول أهل التأويل، فيكون للعرب بها تعلق واقتداء، فيقولون: إنه أشرك، ونحن نشرك، فدل أنه ليس على ما قالوا، ولكن على الوجوه التي ذكرنا.
وفي قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) دلالة أن ليس لأحد من البشر على آخر فضل من جهة الخلقة والنسبة؛ إذ كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة، وهم إخوة
114
الآية ١٩٠ [ وقوله تعالى ]١ ﴿ فلما آتاهما صالحا ﴾ يعني ذكرا ﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ﴾ والله أعلم بذلك.
وقال الحسن : الآية في مشركي العرب إلا قوله تعالى :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ﴾ فإن ذلك في آدم وحواء. ألا ترى أنه قال :﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾ ؟ [ الأعراف : ١٩١ ] دل ما ذكرنا.
وقال أبو بكر الأصمّ : قوله تعالى :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ وهي٢ نفس آدم ﴿ وجعل منها زوجها ﴾ أي خلق كل نفس منكم من تلك النفس، وجعل لكل نفس منكم زوجة من تلك النفس ﴿ ليسكن إليها ﴾ فعلى هذا التأويل يصرف آخر الآية إلى غير آدم وحواء.
وقال القتبيّ : قوله تعالى :﴿ فمرّت به ﴾ استمرت بالحمل، وقوله تعالى :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ إن العرب كانت تعبد الأصنام تقليدا لآبائهم وسلفهم، فيذكر سفههم أن النفس التي منها لم تقلّد أحدا، ولم تشرك أحدا. إنما اتبعت ما في العقل حسنه أو ما في السمع من الأمر. فكيف اتبعتم أنتم النفس التي خلقتم منها ؟ وهي لم تتبع إلا ما ذكرنا دون ما اتبعتم في الإشراك له آباءكم.
ولو كانت القصة في آدم على ما يقول أهل التأويل [ لكان ]٣ للعرب تعلّق واقتداء، فيقولون : إنه إشراك، ونحن نشرك. فدل أنه ليس على ما قالوا، ولكن على الوجوه التي ذكرنا.
وفي قوله تعالى :﴿ خلقكم من نفس واحدة ﴾ دلالة أن ليس لأحد من البشر على آخر [ فضل ]٤ من جهة الخلقة والنسبة ؛ إذ كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة، وهو إخوة وأخوات. وإن كان لأحد فضل على آخر فإنما يكون لأعمال يكتسبها وأخلاق محمودة ومحاسن يختارها. وأما من جهة الخلقة فلا فضل لبعض على بعض كقوله تعالى :﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ [ الحجرات : ١٣ ].
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: وهو..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
وأخوات، وإن كان لأحد فضل على آخر فإنما يكون لأعمال يكتسبها، وأخلاق محمودة ومحاسن يختارها، وأما من جهة الخلقة فلا فضل لبعض على بعض؛ كقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
يذكر سفههم أنهم يشركون في عبادته وألوهيته من يعلمون أنه لم يخلقهم، وإنَّمَا خلقهم اللَّه - سبحانه وتعالى - وهم مخلوقون؛ فصرف العبادة إلى غير الذي خلقهم سفه وجور.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)
يسفههم -أيضًا- أن في الشاهد لا يخضع أحد لأحد ولا يشكر له إلا مجازاة لما سبق منه إليه من النعمة، أو لما يأمل في العاقبة من المنفعة، وأنتم تعبدون هذه الأصنام ولم يسبق منها إليكم شيء، ولا لكم رجاء يقع في العاقبة؛ فكيف تعبدونهم؟!
(وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا) لا يدفعون عنهم الضر (وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي: ولا من قصد قصدهم بالكسر والإتلاف يملكون دفعه عن أنفسهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ).
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) يعني: الأصنام، (إِلَى الْهُدَى): ليهتدوا، (لَا يَتَّبِعُوكُم) أي: لا يجيبوكم ولا هم يهتدون.
والثاني: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) إلى ما لكم إليه من حاجة (لَا يَتَّبِعُوكُم): لا يقضون ولا يملكون ذلك.
ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين؛ يقول: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي: أهل مكة
الآية ١٩٢ وقوله تعالى :﴿ لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ﴾ يسفّههم أيضا، إن في الشاهد لا يخضع أحد لأحد، ولا يشكر له إلا مجازاة لما سبق منه إليه من النعمة أو لما يأمل في العاقبة من المنفعة، وأنتم تعبدون هذه الأصنام، ولم يسبق منها إليكم شيء، ولا لكم رجاء يقع في العاقبة، فكيف تعبدون من١ لا يستطيعون لكم نصرا ؟ [ ولا ]٢ يدفعون عنكم الضر ﴿ ولا أنفسهم ينصرون ﴾ أي ولا من قصد قصدهم بالكسر والإتلاف يملكون دفعة عن أنفسهم، والله أعلم.
١ في الأصل وم: أو..
٢ ساقطة من الأصل وم..
الآية ١٩٣ وقوله تعالى :﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتّبعوكم ﴾ يحتمل هذا وجهين :
[ أحدهما ]١ : يحتمل ﴿ وإن تدعوهم ﴾ يعني الأصنام ﴿ إلى الهدى ﴾ ليهتدوا ﴿ لا يتّبعوكم ﴾ أي لا يجيبوكم، ولا يهتدوا٢.
والثاني :﴿ وإن تدعوهم ﴾ إلى مالكم إليه حاجة ﴿ لا يتّبعوكم ﴾ لا يقضوا٣، ولا يملكوا٤ ذلك.
ويحتمل٥ أن يكون الخطاب للمسلمين ؛ يقول :﴿ وإن تدعوهم ﴾ أي أهل مكة ﴿ إلى الهدى لا يتّبعوكم ﴾ أي لا يجيبوكم.
وجائز أن يكون يخاطب به، أهل مكة، يقول : وإن تدعوا الأصنام التي تعبدونها إلى الهدى لا يملكوا٦ إجابتكم ؛ يسفّههم في عبادتهم من حاله ما وصف.
وقوله تعالى :﴿ سواء عليكم أدعوتهم أم أنتم صامتون ﴾ أم أن تكون الآية في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا كقوله تعالى :﴿ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ [ البقرة : ٦ ويس : ١٤٠ ] وقال بعضهم : قوله تعالى :﴿ وإن تدعوهم ﴾ يعني المشركين ﴿ إلى الهدى لا يتّبعوكم ﴾. فعلى ذلك يخرّج قوله تعالى :﴿ سواء عليكم أدعوتموهم ﴾. وأمكن أن يكون قوله تعالى :﴿ سواء عليكم أدعوتموهم ﴾ في الأصنام، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: يهتدون..
٣ في الأصل وم: يقضون..
٤ في الأصل وم: يملكون..
٥ الواو ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: يملكون..
(إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ) أي: لا يجيبوكم.
وجائز أن يكون يخاطب به أهل مكة؛ يقول: وإن تدعوا الأصنام التي تعبدونها إلى الهدى لا يملكون إجابتكم؛ يسفههم في عبادتهم من حاله ما وصف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ).
أمكن أن تكون الآية في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ كقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) يعني: المشركين (إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ)؛ فعلى ذلك يخرج قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ).
وأمكن أن يكون قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) في الأصنام، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ... (١٩٤)
يحتمل قوله: (تَدْعُونَ) أي: تعبدون من دون اللَّه، وقد كانوا يعبدون من دون الله أصنامًا وأوثانًا.
ويحتمل (تَدْعُونَ) أي: تسمونهم من دون اللَّه آلهة.
وقوله: (عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) في الخلقة والدلالة على وحدانية اللَّه في التدبير دونهم؛ لما قال: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا....) إلى آخر ما ذكر، أي: ليس لهم ما ذُكِر فهم دونهم في التدبير والمعونة.
ويحتمل قوله: (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) الملائكة الذين عبدوهم أهم، عباد أمثالكم، فلا تسموهم آلهة، أي: لا تعبدوا عبادًا أمثالكم، ولكن اعبدوا من لا مثل له ولا نظير له.
وإن كان قوله: (عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) الملائكة، فقوله: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا.....) الآية، هو منه مقطوع منصرف إلى الأصنام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ذكر الدعاء والاستجابة، ولم يبين في ماذا يستجيبون، ولا يجب أن تفسر الاستجابة في الشفاعة، أو في التقريب إلى اللَّه، أو في غيره؛ إلا أن يعلم أنهم كانوا يدعونهم بكذا،
ويطلبون منهم كذا وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنهم آلهة على ما تزعمون.
أو (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيما تزعمون أن عبادتكم إياها تفربكم إلى اللَّه زلفى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
يسفه عقولهم بعبادتهم الأصنام التي لا أرجل لهم يمشون بها يهربون ممن يقصدهم بالسوء، أو يقصدون بها قصد من أراد الضر بهم والسوء، وكذلك يعبدون ما لا أيدي لهم يبطشون بها ويدفعون عن أنفسهم من أراد السوء، أو يأخذون من يقصدهم، وكذلك قوله: (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ) يبصرون من يقصدهم بالسوء، (أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) من يشتمهم ويذكرهم بالسوء، يسفههم في عبادتهم من لا يملك دفع من يقصده بالسوء، إما هربًا منه، وإما قصدا منه إليه بالسوء، فإذا كانوا لا يملكون ذلك كيف تعبدونهم؟! وهو كقول إبراهيم - عليه السلام -: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، فإذا كانوا لا يملكون دفع ما يحل بهم، فكيف يملكون جر النفع إليكم، أو دفع الضر عنكم؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ).
قال بعض أهل التأويل: خاطب به كفار مكة بقوله: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) الذين تزعمون أنهم آلهة دون اللَّه.
ويحتمل قوله: (شُرَكَآءَكُم) أي: ادعوا من شاركوكم في عبادة من دونه ثم كيدون.
ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الكفار الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من دون اللَّه، قال ذلك لهم رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بين ظهرانيهم: (ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) فلم يقدر أحد الكيد به والضرر مع قوتهم وعدتهم بالكثرة والأعوان، وضعف رسول اللَّه، وقلة أعوانه؛ دل عجزهم عن ذلك أنه كان آية في نفسه، وأنه باللَّه - تعالى - ينتصر، وبه قوي على أعدائه، وذلك من عظيم آياته؛ لأنه قال ذلك لمن كانت همتهم
القتل والإهلاك لمن خالفهم فيما هم فيه، ثم لم يقدر أحد منهم الضرر به؛ دل أنه كان باللَّه حفظه، وكذلك سائر الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - حيث قالوا بين ظهراني قومهم - من نحو هود ونوح وهَؤُلَاءِ -: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)، وقال نوح: (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ....) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)
ذكر هذا على إثر قوله: (ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)؛ كما ذكر هود: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ). وكما قال نوح: (إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ). فزعوا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عند وعيد قومهم بالإهلاك، وعليه اعتمدوا، وبه وثقوا؛ فعلى ذلك رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي: هو وليي يحفظني، وهو يتولى حفظ الصالحين، أي: بتوليه صلحوا.
أو يتولى ويحفظ الصالحين مقابل قول من ذكرنا من الرسل لقومهم.
ثم قوله: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) عَزَّ وَجَلَّ.
يحتمل: حافظي وناصري.
أو وَلِيِّي تدبيري اللَّه (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ).
أو ولي أمري.
أو أولى بي اللَّه (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) الذي عجزت الخلائق عن إتيان مثله (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) يذكر سفههم بعبادتهم من عجز عن دفع الضرر عن نفسه، فضلاً أن يدفع ذلك عنهم أو يجروا إلى أنفسهم منفعة، وأخبر عن جهلهم أنهم يعبدون من لا يملك دفع ضر ولا جر نفع.
وقوله: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يخاطب به المؤمنين بقوله:
الآية ١٩٧ وقوله تعالى :﴿ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾ يذكر سفههم بعبادتهم من عجز عن دفع الضرر عن نفسه فضلا أن يدفع ذلك منهم، أو يجرّوا إلى أنفسهم منفعة.
الآية ١٩٨ وأخبر عن جهلهم لأنهم يعبدون من لا يملك دفع ضر ولا جر نفع بقوله تعالى :﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ [ الآية : ١٩٨ ] الهدى. هذا يخرّج على وجهين :
أحدهما : يخاطب به المؤمنين بقوله١ تعالى :﴿ وإن تدعوهم ﴾ [ يعني ]٢ أهل مكة ﴿ إلى الهدى لا يسمعوا ﴾ أي [ لا ]٣ يجيبوا ﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ أي لا ينتفعون به، أو لشدة تعنّتهم لا يبصرون.
[ والثاني : يخاطب به الكافرين ]٤ وإن تدعوا الأصنام التي تعبدون ﴿ إلى الهدى لا يسمعوا ﴾ أي لا يجيبوا، ولا يملكوا٥ الإجابة.
ويحتمل ﴿ لا يسمعوا ﴾ حقيقة السمع ﴿ وتراهم ينظرون إليك ﴾ على التمثيل ؛ كأنهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون حقيقة.
١ في الأصل وم: وقوله..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: وجائز أن يكون يقول..
٥ في الأصل وم: يملكون..
وإن تدعو أهل مكة إلى الهدى، (لَا يَسْمَعُوا) أي: لا يجيبوا (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) أي: لا ينتفعون به، أو لشدة تعنتهم لا يبصرون.
وجائز أن يكون يقول: وإن تدعوا الأصنام التي تعبدون إلى الهدى (لَا يَسْمَعُوا) أي: لا يجيبوا، ولا يملكون الإجابة.
ويحتمل (لَا يَسْمَعُوا) حقيقة السمع، (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) على التمثيل، أي: كأنهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون حقيقة.
* * *
قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذِ الْعَفْوَ) يتوجه وجهين:
أحدهما: على حقيقة الأخذ.
والثاني: على العمل بالعفو.
فإن كان على الأخذ فهو على وجهين:
الأول: ، يحتمل أن خذ الفضل الذي لا حق فيه، وهو القليل من ذلك واليسير.
والثاني: أن خذ ما يفضل من أنفسهم وحوائجهم من غير مسألة، أي: اقبل منهم ما أعطوك، ولا تلح في المسألة؛ كقوله: (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا). أخبر أنه إن يسألهم أموالهم حملهم ذلك على البخل.
وإن كان على العمل فهو على وجوه:
أي: اعف عن الظلمة، عن ظلمهم، وأعرض عن السفهاء واحلم معهم؛ أمر رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أن يعامل الخلق بأشياء ثلاثة: أمر أن يعفو عن الظلمة عن ظلمهم، لا يكافئهم بظلمهم، وأمر أن يعرض عن السفهاء والجهال ويحلم معهم، وأمر أن يعامل المؤمنين باللين والرفق؛ ولذلك وصفه بالرحمة والرأفة بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
119
وروي عن عبد اللَّه بن الزبير قال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قال: ما أنزل اللَّه هذه الآية إلا في أخلاق الناس.
وعن قتادة: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) قال: خلق حسن أمر اللَّه به نبيه ودعاه إليه.
إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل، وإلى ذلك صرف تأويل الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو أخذ الفضل من المال على ما ذكرنا؛ فهو منسوخ بآية الزكاة.
وروي في حرف ابن مسعود وأبي: (خذ العفو وأمر بالعرف وانه عن المنكر وأعرض عن الجاهلين).
وفيه دلالة أنه أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمعروف: هو اسم كل خير، وأمره بأن يأخذ بالعفو عن الظلمة، على ما ذكرنا، وعلى ذلك روي عن عائشة قالت: كان رجل يشتم رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ويؤذيه، فدخل على رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فأوسع له، وأدناه، ورحب به؛ قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أليس هذا كان يشتمك؟ قال: " بلى يا عائشة؛ إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء شرورهم وألسنتهم " إلى مثل هذا دعى رسول اللَّه بالعفو والصفح عن الظلمة وترك المكافأة.
وقوله: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي: مر الناس بالعرف، وهو ما تشهد خلقتك وتأمرك به أشياء ثلاثة، اثنان فيما بينه وبين ربه، والواحد فيما بينه وبين الناس؛ أما الاثنان اللذان فيما بينه وبين ربه:
أحدهما: تأمر خلقته، وتشهد على وحدانية اللَّه، والدلالة على ألوهيته.
120
والثاني: تشهد على نعم اللَّه إليه فيدعوه إلى الشكر له فيما أنعم اللَّه عليه.
وأما الوجه الذي تدعو خلقته فيما بينه وبين الناس: فهو ما ترغب نفسه في كل محاسن ومرغوب فيه، وتنفر نفسه عن كل أذى وسوء، فأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعامل الخلق بما ترغب نفسه وتطمع في المحاسن، وتنفر عنه وتكره، يفعل إليهم في كل ما ترغب نفسه فيه وتطمع، ويمتنع عن كل أذى وسوء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
قَالَ بَعْضُهُمْ: النزغة هي أدنى أفعال المعصية؛ وكذلك فسره ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - يقول: إذا أذنبت ذنبا فاستعذ باللَّه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) أي: يستخفنك، ويقال: نزغ شيئًا: إذا أفسده.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: النزغ: التحريك للفساد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي: يوسوسك الشيطان وسوسة فاستعذ باللَّه.
ثم في الاستعاذة وجهان:
أحدهما: أمره بالفزع إلى اللَّه عند ما يوسوسه الشيطان والالتجاء إليه؛ لما رأى نفسه عاجزة عن دفع ما يوسوس إليه، ورد ما يكون؛ فهو الدافع عنه ذلك وهو الراد.
وقال الخليل: أعوذ باللَّه، أي: ألجأ إلى اللَّه - تعالى - وكذلك قوله: أستعيذ باللَّه، ومعاذ اللَّه معناه: أعوذ باللَّه، ومنه الإعاذة والتعوذ والتعويذ.
وقال غيره: أعوذ باللَّه، أي: أمتنع باللَّه.
وقيل: أعوذ باللَّه، أي: أتحصن باللَّه.
وقيل: الاستعاذة: هي الاستغاثة باللَّه؛ لدفع ما اعترض له من الشيطان.
وكله قريب بعضه من بعض.
ثم الحكمة فيما جعل عدوهم من غير جنسهم من حيث لا يرونه ويراهم وجهان:
أحدهما: ليكونوا أبدًا على التيقظ والانتباه، غير غافلين عنه.
والثاني: ليكونوا أبدًا فزعين إلى اللَّه - تعالى - متضرعين إليه، مبتهلين؛ ليكون هو الحافظ لهم، والدافع عنهم شره ووسواسه.
وفيما أمر بالفزع إلى اللَّه والاستعاذة به عند نزغ الشيطان نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: قد أعطاهم جميع ما يدفعون به وساوسه ونزغاته، حتى لم يبق عنده شيء يعيذه؛ فعلى قولهم يخرج طلب الإعاذة مخرج كتمان النعمة، أو مخرج الهزء به؛ أما الهزء به، لأنه يسأله ما يعلم أنه ليس ذلك عنده.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
وقرئ: (طيف من الشيطان)؛ فمن قرأ: (طيف) قال: أي، اللمة والخطرة
122
والشيء يغشيك.
وقال: وأما الطائف فهو من الطواف.
وقيل: الطيف: الوسوسة.
وقيل: ما يأتيك من الشيطان.
وقيل: الطائف والطيف سواء.
وعن ابن عَبَّاسٍ: (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) قال: إذا أذنبوا ذنبًا (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) يقول: تذكروا ذنوبهم فتابوا منها، وكذلك قال في قوله: (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ): هو أدنى ذنب يرتكبه، فإن كان على هذا فهو يخرج على النهي عن ذلك، فهو كالمخاطبات التي خاطب بها رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، وإن كان يعلم أنه لا يشك ولا يجهل ولا يشرك غيره في أمره؛ فعلى ذلك هذا الخطاب الذي خاطبه بقوله: (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ).
وإن كان ما ذكر هو من أدنى ذنب يرتكبه، فهو يخرج ذلك على تعليمه أمته أن كيف يفعلون إذا اعترض لهم ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ).
123
يحتمل أن يكون قولهأ: (اتَّقَوْا) مكائد الشيطان؛ إذا أصابهم شيء من ذلك تذكروا ذلك، فعرفوا أنه من الشيطان، (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي: أبصروا أنه من الشيطان.
أو أن يقال: أي: هم من أهل البصر يبصرون عما اتقوا به أنه من الشيطان.
ويحتمل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) المعاصي، إذا أصابتهم وسوسة من الشيطان تذكروا ذلك.
وقال أهل التأويل: قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي: اتقوا الشرك، لكن لا كل من اتقى الشرك يكون كما ذكر.
وقوله: (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا...) الآية.
يحتمل وجوهًا:
أحدها: إذا مسهم ذلك تابوا عما كان منهم؛ كقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً...) الآية.
والثاني: (تَذَكَّرُوا) وجوه حيل دفع وساوسه.
والثالث: (تَذَكَّرُوا) واستعاذوا به حيث أمرهم بالاستعاذة به عند النزغة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
قال بعض أهل التأويل: قوله: (وَإِخْوَانُهُمْ) يعني: إخوان الكفار الشياطين، (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) قالوا: في الشرك والمعصية، (ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)، عنها؛ أي: لا ينتهون عنها، ولا يبصرونها كما أبصر الذين اتقوا عنها حين أبصروها.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَإِخْوَانُهُمْ) يعني: أصحاب الذين اتقوا، وهم شياطينهم من الإنس يدعونهم إلى دينهم، لكنهم لا يجيبونهم ولا يطيعونهم فيما يدعون إليه؛ إذ يجوز أن يكون لكل مؤمن شيطان من الإنس وشيطان من الجن؛ كقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) فقد دعا أُولَئِكَ شياطين الجن فتذكروا فلم يجيبوهم، ثم دعاهم شياطين الإنس -أيضًا- فلا يجيبونهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا).
ظاهر الآية في سؤال أهل الكفر رسول اللَّه الآية أنهم كانوا إذا أتى لهم بآية استهزءوا
الآية ٢٠٣ وقوله تعالى :﴿ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ﴾ ظاهر الآية في سؤال أهل الكفر رسول الله الآية ؛ إنهم كانوا إذا [ أتاهم بآية ]١ استهزؤوا بها، وتعنّتوا. وإذا لم يأتهم بها سألوه الآية سؤال المستهزئين المتعنّتين٢، وإذا لم يأتهم بها ﴿ قالوا لولا اجتبيتها ﴾ لولا ابتدعتها، وأحدثتها، وأنشأتها، وهلاّ أنبأتها من قبل نفسك ؟
فقال تعالى :﴿ قل إنما أتّبع ما يوحى إلي ﴾ أي لا أفتعلها، ولا أنشئها من نفسي ﴿ إنما أتّبع ما يوحى إلي ﴾.
وأمكن أن يكون سؤال الآية من المؤمنين. فإن كان منهم فهو سؤال الاسترشاد لما يزداد لهم بكل آية تنزل عليهم يقين٣ وقوة في دينهم كقوله تعالى :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ﴾ الآية [ التوبة : ١٢٤ ] ﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا ﴾ الآية [ التوبة : ١٢٥ ] وكقوله تعالى :﴿ فإذا أنزلت سورة محكمة ﴾ الآية [ محمد : ٢٠ ]. فإذا كان السؤال من المؤمنين فهو سؤال الاسترشاد٤ وطلب زيادة الهدى. وإن كان من الكفار فهو سؤال الاستهزاء والتعنّت.
ثم أخبر أنه لا يتّبع إلا ما يوحى إليه. ثم أخبر أنه ﴿ بصائر من ربكم وهدى ورحمة ﴾ قيل : بيان أي هذا القرآن بيان من ربكم يبصر به من لم يعاند، ولم يكابر عقله كل ماله وما عليه. وإنه بيان٥ الحق والباطل، ﴿ وهدى ﴾ من الضلالة ﴿ ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ أي ورحمة من العذاب.
١ في الأصل وم: أتى بهم آية..
٢ من م، في الأصل: معنتين..
٣ في الأصل وم: يقينا..
٤ من م، في الأصل: الاشتراك..
٥ في الأصل وم: البيان من..
بها وتعنتوا، وإذا لم يأتهم بها سألوه الآية سؤال المستهزئين المتعنتين، وإذا لم يأتهم بها قالوا: (لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا): لولا ابتدعتها وأحدثتها وأنشأتها، وهلا أنشاتها من قبل نفسك، فقال: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي: لا أفتعلها، ولا أنشئها من نفسي، إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي.
وأمكن أن يكون سؤال الآية من المؤمنين؛ فإن كان منهم فهو سؤال الاسترشاد؛ لما يزداد لهم بكل آية تنزل عليهم يقينًا وقوة في دينهم؛ كقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا...) الآية، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا) الآية، وكقوله: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ...) الآية فإذا كان السؤال من المؤمنين فهو سؤال الاسترشاد وطلب زيادة الهدى، وإن كان من الكفار فهو سؤال الاستهزاء والتعنت، ثم أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه، ثم أخبر أنه (بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ).
قيل: بيان، أي: هذا القرآن بيان من ربكم يبصر به من لم يعاند ولم يكابر عقله ككَ ما له وما عليه، وأنه البيان من الحق والباطل، (وَهُدًى) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي: ورحمة من العذاب.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا.....) الآية.
أمر اللَّه - تعالى - بالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له إذا قرئ، وإن كان في العقل أن من خاطب آخر بمخاطبات يلزمه الاستماع إلى ما يخاطبه ويشافهه، فاللَّه - سبحانه - إذا خاطب بخطاب أولى أن يستمع له مع ما ذكر في غير موضع من القرآن آيات ما يوجب في العقل الاستماع إليه؛ كقوله: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)، وقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وغير ذلك من الآيات، ولا سبيل إلى أن يعرف أنه بصائر، وأنه هدى وما ذكر إلا بالاستماع إليه والتفكر فيه؛ فدل أن الاستماع لازم في العقل من له أدنى عقل؛ على ما ذكرنا من المخاطبات، لكنه ذكر -
125
هاهنا - الاستماع إليه - واللَّه أعلم - لوجهين:
أحدهما: مقابل ما كانوا يقولون: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، أمر - عَزَّ وَجَلَّ - المؤمنين بالاستماع إليه مكان قولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ) وأمر بالإنصات مكان ما يقولون: (وَالْغَوْا فِيهِ).
والثاني: يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة؛ على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في حال الخطبة؛ لما يسبق إلى أوهامهم أنه لما اشتغلوا بغيرها من العبادات ولزموا أنواع القرب أن يسقط عنهم حق الاستماع، فأمر بالاستماع إليه، والإنصات له؛ ليعلموا أن حق الاستماع لازم في كل حال.
ثم الاستماع إليه يكون لتفهم ما أودع فيه من الأمر والنهي، والوعد، والوعيد، وغيره، والإنصات للتعظيم والتبجيل.
ثم الاستماع له لم يلزم لنفس التلاوة، ولكن إنما يلزم لما أودع فيه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغيره؛ ليفهموا ما فيه، ويقبلوه، ويقوموا بوفاء ذلك، وأمّا سائر الأذكار إنما صارت عبادة لنفسها؛ لذلك لم يلزم الاستماع إلى سائر الأذكار، ولزم لتلاوة القرآن.
ولأن القرآن كلام اللَّه وكتابه، ومن الجفاء والاستخفاف أن يكتب إنسان إلى أخيه كتابًا لا ينظر فيه ولا يستمع له؛ فترك الاستماع إلى كتاب اللَّه أعظم في الجفاء والاستخفاف.
126
ولأن القرآن يجهر به، وسائر الأذكار لا تجهر، فإن كانت تجهر فيستمع لها كما يستمع إلى القرآن، واللَّه أعلم.
وذكر في بعض القصة أن الآية نزلت في الصلاة؛ لأن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ما قال، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له.
وذكر أنهم كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار؛ فنزلت الآية لذلك، فلا ندري كيف كانت القصة؟ وفيم كانت؟ وقد يحتمل ما ذكرنا آنفًا.
ثم إن كانت الآية في الصلاة ففيه دلالة النهي عن القراءة خلف الإمام؛ لأنه أمر بالاستماع إليه والإنصات له، وعلى ذلك جاءت الأخبار؛ روي عن أبي العاليهَ قال: كان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى نزل: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) فسكتوا.
وعن علباء بن أحمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة الفجر " الواقعة "، وقرأها رجل خلفه، فلما فرغ من الصلاة قال: " من الذي ينازعني في هذه السورة " فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه؛ فأنزل اللَّه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وغير ذلك من الأخبار.
فقال قوم: إن الإنصات الذي أمر به المؤتم معناه ألا يجهر بقراءته، وليس فيه نهي أن يقرأ في نفسه.
127
وزعم بعضهم أن القارئ خفيا يسمى ناصتًا ومنصتًا، واستدل بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، قلت: بأبي أنت، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة، أخبرني ما تقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق " وغير ذلك من الدعوات، فقال هذا القائل: قد سمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ القارئ مخفيا ساكتًا، والصامت مثل الساكت، فيجوز أن يسمي صامتًا، وهو أن يقرأ مخفيًا، كما يسمى ساكتا.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: غلط هذا القائل في تشبيه الصامت بالساكت؛ لأن الأسماء لا تقاس، قوله تعالى: وإنما يطلق في كل واحد منهما ما أطلقته اللغة فيه.
ومما يبين غلطه أن اللَّه يقول: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)، فلو كان القارئ مخفيًا يسمى صامتًا ناصتًا ما كان مستمعًا، وإنَّمَا يكون مستمعًا صامتًا إذا صمت فلم يقرأ؛ فمن أطلق له أن يقرأ والإمام يقرأ فلم يستمع، ولا أنصت.
ومما يدل على غلطه -أيضًا- أن العلماء جميعًا ينهون المؤتم عن القراءة وإمامه يجهر بالقراءة، وإنَّمَا يأمر من يأمره بالقراءة خلف الإمام أن يقرأ إذا سكت إمامه، ويأمر هَؤُلَاءِ الإمام أن يقف ساعة إذا فرغ من قراءته حتى يقرأ المؤتمون، فلو كانوا يجعلون القارئ في نفسه والإمام يقرأ جهرًا صامتًا ما أمروه بتأخير القراءة حتى يفرغ إمامه من القراءة؛ فهذا يبين غلط المستدل بحديث أبي هريرة في استدلاله.
ومما يدل على أن المؤتم منهي عن أن يقرأ والإمام يجهر ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة - فظن أنها الصبح - فلما سلم أقبل على الناس، قال: " هل يقرأ أحد منكم؟! فقال رجل: أنا، فقال النبي: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن " قال أبو هريرة: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى اللَّه عليه
128
وسلم.
فقال قوم: إن أبا هريرة قال: انتهى الناس عن القراءة خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فيما جهر فيه.
فيقال: إن أبا هريرة لم يرو ذلك عن النبي.
ثم مما يدل على أن المؤتم لا يقرأ جهر الإمام أو خَافَتَ قول النبي: " ما لي أنازع القرآن؟ " وقد علمنا أن المؤتم لم يجهر بقراءته؛ فيتأول متأول منازعته النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أنه شغله؛ فلا وجه لقوله: " ما لي أنازع القرآن؟ " إلا بنهيه المؤتم عن أن يقرأ، جَهَرَ إمامُه أو خَافَتَ.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يبين النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه أو يخافت: ما روي عن عمران أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بأصحابه الظهر، فلما قضى صلاته قال: " أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى؟ " فقال بعض الناس: أنا يا رسول اللَّه، فقال: " قد عرفت أن بعضكم خالجنيها ".
فبين عمران بن حصين أن الرجل خافت بقراءته؛ دل أن النهي الذي رواه أبو هريرة لم يكن في حال جهر الإمام دون مخافتته، وأن المؤتم منهي عن القراءة خلف الإمام في كل الصلوات.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنهي عن القراءة خلف الإمام أحاديث كثيرة منها: ما روي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعمران بن حصين عنه، وما روي عن عبد اللَّه: كنا نقرأ خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلطتم عليَّ القرآن ".
فَإِنْ قِيلَ: لعلهم كانوا يجهرون بالقرآن، فنهى عن الجهر.
قيل له: لم ينقل لنا في شيء من الأخبار أن المؤتمين كانوا يقرءون جهرًا، ولو كانوا يقرءون جاهرين، لأدّي ذلك إلينا كما أدّي أنهم كانوا يقرءون.
129
وفي ذلك وجه آخر: أنه لم يكن النهي عن الجهر خاصة، ولكن للقراءة نفسها ما روي عن أبي وائل قال: سألت عبد اللَّه ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت، فإن في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذلك الإمام.
وعن عبد اللَّه بن شداد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ".
وعن جابر بن عبد اللَّه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلَّى ورجل خلفه يقرأ، فنهاه رجل من أصحاب النبي عن القراءة في الصلاة، فتنازعا فيه، حتى ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة ".
وعن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " وإذا قرأ الإمام فأنصتوا ".
وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر
130
فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا " وغير ذلك من الأحاديث.
وأكثر ما يحتج به المخالف لعلمائنا - رحمهم اللَّه - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن " يرويه عبادة ابن الصامت.
قال سفيان: هذا عندنا فيمن يصلي وحده؛ فذلك يحتمل، والأحاديث التي جاءت مفسرة في النهي عن القراءة خلف الإمام.
فإن قال: يترك المؤتم القراءة فيما يجهر فيه إمامه بحديث أبي هريرة، ويقرأ فيما يخافت بحديث عبادة بن الصامت؛ ليصلح حديث أبي هريرة وحديث عبادة جميعًا.
قيل له: فهلا جعلته في المصلي وحده ليصح حديث عبادة، وحديث عمران بن حصين؛ لأن حديث عمران بن حصين، ينهى عن القراءة خلف الإمام، فيما خافت، وحديث أبي هريرة عن القراءة فيما يجهر فيه؛ فإن جعلت حديث أبي هريرة خارجًا عن عموم حديث عبادة، فذلك يوجب ألَّا يقرأ المؤتم فيما يجهر فيه إمامه ويخافت، ويقال له: هل رأيت فرضًا من فرائض الصلاة يسقط عن المؤتم في حال، ويجب عليه في حال؟
131
فإن قال: لا.
قيل: ففي إسقاطك تلك القراءة عنه في حال الجهر ما أوجب عليك أن تسقطها عنه في حال المخافتة.
وقد احتج بعض أصحابنا في ذلك بأن قالوا: وجدنا الرجل إذا جاء إلى الإمام وهو راكع فكبر ودخل في صلاته ولم يقرأ، فكل يجمع أن صلاته تجزئه، فدل ذلك أن القراءة غير فرض عليه.
فإن قال: إنما أطلق له ذلك للضرورة.
قيل: لو جاء إلى الإمام وهو ساجد، لم يعتد بتلك الركعة والضرورة قائمة، فلو كانت الضرورة تزيل فرضا لأزالت الركوع عمن لحق إمامه وهو ساجد، فهي لا تزيل فرض القراءة عمن لحق إمامه، ولكن لا يلزمه القراءة خلف الإمام؛ فلذلك أجزأته صلاته لا للضرورة التي ذكرت، واللَّه أعلم.
وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: لا قراءة على من خلف الإمام، منهم: علي، وابن مسعود، وجابر، وسعد، وأبو سعيد، وابن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وزيد بن ثابت، رضي اللَّه عنهم.
أما عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة.
وعن عبد اللَّه قال: من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابًا.
وعن زيد بن ثابت قال: من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له.
وعن سعد قال: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فمه جمرة.
وعن ابن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ أحد خلف الإمام؟ قال: لا، فإذا صلى أحدكم وحده فليقرأ.
132
وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام.
وعن أبي سعيد أنه سئل عن القراءة خلف الإمام، قال: يكفيك ذلك الإمام.
وعن ابن عَبَّاسٍ أن رجلاً سأله: أقرأ خلف الإمام؟ قال: لا.
إلى مثل هذه الأحاديث ذهب أصحابنا، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥)
133
اختلف أهل التأويل في الذكر الذي ذكر في الآية؛ منهم من صرف التأويل إلى كل ذكر.
ومنهم من صرفه إلى التلاوة؛ فإن كان ذكر الغدو والآصال كناية عن الليل والنهار فهو ذكر أحواله يذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بنعمه وإحسانه، وذكره بنعمه شكره، أو يذكره بقدرته وسلطانه، وذلك يحمله على الخضوع له والتواضع، أو يذكر أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وذلك يوجب الإقرار بالتقصير، والخوف لعقوبته، والرغبة في وعده؛ كأنه قال: واذكر ربك في كل حال من الليل والنهار إما شكرًا لنعمه وإحسانه، وإما الإقرار بالتقصير في أمره ونهيه، وإما الخوف لوعيده، وإما الرغبة لوعده، فكأنه قال: اذكر ربك تضرعًا وتواضعًا وخيفة مع الخوف.
وإن كان تأويل الغدو والآصال كناية عن الغداة والعشي، فهو كناية عن التلاوة، وهو ما سبق من ذكر التلاوة من قوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وقوله: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى)، وهو كقوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) وتأويله - واللَّه أعلم -: ولا تجهر بصلاتك في بعض صلاتك، ولا تخافت في بعضها.
أو أن يقال: لا تجهر الجهر العالي، ولا تخافت غاية المخافتة، ولكن بين ذلك. أو أن يقول: لا تشتغل بالجهر، ولا بالمخافتة، ولكن اقرأ لما فيه، فعلى ذلك قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
وقرأ بعضهم: (وَخِفْيةً) وهو من الإخفاء؛ حيث قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ)، وأما ظاهر القراءة فهو (وَخِيفَةً)، وهو من الخوف.
وقال مجاهد: رخص اللَّه أن تذكره في نفسك تضرعًا وخيفة، وأنت خلف الإمام تسمع قراءته.
(وَالْآصَالِ)، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: العشيات، الواحد: أصل وأصيل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ).
134
معلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن من الغافلين في حال، ولكن على النهي لأمته؛ كقوله: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) و (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ونحوه، نهاه أن يكونن ما ذكر؛ لما ذكرنا نهيا لغيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ... (٢٠٦)
قالت المشبهة: لو لم يكن بين اللَّه وبين الملائكة قرب الذات لكانوا هم والبشر بقوله: (عِنْدَ رَبِّكَ) سواء، لكان لا معنى لتخصيص الملائكة بذلك.
لكن التأويل عندنا في قوله: (عِنْدَ رَبِّكَ): في الطاعة والخضوع، أو في الكرامة والمنزلة، ليس على قرب الذات، ولكن على ما وصف - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)، وصفهم بالطاعة له والخضوع؛ فعلى ذلك الأول، ليس على قرب الذات، ولكن على ما ذكر من الطاعة والخضوع.
ألا ترى أنه قال: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ليس على أنه في الأرض يقترب منه إذا سجد؟!.
وأصل ما يضاف إلى اللَّه من جزئية الأشياء يخرج مخرج تعظيم تلك الجزئيات؛ كقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، خص المساجد بالإضافة إليه، وإن كانت البقاع كلها له؛ تعظيمًا لها، وكذلك قوله: الكعبة بيت اللَّه الحرام، وإن كانت البيوت كلها له، ونحو ذلك مما أضاف ذلك إلى نفسه من جزئيات الأشياء؛ تعظيمًا لذلك وإجلالا؛ فعلى ذلك الأول، أضافهم إلى نفسه إما لطاعة لهم إياه والخضوع، وإما لكرامة لهم والمنزلة، وإضافة كلية الأشياء إلى اللَّه تخرج مخرج تعظيم الرب؛ من ذلك قوله: (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، وقوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).
ومن الناس من استدل بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية؛ لكنا نقول: إن الأفضل عند اللَّه الأطوع له والأخضع والأتقى والأقوم لأمره ونهيه؛ على ما ذكرنا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، لا نشير أن هَؤُلَاءِ أفضل من هَؤُلَاءِ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم.
135
وتأويل الآية - واللَّه أعلم - في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ...) الآية، أي: إنهم وإن لم تكن لهم حاجة إلى المأكل والمشرب وأنواع الحاجات لا يستكبرون عن عبادته، فأنتم مع حاجتكم إلى الأكل والشرب وأنواع الحوائج أحرى وأولى ألا تستكبروا عن عبادته.
أو أن يقول: إن الذين تعبدون من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، فأنتم أحق ألا تستكبروا عن عبادته؛ لأن من الناس من يعبد الملائكة، فخرج هذا جواب ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُسَبِّحُونَهُ).
التسبيح: هو وصف الرب - عَزَّ وَجَلَّ - بالرفعة، والعظمة والجلال، والتعالي عن الأشباه والأمثال، وعما وصفه الملحدون.
والتسبيح: هو تنزيه الرب وتبرئته عن جميع معاني الخلق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ يَسْجُدُونَ).
السجود: هو الخضوع في الغاية، وليس في الآية دليل وجوب السجدة على من تلاها أو سمعها، إنما فيها الإخبار عن الساجدين أنهم سجدوا غير مستكبرين، وفي ذلك
136
ترغيب في السجود، إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - روي أنه سجد وسجد من معه.
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضعًا يسجد فيه.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سجد في " ص ".
وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال: كان رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقرأ القرآن في غير صلاته، فيسجد ونسجد معه.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ولم يبق معه أحد إلا سجد، إلا شيخ كبير من قريش أخذ كفًّا من جص فرفعه إلى جبهته، فلقد رأيته قتل كافرًا.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ذكر سجود القرآن - أو عدّ - فقال: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنو إسرائيل، ومريم، والحج - سجدة واحدة - والفرقان،
137
وطس، والم تنزيل، وص، وحم تنزيل، وقال: وليس في المفصل سجود.
وعن ابن مسعود قال في السورة يكون في آخرها السجدة نحو الأعراف والنجم: إن شئت فاسجد ثم قم فاقرأ، وإن شئت فاركع.
وعن ابن مسعود: كان يسجد في الأعراف، وفي بني إسرائيل، والنجم، و (إذا السماء انشقت)، و (اقرأ باسم ربك).
واحتج بعض مشايخنا أن السجود على من تلا آية السجدة واجب: بما أجمع أهل العلم أن على المصلي إذا تلا الآية فيها السجدة أن يسجد في صلاته، فلو كان السجود تطوعًا ما كان لأحد أن يزيد في صلاته ما ليس منها؛ فدل ذلك على أن السجود واجب في الصلاة، وإذا كان في الصلاة واجبًا فهو على كل واجب.
ومن الحجة لنا -أيضًا- ما روي أن النبي - عليه السلام - قرأ آيات فسجد فيها، فكان السجود فيها واجبًا، كما أنه لما صلى صلاة العيدين كانت واجبة.
* * *
138
Icon