ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ١٤) [سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ١٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
التفسير:
قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً..»
قصة نوح هنا مع قومه- كما يذكرها القرآن الكريم- تمثل الموقف الأول لرسل الله، فى مواجهة أقوامهم، وما يلقون منهم من سفاهة، وضلال، وعناد..
ولعل هذا من بعض الأسرار التي جاءت من أجلها سورة نوح، فى أعقاب سورة «المعارج» التي جاء فيها قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً».. فهذا الإنسان يرى على صفته تلك، فى آبائه الأولين، قوم نوح..
وفى قوله تعالى: «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» إشارة إلى أن القوم كانوا على مشارف الهاوية التي تهوى بهم إلى الهلاك، وأن نوحا إنما بعث إليهم لينذرهم بهذا الخطر الذي يتهددهم، ويوشك أن يشتمل عليهم..
وفى قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - بعد الأمر الذي أمر به من ربه، دون توان أو تردد- فى هذا ما يشير أيضا إلى أن الأمر يقتضى المبادرة بإنذار القوم، قبل أن تقع بهم الواقعة التي هى وشيكة الوقوع! وفى كلمات قليلة، ألقى نوح إلى القوم بهذا الإنذار: «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ»..
إنه لا وقت للحديث، والنار تشتمل على القوم، وتكاد تعلق بهم.. إنها كلمة واحدة: أن اطلبوا وجها للنجاة من هذا البلاء!! ثم يقدم إليهم نوح بعد هذا التنبيه إلى الخطر، مركب النجاة، الذي إن أسرعوا إليه، ودخلوا فيه، سلموا من الخطر المحدق بهم.. وهو الإيمان بالله، والاستقامة على طريق تقواه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» فإنهم إن آمنوا بالله، وعبدوه، واتقوا حرماته، يدفع عنهم يد الهلاك المطلة عليهم، ويؤخرهم إلى الأجل المسمى لهم، حتى يستوفوا أعمارهم، فلا يبادرهم العذاب، وهم على طريق الحياة.. «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى»..
وفى هذا احتراس لما يقع فى الأفهام، من أن القوم إذا استجابوا لله امتدت أعمارهم، إلى ما وراء الأجل المقدور لها عند الله.. وإنما هذا الامتداد للآجال الذي وعدوا به، هو فى ظاهر الأمر البادي لهم، وهم فى يد الهلاك، الذي سيأخذهم جميعا.. وأنهم إذا استمعوا لما يدعوهم إليه نوح، ونجوا من هذا الهلاك- كانت هذه النجاة قدرا من أقدارهم، وكان الانتظار بهم هو الأجل المقدور.. كما أنهم لو عصوا نوحا، ولم يقبلوا ما يدعوهم إليه، ووقع بهم الهلاك- كان هذا الهلاك قدرا من أقدارهم، وكان الموت المعجل لهم، هو نهاية الآجال التي قدرها الله لهم..
إن هذا التحذير، هو أمر مطلوب، وإن الفرار من وجه الخطر هو أمر مطلوب أيضا، فإذا نجا الناجي، فإنما نجا لأنه لم يستوف أجله بعد، وإذا هلك الهالك، فإنما هلك لأن أجله المقدور له قد انتهى..
ولقد دعا نوح قومه، فلم يسمعوا له، ولم يحفلوا به، فجاء إلى ربه شاكيا..
«قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً..»
تلك هى حال القوم مع هذا النذير الذي جاء يدعوهم إلى النجاة من هذا البلاء المطل عليهم، وتلك قصته معهم، يعرضها على ربه، شاكيا عنادهم، طالبا من الله أخذهم بالعذاب الذي هم أهل له..
وفى قوله تعالى: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» إشارة إلى ما وقع فى نفوسهم من جفاء لهذا النذير، وإلى ما أضمروا من عداوة له.. إنهم يتقونه كما يتقى الأطفال شبحا مخيفا يطلع عليهم فى أحلام اليقظة، فلا يجدون سبيلا إلى الهرب منه، إلا بحجز حواسهم عنه، وإغلاق كل المنافذ التي بينهم وبينه، من بصر أو سمع! إنهم يغطّون وجوههم بثيابهم، ويدخلون رءوسهم فى جيوبهم، خوفا وهلعا من هذا النور الذي يطلع فى سماء ليلهم المظلم البهيم..
وقوله تعالى:
«ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً»..
هو بيان للأسالبب المختلفة التي اتخذها نوح، لينفذ بدعوته من هذه الحجب الصّفيقة التي أقامتها القوم على أسماعهم، وأبصارهم.. فهو تارة يدعوهم جهارا، صارخا صراخ من يتحدث إلى أصمّ لا يسمع، حتى يخترق بصراخه العاصف، هذا السد الذي أقاموه على آذانهم.. فلما لم تنفع هذه الوسيلة، معهم، أمسك لسانه، وزمّ شفتيه، حتى إذا اطمأن القوم إلى أنه قد كف
وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً».. فى هذا ما يشير إلى أن كل حال من تلك الأحوال كانت تستغرق وقتا طويلا، يقف فيه نوح، حتى يملّ الوقوف، وحتى يستيئس من أن أحدا يسمعه.. إنه ينادى أمواتا، ويهتف بعوالم من الجماد..
وقوله تعالى:
«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً».
هذا بيان لما كان يدعو نوح قومه إليه، ويهتف فيهم به.. إنه يناديهم، ويسرّ إليهم القول أن يستغفروا ربهم، إنه كان غفارا، يغفر لمن يستغفره، ويرجع إليه تائبا نادما.. وإنهم إن فعلوا هذا رزقهم الله رزقا حسنا، وأرسل السماء عليهم مدرارا، أي بالمطر الكثير، حيث تخصب الأرض، وتكثر الثمرات والخيرات، فحيث كان الماء، كان الخصب والخير الكثير فى الأموال والأنفس..
ومن هذا الماء يجعل الله لهم جنات، ويجعل لهم أنهارا دائمة الجريان، تسقى هذه الجنات، وتضمن لها حياة دائمة، وخضرة محددة، وثمرا موفورا.
والاستغفار الذي دعا نوح قومه إليه، هو دعاه، ولجأ إلى الله، واستكانة إليه، والدعاء مخّ العبادة، لأنه لا يكون إلا عن إيمان بالله، وثقة فيه، وطمع
«ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» هو من دعوة نوح قومه، إلى الإيمان بالله.. وهو فى هذا الاستفهام ينكر عليهم ما هم فيه من غفلة عن الله، واستخفاف بجلاله وعظمته.. إنهم لا يوقّرون له، ولا ينظرون إليه نظر من يرجو ثوابه، ويخشى عقابه.. إنهم لا يعرفون الله، ولا يقدرونه قدره! وقوله: «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» جملة حال، من لفظ الجلالة.. أي ما لكم لا توقرون الله، والحال والشأن أنه قد خلقكم أطوارا.. أي خلقا من بعد خلق.. إذ كنتم نطفة فى بطون أمهاتكم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسيت هذه العظام لحما.. ثم خرجتم من بطون أمهاتكم أطفالا.. ثم لبستم خارج أرحام أمهاتكم أطوارا من الحياة، فتنقلتم من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة.. وهكذا كانت يد القدرة القادرة تنتقل بكم من طور إلى طور، وبين الطور الأول والأخير مراد فسيح لذوى الأبصار، يرون فيه قدرة الخالق، وعظمته وحكمته، فتخشع الأبصار لجلاله، وتعنوا الجباه لقدرته..
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» هو من دعوة نوح إلى قومه، ومن نصحه لهم، وإلفاتهم إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة قادرة، وحكمة بالغة، وإحسان عظيم.
وفى هذا الاستفهام، دعوة إلى إيقاظ هذه العقول النائمة، وفتح تلك العيون المغلقة، التي لا ترى شيئا فيما حولها من هذا الوجود، وما فيه من آيات شاهدة على قدرة الله وحكمته.
فالنور الذي يصدر عن القمر، هو نور لا حرارة فيه، لأنه من انعكاس ضوء الشمس على جسمه المعتم، فإذا انعكس الضوء على هذا الجرم، شعّ منه هذا النور الذي يبدد ظلمة الليل، ويملأ العيون بهجة، والقلوب أنسا..
أما الشمس، فهى سراج يتوقد، كما يتوقد السراج، فترسل الضوء والحرارة.. وهى سرّ حياة الكائنات الحية، وسر حركة الهواء، ونزول الأمطار، ونور القمر.. وغير ذلك كثير، مما كشف عنه العلم.
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» هو من حديث نوح إلى قومه أيضا.. إنه يكشف لهم فى هذا الحديث عن تطورهم فى الخلق، وأنهم نبتوا من الأرض، كما ينبت النبات.. فمن تراب هذه الأرض تخلقت الكائنات الحية، ومن ترابها تخلق الإنسان..
وإن أقرب صورة وأظهرها لتخلقه من الأرض: أن هذه النطفة التي تخلّق منها، هى من نبات الأرض، أي من الغذاء الذي مصدره هذا النبات.. فإذا امتد النظر إلى آفاق بعيدة وراء هذه النظرة المحدودة القريبة، أمكن أن يرى على الأفق البعيد: أن الإنسان فرع من شجرة الحياة التي تضرب جذورها فى أعماق بعيدة من الأرض «١»..
«ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً».. أي كما أنبتكم الله تعالى من الأرض، يعيدكم إلى الأرض، كما يعود إليها النبات، بعد أن يستوفى حياته فوقها.. ولكن لن تظلوا هكذا فى التراب، كما يظل النبات الذي عاد إليها، بل تخرجون منها مرة أخرى، إلى حياة غير حياتكم الأولى.. إلى الحياة الآخرة، وإلى الحساب والجزاء..
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً».
أي أن الله سبحانه قد جعل لكم هذه الأرض بساطا، أي مقاما ممهدا، كالبساط، تستقرون عليه، وتتحركون فوقه، من غير أن يحجزكم حاجز، أو يعوقكم عائق.. وبهذا تستطيعون أن تتحركوا على الأرض كما تشاءون، وأن تنطلقوا إلى أي اتجاه تريدون، حيث تتسع أمامكم وجوه الحياة، والتقلب فى وجوه الرزق..
والفجاج: جمع فجّ، وهو الطريق المتسع بين جبلين..
وهذا يعنى أن هذه السهول الممتدة بين الجبال، هى طرق، ومسالك للعمل فى الحياة، وللتغلب فى وجوه الأرض..
قوله تعالى:
«قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» شكاة ضارعة من نوح إلى ربه، يشكو فيها قومه، الذي أصمّوا آذانهم عنه، وأعرضوا عن الاستجابة له، على حين أنهم استجابوا لمن يدعونهم إلى الغواية والضلال، من أولئك الذين لا يزيدهم ما يمدهم الله به من نعمه، وما يزدادون
قوله تعالى:
«وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً»..
معطوف على قوله تعالى: «وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» أي أنهم قد ولّوا وجوههم إلى حيث يدعوهم رؤساؤهم، وأصحاب المال والقوة فيهم، إلى ما يدعونهم إليه من ضلال، وفجور- بل ولم يقفوا عند هذا بل أخذوا يدبرون السوء والمكروه لنوح، ولدعوته، ويبيتون له الشر الذي يلقونه به، هو ومن آمن معه.
والمكر الكبار: هو المكر البالغ غاية السوء.. وهو مبالغة من المكر الكبير..
قوله تعالى:
«وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً، وَلا يَغُوثَ، وَيَعُوقَ وَنَسْراً».
هذا بيان لبعض ما كان من مكرهم وتدبيرهم فيما بينهم.. فقد تواصوا فيما بينهم، على التمسك بآلهتهم تلك، وألا يصرفهم عنها ما يدعوهم إليه نوح، من الإيمان بالله.. إنها دعوة منهم إلى أنفسهم يردّون بها دعوة نوح إليهم، حتى يبطلوا مفعولها ويفسدوا آثارها..
وودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، هى بعض آلهتهم، ذوات الشأن، والمقام فيهم، هذا إلى آلهة كثيرة لهم، ولكنهم اختصّوا هذه الآلهة بالذكر، وعينوها بالاسم، لما لها من مكانة خاصة فى نفوسهم..
وقد ورث مشركو العرب هذه الآلهة، فبعثوها من مرقدها، بعد أن
قوله تعالى:
«وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا»..
أي وأنهم ضلوا أنفسهم ضلالا كثيرا، لا يرجى لهم معه رجعة إلى الله..
أو أنهم أضلوا كثيرا غيرهم، واستمالوهم إلى موقفهم الضال، ليكون لهم منهم قوة، ودولة..
وهذا من كلام نوح عليه السلام، ومن شكاته إلى ربه، وهو حال من أحوال قومه..
وقوله تعالى: «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» - هو دعاء من نوح إلى ربه، يدعو به على قومه أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم، بعد أن وقفوا منه هذا الموقف المعن فى العناد والسفه، وبعد أن ضلوا هذا الضلال البعيد..
قوله تعالى:
. «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً».
وقوله تعالى: «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا» أي من خطيئاتهم أغرقوا، أي من جهة هذه الخطيئات كان غرقهم، ومن هذه الخطيئات طلع عليهم الهلاك..
فكأنّ خطاياهم هى هذا الطوفان الذي أغرقهم..
و «مما» هى: من، وما، «ومن» هى حرف الجر المسلط على «ما» و «ما» نكرة، بمعنى شىء، مهول، ومخيف.. ففى تجهيل هذا الشيء، وصف له بكل ما يخيف ويفزع، ولهذا صح أن تجىء «خَطِيئاتِهِمْ» - وهى معرفة- بدلا منه.
الآيات: (٢٦- ٢٨) [سورة نوح (٧١) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً»
وهو هنا فى هذا الموقف الذي بلغ به غاية المطاف مع قومه، ينهى موقفه معهم، ويقطع صلته بهم، ويطوى صفحة رسالته فيهم، بهذا الدعاء الذي يدعو به عليهم.. «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» أي ساكن دار، وهو كناية عن القضاء على كل كافر، وما يضم بيته من مال ومتاع..
والمراد بالأرض هنا ليس مطلق الأرض، بل الأرض التي كان يسكنها قومه.. فإن نوحا أرسل إلى قوم، ولم يرسل إلى الناس جميعا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى أول السورة: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» ولو كان مرسلا إلى أهل الأرض جميعا، لجاء النظم هكذا: إنا أرسلنا نوحا إلى بنى آدم.. مثلا..
قوله تعالى:
«إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً».
وفى هذا ما يشير إلى ما لقى نوح من قومه، وإلى ما تحمل نفسه من بغضة لهم، بعد أن تكشفت له أحوالهم، وعرف الداء الخبيث المتمكن منهم، والذي لا شفاء لهم منه أبدا، بل إنه سيكون مصدر عدوى، تذيع الكفر والضلال، وتنشره فى الأرض، بما يخرج من ظهورهم من أبناء يحملون جرثومة هذا الداء الخبيث الذي يعيش فى كيانهم.
والفاجر: هو الذي جاوز الحد فى ارتكاب الآثام، ومقارفة الشرور، فى غير تحرج أو تأثّم..
قوله تعالى:
«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً».
وفى مقابل نقمة نوح على الكافرين والضالين، تتفتّح عواطف الرحمة والحنان كلها فى قلبه، فيحيلها دعوات ضارعة إلى الله بالمغفرة له، ولوالديه، ولمن دخل بيته مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات..
ومن دخل بيت نوح مؤمنا، هم أهله، إلا امرأته، وابنه، أو هم الذين دخلوا معه دين الله، أو دخلوا معه السفينة.. ويكون دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات- على هذا المعنى- متجها إلى أهل الإيمان جميعا، فى كل زمان ومكان..
وقوله تعالى: «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً».. هو بقية من المرارة والألم الذي كان يجده من قومه، والذي لم يذهب به كل ما دعا عليهم به من مهلكات، فلم ينس وهو يطلب لنفسه ولوالديه، وأهله، وللمؤمنين والمؤمنات الرحمة والمغفرة من الله- لم ينس أن يجعل خاتمه دعائه، أن يرمى القوم الكافرين بآخر سهم معه، حتى بعد أن صاروا جثثا هامدة..
والتباب: البوار، والهلاك، والبعد عن كل خير.. ومنه قوله تعالى:
«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»..
هذا، وقد يبدو أن هذا الموقف الذي وقفه نوح من قومه، فيه جفاء لهم، وغلظة عليهم، وأنه لم يأس على هلاكهم، ولم تعطفه عليهم عاطفة
هذا، ما يبدو فى ظاهر الأمر..
ولكن، الذي يراجع حياة نوح معه قومه، وهذا الأمد الطويل الذي قضاه بينهم، وهو كما يقول القرآن الكريم ألف سنة إلا خمسين عاما، لم يدع فيها نوح لحظة إلا واجه فيها قومه، ولا طريقا إلا سلكه إليهم- ومع هذا فإن القوم لم يزدادوا إلا سفها وضلالا، وإلا مبالغة فى الكيد له، والعدوان عليه، حتى لقد فتنوا فيما فتنوا امرأته، وولده، وهذه أعظم بلية يبتلى بها صاحب دعوة فى محاربة دعوته، إذ يقوم منها أبلغ شاهد على خذلانه وإبطال حجته على الناس لما يدعوهم إليه..
إن الذي يراجع هذا الموقف بين نوح وقومه، يجد أن نوحا عليه السلام، كان أكثر أنبياء الله صبرا وحلما، واحتمالا.. فما من نبى ظل فى موقف الدعوة، يحارب أهل الضلال مثل هذا الأمد الطويل الذي وقفه نوح عليه السلام.. ولهذا كان عليه السلام واحدا من أولى العزم من رسل الله، عليهم صلوات الله، ورحمته، وبركاته.
نزولها: مكية.. نزلت بعد الأعراف عدد آياتها: ثمان وعشرون آية عدد كلماتها: مئتان وخمس وثمانون كلمة عدد حروفها: تسعمائة وتسع وخمسون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
تكشف سورة الجن فى صورة عملية، عما فى الإنسان من جانبى الخير والشر، وأنه حين تنتكس طبيعته، ويغتال جانب الشر فيه جانب الخير، يتحول إلى شيطان رجيم، تعوذ منه الشياطين، أو تتلمذ عليه! وهذا الإنسان الشيطاني يبدو على أتم صورته المنكوسة تلك، فى قوم «نوح» كما يبدو هذا الإنسان على صورة مجسدة فى كثير من مشركى قريش، كأبى جهل، والوليد بن عقبة، وعقبة بن أبى معيط، وغيرهم من شياطين قريش، الذين تصدوا للدعوة الإسلامية، وكادوا لرسول الله وللمسلمين أعظم الكيد، فلم يدعوا وسيلة يتوسلون بها إلى أذى النبي وأصحابه إلا تواصوا بها، واجتمعوا عليها.
وفى سورة الجن صورة للخير ينبت فى منابت الشر، ويطلع ثمره الطيب، من بين وسط هذا اللهب المتضرم.
فمن عالم الجن العاصف بالشرور المحرقة، تهب تلك الأنسام الرقيقة المنعشة، فى صورة جماعة مؤمنة منهم، لم تكد تستمع إلى آيات الله، يتلوها رسول الله فى ليلة من لياليه مع ربه- وكل لياليه لربه، ومع ربه- حتى أنصتوا إليه، وآمنوا به، ثم انقلبوا إلى قومهم منذرين!