تفسير سورة نوح

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة نوح من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة نوح عليه السلام مكية، وآيها تسع أو ثمان وعشرون.

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ﴾ أي بأنْ أنذرْهُم على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذِفَ منها الجارُّ وأُوصلَ إليها الفعلُ فإنَّ حذفَهُ معَ أنَّ وأنْ مطردٌ وجُعلتْ صلتِها أمراً كما في قولِهِ تعالَى وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لأنَّ مدارَ وصلِهَا بصيغِ الأفعالِ دلالتُها على المصدرِ وذلكَ لا يختلفُ بالخبريةِ والإنشائيةِ ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ الخبريةِ وليسَ الموصولُ الحرفيُّ كذلكَ وحيثُ استوى الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ استويا في صحةِ الوصلِ بهما فيتجردُ عند ذلكَ كلٌّ منهُمَا عن المَعْنَى الخاصِّ بصيغتِهِ فيبقَى الحدثُ المجردُ عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ والمُضيِّ والاستقبالِ كأنَّه قيلَ أرسلنَاهُ بالإنذارِ وقيلَ المَعْنَى أرسلناهُ بأنْ قُلْنَا لهُ أنذرْ أي أرسلناهُ بالأمرِ بالإنذارِ ويجوزُ أن تكونَ أنْ مفسرةً لما في الإرسالِ من معنى القولِ فلا يكونُ للجملةِ محلٌّ من الإعرابِ وعلى الأولِ محلُّها النصبُ عند سبويه والفرَّاءِ والجرُّ عند الخليلِ والكِسَائيِّ كما هُو المعروفُ وقُرِىءَ أنذرْ بغيرِ أنْ على إرادةِ القولِ ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ عاجِلٌ أو آجِلٌ لئلاَّ يبقَى لهُم عذرٌ مَا أصلاً
﴿قال﴾ استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالوجهِ المذكورِ كأنَّه قيلَ ما فعلَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالَ لهُم ﴿يا قوم إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ منذرٌ موضحٌ لحقيقةِ الأمرِ وقولُهُ تعالَى
﴿أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ﴾ متعلقٌ بنذيرٌ على الوجهينِ المذكورينِ
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي بعض ذنوبكم وهو ما سلفَ في الجاهليةِ فإنَّ الإسلامَ يجبُّه ﴿وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو الأمدُ الأقصَى الذي قدَّرَهُ الله تعالَى لهم بشرطِ الإيمانِ والطاعةِ وراءَ ما قدَّرَهُ لهُم على تقديرِ بقائِهِم على الكفرِ والعصيانِ فإنَّ وصفَ الأجلِ بالمسمَّى وتعليق تأخيرهم اليه
36
سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (٥ ٩)
بالإيمانِ والطاعةِ صريحٌ في أنَّ لهم أجلاً آخرَ لا يجاوزونَهُ إنْ لم يؤمنُوا وهو المرادُ بقولِهِ تعالَى ﴿إِنَّ أَجَلَ الله﴾ أي ما قدَّرَ لكُم على تقديرِ بقائِكُم على الكفرِ ﴿إِذَا جَاء﴾ وأنتُم على ما أنتُم عليهِ من الكُفرِ ﴿لاَ يُؤَخَّرُ﴾ فبادروا الى بالايمان والطاعةِ قبلَ مجيئِهِ حَتَّى لا يتحققَ شرطُهُ الذي هو بقاؤُكُم على الكفرِ فلا يجيءويتحقق شرطُ التأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فتؤخرُوا إليهِ ويجوزُ أن يرادَ بهِ وقتُ إتيانِ العذابِ المذكورِ في قولِهِ تعالَى مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فانه أجل مؤقت له حَتْماً وحملُهُ على الأجلِ الأطولِ مما لا يساعدُهُ المقامُ كيفَ لاَ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالعبادةِ المستتبعةِ للمغفرةِ والتأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فلا بُدَّ أنْ يكونَ المنفيُّ عند مجيءِ الأجلِ هو التأخيرَ الموعودَ فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ ما فُرضَ مجيئُهُ هو الأجلُ المسمَّى ﴿لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي لو كنتُم تعلمونَ شيئاً لسارعتُم إلى ما أمرتُكُم بهِ
37
﴿قَالَ﴾ أي نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مناجياً ربَّهُ وحاكياً له تعالَى وهو أعلمُ بحالِهِ ما جرَى بينَه وبينَ قومِه من القيلِ والقالِ في تلكَ المدد الطوال بعدما بذلَ في الدعوةِ غايةَ المجهودِ وجاوزَ في الإنذارِ كلَّ حدَ معهودٍ وضاقتْ عليهِ الحيلُ وعيَّتْ بهِ العللُ ﴿رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى﴾ إلى الإيمانِ والطَّاعةِ ﴿لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ أي دائماً من غيرِ فتورٍ ولا تَوانٍ
﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً﴾ ممَّا دعوتُهُم إليهِ وإسنادُ الزيادةِ إلى الدعاءِ لسببيته كما في قوله تعالى زَادَتْهُمْ إيمانا
﴿وإني كلما دعوتهم﴾ إلى الإيمانِ ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ بسببهِ ﴿جَعَلُواْ أصابعهم فِى آذانهم﴾ أيْ سدُّوا مسامِعَهُم منِ استماعِ الدعوةِ ﴿واستغشوا ثِيَابَهُمْ﴾ أي بالغُوا في التغطِّي بهَا كأنَّهُم طلبُوا أنْ تغشاهُم ثيابُهُم أو تُغشِّيهم لئلا يبصروا كراهةَ النظرِ إليهِ أو لئلا يعرفَهُم فيدعُوَهُم ﴿وَأَصَرُّواْ﴾ أي أكبُّوا على الكفرِ والمعاصِي مستعارٌ منْ أصرَّ الحمارُ على العانةِ إذَا أصرَّ أذنيهِ وأقبلَ عليهَا ﴿واستكبروا﴾ عن اتِّباعي وطاعتي ﴿استكبارا﴾ شديداً
﴿ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا﴾ ﴿ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾ أي دعوتهم تارة بعد تارة ومرةً غبَ مرةٍ على وجوهٍ مُتخالفةٍ وأساليبَ متفاوتةٍ وثُمَّ لتفاوتِ الوجوهِ فإنَّ الجِهارَ أشدُّ من الإسرارِ والجمعُ بينَهُمَا أغلظُ من الإفرادِ أو لتراخِي بعضِهَا عن بعضٍ وجهاراً منصوبٌ بدعوتُهُم على المصدرِ لأنَّه أحدُ نَوْعَيْ الدعاءِ أو اريد بدعوتهم جاهرتهم
37
سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (١٠ ١٤)
أو هو صفةٌ لمصدرٍ أي دعوتُهُم دعاءً جهاراً أي مُجاهِراً به أو مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي مُجاهراً
38
﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ﴾ بالتوبةِ عن الكفرِ والمَعَاصِي ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾ للتائبينَ كأنَّهُم تعللُوا وقالُوا إنْ كُنَّا على الحقِّ فكيفَ نتركهُ وإنْ كُنَّا على الباطلِ فكيفَ يقبلنا بعدَ ما عكفنَا عليهِ دَهْراً طويلاً فأمرهم بما يمحقُ ما سلفَ منهم من المَعَاصِي ويجلبُ إليهم المنافعَ ولذلكَ وعدهُم بما هُو أوقعُ في قلوبِهِم وأحبُّ إليهِم من الفوائدِ العاجلةِ وقيل لما كذَّبُوه بعدَ تكريرِ الدعوةِ حبسَ الله تعالَى عنهم القطرَ وأعقمَ أرحامَ نسائِهم أربعينَ سنةً وقيلَ سبعينَ سنةً فوعدَهُم أنَّهم إنْ آمنُوا أنْ يرزقَهُم الله تعالَى الخِصْبَ ويدفَع عنْهُم ما كانُوا فيهِ
﴿يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً﴾ أي كثيرَ الدرورِ والمرادُ بالسماءِ المظلةُ أو السحابُ
﴿وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات﴾ بساتينَ ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ﴾ فيهَا ﴿أَنْهَاراً﴾ جاريةً
﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم سببٌ ما في عدمِ رجائِهِم لله تعالَى وقاراً على أنَّ الرجاءَ بمَعْنَى الاعتقادِ ولا ترجونَ حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ والعاملُ فيهَا مَعْنَى الاستقرارِ في لكُم على أنَّ الإنكارَ متوجهٌ إلى السببِ فَقَطْ مع تحققِ مضمونِ الجملةِ الحاليةِ لا إليهِما معاً كما في قوله تعالى ومالي لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى ولله متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ وقاراً ولو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أيْ أيُّ سببٍ حصلَ لكُم حالَ كونِكُم غيرَ معتقدينَ لله تعالَى عظمةً موجبةً لتعظيمِهِ بالإيمانِ بهِ والطاعةِ لهُ
﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ أي والحالُ أنكم على حالٍ منافيةٍ لما أنتُم عليهِ بالكليةِ وهيَ أنكم تعلمونَ أنَّه تعالَى خلقَكُم تاراتٍ عناصرَ ثم أغذيةً ثم أخلاطا ثم نطفا علَقاً ثم مُضَغاً ثم عظاما ولحوما ثم أنشأكم خلقاً آخرَ فإن التقصيرَ في توقير من من هذه شؤنه في القدرةِ القاهرةِ والإحسانِ التامِّ مع العلمِ بها مِمَّا لا يكادُ يصدُرُ عن العاقلِ هَذا وقد قيلَ الرجاءُ بمعنى الأملِ اي مالكم لا تُؤمِّلُونَ لهُ تعالَى توقيراً أي تعظيماً لمن عبدَهُ وأطاعَهُ ولا تكونونَ على حالٍ تُؤمِّلُونَ فيها تعظيمَ الله تعالَى إيَّاكُم في دارِ الثوابِ ولله بيان للموقر ولو تأخر لكانَ صلةً للوقارِ والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالةُ التنزيليةُ فإن اللائقَ بحالِ الكفرةِ استبعادُ أنْ لا يعتقدوا وقار الله تعالَى وعظمتِهِ مع مشاهدَتِهِم لآثارِهَا وأحكامِهَا الموجبةِ للاعتقادِ حَتْماً وأمَّا عدمُ رجائِهِم لتعظيمِ الله إيَّاهُم في دارِ الثوابِ فليسَ في حيزِ الاستبعادِ والإنكارِ معَ أنَّ في جعلِ الوقارِ بمَعْنَى التوقيرِ من التعسفِ
38
٧٠ سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (١٥ ١٩)
وفي قولِهِ ولله بيانٌ للموقر ولو تأخر لكان صلةً للوقارِ من التناقضِ مالا يَخْفى فإنَّ كونَهُ بياناً للموقِّرِ يقتضِي أنْ يكونَ التوقيرُ صادراً عنْهُ تعالَى والوقارَ وصفاً للمخاطبينَ وكونُهُ صلةً للوقارِ يوجبُ كونَ الوقارِ وصفاً لهُ تعالَى وقيل مالكم لا تخافونَ لله عظمةً وقدرةً على أخذِكُم بالعقوبةِ أيْ أيُّ عذرَ لكُم في تركِ الخوفِ منهُ تعالَى وعن سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مالكم لا تخشُونَ لله عقاباً ولا ترجون منْهُ ثَواباً وعن مجاهدٍ والضحَّاكِ ما لكُم لا تُبالونَ لله عظمةً قال قُطْربٌ هيَ لغةٌ حجازيةٌ يقولونَ لم أَرْجُ أيْ لم أبالِ وقولُه تعالَى
39
﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سبع سماوات طِبَاقاً﴾ أي متطابقةً بعضُها فوقَ بعضٍ
﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً﴾ أي مُنوِّراً لوجهِ الأرضِ في ظُلمةِ الليلِ ونسبتُهُ إلى الكُلِّ مع أنَّهُ في السماءِ الدُّنيا لما أنَّها محاطةٌ بسائرِ السمواتِ فما فيهَا يكونُ في الكُلِّ أو لأنَّ كُلَّ واحدةٍ منهَا شفافةٌ لا تحجبُ ما وراءَها فيُرى الكلُّ كأنَّها سماءٌ واحدةٌ ومن ضرورةِ ذلكَ أن يكونَ ما في واحدةٍ منهَا كأنَّه في الكُلِّ ﴿وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً﴾ يزيلُ ظلمةَ الليلِ ويبصرُ أهلُ الدُّنيا في ضوئِهَا وجهَ الأرضِ ويشاهدونَ الآفاقَ كما يبصرُ أهلُ البيتِ في ضوءِ السراجِ ما يحتاجونَ إلى إبصارِهِ وليسَ القمرُ بهذه المثابةِ إنما هو نورٌ في الجُملةِ
﴿والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ أي أنشأكُم منها فاستعيرَ الإنباتُ للإنشاءِ لكونِهِ أدلَّ على الحدوثِ والتكونِ من الأرضِ ونباتاً إما مصدر مؤكدٌ لأنبتكُم بحذفِ الزوائدِ ويسمَّى اسمَ مصدرٍ أو لما يترتبُ عليهِ من فعلِهِ أي أنبتكُم من الأرض فنبثم نباتاً ويجوزُ أن يكونَ الأصلُ أنبتكُم من الأرضِ إنباتاً فنبتُم نباتاً فيُحذفُ من الجملةِ الأُولى المصدرُ ومن الثانيةِ الفعلُ اكتفاءً في كلَ منهُمَا بما ذُكِرَ في الأُخْرَى كَمَا مر في قوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى وقولِهِ تعالَى وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ
﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا﴾ بالدفنِ عندَ موتِكُم ﴿وَيُخْرِجُكُمْ﴾ منها عند البعثِ والحشرِ ﴿إِخْرَاجاً﴾ محققاً لا ريبَ فيهِ
﴿والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً﴾ تتقلبونَ عليها تقلبَكُم على بُسُطِكُم في بيوتِكُم وتوسيطُ لكُم بينَ الجعلِ ومفعوليهِ مع أنَّ حقَّهُ التأخيرُ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ ببيانِ كونِ المجعولِ من منافعِهم والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيَّما عند كونِ المقدمِ ملوِّحاً بكونِهِ من المنافعِ تبقَى مترقبةً له فيتمكن
39
٧٠ سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (٢٠ ٢٤)
عندَ ورودِه لها فضلُ تمكنٍ
40
﴿لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾ أي طرقاً واسعةً جمعُ فجَ وهو الطريقُ الواسعُ وقيلُ هو المسلكُ بينَ الجبلينِ ومِنْ متعلقةٌ بما قبلَهَا لما فيهِ من مَعْنَى الاتخاذِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من سبلاً أي كائنةً من الأرضِ ولو تأخر لكان صفة لهَا
﴿قَالَ نُوحٌ﴾ أعيدَ لفظُ الحكايةِ لطولِ العهدِ بحكايةِ مناجاتِهِ لربِّهِ أي قالَ مناجياً لهُ تعالَى ﴿رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى﴾ أيْ تمُّوا على عصيانِي فيما أمرتُهُم بهِ مع ما بالغتُ في إرشادِهِم بالعظةِ والتذكيرِ ﴿واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً﴾ أيْ واستمرُّوا على اتِّباعِ رؤسائِهِم الذينَ أبطرَتْهُم أموالُهُم وغرتْهُم أولادُهُم وصارَ ذلكَ سبباً لزيادةِ خسارِهِم في الآخرةِ فصَارُوا أسوةً لهم في الخسارِ وفي وصفِهِم بذلكَ إشعارٌ بأنَّهُم إنَّما اتبعوهم لوجاهتم الحاصلةِ لهم بسببِ الأموالِ والاولاد لا لما شاهدُوا فيهم من شُبهةٍ مُصححةٍ للاتباعِ في الجملة وقرى وولده بالضمِّ والسكونِ على أنَّهُ لغةٌ كالحُزْنِ أو جمعٌ كالأُسْدِ
﴿وَمَكَرُواْ﴾ عطفٌ على صلةِ مَنْ والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أن الإفراد في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبارِ لفظِها ﴿مَكْراً كُبَّاراً﴾ أي كبيراً في الغايةِ وقُرِىءَ بالتخفيفِ والأولُ أبلغُ منْهُ وهُوَ أبلغُ من الكبيرِ وذلكَ احتيالُهُم في الدِّينِ وصدُّهم للناس عنه وتحريشهم لهم فى أذيةِ نوحً عليهِ السَّلامُ
﴿وقالوا لا تذرن آلهتكم﴾ أي لا تتركُوا عبادتَهَا على الإطلاقِ إلى عبادةِ ربِّ نوحٍ ﴿وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾ أي ولا تذُرنَّ عبادةَ هؤلاءِ خصُّوها بالذكرِ مع اندراجِهَا فيمَا سبقَ لأنَّها كانتْ اكبر اصنامهم وأعظمها عندهُم وقد انتقلتْ هذه الأصنامُ عنهُم إلى العربِ ودُّ لكلبٍ وسواعٌ لهمدانَ ويغوثُ لمذحجَ ويعوقُ لمرادٍ ونسرٌ لحِميْرٍ وقيلَ هي أسماء رجال صالحين كانوا بينَ آدمَ ونوحٍ وقيلَ من أولادِ آدمَ عليهِ السَّلامُ ماتُوا فقالَ إبليسُ لمن بعدَهُم لو صوَّرتُم صُورَهُم فكنتُم تنظرونَ إليهِم وتتبركُونَ بهم ففعلُوا فلمَّا ماتَ أولئكَ قالَ لمَنْ بعدَهُم إنَّهم كانُوا يعبدُونَهُم فعبدُوهُم وقيلَ كان ودٌّ على صورةِ رجلٍ وسواعٌ على صورةِ امرأةٍ ويغوثُ على صورة أسدٍ ويعوقُ على صورةِ فرسٍ ونسرٌ على صورةِ نسرٍ وقُرِىءَ وُداً بضمِّ الواوِ ويغوثاً ويعوقاً للتناسبِ ومُنِعَ صرفُهما للعجُمة والعلميةِ
﴿وَقَدْ أَضَلُّواْ﴾ أي الرؤساءُ ﴿كَثِيراً﴾ خلقاً كثيراً أو الأصنامُ كقولِهِ تعالَى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس ﴿وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً﴾ عطفٌ على قولِهِ تعالَى رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى على حكايةِ كلامِ نوح بعد قال
40
٧١ سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (٢٥ ٢٨)
وبعدَ الواوِ النائبةِ عنهُ أيْ قالَ ربِّ إنَّهُم عصَوني وقالَ لا تزدِ الظالمينَ إلا ضلالاً ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهِم بالظلمِ المفرطِ وتعليلِ الدعاءِ عليهِم بهِ والمطلوبُ هو الضَّلالُ في تمشيةِ مكرِهِم ومصالحِ دُنياهُم أو الضياعُ والهلاكُ كما في قولِهِ تعالَى إِنَّ المجرمين في ضلال وسعرو يؤيده ما سيأتي من دعائِهِ عليه الصَّلاةُ والسلام
41
﴿مّمَّا خطيئاتهم﴾ أي من أجل خطياتهم ومَا مزيدةٌ بينَ الجارِّ والمجرورِ للتوكيدِ والتفخيمِ ومَنْ لم يَرَ زيادَتَهَا جعلَهَا نكرة وجعل خطيئائهم بدلاً منهَا وقُرِىءَ مِمَّا خطاياهم ومما خطاياتهم اي بسبب خطايئاتهم المعدودةِ وغيرِهَا من خطاياهُم ﴿أُغْرِقُواْ﴾ بالطوفانِ لا بسببٍ آخرَ ﴿فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ المرادُ إمَّا عذابُ القبرِ فهو عَقيبَ الإغراقِ وإنْ كانُوا في الماءِ عنِ الضحَّاكِ أنَّهُم كانُوا يُغرقونَ من جانبٍ ويُحرقُونَ من جانبٍ أو عذابُ جهنَم والتعقيبُ لتنزيلِهِ منزلةَ المتعقبِ لإغراقِهِم لاقترابِهِ وتحقِقِه لا محالةَ وتنكيرُ النَّارِ إمَّا لتعظيمِهَا وتهويلِهَا أو لأنَّهُ تعالَى أعدَّ لهُم على حسبِ خطيئاتِهِم نوعاً من النَّارِ ﴿فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً﴾ أي لم يجدْ أحدٌ منهُم واحداً منَ الأنصارِ وفيه تعريضٌ باتِّخاذِهِم آلهةً من دونِ الله تعالَى وبأنَّها غيرُ قادرةٍ على نَصرِهِم وتهكمٌ بهِمْ
﴿وَقَالَ نُوحٌ ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دياراًَ﴾ عطفٌ على نظيرِهِ السابقِ وقولُهُ تعالَى مّمَّا خطيئاتهم الخ اعتراضٌ وسطٌ بين دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ ما أصابَهُم من الإغراقِ والإحراقِ لم يُصبهُم إلا لأجلِ خطيئاتِهِم التي عدَدَهَا نوحٌ عليهِ السَّلامُ وأشارَ إلى استحقاقِهِم للإهلاكِ لأجلِها لا أنَّها حكايةٌ لنفسِ الإغراقِ والإحراقِ على طريقةِ حكايةُ ما جَرى بينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينُهُم من الأحوالِ والأقوالِ وإلا لأُخِّر عن حكايةِ دُعَائِهِ هَذا وديَّاراً من الأسماءِ المستعملةِ في النَّفيِ العامِّ يقالُ ما بالدارِ ديَّارٌ أو ديُّورٌ كقيَّامِ وقَيُّومِ أيْ أحدٌ وهو فَيعالٌ من الدُّورِ أو من الدَّارِ أصلُهُ دَيْوَارٌ قدْ فُعِلَ بهِ ما فُعِلَ بأصلِ سيد لأفعال وإلا لكانَ دَوَّاراً
﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ﴾ عليها كلاً أو بعضاً ﴿يُضِلُّواْ عِبَادَكَ﴾ عن طريقِ الحقِّ ﴿وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾ أي إلا من سيفجُر ويكفرُ فوصفَهم بما يصيرونَ إليهِ وكأنَّه اعتذارٌ ممًّا عَسَى يرِدُ عليه مِنْ أنَّ الدعاءَ بالاستئصال معَ احتمال أنْ يكونَ من أخلافِهم مَنْ يؤمنَ منكرا وإنَّما قالَهُ لاستحكام علمِه بما يكونُ منهم ومن أعقابهم بعد ما جرَّبُهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنةٍ
﴿رَّبّ اغفر لِى ولوالدى﴾
41
ابو ملك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت انوش كانامؤمنين وقيل هما آدم وحواء وقُرىءَ ولولديَّ يريدُ ساماً وحاماً ﴿وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ﴾ أي مَنزلِي وقيلَ مسجدِي وقيل سَفينتي ﴿مُؤْمِناً﴾ بهذا القيدِ خرجتْ امرأتُه وابنُه كنعانُ ولكنْ لم يجزمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بخروجِه إلا بعدَ ما قيلَ له إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وقد مرَّ تفصيلُه في سورة هو ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ عمَّهم بالدُّعاءَ إثرَ ما خصَّ بهِ مَنْ يتصلُ به نسباً وديناً ﴿وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً﴾ أي هلاكاً قيلَ غرقَ معُهم صبيانُهم أيضاً لكنْ لا على وجهِ العقابِ لهم بلُ لتشديد عذابِ آبائِهم وأمَّهاتِهم بإراءةِ هلاكِ أطفالِهم الذينَ كانُوا أعزَّ عليِهم من أنفسهِم قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يهلكونَ مهلكاً واحداً ويصدرونَ مصادرَ شَتَّى وعنِ الحسنِ أنَّه سُئلَ عنْ ذلكَ فقالَ علَم الله براءتَهُم فأهلكَهُم بغيرِ عذابٍ وقيل اعقم الله أرحامَ نسائِهم وأيبسَ أصلابَ آبائِهم قبلَ الطُّوفانِ بأربعينَ أو سبعينَ سنةً فلم يكُنْ معهُم صبيٌّ حينَ غرقوا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ نوحٍ كانَ من المؤمنينَ الذينَ تُدركهم دعوةُ نوح عليه السلام
سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
42
Icon