تفسير سورة البينة

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة البينة من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة البيّنة
مدنيّة وهى ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فى زمان الماضي قبل مبعث النبي - ﷺ - مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من لبيان الموصول وكفرهم بالإلحاد فى صفات الله تعالى وقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله وَالْمُشْرِكِينَ يعنى عبدة الأوثان عطف على اهل الكتاب مُنْفَكِّينَ زائلين متعضلين عن كفرهم الذي كانوا عليه حذف صلة منفكين لدلالة صلة الذين عليه حَتَّى تَأْتِيَهُمُ لفظه مستقبل أريد به الماضي اى حتى أتتهم الْبَيِّنَةُ يعنى ما يبين الحق من الباطل وهو.
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يعنى محمدا ﷺ بدل من البينة يَتْلُوا صُحُفاً الجملة صفة لرسول الله - ﷺ - وانه ﷺ وان كان اميا لكنه لما كان متلوه مما يكتب فى الصحف كان كمن يتلو صحفا اى مصاحف مُطَهَّرَةً من الباطل وتصرف الشياطين او ممنوعة من مس المحدث والجنب والحائض قال الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقال لا يمسه الا المطهرون.
فِيها اى فى تلك الصحف كُتُبٌ مكتوب قَيِّمَةٌ ط عادلة مستقيمة لا عوج فيها فاذا أتاهم الرسول بين لهم ضلالتهم وأزال عنهم جهلهم ودعاهم الى الايمان فانفك عن كفره من وفقه الله للايمان وقدر له السعادة.
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فى الايمان بالنبي ﷺ وكفرهم به إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ما مصدرية والاستثناء مفرغ منصوب المحل على الظرفية متعلق بتفرق اى ما تفرقوا فى امر النبي - ﷺ - فى وقت من الأوقات الا بعد مجيئه وكانوا قبل ذلك مجتمعين على تصديقه منتظرين لمجيئه يَسْتَفْتِحُونَ به عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ حسدا وعنادا وجملة ما تفرق عطف على لم يكن والحاصل ان اهل الكتاب وان كان بعضهم ملحدا فى صفات الله ونسبة الولد اليه لكنهم كانوا مجتمعين فى امر النبي - ﷺ - لوضوح بيان امره فى كتبهم ولما كان صفة اجتماعهم على تصديق النبي - ﷺ - مختصا باهل الكتاب دون المشركين أفرد فى هذه الاية ذكرهم لاظهار زيادة شتاعة من بقي منهم على الكفر والاية الاولى لبيان حال المؤمنين
من اهل الكتاب ومن المشركين والاية الثانية لبيان من بقي على الكفر من اهل الكتاب قال البغوي وقال بعض ائمة اللغة معنى قوله منفكين هالكين من قولهم انفك صدر المرأة عند الولادة وهو ان ينفصل فلا يلتئم حتى تهلك ومعنى الاية لم يكونوا هالكين معذبين الا بعد قيام الحجة عليهم من إرسال الرسول وإنزال الكتاب نظيره قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.
وَما أُمِرُوا يعنى هؤلاء الكفار كلهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ قيل اللام زايدة والفعل منصوب بان مقدرة حذفت ان وزيدت اللام والجملة فى محل النصب على انه مفعول به لامروا اى ما أمروا الا بان يعبدوا الله وقيل المفعول به محذوف واللام لام كى والجملة فى محل النصب على العلية والمعنى ما أمروا بما أمروا به بشئ الا ليعبدوا والحاصل انهم ما أمروا على لسان محمد - ﷺ - الا بشئ حسن ذاته تدل الادلة العقلية على حسنه وقد أمروا بذلك فيما سبق من الكتب المنزلة فعجبا من المنكرين كيف أنكروا وكيف يفرقوا فيه مُخْلِصِينَ حال من فاعل يعبدوا لَهُ اى لله الدِّينَ اى الاعتقاد عن الشرك بغيره حُنَفاءَ حال مرادف او متداخل لمخلصين اى مائلين عن الأديان الباطلة كلها قال ابن عباس معناه وما أمروا فى التورية والإنجيل الا بإخلاص العبادة لله موحدين وَيُقِيمُوا عطف على يعبدوا الصَّلاةَ المكتوبة فى أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ عند محلها وَذلِكَ الذي أمروا به على لسان محمد - ﷺ - دِينُ الْقَيِّمَةِ ط اى الامة القائمة الراسخة على الحق من الأنبياء والماضيين واتباعهم الصالحين قال البغوي قال النضر بن شميل سالت الخليل بن احمد عن قوله تعالى ذلك دين القيمة فقال القيمة والقيم والقائم واحد مجازا الاية وذلك دين القيمة لله بالتوحيد او المعنى وذلك دين الكتب القيمة التي لا عوج فيها التي جرى ذكرها فى ضمن الذين أوتوا الكتاب وقيل معناه ذلك طريق الملة والشريعة القيمة المستقيمة قال البغوي أضاف الدين الى القيمة وهى لغة لاختلاف اللفظين وأنت القيمة بتأويلها الى الملة ولما ورد ذكر المؤمنين والكافرين استأنف الله سبحانه بالوعد والوعيد للفريقين فقال.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ اسم وخبره ما بعده فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ط حال مقدرة من فاعل الظرف أُولئِكَ
هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ
اى شر الخلائق أجمعين حتى الكلاب والخنازير والجملة اما تذئيل او خبر لان بعد خبروهم ضمير الفصل قرأ نافع وابن ذكوان البرية فى الموضعين بالهمزة والباقون بتشديد الياء بغير همزة.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ أجمعين حتى الْبَرِيَّةِ ط الملائكة المعصومين ومن هاهنا قالوا ان خواص البشر أفضل من خواص الملائكة وعوام البشر اعنى المؤمنين الصالحين ارباب القلوب الصافية النفوس الزاكية أفضل من عوام الملائكة واما غير الصالحين من المؤمنين فيلتحقون بالصالحين بعد ما يتمحضون من الذنوب اما بالمغفرة او بالعقاب ويدخلون الجنة.
جَزاؤُهُمْ مبتداء عِنْدَ رَبِّهِمْ ظرف لجزاءهم جَنَّاتُ عَدْنٍ اى اقامة خبر لجزائهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اى من تحت قصورها وأشجارها الْأَنْهارُ فاعل تجرى على المجاز والجملة صفة لجنات خالِدِينَ فِيها فى جنات حال منهم فى جزاءهم أَبَداً ط ظرف لخالدين قال البيضاوي فيه مبالغات تقديم المدح وذكر الجزاء المؤذن بان ما منحوا فى مقابلة ما وصفوا به والحكم عليه بأنه من عند ربهم وجمع جنات وتقيدها اضافة ووصفها بما يزداد بها نعيما وتأكيد الخلود بالتابيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هذا نعمة زاد من الجنات وما فيها فضل الله عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله - ﷺ - ان الله يقول لاهل الجنة يا اهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير كله فى يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم يعط أحد من خلقك فيقول الا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب اى شىء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده ابدا متفق عليه قلت لعل المراد من قوله ما لم يعط أحد من خلقك ما لم يعط الملائكة والا فليس غير اهل الجنة الا اهل النار ولا يجوز القول بالتفضيل عليهم وَرَضُوا عَنْهُ ط قال البغوي قيل الرضاء ينقسم قسمين رضى الله به ورضى عنه رضى به ربا ومدبرا ورضى عنه فيها يقضى ويقدر قلت والرضى عنه على اقسام قسم منه معناه ترك الاعتراض عليه والاعتقاد بان كل ما فعل هو الحسن فى نفس الأمر وان خفى علينا وجه حسنه وهذا القسم من الرضا واجب على العباد فى كل ما قضى الله عليه من مرغوب ومكروه عنده غير انه ان صدر عنه المعصية او عن غيره لا يرضى عن الكفر والمعصية من حيث صدوره عن العبد وكسبه فان صدور الكفر والمعصية عن العبد وكسبه به غير مرضى الله وان كان صادرا
319
بارادة الله وخلقه ومناط التكليف فى وجوب هذا القسم من الرضاء العقل والاستدلال فان العاقل إذ لاحظ ان الله تعالى مالك للاشياء كلها والمالك يتصرف فى ملكه كيف يشاء والاعتراض انما يتوجه على من يتصرف فى ملك غيره بغير اذنه ولاحظ انه تعالى حكيم لا يفعل الأعلى ما اقتضاه الحكمة رضى الله به وان اختلج شىء فى صدره فذلك لاجل نقصان فى عقله ودينه وبقية كفر فى نفسه الامارة بالسوء والى هذا القسم من الرضاء أشار السرى السقطي رضى الله عنه إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تساله الرضى عنك وقسم منه معناه كون مقتضيات الله محبوبا له مرغوبا عنده وان كان على خلاف هواه ومنشأه العشق والمحبة بالله سبحانه فان فعل المحبوب ومراده أحب عند المحب من مراد نفسه ومن هاهنا قال الشاعر فان فرحت بهجرى رضيت بالضروري وقسم منه معناه بلوغ المراد أقصى ما يتمناه ويشتهيه وهو المراد هاهنا ومن قوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال رسول الله ﷺ اذن لا ارضى وواحد من أمتي فى النار وقد مر فى سورة والضحى ذلك المذكور من الجزاء والرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ع فان الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير والناهي عن كل معصية وشر وجملة ذلك لمن خشى ربه فى مقام التعليل بقوله تعالى جزاءهم عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لابى ان الله أمرني ان اقرأ عليك القران وفى رواية ان اقرء عليك لم يكن الذين كفروا قال أالله سمانى لك قال نعم قال وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قذرفت عينه متفق عليه قلت وما ذكر فى الحديث من حال ابى هواية عشاق- والله تعالى اعلم.
320
Icon