ﰡ
و (كتَابٌ) التنكير فيه للتعظيم، والمعنى كتاب عظيم الشأن لَا يدرك كنهه، ولا تحيط به أفهام البشر، إلا إذا كان ذلك بتوفيق من اللَّه، وما يعلم تأويله إلا اللَّه، وأضف إلى ذلك ما يقوي مكانته أو يحققها، وهو أمران ذكرهما اللَّه تعالى:
الأمر الأول: أنه أضافه إلى اللَّه تعالى على أنه نازل من لدنه في سموه سبحانه، إلى منتهاه في نزوله إلى النبي - ﷺ -، وهذا هو قوله تعالى: (أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ)، وبالإضافة إليه سبحانه بضمير الجمع؛ لأنه الضمير العائد إلى اللَّه خالق الوجود كله، عاقله وغير عاقله، إنسه وجنه، وهو الحكيم الخبير.
الأمر الثاني الذي يكشف عن عظمة الكتاب: وهو شرف ذاتي فوق شرفه الإضافي بالنسبة إلى الله تعالى، وهو أنه يخرج الناس - إذا أدركوه - من ظلمات الضلال إلى نور الهداية وذلك بتبلجغ محمد - ﷺ - له، وهذا هو قوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِم) فهذا النص السامي يدل على أن القرآن هادٍ ومرشد يخرج به النبي - ﷺ - الناس من الضلال إلى الهدى بإذن اللَّه، ففي ذلك ثلاثة معان: أولها: أن الضلال كالظلمة، وثانيها: أن الهداية كالنور، وثالثها: أن الأمور كلها بتوفيق من اللَّه، فمن سلك سبيل الهداية وصل إلى الغاية، ومن لعملك طريق الضلال وصل إلى نهاية الضلال البعيد.
وقد عرف اللَّه سبحانه وتعالى بالبيان إلى أن النور صراط اللَّه العزيز الحميد.
الصراط: الطريق المستقيم، وهو أقرب ظريق للوصول إلى الحق، وهو في هذا الوصف العظيم مضاف إلى اللَّه تعالى فيزداد شرقا وتكريما، وهو صراط العزيز الذي لَا يقهر، وهو فوق كل شيء والغالب على كل أمر وحده، ومن سلك طريق الحميد، فإن العاقبة فيه محمودة، فهو محمود في ذاته ومحمود في غايته ونهايته.
ومن سلك غيره ذل، ولا يحمد العاقبة، والعاقبة هي السوءى.
وقد ذكر سبحانه القلوب المظلمة، فقال عز من قائل:
صدر سبحانه الجملة التي فيها كمال سلطان اللَّه تعالى في الوجود بلفظ الجلالة، لتربية المهابة في نفس القارئ، ولأن ذلك يتلاقى مع سلطان اللَّه الكامل، و (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) للدلالة على ملكيته لكل ما في السماوات، وتكرار (مَا فِي) لدلالة على كمال استغراق الملكية له سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، مالك كل شيء، وذكر سبحانه ملكيته لما في السماء والأرض وذلك يقتضي ملكيته لهما، لأن ملكية ما يشتملان عليه يقتضي - لَا محالة - ملكيتهما، إذ ملكية المظروف تقتضي ملكية الظرف، وإن الملكية الكاملة لهذا الوجود كله بما فيه من أجرام، وأحياء عاقلة وغير عاقلة يتضمن أنه يملك الأنداد، وأنها وعُبادها في قبضته سبحانه العليم بكل شيء، وفي ذلك برهان قاطع أنها غير جديرة بالعبادة؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذكر سلطان اللَّه تعالى في الوجود
وكأن المعنى كما يقول الزمخشري: يولولون من عذاب شديد، ويصيحون قائلين يا ويلاه. وننبه هنا إلى أمرين:
أولهما: أن ذكر الويل ينزل بالكافرين، هو في مقابل الذين يسلكون صراط العزيز الحميد، من حيث إنهم يكونون في عزة بعزته سبحانه وتعالى، وعاقبتهم محمودة بسلوكهم طريقه المحمود، أما الذين لَا يسلكون الطريق ويخالفون مقتضى الملكية الثابته للَّه تعالى في السماوات والأرض ومن فيهن، فإنهم يكونون في ويل من عذاب شديد.
وثانيهما: اللَّه مالك كل شيء، حتى لقد قرر الفقهاء أن ملكية الناس للأشياء ملكية نسبية وليست ملكية حقيقية؛ لأن المالك في الحقيقة هو اللَّه سبحانه وتعالى.
وقد بين سبحانه وتعالى صفات الكافرين الذين لهم الويل من عذاب شديد، لَا يكتنه كنهه، ذكر سبحانه أوصافهم الظاهرة، فقال تعالى:
وصفهم سبحانه وتعالى، في هذه الآية بثلاث صفات، وختمها بجزائهم المستحق من هذه الصفات والمترتب عليها:
الصفة الأولى: أنهم (يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)، (استحب) السين والتاء للطلب، فمعنى استحب الحياة، أي طلب حب الحياة الدنيا، وهذا يستفاد منه أولا الرغبة الشديدة؛ في الحياة بمعنى اللجاجة في طلبها، ويستفاد منه
والصفة الثانية: أنهم لَا يكتفون بإيثارهم الدنيا على الآخرة، بل يصدون عن سبيل اللَّه، أي يقفون مترصدين السبيل يصدون عنها بمنع الناس منها، وقرأ الحسن البصري (وَيُصُدِّونَ) بضم الياء وكسر الصاد، والمعنى أنهم أعرضوا عن سبيل اللَّه، وحملوا غيرهم على الإعراض عن سبيل اللَّه تعالى، وذلك بالجمع بين القراءتين، وصدهم عن سبيل اللَّه بالدعوة إلى عدم الدخول، كما كان يذهب أبو لهب إلى حيث النبي - ﷺ - إلى القبائل يكذّب النبي - ﷺ - ويدعوهم إلى الإعراض أو عدم الاستماع، وأشد الصد عن سبيل اللَّه إيذاء المتبعين لسبيل اللَّه وتعذيبهم ليحملوهم على الردة عن دينهم، وسبيل اللَّه هو صراط العزيز الحميد، وهو طريق الحق والهداية وتوحيد اللَّه تعالى.
والصفة الثالثة: أنهم يبغونها عوجا، أي يطلبونها راغبين ملحفين أن تكون معوجة غير مستقيمة، بل يطلبونها ناكبة عن الطريق غير سالكة سواء السبيل، يبغونها زيفا ويطلبون الاعوجاج كما كانوا يريدون محمدا - ﷺ - أن يكون عن سب آلهتهم ويدعونه إلى اتباع آبائهم، وكأنه جاء ليردد ما عندهم، لَا ليهديهم ويرشدهم إلى الطريق الأقوم.
ولقد بين سبحانه بعد ذلك الوصف الجامع لهم، ولذي سيطر عليهم فقال:
(أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) الإشارة إليهم محمَّلين بهذه الأوصاف التي استحبوا بها الحياة الدنيا وصارت خلب أكبادهم وآثروها على الحياة الآخرة، ورضوا بالدنية عن الحياة العزيزة الكريمة في الآخرة، وصدوا عن سبيل اللَّه وبغوا الحق معوجا غير مستقيم (أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ).
والبُعد إما أن يكون وصفا للضلال، ويكون معنى ذلك أنهم أوغلوا في الضلال إيغالا حتى بعدوا عن الطريق السوي الموصل إلى الغاية المنشودة والذي هو طريق السلامة.
وإما أن نقول إنه وصف للضال نفسه، وذكر السياق وصفا للضلال من قبيل المجاز الرسل الذي يجعل المصدر هو الموصوف، والحقيقة أن الوصف هو للضال، واللَّه أعلم.
ولقد بين القرآن الكريم حقيقة ثابتة في الرسالات الإلهية، وهي أن يكون الرسول بلسان قومه، فقال تعالى:
(مِن) هنا لاستغراق النفي ثم الإثبات، أي ما أرسلنا أي رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، وهذا النص الكريم يفيد أنه سبحانه لَا يرسل رسولا إلا بلسان قومه الذين بعث من بينهم، وأن البيان الأول يكون لهم ثم ينبعث نور الدعوة من ورائهم، وكذلك كان النبيون، فعيسى - ﷺ - بعث بلسان قومه وكانت دعوته بلسان قومه وهو العبرية، وعمت دعوته ابتداء بلسان قومه، والأناجيل التي حكت مواعظه في الجبل والسفح كانت بلغة قومه ابتداء، فإذا كانت قد ظهرت بغير لغته ولغة قومه، بل بلغة أعدائهم فإن السند يكون حينئذٍ منقطعا بين الرسالة ومن أرسل فيهم، بل بينهم، وبين الرسول ذاته، ولذا كان تحريف القول عن موضعه.
وموسى من قبل عيسى - عليهما السلام - بعث أيضا بلغة قومه وهم بنو إسرائيل ابتداء، ثم كانت لغة فرعون عندما خاطبه هو هارون.
وكونه بلسان قومه لَا يفيد أنه كان للعرب خاصة، فذلك لما قصته الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الشريفة والوقائع التاريخية الصادقة، فإن دعوته دخل فيها صهيب الرومي، وبلال الحبشي، ثم سلمان الفارسي، وذكر - ﷺ - أن هؤلاء يصورون أجناسهم في الدعوة المحمدية، ولم يلبث النبي - ﷺ - بعد أن عمَّت دعوته الجزيرة العربية أن بعث إلى هرقل ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المقوقس عظيم القبط، يدعوهم إلى الإسلام، وهكذا.
إذن فالدعوة كانت للناس قاطبة، ولكنها ككل دعوة حق تبتدئ في أضيق دائرة، ثم تتسع شيئا فشيئًا حتى تصير نورا ساطعا يعم الأكوان، فابتدأت الدعوة في أسرة الرسول وأصدقائه ثم دعيت عشيرته، كما قال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرتَكَ الأَقْرَبِين)، ثم كان الصدع بالدعوة والجهر بها (فَاصْدَعْ بِمَا تؤْمَر وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، ثم كانت في القبائل العربية، ثم تجاوزت ربوع الصحراء العربية إلى أرض كسرى وقيصر وسارت إلى الحبشة بعد أن عمَّت ربوع اليمن.
وقوله تعالى في مقابل إرسال الرسول عن قومه: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
ذكر سبحانه أن البيان الأول يكون لقومه، ثم يكون بعد ذلك لغيرهم.
________
(١) من حديث ابن عباس، أخرجه أحمد، ومن مسند بني هاشم - بداية مسند عبد اللَّه بن عباس (٢٦٠٦).
" فإن قلت لم يبعث رسول اللَّه - ﷺ - إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس الناس كافة (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعًا...)
بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم يكن للعرب حجة فلغيرهم حجة، وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم يكن للعرب حجة أيضا، قلت:
لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة لنزوله بجميع الألسنة؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما نرى الحال ونشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك جلائل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكذا القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب؛ ولأنه أبعد من التحريف، وأسلم من التنازع والاختلاف..... " (١).
وننتهي من كلام الزمخشري إلى أمرين: أولهما: أن نزول القرآن والدعوة المحمدية كانت باللغة العربية؛ لأنها كانت لغة النبي - ﷺ - فكانت أقرب إليه؛ ولأن القرآن العجز إذا كان باللغة عانى غيرهم من حفظ لفظه وتفهم معانيه، وفي ذلك ثواب أولا، وصون للقرآن عن التغيير والتبديل فيه ثانيا.
_________
(١) الكشاف: ٢/ ٣٦٦.
وإنه يجب أن نلاحظ أمرين:
أولهما: ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - أنه يجب أن يعرف كل مسلم قدرا من اللغة العربية يصحح به دينه.
وثانيهما: أن جعل القرآن باللغة العربية، ومحاولة الأعاجم أن يحفظوه يقرب بين اللغات، وحيث قربت اللغات قربت العلاقات الإنسانية.
وكان ذلك قائمًا يوم كانت الوحدة العربية قائمة، وكانت اللغة العربية جامعة لهم وفيها دونت ثقافاتهم وكانت وعاء للعلم الإسلامي، فلما انبعثت اللغات الإقليمية من مراقدها ذهبت الوحدة وتفرقت الكلمة.
ونعود إلى الكلام في معنى الآية الكريمة (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)، أي أنه يترتب على البيان أن يسير الناس في طريق الضلالة، إذ يكذبون، ولا يصدقون، ويهدي اللَّه تعالى من يسير في طريق الهداية، فيأخذ بيده إلى غايتها.
وهنا يسأل سائل لماذا قُدِّمت الضلالة على الهداية؟ ونقول في الجواب عن ذلك إن الآيات سبقت لبيان إنذار الضالين، فهم موضع الإنذار؛ ولأن الشيطان قريب من نفوس البشر؛ ولأن الأهواء تجعل حكم الضلال هو الأغلب.
وقد ختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لبيان أن الكفار مهما يكن سلطانهم وقوتهم وحسبانهم أنهم لن يغلبوا، ويذهب بهم غرورهم إلى زعم أنهم العالون، فالله تعالى هو واهب العزة، وهو العزيز الذي يذلهم، ويجعل لأهل الإيمان الكلمة العليا، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته، وبعلمه الذي وسع كل شيء، فهو يمهل الكافرين ويملي لهم، كما قال عز من قائل: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي متِينٌ)، يملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
* * *
قال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
* * *
قال تعالى:
وهذه تدل على أنه بعث لمصر كلها، لَا لبني إسرائيل وحدهم، وإن كانت فضائل الرسالة عادت على بني إسرائيل بالنعمة والإنقاذ ابتداء، والهداية للجميع كانت المقصد في نهاية الرسالة وغايتها وقال تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ).
وردت أخبار من السلف بأن أيام اللَّه، الوقائع التي انتصر اللَّه فيها لكلمة الحق والإيمان، كما نزل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وآل مدين؛ وذلك لأن كلمة (أيام) تطلق في التاريخ العربي على الحروب التي كانت لها دوي في العرب كحرب " ذي قار " الذي انتصر فيها العرب على فارس، وكحرب " الفِجَار "، وكحرب " عبس وذبيان "، وكحرب " البسوس "، إلى غير ذلك من الأيام الشداد.
ويمثل عبارات بعض المفسرين إلى أن الأيام التي طلب اللَّه تعالى من موسى أن يذكرهم بها تعم أيام المحنة التي نزلت ببني إسرائيل وأيام النعمة، وقال الطبري في ذلك: وعظهم اللَّه تعالى بما سلف من الأيام الماضية لهم، أي بما كانوا في أيام اللَّه تعالى من النعمة والمحنة، وقد كانوا عبيدا مستذلين.
وهكذا نرى أن ابن جرير يخص الأيام بأيام اللَّه تعالى في بني إسرائيل محنة ونعمة.
والحق أن أيام اللَّه تعالى تعم أيام الشدائد، وأيام النعم، وتعم بني إسرائيل ومن سبقهم من الأمم كقوم نوح إلى آخره، وقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى تلك الأيام ببعض التفصيل بذكر النعم والنقم معًا.
وهذا بحث نحوي أشار إليه المفسرون اللغويون، وهو يتعلق بقوله تعالى:
(أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فيقول: أرسل اللَّه موسى مؤيدًا بالآيات التسع التي أشرنا إليها قائلا له: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، أي من الضلال الذي هو كالظلمات المتكاثفة إلى الحق الذي كالنور الواضح البين، ويصح أن نقول: إن (أَنْ) تفسيرية، أي إن ما بعدها تفسير لمعنى الرسالة، وجوَّز الزمخشري أن (أَنْ) مصدرية ولا مانع من دخولها على الأمر، لأنه فعل، ويكون المعنى: أرسلنا موسى إلى قومه بإخراجهم من الظلمات إلى النور. وقد بينا أن قومه تعم كل من بعث إليهم، وهم بنو إسرائيل، وأهل مصر، وقد كانت دعوته - عليه السلام - فيهم.
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما أنعم، فقال تعالى:
(إِذْ) ظرف زمان للماضي، والخطاب لمحمد - ﷺ - يذكر بنعم الله تعالى على المظلومين، وأنه سبحانه ينقذهم من أذى طاغية الدنيا في عصره، وهو فرعون، وإن هذا إيذان بأنه ينقذ النبي ومن معه من المشركين، وجاعلا لهم السلطان عليهم، وقوم موسى هنا متعين أن يكون لبني إسرائيل، وإن كان قوله: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) لَا يخصهم، بل يشملهم وغيرهم.
يقول لهم رسول اللَّه الذي أنقذهم على يديه: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، أي أصحاب فرعون ونصرائه ومعاونيه على الشر، ونرى
وقد كانت النجاة أو الإنجاء من أقسى المظالم الإنسانية، بشاعة وقسوة، كما حاول من ساروا على دأبه - أسكنهم اللَّه معه في السعير، فهم وهو على سواء، إلا أنهم أشد؛ لأنهم جاءوا بعد أن جاءتهم البينات.
و (إِذْ) بدل من الأولى، وقد بين اللَّه تعالى ما أنجى منه فقال:
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَستحْيُونَ نِسَاءَكُمْ).
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، أي يذيقونكم أشد العذاب سوءا من استرقاق، وإذلال وتكليفكم المشاق الغلاظ الشداد، أو استباحة لكرامتكم، وإبعادكم عن أماكن السلطان وجعلكم أرذالا تابعين، ولم يجعل منكم سادة متبوعين، حتى أنقذكم اللَّه من هذا فجعلكم سادة أنفسكم، وعبر عن ذلك سبحانه وتعالى بقوله: (... وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا...)، أي مسيطرين على أنفسكم ولستم خاضعين لغير اللَّه تعالى، وقال سبحانه وتعالى مع هذا الإذلال والاسترقاق (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم) في سورتي البقرة والأعراف (... يسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيسْتحْيُونَ نِسَاءَكُمْ...)، من غير (واو)، فكان هذا تفسيرا لسومهم العذاب، وهو بيان بأفصح أحواله، وهنا جمع بين الاسترقاق والذل والتكليف بالمشاق والأهوال، وبين ذبح الأبناء واستحياء النساء.
وعبَّر عن قتل الأبناء هنا بالذبح للإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك، وهم آمنون سالمون غير ثائرين ولا ناقمين، فهم في غير اندفاعة ثورة، ولكن في أمن ودعة، يأتون إلى الطفل من حجر أمه أو بين لداته ويذبحونه ذبحا، وحسبك أن تعلم أن أم موسى رضيت - بإلهام من اللَّه - أن تلقيه في اليم مع رجاء اللَّه تعالى، عن أن تراه يذبح بين يديها.
قال تعالى (وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ من رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)، الإشارة إلى الإنجاء، ويصح أن تكون الإشارة إلى سوم العذاب، وعلى الأول يكون البلاء هو بلاء بنعمة الإنجاء، كما أشرنا إلى قوله تعالى: (... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً...)، فالنعمة تحتاج إلى صبر واختبار، وإذا كانت الإشارة إلى سوم العذاب وتذبيح الأطفال واستحياء النساء يكون اختبارا من اللَّه عظيما، ونسب البلاء إلى الله تعالى، وهو الرب الخالق، للإشارة إلى أن تمكين فرعون من ذلك كان اختبارا من اللَّه تعالى حتى يمتحنوا بالنقمة، وتصقل نفوسهم بها.
وإني أرى أن الأول أوضح، واللَّه تعالى أعلم.
(تَأَذَّنَ) بمعنى آذن وأعلم، ولفظ (تَأَذَّنَ) يدل على المبالغة في الإعلام، وتكرره آنًا بعد آنٍ، وشكر النعمة أداؤها فيما خلقت له، فشكر نعمة الأذن ألا يسمع إلى منكر، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة العقل ألا يذعن إلا للحق ولا يفكر إلا في الوصول إلى الحق والإيمان بالتوحيد، والإنسان مغمور في نعم من لسان ينطق وأذن تسمع، وعين تبصر وجوارح تكسب، وكل نعمة لها شكرها، فإن شكر زادها اللَّه تعالى.
وكفر النعمة ألا يتخذها في طاعة، فكفر ذي المال بإنفاقه في غير حله، والاستعلاء به وبطر العيش، وأن يطغى إذا استغنى، ولقد قال تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) هذا شرط مؤكد بالقسم، والجواب (لأَزِيدَنَّكُمْ) جواب القسم ودل على جواب الشرط، واللام موطئة للقسم، وكان الجواب مؤكدا بنون التوكيد الثقيلة، وكذلك في قوله: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ
وإن هذا يدل على أن الطاعة تعود عائدتها على من قام بها، لأن شكر المنعم، وشكر النعمة يزيدها، وإن كفر النعمة معه عذاب أليم، واللَّه غني عن العباد، ولذا قال تعالى:
صرح اللَّه سبحانه بأن ذلك القول من موسى لقومه، ولم يصرح بأن قوله (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ) فاحتمل أن يكون الكلام منسوبا لموسى، أو هو من كلام اللَّه رأسا، والأذان هو (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ...) إلى آخر الآية، وسواء أكان الكلام منسوبا لموسى، أم إلى اللَّه، فالإيذان بالزيادة في الشكر والعذاب في الكفر من اللَّه، أما الكلام في هذه الآية فمنسوب لموسى قال لقومه من بني إسرائيل، أو هم وغيرهم.
وفى هذا النص (إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) فيه بيان أن الشكر والكفر مغبتهما تعود على الناس والثقلين جميعا، ولا تعود على اللَّه تعالى في شيء، ولهذا قال: (فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وهذا ينبئ عن جواب الشرط، والمعنى إن يكفر الناس والثقلان فإن اللَّه لَا يضيره شيء، ولا ينقص من ملكه، إن اللَّه لغني حميد، أي لَا يحتاج إلى عباده وهو حميد، أي محمود من الملائكة، ولقد قال البيضاوي في تفسير كلمة (حَمِيدٌ): " مستحق للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمه كل المخلوقات، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام وعرضتموها للعذاب الشديد " (١).
________
(١) تفسير البيضاوي: ٣/ ٣٦٨.
________
(١) رواه مسلم: البر والصلة والآداب - تحريم الظلم (٤٦٧٤). من حديث أبي ذر رضي الله عنه، كما رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، والدارمي، وقد سبق تخريجه.
الاستفهام هذا للإنكار بمعنى نفي الوقوع فهو للنفي جاء على صورة الاستفهام تأكيدا للنفي كأنهم سئلوا فأجابوا بالنفي، وهو داخل على النفي، فنفي النفي إثبات، فمعنى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ...) إلخ، قد جاءكم نبأ الذين من قبلكم قوم... والنبأ الخبر الخطير الشأن.
وقد قال ابن جرير: " إن هذا الكلام على لسان موسى لقومه بني إسرائيل وأهل مصر "، ولكن رد ذلك القول ابن كثير في تفسيره، ونحن معه؛ لأنه لَا دليل على نسبته إلى موسى - عليه السلام -، ولأن فائدته في جعله عاما أوفى من حيث المعنى؛ ولأن روح الآية تجعل الخطاب لن يتلو القرآن من مشركي العرب وغيرهم. و " النبأ " الخبر الخطير الشأن، وقد كان خبر قوم نوح خطير الشأن، وكذلك عاد وثمود، لأنها أخبار بهلاك أمم وجماعات بسبب خروجهم عن أمر ربهم.
أحسب أن المراد بهم أمة محمد - ﷺ - الذين كفروا برسالته، ويعاندون فيها، ويؤذون المؤمنين، ويسفهون قول الرسول - ﷺ -، ويصرون على عبادة الأوثان.
ويكون قوله تعالى: (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) تهديد لهم، وحمل لهم على المقايسة بينهم وبين غيرهم، فإذا كان نبأ الغابرين هلاكهم، فليقيسوا حالهم على حال أولئك الغابرين.
وقد حكى سبحانه ما كان بين الرسل السابقين وأقوامهم، فقال عز من وإ؛ ل: (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ)، أي بالأدلة المبينة الهادية المرشدة التي لَا يدخلها امتراء فلم يجيبوا. وعبر اللَّه سبحانه وتعالى عن امتناعهم عن الإيمان بقوله تعالى: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) كانت حالهم تجيب بأن ردوا أيديهم في أفواههم وقالوا....
وقد تكلم الزمخشري في قوله تعالى: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) فذكر عدة احتمالات مجازية لمعنى هذا التعبير القرآني الكريم ولم يعين واحدا، فقال: (فَرَدُّوا أَيْديَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) يعضوها غيظا وضجرا مما جاء به الرسل، كقوله تعالى: (... عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ...)، أو ضحكا واستهزاء، كمن غلب عليه الضحك فوضع يده على فيه، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم من قولهم: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ) وهذا قول قوي، أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء أطبقوا أفواهكم وأسكتوا، أو ردوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون، وقيل: الأيدي جمع يد، وهي النعمة بمعنى الأيادي أي ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم؛ لأنهم إذا
هذه احتمالات مختلفة لم يعين واحدا منها للدلالة في الآية الكريمة، وإن كان وصف القول الثالث بأنه قوي، وإنا نرى أن وضع اليد في الفم يكون عندما يلقى إلى الشخص خبر مستغرب، فالتعبير الكريم كناية عن استغرابهم الخبر، وإن كان لنا أن نختار من احتمالات الزمخشري، فهو قوله عضوا أناملهم من الغيظ، ولكنا مع ذلك نرى أنه كناية عن استغرابهم.
عرض لهم استغراب قول رسلهم أولاً، ثم انتهى الاستغراب بالإنكار، والكفر (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسلْتُم بِهِ) انتهى استغرابهم بالإنكار بكونهم رسلا، فالكفر بالرسالة أما موضوعها وهو ما يدعونهم إليه من توحيد وشرائع، فقد قالوا فيه: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ ممَّا تَدْعُونَنَا إِليْهِ مُرِيبٍ) ومريب معناه موقع في الريب، من أرابه أو أوجد عنده قلقا، أي أنهم يرتابون في دعوى التوحيد، وأنها تجعلهم في قلق بالنسبة لآلهتهم التي ورثوا عبادتها عن آبائهم، فدعوة التوحيد تخرجهم من الاطمئنان إلى الباطل إلى الشك والريب، فدعهم في ريبهم يترددون.
إجابة رسلهم
قال تعالى:
* * *
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا
________
(١) الكشاف: ٢/ ٣٦٨.
* * *
جاء النور على المشركين كالضوء الساطع على من يكون في ظلام دامس، فلا تقوى عينه على النظر وتضطرب وترتاب، فقالوا: (إِنَّا لَفِي شَكٍّ مما تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)، فهذه حيرة من يكون في ظلمة حالكة فيلاقى ضوءًا شديدًا.
وقد كانت مجاوبة بين الرسل وأقوامهم، وهذه المجابوبة صورة واضحة متحدة في كل الخلاف بين الشرك والإيمان أو بين الرسالة الإلهية ومن ينكرونها، ولم تكن هذه المجاوبة بين رسول بعينه، وقوم بأعيانهم، ليس هي صورة عامة جامعة متحدة، وإليك المجاوبة:
الاستفهام إنكاري توبيخي لإنكار الواقع، فقد وقع الشك منهم كما تدل الآية السابقة، وهو حيرة أهل الظلام إذا رأوا النور تحيروا بين باطل ألفوه، وحق جاء إليهم هاديا فارتابوا.
وقدم الجار والمجرور (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) لأهمية الشك في اللَّه أو لغرابة أن يكون ثمة شك في اللَّه تعالى، وهو الذي فطر السماوات والأرض، أنشأهما إنشاء، وفطرهما فطرا، أيكون في وجوده شك، وقد قامت الأدلة وتوافرت البراهين من الوجود بكل أطرافه.
وعندي أن تخريج القول الكريم على أنها بيانية أولى بالأخذ أولا، لأن جَبَّ الإسلام لما قبله عام غير خاص بذنب دون ذنب، وإذا كان الشرك قد غفر فما دونه أولى. وثانيا، لأنه كان من المشركين من قتلوا وسفكوا فغفر اللَّه لهم ذلك، وحسبك أن اللَّه غفر لوحشي قاتل حمزة، وثالثا: لأن النبي - ﷺ - صرح بأن كل دم في الجاهلية موضوع، وبأن ربا الجاهلية موضوع (١).
وقد ذكر سبحانه أنه يؤخرهم إلى أجل مسمى، وبعده يكون البعث، وفي هذا إنذار لهم إن استمروا في ضلالهم يعمهون.
هذا كلام الرسل، فبماذا أجابوا؟.
أجاب المشركون بتصوير القرآن ذاكرا الإجابة التي اتحدوا فيها على اختلاف قرونهم ليبين للنبي - ﷺ - ألا يضيق صدرا بما يجادل به مشركو مكة، فهو حال
________
(١) صرح به في خطبة الوداع، وهي خطبة طويلة، أخرجها مسلم: الحج - حجة النبي - ﷺ - (٢١٣٧) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وقرنوا قولهم هذا بأن الرسل لم يقدموا حجة، فأنكروا ما جاء إليهم من معجزات دالة على رسالاتهم تعنتا ولجاجة في الخصومة، وقالوا: (فَأتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)، أي بدليل واضح بيِّن يلائمنا، والسلطان هنا الحجة، وكثيرا ما عبر القرآن الكريم عنها بالحجة؛ لأنها تجعل للخصم سلطانا على خصمه يلزمه بالقبول والخضوع لَا يقول.
تنبيهان:
أولهما: أن اللَّه تعالى جمع أقوال الرسل في قول واحد، وهم كانوا في أجيال مختلفة، وجمع أقوال المشركين في قول واحد؛ لأنهم جميعا على قول واحد، وكأنه نابت من منابت الشرك المتحدة، فيكون إنتاجها واحدا، ولبيان أن الرسل أجيبوا جميعا بمثل ما أجيب فليتأسَّ وليصبر، فإن اللَّه لَا يضيع أجر الصابرين.
ثانيهما: أننا خرَّجنا قوله: (لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ) رجحنا أن (مِن) بيانية وسقنا ما نحسبه دليلا على الترجيح، ومن الحق علينا أن نذكر رأيا مخالفا لرأينا وهو رأى إمام البلاغة الزمخشري، فهو يرجح أن (مِّن) تبعيضية، ولننقل
وغير ذلك مما يقف عليه الاستقراء.
وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد، وقيل: أريد يغفر لكم ما بينهم وبين اللَّه بخلاف ما بينهم وبين العباد من الميعاد (١).
هذا ما وجب ذكره من كلام الزمخشري ليعلم القارئ الموضوع من وجوه النظر، وما كنا لنهمل رأي إمام البيان الزمخشري، وقد يسأل سائل لما ذكرت (مَن) في جانب المشركين إذا آمنوا، ونقول: لكثرة ذنوبهم فكان التعبير فيه إشارة إلى أن الغفران لكلها مع كثرته.
إجابة الرسل على اعتراض المشركين:
________
(١) ذكره الزمخشري في الكشاف: ج ٢/ ٣٦٩.
اعترض المشركون بأنهم بشر مثلهم، وبأنهم لم يأتوا بسلطان يثبت الرسالة، ولقد سلموا لهم الأمر الأول مؤكدين تسليمهم، قالوا: (إِن نَّحنُ إِلَّا بَشَرٌ مثْلُكُم) أكدوه بأن قصروا أنفسهم على البشرية لَا يعدونها، ولكن المشركين بنوا على المثلية بطلان دعواكم فلم يسلموا لهم ذلك، أي أنهم سلموا لهم بالمقدمة ولم يسلموا
أما كلامهم الثاني فى أمر المعجزة ففقد طلبوا نعتا ولجاجة معجزة اختاروها، وأعلنوا أن لن يؤمنوا إلا إذا جاءتهم هذه الآية، كما فعلوا مع النبي - ﷺ -، وقد ردوا زعمهم هذا بقولهم: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي ما ساغ لنا ولا جاز أن نأتيكم بآية غير ما جئنا به إلا بإذن اللَّه تعالى، فهو الذي منَّ علينا من بين عباده بالنبوة، وهو الذي اختار لنا الآية الدالة على رسالتنا كشأن كل رسالة من غائب لحاضر، أن الغائب هو الذي يختار الإشارة الدالة على أنه مبعوث من قبله، وقد اختار ذلك السلطان، فلا مناص لنا منه إلا أن يمن علينا بسلطان غير ما أعطانا، وإذا كنتم مسترين على معارضتكم، ومقاومتكم، وإعناتكم وإيذائكم، فنحن قد بلغنا وفي سبيل البلاغ لَا حامي لنا إلا الله تعالى؛ ولذا قالوا (... على اللَّهِْ تَوكَّلنَا...)، أي كنتم كنتم تعتمدون في معاندتكم وإعناتكم على قوة لكم تحسبونها، فنحن متوكلون على الله يحمينا من إيذائكم، وقدم الجار والمجرور (... علَى اللهِ توكلْنَا...)، لبيان أنهم لا يعتمدون إلا عليه، وأنه فوق كل الأقوياء، وأمروا المؤمنين الذين يؤذيهم المشركون ويسخرون منهم بأن يتوكلوا على اللَّه، ويصبروا فإنه لا محالة ينجيهم من إيذائهم وستكون كلمة الله هي العليا، وهو العزيز، ولذا قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وقدم الجار والمجرور للدلالة على أنه لَا يعتمد إلا عليه سبحانه،
وبعد ذلك بين سبحانه على لسان رسله المسوغ لتوكلهم عليه وحده فجاء على لسانهم قوله تعالى:
(وَمَا لَنَا) الاستفهام هنا لتقرير التوكل وتثبيته، أي ما ساغ لنا ألا نتوكل على اللَّه وقد هدانا سبلنا، أي سبيل الحياة الصالحة التي جعلتنا نؤمن بأن الحياة الدنيا طريق الآخرة، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الباقية، أما الأولى: فهي الفانية، وقوله: (وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) جملة حالية تفيد أولا أنهم آمنوا بهداية اللَّه فعرفوا سبيل الحق وسبيل الباطل.
وأما الثانية: أنهم عرفوا بطلان عبادة الأوثان. وأفاد ثالثا: أنه لَا قوة في الوجود إلا قوته، وأضيفت السبل إليهم (سُبُلَنَا) للإشارة إلى أن هذه السبل هي التي ينبغي أن تكون مطلبهم وأن تكون غايتهم التي يبتغونها.
وأنهم إذا عرفوا السبيل صراط اللَّه، واتخذوها سبيلا لهم فإنهم المعتمدون على اللَّه الصابرون؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذيْتُمُونَا) اللام لام القسم؛ ولذا كانت معها نون التوكيد الثقيلة التي تلازم القسم (عَلَى مَا آذَيْتمُونَا)، على ما تقدمونه من إيذاء متوال مستمر، فإن على أهل الحق أن يصبروا على أذي المبطلين.
ولقد أكد الرسل والمؤمنون اعتزامهم على الصبر حتى يبلغوا رسالات ربهم.
وإنهم أمام هؤلاء الأقوياء المتعنتين لابد من اعتماد على القوي القادر القهار؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)، أي عليه وحده فليتوكل المتوكلون، كان الأمر الأول بالتوكل للمؤمنين فقط، أما هنا فهو يشمل المؤمنين
* * *
محاولة الإخراج
بعد أن كلَّت بهم الحجة ضاق صدرهم، فانتقلوا من الجدل الباطل إلى الإخراج من أرضهم.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤)
* * *
لا يلجأ أحد إلى القوة إلا إذا كَلَّ به الدليل، وأحس بأن ما يسوقه من قول يحسبه حجة انهيار أمام قوة الحق؛ ولأن أتباع الرسل دائما يكونون قلة وأكثرهم ضعفاء يستهين بهم المشركون؛ لأنهم أعز نفرا، وأشد بأسا، وأكثر تعنتا؛ ولذا قال اللَّه تعالى:
أولهما: القسم، فمهما هددوا به الرسل، وقد أقسموا (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا) والقسم دُلَّ عليه باللام الموطئة للقسم ونون التوكيد الثقيلة، وهي بالنسبة لهم أوضح؛ لأنهم يملكون أعمالهم وأنفسهم فكيف يكون القسم بالنسبة للرسل، كأنهم يقسمون على الرسل والمعنى أنهم أخذوا قاسمين على أمرين لَا بد من تحقق أحدهما، وهو لنخرجنكم أو لتعودون، ونحن نقسم عليكم بذلك.
وفى هذا الوقت الذي بلغ فيه العِند أشده والكفر أطغاه ثبت اللَّه قلوب رسله (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) أوحى اللَّه إلى رسله قائلا لهم: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)، أو كان مدلول الوحي (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)،: اللام لام القمسم، والنون نون التوكيد الثقيلة، وهي توكيد للقسم فضل توكيد، وأظهر سبحانه في موضع الإضمار، فلم يقل لنهلكنهم، بل (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)، ، لبيان سب الهلاك وهو الظلم، وقد ظلم هؤلاء إذ لم يؤمنوا وأشركوا (... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣).
وظلموا فتعنتوا وطلبوا آيات أخرى وقد جاءتهم البينات، وظلموا بإيذاء المؤمنين وظلموا أشد الظلم فهمُّوا بإخراج الرسول ومن معه، وحاولوا فتنة المؤمنين ليكفروا بعد إيمان، ولم يتركوا بابا من أبواب الظلم إلا دخلوه (... وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ).
وكان من وحي اللَّه تعالى أنه بعد هاك الظالمين يسكن اللَّه الرسل ومن معهم مكانهم
والأرض هي أرض الدعوة التي هدد المشركون أن يخرجوهم منها، ولكن أخدهم اللَّه أخذ عزيز مقتدر قبل أن يتمكنوا، ولذلك قال الله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
وإن ذلك نصر الله تعالى فقد قال عز من قائل: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)، وقال تعالى: ، (... وَالعَاقِبة لِلمتقين)، وقال تعالى:
(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (مَقَامِي) مصدر ميمي، المقام بمعنى قيام، ومعنى قيام اللَّه، ومعنى الخوف من مقام اللَّه تعالى، أو قيامه على تدبير شئونه - رقابة كل أمور الإنسان بأنه لَا يعمل عملا إلا واللَّه تعالى يحاسبه عليه صغيرا أو كبيرا فيعبد الله كأنه يراه اللَّه، فإن لم يكن يراه فإن اللَّه تعالى يراه، وإن هذه مرئية الإحسان في الشعور باللَّه تعالى، كما ورد عن الرسول صلوات اللَّه تعالى وسلامه عليه، (وَخَافَ وَعِيدِ)، أي خاف وعيد اللَّه بالعذاب الشديد فهو يغلب الخوف على الرجاء؛ لأنه يستصغر حسناته ويستكثر سيئاته، وإنه ورد في الأثر. " من آذى جاره ورثه اللَّه داره ".
* * *
المآل هو العذاب والخيبة
قال تعالى؛
(وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
* * *
ويقول الزمخشري: إنه يكون مشتقا من الفتح بمعنى الحكم.
وقوله تعالى: (وَخَابَ كلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) بيان لنتيجة المعركة التي استفتح لها الرسل، والواو للعطف على فعل محذوف، تقديره، وفتح اللَّه تعالى للرسل بأن نصرهم أو حكم لهم وخاب كل جبار عنيد، والكلية هنا معناها أن المتكبرين على الحق الجبابرة الذين يعتدون ويلجون في الباطل، ولا يصغون إلى حق من أي مكان، مآلهم الخيبة، والخسران المبين! وذلك لأن الجبار يستعلي فيظلم، ولا نصر لظالم، والعنيد يركب رأسه، فلا ينصت لداع يدعو إلى التأمل وتعرف عواقب الأمور، فلا يرى إلا ما يكون بين يديه من أمور ظاهرة لَا يتعرف ما وراءها، ويقول دائما مقالة فرعون: (... مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
ولقد قال بعض السلف: إن الضمير في قوله تعالى: (وَاسْتَفْتَحُوا) يعود إلى الظالمين، أي الظالمين مع ظلمهم وطغيانهم يطلبون النصر، وذلك منهم إمعان في الضلال الفكري؛ إذ حسبوا ما عندهم خيرا يجيز لهم أن يستفتحوا من أجله.
الضمير في (مِنْ وَرَائِهِ) يعود إلى كل جبار عنيد، أي أنه في الدنيا خيبة، وعجز مع استعلاء وتجبر وعناد، وبعد ذلك في الآخرة (جَهَنَّم) يدخلها، (وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ) هو صديد من قروح جلود أهل النار، ووراء تجيء بمعنى بعد، كما تقول عذاب وراء عذاب ولوم وراء لوم، كما قال النابغة الذبياني.
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة | وليس وراء اللَّه للمرء مذهب |
عسى الكرب الذي أمسيت فيه | يكون وراءه فرج قريب |
وقوله تعالى: (وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ) الواو عاطفة على فعل محذوف، تقديره من ورائه جهنم يبقى فيها، ويسقى من ماء صديد، وهو الماء الناتج من القروح التي تجيء من حرق جلودهم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها حتى يذوقوا العذاب، وكأنه يستقبلهم من وراء عنتهم ولجاجتهم عذابان: أحدهما:
الإبقاء في جهنم وهو ذاته عذاب، إذ يكون لهيبها، والعذاب الثاني: أنهم لا يرتوون إلا بماء شربه ذاته عذابه أليم، وهو الصديد، وقد وصف سبحانه وتعالى شربه فقال:
(يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧)
(وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ) أما بعد تلك الحياة الشديدة الغليظة التي لَا تفنى، ولا تُبقى، من بعدها عذاب شديد (غَلِيظٌ) يجمع بين صفتين: الشدة والغلظة، فيكون أقسى العذاب؛ لأنهم تمتعوا بالشر والأذى والاستكبار فكان ذلك العذاب جزاءً وفاقا لما قدموا.
وقد بين اللَّه تعالى مع ذلك أن ما يفعلون من نفع في الدنيا لأنه ينقصه الإيمان، بذهب هباء، فقال عز من قائل:
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)
أي حال الذين كفروا بربهم، أي جحدوا بربهم الذي خلقهم وأنشأهم وقام على شئونهم وربَّهم وحفظهم، حالهم الغريبة أعمالهم كرماد اشتدت به الريح، وفي قراءة الرياح، وهذه الجملة على الخبر أو دالة عليه.
وقد شبه اللَّه سبحانه وتعالى أعمالهم بالرماد الذى تأتي عليه الريح عاصفة شديدة الهبوب فتثيره فتكون رمادا يتبدد، يغبر به الجو، ثم لا يبقى منه شيء، إلا الغبار الذي يصيب أعينهم ويفسد جوهم، والريح هو العاصف، ولكن وصف اليوم بأنه العاصف من باب إطلاق الزمن على اسم ما يحل فيه، كيوم ماطر، ويوم صائف، ويوم صائم.
وذلك لاستغراق عصف الرياح لليوم كله، حتى كأنه اليوم الذي اتصف بالعصف ليس غيره.
وقوله تعالى: (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) مشتقة من الشدّ بمعنى العدو، كقولهم شد عليه بمعنى عدا عليه وغلبه، أو مشتقة من الشدة، وهو الأظهر، والباء للتعدي، أي اشدت فيه الريح وفي قراءة الرياح.
وقوله تعالى: (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ)، قدم (مِمَّا كَسَبُوا)، على (عَلَى شَيْءٍ)، للاهتمام بما كسبوه فهم كانوا يحسبونه شيئًا من المكارم، والأعمال الصالحة فلا يجدونه شيئًا؛ وذلك لأنه فقد المؤثر النفسي وهو الإيمان، وقصد الخير
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)، وقال تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧).
وتلك النهاية هي غاية البعد من الحق والضلال البعيد في الضلالة.
وقد بين سبحانه أن الجزاء الأوفى يكون يوم القيامة، وأنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة، كما قال تعالى: (... كَمَا بَدَأَكمْ تَعُودُونَ)؛ ولذا قال تعالى:
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع أي للنفي، وهو داخل على النفي (لم) ونفي النفي إثبات وهو إثبات مؤكد، كأنه استفهم فكان الجواب هو الإثبات، وتأكيد أن اللَّه خلق السماوات والأرض، وقوله تعالى: (بِالْحَقِّ)، أي متلبسا بالحق في ذاته، وبأنها لم تخلق عبثا، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) وبأنها ثابتة دائمًا ثبات الحق، فوضع لها نظما، وسننا ونواميس تجعلها مربوطة برباط محكم، فأقام السماء بغير عمد ترونها وزينها بزينة الكواكب.
وكما قال تعالى: (... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وكما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كفَرُوا فَوَيْلٌ للَّذِينَ كفَرُوا مِنَ النَّارِ)، ما خلق اللَّه ذلك إلا بالحق.
أن ليس ذلك الإنشاء الثاني بعزيز، أي متعذر أو متعسر عليه سبحانه، فهو سبحانه وتعالى قادر بذاته، لَا يختص بابتداء ولا إنشاء من جديد، فالقدرة ثابتة، ومتى يثبت لَا يعز شيء عليه ولا صعب.
وفى هذا الكلام بيان أن اللَّه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة، لأنه قادر على الإنشاء من جديد، كما قال سبحانه: (إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ ويَأتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).
وكما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣).
وكما قال تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).
وإن الآية تفيد بإشارتها ترهيب المشركين بأنهم لَا يعجزون اللَّه، فإنه يستطيع إهلاكهم، وخلق غيرهم.
وإنهم في قبضة اللَّه في الدنيا، وجزاؤهم عنده في الآخرة، وهو يتولى الجزاء بالإحسان لمن أحسن وبالعذاب لمن عصى.
* * *
ما بين التابع والمتبوع والشيطان
قال اللَّه تعالى:
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ
* * *
هاتان الآيتان تصوران المجاوبة التي تكون بين العصاة وأولهم الشيطان الذي أقسم ليغوين الناس إلا عباد اللَّه المخلصين، والطبقة التي استغواها ابتداء المتبوعون من ذوي الاستكبار والاستعلاء على الناس بالجاه الدنيوي والمال والعزة، وهؤلاء يؤثرون في عرهم فتكون الطبقة التابعة والإمَعات (١) الطائعة.
صور اللَّه سبحانه أقوال التابعين للمتبوعين وابتداء منِ الدنيا في العصيان إلى من أخذوهم إلى الضلال، فقال تعالى:
________
(١) جمع إمعة: وهو من يقلد غيره في قوله أو فعله.
جمع ضعيف، والضعيف يشمل ثلاثة أنواع ممن يتصفون بالضعف:
وتانيهم: الضعفاء في تفكيرهم الذين يرضون بأدنى فكرة ويتبعون غيرهم اتباعا من غير دليل، بل في استكانة، وإن كانوا أقوياء في مالهم فهم ضعفاء في نفوسهم.
وثالثهم: الذين يتبعون القوة دون دليل.
يقولون للذين استكبروا من الكبراء ذوي الوجاهة والقيادة في الضلال: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا)، وتبع جمع تابع، أو مصدر نعت به، ويكون معنى التعبير هو الإيغال في التبعة كأنهم لَا وجود لهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الفاء تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، أي بسبب هذه التبعية هل أنتم مغنون عنا عذابا من عذاب اللَّه من شيء (مِنْ) الأولى للتبعيض، ومن الثانية للاستغراق، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي لستم مغفنون عنا بأي قدر من عذاب.
أجاب الذين استكبروا عن الحق، فقد أجابوا عن هذا الاستفهام الإنكاري، الذي لَا يخلو من معنى التوبيخ والملامة حيث لَا لوم قائلين: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)، ، والمعنى أننا على سواء، لو هدانا اللَّه إلى الحق لهديناكم إليه ولكننا ضللنا فضللتم، وإنكم إذ كنتم تبعا لنا فارتضوا بما وقع لنا، ولا يخلو هذا الكلام من إلقاء اللوم عليهم في التبعية من غير تفكير وتبرير، وكأنهم يشيرون إليهم إلى أنهم كان عليهم أن يتبعوا عن بينة.
ثم يقولون لهم: إننا وقد وقعنا في الضلال علينا أن ذوق مغبتها طائعين؛ لأننا مجبرون، وفي آية أخرى صرح الكبراء فقالوا: (... فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩).
تلك هي المجاوبة التي بين التابع والمتبوع، والشيطان مصدر ضلالهم وإغوائهم وهو كالمتفرج عليهم ولكنه غير ناج:
أي أحكم وفصل فيه، ولم يكن لحكم اللَّه مرد ولا نقص، (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ)، أي وعد هو الحق، فالإضافة بيانية، أي الأمر الصحيح الثابت الصادر من مالكه، وهو الذي يجازي عليه بالثواب وعلى مخالفته بالعقاب، والفعل في ذاته نفع لَا ضرر فيه، وخير لَا شر فيه، وكان عليكم أن تطيعوه، ولا تخرجوا عليه.
(وَوَعَدتُّكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ) ولم يذكر وصف وعده؛ لأنه مفهوم من وصف الأول بأنه الحق ومقابله باطل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وترك لأنه مفهوم من السياق، ولكي تذهب مذاهب فيما يعد به الشيطان إنه لَا يعد إلا بما يكون من ورائه الفساد والبوار، والعبث والشر، فهو ليس باطلا فقط بل أكثر من باطل إمعانا في الشر، وقوله: (فَأَخْلَفْتُكُمْ)، أي منيتكم الأماني الباطلة، وأودعت نفوسكم الأوهام، وزينت لكم السوء لتحسبوه أنه حق، وإسناد الإخلاف إليه - لعنه اللَّه تعالى - مع أن الإخلاف من اللَّه تعالى، وبيان كذب ما وعد وألقى به في أمنية الناس، لبيان أنه وهو يعد يعلم أنه باطل وأنه إغواء، فكأنه هو الذي أخلف لأنه يعلم أنه كذب لَا حقيقة بل هو وهم ضلال،
وهذا شأن أتباع إبليس دائما يقعون في الشر ثم يلومون من أوقعوهم لأنهم أطاعوهم، وإن الشيطان له عذاب، وهو يصرخ بأنه فيه، وإنه لَا يستغيث، لأن أحدا لَا يغيثه ولا يستطيع أن يغيث أحدا، ولذا جاء على لسانه قوله: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) المصرخ هو المجيب للمستصرخ المغيث له، والصارخ هو المستغيث والمعنى بمستطيع إغاثتكم وما أنتم بمستطيعين إغاثتي، فالعذاب نازل بنا، وعلى كل أن يتحمل مغبة ما عمل وما اعتقد وما وسوس به من شر.
وقد أعلن ضلاله وضلالهم بقوله: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)، (ما) هنا مصدرية أو موصولة ولا يختلف المعنى في التقديرين، والمعنى: إني كفرت بالذي أشركتموني في عبادتكم من قبل، أي كفرت الآن بشرككم في الدنيا، وآمنت باللَّه تعالى وحده لَا أشرك به شيئًا، وقال: أشركتموني مع أنهم ظاهرا ما كانوا يشركون الشيطان بل كانوا يشركون أوثانا. فلِمَ نسب إليه أنهم كانوا يشركونه؟ والجواب عن ذلك أن عبادتهم الأوثان كانت بوسوسته هو وتسويلهم، والأصنام لَا حقيقة لها، فكأنهم كانوا يشركونه باللَّه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (كَفَرْتُ) تفيد أنه يكفر الآن، مع أنه وهو الذي يزين عبادة الأوثان يعلم أن اللَّه وحده هو المستحق المعبادة، ولا معبود سواه، وأن عمله إغواء وإضلال، فهو غير مؤمن بها من قبل، والجواب عن ذلك: أنه الآن يعلن كفره بها.
* * *
أهل الجنة
قال اللَّه تعالى:
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧)
* * *
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا) البناء للمجهول، ومن الذي أدخلهم، أي ما الفاعل الذي لم يذكر وبني للمجهول، قالوا: إن الفاعل هم الملائكة، وإن ذلك سائغ مستقيم، ويصح أن تقول: إن الله سبحانه هو الذي أدخلهم، ولكن لم يذكر لفظ الجلالة للإشارة إلى أن ذلك جزاء عملهم، فالبناء للمجهول يؤدي إلى هذا المعنى وهو ترتيب الإدخال في الجنة على أعمالهم، وقوله تعالى: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)، أي برضاه وأمره، وما رتبه من أن لكل نفس ما كسبت، وقد ذكر سبب دخول الجنة في صلة الموصول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فسبب دخول الجنة أمران: الإيمان وهو بالحق وتصديقه والإذعان به، والعمل الصالح، وقال تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ، أي الأفعال الصالحة من أداء الفرائض، والصح وصف عام لكل عمل هو نافع لذاته، وقصد به وجه المنفعة للناس، فالصاحات تشمل كل الفرائض الشرعية والعمل الطيب والقول الطيب.
ولا نتعرض لكون العمل جزءا من الإيمان أولا، إنما نقول: إن ما تنفق به الآية ومثيلاتها أن العمل جزء من استحقاق الثواب الذي أعد للمؤمنين.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة بأنها النعيم المقيم، فالأنهار تجري من تحتها، أي أن الأنهار تجري من تحت الأشجار، فتجري فيها متخللة أشجارها فيكون المنظر بهيجا، وتكون متعة النفس بالظلال، ومنظر الماء يجري، والخضرة التي تسر النفس، وتمتع القلب.
ويكون مع ذلك الأنس الروحي بالائتلاف والأمن والسلام؛ ولذا قال تعالى:
(تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) يتباددون التحية، وليس تلاوما أو تأثيمًا، كما يجري بين أهل النار بين التابع والمتبوع والشيطان من ورائهم.
الاستفهام لإنكار الوقوع بمعنى النفي، وقد دخل على (لم) وهي للنفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى، لقد ترى كيف ضرب اللَّه مثلا.... والإثبات على هذا النحو يدل على تأكيد الإثبات والتنبيه وتوجيه النظر إليه.
والعلم متجه إلى الحال والكيف، قال: (كَيْفَ ضَرَب اللَّهُ مَثَلًا...) أي لقد ترى الحال في ضرب اللَّه المثل، ضَرَب بمعنى بيّن، والمعنى: كيف بين مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
(أَصْلُهَا ثَابتٌ) في الأرض بجذورها الممتدة في عروق الأرض، ثابتة بثبات هذه الجذور، (وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، أي غصونها ممتدة في السماء، وكلما علت الشجرة في السماء وامتدت فروعها فيها كثرت ثمراتها، وتدلت مع فروعها، والمراد من الفرع الفروع كما في بعض القراءات، أي فروعها في السماء.
ثم وصف سبحانه طيب هذه الشجرة فوق ما وصف بأن ثمراتها دائمة لا تنقطع، فقال تعالى:
أي تؤتي ثمراتها في كل حين، وإيناعها بإذن ربها.
والشجرة هي المشبه به، وقد وصفها سبحانه بأنها طيبة، وطيبها في أنها ثابتة الأصل، وبأنها مرتفعة، وبأنها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
هذا هو المشبه به، فأما المشبه: هي الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة فيها عناصر الطيبة التي ذكرت في الشجرة، فهي كلمة النفس والقلب والعقل، تنبع من القلب والعقل فقال بإخلاص للَّه تعالى، وهو الحق، وإنها إذ تقال تعلو بصاحبها
وما الكلمة التي تتحقق فيها هذه المعاني؟ قيل: إنها كلمة التوحيد، وقيل:
إنها الإيمان، والحق، أنها الكلمة التي تكون صادقة في ذاتها ومنبعثة من النفس لإرضاء اللَّه تعالى، والذود عن محارمه وتتحقق فيها النية الطيبة، والقول الطيب، كما قال تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، وروى من حديث أنس أن النبي - ﷺ - قال: " إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة، الإيمان فروعها، والصلاة أصلها، والزكاة فروعها، والصيام أغصانها، والتأذي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم اللَّه ثمرتها ".
ولقد قال تعالى: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ)، أي الأمور المتشابهة بين بعضها البعض، فيبين المعنوي بالحسي حتى يصير كأنه محسوس مرئي، ويبين اللَّه سبحانه وتعالى ذلك البيان ليرجوهم أن يتذكروا ويعتبروا، فالرجاء ليس من اللَّه تعالى الذي يعلم كل شيء ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.
هذا مثل الكلمة الطيبة وهي كلمة الحق الجامعة لكل معاني الخير والطيب، والكمال والجمال، أما الكلمة الخبيثة فقد قال تعالى في مثلها:
الكلمة الخبيثة هي الكلمة التي تنبعث من خبث النفس، وضلال الفكر، وتكون في باعثها أئمة، وفي غايتها أئمة فهي على نقيض الكلمة الطيبة، لأنها لَا تنبعث من إخلاص للَّه ولرسوله، ولا تكون طيبة في واقعها، ولا في نتائجها، وما يترتب عليها، وأوضحها الكذب، وقد قال النبي - ﷺ -: " عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا،
والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة التي لا فائدة منها (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ)، أي أنها ليس لها جذوع ممتدة في باطن الأرض، بب هي على سطحها، ومعنى (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) أي ظهرت جثتها من فوق الأرض فليس لها جذور تمتد فيها كبعض أنواع النباتات التي ليس لها جذور تغوص في عروق الأرض، (مَا لَهَا مِن قَرَارٍ)، أي استقرار وثبات في باطن الأرض، والمؤدى من هذا التشبيه أن الكلمة الخبيثة لَا تعيش في الوجود، وليس لها بقاء فيه، بل إنها تنتهي بانتهاء زمانها وتنْزل من الأضرار بمقدار وقتها، كالسعاية والنميمة والكذب والخديعة والغيبة، وليس لها وجود إلا بمقدار زمانها وقد تضر، لكن عاقبتها وخيمة، وطعاصها وبيء، ولا تبقى إلا الكلمة الطيبة، وما يكون للَّه وللحق وحده. وعن قتادة - رضي الله عنه - أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؛ فقال: " ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها ربه يوم القيامة "، اللهم جنبنا خبث القول، واجعلنا من الذين قلت فيهم: ، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤).
________
(١) سبق تخريجه.
يثبت اللَّه الذين آمنوا بأن يلقي في روعهم الاطمئنان إلى الحق والجزم به والنطق بمقتضاه، والثبات عليه لَا يحيد عن النطق بالحق والعمل به، والرضا بنتائجه؛ ولذا قال سبحانه: (بِالقَوْلِ الثَّابِت)، ولقد قرر العلماء أن صاحب النفس المطمئنة الراضية بحكم اللَّه المنفذة لتكليفه يلقى اللَّه فيها بالإخلاص، والإخلاص للَّه يجعل النفس تشرق بنور اللَّه، فتدرك فتؤمن فتقول الحق وتعمل
هذا كلام صدق، وإن القول الثابت كما يشمل الصبر في العقيدة يدخل في عمومه الثبات على الحق في نصيحة الحاكم، والامتناع عن قول الباطل مداهنة له، ويقول للحاكم الظالم: اتق اللَّه، ويكررها كلما اقتضت الحال قولها في غير مواربة، إلا إذا كانت الحكمة أن يداور لأجل إيصال الحق إلى فلب الحاكم، وتسويغه في نفسه، فللقول سياسة، وللعلم سياسة، ومنها تسويغ الحق ليهضم معناه، وخصوصا في أزمان الفساد كالزمن الذي نعيش فيه، ولعل الإمام الزمخشري عاش في مثله، وما ضيع المسلمين إلا سكوتهم عن القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) معنى إضلال الظالمين؛ أنهم إذا ساروا في طريق الضلالة أوغلوا فيه ولا يردهم سبحانه وتعالى عنه بل يتركهم سبحانه يسيرون فيه إلى نهايته، ووصفهم بالظالمين فيه إشارة إلى أنهم يبدءون بالسير في طريق الظلم الذي يشمل الظلم في الاعتقاد بالإشرك، والظلم للنفس بارتضاء طريق الشر، والظلم للناس في معاملاتهم، وفتنة الناس في دينهم وإيذائهم في اعتقادهم.
(وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)؛ لأنه المختار المريد، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
* * *
جزاءكفر النعمة وجزاء مكرها
قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
* * *
وكذلك أهل مكة في الجاهلية أكرمهم اللَّه تعالى بمقامهم حول البيت الحرام، وتلك نعمة أنعم اللَّه بها عليهم، فبدل أن يقوموا على سدانته وطهارته وضعوا عليه الأوثان، فاستبدلوا بالنعمة كفرا، وكذلك أنعم اللَّه عليهم وعلى البشرية ببعث محمد - ﷺ -، فبدلوا كفرا وعاندوه وآذوه وأصحابه، وأنعم اللَّه تعالى عليهم برحلتي الصيف والشتاء، وأن تكون مكة وسط البلاد العربية تغدو منها المتاجر وتروح إليها بين اليمن والشام فبدلوها كفرا، واتخذوها رِبَا الجاهلية، وأكلوا السحت، وكذلك اليهود بدلوا نعمة اللَّه إلى كفر، أعطاهم اللَّه تعالى علم الكتاب فغيروا وبدلوا واستطالوا على الناس، وقالوا نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وظلموا الناس وأكلوا أموالهم سحتا ورشوة، وقالوا: (... لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ...)، وهكذا.
ولذا نقول: إن الآية عامة تشمل كل من أنعم اللَّه عليه بنعمة، فبدل أن يضعها في موضعها يتخذها أداة للطغيان والضلال، فتكون كفرا، وأنهم بسب ذلك الطغيان الذي يستخدمون النعمة طريقا له ويكفرون (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)، أي الهلاك، أي ينزلون قومهم من عزة الإنسانية إلى الذل فيكون ذلك طريقا لانحدارهم إلى الهلاك، وأصحاب النعم التي يكفرونها هم الذين يفسدون أقوامهم، ويأخذونهم إلى حيث الفناء، وفناء الأمم والأقوام بشيوع الكفر والجحود فيها.
وبذلك سرى الفساد إلى أقوامهم فأحلوهم دار الهلاك في الدنيا بالذل والهوان وفي الآخرة بجهنم، ولذا قال تعالى:
جهنم عطف بيان لدار الهلاك، وأن هلاك أشد من النيران يصطلون بها، يحيط بهم حرها الشديد ويكونون وقودا لها، وإنها تكون أسوأ نهاية؛ ولذا ذمَّها اللَّه
وقد ذكر اللَّه تعالى أشد الكفر الذي بدلوا به نعمة اللَّه تعالى، وهو اتخاذ الأنداد شركاء له في العبادة فقال تعالى:
الواو عاطفة على (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)، فقد بدلوا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وجعلوا للَّه أندادا، وجعل الله سبحانه وتعالى الأصل، وهو تبديل نعمه التي أنعم اللَّه بها نعمة تجزى، فجعلوها كفرا هو الأصل لكل مآثمهم، ونتيجة عقوبته؛ وذلك لأن الانغماس في الأهواء والاستطالة بها سبب الشر ونسيان اللَّه تعالى، ومن نسي الله تعالى كان منه الانحراف الفكري والاعتقادي، والانغماس في الشهوات.
(وَجَعَلُوا) معناها اتخذوا (لِلَّهِ أَنْدَادًا)، وأنداد جمع ند، رهو المماثل، وهذه الأوثان بالبذاهة ليست أندادا مماثلة لله جل جلاله، ولكنهم أتخذوها أندادا بأوهامهم وأهوائهم وفساد تفكيرهم؛ إذ كيف تكون الأحجار التي لَا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع أندادا لله، ولكنهم جعلوها كذلك.
وقوله تعالى (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) فيها قراءتان: إحداهما بضم الياء والثانية بفتحها، والأولى قراءة كثرة القراء، والثانية قراءة من دونهم عددا وهما متواترتان، ونحن نعدهما كلتيهما قرآنا لَا ريب فيه، ويكون المعنيان صحيحين ما داما غير متعارضين، ولا يمكن أن يكون ذلك في قراءتين متواترتين.
قالمعنى ليضلوا عن سبيل الله تالعى بذلك الجهل الذي جعلوا فيه الأحجار أندادا للَّه تعالى، فإنه ذاته هلاك، وعاقبته ضلال، إذ العاقية دائما من جنس مؤثراتها، والنتيجة من دائما من جنس مقدماتها.
وقد يقول قائلهم: إنهم اتخذوها بغير الضلال، ونقول: إن النتيجة كان الضلال أو الإضلال، ولذلك قالوا: إن اللام لام العاقبة لتكون النتيجة ضلالهم بها؛ وإضلال غيرهم لتقديسها، وذلك أنهم صنعوا حجارة على أشكال آدمية، ثم توهموا فيها قوى خفية، ثم عبدوها ضلالا بها.
وقد أمر اللَّه تعالى نبيه الأمين بأن يقول: (تَمَتَّعُوا) إن الذي أغراهم بعبادة الأحجار واتخاذها أندادا للَّه هو ضلال عقولهم وانغماسهم في الأهواء والشهوات مما جعلهم لَا يفكرون في حقائق الأمور ويستمتعون بأهوائهم، فأمر اللَّه تعالى نبيه بأن يقول: (تَمَتَّعُوا)، أي استمروا في تمتعكم وأهوائكم ومفاسدكم الفكرية والتفسيرية، وليس هذا أمر للطلب بل للتهديد، أي استمروا فإن مصيركم إلى النار، فالعبرة بالنتيجة لَا بصيغة الأمر كما في قوله - ﷺ -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". (١)، ولنتيحة الاندحار في مفاسد الأخلاق والأهواء إلى أراذل الأعمال.
وقال الزمخشري: " إن الأمر هنا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره، ولا يريدونه مأمورين قد أمرهم آمر مطاع لَا يسعهم أن يخالفوه، ولا يملكون أمرا دونه، وهو أمر الشهوة، والمعنى: إن دمتم على الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار " (٢).
أي أن الأمر ليس من اللَّه والنبي - ﷺ -، إنما الأمر من آمر هو الانسياق وراء الأهواء والشهوات، فكأنه أمر أُمروه، واتبعوه، وكان مآلهم إلى النار.
هذا شأن الذين بدلوا نعمة اللَّه كفرا واتخذوا الأنداد، أما شأن الذين أدركوا النعمة وشكروها ولم يكفروها فإنهم لَا يضلون في ذات أنفسهم، ولا يضلون غيرهم بل يكون منهم الخير والطهارة لأنفسهم ولجماعتهم؛ ولذا قال عز من قائل:
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) الكشاف: ج ٢/ ٣٧٧.
الأمر للنبي - ﷺ - في مقابل الأمر للكافرين بأن يتمتعوا بالعاجلة، فالآجلة مصيرهم فيها إلى النار، والأمر للمؤمنين هو أمر بثمرات إيمانهم، وعبر عن المؤمنين بـ (عبادي) للإشارة إلى أنهم قاموا بحق العبودية، فلم يشركوا مع اللَّه أحدا، وأخلصوا الذات، وأعطوا ما هو حق على العبد أن يؤديه.
(يُقِيمُوا الصَّلاةَ)، أي (أَنْ) هنا محذوفة وهي تفسيرية تفسر مضمون القول، قل لهم أن يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية.
أو نقول: " إن قوله تعالى: (يُقِيمُوا) خبرية على أنها جواب الأمر، أي قل لهم تكليفات اللَّه ليقيموا الصلاة، ويرى الزمخشري أن تكون (يُقِيمُوا) بمعنى ليقيموا الصلاة، والمعنى على ذلك قل لهم مبينا أحكام الشريعة وهديها، وخص الصلاة والزكاة أي الإنفاق؛ لأن الصلاة للتهذيب وإقامتها استشعار للربوبية، وهي عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، والزكاة - أو الإنفاق - فيها التعاون؛ ولذا تسمى " الماعون "، كما قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧).
الإنفاق في السر سترا للمتجملين من الفقراء حسن في ذاته، والإنفاق علانية للاقتداء ونشر التعاون، وكل في موضعه حسن.
(مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) ليتدارك التقصير بتعويض يقدمه أو فدية يفتدي بها نفسه، ولا مخالَّة وصداقة ينقذ بها الصديق صديقه، والرفيق رفيقه، وقد قال تعالى في هذا المعنى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨).
والسرية تحسن في حالة التطوع، وإيثار دوى القربى والجيران سترًا عليهم، والإعلان يكون في الواجب، وهنا يرد سؤال، إن الزكاة لم تجب إلا في المدينة،
وقبل أن ننتقل هذه الآية الكريمة إلى ما بعدها نذكر كلاما قيما ذكره الزمخشري في حكمة اقتران قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ).
قال أثابه اللَّه تعالى: " فإن قلت كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لَا بيع فيه ولا خلال؟ قلت: من قِبَلِ أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها، وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١).
فلا يفعله إلا المؤمنون الخلّص فينفقوا منه ليأخذوا بدله في يوم لَا بيع فيه ولا خلال، أي لَا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى " (١).
وإن هذه إشارة بيانية قويمة تشير إلى أن الإنفاق سرا وعلانية المطلوب هو لوجه اللَّه تعالى، لَا للكسب بمعاوضة ولا للكسب بإرضاء صديق أو رجاء في شدة.
وفى قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ...) إشارة إلى أن الإنفاق لوجه اللَّه تعالى هو ذكر للَّه تعالى، فليس من التجارة التي قال الله تعالى فيها: (... لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ...)، ولا التجارة التي ذم بها المنافقون في قوله تعالى (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١).
_________
(١) الكشاف ج ٢/ ٣٧٨
ذكر سبحانه وتعالى أن المشركين بدلوا نعمة اللَّه كفرا وجعلم اللَّه أندادا من حجارة وجعلوها آلهة، وفي هذه الآية يذكر بعض نعمه على الوجود كله فقال تعالت كلماته. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ) صدر الآية الكريمة بلفظ الجلالة مفيض النعم، لتربية النهابة، ولمقابلة عبادته، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، بعبادة الأوهام والضلال، و (اللَّهُ) لفظ الجلالة: مبتدأ، والموصول هو خبره، فهو تعريف للَّه تعالى بأنه الذي خلق السماوات والأرض، خلق سبحانه وتعالى السماء ببروجها ونجومها وكواكبها، والأرض بطبقاتها وجبالها وما أودع ببطنها من أحجار وفلزات ومعادن جامدة وسائلة، اقرأ قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١).
هذا هو الإله القادر القاهر الغالب، وهو الجدير بأن يعبد لما أنشأ وأبدع وأنعم. ثم ذكر نعمته في تلاقي السماء بالأرض، يجمع بينهما الذى يسقي الأنفس والثمرات، ولذا قال تعالى: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ).
أفرد السماء هنا وجمع السماوات في الخلق؛ لأن الماء ينزل من المزن السحاب الثقال المملوءة ماء وسميت سحابا؛ لأنها فوق الأرض التي تمطرها، أما السماوات فتحيط بالأرض كأنها الشيء الصغير في داخل قبة، وإن هذا الماء هو الذي تخرج منه الثمرات؛ ولذا قال: (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ)، والثمرات جمع ثمرة وهو ما تنتجه الأرض من زروع وغراس وكروم، ونخيل، ومن الثمرات، تكون المطاعم
و (مِنَ) في قوله: (مِنَ الثَّمَرَاتِ) بيانية لتنوعها، والمعنى فأخرج من الثمرات المتنوعة المختلفة الفوائد التي ترجع بأحسن الفوائد.
وإن هذه الثمرات تنقل من أرض إلى أرض، وإنه ثبت الآن أن خير السبل البحار وما كان ذلك معروفا عند العرب، بل النقل عند العرب كان بالجمال التي كانت تسمى أو سميت سفن الصحراء، ولكن القرآن أُنزل من حميد يعلم ما كان وما يكون، فهو يعلم أنه سيكون زمن يكون النقل بالبحار في جُلِّه، وفي الأرض في قله؛ ولذا قال عز من قائل: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأمْرِهِ) ومعنى سخرها مكَّن الإنسان من صناعتها واستخدامها وجعلها تعلو في البحر سائرة من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، حاملة خيرات وفيرة من أرض إلى أرض أخرى، هذه الخيرات كثيرة، وبذلك تكون الخيرات موزعة في الأرض بالقسطاس لولا ظلم الإنسان.
(وسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ) وهي المجاري العذبة كنهر النيل ودجلة والفرات وسيحون وجيحون، ومعنى سخرها سهلها وتكون في البلاد التي تقل أمطارها، ولا يكفي ما تنزل السماء من ماء لسقيها وزرعها، وسمي النهر نهرا لأنه ينهرها ويشقها ويجري فيها، والأنهار الكبار تمخر فيها السفن كالبحار، واللَّه هو الرزاق.
بعد أن ذكر سبحانه ما سخر في الأرض من اقترانها بالسماء أخذ يبين للإنسان من أجرام السماء فقال:
الدءوب معناه السير والمرور في استمرار ودأب من غير لغوب، وتلك سنة اللَّه تعالى في أجرام السماء، فهي تسير في دأب يعلم اللَّه تعالى سيرها، وناموسها
وهي مسخرة يستفيد الإنسان من حركاتها، فالشمس ذات الضياء والأشعة التي تمد الزرع والشجر والثمار بالنمو، والإنسان بالدفء والحرارة والأشعة، وكل ما فيه حياة الإنسان، والقمر يمده بما تنتظم به الحياة في الإنسان والحيوان، وحسبك أن تعلم أن طَمْث المرأة وحملها وجهازها مرتبط بمنازل القمر، وأن تعلم أن المد والجزر مرتبطان أيضا بالقمر، وإن ارتباط الشمس بالأرض كان منهما الليل والنهار، فالأرض في دورانها يحجب عنها ضوء الشمس فيكون الليل وينبسط عليها ضوء الشمس فيكون النهار، وفي الليل الهدأة والسكون والثبات والراحة، والاستجمام، وفي النهار تكون الحركة والسعي للرزق كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا).
وقد أنعم اللَّه على عباده بتلك النعم كلها، وظهرت بها قدرته القاهرة، وإبداعه، وإنعامه وهو المستجيب في السراء والضراء، والمنقذ في المدلهمات، وما يكرث العباد؛ ولذا ختم الكلام في نعمه بقوله تعالى:
(الواو) عاطفة على (خَلَقَ) في قوله تعالى: (السَّمَوَات وَالأَرْضَ) نعم مترادفة متوالية جامعة، بعضها مع بعض أو تالي لبعض، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)، فيها قراءتان إحداهما من غير تنوين في (كل)، بل كل مضافة إلى ما بعدها: وقرئ بالتنوين، ولها إضافة و (ما) في (مَا سَأَلْتُمُوهُ) اسم موصول بمعنى (الذي) أو نافية.
ومن في قوله: (مِّن كُلِّ) إما تبعيضية، وإما مؤكدة لاستغراق الحكم زائدة في الإعراب، والمعنى على أنها تبعيضية على قراءة الإضافة، وآتاكم بعض ما
وعلى قراءة التنوين: يكون ثمة مضاف محذوف دل عليه التنوين، والمعنى آتاكم من (كل) شيء سألتموه، أي بمقتضى أصل التكوين، وتكون القراءتان متلاقيتين على تخريج (مِّن) بأنها بيانية.
ولا أرى موجبا أو داعيا لأن نقول: إنها نافية، واللَّه أعلم.
وإن هذه وما سبقها من نعم هي نعم الإنشاء والإبقاء، فقد أنعم بالإنشاء وأنعم سبحانه وتعالى بالإبقاء مستمكنا من كل شيء حتى يكون اليوم الآخر يوم الجزاء لمن شكر بالنعيم المقيم، ولمن كفر بالعذاب الأليم.
وقد أشار سبحانه إلى أن الإنسان يكفر النعمة ظلما، كما قال تعالى في آية أض ى: (... وَقَلِيلٌ منْ عِبَادِيَ الشَّكورُ).
وقد قال تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ظلوم صيغة مبالغة من الظلم، أي أنه ظالم أبلغ الظلم بظلم نفسه بالكفر وغمط حق غيره، والاعتداء على الناس وعلى الحقائق، والاعتداء بعبادة الأوثان، و (كفَّارٌ) صيغة مبالغة في الكفر، وهو كفر النعمة وعدم شكرها، بل اتخاذها سبيلا لعتوه واستكباره وفساده في الأرض، وقد أكد اللَّه تعالى ظلم الإنسان بـ " إن "، وبـ " اللام " وبصيغة المبالغة في الظلم، وكفر النعمة، واللَّه محيط بالكافرين.
* * *
قال تعالى:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨)
* * *
هذا دعاء أبي العرب ومن يتشرفون بالانتساب إليه وهو باني البيت، وأول دعائه ما يتعلق بالبيت العتيق الذي كان أول بيت وضع للناس.
أول دعائه اتجه إلى الأرض في البيت،
وقول إبراهيم: (وَبَنِيَّ) واضح أنه لَا يشمل الذرية كلها لدلالة اللفظ على ذلك؛ ولأن الإجابة لم تكن للذرية كلها، فقد كان من هذه الذرية من عبد الأصنام، بدليل هؤلاء الذين نظر فيهم القرآن، وخاطبهم محمد - ﷺ - يدعوهم إلى أن يعبدوا اللَّه وحده لَا يشركون به شيئًا، فاللَّه تعالى لم يكن في إجابته سبحانه وتعالى ما يعم الذرية كلها.
ولقد كان إبراهيم - ﷺ - الذي كان أبوه صانع أصنام، والذي ابتدأ حياته بِحَطْم الأصنامِ، والذي قال: (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذَا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ...).
كان إبراهيم أشد الناس بغضا للأصنام وإدراكًا لضلال من يعبدونها؛ ولذا قال مؤكدا:
أسند الإضلال إلى الأحجار، مع أن الإضلال هو من الشيطان الذي ابتدع الأوهام حولها؛ وذلك لأنهم لما عبدوها وأحاطوها بأوهام كثيرة وصار الوهم يولد وهما وتوالت وتكاثرت، وكلها حولها صح إسناد الإضلال إليها، وعبر إبراهيم عليه السلام عن الذين ضلوا بها بأنهم كثير، وليسوا عددا قليلا، وذلك لعموم الضلال بها، وعمومه لَا يجعلها حقا، بل هي باطل، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (١١٦).
وإن ذكر ضلال الأوثان على لسان إبراهيم - ﷺ -، وهم يتشرفون بنسبتهم إليه وهو باني الحرم الشريف المقدس، فيه بيان أنه بريء منهم ما داموا يعبدون الأوثان؛ ولذا قال عليه السلام في دعائه: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّه مِنِّي) ملة إبراهيم هي التوحيد،
وهنا إشارة بيانية حكيمة، فيقول خليل اللَّه - عليه السلام - في دعوته: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ) تعبر عن ترك عبادة الأوثان (وَاجْنُبْنِي)، أي اجعلني في جانب وبني في جانب فهي تتضمن المباعدة، وكان حقا على ذرية إبراهيم التي عبدت الأوثان أن تباعد بينها وبينها.
بعد أن دعا أبو العرب الشفيق لهم بتطهير نفوسهم، وأن يكونوا للَّه تعالى، دعا لهم بالرزق فقال:
كان دعاء إبراهيم - عليه السلام - بضمير المتكلم (وَاجْنبْنِي وَبَنِيَّ) وذلك في العبادة، أما في طلب الرزق فقد طلبه بضمير الجمع فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
يقول إبراهيم في دعائه مقررا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنه أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع، و (مِن) هنا للتبعيض وهي ذريته من إسماعيل، أما ذريته من إسحاق فلم تكن بواد غير ذي زرع، أي أنه لَا زرع فيه، ينبت ما يكون غذاء للإنسان والحيوان كالحنطة والشعير ونحوهما مما يكون غذاء للإنسان.
الأمر الثاني: كان إسكان هؤلاء لغرض تعمير بيتك العتيق الذي بناه بأمر اللَّه أبو الأنبياء؛ ولذلك قال: (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)، أضاف البيت إليه سبحانه وتعالى تشريفا لشأنه، ووصفه بالمحرم؛ لأنه تحرم فيه الدماء، وهو في ذاته حرم آمن يأمن كل من يأوي إليه.
وقد بني في صحراء جرداء ليكون آمنًا من طمع الطامعين ورغبة المعتدين، إذ إنهم يرومون خصب الأرض ليشبعوا نهمتهم ويرضوا مطامعهم، وليكون الاستغلال الغاشم والاستعمار الظالم، فكان في أرض لَا يطمع فيها طامع، ولا يرومها فاتح.
وقد كرر نداء ربه ضراعة، فقال: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)، وقوله تعالى: (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) متعلق بـ أَسْكَنْتُ، اللام للتعليل، أي أن أسكنتهم لأجل إقامة الصلاة فيه وأن يعمروه بصلاتهم، لَا ليستمر خرابا من العبادة، خاويا من الناس، فلا تنتهي إلى الغاية التي أمرت بإنشائه من أجله، وفي هذا إشارة إلى أن المشركين من ذرية إبراهيم قد انحرفوا به عن غايته عندما أحاطوه بالأوثان التي هدمها
الأمر الثالث: بعد أن ذكر إبراهيم حالهم وحال أرضهم ذكر دعاء طالبا من ربه (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (الفاء) تدل على أن الباعث لهذا الدعاء ما قبلها، وهو (أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْعٍِ).
في قوله تعالى: (أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) مؤداها أن يفد بعض من الناس إلى هذه الأرض التي لَا زرع فيها مسرعين تميل قلوبهم وتهوى نفوسهم محبين الرحلة إليها مع رمالها، وجبالها وأنها لَا خير فيها، وقوله تعالى: (مِّن النَّاسِ) معناها بعض الناس، وروى ابن عباس أنه قال: لو قال تعالى: أفئدة الناس لازدحم بالفرس والترك من غير المسلمين، وقوله تعالى: (تَهْوِي) من هوت الناقة إذا أسرعت في سيرها إسراعا شديدا كأنها تسابق الريح، وقوله تعالى: (أَفْئِدَةً) خرجها بعض العلماء على أن أصلها (أوفدة) جمع وفدة، حصل فيه قلب مكاني فحلت الفاء محل الواو، وحلت الواو محلها فقلبت همزة، وإنه لَا داعي لهذا التخريج النحوي ولا دليل عليه، وإن الأولى أن تكون كلمة أفئدة على معناها الأصلي وهي أنها جمع فؤاد بمعنى القلب، والدعاء يكون منصبا على أن تميل القلوب إلى المكان مع جفاف مائه وصعوبة أرضه وارتفاع جباله الصماء التي لَا تُكسى بخضرة قط، والمعنى على ذلك يكون مستقيما وقويا ككل معاني الذكر الحكيم.
وذكر الزمخشري أن هناك قراءة أخرى وهي (آفدة) اسم فاعلة من أفدت بمعنى أسرعت جماعة أو جماعات متتالية جماعة بعد جماعة، حتى لَا ينقطع عنهم خير الأرض كلها؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ)، و (مِّنَ) هنا يصح أن تكون بيانية، أي ارزقهم الثمرات التي حرمتهم أرضهم منها، ويصح أن تكون بمعنى بعض، ارزقهم بعض الثمرات من كل صنف.
والرجاء من العباد لَا من اللَّه، أي ليكونوا في حال رجاء الشكر دائمة بدوام هذه الخيرات التي يسوقها اللَّه سبحانه وتعالى إليهم وتجيء إليهم في واد (قفر) ليس فيه زرع ولا ثمر، وذلك بدعوة إبراهيم - ﷺ - فجعله حرما آمنا تجيء إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه وفضله، بهذا الخير يتوافر أصناف الثمار ما لَا يوجد كله في أخصب الأرض وريف الأمصار، وفي بلد من بلاد الشرق والغرب، إجابة لدعوة إبراهيم - ﷺ -، ثم يقول: وليس ذلك من أيامه بعجيب متعنا اللَّه بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا الشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب ". تلك كلمات جار اللَّه في مكة المكرمة - الزمخشري (١).
وقد أحسَّ إبراهيم خليل اللَّه بالخشوع أمام ربه والضراعة إليه بعد أن دعا لولده وذريته بما دعا، وأدرك أن دعاءه فيه معنى التطاول مع علم ربه، وهو العليم بكل شيء فقال:
________
(١) الكشاف: ج ٢/ ٣٨٠.
نادى ربه بضمير الجمع، فقال: (رَبَّنَا)، أي أنه ربه ورب ذريته، ورب الوجود كله. وأنه أعلم بحالهم، سرهم وعلانيتهم، وأن العلم على سواء يستوي فيه المغيب والمعلن وما غاب وما حضر، وكأنه يستدرك على دعائه؛ لأنه سبحانه هو الذي أسكنهم في ذلك الوادي الجدب، وهو الذي أقامهم بجوار بيته المحرم الذي يحرم فيه ما يباح في غيره من صيد وقتال لو كان عادلا، إلا أن يكون دفاعا، يعلم كل ذلك، بل إنه ما كان له أن يتطاول على مقام الألوهية بهذا الدعاء، وقد ابتدأ الدعاء بذكر حالهم من العلم بسرهم وجهرهم، ثم عمم علمه سبحانه
ولقد قال الزمخشري في هذه الآية كلاما قيما ننقله عنه فيما يلي:
" والمعنى أنك أعلم بأحوالنا، وما يصلحنا وما يفسدنا منَّا، وأنت أرحم منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك وقربا إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبةً في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حُسْن المِلكة " (١).
وقوله تعالى: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْء فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) ذكرت الأرض أولا؛ لأن الكلام في جدبها وخصبها، وذكرت السماء؛ لأنها تمدها بالسقي والماء.
وظاهر القول أن ذلك من ضراعة إبراهيم - ﷺ -، وهو ما نراه، وقيل: إن ذلك من قول الله، والحق أن كله من قوله تعالى ما جاء على لسان إبراهيم وغيره.
* * *
شكر النعمة
قال اللَّه تعالى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩)
________
(١) الكشاف: ج ٢/ ٣٨١.
* * *
يقول تعالى: (... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فاستدامة النعمة بالشكر؛ لذلك بادر إبراهيم بشكر النعمة التي أنعم اللَّه بها عليه.
إن اللَّه تعالى وهب له وهو كبير طاعن ولديه إبراهيم وإسحاق، وكانت أمرا خارقا للعادة، وعندما بُشرت بذلك امرأة إبراهيم: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وأَنَا عَجُوز وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا...)، فأعلن بالحمد إبراهيم الذي كان مثلا للإنسان الفطري الكامل:
ابتدأ كلامه بالحمد إشعارا بشكر النعمة وتقديرها، إذا أعطاه ولدا حيث يستحيل ذلك عادة وعلى مجرى الأسباب المعروفة؛ إذ أم إسحاق عجوز وزوجها شيخ هرم، حتى قيل: إن سنه عند البشارة بإسحاق كانت فوق المائة، وقوله:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيه معنى القصر، أي أن الحمد للَّه تعالى وحده، فهو مانح النعم ومجريها وحده، وهو الذي وهبه في هذا الكبر العتي، وقوله تعالى: (عَلَى الْكِبَرِ)، (عَلَى) هنا بمعنى مثلها في قول الشاعر:
إني على ما ترين كِبرَى | أعلم من حبث تؤكل الكتف |
فهذه بشراه لإسماعيل - ﷺ -، وكانت استجابة لدعائه، وكانت بعد ذلك في نفس السورة بشراه بإِسحاق فقال سبحانه:
(وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣).
والبشارتان مختلفتان: فإسماعيل أكبر من إسحاق، فالذبيح إسماعيل لا إسحاق كما جاء في التوراة المحرفة.
ومهما يكن الأمر في هذا فقوله تعالى على لسان إبراهيم: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) فيه ما يدل على أن ذلك كان بدعاء من الخليل واستجابة من الله تعالى، فقد أكد أن اللَّه سميع الدعاء أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا بـ (إنَّ) المؤكدة، وثالثا باللام في قوله: (لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) وعبر بقوله: (إِنَّ رَبِّي) فيه أيضا شعور بالشكر الجزيل لربه؛ لأنه الذي ربَّه وكونه وقام على شئونه واستجاب دعاءه.
لقد كان إبراهيم - ﷺ - صورة سامية للفطرة الإنسانية، وأوضح هذه الفطرة حب الذرية والحدب عليها وإكرامها وتوجيهها إلى الحق وإلى عبادة الله تعالى؛ ولذا قال اللَّه تعالى على لسانه:
النداء إلى اللَّه سبحانه وتعالى بوصف أنه رئه الذي كونه وأنشاه، وربَّه وقام على شئونه يدعوه إلى أن تكون نفسه للعبادة، يفديه بروحه وبالإيمان، وإقامة
ويقول - عليه السلام - مخاطبا ربه: (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)، أي صيرني وحولني ووجهني إلى أن أكون مقيم الصلاة، أي مؤديا لها أداء مقوما مستقيما كاملا، بأن تكون أركانها الحسية مستوفاة، ومنها الخشوع والخضوع المطلق، والصلاة رمز إلى القيام بحق الدين كاملا من غير التواء، ولم يكتف بالدعاء لنفسه بل أضاف إلى ذلك الدعاء لذريته، ولكن اللَّه تعالى أشار إلى أنه سيكون من ذريته من لَا يشكر اللَّه تعالى، ومن يعصيه، ولذا قال: (وَمِن ذُرِّيَّتِي)، و (مِن) هنا للتبعيض، أي اجعل من ذريتي مقيم الصلاة ليكون حبل العبادة متصلا إلى يوم القيامة لَا ينقطع التوحيد، وإقامة شعائره، بل تتصل إلى يوم القيامة، ومن ذريته قائمون على الحق يهتدون بهديه، ويسيرون في طريق الحق، وهو الطريق المستقيم.
(رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (الواو) عاطفة على (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)، وجاء قوله: (رَبَّنَا) كالجملة تكون بين متلازمين، وهما هنا المعطوف والمعطوف عليه، وذكر (الدعاء) للضراعة والابتهال إلى اللَّه تعالى، وذكر بضمير المتكلم (رَبِّ)، والجمع (رَبَّنَا) للإشارة إلى أنه يتكلم عن نفسه، وعن الصالحين من ذريته، والدعاء هنا هو العبادة، إذ هي دعاء للَّه تعالى وضراعة إليه، ومن يدعون الأنداد إنما يعبدونها، وهي لَا تضر ولا تنفع، فهم بدعوتهم من دون اللَّه سبحانه وتعالى يعبدون ما لَا يضر ولا ينفع، ولقد ورد أن النبي - ﷺ - قال: " الدعاء مخ العبادة " (١) فالدعاء من العبادة، وهو ذاته عبادة.
وقال: (تَقَبَّلْ دُعَاءِ) والتقبل شدة القبول، وتقبل العبادة من اللَّه تعالى قبولها مع الرضوان، ومحبة القائم بها.
________
(١) سبق تخريجه.
وإن إبراهيم - ﷺ - يمثل في شخصه النبوي، الرجل الفطري المستقيم النفس في كل اتجاهاتها، وقد رأينا من فطرته أنه فكر في ذريته كما فكر في نفسه، والفطرة السليمة تجعله يذكر عند الخير أبويه كما ذكر ذريته؛ ولذا عندما اتجه إلى ربه طالبا مغفرته ذكر أبويه فقال تعالى على لسانه:
كان إبراهيم - ﷺ - متجها دائما إلى مقام الربوبية فنادى ربه بالربوبية، وقد ذكرناها في ذلك من ضراعة المؤمن المقدر لنعمة الإيجاد، والربوبية، والقيام على شئونه، وأنه الحي القيوم القائم على ما أنشأ من خلق، وهو اللطيف الخبير، ودعاه بالمغفرة، وابتدأ بنفسه أولا، ثم ثنى بوالديه، وثلث بالمؤمنين الذين يؤمنون باللَّه واليوم الآخر، سواء أكانوا من ذريته أم كانوا من غيرهم، فهو دعاء لعامة المؤمنين، وإبراهيم - ﷺ - كانت أدعيته العامة جماعية؛ لأنه نادى بالأخوة الإنسانية.
وطلب الغفران وستر الذنوب، ومحو السيئات، وقيام الحسنات، يوم يقوم الحساب، وهو يوم القيامة حيث يكون الحساب بأن يقوم كل إنسان ما قدم من خير، وقد كتب ما ارتكب من خير وشر، فهو يطلب من اللَّه في هذا اليوم عفوه وتغليب مغفرته على عذابه، وذلك بالنسبة للمؤمنين، وبالنسبة لوالديه. وهنا يسأل سائل كيف يستغفر إبراهيم لأبويه، وأبوه بلا ريب كان مشركا يعبد الأوثان؛ ويقال: إنه كان يصنعها؛ ونقول في هذا: إن إبراهيم كان رجل الفطرة المستقيمة، ففطرته الإنسانية المستقيمة دفعته لأن يكبر عليه أن يهتدي وأبوه مشرك، وأن يعبد اللَّه وأبوه يعبد الشيطان، وأن يكون في الجنة وأبوه في النار، وقد بدا ذلك في مجاوبته، إذ قال لأبيه: (... يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ
طرده أبوه من حضرته مع ما في عبارته من رفق، وما تشف عنه من محبة، ولكنه يستمر في رفقه بمقتضى حكم الفطرة، فيقول: (... سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)، كانت هذه أول موعدة وعدها إياه، فاستغفر له ولم تكن بينهما بغضاء الضلال التي اتسم بها أبوه؛ ولذا قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ...).
إذن كان الخليل - ﷺ - يستغفر لأبيه ويطلب له المغفرة ومرتبط معه بمودة لم تفرقها عداوة، وهذه السورة التي نتكلم في معانيها سورة مكية، وسورة الممتحنة التي فيها (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنً لَكَ) مدنية، وهذا يدل على أن النهي لم يكن حتى سورة الممتحنة، وجاء النهي بعد ذلك كما يدل عليه قوله تعالى:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤).
وقد قلنا: إن إبراهيم - ﷺ - تتمثل فيه الفطرة القويمة.
* * *
الكافرون بالنعم ظالمون
قال اللَّه تعالى:
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)
* * *
ذكر اللَّه سبحانه وتعالى مثلا كاملا لشكر النعمة، واختار لذلك خليله إبراهيم - ﷺ -؛ لأنه أبو العرب الذين يعتزون بنسبه، وهو الذي أجرى اللَّه على يديه بناء البيت مكان عزهم، وذكره دعوة إلى اتباع ملته، والإسلام ملة إبراهيم الذي سمى المسلمين مسلمين.
بعد ذلك ذكر سبحانه من يكفرون النعمة ويظلمون أنفسهم بكفرهم، فقال عز من قائل:
الحسبان هو الظن أو العلم المبني على الظن، والنبي - ﷺ - منزه عن أن يظن الغفلة أو السهو على الله تعالى، فاللَّه يعلم ما كان وما يكون، وما هو كائن؛ ولأنه تعالى وعده بالنصر، والعقاب الشديد على ما يفعله، وأنه محص عليهم أعمالهم كل امرئٍ بما كسب فكيف ينهى عن الظن بأن اللَّه غافل، وما كان احتمال لأن يرد ذلك على قلب النبي - ﷺ - حتى ينهى عنه، والجواب في ذلك أن هذا الكلام لتأكيد أن اللَّه تعالى يحصي على المشركين أعمالهم، كما يقول تعالى:
(... وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ)، وكقوله تعالى: (وَلا تَدْعُ مَعَ
وعبر بقوله تعالى: (الظَّالِمُونَ) فأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الظلم عليهم؛ ولأن العقاب سبب الظلم، فهم أشركوا، والشرك ظلم عظيم، وآذوا المؤمنين والمؤمنات، وذلك اعتداء ظالم آثيم، وصدوا عن سبيل اللَّه، فلم يتركوا الناس أحرارا يعتقدون ما يرونه حقا.
وإذا كان اللَّه تعالى عالما بظلمهم مجازيهم على ما يفعلون من آثام، فهو لا يهملهم، ولكن يمهلهم، ولقد قال تعالى في ذلك: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِن كيْدِي مَتِينٌ)، وفي هذا النص السامي يقول سبحانه: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)
(إِنَّمَا) هنا أداة حصر، أي كان التأخير لأجل هذا اليوم الذي يكون شديدا، وفيه النفوس جميعا تكون في هلع وفزع، فليس التأخير لنسيان، أو غفو أو ترك، إنما التأخير هو ليوم كله عذاب الأجساد والأنفس، وإذا كانوا يمشون في الأرض مرحا، ويستهزءون ويرتعون ويلعبون ويسخرون من المؤمنين فسيكون عليهم يوم عسير شديد، وقد وصف اللَّه تعالى حالهم في ذلك اليوم فذكر لهم خمس أحوال كل حال فيها تنبئ عن فزع بذاته.
الحال الأولى: ما ذكرها سبحانه بقوله: (لِيَوْم تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)، أي العين تشخص لَا تغمض من هول ما ترى، فإن إغماض العين يكون من الدعة والاطمئنان، أما يوم القيامة يوم الفزع الأكبر، فإنه لَا يكون اطمئنانا ولا يكون
والحال الثانية: هي ما قاله سبحانه وتعالىْ
ومعناها مسرعين فإنهم كانوا في الدنيا يسيرون متئدين مالكي أنفسهم مسيطرين على قواهم، وكما قال في آية أخرى في وصف حالهم يوم القيامة: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاع يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)، والإهطاع إسراع في ذل وتكسر وخوف وهلع، فبعد أن كانوا يسيرون في الأرض مرحا كأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون السماء طولا يسيرون مسرعين أذلاء خالفين لأول داع، خائفين من أن يكون وراء الدعوة أمر أشد هولا.
والحال الثالثة: عبر عنها سبحانه وتعالى بقوله: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) من أقنع رأسه، وتستعمل بمعنى رفعها متطلعا إلى من فوقها من شدة الهلع، وقد قال في معناها الأصفهاني في مفرداته: أقنع رأسه رفعها قال: (مُقْنِعِي رُءوسِهِمْ)، وقال بعضهم: أصل هذه الكلمة من القناع، وهو ما يغطى به الرأس، فقَنِع لبس القناع ساترا لفقره، كقولهم حفى أي لبس الحفاء، وقَنَع إذا رفع قناعه كاشفا رأسه بالسؤال كخفي إذا رفع الخفاء.
وخلاصة هذه المعاني أنهم يكشفون ذلهم وحاجتهم رافعين رءوسهم بالذل والهوان، لَا يستتر من أمرهم شيء، فلا يبدون ما يخفون، ويظهرون ما لا يسرون.
وذكر الزمخشري أن بعض علماء اللغة يفسر (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) يخفضها ذلا وانكسارا، ورءوسهم ارتفعت، أو انخفاضها، فهو ذل ظاهر واضح، وصار كالسائل الذي كشف قناعه للمسألة.
والحال الرابعة من أحوالهم: أن أبصارهم زائغة لَا تتحرك أطرافها من هول ما هم فيه وهذه عبر اللَّه عنها بقوله تعالى: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ)، والمعنى أن أنظارهم قد استغرقتها الأهوال التي تراها فهي فزعة هلعة قد سمرت أعينهم فيما
والحال الخامسة: أن أفئدتهم فرغت من أسباب الاطمئنان، وامتلأت بأسباب الهموم والخوف، وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته:
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، أي لَا تدرك شيئا ولا تعيه من شدة الخوف والهلع، فهو كقوله تعالى: (وَأَصْبَحَ فؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا...)، أي أنه فرغ من الوعي والإدراك ولم يبق إلا موسى والخوف عليه، والهواء في اللغة المجوف الخالي، والمعنى أصبح فؤادهم مجوفا خاليا من العلم والإدراك لشدة ما رأى وما وقع، ومن هذا المعنى قول حسان شاعر الإسلام من أبي سفيان قائد الشرك آن ذاك:
ألا أبلغ أبا سفيان عني | فأنت مجوَّف نخِبٌ هواء |
ولقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن ينذر الناس بهذا اليوم الذي ذكر فزع الناس فيه فقال تعالى:
الكافر مادي لَا يؤمن إلا بما يرى ويحس، فما لم يحسه لَا يؤمن به، وليس عنده نفاذ بصيرة يعي به ما لم يدرك وما لم يره؛ ولذا كان من أوصاف أهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب وهم بالآخرة هم يوقنون، يرون الناس يموتون ويحيون، فيعلمون أن الحياة لغاية وأن الموت ابتداء نهاية.
وقوله تعالى: (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ) وهي دعوة التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئًا وما جاء به القرآن وغيره من كتب السماء، ومن شرائع، (وَنَتَبِع الرُّسُلَ)، أي لا نستكبر عليهم ولا نتعالى ونتسامي عليهم، بل لنكون لهم تبعا.
فيقول الملائكة بأمر اللَّه تعالى مبكتا مذكرا لهم كفرهم: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَال)، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم)، (الواو) عاطفة على ما قبلها، والهمزة للاستفهام الإنكاري الذي فيه إنكار الواقع، والاستفهام داخل على النفي ونفي النفي إثبات على معنى التوبيخ، والمعنى لقد أقسمتم من قبل مغترين على الله تعالى جاهلين لأنفسكم، ولمجري الحياة (مَا لَكُم مِن زَوَال)، أي ليس لكم أي زوال، وإنهم في الحقيقة كما يظهر من مجرى
ولكن لأنهم عتاة غاشمون لَا يرعون إِلًّا ولا ذمة، وقد اغتروا بالحياة الدنيا وغرهم باللَّه الغرور، يعملون كأنهم لَا يموتون ولا يفنون، وأنهم في الدنيا خالدون.
وقد فسر بعض العلماء أن المراد من الزوال المنفي أنهم لَا يزولون ثم يبعثون، وهذا تفسير مجاهد تلميذ ابن عباس ترجمان القرآن، كما سماه عبد الله ابن مسعود، ويكون المعنى على هذا التفسير: ما لكم من زوال من هذه الدنيا تنتقلون من بعده إلى الآخرة.
وإنهم في قسمهم هذا أو في حال الغرور التي اغتروا بها وحسبوا أنها حياة خالدة، والعبر بين أيديهم قائمة، ولذا قال تعالى:
سكن، معناه قرَّ فيها، وغنى فيها، وتتعدى بـ (في)، كما تتعدى بنفسها، فيقال سكنت الدار، والأصل هو التعدية بـ (في) ثم لما شاع الاستعمال تعدت بنفسها.
والمعنى أن العبر كانت قائمة، وأقسموا باللَّه جهد أيمانهم أنهم لَا يبعثون بعد موتهم، وقد سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، والإيذاء للمؤمنين والصد عن سبيل اللَّه، وتبين لكم ما نزل بسبب ظلمهم من إمطارهم حجارة من سجيل منضود، ومن جعل الأرض عاليها سافلها إلى آخر ما هو ثابت عبرة للآخرين؛ ولذلك قال تعالى: (وَتَبيَّنَ لَكُمْ كيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ)، أي تبين ما فعله اللَّه بهم، وحالهم العجيبة الجديرة بالنظر، وبينا لكم الأمثال الأشباه، ومع ذلك لم تعتبروا، فاليأس من إيمانكم كان ثابتا، واليأس من إيمانكم بعد رجعتكم إلى الدنيا أشد ثبوتا.
الجبال هنا المراد بها شرائع اللَّه تعالى التي جاء بها النبيون، فشبهت بالجبال لثباتها وشموخها وعلوها ورفعتها، و (إِن) هنا إما أن نقول: إنها مخففة من (إن) الثقيلة، والمعنى أن الحال والشأن أن ذلك المكر كان مهيأ ومعدا لتزول به الشريعة، ولكن تدبير اللَّه كان أحكم فنجت الشرائع التي بلغت في شموخها وعلوها وثباتها مبلغ الجبال.
وإما أن نقول: إنها نافية وتكون اللام لام الجحود، ويكون المعنى، وما كان مكرهم مهما يبلغ من القوة والتدبير والإحكام في زعمهم لتزول منه الشرائع المحكمة التي هي كالجبال في ثباتها وعظمتها، وإن اللَّه تعالى حافظ شرعه وأنبياءه والمؤمنين، ولو تضافر الشرك كله.
* * *
إن الله لَا يخلف الميعاد
قال اللَّه تعالى:
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ
* * *
كان النهي في الآيات السابقة عن أن يُحسب أن اللَّه تعالى تارك الظالمين، وما يفعلونه، غير منزل بهم ما يستحقون من عقاب، جزاء وفاقا لما يفعلون، وهنا في هذه الآيات يبين أن اللَّه تعالى أنه منزل هذا العقاب لأن جزاؤهم، ولأنه قد وعد رسله به، وإن اللَّه تعالى لَا يخلف رسله ما وعدهم به.
قوله تعالى:
وقد وعد اللَّه رسله بالغلب، وأن يكون السلطان للحق، كما قال تعالى:
(... لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسلِي...)، وقد بين تعالى أن الغلب لهم في هذه الآية، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ عَزِير ذُو انتِقَام)، (عَزِيزٌ) معناه غالب قوي مسيطر يعز من يشاء ويذل من يشاء، وقوله تعالى: (ذُو انتِقَام)، أي صاحب انتقام للحق من الباطل، وللضعفاء من الأقوياء، والانتقام معناه مجازاة المسيء بما أساء وأن يقتص بالحق من القوي للضعيف، وأن تكون العقوبة على قدر الجريمة، فأساس العقاب في الشريعة أوفى، أي يكون العقاب على قدر الجريمة، وأن يكون جزاء وفاقا لها.
وقد يسأل سائل لَا يعرف آداب القرآن ولا حكمة الديان: كيف يسمى العقاب انتقاما وهو لإصلاح النفوس لَا للانتقام منها، ونظرية الانتقام يبطلها علم القانون، ونقول في الإجابة على ذلك: إن شأن الآخرة هو القصاص من جرائم الدنيا، وأما في الدنيا فكلامهم قد يكون واردا على نظر فيه، فإن العقوبات الإسلامية للردع، والإصلاح يكون من طريقه، إذ يكون فيه عبر لمن يكون على استعداد للارتكاب، وقد قال بعض القانونيين: إن العقوبة إذا كانت من جنس الجريمة كانت أردع للجاني؛ لأنه يتصور وهو يرتكبها أن سينزل به مثل الذي ينزله بالمجني عليه فيمتنع رهبة.
وإن ذكر العقوبات القاهرة فيه عبرة لمن يكونون على وشك الارتكاب في الدنيا، فمن يعرف أنه سيذل يوم القيامة لَا يذل الناس، ومن يعلم أنه ينال عذاب الجحيم لَا يكفر ولا يؤذي عبدا.
وإن ذلك الذي يكون فيه انتقام اللَّه تعالى منِ الأشرار هو يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض؛ ولذا قال تعالى:
يوم متعلق بـ (انتقام)، أي أن اللَّه تعالى في هذا اليوم: (يَوْمَ تبَدَّل الأَرْض غَيْرَ الأَرْضِ...) والتبديل قد يكون في الذات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه (... بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَا غَيْرَهَا...)، (... وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ...)، وقد تكون في الأوصاف كتبديل سبائك الذهب إلى حلي فثقلت من شكل إلى شكل، والجوهر واحد في القولين، وقد يكون تغييرا بين النقيضين أو الضدين، ومنه قوله تعالى: (... فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ...)، فالعبرة في هذا بالأثر.
فقد أنشد بعد ذلك:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم... ولا الدار بالدار الذي كنت تعلم وتبديل السماوات بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها (١)، ومن الحق أن كل الكون يتغير في أحواله وأوصافه ودورانه، فالسماء تتغير، كما قال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧).
وهكذا تبدل الأشياء، وتتبدل الأحوال، فبعد أن كان الظلم في الأرض بغالب الحق فإذا الحق هو الأمر الذي لَا يغالبه شيء.
هذا يوم القيامة؛ ولذا قال تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، أي ظهروا وعلموا أنهم قد لقوا اللَّه تعالى وقد كانوا يكذبون لقاء اللَّه، ويعجبون من أن يعودوا بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، ولكنه لقاء لَا يسرهم، إنا هو لقاء القهار لعقابهم؛ ولذلك ذكر سبحانه وتعالى بوصفه الرهيب عندهم الذي ينقض اعتقادهم الباطل فقال: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، ولفظ (لِلَّهِ) يلقي وحده المهابة في نفوسهم بعد إنكارهم لقاءه، ووصفه بـ (الْوَاحِدِ) ليعرفوا أن شركهم كان باطلا، وأنه وحده الحكم العدل، فلا شفاعة لأحد، ولا لأوثانهم، و (الْقَهَّارِ) صيغة مبالغة من القهر، أي أنه سبحانه وتعالى وحده الذي سيوفيهم جزاءهم مقهورين مغلوبين.
________
(١) من الكشاف بتصرف.
ذكر اللَّه تعالى لهم أحوالا ثلاثة:
الأولى: أنهم مقرنون في الأصفاد.
والثانية: أن سرابيلهم من قطران.
والثالثة: أن النار تغشى وجوههم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أولا وصفهم بالأجرام؛ لأن ما كسبوه من جرائم في اعتقادهم، وفي أعمالهم، وفي إفسادهم في الأرض عبثا وفسادا، هو السبب فيما ينالون من عقاب.
وقوله تعالى في الحال الأولى: (مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) من قرن بمعنى جمع، وقَرَّن بمعنى شدد في الجمع ووثق في الأمر الجامع، والمعنى مشدودون بوثاق مجموعين فيه لتشابه جرائمهم، واتحادهم في أوصافهم الإجرامية، ومقرنين في أيديهم وأرجلهم بالأصفاد، جمع صَفَد، وهو القيد يقيدون به، وتغل أيديهم وأرجلهم به.
هذه هي الحال الأولى.
والحال الثانية: وهي مما ينزل بهم آحادا كما جمعوا جميعا وهي قوله تعالى:
والسرابيل: جمع سربال، وهو القميص الذي يلاصق أجسامهم، ويسبغها، ولا يترك فراغا بينه وبينها، والقطران هو ما استحلب من بعض الأشجار، وتهنأ به الإبل دواء لها من الجرب، ومن شأنه أنه يشتعل بالنار،
ولكن القمصان أو السرابيل لَا تغطي الوجوه عادة فتجيء الحال الثالثة، وهي قوله تعالى: (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)، أي النار تستر وجوههم كما ستر القطران الملتهب أجسامهم.
وكان ذلك جزاء، والإخبار به تبليغا؛ ولذا قال تعالى:
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)
هذا البيان من قوله تعالى: (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) إلى بيان ذلك العذاب الذي تعم فيه النيران أجسامهم، إنما هو:
أولا: لبيان العدالة الإلهية.
وثانيا: ليبلغوا بالفعل وجزائه، والخير والشر، وما يجب عليهم.
وثالثا: للإنذار لكي يعلم أهل الشر مآلهم.
ورابعا: ليعلموا أن اللَّه هو الواحد القهار، وأن لَا شيء له صفة الألوهية إلا الله تعالى.
وخامسا: ليتذكر أهل الألباب المدركين المؤمنين، فهو ذكر لهم، وإنذار لغيرهم.
أما أولها: فقد ذكره سبحانه بقوله تعالى:
تبليغ من اللَّه تعالى لكي يكون حسابهم على بينة من أمورهم، كما قال تعالى: (... وَإن مِّنْ أُمَّة إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير).
ومن التبليغ ما جاء في الأمر الرابع وهو أن يعلموا (أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، هذا قصر، والضمير (هُوَ) يعود إلى اللَّه تعالى، أي أنه لَا إله إلا اللَّه، فالمعبود بحق واحد، وما عداه باطل في باطل.
والأمر الثالث قبل الرابع، وإن كنا ذكرناه أولا لاتصاله بالبلاغ في كلامنا وكلام اللَّه أعلى وأحكم وأوثق.
والأمر الرابع: أن هذا الإنذار للكافرين ليعتبروا والعبرة قد تفيدهم.
والأمر الخامس: أن فيه تذكيرا لأولي الألباب، أي أولي العقول المدركين وهم المؤمنين فيزدادوا بهذا البلاغ إيمانا، والله أعلم بشرعه.
* * *
تمهيد:
أول الجزء الرابع عشر، وأوله سورة الحجر، وهي سورة مكية إلا ما قيل:
إنه يستثنى مكَّيتُهُ وهي الآية السابعة والثمانين، وعدد آياتها [٩٩].
وقد ابتدئت بالحروف المفردة (الر)، وذكر بعدها القرآن الكريم (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) وقد أخبر سبحانه أنه (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) ولكن غلب عليهم الهوى، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، وإن بين أيديهم العبر (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ) ومن لهوهم وعبثهم قوله لنبيهم: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)، وإن الملائكة لَا تنزل، وإذا نزلوا لَا يؤجلهم (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (٨)، وذلك شأن الكافرين يتوارثون ذلك الفكر السقيم جيلا بعد جيل، وإن القرآن باق (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣).
وإن الآيات لَا تخزيهم؛ لأن قلوبهم أغلقت عن الحق (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥).
بعد ذلك أخذ ينبههم سبحانه إلى خلقِ السماوات والأرضِ وما فيها من عجيب التكوين (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ
وبعد هذا الخلق، وذاك التكوين كان كل شيء في السماوات والأرض بامر اللَّه وفي قبضة يده (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢).
وإن اللَّه تعالى ترى آثاره في خلقه من إماتة وإحياء (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) وإذا كنتم ترون بالعيان الإحياء والإماتة فقد كان ذلك فيمن
تقدم، وفيمن تأخر، (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥).
بعد ذلك أخذ سبحانه يذكر في هذه السورة خلق الإنسان من طين فقال:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧).
بعد ذلك أشار سبحانه إلى خلق آدم وسجود الملائكة له، وامتناع إبليس أن يكون من الساجدين، وغروره بأنه من نار وآدم من طين، وقد طرده اللَّه سبحانه من جنته وقال له: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)، وأنظره اللَّه إلى يوم يبعثون (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢).
بعد ذلك ذكر تعالت كلماته جزاء الذين يغويهم إبليس (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)، وذكر بعد
هذا جزاء الذين لم يطيعوا الشيطان ولِم يستطع إغواءهم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
بعد ذلك جاءت العبر في القرآن الكريم، وابتدأت العبر بمن هو أقرب إلى العرب نسبا، ويعيشون في رحاب بيت اللَّه الذي بناه إبراهيم، فقال في قصة إبراهيم: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا) ولأنهم ملائكة، لم يعهد في الأرض لقاء مثلهم - وجل منهم، وقال: (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦).
هذا تذكير بالخلق والتكوين، وأنه يجري على حكم إرادة اللَّه تعالى الفاعل المختار، لَا بالأسباب والمسببات، كما يقول الجاهلون، وإن الأسباب لَا تسيطر على فعل اللَّه تعالى، فالأسباب تجعل الرجل لَا ينجب وهو كبير فلم ينجب وهو شاب، ولكن بإرادة الله ينجب إبراهيم، وامرأته عجوز عاقر.
بعد هذا ذكر القرآن الكريم ما يكون تهديدا للفاسقين الخارجين عن أمر اللَّه تعالى، وهم قوم لوط، قالت رسل اللَّه تعالى لإبراهيم: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (٦٩) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١).
بعد هذا يرينا اللَّه تعالى من عجائب قدرته ليعتبر العرب في قصة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر، وتكذيبهم الرسل، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤).
ولقد أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى العبر في تكوين هذا الوجود، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥).
وإذا كان خلق اللَّه السماوات والأرض وما فيه من نعم للكافة، فقد أعطاك اللَّه نعمة القرآن: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ولا تلتفت إلى ما عند غيرك، فما عندك هو الأعظم وهو الجليل: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣).
ولقد أمر اللَّه نبيه بأن يصدع بما يؤمر به فقال: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩).
* * *
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)* * *