تفسير سورة النحل

تفسير الخازن
تفسير سورة سورة النحل من كتاب لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف بـتفسير الخازن .
لمؤلفه الخازن . المتوفي سنة 741 هـ
مكية إلا قوله تعالى﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾. إلى آخر السورة فإنها نزلت في قتل حمزة قاله ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنها مكية غير ثلاث آيات. نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى :﴿ ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ﴾ إلى قوله﴿ يعلمون ﴾ وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله :﴿ والذين هاجروا في الله ثمنا قليلا ﴾ إلى قوله﴿ يعلمون ﴾ وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ﴾ وقوله﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ وقوله تعالى﴿ وإن عاقبتم ﴾ إلى آخر السورة زاد مقاتل وقوله : من كفر بالله من بعد إيمانه الآية وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة الآية وقيل كان يقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة تعداد النعم فيها، وهي مائة وثمان وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة وسبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.

سورة النحل
مكية إلا قوله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ. إلى آخر السورة فإنها نزلت بالمدينة في قتل حمزة قاله ابن عباس وفي رواية أخرى عنه أنها مكية غير ثلاث آيات. نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إلى قوله تَعْلَمُونَ وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وقوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا وقوله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخر السورة زاد مقاتل وقوله: من كفر بالله من بعد إيمانه الآية وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة الآية وقيل كان يقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة تعداد النعم فيها، وهي مائة وثمان وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة وسبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة النحل (١٦): الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
قوله سبحانه وتعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ يعني جاء ودنا وقرب أمر الله تقول العرب: أتاك الأمر وهو متوقع المجيء، بعد ما أتى، ومعنى الآية أتى أمر الله وعدا فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ يعني وقوعا بالمراد به مجيء القيامة. قال ابن عباس: لما نزل قوله سبحانه وتعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال الكفار: بعضهم لبعض إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نرى شيئا فنزل قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فأشفقوا فلما امتدت الأيام، قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورفع الناس رؤوسهم، وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا، والاستعجال طلب مجيء الشيء قبل وقته ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بإصبعيه يمدهما» أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد (ق) عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السبابة إلى الوسطى» وفي رواية «بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى» قال ابن عباس: كان مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة ولما مر جبريل بأهل السموات مبعوثا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: الله أكبر قامت الساعة قال قوم: المراد بالأمر هنا عقوبة المكذبين وهو العذاب بالقتل بالسيف وذلك أن النضر بن الحرث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقتل النضر يوم بدر صبرا سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يعني تنزه الله وتعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به المشركون. قوله سبحانه وتعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ يعني بالوحي مِنْ أَمْرِهِ وإنما سمي الأمر روحا لأنه تحيا القلوب من موت الجهالات وقال عطاء: بالنبوة. وقال قتادة: بالرحمة. وقيل: الروح هو جبريل والباء
قوله سبحانه وتعالى :﴿ ينزل الملائكة والروح ﴾ يعني بالوحي ﴿ من أمره ﴾ وإنما سمي الأمر روحاً لأنه تحيا القلوب من موت الجهالات وقال عطاء : بالنبوة. وقال قتادة : بالرحمة. وقيل : الروح هون جبريل والباء بمعنى مع يعني ينزل مع الروح وهو جبريل ﴿ على من يشاء من عباده ﴾ يعني على من يصطفيه من عباده للنبوة، والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق ﴿ أن أنذروا ﴾ يعني بأن اعلموا ﴿ أنه لا إله إلا أنا فاتقون ﴾ أي فخافون. وقيل : معناه مروا بقول لا إله إلا الله منذرين يعني مخوفين بالقرآن.
بمعنى مع يعني ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني على من يصطفيه من عباده للنبوة، والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق أَنْ أَنْذِرُوا يعني بأن اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ أي فخافون.
وقيل: معناه مروا بقول لا إله إلا الله منذرين يعني مخوفين بالقرآن.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٣ الى ١٢]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدم تفسيره خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: تزعم أن الله يحيي هذا بعد ما رم فنزلت فيه هذه الآية، ونزل فيه أيضا قوله تعالى «قال من يحيي العظام وهي رميم» والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة، وحملها على العموم أولى، وفيها بيان القدرة وأن الله خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جبارا كثيرا لخصومة، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم الله تعالى مع ظهورها عليهم. قوله عز وجل وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته. ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام. فقال تعالى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها وهي الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي: تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها. ثم ابتدأ فقال تعالى لَكُمْ فِيها دِفْءٌ قال: ويجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى: فيها دفء. قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية، فقال تعالى: لكم فيها دفء وهو ما يستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم وَمَنافِعُ يعني النسل والدر والركوب، والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني من لحومها. فإن قلت: قوله تعالى وَمِنْها تَأْكُلُونَ يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر، فغير معتد به في الأغلب: وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قلت: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس؟ قلت: منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة
67
الأكل فلهذا قدم على الأكل. وقوله سبحانه وتعالى وَلَكُمْ فِيها أي في الأنعام جَمالٌ أي زينة حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه بالليل. وقال: سرح القوم إبلهم تسريحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة: وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجمل بها فيه كما من بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضا، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت، ويعظم وقعها عند الناس. فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه. وقوله سبحانه وتعالى وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر إِلى بَلَدٍ يعني غير بلدكم قال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس: هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة وأكثر تجاراتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ يعني
بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة، النفس وذهاب نصفها إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع. قوله سبحانه وتعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها هذه الآية عطف على ما قبلها، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء وَزِينَةً يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.

فصل


احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله، واستدلوا أيضا بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره الله تعالى، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر، لأن الله سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب. فقال: لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير: وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه» أخرجه البخاري ومسلم (ق). عن جابر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحمار الأهلي» هذه رواية البخاري ومسلم، وفي رواية أبي داود قال: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود، قالوا: ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل، وقال البغوي: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته،
68
والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة، وكان الأكل مسكوتا عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، فأخذنا بها جمعا بين النصين والله أعلم وقوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته، وضرورياته على سبيل التفضيل، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان في الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات الله عز وجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه، فلهذا ذكرها على الإجمال، وقال بعضهم: ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله: ويخلق ما لا تعلمون يعني السوس في النبات والدود في الفواكه. قوله سبحانه وتعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل: معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين وَمِنْها جائِرٌ يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام، والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر، وقال جابر بن عبد الله: قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله:
قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم. قوله عز وجل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة: عقبه بذكر إنزال المطر من السماء، وهو من أعظم النعم على العباد فقال: هو الذي أنزل من السماء. يعني، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر لَكُمْ مِنْهُ يعني من ذلك الماء شَرابٌ يعني تشربونه وَمِنْهُ يعني ومن ذلك الماء شَجَرٌ الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا:
الشجر أصناف ما جل وعظم، وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء، وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول، وقال أبو إسحاق: كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد:
نطعمها اللحم إذا عز الشجر
أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة: في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر فِيهِ يعني في الشجر تُسِيمُونَ يعني ترعون مواشيكم. يقال: أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت يُنْبِتُ لَكُمْ
أي ينبت الله لكم وقرئ ينبت على التعظيم لكم بِهِ أي بذلك الماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لما ذكر الله في الحيوان تفصيلا وإجمالا ذكر في الثمار تفصيلا وإجمالا فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكه، والتغذية، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالا لينبه بذلك على عظيم قدرته، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من أنواع الثمار لَآيَةً يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ تقدم تفسيره في سورة الأعراف مُسَخَّراتٌ يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادته، وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر الله تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات
69
﴿ خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ﴾ يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تزعم أن الله يحيي هذا بعدما رم فنزلت فيه هذه الآية، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى ﴿ قال من يحيي العظام وهي رميم ﴾ والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة، وحملها على العموم أولى، وفيها بيان القدرة وأن الله خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جباراً كثيراً لخصومة، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم الله تعالى مع ظهورها عليهم.
قوله عز وجل ﴿ والأنعام خلقها ﴾ لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته. ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام. فقال تعالى ﴿ والأنعام خلقها ﴾ وهي الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي : تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها. ثم ابتدأ فقال تعالى ﴿ لكم فيها دفء ﴾ قال : ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى : فيها دفء. قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية، فقال تعالى : لكم فيها دفء وهو ما يُستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم ﴿ ومنافع ﴾ يعني النسل والدر والركوب، والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام ﴿ ومنها تأكلون ﴾ يعني من لحومها. فإن قلت : قوله تعالى ﴿ ومنها تأكلون ﴾ يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت : الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر، فغير معتد به في الأغلب : وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قلت : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس ؟ قلت : منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل فلهذا قدم على الأكل.
وقوله سبحانه وتعالى ﴿ ولكم فيها ﴾ أي في الأنعام ﴿ جمال ﴾ أي زينة ﴿ حين تريحون وحين تسرحون ﴾ الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحلها حيث تأوي إليه بالليل. وقال : سرح القوم إبلهم تسريحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة : وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجمل بها فيه كما من بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضاً، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت، ويعظم وقعها عند الناس. فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح ؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه.
وقوله سبحانه وتعالى ﴿ وتحمل أثقالكم ﴾ الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر ﴿ إلى بلد ﴾ يعني غير بلدكم قال ابن عباس : يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس : هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة وأكثر تجاراتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين ﴿ لم تكونوا بالغيه ﴾ يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه ﴿ إلا بشق الأنفس ﴾ يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة، النفس وذهاب نصفها ﴿ إن ربكم لرؤوف رحيم ﴾ يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها ﴾ هذه الآية عطف على ما قبلها، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء ﴿ وزينة ﴾ يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.
فصل : احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال : هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله، واستدلوا أيضاً بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره الله تعالى، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر، لأن الله سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب. فقال : لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير : وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت :« نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة فأكلناه » أخرجه البخاري ومسلم ( ق ). عن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي عن الحمار الأهلي » هذه رواية البخاري ومسلم، وفي رواية أبي داود قال :« ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل » وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود، قالوا : ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل، وقال البغوي : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة، وكان الأكل مسكوتاً عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، فأخذنا بها جمعاً بين النصين والله أعلم. وقوله تعالى ﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته، وضرورياته على سبيل التفضيل، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات الله عز وجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه، فلهذا ذكرها على الإجمال، وقال بعضهم : ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله : ويخلق ما لا تعلمون يعني السوس في النبات والدود في الفواكه.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ القصد استقامة الطريق، يقال : طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل : معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين ﴿ ومنها جائر ﴾ يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر، وقال جابر بن عبد الله : قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله : قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع ﴿ ولو شاء لهداكم أجمعين ﴾ فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم.
قوله عز وجل ﴿ هو الذي أنزل من السماء ماء ﴾ لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة : عقبه بذكر إنزال المطر من السماء، وهو من أعظم النعم على العباد فقال : هو الذي أنزل من السماء. يعني، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر ﴿ لكم منه ﴾ يعني من ذلك الماء ﴿ شراب ﴾ يعني تشربونه ﴿ ومنه ﴾ يعني ومن ذلك الماء ﴿ شجر ﴾ الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا : الشجر أصناف ما جل وعظم وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول، وقال أبو إسحاق : كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد :*نطعمها اللحم إذا عز الشجر* أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة : في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر ﴿ فيه ﴾ يعني في الشجر ﴿ تسيمون ﴾ يعني ترعون مواشيكم. يقال : أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت.
﴿ ينبت لكم ﴾ أي ينبت الله لكم وقرئ ينبت على التعظيم لكم ﴿ به ﴾ أي بذلك الماء ﴿ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ﴾ لما ذكر الله في الحيوان تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكة، والتغذية، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى ﴿ إن في ذلك ﴾ يعني الذي ذكر من أنواع الثمار ﴿ لآية ﴾ يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته.
﴿ وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ﴾ تقدم تفسيره في سورة الأعراف ﴿ مسخرات ﴾ يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادته، وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر الله تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات ﴿ بأمره ﴾ يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلاً عن غيرها، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن الله سبحانه وتعالى، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته، وقهره وتسخيره لما أراده منهم.
بِأَمْرِهِ يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلا عن غيرها، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن الله سبحانه وتعالى، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته، وقهره وتسخيره لما أراده منهم.
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٣ الى ٢٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢)
لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني وما خلق لكم في الأرض، وسخر لأجلكم من الدواب والأنعام والأشجار والثمار مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ يعني في الخلقة والهيئة والكيفية واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها، حتى لا يشبه بعضها بعضا من كل الوجوه، فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته، ووحدانيته من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك، من آثار قدرته، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به. فقال تعالى: وهو الذي سخر البحر لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك أن السمك لون كان كله مالحا لما عرف به من قدرة الله تعالى، ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح الزعاق، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد. المنفعة الثانية قوله تعالى وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة قوله تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ يعني السفن مَواخِرَ فِيهِ يعني جواري فيه قال قتادة: مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة، وأصل المخر في اللغة الشق يقال: مخرت السفينة مخرا إذا شقت الماء بجؤجؤها. وقال مجاهد: تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة: يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن: مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعا وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني الأرباح بالتجارة في البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ يعني جبالا ثقالا أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني لئلا تميل وتضطرب
70
بكم، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض، وقال وهب: لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحوا، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال وَأَنْهاراً يعني وجعل فيها أنهارا لأن في ألقى معنى الجعل، فقوله سبحانه وتعالى:
وأنهارا معطوف على وألقى، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار، وأصولها تكون من الجبال وَسُبُلًا يعني وجعل فيها طرقا مختلفة تسلكونها في أسفاركم، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون وَعَلاماتٍ يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم: تم الكلام عند قوله: وعلامات ثم ابتدأ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قال محمد بن كعب والكلبي: أراد بالعلامات الجبال والنجوم، فالجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل. وقال مجاهد: أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به. وقال السدي: أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة. وقال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوما للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به. قوله سبحانه وتعالى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ لما ذكر الله عز وجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جميعا قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيء أَفَمَنْ يَخْلُقُ يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان، وهو الله تعالى الخالق لها كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئا البتة، لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني أن هذا القدر ظاهر غير خاف على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره. بقي في الآية سؤالان: الأول: قوله: كمن لا يخلق المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبدوها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله: بعد هذا والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا فخاطبهم على قدر زعمهم، وعقولهم. السؤال الثاني: قوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئا البتة والله أعلم. وقوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتعبتم نفوسكم لا تقدرون عليه إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ يعني لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم رَحِيمٌ يعني بكم حيث وسع عليكم النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير، والمعاصي وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء. وهو ما كانوا
71
ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى ﴿ وهو الذي سخر لكم البحر ﴾ لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته، ووحدانيته من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من آثار قدرته، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به. فقال تعالى : وهو الذي سخر البحر ﴿ لتأكلوا منه لحماً طرياً ﴾ فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك أن السمك لون كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى، ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح الزعاق، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد. المنفعة الثانية قوله تعالى ﴿ وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ﴾ يعني اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة قوله تعالى ﴿ وترى الفلك ﴾ يعني السفن ﴿ مواخر فيه ﴾ يعني جواري فيه قال قتادة : مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين أحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة وأصل المخر في اللغة الشق يقال : مخرت السفينة مخراً إذا شقت الماء بجؤجؤها. وقال مجاهد : تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة : يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن : مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعاً ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ يعني الأرباح بالتجارة في البحر ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم.
﴿ وألقى في الأرض رواسي ﴾ يعني جبالاً ثقالاً ﴿ أن تميد بكم ﴾ يعني لئلا تميل وتضطرب بكم، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض، وقال وهب : لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة أحداً على ظهرها فأصبحوا، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال ﴿ وأنهاراً ﴾ يعني وجعل فيها أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل، فقوله سبحانه وتعالى : وأنهاراً معطوف على وألقى، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار، وأصولها تكون من الجبال ﴿ وسبلاً ﴾ يعني وجعل فيها طرقاً مختلفة تسلكونها في أسفاركم، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون.
﴿ وعلامات ﴾ يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم : تم الكلام عند قوله : وعلامات ثم ابتدأ ﴿ وبالنجم هم يهتدون ﴾ قال محمد بن كعب والكلبي : أراد بالعلامات الجبال والنجوم، فالجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل.
وقال مجاهد : أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به. وقال السدي : أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة. وقال قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوماً للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق ﴾ لما ذكر الله عز وجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جمعياً قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيء ﴿ أفمن يخلق ﴾ يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان، وهو الله تعالى الخالق لها ﴿ كمن لا يخلق ﴾ يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئاً البتة، لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله ﴿ أفلا تذكرون ﴾ يعني أن هذا القدر ظاهر غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره. بقي في الآية سؤالان : الأول : قوله : كمن لا يخلق المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبدوها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله : بعد هذا والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً فخاطبهم على قدر زعمهم، وعقولهم. السؤال الثاني : قوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئاً البتة والله أعلم.
وقوله تعالى ﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى ﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتبعتم نفوسكم لا تقدرون عليه ﴿ إن الله لغفور ﴾ يعين لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم ﴿ رحيم ﴾ يعني بكم حيث وسع عليكم النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير، والمعاصي.
﴿ والله يعلم ما تسرّون وما تعلنون ﴾ يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء. وهو ما كانوا يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما يعلنون يعني، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عز وجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت، وقيل : إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة، يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وعلانيتها، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات.
فقال تعالى ﴿ والذين تدعون من دون الله ﴾ يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله ﴿ لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ﴾ فإن قلت : قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً فقوله سبحانه وتعالى : لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار ؟ قلت : فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وإنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار.
﴿ أموات ﴾ أي جمادات ميتة لا حياة فيها ﴿ غير أحياء ﴾ يعني كغيرها، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء، فلا تستحق العبادة فمن عبدها فقد وضع العبادة في غير موضعها. وقوله ﴿ وما يشعرون ﴾ يعني هذه الأصنام ﴿ أيان يبعثون ﴾ يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها. وقيل : معناها ما يدري الكفار الذين عبدوا الأصنام متى يبعثون.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ إلهكم إله واحد ﴾ يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة ﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ﴾ يعني جاحدة لهذا المعنى ﴿ وهم مستكبرون ﴾ يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبراً.
﴿ لا جرم ﴾ يعني حقاً ﴿ أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ﴾ يعني عن اتباع الحق ( م ) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر » فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً وفعله حسناً قال :« إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق، وغمط الناس » قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده، وعبادته باطلاً وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقاً، وقيل : البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، وقوله : وغمط الناس يقال : غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئاً وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته.
يمكرون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يعلنون يعني، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عز وجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن
دقت وخفيت، وقيل: إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة، يجب أن يكون عالما بكل المعلومات سرها وعلانيتها، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات فقال تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئا فقوله سبحانه وتعالى: لا يخلقون شيئا وهم يخلقون هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار؟ قلت: فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئا فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئا وإنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار أَمْواتٌ أي جمادات ميتة لا حياة فيها غَيْرُ أَحْياءٍ يعني كغيرها، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء، فلا تستحق العبادة فمن عبدها فقد وضع العبادة في غير موضعها. وقوله وَما يَشْعُرُونَ يعني هذه الأصنام أَيَّانَ يُبْعَثُونَ يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها. وقيل: معناه ما يدري الكفار الذين عبدوا الأصنام متى يبعثون. قوله سبحانه وتعالى إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ يعني جاحدة لهذا المعنى وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبرا لا جَرَمَ يعني حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يعني عن اتباع الحق (م) عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا وفعله حسنا قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق، وغمط الناس» قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيده، وعبادته باطلا وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقا، وقيل: البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، وقوله: وغمط الناس يقال: غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئا وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته. قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٢٤ الى ٣٢]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
72
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم كفار مكة الذين اقتسموا عقابها، وطرقها إذا سألهم الحاج الذين يقدمون عليهم ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني أحاديثهم وأباطيلهم لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللام في ليحملوا لام العاقبة وذلك أنهم لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى: كاملة لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا، لا تكفر عنهم شيئا يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين: وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلا في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. وقوله سبحانه وتعالى وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان، مثل أوزار الأتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» أخرجه مسلم ومعنى الآية، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنّ سنة حسنة أو سنة قبيحة، فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساويا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة، وليس المراد أن الله تعالى يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى، وقوله تعالى: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى». قال الواحدي: ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»، ولكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله: بغير علم يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم، بغير علم، بما يستحقونه من العقاب، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد. قوله سبحانه وتعالى قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من قبل كفار قريش وهو نمروذ بن كنعان الجبار، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وكان من مكره أنه بنى صرحا ببابل ليصعد إلى السماء، ويقاتل أهلها في زعمه. قال ابن عباس: وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب ومقاتل: كان طوله فرسخين فهبت ريح فقصفته وألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية قلت هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحا عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عربا منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية وكانت قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام، مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية، ويدل على صحة هذا قوله: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والله أعلم. وقيل: حمل قوله قد مكر الذين من قبلهم على العموم أولى فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير، وقوله سبحانه وتعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ يعني قصد تخريب بنيانهم من أصوله، وذلك بأن أتاهم بريح قصفت بنيانهم من أعلى، وأتاهم بزلازل قلعت بنيانهم من قواعده وأساسه، هذا إذا حملنا تفسير الآية على القول الأول، وهو ظاهر اللفظ وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني: وهو حملها على العموم كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله تعالى، وجعل هلاكهم مثل هلاك بنوا بنيانا وثيقا شديدا ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره، ومنه المثل السائر على ألسنة
73
الناس: من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه. وقوله تعالى فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يعني سقط عليهم السقف فأهلكهم وقوله: من فوقهم للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم. وقيل: يحتمل أنهم لم يكونوا تحت السقف عند سقوطه، فلما قال من فوقهم علم أنهم كانوا تحته، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني في مأمنهم، وذلك أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم، وشدته كان ذلك البنيان سبب هلاكهم ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ يعني يهينهم بالعذاب، وفيه إشارة بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة لأن الخزي هو العذاب مع الهوان وَيَقُولُ يعني ويقول: الله لهم يوم القيامة أَيْنَ شُرَكائِيَ يعني في زعمكم واعتقادكم الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ يعني كنتم تعادون وتخالفون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم لأن المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه، والمعنى: ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني المؤمنين وقيل الملائكة إِنَّ الْخِزْيَ يعني الهوان الْيَوْمَ يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة وَالسُّوءَ يعني العذاب عَلَى الْكافِرِينَ وإنما يقول المؤمنون: هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، وينكرون عليهم أحوالهم فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق، وأكرموا بأنواع الكرامات وأهين أهل الباطل وعذبوا بأنواع العذاب فعند ذلك يقول المؤمنون: إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين وفائدة هذا القول إظهار الشماتة بهم فيكون أعظم في الهوان، والخزي قوله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ تقبض أرواحهم الملائكة،
وهم ملك الموت وأعوانه ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يعني بالكفر فَأَلْقَوُا السَّلَمَ يعني أنهم استسلموا وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم وقالوا ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ يعني شركا وإنما قالوا: ذلك من شدة الخوف بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني فلا فائدة لكم في إنكاركم. قال عكرمة: عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر فَادْخُلُوا أي فيقال لهم ادخلوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين فيها لا يخرجون منها. وإنما قال ذلك لهم ليكون أعظم في الغم والحزن، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذابا من بعض فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يعني عن الإيمان قوله عز وجل وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرقات مكة من الكفار، فيقولون: هو ساحر كاهن شاعر كذاب مجنون وإذا لم تلقه خير لك. فيقول الوافد: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي من دون أن أدخل مكة فألقاه فيدخل مكة، فيرى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه، وأمانته وأنه نبي مبعوث من الله عز وجل، فذلك قوله سبحانه وتعالى: وقيل الذين اتقوا يعني اتقوا الشرك، وقول الزور والكذب ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرا يعني أنزل خيرا فان قلت لم رفع الأول وهو قوله: أساطير الأولين ونصب الثاني، وهو قوله قالوا خيرا قلت ليحصل الفرق بين الجوابين جواب المنكر الجاحد، وجواب المقر المؤمن وذلك أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلا، ولما سألوا المؤمنين على المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّنا مكشوفا معقولا للإنزال فقالوا: خيرا أي أنزل خيرا، وتم الكلام عند قوله خيرا فهو، وقف تام ثم ابتدأ بقوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني للذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وقال الضحاك: هي النصر والفتح. وقال مجاهد: هي الرزق الحسن. فعلى هذا يكون معنى الآية للذين أحسنوا ثواب إحسانهم في هذه الدنيا حسنة، وهي النصر والفتح والرزق الحسن، وغير ذلك مما أنعم الله به على عباده في الدنيا، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ يعني ما لهم في الآخرة مما أعد الله لهم في الجنة خير مما يحصل لهم في الدنيا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ يعني الجنة وقال الحسن: هي الدنيا لأن أهل التقوى
74
﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ﴾ اللام في ليحلموا لام العاقبة وذلك أنهم لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى : كاملة لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا، لا تكفر عنهم شيئاً يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين : وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. وقوله سبحانه وتعالى ﴿ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾ يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان، مثل أوزار الأتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً » أخرجه مسلم ومعنى الآية، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنَّ سنة حسنة أو سنة قبيحة، فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة، وليس المراد أن الله تعالى : يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى، وقوله تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ قال الواحدي : ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام « لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً »، ولكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله : بغير علم يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم، بغير علم، بما يستحقونه من العقاب، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد. ﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ قد مكر الذين من قبلهم ﴾ يعني من قبل كفار قريش وهو نمروذ بن كنعان الجبار، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكان من مكره أنه بنى صرحاً ببابل ليصعد إلى السماء، ويقاتل أهلها في زعمه. قال ابن عباس : وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين فهبت ريح فقصفته وألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لساناً، فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية قلت هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية وكانت قبائل العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية، ويدل على صحة هذا قوله : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والله أعلم. وقيل : حمل قوله قد مكر الذين من قبلهم على العموم أولى فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين الذي يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير، وقوله سبحانه وتعالى ﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾ يعني قصد تخريب بنيانهم من أصوله، وذلك بأن أتاهم بريح قصفت بنيانهم من أعلى، وأتاهم بزلازل قلعت بنيانهم من قواعده وأساسه، هذا إذا حملنا تفسير الآية على القول الأول، وهو ظاهر اللفظ وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني : وهو حملها على العموم كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله تعالى، وجعل هلاكهم مثل هلاك بنوا بنياناً وثيقاً شديداً ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره، ومنه المثل السائر على ألسنة الناس : من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه. وقوله تعالى ﴿ فخرّ عليهم السقف من فوقهم ﴾ يعني سقط عليهم السقف فأهلكهم وقوله : من فوقهم للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم. وقيل : يحتمل أنهم لم يكونوا تحت السقف عند سقوطه، فلما قال من فوقهم على أنهم كانوا تحته، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا ﴿ وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾ يعني في مأمنهم، وذلك أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم، وشدته كان ذلك البنيان سبب هلاكهم.
﴿ ثم يوم القيامة يخزيهم ﴾ يعني يهينهم بالعذاب، وفيه إشارة بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة لأن الخزي هو العذاب مع الهوان ﴿ ويقول ﴾ يعني ويقول : الله لهم يوم القيامة ﴿ أين شركائي ﴾ يعني في زعمكم واعتقادكم ﴿ الذين كنتم تشاقون فيهم ﴾ يعني كنتم تعادون وتخالفون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم لأن المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه، والمعنى : ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان ﴿ قال الذين أوتوا العلم ﴾ يعني المؤمنين وقيل الملائكة ﴿ إن الخزي ﴾ يعني الهوان ﴿ اليوم ﴾ يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة ﴿ والسوء ﴾ يعني العذاب ﴿ على الكافرين ﴾ وإنما يقول المؤمنون : هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا، وينكرون عليهم أحوالهم فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق، وأُكرموا بأنواع الكرامات وأهين أهل الباطل وعذبوا بأنواع العذاب فعند ذلك يقول المؤمنون : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين وفائدة هذا القول إظهار الشماتة بهم فيكون أعظم في الهوان والخزي.
قوله تعالى ﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ﴾ تقبض أرواحهم الملائكة، وهم ملك الموت وأعوانه ﴿ ظالمي أنفسهم ﴾ يعني بالكفر ﴿ فألقوا السلم ﴾ يعني أنهم استسلموا وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم وقالوا ﴿ ما كنا نعمل من سوء ﴾ يعني شركاً وإنما قالوا : ذلك من شدة الخوف ﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾ يعني فلا فائدة لكم في إنكاركم.
قال عكرمة : عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر ﴿ فادخلوا ﴾ أي فيقال لهم ادخلوا ﴿ أبواب جهنم خالدين فيها ﴾ يعني مقيمين فيها لا يخرجون منها. وإنما قال ذلك لهم ليكون أعظم في الغم والحزن، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذاباً من بعض ﴿ فلبئس مثوى المتكبرين ﴾ يعني عن الإيمان.
قوله عز وجل ﴿ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً ﴾ وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرقات مكة من الكفار فيقولون : هو ساحر كاهن شاعر كذاب مجنون وإذا لم تلقه خير لك. فيقول الوافد : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي من دون أن أدخل مكة فألقاه فيدخل مكة، فيرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه، وأمانته وأنه نبي مبعوث من الله عز وجل، فذلك قوله سبحانه وتعالى : وقيل الذين اتقوا يعني اتقوا الشرك، وقول الزور والكذب ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : خيراً يعني أنزل خيراً فإن قلت لم رفع الأول وهو قوله : أساطير الأولين ونصب الثاني، وهو قوله قالوا خيراً قلت ليحصل الفرق بين الجوابين جواب المنكر الجاحد، وجواب المقر المؤمن وذلك أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلاً ولما سألوا المؤمنين على المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّناً مكشوفاً معقولاً للإنزال فقالوا : خيراً أي أنزل خيراً، وتم الكلام عند قوله خيراً فهو، وقف تام ثم ابتدأ بقوله تعالى ﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ﴾ يعني الذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وقال الضحاك : هي النصر والفتح. وقال مجاهد : هي الرزق الحسن. فعلى هذا يكون معنى الآية للذين أحسنوا ثواب إحسانهم في هذه الدنيا حسنة، وهي النصر والفتح والرزق الحسن، وغير ذلك مما أنعم الله به على عباده في الدنيا، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى ﴿ ولدار الآخرة خير ﴾ يعني ما لهم في الآخرة مما أعد الله لهم في الجنة خير مما يحصل لهم في الدنيا ﴿ ولنعم دار المتقين ﴾ يعني الجنة وقال الحسن : هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون منها إلى الآخرة والقول الأول أولى وهو قول جمهور المفسرين لأن الله فسر هذه الدار بقوله ﴿ جنَّات عدن ﴾.
لأن الله فسر هذه الدار بقوله ﴿ جنَّات عدن ﴾ يعني بساتين إقامة من قولهم : عدنَ بالمكان، أي أقام به ﴿ يدخلونها ﴾ يعني تلك الجنات لا يرحلون عنها ولا يخرجون منها ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ يعني تجري الأنهار في هذه الجنات من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم ﴿ لهم فيها ﴾ يعني في الجنات ﴿ ما يشاؤون ﴾ يعني ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مع زيادات غير ذلك، وهذه الحالة لا تحصل لأحد إلا في الجنة لأن قوله فيها ما يشاؤون لا يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا ﴿ كذلك يجزي الله المتقين ﴾ أي هكذا يكون جزاء المتقين، ثم عاد إلى وصف المتقين.
قال تعالى ﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ﴾ يعني مؤمنين طاهرين من الشرك. قال مجاهد : زاكية أقوالهم وأفعالهم وقيل : إن قوله طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن فيدخل فيه أنهم، أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات والطاعات واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات، والمحرمات مع الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، والمباعدة من الأخلاق المذمومة والخصال المكروهة القبيحة وقيل معناه إن أوقاتهم تكون طيبة سهلة لأنهم يبشرون عند قبض أرواحهم بالرضوان والجنة والكرامة، فيحصل لهم عند ذلك الفرح والسرور والابتهاج، فيسهل عليهم قبض أرواحهم ويطيب لهم الموت على هذه الحالة ﴿ يقولون ﴾ يعني الملائكة لهم ﴿ سلام عليكم ﴾ يعني تسلم عليهم الملائكة أو تبلغهم السلام من الله ﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ يعني في الدنيا من الأعمال الصالحة. فإن قلت : كيف الجمع بين قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وبين قوله : صلى الله عليه وسلم « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته » أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ؟ قلت : قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في شرح مسلم : اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخلهم النار كان ذلك عدلاً منه، وإذا أكرمهم ورحمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرون، وأدخلهم الجنة كان ذلك له ومنه فضلاً، ولكنه سبحانه وتعالى أخبر وخبره صادق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين، ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه. وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل، ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح في خبط طويل لهم، تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع. وفي ظاهر الحديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله سبحانه وتعالى :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ ﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾ ونحوها من الآيات التي تدل على أن الأعمال الصالحة يدخل بها الجنة، فلا تعارض بينها، وبين هذا الحديث بل معنى الآيات : أن دخول الجنة بسبب الأعمال والتوفيق للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وهو مراد الحديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والفضل والمنة والله أعلم بمراده.
يتزودون منها إلى الآخرة والقول الأول أولى وهو قول جمهور المفسرين لأن الله فسر هذه الدار بقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يعني بساتين إقامة من قولهم: عدن بالمكان، أي أقام به يَدْخُلُونَها يعني تلك الجنات لا يرحلون عنها ولا يخرجون منها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني تجري الأنهار في هذه الجنات من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم لَهُمْ فِيها يعني في الجنات ما يَشاؤُنَ يعني ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مع زيادات غير ذلك، وهذه الحالة لا تحصل لأحد إلا في الجنة لأن قوله فيها ما يشاءون لا يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي هكذا يكون جزاء المتقين، ثم عاد إلى وصف المتقين فقال تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يعني مؤمنين طاهرين من الشرك. قال مجاهد: زاكية أقوالهم وأفعالهم وقيل: إن قوله طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن فيدخل فيه أنهم، أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات والطاعات، واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات، والمحرمات مع الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، والمباعدة من الأخلاق المذمومة والخصال المكروهة القبيحة وقيل معناه إن أوقاتهم تكون طيبة سهلة لأنهم يبشرون عند قبض أرواحهم بالرضوان والجنة والكرامة، فيحصل لهم عند ذلك الفرح والسرور والابتهاج، فيسهل عليهم قبض أرواحهم ويطيب لهم الموت على هذه الحالة يَقُولُونَ يعني الملائكة لهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني تسلم عليهم الملائكة أو تبلغهم السلام من الله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا من الأعمال الصالحة. فإن قلت
: كيف الجمع بين قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وبين قوله: صلّى الله عليه وسلّم «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة؟ قلت: قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في شرح مسلم. اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضا أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخلهم النار كان ذلك عدلا منه، وإذا أكرمهم ورحمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرون، وأدخلهم الجنة كان ذلك له ومنه فضلا، ولكنه سبحانه وتعالى أخبر وخبره صادق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين، ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلا منه. وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل، ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح في خبط طويل لهم، تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع. وفي ظاهر هذا الحديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته. وأما قوله سبحانه وتعالى: «ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون- وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون» ونحوها من الآيات التي تدل على أن الأعمال الصالحة يدخل بها الجنة، فلا تعارض بينها، وبين هذا الحديث بل معنى الآيات: أن دخول الجنة بسبب الأعمال والتوفيق للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وهو مراد الحديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة، والفضل والمنة والله أعلم بمراده قوله تعالى:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٣٣ الى ٣٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨)
75
ْ يَنْظُرُونَ
يعني هؤلاء الذين أشركوا بالله وجحدوا نبوتك يا محمدلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
يعني لقبض أرواحهم وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
يعني بالعذاب في الدنيا وهو عذاب الاستئصال. وقيل: المراد به يوم القيامةذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يعني من الكفر والتكذيب ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
يعني بتعذيبه إياهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
يعني باكتسابهم المعاصي، والكفر والأعمال القبيحة الخبيثة، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا يعني فأصابهم عقوبات ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والمعنى ونزل بهم جزاء استهزائهم وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا يعني أن مشركي مكة قالوا هذا على طريق الاستهزاء. والحاصل أنهم تمسكوا بهذا القول في إنكار النبوة، فقالوا: لو شاء الله منا الإيمان لحصل جئت أو لم تجيء ولو شاء الله منا الكفر لحصل جئت أو لم تجيء. وإذا كان كذلك فالكل من الله، فلا فائدة في بعثة رسل إلى الأمم والجواب عن هذا أنهم لما قالوا: إن الكل من الله فكانت بعثة الرسل عبثا كان هذا اعتراضا على الله تعالى، وهو جار مجرى طلب العلة في أحكام الله، وفي أفعاله وهو باطل لأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض لأحد عليه في أحكامه وأفعاله، ولا يجوز لأحد أن يقول له لم فعلت هذا، ولم لم تفعل هذا وكان في حكم الله وسنته في عباده إرسال الرسل إليهم ليأمروهم بعبادة الله تعالى، وينهوهم عن عبادة غيره وأن الهداية والإضلال إليه فمن هداه فهو المهتدي، ومن أضله فهو الضال وهذه سنة الله في عباده أنه يأمر الكل بالإيمان به وينهاهم عن الكفر. ثم إنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان، ويضلّ من يشاء فلا اعتراض لأحد عليه. ولما كانت سنة الله قديمة ببعثة الرسل إلى الأمم الكافرة المكذبة كان قول هؤلاء لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا جهلا منهم، لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهذا الاعتقاد باطل فلا جرم استحقوا عليه الذم والوعيد. وأما قوله تعالى وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعني الوصيلة والسائبة والحام. والمعنى: فلولا أن الله رضيها لنا لغير ذلك ولهدانا إلى غيره كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أن من تقدم هؤلاء من كفار مكة ومن الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديما في الأمم الخالية فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يعني كما بعثنا فيكم محمدا صلّى الله عليه وسلّم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو اسم كل معبود من دون الله فَمِنْهُمْ يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل مَنْ هَدَى اللَّهُ يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يعني، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم. قوله سبحانه وتعالى إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرئ بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله، وقيل: معناه لا يهتدي من
76
﴿ فأصابهم سيئات ما عملوا ﴾ يعني فأصابهم عقوبات ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة ﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ والمعنى ونزل بهم جزاء استهزائهم.
﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ﴾ يعني أن مشركي مكة قالوا هذا على طريق الاستهزاء. والحاصل أنهم تمسكوا بهذا القول في إنكار النبوة، فقالوا : لو شاء الله منا الإيمان لحصل جئت أو لم تجئ ولو شاء الله منا الكفر لحصل جئت أو لم تجئ. وإذا كان كذلك فالكل من الله، فلا فائدة في بعثه رسل إلى الأمم والجواب عن هذا أنهم لما قالوا : إن الكل من الله فكانت بعثة الرسل عبثاً كان هذا اعتراضاً على الله تعالى، وهو جار مجرى طلب العلة في أحكام الله، وفي أفعاله وهو باطل لأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض لأحد عليه في أحكامه وأفعاله، ولا يجوز لأحد أن يقول لو فعلت هذا، ولم لم تفعل هذا وكان في حكم الله وسنته في عباده إرسال الرسل إليهم ليأمروهم بعبادة الله تعالى، وينهوهم عن عبادة غيره وأن الهداية والإضلال إليه فمن هداه فهو المهتدي، ومن أضله فهو الضال وهذه سنة الله في عباده أنه يأمر الكل بالإيمان به وينهاهم عن الكفر. ثم إنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان ويضلّ من يشاء فلا اعتراض لأحد عليه. ولما كانت سنة الله قديمة ببعثة الرسل إلى الأمم الكافرة المكذبة كان قول هؤلاء لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا جهلاً منهم، لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهذا الاعتقاد باطل فلا جرم استحقوا عليه الذم والوعيد. وأما قوله تعالى ﴿ ولا حرمنا من دونه من شيء ﴾ يعني الوصيلة والسائبة والحام. والمعنى : فلولا أن الله رضيها لنا لغير ذلك ولهدانا إلى غيره ﴿ كذلك فعل الذين من قبلهم ﴾ يعني أن من تقدم هؤلاء من كفار مكة ومن الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية ﴿ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ﴾ يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه.
﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ﴾ يعني كما بعثنا فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو اسم كل معبود من دون الله ﴿ فمنهم ﴾ يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل ﴿ من هدى الله ﴾ يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله ﴿ ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾ يعني، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه ﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ إن تحرص على هداهم ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد ﴿ فإن الله لا يهدي من يضل ﴾ قرئ بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله، وقيل : معناه لا يهتدي من أضله الله وقرئ بضم الياء، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ أي مانعين يمنعونهم من العذاب.
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ قال ابن الجوزي : سبب نزولها أن رجلاً من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم : والذي أرجوه بعد الموت. فقال المشرك : إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية. وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو، إلا هذه البنية المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت، فذلك قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴿ لا يبعث الله من يموت ﴾ فرد الله عليهم ذلك، وكذبهم في قولهم فقال تعالى ﴿ بلى ﴾ يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي. والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئاً فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى ﴿ وعداً عليه حقاً ﴾ يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ يعني لا يفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى، قادر على كل شيء.
أضله الله وقرئ بضم الياء، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي مانعين يمنعونهم من العذاب وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال ابن الجوزي: سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له
على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم: والذي أرجوه بعد الموت. فقال المشرك:
إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية. وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو، إلا هذه البنية المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت، فذلك قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ فرد الله عليهم ذلك، وكذبهم في قولهم فقال تعالى بَلى يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي. والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئا فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى، قادر على كل شيء.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٣٩ الى ٥٠]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣)
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ يعني من أمر البعث ويظهر لهم الحق الذي لا خلق فيه وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ يعني في قولهم لا بعث بعد الموت إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
يعني أن الله سبحانه وتعالى قادر إذا أراد أن يحيي الموتى، ويبعثهم للحساب والجزاء فلا تعب عليه في إحيائهم وبعثهم إنما يقول لشيء أراده كن فيكون على ما أراد لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء أراده (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تبارك وتعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولدا، وأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني» وفي رواية «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون من إعادته وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» وقوله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يعني أوذوا وعذبوا نزلت في بلال وصهيب وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى
77
الكفر، وهم المستضعفون. فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق. فقال: يا صهيب ربح البيع. وأما باقيهم فأعطوهم بعض ما يريدون، فخلوا عنهم. وقال قتادة: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصارا من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين، وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث «الأعمال بالنيات» وفيه «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا دارا حسنة أو بلدة حسنة، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له: خذ هذا بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم يقول هذه الآية. وقيل: معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قيل: الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه، وقيل: إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين الَّذِينَ صَبَرُوا يعني في الله على ما نالهم، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر الله الصبر والتوكل في هذه الآية، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر
على المصائب، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ نزلت هذه الآية جوابا لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا الله أعظم وأجل من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث ملكا إلينا فأجابهم الله عز وجل بقوله: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولا من البشر فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلا منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل، وكانوا بشرا مثلهم فإذا سألوهم فلا بد، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى، وما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزبر إلا رجالا يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك. والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة،
78
لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقه، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعني:
وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكرا لأن فيه مواعظ، وتنبيها للغافلين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن، وبيان الكتاب يطلب من السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قال بعضهم: متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبينا والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيما أنزل إليهم فيعملوا به أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابه، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، وقيل: المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. وقيل: المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ يعني كما خسف بقرون من قبلهم أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ يعني في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى، قادر على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم. وقال ابن جريج: في إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم، وفي جميع أحوالهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني بسابقين الله أو يفوتونه بل هو قادر عليهم أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ قال ابن عباس ومجاهد: يعني على تنقص. قال ابن قتيبة: التخوف التنقص ومثله التخون. يقال تخوفه الدهر وتخونه إذا انتقصه وأخذ ماله وحشمه، ويقال: هذه لغة هذيل فعلى هذا القول يكون المراد به أنه ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم وقيل هو على أصله من الخوف فيحتمل أنه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب أولا، بل يخوفهم ثم يعذبهم بعد ذلك وقال الضحكاك والكلبي:
هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء، أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات، تحدث قليلا قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم إنه سبحانه وتعالى، ختم الآية بقوله فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني أنه سبحانه وتعالى، لا يعجل بالعقوبة والعذاب. قوله سبحانه وتعالى أَوَلَمْ يَرَوْا قرئ بالتاء على خطاب الحاضرين وبالياء على الغيبة إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعني من جسم قائم له ظل، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار، والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية، التي يكون معها نظر إلى الشيء ليتأمل أحواله، ويتفكر فيه فيعتبر به يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يعني تميل وتدور من جانب إلى جانب فهي من أول النهار على حال ثم تقلص ثم تعود في آخر النهار إلى حالة أخرى ويقال للظل بالعشي فيء، لأنه من فاء يفيء إذا رجع من المغرب إلى المشرق، والفيء الرجوع قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل يكون بالغداة، وهو ما لم تنله الشمس وقوله ظلاله جمع ظل وإنما أضاف الظلال، وهو جمع مفرد وهو قوله: من شيء لأنه يراد به الكثرة ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ قال العلماء: إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك. وقال الضحاك أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار وإنما وحد اليمين وإن كان
79
﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ يعني أن الله سبحانه وتعالى قادر إذا أراد أن يحيي الموتى، ويبعثهم للحساب والجزاء فلا تعب عليه في إحيائهم وبعثهم إنما يقول لشيء أراده كن فيكون على ما أراد لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء أراده ( خ ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« يقول الله تبارك وتعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولداً، وأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني » وفي رواية « كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون من إعادته وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد ».
قوله تعالى ﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ﴾ يعني أوذوا وعذبوا نزلت في بلال وصهيب وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر وهم المستضعفون. فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق. فقال : يا صهيب ربح البيع. وأما باقيهم فأعطوهم بعض ما يريدون، فخلوا عنهم. وقالت قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث « الأعمال بالنيات » وفيه « فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى ﴿ لنبوأنهم في الدنيا حسنة ﴾ يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا داراً حسنة أو بلدة حسنة، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ هذا بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم يقول هذه الآية. وقيل : معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين ﴿ ولأجر الآخرة أكبر ﴾ يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ قيل : الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه، وقيل : إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين.
﴿ الذين صبروا ﴾ يعني في الله على ما نالهم، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر الله الصبر والتوكيل في هذه الآية، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر على المصائب، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه.
﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ﴾ نزلت هذه الآية جواباً لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون رسوله بشراً فهلا بعث ملكاً إلينا فأجابهم الله عز وجل بقوله : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولاً من البشر فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة ﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل الله إليهم رسلاً منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل، وكانوا بشراً مثلهم فإذا سألوهم فلا بد، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشراً، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم ﴿ إن كنتم لا تعلمون ﴾ الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك.
﴿ بالبينات والزبر ﴾ اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى، وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك. والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة، لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقه، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل ﴿ وأنزلنا إليك الذكر ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني : وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكراً لأن فيه مواعظ، وتنبيهاً للغافلين ﴿ لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن، وبيان الكتاب يطلب منه السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعضهم : متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبيناً والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر ﴿ ولعلهم يتفكرون ﴾ يعني فيما أنزل إليهم فيعلموا به.
﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات ﴾ فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، وقيل : المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقيل : المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة ﴿ أن يخسف الله بهم الأرض ﴾ يعني كما خسف بقرون من قبلهم ﴿ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾ يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم.
﴿ أو يأخذهم في تقلبهم ﴾ بمعنى في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى، قادر على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم. وقال ابن جريج : إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم، وفي جميع أحوالهم ﴿ فما هم بمعجزين ﴾ يعني بسابقين الله أو يفوتونه بل هو قادر عليهم.
﴿ أو يأخذهم على تخوف ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : يعني على تنقص. قال ابن قتيبة : التخوف التنقص ومثله التخون. يقال تخوفه الدهر وتخونه إذا انتقصه وأخذ ماله وحشمه، ويقال : هذه لغة هذيل فعلى هذا القول يكون المراد به أن ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم وقيل هو على أصله من الخوف فيحتمل أنه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً، بل يخوفهم ثم يعذبهم بعد ذلك وقال الضحاك والكلبي : هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء، أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم إنه سبحانه وتعالى، ختم الآية بقوله ﴿ فإن ربكم لرؤوف رحيم ﴾ يعني أنه سبحانه وتعالى، لا يعجل بالعقوبة والعذاب.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ أولم يروا ﴾ قرئ بالتاء على خطاب الحاضرين وبالياء على الغيبة ﴿ إلى ما خلق الله من شيء ﴾ يعني من جسم قائم له ظل، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار، والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية، التي يكون معها نظر إلى الشيء ليتأمل أحواله، ويتفكرون فيه فيعتبر به ﴿ يتفيئو ظلاله ﴾ يعني تميل وتدور من جانب إلى جانب فهي من أول النهار على حال ثم تقلص ثم تعود في آخر النهار إلى حالة أخرى ويقال للظل بالعشي فيء، لأنه من فاء يفيء إذا رجع من المغرب إلى المشرق، والفيء الرجوع قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل يكون بالغداة، وهو ما لم تنله الشمس وقوله ظلاله جمع ظل وإنما أضاف الظلال، وهو جمع مفرد وهو قوله : من شيء لأنه يراد به الكثرة ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ﴿ عن اليمين والشمائل ﴾ قال العلماء : إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك. وقال الضحاك أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار وإنما وحد اليمين وإن كان المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع ﴿ سجداً لله ﴾ في معنى هذا السجود قولان : أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع. يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله، ﴿ وهم داخرون ﴾ أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى. فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون. قلت : لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل، وجاز جمعها بالواو والنون، وهو جمع العقلاء.
قوله عز وجل ﴿ ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة ﴾ قال العلماء : السجود على نوعين سجود طاعة، وعبادة كسجود المسلم لله عز وجل، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله : ولله يسجد ما في السموات، وما في الأرض من دابة يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان، لأنه مما يدب على الأرض ولهذا أفرد الملائكة في قوله ﴿ والملائكة ﴾ لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم. وقيل : أراد ولله يسجد ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأمل والتدبر ﴿ وهم لا يستكبرون ﴾ يعني الملائكة.
﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾ وكقوله ﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ وقد تقدم تفسيره ﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾ عن أبي ذر قال رسول الله عليه وسلم :« إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا، وملك واضع جبهته ساجداً والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى » قال أبو ذر : لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفاً.

فصل : وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها.

المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع سُجَّداً لِلَّهِ في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع. يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله، وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى. فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون. قلت: لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل، وجاز جمعها بالواو والنون، وهو جمع العقلاء قوله عز وجل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ قال العلماء: السجود على نوعين سجود طاعة، وعبادة كسجود المسلم لله عز وجل، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله: ولله يسجد ما في السموات، وما في الأرض من دابة يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد، وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان، لأنه مما يدب على الأرض، ولهذا أفرد الملائكة في قوله وَالْمَلائِكَةُ لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم. وقيل: أراد ولله يسجد ما في السموات
من الملائكة، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأمل والتدبر وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني الملائكة يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وكقوله «وهو القاهر فوق عباده» وقد تقدم تفسيره وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ عن أبي ذر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا، وملك واضع جبهته ساجدا والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» قال أبو ذر: لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفا.

فصل


وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٥١ الى ٦٠]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
80
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله، منقادون لأمره عابدون له، وأنهم في ملكه وتحت قدرته، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين» قال الزجاج: ذكر الاثنين توكيدا لقوله إلهين وقال صاحب النظم: فيه تقديم وتأخير تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلها، ولكن اتخذوا إلها واحدا، وهو قوله تبارك وتعالى إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدرة والإرادة، فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لا يجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن، واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي فارهبون يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيدا له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني، عبيدا وملكا وَلَهُ الدِّينُ واصِباً يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائما ثابتا والواصب: الدائم. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبة أبدا، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائما أبدا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الإنكار قوله عز وجل وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يعني من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى، إنما هو المتفضل به على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه. ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي الشدة والأمراض والأسقام فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ يعني إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر. والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا يدعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ يعني ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ يعني طائفة وجماعة منكم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى ثم قال تعالى لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قيل: إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل: إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما
81
آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء فَتَمَتَّعُوا لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد. يعني: فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير، وهو نزول العذاب بكم. قوله سبحانه وتعالى وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً قيل الضمير في قوله: لما لا يعلمون عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون. وقيل: إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام
لا تعلم شيئا البتة لأنها جماد والجماد لا علم له، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى، ولأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجح القول الثاني. قال: لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا فيه إلى إضمار فيكون المعنى: ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيبا وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الإضمار لأنها لا علم لها، ولا فيهم وقوله مِمَّا رَزَقْناهُمْ يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيبا من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام تَاللَّهِ أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهو قوله تعالى لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيبا من أموالكم، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ هم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم سُبْحانَهُ نزه الله نفسه عن الولد والبنات وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا يعني متغيرا من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ. وقوله سبحانه وتعالى وَهُوَ كَظِيمٌ يعني أنه ظل ممتلئا غما وحزنا يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولدا ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياما حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ يعني على هوان، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله، وإذا بشر أحدهم أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير: إن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها: زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون قد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها: انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم «١» الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك:
(١). قوله صعصعة عم كذا بالنسخ التي بأيدينا والصواب جد وكذا قوله (وعمي الذي) الصواب وجدي الذي كما هو مقرر في كتب الأدب اهـ.
82
﴿ وله ما في السموات والأرض ﴾ لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيداً له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني، عبيداً وملكاً ﴿ وله الدين واصباً ﴾ يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائماً ثابتاً والواصب : الدائم. قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبة أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً ﴿ أفغير الله تتقون ﴾ يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب، وقيل : هو استفهام على طريق الإنكار.
قوله عز وجل :﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ﴾ يعني : من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى، إنما هو المتفضل بها على عباده، فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه. ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى، بين في هذه الآية أن جميع النعم منه، لا يشكر عليها إلا إياه ؛ لأنه هو المتفضل بها على عباده، فيجب عليهم شكره عليها ﴿ ثم إذا مسَّكم الضر ﴾ أي : الشدة والأمراض والأسقام. ﴿ فإليه تجأرون ﴾ يعني : إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء، ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة. وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر. والمعنى : أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه، فإن حصل شدة وضر في بعض الأوقات، فلا يلجأ إلا إليه، ولا داعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها.
قوله تعالى :﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم ﴾، يعني : ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم. ﴿ إذا فريق منكم ﴾ يعني : طائفة وجماعة منكم. ﴿ بربهم يشركون ﴾ يعني : أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب، ولا يضيفونه إلى الله عز وجل، فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين ؛ لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى.
﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾، قيل : إن هذه اللام لام كي، ويكون المعنى على هذا : أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم. وقيل : إنها لام العاقبة، والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء. ﴿ فتمتعوا ﴾، لفظه أمر، والمراد منه التهديد والوعيد. يعني : فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم. ﴿ فسوف تعلمون ﴾، يعني : عاقبة أمركم إلى ماذا تصير، وهو نزول العذاب بكم.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً ﴾، قيل الضمير في قوله :" لما لا يعلمون " عائد إلى المشركين، يعني : أن المشركين لا يعلمون. وقيل : إنه عائد إلى الأصنام، يعني : أن الأصنام لا تعلم شيئاً البتة ؛ لأنها جماد، والجماد لا علم له، ومنهم من رجح القول الأول ؛ لأن نفي العلم عن الحي حقيقة، وعن الجماد مجاز، فكان عود الضمير إلى المشركين أولى ؛ لأنه قال :" لما لا يعلمون " فجمعهم بالواو والنون، وهو جمع لمن يعقل، ومنهم من رجح القول الثاني ؛ قال : لأنا إذا قلنا : إنه عائد إلى المشركين، احتجنا إلى إضمار، فيكون المعنى : ويجعلون، يعني : المشركين، لما لا يعلمون أنه إله ولا إله، حتى نصيباً. وإذا قلنا : إنه عائد إلى الأصنام، لم نحتج إلى هذا الإضمار ؛ لأنها لا علم لها، ولا فهم. وقوله :﴿ مما رزقناهم ﴾، يعني : أن المشركين جعلوا للأصنام نصيباً من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام. ﴿ تالله ﴾، أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهو قوله تعالى :﴿ لتسألن عما كنتم تفترون ﴾، يعني : عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم : إن هذه الأصنام آلهة، وإن لها نصيباً من أموالكم، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور، وهو من بديع الكلام وبليغه.
﴿ ويجعلون لله البنات ﴾، هم : خزاعة وكنانة قالوا : الملائكة بنات الله، وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم. ﴿ سبحانه ﴾، نزه الله نفسه عن الولد والبنات. ﴿ ولهم ما يشتهون ﴾، يعني : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، يعني : البنين.
﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ﴾ البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه، كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثره على الوجه، وهو الكمودة التي تعلو الوجه، عند حصول الحزن والغم، فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ﴿ ظل وجهه مسوداً ﴾، يعني : متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة، والمعنى : أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه، فكيف يرضى أن ينسبها إلى الله تعالى، ففيه تبكيت لهم وتوبيخ. وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وهو كظيم ﴾، يعني أنه ظل ممتلئاً غماً وحزناً.
﴿ يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به ﴾، يعني : أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له ؛ فإن كان ولداً ابتهج بذلك وظهر، وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً حتى يفكر ما يصنع بها، وهو قوله تعالى :﴿ أيمسكه على هون ﴾، يعني : على هوان، وإنما ذكر الضمير في " أيمسكه " ؛ لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله، وإذا بشر أحدهم، ﴿ أم يدسه في التراب ﴾، يعني : أم يخفي الذي بشر به في التراب، والدس إخفاء الشيء في الشيء، قال أهل التفسير : إن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياء، والسبب في ذلك ؛ إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة، أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه، أو طمع غير الأكفّاء فيهن، فكان الرجل من العرب في الجاهلية، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها، تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، ويكون قد حفر لها حفرة في الصحراء، فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها : انظري إلى هذه البئر، فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر، ثم يهيل التراب على رأسها. وكان صعصعة عم١ الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك، وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك، فقال الفرزدق يفتخر بذلك :
وعمي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأد
عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« الوائدة والموءودة في النار » أخرجه أبو داود. وقوله تعالى :﴿ ألا ساء ما يحكمون ﴾، يعني : بئس ما يصنعون ويقضون، حيث يجعلون لله خالقهم البنات، وهم يستنكفون منهن، ويجعلون لأنفسهم البنين، نظيره قوله سبحانه وتعالى :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمه ضيزى ﴾، وقيل : معناه : ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات.
١ قوله صعصعة عم كذا بالنسخ التي بأيدينا والصواب جد وكذا قوله (وعمي الذي) الصواب وجدي الذي كما هو مقرر في كتب الأدب اهـ..
﴿ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ﴾، يعني : صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر، وكراهتهم الإناث، وقتلهن خوف الفقر. ﴿ ولله المثل الأعلى ﴾، أي : الصفة العليا المقدسة، وهي أن له التوحيد، وأنه المنزه عن الولد، وأنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال، من العلم والقدرة والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس : مثل السوء النار، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله، ﴿ وهو العزيز ﴾، أي : الممتنع في كبريائه وجلاله، ﴿ الحكيم ﴾، يعني : في جميع أفعاله.
وعمي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأد
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الوائدة والموءودة في النار» أخرجه أبو داود. وقوله تعالى أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله الذي خلقهم البنات، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى «ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمه ضيزي» وقيل:
معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ يعني صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر، وكراهتهم الإناث وقتلهن خوف الفقر وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا المقدسة، وهي أن له التوحيد وأنه المنزه عن الولد، وأنه لا إله إلا هو وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس: مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الممتنع في كبريائه وجلاله الْحَكِيمُ يعني في جميع أفعاله قوله:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٦١ الى ٦٧]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ يعني بسبب ظلمهم فيعاجلهم بالعقوبة على ظلمهم وكفرهم وعصيانهم.
فإن قلت الناس اسم جنس يشمل الكل وقد قال تعالى في آية أخرى «فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات»، فقسمهم في تلك الآية ثلاثة أقسام فجعل الظالمين قسما واحدا من ثلاثة. قلت: قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم عام مخصوص بتلك الآية الأخرى، لأن في جنس الناس الأنبياء والصالحين ومن لا يطلق عليه اسم الظلم، وقيل: أراد بالناس الكفار فقط بدليل قوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وقوله ما تَرَكَ عَلَيْها يعني على الأرض كناية عن غير مذكور لأن الدابة لا تدب إلا على الأرض مِنْ دَابَّةٍ يعني أن الله سبحانه وتعالى، لو يؤاخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. قال قتادة: وقد فعل الله ذلك في زمن نوح عليه السلام وروي أن أبا هريرة سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بئس ما قلت إن الحبارى تموت هزالا بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل تعذب في جحرها بذنب ابن آدم وقيل أراد بالدابة الكافر بدليل قوله: «إن شر الدواب عند الله الذين كفروا» وقيل في معنى الآية ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لا نقطع النسل، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ يعني يمهلهم بفضله، وكرمه وحلمه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يعني لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله لهم ولا ينقصون عنه. وقيل:
أراد بالأجل المسمى يوم القيامة، والمعنى ولكن يؤخرهم إلى يوم القيامة فيعذبهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ يعني لأنفسهم وهي البنات وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
83
يعني ويقولون: إن لهم البنين وذلك أنهم قالوا: لله البنات ولنا البنون، وهذا القول كذب منهم وافتراء على الله.
وقيل: أراد بالحسنى الجنة، والمعنى أنهم مع كفرهم، وقولهم الكذب يزعمون أنهم على الحق وأن لهم الجنة وذلك أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا في البعث بعد الموت، فإن لنا الجنة لأنّا على الحق فأكذبهم الله فقول لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ يعني في الآخرة لا الجنة وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قرئ بكسر الراء مع التخفيف، يعني مسرفون وقرئ بكسر الراء مع التشديد يعني مضيعون لأمر الله وقراءة الجمهور بفتح الراء مع تخفيفها أي منسيون في النار قاله ابن عباس وقال سعيد بن جبير ومقاتل: متروكون. وقال قتادة: معجلون إلى النار. وقال الفراء:
مقدمون إلى النار والفرط ما تقدم إلى الماء قبل القوم. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني كما أرسلناك إلى هذه الأمة لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب ففيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يعني أعمالهم الخبيثة من الكفر والتكذيب، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أحدا أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي ناصرهم الْيَوْمَ ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور، وإنما سماه وليا لهم لطاعتهم إياه وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني في أمر الدين والأحكام فتبين لهم الهدى من الضلال، والحق من الباطل والحلال من الحرام وَهُدىً وَرَحْمَةً يعني وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بيانا وهدى ورحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون به قوله سبحانه وتعالى وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَحْيا بِهِ يعني بالماء الْأَرْضَ يعني بالنبات والزروع بَعْدَ مَوْتِها يعني يبسها وجدوبتها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني دلالة واضحة على كمال قدرتنا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يعني سماع إنصاف وتدبر وتفكر، لأن سماع القلوب هو النافع لا سماع الآذان فمن سمع آيات الله، أي القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع، ومن لم يسمع بقلبه لم ينتفع بالآيات وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً يعني إذا تفكرتم فيها عرفتم كمال قدرتنا على ذلك نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ الضمير عائد إلى الأنعام، وكان حقه أن يقال مما في بطونها، واختلف النحويون في الجواب، فقيل: إن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع فهو بحسب اللفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو مذكر وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو مؤنث فلهذا المعنى. قال هنا مما في بطونه وقال في سورة المؤمنين: مما في بطونها. وهذا قول أبي عبيدة والأخفش وقال الكسائي: إنه رده إلى ما ذكر يعني مما في بطون ما ذكرنا، وقال غيره الكناية مردودة إلى البعض وفيه إضمار كأنه قال: نسقيكم مما في بطونه اللبن فأضمر اللبن إذ ليس لكلها لبن مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش من الثفل، فإذا خرج منها لا يسمى فرثا وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً يعني من الدم والفرث ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث. قال ابن عباس: إذا أكلت الدابة العلف، واستقر في كرشها، وطبخته كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما فالكبد مسلطة عليه تقسمه بتقدير الله سبحانه وتعالى فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الثفل كما هو سائِغاً لِلشَّارِبِينَ يعني هنيئا سهلا يجري في الحلق بسهولة. قيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. هذا قول المفسرين في معنى هذه الآية. وحكى الإمام فخر الدين الرازي قول الحكماء في ذلك، فقال: ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان في الكرش البتة، والدليل على الحس فان هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا، وما رأى أحد في كرشها دما ولا لبنا بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء، وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنسانا وإلى كرشه إن كان من الأنعام، وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي حصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دما وهو الهضم الثاني، ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية فأما الصفراء فتذهب إلى المرارة وأما
84
﴿ ويجعلون لله ما يكرهون ﴾، يعني : لأنفسهم، وهي البنات. ﴿ وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ﴾، يعني : ويقولون : إن لهم البنين، وذلك أنهم قالوا : لله البنات ولنا البنون، وهذا القول كذب منهم، وافتراء على الله. وقيل : أراد بالحسنى الجنة، والمعنى : أنهم مع كفرهم، وقولهم الكذب، يزعمون أنهم على الحق، وأن لهم الجنة، وذلك أنهم قالوا : إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت، فإن لنا الجنة ؛ لأنّا على الحق، فأكذبهم الله. فقول :﴿ لا جرم أن لهم النار ﴾، يعني : في الآخرة، لا الجنة. ﴿ وأنهم مفرطون ﴾، قرئ بكسر الراء مع التخفيف، يعني : مسرفون. وقرئ بكسر الراء مع التشديد، يعني : مضيعون لأمر الله. وقراءة الجمهور بفتح الراء مع تخفيفها، أي : منسيون في النار، قاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير ومقاتل : متروكون. وقال قتادة : معجلون إلى النار. وقال الفراء : مقدمون إلى النار. والفرط ما تقدم إلى الماء قبل القوم. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :« أنا فرطكم على الحوض »، أي : متقدمكم.
﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ﴾، يعني : كما أرسلناك إلى هذه الأمة، لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. ﴿ فزين لهم الشيطان أعمالهم ﴾، يعني : أعمالهم الخبيثة من الكفر والتكذيب، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى، هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أحداً أو يهدي أحداً، وإنما له الوسوسة فقط، فمن أراد شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته. ﴿ فهو وليهم ﴾، أي : ناصرهم ﴿ اليوم ﴾. ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور، وإنما سماه ولياً لهم ؛ لطاعتهم إياه. ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾، يعني : في الآخرة.
﴿ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ﴾، يعني في أمر الدين والأحكام، فتبين لهم الهدى من الضلال، والحق من الباطل، والحلال من الحرام. ﴿ وهدى ورحمة ﴾، يعني : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بياناً وهدى ورحمة. ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ ؛ لأنهم هم المنتفعون به.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ والله أنزل من السماء ماء ﴾، يعني : المطر. ﴿ فأحيا به ﴾، يعني : بالماء. ﴿ الأرض ﴾، يعني : بالنبات والزروع. ﴿ بعد موتها ﴾، يعني : يبسها وجدوبتها. ﴿ إن في ذلك لآية ﴾، يعني : دلالة واضحة على كمال قدرتنا. ﴿ لقوم يسمعون ﴾، يعني : سماع إنصاف وتدبر وتفكر ؛ لأن سماع القلوب هو النافع لا سماع الآذان، فمن سمع آيات الله، أي : القرآن، بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع، ومن لم يسمع بقلبه لم ينتفع بالآيات.
﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة ﴾، يعني : إذا تفكرتم فيها، عرفتم كمال قدرتنا على ذلك. ﴿ نسقيكم مما في بطونه ﴾، الضمير عائد إلى " الأنعام "، وكان حقه أن يقال : مما في بطونها، واختلف النحويون في الجواب، فقيل : إن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، فهو بحسب اللفظ مفرد، فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو مذكر، وبحسب المعنى جمع، فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو مؤنث فلهذا المعنى. قال هنا ﴿ مما في بطونه ﴾، وقال في سورة المؤمنين :﴿ مما في بطونها ﴾. وهذا قول أبي عبيدة، والأخفش، وقال الكسائي : إنه رده إلى ما ذكر، يعني : مما في بطون ما ذكرنا، وقال غيره : الكناية مردودة إلى البعض، وفيه إضمار، كأنه قال : نسقيكم مما في بطونه اللبن، فأضمر اللبن إذ ليس لكلها لبن. ﴿ من بين فرث ﴾، وهو ما في الكرش من الثفل، فإذا خرج منها لا يسمى فرثاً. ﴿ ودم لبناً خالصاً ﴾، يعني : من الدم والفرث، ليس عليه لون الدم، ولا رائحة الفرث. قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف، واستقر في كرشها، وطبخته، كان أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً، وأعلاه دماً، فالكبد مسلطة عليه، تقسمه بتقدير الله سبحانه وتعالى، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الثفل كما هو. ﴿ سائغاً للشاربين ﴾، يعني : هنيئاً سهلاً، يجري في الحلق بسهولة. قيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط. هذا قول المفسرين في معنى هذه الآية. وحكى الإمام فخر الدين الرازي قول الحكماء في ذلك فقال : ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان في الكرش البتة، والدليل عليه الحس ؛ فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً، وما رأى أحد في كرشها دماً ولا لبناً، بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء، وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً، وإلى كرشه إن كان من الأنعام، وغيرها، فإذا طبخ، وحصل الهضم الأول فيه، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي حصل في الكبد، ينطبخ فيها ويصير دماً، وهو : الهضم الثاني، ويكون ذلك مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فأما الصفراء فتذهب إلى المرارة، وأما السوداء فتذهب إلى الطحال، وأما المائية فتذهب إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما الدم فيذهب في الأوردة، وهي : العروق النابتة في الكبد، وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة، فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض، فيقلب الله عز وجل ذلك الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض، فيصير الدم لبناً فهذا صورة تكوَّن اللبن في الضرع ؛ فاللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من بعض الأجزاء اللطيفة، من الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش، فاللبن توليد أولاً من الفرث، ثم من الدم ثانياً، ثم صفاه الله سبحانه وتعالى بقدرته، فجعله لبناً خالصاً من بين فرث، ودم عند تولد اللبن في الضرع، يخلق الله عز وجل بلطيف حكمته، في حلمة الثدي ثقباً صغيراً ومسام ضيقة، فيجعلها كالمصفاة للبن، فكل ما كان لطيفاً من اللبن خرج بالمص أو الحلب، وما كان كثيفاً احتبس في البدن، وهو المراد بقوله : خالصاً هنيئاً مريئاً.
قوله عز وجل :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب ﴾، يعني : ولكم أيضاً عبرة، فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب. ﴿ تتخذون منه ﴾، الضمير في " منه "، يرجع إلى ما تقديره : ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، ﴿ سكراً ورزقاً حسناً ﴾، قال ابن مسعود، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإبراهيم، وابن أبي ليلى، والزجاج، وابن قتيبة : السكر : الخمر، سميت بالمصدر من قولهم سكر سكراً وسكراً، والرزق الحسن : سائر ما يتخذ من ثمرات النخيل، والأعناب مثل : الدبس، والتمر، والزبيب، والخل، وغير ذلك. فإن قلت : الخمر محرمة، فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان ؟ قلت : قال العلماء في الجواب عن هذا : إن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة، وهي مدنية، فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وقيل : إن الله عز وجل نبه في هذه الآية على تحريم الخمر أيضاً ؛ لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً، يدل على التحريم، وروى العوفي عن ابن عباس، أن السكر، هو : الخل، بلغة الحبشة. وقال بعضهم : السكر، هو : النبيذ، وهو : نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير. وهو قول الضحاك، والنخعي، ومن يبيح شرب النبيذ. ومن يحرمه يقول : المراد من الآية : الإخبار لا الإحلال. وأولى الأقاويل، أن قوله :﴿ تتخذون منه سكراً ﴾، منسوخ. سئل ابن عباس عن هذه الآية، فقال : السكر : ما حرم من ثمراتها، والرزق الحسن : ما حل. قلت : القول بالنسخ فيه نظر ؛ لأن قوله :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ﴾، خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، ومن زعم أنها منسوخة، رأى أن هذه الآية نزلت بمكة في وقت إباحة الخمر، ثم إن الله تبارك وتعالى حرمها بالمدينة، فحكم على هذه الآية بأنها منسوخة. وقال أبو عبيدة في معنى الآية : السكر : الطعم، يقال هذا سكر لك، أي : طعم لك. وقال غيره : السكر : ما سد الجوع، من قولهم : سكرت النهر، أي : سددته، والتمر والزبيب مما يسد الجوع، وهذا شرح قول أبي عبيدة : أن السكر : الطعم. ﴿ إن في ذلك ﴾، يعني : الذي ذكر من إنعامه على عباده. ﴿ لآية ﴾، يعني : دلالة وحجة واضحة، ﴿ لقوم يعقلون ﴾، يعني : أن من كان عاقلاً، استدل بهذه الآية على كمال قدرة الله تعالى ووحدانيته، وعلم بالضرورة أن لهذه الأشياء خالقاً، ومدبراً قادراً على ما يريد.
السوداء فتذهب إلى الطحال، وأما المائية فتذهب إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما الدم فيذهب في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض، فيقلب الله عز وجل ذلك الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض، فيصير الدم لبنا فهذا صورة تكوّن اللبن في الضرع فاللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد
من بعض الأجزاء اللطيفة من الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش فاللبن تولد أولا من الفرث ثم من الدم ثانيا ثم صفاه الله سبحانه وتعالى بقدرته فجعله لبنا خالصا من بين فرث، ودم عند تولد اللبن في الضرع يخلق الله عز وجل بلطيف حكمته في حلمة الثدي ثقبا صغيرا ومسام ضيقة فيجعلها كالمصفاة للبن فكل ما كان لطيفا من اللبن خرج بالمص أو الحلب وما كان كثيفا احتبس في البدن، وهو المراد بقوله خالصا هنيئا مريئا. قوله عز وجل وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ يعني ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الضمير في منه يرجع إلى ما تقديره ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً قال ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة: السكر الخمر سميت بالمصدر من قولهم سكر سكرا، وسكرا والرزق الحسن سائر ما يتخذ من ثمرات النخيل، والأعناب مثل الدبس والتمر والزبيب والخل وغير ذلك. فإن قلت: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان؟ قلت: قال العلماء في الجواب عن هذا: إن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وقيل: إن الله عز وجل نبه في هذه الآية على تحريم الخمر أيضا، لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسنا يدل على التحريم، وروى العوفي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة وقال بعضهم: السكر هو النبيذ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ ومن يحرمه يقول المراد من الآية الإخبار لا الإحلال، وأولى الأقاويل أن قوله تتخذون منه سكرا منسوخ. سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال السكر: ما حرم من ثمراتها والرزق الحسن ما حل قلت: القول بالنسخ فيه نظر لأن قوله، ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، ومن زعم أنها منسوخة رأى أن هذه الآية نزلت بمكة في وقت إباحة الخمر ثم إن الله تبارك وتعالى حرمها بالمدينة فحكم على هذه الآية بأنها منسوخة وقال أبو عبيدة في معنى الآية: السكر الطعم يقال هذا سكر لك أي طعم لك وقال غيره: السكر ما سد الجوع من قولهم سكرت النهر أي سددته والتمر والزبيب مما يسد الجوع، وهذا شرح قول أبي عبيدة أن السكر الطعم إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من إنعامه على عباده لَآيَةً يعني دلالة وحجة واضحة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أن من كان عاقلا استدل بهذه الآية على كمال قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلم بالضرورة أن لهذه الأشياء خالقا، ومدبرا قادرا على ما يريد. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٦٨ الى ٧١]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
85
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ لما ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته، وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته من إخراج اللبن من بين فرث، ودم وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل، والأعناب ذكر في هذه الآية إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من دابة ضعيفة، وهي النحلة فقال سبحانه وتعالى وأوحى ربك إلى النحل الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به كل فرد من الناس ممن له عقل، وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته، وقدرته وأصل الوحي الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز، والتعريض وقد يكون بصوت مجرد ويقال للكلمة الإلهية التي يلقيها الله إلى أنبيائه وحي وإلى أوليائه إلهام وتسخير الطير لما خلق له ومنه قوله تعالى «وأوحى ربك إلى النحل» يعني أنه سخرها لما خلقها له، وألهمها رشدها وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتا على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة، أو غير ذلك من الأشكال لكان فيما بينها خلل ولما حصل المقصود فألهمها الله سبحانه وتعالى، أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة وألهمها الله تعالى أيضا أن تجعل عليها أميرا كبيرا نافذ الحكم فيها وهي تطيعه، وتمتثل أمره ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة ويسمى يعسوب النحل يعني ملكها كذا حكاه الجوهري وألهمها الله سبحانه وتعالى أيضا أنها تخرج من بيوتها، فتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها، ولا تضل عنها. ولما امتار هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة، الدالة على مزيد الذكاء والفطنة دل ذلك على الإلهام الإلهي فكان ذلك شبيها بالوحي، فلذلك قال تبارك وتعالى: وأوحى ربك إلى النحل، والنحل زنبور العسل ويسمى الدبر أيضا، قال الزجاج:
يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلا لأن الله سبحانه وتعالى، نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها بمعنى أعطاهم. وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، وكذا أنثها الله تعالى فقال أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ يعني يبنون ويثقفون وذلك أن النحل منه وحشي، وهو الذي يسكن الجبال والشجر ويأوي إلى الكهوف ومنه أهلي وهو الذي يأوي إلى البيوت، ويربيه الناس وقد جرت العادة أن الناس يبنون للنحل الأماكن حتى تأوي إليها، وقال ابن زيد: أراد بالذي يعرشون الكروم ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يعني من بعض الثمرات لأنها لا تأكل من جميع الثمار فلفظة كل هاهنا ليست للعموم فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ يعني الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها لأجل طلب الثمرات ذُلُلًا قيل إنها نعت للسبل يعني أنها مذللة لك الطرق مسهلة لك مسالكها. قال مجاهد: لا يتوعر عليها مكان تسلكه. وقيل: الذلل نعت للنحل يعني أنها مذللة مسخرة لأربابها مطيعة منقادة لهم حتى أنهم ينقلونها من مكانها إلى مكان آخر حيث شاؤوا! وأرادوا لا تستعصي عليهم يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ يعني العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يعني ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل. وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، ويستحيل في بطونها عسلا بقدرة الله تعالى ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب، وزعم الإمام فخر الدين الرازي أنه رأى في بعض كتب الطب، أن العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار، وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه، وتدخر بعضه في بيوتها لأنفسها للتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأن طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل، وأيضا فإنا نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل وأجاب عن قوله تعالى: يخرج من بطونها بأن كل تجويف في داخل البدن يسمى بطنا، فقوله: يخرج من بطونها يعني من أفواهها، وقول أهل الظاهر أولى وأصح لأنا نشاهد أنه يوجد في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل، وكذلك يوجد لونها وريحها وطعمها فيه أيضا، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم له: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة
86
عسل. قالت: جرست نحلة العرفط. العرفط شجر الطلح، وله صمغ يقال له المغافير كريه الرائحة فمعنى جرست نحلة العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا الدليل صحة قول أهل الظاهر من المفسرين، وأنه يوجد في طعم العسل، ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلّا لكان على لون واحد وطبيعة واحدة. وقوله: إنه طبيعة العسل تقرب من طبيعة الترنجبين فيه نظر، لأن مزاج الترنجبين معتدل إلى الحرارة، وهو ألطف من السكر ومزاج العسل حار يابس في الدرجة الثانية فبينهما فرق كبير. وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطنا فيه نظر، لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد إلا العضو المعروف مثل بطن الإنسان، وغيره والله أعلم. وقوله تعالى فِيهِ يعني في الشراب الذي يخرج من بطون النحل شِفاءٌ لِلنَّاسِ وهذا قول ابن عباس وابن مسعود إذ الضمير في قوله فيه شفاء للناس، يرجع إلى العسل، وقد اختلفوا في هذا الشفاء هل هو على العموم لكل مرض، أو على الخصوص لمرض دون مرض، على قولين: أحدهما أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض. قال ابن مسعود: «العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور» وفي رواية أخرى عنه «عليك بالشفاءين القرآن والعسل» وروى نافع أن ابن عمر ما كانت تخرج به قرحة، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل ويقرأ «يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس» (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال: إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا فقال له: ثلاث مرات ثم جاء الرابعة. فقال: اسقه عسلا، فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ»
وقد اعترض بعض الملحدين، ومن في قلبه مرض على هذا الحديث. فقال: إن الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال فنقول في الرد على هذا المعترض الملحد الجاهل بعلم الطب أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخم، والهيضات، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فمضر عندهم، واستعجال مرض فيحتمل أن يكون إسهال الشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة، فدواؤه بترك إسهاله على ما هو عليه أو تقويته فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العسل فزاده إسهالا، فزاده عسلا إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال ويكون الخلط الذي كان به يوافقه شرب العسل، فثبت بما ذكرناه أن أمره صلّى الله عليه وسلّم لهذا الرجل بشرب العسل جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه جاهل لها ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء: بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك وإنما ذكرنا هذا الجواب الجاري على صناعة الطب، دفعا لهذا المعترض بأنه لا يحسن صناعة الطب التي اعترض بها والله أعلم وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم، علم بالوحي الإلهي أن العسل، الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك فلما لم يظهر نفعه في الحال عندهم قال: صدق الله يعني فيما وعد به من أن فيه شفاء وكذب بطن أخيك يعني باستعجالك للشفاء في أول مرة والله أعلم بمراده، وأسرار رسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس، وهو يضر بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة ويضر بالشباب المحرورين ويعطش، قلنا: في الجواب عن هذا الاعتراض أيضا: إن قوله فيه شفاء للناس مع أنه يضر بأصحاب الصفراء، ويهيج الحرارة أنه خرج مخرج الأغلب، وأنه في الأغلب فيه شفاء، ولم يقل: إنه شفاء لكل الناس لكل داء ولكنه في الجملة دواء، وإن نفعه أكثر من مضرته، وقل معجون من المعاجين إلا وتمامه به. والأشربة المتخذة من العسل نافعة لأصحاب البلغم والشيوخ المبرودين، ومنافعه كثيرة جدا. والقول الثاني: أنه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه وهذا قول السدي وقال مجاهد: في قوله فيه شفاء للناس يعني القرآن لأنه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة وهو هدى ورحمة للناس، والقول الأول أصح لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات، وأقربها قوله تعالى يخرج
87
من بطونها شراب وهو العسل فهو أولى أن يرجع الضمير إليه لأنه أقرب مذكور. وقوله سبحانه وتعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا. قوله عز وجل وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ يعني أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئا ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ يعني عند انقضاء آجالكم إما صبيانا وإما شبانا وإما كهولا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يعني أردأه وأضعفه وهو الهرم قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب أولها من النشوء والنماء، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد ثم المرتبة الثانية: سن الوقوف، وهو من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة، وهو غاية القوة وكمال العقل ثم المرتبة الثالثة: سن الكهولة، وهو من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع الإنسان في النقص لكنه يكون نقصا خفيا لا يظهر ثم المرتبة الرابعة: سن الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر، وفيها يتبين النقص، ويكون الهرم والخرف. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقيل: ثمانون سنة وقال قتادة تسعون سنة (ق) عن أنس قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات». وفي رواية أخرى عنه قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر
وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات»
وقوله تعالى: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً يعني الإنسان يرجع إلى حالة الطفولية بنسيان ما كان علم بسبب الكبر، وقال ابن عباس: لكي يصير كالصبي لا عقل له. وقال ابن قتيبة: معناه حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا لشدة هرمه. وقال الزجاج: المعنى وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفا فيصير بعد أن كان عالما جاهلا، ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل هكذا، وجدته منقولا عنه ولو قال: ليريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته ليكون ذلك دليلا على صحة هذا البعث، بعد الموت لكان أجود. قال ابن عباس: ليس هذا في المسلمين لأن المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلا ومعرفة. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئا. وقال في قوله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هم الذين قرءوا القرآن وقال ابن عباس في قوله تعالى: ثم رددناه أسفل سافلين يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعني بما صنع بأوليائه وأعدائه قَدِيرٌ يعني على ما يريد قوله تعالى وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ يعني أن الله سبحانه وتعالى بسط على واحد، وضيق وقتر على واحد وكثر لواحد وقلل على آخر، وكما فضل بعضكم على بعض في الرزق، كذلك فضل بعضكم على بعض في الخلق والخلق والعقل والصحة والسقم والحسن والقبح والعلم والجهل وغير ذلك. فهم متفاوتون ومتباينون في ذلك كله، وهذا مما اقتضته الحكمة الإلهية والقدرة الربانية فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني من العبيد حتى يستووا فيه هم وعبيدهم يقول الله سبحانه وتعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني يلزم بهذه الحجة المشركين حيث جعلوا الأصنام شركاء لله قال قتادة:
هذا مثل ضربه الله عز وجل. يقول: هل منكم أحد يرضى أن يشركه مملوكه في جميع ماله فكيف تعدلون بالله خلقه وعباده، وقيل: في معنى الآية أن الموالي والمماليك الله رازقهم جميعا فَهُمْ فِيهِ يعني في رزقه سَواءٌ فلا تحسبن أن الموالي يردون رزقهم على مماليكهم من عند أنفسهم، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك، والمقصود منه بيان أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه وأن الموالي والمماليك في الرزق سواء وأن المالك لا يرزق المملوك، بل الرازق للمماليك والمالك هو الله سبحانه وتعالى. وقوله أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فيه إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره. قوله عز وجل:
88
﴿ ثم كلي من كل الثمرات ﴾، يعني : من بعض الثمرات ؛ لأنه لا تأكل من جميع الثمار، فلفظة كل هاهنا ليست للعموم، ﴿ فاسلكي سبل ربك ﴾، يعني : الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها ؛ لأجل طلب الثمرات، ﴿ ذللاً ﴾، قيل : إنها نعت للسبل، يعني : أنها مذللة لكل الطرق مسهلة لك مسالكها. قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان تسلكه. وقيل : الذلل، نعت للنحل، يعني : أنها مذللة مسخرة لأربابها مطيعة منقادة لهم، حتى أنهم ينقلونها من مكانها إلى مكان آخر حيث شاؤوا ! وأرادوا لا تستعصي عليهم ﴿ يخرج من بطونها شراب ﴾، يعني : العسل، ﴿ مختلف ألوانه ﴾، يعني : ما بين أبيض وأحمر وأصفر، وغير ذلك من ألوان العسل. وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب، وزعم الإمام فخر الدين الرازي أنه رأى في بعض كتب الطب، أن العسل طل من السماء ينزل كالترتجبين، فيقع على الأزهار وأوراق الشجر، فتجمعه النحل فتأكل بعضه، وتدخر بعضه في بيوتها لأنفسها ؛ لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل، وقال هذا القول أقرب إلى العقل ؛ لأن طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل، وأيضاً : فإنا نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل، وأجاب عن قوله تعالى : يخرج من بطونها، بأن كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً، فقوله : يخرج من بطونها، يعني : من أفواهها، وقول أهل الظاهر أولى وأصح ؛ لأنا نشاهد أنه يوجد في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل، وكذلك يوجد لونها وطعمها فيه أيضاً، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له : أكلت مغافير ؟ قال : لا. قالت : فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل. قالت : جرست نحلة العرفط. العرفط شجر الطلح، وله صمغ يقال لهم : المغافير كريه الرائحة، فمعنى جرست نحلة العرفط : أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا الدليل صحة قول أهل الظاهر من المفسرين، وأنه يوجد طعم العسل، ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل ؛ لأنه لو كان طلاًّ لكان على لون واحد وطبيعة واحدة. وقله : إنه طبيعة العسل تقرب من طبيعة الترنجبين فيه نظر ؛ لأن مزاج الترنجبين معتدل إلى الحرارة، وهو ألطف من السكر، ومزاج العسل حار يابس في الدرجة الثانية، فبينهما فرق كبير. وقوله : كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً فيه نظر ؛ لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد إلا العضو المعروف، مثل : بطن الإنسان، وغيره والله أعلم. وقوله تعالى :﴿ فيه ﴾، يعني : في الشراب الذي يخرج من بطون النحل، ﴿ شفاء للناس ﴾، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود، إذ الضمير في قوله :﴿ فيه شفاء للناس ﴾، يرجع إلى العسل، وقد اختلفوا في هذا الشفاء، هل هو على العموم لكل مرض، أو على الخصوص لمرض دون مرض ؟ على قولين : أحدهما : أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض، قال ابن مسعود :«العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. » وفي رواية أخرى عنه :«عليك بالشفائين القرآن والعسل »، وروى نافع أن ابن عمر ما كانت تخرج به قرحة، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل، ويقرأ :﴿ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ﴾ ( ق )، عن أبي سعيد الخدري قال :« جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلاً، فسقاه، ثم جاء فقال : إني سقيته عسلاً، فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال له : ثلاث مرات ثم جاء الرابعة : فقال : اسقه عسلاً، فقال : لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله، وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرأ. » وقد اعترض بعض الملحدين، ومن في قلبه مرض على هذا الحديث. فقال : إن الأطباء مجمعون على أن مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال ؟ فنقول في الرد على هذا المعترض الملحد الجاهل بعلم الطب، أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة : منها التخم، والهيضات، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال، أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فمضر عندهم، واستعجال مرض، فيحتمل أن يكون إسهال الشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة، فدواؤه بترك إسهاله على ما هو عليه، أو تقويته، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم العسل، فزاده إسهالاً، فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة، فوقف الإسهال، و يكون الخلط الذي كان به يوافقه شرب العسل، فثبت بما ذكرناه أن أمره صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل بشرب العسل، جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه جاهل لها، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء : بل لو كذبوه لكذبناهم، وكفرناهم بذلك، وإنما ذكرنا هذا الجواب الجاري على صناعة الطب، دفعاً لهذا المعترض بأنه لا يحسن صناعة الطب التي اعترض بها، والله أعلم، وقوله صلى الله عليه وسلم :« صدق الله، وكذب بطن أخيك ». يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم، علم بالوحي الإلهي، أن العسل الذي أمره بشربه، سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال عندهم قال : صدق الله، يعني : فيما وعد به من أن فيه شفاء، وكذب بطن أخيك، يعني : باستعجالك للشفاء في أول مرة، والله أعلم بمراده، وأسرار رسوله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا : كيف يكون شفاء للناس، وهو يضر بأصحاب الصفراء، ويهيج الحرارة، ويضر بالشباب المحرورين ويعطش، قلنا : في الجواب عن هذا الاعتراض أيضاً : إن قوله فيه شفاء للناس مع أنه يضر بأصحاب الصفراء، ويهيج الحرارة، أنه خرج مخرج الأغلب، وأنه في الأغلب فيه شفاء، ولم يقل : إنه شفاء لكل الناس لكل داء، ولكنه في الجملة دواء، وإن نفعه أكثر من مضرته، وقل معجون من المعاجين إلا وتمامه به. والأشربة المتخذة من العسل نافعة لأصحاب البلغم، والشيوخ المبرودين، ومنافعه كثيرة جداً، والقول الثاني : أنه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، وهذا قول السدي، وقال مجاهد : في قوله :﴿ فيه شفاء للناس ﴾، يعني : القرآن ؛ لأنه شفاء من أمراض الشرك والجهالة والضلالة، وهو هدى ورحمة للناس، والقول الأول أصح ؛ لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات، وأقربها قوله تعالى :﴿ يخرج من بطونها شراب ﴾ وهو : العسل، فهو أولى أن يرجع الضمير إليه ؛ لأنه أقرب مذكور. وقوله سبحانه وتعالى :﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ﴾، يعني : فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا.
قوله عز وجل :﴿ والله خلقكم ﴾، يعني : أوجدكم من العدم، وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً. ﴿ ثم يتوفاكم ﴾، يعني : عند انقضاء آجالكم، إما صبياناً، وإما شباناً، وإما كهولاً. ﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ﴾، يعني : أردأه وأضعفه : وهو الهرم. قال بعض العلماء : عمر الإنسان له أربع مراتب : أولها : من النشوء والنماء، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو غاية سن الشاب وبلوغ الأشد. ثم المرتبة الثانية : سن الوقوف، وهو من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة، وهو غاية القوة وكمال العقل. ثم المرتبة الثالثة : سن الكهولة، وهو من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع الإنسان في النقص، لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر. ثم المرتبة الرابعة : سن الشيخوخة والانحطاط، من الستين إلى آخر العمر، وفيها يتبين النقص، ويكون الهرم والخرف. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقيل : ثمانون سنة. وقال قتادة : تسعون سنة ( ق ). عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ». وفي رواية أخرى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوات :« اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات ». وقوله تعالى :﴿ لكيلا يعلم بعد علم شيئاً ﴾، يعني : الإنسان يرجع إلى حالة الطفولية بنسيان ما كان علم بسبب الكبر، وقال ابن عباس : لكي يصير كالصبي لا عقل له. وقال ابن قتيبة : معناه : حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً ؛ لشدة هرمه. وقال الزجاج : المعنى : وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفاً، فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً ؛ ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل، هكذا وجدته منقولاً عنه، ولو قال : ليريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته ؛ ليكون ذلك دليلاً على صحة هذا البعث، بعد الموت لكان أجود. قال ابن عباس : ليس هذا في المسلمين ؛ لأن المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلاً ومعرفة. وقال عكرمة : من قرأ القرآن، لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئاً. وقال في قوله :" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات "، هم الذين قرؤوا القرآن. وقال ابن عباس في قوله تعالى :" ثم رددناه أسفل سافلين "، يريد : الكافرين، ثم استثنى المؤمنين فقال تعالى :" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ". وقوله تعالى :﴿ إن الله عليم ﴾، يعني : بما صنع بأوليائه وأعدائه، ﴿ قدير ﴾، يعني : على ما يريد.
قوله تعالى :﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ﴾، يعني : أن الله سبحانه وتعالى بسط على واحد، وضيق وقتر على واحد، وكثر لواحد وقلل على آخر، وكما فضل بعضكم على بعض في الرزق، كذلك فضل بعضكم على بعض في الخلق والخلق والعقل والصحة والسقم والحسن، والقبح والعلم والجهل وغير ذلك. فهم متفاوتون ومتباينون في ذلك كله، وهذا مما اقتضته الحكمة الإلهية والقدرة الربانية :﴿ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم ﴾، يعني : من العبيد حتى يستووا فيه هم وعبيدهم، يقول الله سبحانه وتعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني، يلزم بهذه الحجة المشركين، حيث جعلوا الأصنام شركاء لله، قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل. يقول : هل منكم أحد يرضى أن يشركه مملوكه في جميع ماله، فكيف تعدلون بالله خلقه وعباده ؟ ! وقيل : في معنى الآية، أن الموالي والمماليك، الله رازقهم جميعاً :﴿ فهم فيه ﴾، يعني : في رزقه، ﴿ سواء ﴾، فلا تحسبن أن الموالي يردون رزقهم على مماليكهم من عند أنفسهم، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك، والمقصود منه : بيان أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه، وأن الموالي والمماليك في الرزق سواء، وأن المالك لا يرزق المملوك، بل الرازق للمماليك، والمالك، هو : الله سبحانه وتعالى. وقوله :﴿ أفبنعمة الله يجحدون ﴾، فيه إنكار على المشركين، حيث جحدوا نعمته، وعبدوا غيره.

[سورة النحل (١٦): الآيات ٧٢ الى ٧٣]

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني النساء فخلق من آدم حواء زوجته، وقيل: جعل لكم من جنسكم أزواجا لأنه خطاب عام يعم الكل فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً الحفدة جمع حافد، وهو المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة ومنه قوله في الدعاء «وإليك نسعى ونحفد» أي نسرع إلى طاعتك، فهذا أصله في اللغة ثم اختلفت أقوال المفسرين فيهم فقال ابن مسعود والنخعي:
الحفدة أختان الرجل على بناته وعن ابن مسعود أيضا، أنهم أصهاره فهو بمعنى الأول فعلى هذا القول، يكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات، فزوجوهم فيجعل لكم بسببهم الأختان والأصهار. وقال الحسن وعكرمة والضحاك: هم الخدم. وقال مجاهد: هم الأعوان وكل من أعانك قد حفدك، وقال عطاء: هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه وقيل: هم أهل المهنة الذين يمتهنون ويخدمون من الأولاد وقال مقاتل والكلبي:
البنين هم الصغار والحفدة كبار الأولاد الذين يعينون الرجل على عمله، وقال ابن عباس: هم ولد الولد. وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو امرأة الرجل الذين ليسوا منه وكل هذه الأقوال متقاربة لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك، وبالجملة فإن الحفدة هم غير البنين، لأن الله سبحانه وتعالى قال: بنين وحفدة فجعل بينهما مغايرة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني النعم التي أنعم عليكم من أنواع الثمار والحبوب والحيوان، والأشربة المستطابة الحلال من ذلك كله أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ يعني بالأصنام وقيل: بالشيطان يؤمنون وقيل: معناه يصدقون أن لي شريكا وصاحبة وولدا وهذا استفهام إنكار أي ليس لهم ذلك وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ يعني أنهم يضيفون ما أنعم الله به عليهم إلى غيره، وقيل معناه إنهم يجحدون ما أحل الله لهم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني الأصنام التي لا تقدر على إنزال المطر الذي في السموات خزائنه، ولا يقدرون على إخراج النبات الذي في الأرض معدنه شَيْئاً يعني لا يملك من الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا، وقيل معناه يعبدون ما لا يرزق شيئا وَلا يَسْتَطِيعُونَ يعني ولا يقدرون على شيء يذكر عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٧٤ الى ٧٧]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ يعني لا تشبهوا الله بخلقه فإنه لا مثل له، ولا شبيه ولا شريك من خلقه، لأن الخلق كلهم عبيده، وفي ملكه فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، أو الرازق بالمرزوق، أو القادر بالعاجز إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ يعني ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ خطأ ما تضربون له من الأمثال. قوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً لما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن
89
ضرب الأمثال، لقلة علمهم ضرب هو سبحانه وتعالى لنفسه مثلا، فقال تعالى: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان، كمثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر كريم مالك قادر، قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف يشاء، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال، فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة البشرية، فكيف يجوز للعقل أن يسوي بين الله عز وجل الخالق القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء البتة؟ وقيل: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر والمراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر، لأنه لما كان محروما من عبادة الله وطاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز الذي لا يقدر على شيء، وقيل: إن الكافر لما رزقه الله مالا فلم يقدم فيه خيرا صار كالعبد الذي لا يملك شيئا، والمراد بقوله ومن رزقناه منا رزقا حسنا، المؤمن لأنه لما اشتغل بطاعة الله، وعبوديته والإنفاق في وجوه البر والخير صار كالحر المالك الذي ينفق سرا وجهرا في طاعة الله، وابتغاء مرضاته وهو قوله سبحانه وتعالى فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً فأثابه الله الجنة على ذلك. فإن قلت: لم قال عبدا مملوكا لا يقدر على شيء، وكل عبد هو مملوك وهو غير قادر على التصرف؟ قلت: إنما ذكر المملوك ليتميز من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا لأنهما من عباد الله، وقوله: لا يقدر على شيء احترز به عن المملوك المكاتب والمأذون له في التصرف، لأنهما يقدران على التصرف واحتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا هَلْ يَسْتَوُونَ ولم يقل هل يستويان يعني هل يستوي الأحرار والعبيد، والمعنى كما لا يستوي هذا الفقير البخيل، والغني السخي كذلك لا يستوي الكافر العاصي، والمؤمن الطائع، وقال عطاء في قوله: عبدا مملوكا هو أبو جهل بن هشام ومن رزقناه منا رزقا حسنا، هو أبو بكر الصديق ثم قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ حمد الله نفسه لأنه المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم المتفضل على عباده، وهو الخالق الرازق لا هذه الأصنام التي عبدها هؤلاء، فإنها لا تستحق الحمد لأنها جماد عاجز، لا يد لها على أحد ولا معروف، فتحمد عليه إنما الحمد الكامل لله لا لغيره فيجب على جميع العباد، حمد الله لأنه أهل الحمد والثناء الحسن بَلْ أَكْثَرُهُمْ يعني الكفار لا يَعْلَمُونَ يعني أن الحمد لله لا لهذه الأصنام وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ هو الذي ولد أخرس فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم، والأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ هو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي ثقيل على من يلي أمره ويعوله وقيل أصله من الغلظ وهو نقيض الحدة، يقال كل السكين إذا غلظت شفرته وكل اللسان إذا غلظ فلم يقدر على النطق، وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فقوله وهو كل على مولاه أي غليظ ثقيل على مولاه أَيْنَما يُوَجِّهْهُ أي حيثما يرسله ويصرفه في طلب حاجة أو كفاية مهم لا يَأْتِ بِخَيْرٍ يعني لا يأت بجنح لأنه أخرس عاجز لا يحسن ولا يفهم هَلْ يَسْتَوِي يعني من هذه صفته هُوَ يعني صاحب هذه الصفات المذمومة وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات ذو رشد وديانة يأمر الناس بالعدل والخير وَهُوَ في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني على سيرة صالحة ودين قويم، فيجب أن يكون الآمر بالعدل، عالما قادرا مستقيما في نفسه حتى يتمكن من الأمر بالعدل، وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده من إنعامه ويشملهم به من آثار رحمته
وألطافه وللأصنام التي هي أموات جماد، لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وهي كل على عابديها، لأنها تحتاج إلى كلفة الحمل والنقل والخدمة. وقيل: كلا المثلين للمؤمن والكافر، والمؤمن: هو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. والكافر: هو الأبكم الثقيل الذي لا يأمر بخير فعلى هذا القول تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر. وقيل: هي على الخصوص فالذي يأمر بالعدل هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على صراط مستقيم، والذي يأمر بالظلم وهو أبكم أبو جهل. وقيل: الذي يأمر بالعدل عثمان بن عفان، وكان له مولى يأمره بالإسلام وذلك المولى يأمر عثمان بالإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، فهو الذي لا يأت بخير.
90
﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض ﴾، يعني : الأصنام التي لا تقدر على إنزال المطر الذي في السموات خزائنه، ولا يقدرون على إخراج النبات الذي في الأرض معدنه. ﴿ شيئاً ﴾، يعني : لا يملك من الرزق شيئاً قليلاً ولا كثيراً، وقيل : معناه : يعبدون ما لا يرزق شيئاً. ﴿ ولا يستطيعون ﴾، يعني : ولا يقدرون على شيء يذكر، عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر.
﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾، يعني : لا تشبهوا الله بخلقه، فإنه لا مثل له، ولا شبيه ولا شريك من خلقه ؛ لأن الخلق كلهم عبيده، وفي ملكه فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، أو الرازق بالمرزوق، أو القادر بالعاجز، ﴿ إن الله يعلم ﴾، يعني : ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾، خطأ ما تضربون له من الأمثال.
قوله تعالى :﴿ ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، ﴾ لما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن ضرب الأمثال، لقلة علمهم، ضرب هو سبحانه وتعالى لنفسه مثلاً، فقال تعالى : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان، كمثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر كريم مالك قادر، قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف يشاء، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال، فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة البشرية، فكيف يجوز للعقل أن يسوي بين الله عز وجل الخالق القادر على الرزق والإفضال، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء البتة ؟ وقيل : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، والمراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، هو : الكافر ؛ لأنه لما كان محروماً من عبادة الله وطاعته، صار كالعبد الذليل الفقير العاجز الذي لا يقدر على شيء، وقيل : إن الكافر لما رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيراً، صار كالعبد الذي لا يملك شيئاً، والمراد بقوله :﴿ ومن رزقناه منا رزقاً حسناً ﴾، المؤمن ؛ لأنه لما اشتغل بطاعة الله وعبوديته والإنفاق في وجوه البر والخير، صار كالحر المالك الذي ينفق سراً وجهراً في طاعة الله، وابتغاء مرضاته، وهو قوله سبحانه وتعالى :﴿ فهو ينفق منه سراً وجهراً ﴾، فأثابه الله الجنة على ذلك. فإن قلت : لم قال عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء، وكل عبد هو مملوك وهو غير قادر على التصرف ؟ قلت : إنما ذكر المملوك ليتميز من الحر ؛ لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً ؛ لأنهما من عباد الله، وقوله : لا يقدر على شيء : احترز به عن المملوك المكاتب والمأذون له في التصرف ؛ لأنهما يقدران على التصرف، واحتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً. ﴿ هل يستوون ﴾، ولم يقل هل يستويان ؟ يعني : هل يستوي الأحرار والعبيد، والمعنى : كما لا يستوي هذا الفقير البخيل والغني السخي، كذلك لا يستوي الكافر العاصي والمؤمن الطائع، وقال عطاء في قوله : عبداً مملوكاً، هو : أبو جهل بن هشام، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، هو : أبو بكر الصديق، ثم قال تعالى :﴿ الحمد لله ﴾، حمد الله نفسه ؛ لأنه المستحق لجميع المحامد ؛ لأنه المنعم المتفضل على عباده، وهو الخالق الرازق لا هذه الأصنام التي عبدها هؤلاء، فإنها لا تستحق الحمد ؛ لأنها جماد عاجز، لا يد لها على أحد ولا معروف، فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله لا لغيره فيعجب على جميع العباد، حمد الله لأنه أهل الحمد والثناء الحسن، ﴿ بل أكثرهم ﴾، يعني : الكفار، ﴿ لا يعلمون ﴾، يعني : أن الحمد لله لا لهذه الأصنام.
﴿ وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم ﴾، هو الذي ولد أخرس، فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرس أبكم، والأبكم : الذي لا يفهم ولا يفهم، ﴿ لا يقدر على شيء ﴾، هو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل، ﴿ وهو كل على مولاه ﴾، أي : ثقيل على من يلي أمره ويعوله، وقيل : أصله من الغلظ، وهو نقيض الحدة، يقال : كل السكين، إذا غلظت شفرته، وكل اللسان إذا غلظ فلم يقدر على النطق، وكل فلان عن الأمر، إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فقوله :﴿ وهو كل على مولاه ﴾، أي : غليظ ثقيل على مولاه، ﴿ أينما يوجهه ﴾، أي : حيثما يرسله ويصرفه، في طلب حاجة أو كفاية مهم، ﴿ لا يأت بخير ﴾، يعني : لا يأت بجنح ؛ لأنه أخرس عاجز لا يحسن ولا يفهم، ﴿ هل يستوي ﴾، يعني : من هذه صفته، ﴿ هو ﴾، يعني : صاحب هذه الصفات المذمومة، ﴿ ومن يأمر بالعدل ﴾، يعني : ومن هو سليم الحواس، نفاع ذو كفايات، ذو رشد وديانة يأمر الناس بالعدل والخير، ﴿ وهو ﴾ في نفسه ﴿ على صراط مستقيم ﴾، يعني : على سيرة صالحة ودين قويم، فيجب أن يكون الآمر بالعدل، عالماً قادراً مستقيماً في نفسه حتى يتمكن من الأمر بالعدل، وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده من إنعامه، ويشملهم به من آثار رحمته، وألطافه وللأصنام التي هي أموات جماد، لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وهي كل على عابديها ؛ لأنها تحتاج إلى كلفة الحمل والنقل والخدمة. وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر، والمؤمن : هو الذي يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. والكافر : هو الأبكم الثقيل الذي لا يأمر بخير، فعلى هذا القول تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر. وقيل : هي على الخصوص، فالذي يأمر بالعدل، هو : رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على صراط مستقيم. والذي يأمر بالظلم وهو أبكم : أبو جهل. وقيل : الذي يأمر بالعدل : عثمان بن عفان، وكان له مولى يأمره بالإسلام، وذلك المولى يأمر عثمان بالإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، فهو الذي لا يأت بخير. وقيل : المراد بالأبكم، الذي لا يأت بخير : أبي بن خلف، وبالذي يأمر بالعدل : حمزة وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون.
﴿ ولله غيب السموات والأرض ﴾، أخبر الله عز وجل في الآية عن كمال علمه، وأنه عالم بجميع الغيوب، فلا تخفى عليه خافية ولا يخفى عليه شيء منها، وقيل : الغيب هنا : هو علم قيام الساعة، وهو قوله :﴿ وما أمر الساعة ﴾، يعني : في قيامها، والساعة : هي الوقت الذي يقوم الناس فيه لموقف الحساب، ﴿ إلا كلمح البصر ﴾، يعني : في السرعة، ولمح البصر : هو انطباق جفن العين وفتحه، وهو طرف العين أيضاً، ﴿ أو هو أقرب ﴾، يعني : أن لمح البصر يحتاج إلى زمان وحركة، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً قال له :" كن فيكون "، في أسرع من لمح البصر، وهو قوله :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾، فيه دليل على كمال قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى مهما أراد شيئاً، كان أسرع ما يكون. قال الزجاج : ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه سبحانه وتعالى وصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء، لا يعجزه شيء.
وقيل: المراد بالأبكم الذي لا يأت بخير أبي بن خلف، وبالذي يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أخبر الله عز وجل في الآية عن كمال علمه، وأنه عالم بجميع الغيوب، فلا تخفى عليه خافية ولا يخفى عليه شيء منها، وقيل الغيب هنا هو علم قيام الساعة وهو قوله وَما أَمْرُ السَّاعَةِ يعني في قيامها، والساعة هي الوقت الذي يقوم الناس فيه لموقف الحساب إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ يعني في السرعة، ولمح البصر هو انطبقا جفن العين وفتحه وهو طرف العين أيضا أَوْ هُوَ أَقْرَبُ يعني أن لمح البصر يحتاج إلى زمان وحركة، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون في أسرع من لمح البصر وهو قوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه دليل على كمال قدرة الله تعالى وأنه سبحانه وتعالى مهما أراد شيئا كان أسرع ما يكون. قال الزجاج: ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه سبحانه وتعالى وصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء، لا يعجزه شيء. قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٧٨ الى ٨٠]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً تم الكلام هنا لأن الإنسان خلق في أول الفطرة، ومبدئها خاليا عن العلم والمعرفة لا يهتدي سبيلا ثم ابتدأ فقال تعالى وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يعني أن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاكم هذه الحواس لتنتقلوا بها من الجهل إلى العلم، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب، والسنة وهي الدلائل السمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم، وجعل لكم الأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته، وغرائب مخلوقاته، فتستدلوا بها على وحدانيته. وجعل لكم الأفئدة لتعقلوا بها، وتفهموا معاني الأشياء التي جعلها دلائل وحدانيته، وقال ابن عباس: في هذه الآية يريد لتسمعوا مواعظ الله وتبصروا ما أنعم الله به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم، إلى أن صرتم رجالا وتعقلوا عظمة الله، وقيل في معنى الآية: والله خلقكم في بطون أمهاتكم وسواكم وصوركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة، وجعل لكم الحواس آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به، من شكر المنعم وعبادته، والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم به في الآخرة. فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن جعل الحواس الثلاث بعد الإخراج من البطون، وإنما خلقت هذه الحواس للإنسان من جملة خلقه، وهو في بطن أمه. قلت: ذكر العلماء أن تقديم الإخراج، وتأخير ذكر هذه الحواس لا يدل على أن خلقها كان بعد الإخراج لأن الواو لا توجب الترتيب ولأن العرب تقدم وتؤخر في بعض كلامها. وأقول لما كان الانتفاع بهذه الحواس بعد الخروج من البطن، فكأنما خلقت في ذلك الوقت الذي ينتفع بها فيه وإن كانت قد خلقت قبل ذلك. وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ يعني مذللات فِي جَوِّ السَّماءِ الجو الفضاء الواسع بين السماء والأرض وهو الهواء. قال كعب الأحبار: إن الطير ترتفع في الجو اثني عشر ميلا ولا ترتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ يعني في حال قبض أجنحتها، وبسطها واصطفاقها في الهواء، وفي هذا حث على الاستدلال بها على أن لها مسخرا سخرها، ومذللا ذللها، وممسكا أمسكها في حال طيرانها ووقوفها في الهواء، وهو الله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إنما خص المؤمنين بالذكر، لأنهم هم الذين يعتبرون بالآيات ويتفكرون فيها وينتفعون بها دون غيرهم. قوله
﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات ﴾، يعني : مذللات، ﴿ في جو السماء ﴾، الجو : الفضاء الواسع بين السماء والأرض، وهو : الهواء. قال كعب الأحبار : إن الطير ترتفع في الجو اثني عشر ميلاً، ولا ترتفع فوق ذلك. ﴿ ما يمسكهن إلا الله ﴾، يعني : في حال قبض أجنحتها وبسطها واصطفاقها في الهواء، وفي هذا حث على الاستدلال بها على أن لها مسخراً سخرها، ومذللاً ذللها، وممسكاً أمسكها في حال طيرانها ووقوفها في الهواء، وهو الله تعالى. ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾، إنما خص المؤمنين بالذكر ؛ لأنهم هم الذين يعتبرون بالآيات، ويتفكرون فيها، وينتفعون بها دون غيرهم.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم ﴾، يعني التي هي من الحجر والمدر، ﴿ سكناً ﴾، يعني مسكناً تسكنونه، والسكن : ما سكنت إليه وفيه من إلف أو بيت. ﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً ﴾، يعني الخيام والقباب والأخبية، والفساطيط المتخذة من الأدم والأنطاع. واعلم أن المساكن على قسمين : أحدهما : ما لم يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما، والقسم الثاني : ما يمكن نقله من مكان إلى آخر، وهي الخيام والفساطيط المتخذة من جلود الأنعام، وإليها الإشارة بقوله تعالى :﴿ تستخفونها ﴾، يعني : يخف عليكم حملها. ﴿ يوم ظعنكم ﴾، يعني : في يوم سيركم ورحيلكم في أسفاركم، وظعن البادية هو لطلب ماء أو مرعى، نحو ذلك. ﴿ ويوم إقامتكم ﴾، يعني : وتخف عليكم أيضاً في إقامتكم وحضركم، والمعنى : لا تثقل عليكم في الحالتين. ﴿ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ﴾، الكناية عائدة إلى الأنعام، يعني : ومن أصواف الضأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، ﴿ أثاثاً ﴾، يعني : تتخذون أثاثاً، الأثاث : متاع البيت الكبير، وأصله من أث : إذا كثر وتكاثف، وقيل للمال أثاث إذا كثر. قال ابن عباس : أثاثاً، يعني : مالاً. وقال مجاهد : متاعاً. وقال القتيبي : الأثاث : المال أجمع، من الإبل والغنم والعبيد والمتاع. وقال غيره : الأثاث هو متاع البيت من الفرش والأكسية ونحو ذلك. ﴿ ومتاعاً ﴾، يعني : وبلاغاً وهو ما يتمتعون به. ﴿ إلى حين ﴾، يعني : إلى حين يبلى ذلك الأثاث، وقيل : إلى حين الموت. فإن قلت : أي فرق بين الأثاث والمتاع حتى ذكره بواو العطف، والعطف يوجب المغايرة، فهل من فرق ؟. قلت : الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه وغير ذلك، فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع : ما ينتفع به في البيت خاصة، فظهر الفرق بين اللفظتين، والله أعلم.
سبحانه وتعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ يعني التي هي من الحجر والمدر سَكَناً يعني مسكنا تسكنونه، والسكن ما سكنت إليه وفيه من ألف أو بيت وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعني الخيام والقباب والأخبية، والفساطيط المتخذة من الأدم والأنطاع. واعلم أن المساكن على قسمين: أحدهما: ما لم يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما، والقسم الثاني: ما يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر وهي الخيام والفساطيط المتخذة من جلود الأنعام، وإليها الإشارة بقوله تعالى تَسْتَخِفُّونَها يعني يخف عليكم حملها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ يعني في يوم سيركم ورحيلكم في أسفاركم وظعن البادية هو لطلب ماء أو مرعى، ونحو ذلك وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ يعني وتخف عليكم أيضا في إقامتكم وحضركم، والمعنى: لا تثقل عليكم في الحالتين وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها الكناية عائدة إلى الأنعام، يعني ومن أصواف الضأن، وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً يعني تتخذون أثاثا. الأثاث. متاع البيت الكبير، وأصله من أث إذا كثر وتكاثف، وقيل للمال أثاث إذا كثر. قال ابن عباس: أثاثا يعني مالا: وقال مجاهد: متاعا. وقال القتيبي: الأثاث المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد والمتاع. وقال غيره الأثاث هو متاع البيت من الفرش والأكسية ونحو ذلك وَمَتاعاً يعني وبلاغا وهو ما يتمتعون به إِلى حِينٍ يعني إلى حين يبلى ذلك الأثاث، وقيل: إلى حين الموت. فإن قلت: أي فرق بين الأثاث والمتاع حتى ذكره بواو العطف، والعطف يوجب المغايرة فهل من فرق؟. قلت: الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه وغير ذلك فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة فظهر الفرق بين
اللفظتين والله أعلم.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٨١ الى ٨٨]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا يعني جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد، وهي ظلال الأبنية والجدران والأشجار وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع كن وهو ما يستكن فيه من شدة الحر والبرد، كالأسراب والغيران ونحوها وذلك لأن الإنسان إما أن يكون غنيا أو فقيرا، فإذا سافر احتاج في سفره ما يقيه من شدة الحر والبرد فأما الغني فيستصحب معه الخيام في سفره، ليستكن فيها وإليه الإشارة بقوله وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً وأما الفقير فيستكن في ظلال الأشجار والحيطان والكهوف ونحوها، وإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا ولأن بلاد العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظلال وما يدفع شدته وقوته أكثر فلهذا السبب ذكر الله هذه المعاني في معرض الامتنان عليهم بها، لأن النعمة عليهم فيها ظاهرة وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ يعني وجعل لكم قمصا وثيابا من القطن والكتان والصوف وغير ذلك، تمنعكم من شدة الحر قال أهل المعاني والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ
92
بَأْسَكُمْ يعني الدروع والجواشن وسائر ما يلبس في الحرب من السلاح، والبأس الحرب يعني تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم. قال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم فقال تعالى وجعل لكم من الجبال أكنانا، وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وما جعل لهم من القطن والكتان أكثر، ولكن كانوا أصحاب صوف ووبر وشعر، وكما قال تعالى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وما أنزل من الثلج أكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج وقال تقيكم الحر وما جعل لهم مما يقي من البرد أكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر. وقوله سبحانه وتعالى كَذلِكَ يعني كما أنعم عليكم بهذه النعم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ يعني نعم الدنيا والدين لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يعني لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الوحدانية والربوبية والعبادة والطاعة وتعلمون، أنه لا يقدر على هذه الإنعامات إلا الله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك وتصديقك يا محمد وآثروا ما هم فيه من الكفر واللذات الدنيوية، فإنما وبال ذلك عليهم لا عليك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني ليس عليك في ذلك عتب، ولا سمة تقصير إنما عليك البلاغ، وقد فعلت ذلك ثم ذمهم الله تعالى بقوله يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها قال السدي: نعمة الله يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم أنكروه وكذبوه. وقيل: نعمة الله هي الإسلام لأنه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، ثم إن كفار مكة أنكروه وجحدوه، وقال مجاهد وقتادة: نعمة الله ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم يقرون بأنها من الله، ثم إذا قيل لهم: صدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ينكرونها ويقولون ورثناها عن آبائنا. وقال الكلبي: إنه لما ذكر هذه النعم قالوا: هذه نعم كلها من الله تعالى لكنها بشفاعة آلهتنا وقيل هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ولولا فلان لما كان كذا وقيل إنهم يعترفون بأن الله أنعم بهذه النعم، ولكنهم لا يستعملونها في طلب رضوانه ولا يشكرونه عليها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ إنما قال الله سبحانه وتعالى أكثرهم الكافرون مع أنهم كانوا كلهم كافرين، لأنه كان فيهم من لم يبلغ بعد حد التكليف فعبر بالأكثر عن البالغين، وقيل: أراد بالأكثر الكافرين الحاضرين المعاندين، وقد كان فيهم من ليس بمعاند وإن كان كافرا وقيل إنه عبر بالأكثر عن الكل لأنه قد يذكر الأكثر، ويراد به الجمع قوله سبحانه وتعالى وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً
لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على الكافرين وإنكارهم لها، وذكر أن أكثرهم كافرون، أتبعه بذكر الوعيد لهم في الآخرة فقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني رسولا وذلك اليوم، هو يوم القيامة والمراد بالشهداء: الأنبياء يشهدون على أممهم بإنكار نعم الله عليهم وبالكفر ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني في الاعتذار وقيل لا يؤذن لهم في الكلام أصلا. وقيل: لا يؤذن لهم بالرجوع إلى
دار الدنيا فيعتذروا ويتوبوا وقيل: لا يؤذن لهم في معارضة الشهود بل يشهدون عليهم ويقرونهم على ذلك وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ الاستعتاب: طلب العتاب، والمعتبة: هي الغلظة والموجدة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره، والرجل إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب، ويرجع إلى الرضا عنه وإذا لم يطلب العتاب منه دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه، ومعنى الآية: أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم، لأن الآخرة ليست دار غضبه عليه، ومعنى الآية أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم لأن الآخرة ليست دار تكليف ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبوا ويرجعوا يرضوا ربهم فالاستعتاب: التعرض لطلب الرضا، وهذا باب مسند على الكفار في الآخرة وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي الْعَذابَ يعني عذاب جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ يعني العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يعني لا يؤخرون ولا يمهلون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني يوم القيامة شُرَكاءَهُمْ يعني أصنامهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ يعني أربابا وكنا نعبدهم ونتخذهم آلهة فَأَلْقَوْا يعني الأصنام إِلَيْهِمُ يعني إلى عابديها الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ يعني أن الأصنام قالت للكفار: إنكم لكاذبون يعني في تسميتنا آلهة وما دعوناكم إلى عبادتنا. فإن
93
﴿ فإن تولوا ﴾، يعني : فإن أعرضوا عن الإيمان بك وتصديقك يا محمد، وآثروا ما هم فيه من الكفر واللذات الدنيوية، فإنما وبال ذلك عليهم لا عليك، ﴿ فإنما عليك البلاغ المبين ﴾، يعني : ليس عليك في ذلك عتب، ولا سمة تقصير، إنما عليك البلاغ.
﴿ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ﴾، قال السدي : نعمة الله، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه. وقيل : نعمة الله هي الإسلام ؛ لأنه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، ثم إن كفار مكة أنكروه وجحدوه، وقال مجاهد وقتادة : نعمة الله : ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم يقرون بأنها من الله، ثم إذا قيل لهم : صدقوا وامتثلوا أمر الله فيها، ينكرونها ويقولون ورثناها عن آبائنا. وقال الكلبي : إنه لما ذكر هذه النعم قالوا : هذه نعم كلها من الله تعالى لكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل : هو قول الرجل : لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان لما كان كذا، وقيل : إنهم يعترفون بأن الله أنعم بهذه النعم، ولكنهم لا يستعملونها في طلب رضوانه، ولا يشكرونه عليها. ﴿ وأكثرهم الكافرون ﴾، إنما قال الله سبحانه وتعالى :﴿ أكثرهم الكافرون ﴾ مع أنهم كانوا كلهم كافرين ؛ لأنه كان فيهم من لم يبلغ بعد حد التكليف، فعبر بالأكثر عن البالغين، وقيل : أراد بالأكثر الكافرين الحاضرين المعاندين، وقد كان فيهم من ليس بمعاند وإن كان كافراً، وقيل : إنه عبر بالأكثر عن الكل ؛ لأنه قد يذكر الأكثر، ويراد به الجمع.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ ويوم نبعث من كل أمة شهيداً ﴾، لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على الكافرين وإنكارهم لها، وذكر أن أكثرهم كافرون، أتبعه بذكر الوعيد لهم في الآخرة فقال تعالى :﴿ ويوم نبعث من كل أمة شهيداً ﴾، يعني : رسولاً وذلك اليوم، هو يوم القيامة، والمراد بالشهداء : الأنبياء يشهدون على أممهم بإنكار نعم الله عليهم وبالكفر، ﴿ ثم لا يؤذن للذين كفروا ﴾، يعني : في الاعتذار، وقيل : لا يؤذن لهم في الكلام أصلاً. وقيل : لا يؤذن لهم بالرجوع إلى دار الدنيا فيعتذروا ويتوبوا وقيل : لا يؤذن لهم في معارضة الشهود بل يشهدون عليهم ويقرونهم على ذلك، ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾، الاستعتاب : طلب العتاب، والمعتبة : هي الغلظة والموجدة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره، والرجل إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب، ويرجع إلى الرضا عنه وإذ لم يطلب العتاب منه دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه، ومعنى الآية : أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم ؛ لأن الآخرة ليست دار غضبه عليه، ومعنى الآية : أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم ؛ لأن الآخرة ليست دار تكليف، ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبوا ويرجعوا يرضوا ربهم فالاستعتاب : التعرض لطلب الرضا، وهذا باب منسد على الكفار في الآخرة.
﴿ وإذا رأى الذين ظلموا ﴾، يعني : ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، ﴿ العذاب ﴾، يعني : عذاب جهنم، ﴿ فلا يخفف عنهم ﴾، يعني : العذاب، ﴿ ولا هم ينظرون ﴾، يعني : لا يؤخرون ولا يمهلون.
﴿ وإذا رأى الذين أشركوا ﴾، يعني : يوم القيامة، ﴿ شركاءهم ﴾، يعني : أصنامهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ﴿ قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك ﴾، يعني : أرباباً وكنا نعبدهم ونتخذهم آلهة، ﴿ فألقوا ﴾، يعني : الأصنام، ﴿ إليهم ﴾، يعني : إلى عابديها، ﴿ القول إنكم لكاذبون ﴾، يعني : أن الأصنام قالت للكفار : إنكم لكاذبون، يعني : في تسميتنا آلهة، وما دعوناكم إلى عبادتنا. فإن قلت : الأصنام جماد لا تتكلم، فكيف يصح منها الكلام ؟. قلت : لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى لما بعثها، وأعادها في الآخرة، خلق فيها الحياة والنطق والعقل حتى قالت ذلك. والمقصود من إعادتها وبعثها، أن تكذب الكفار، ويراها الكفار وهي في غاية الذلة والحقارة، فيزدادون بذلك غماً وحسرة.
﴿ وألقوا ﴾، يعني : المشركين، ﴿ إلى الله يومئذ السلم ﴾، يعني أنهم استسلموا له، وانقادوا لحكمه فيهم، ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً. ﴿ وضل عنهم ﴾، يعني : وزال عن المشركين ﴿ ما كانوا يفترون ﴾، يعني : ما كانوا يكذبون في الدنيا في قولهم، إن الأصنام تشفع لهم.
﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾، يعني : ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله ورسوله. ﴿ زدناهم عذاباً فوق العذاب ﴾، يعني : زدناهم هذه الزيادة بسبب صدهم عن سبيل الله، مع ما يستحقونه من العذاب على كفرهم الأصلي، واختلفوا في هذه الزيادة ما هي ؟ فقال عبد الله بن مسعود : عقارب لها أنياب، كأمثال النخل الطوال. وقال سعيد بن جبير : حيات كالبخت، وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفاً. وقال ابن عباس ومقاتل : يعني : خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل، يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار، وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها، وقيل : يضاعف لهم العذاب ضعفاً بسبب كفرهم، وضعفاً بسبب صدهم الناس عن سبيل الله. ﴿ بما كانوا يفسدون ﴾، يعني : أن الزيادة إنما حصلت لهم بسبب صدهم عن سبيل الله، وبسبب ما كانوا يفسدون، مع ما يستحقونه من العذاب على الكفر.
قلت: الأصنام جماد لا تتكلم فكيف يصح منها الكلام؟. قلت: لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى لما بعثها، وأعادها في الآخرة، خلق فيها الحياة والنطق والعقل حتى قالت ذلك. والمقصود من إعادتها وبعثها، أن تكذب الكفار ويراها الكفار وهي في غاية الذلة والحقارة، فيزدادون بذلك غما وحسرة وَأَلْقَوْا يعني المشركين إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ يعني أنهم استسلموا له، وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا وَضَلَّ عَنْهُمْ يعني وزال عن المشركين ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني ما كانوا يكذبون في الدنيا في قولهم، إن الأصنام تشفع لهم الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله ورسوله زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ يعني زدناهم هذه الزيادة بسبب صدهم عن سبيل الله مع ما يستحقونه من العذاب على كفرهم الأصلي، واختلفوا في هذه الزيادة ما هي فقال عبد الله بن مسعود: عقارب لها أنياب، كأمثال النخل الطوال. وقال سعيد بن جبير: حيات كالبخت وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفا. وقال ابن عباس ومقاتل: يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار، وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها وقيل: يضاعف لهم العذاب ضعفا بسبب كفرهم وضعفا بسبب صدهم الناس عن سبيل الله بِما كانُوا يُفْسِدُونَ يعني أن الزيادة إنما حصلت لهم بسبب صدهم عن سبيل الله، وبسبب ما كانوا يفسدون مع ما يستحقونه من العذاب على الكفر.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٨٩ الى ٩٧]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: يريد الأنبياء. قال المفسرون: كل نبي شاهد على أمته وهو أعدل شاهد عليها مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني منهم لأن كل نبي إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ليشهدوا عليهم وبما فعلوا من كفر وإيمان وطاعة وعصيان وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ يعني على قومك وأمتك وتم الكلام هنا ثم قال تبارك وتعالى وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ اسم من البيان قال مجاهد: يعني لما أمر به وما نهى عنه. وقال أهل المعاني: تبيانا لكل شيء يعني من أمور الدين إما
94
بالنص عليه أو بالإحالة على ما يوجب العلم به من بيان النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن ما في القرآن من الأحكام والحدود والحلال والحرام، وجميع المأمورات والمنهيات، وإجماع الأمة فهو أيضا أصل ومفتاح لعلوم الدين وَهُدىً يعني من الضلالة وَرَحْمَةً يعني لمن آمن به وصدقه وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ يعني وفيه بشرى للمسلمين من الله عز وجل. وقوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ قال ابن عباس: العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان أداء الفرائض. وفي رواية عنه قال: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك إن كان مؤمنا تحب أن يزداد إيمانا، وإن كان كافرا تحب أن يكون أخاك في الإسلام. وقال في رواية أخرى عنه: العدل التوحيد والإحسان الإخلاص، وأصل العدل في اللغة المساواة في كل شيء من غير زيادة في شيء ولا غلو ولا نقصان فيه، ولا تقصير فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه والشر بأن تعفو عنه: وقيل: العدل الإنصاف ولا إنصاف أعظم من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وقيل يأمر بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ما هو حسن وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يعني ويأمر بصلة الرحم وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك فيستحب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودد وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ قال ابن عباس: يعني الزنا. وقال غيره الفحشاء، ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة وَالْمُنْكَرِ قال ابن عباس: يعني الشرك والكفر. وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وَالْبَغْيِ يعني الكبر والظلم. وقيل: البغي هو التطاول على الغير على سبيل الظلم والعدوان. قال بعضهم: إن أعجل المعاصي البغي ولو أن جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي. وقال ابن عيينة في هذه الآية: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته والفحشاء والمنكر والبغي، أن تكون علانيته أحسن من سريرته، وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر: العدل وهو الإنصاف، والمساواة في الأقوال والأفعال وذكر في مقابلته الفحشاء، وهي ما قبح من الأقوال والأفعال وذكر الإحسان، وهو أن تعفو عمن ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك وذكر في مقابلته المنكر، وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به صلة القرابة والتودد إليهم، والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي، وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم ثم قال تعالى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني إنما أمركم بما أمركم به ونهاكم عما نهاكم عنه، لكي تتعظوا وتتذكروا فتعملوا، بما فيه رضا الله تعالى. قال ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية. وقال أهل المعاني: لما قال الله تعالى في الآية الأولى، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال، فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم، مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية وروى عكرمة أن النبي صلّى الله عليه
وسلّم، قرأ على الوليد بن المغيرة أنّ الله يأمر بالعدل إلى آخر الآية، فقال له: «يا ابن أخي أعد عليّ» فأعادها عليه فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر. قوله عز وجل وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة المأمورات والمنهيات على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض ذلك الإجمال على التفصيل فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، لأنه آكد الحقوق فقال تعالى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام، فأمرهم بالوفاء بهذه البيعة، وقيل: المراد منه كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد أيضا لأن الوعد من العهد، وقيل: العهد هاهنا اليمين. قال القتيبي: العهد يمين وكفارته كفارة يمين فعلى هذا يجب الوفاء به إذا كان فيه صلاح أما إذا لم يكن فيه صلاح، فلا يجب الوفاء به لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير،
95
وليكفّر عن يمينه» فيكون قوله وأوفوا بعهد الله من العام الذي خصصته السنة. وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، ويشهد لهذا التأويل قوله صلّى الله عليه وسلّم «كل حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة» وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها يعني تشديدها فتحنثوا فيها وفيه دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا يعني شهيدا بالوفاء بالعهد إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يعني من وفاء العهد ونقضه ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلا لنقض العهد فقال تعالى وَلا تَكُونُوا يعني في نقض العهد كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ يعني من بعد إبرامه وإحكامه. قال الكلبي ومقاتل: هذه امرأة من قريش يقال لها ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسة، وكانت قد اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف، أو الشعر أو الوبر وتأمر جواريها بالغزل فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها. والمعنى: أن هذه المرأة، لم تكف عن العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك من نقض العهد لا تركه ولا حين عاهد وفي به أَنْكاثاً جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل أو الحبل بعد الفتل تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ يعني دغلا وخيانة وخديعة، والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل: الدخل والدغل أن يظهر الرجل الوفاء بالعهد ويبطن نقضه أَنْ تَكُونَ يعني لأن تكون أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ يعني أكثر وأعلى من أمة. قال مجاهد: وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر من أولئك وأعز نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر. والمعنى: أنكم طلبتم العز بنقض العهد لأن كانت أمة أي جماعة أكثر من جماعة فنهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بالوفاء بالعهد لمن عاهدوا وحالفوا، إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يعني يختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهد وهو أعلم بكم وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني في الدنيا فيثيب الطائع المحق، ويعاقب المسيء الخالف قوله سبحانه وتعالى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً يعني على ملة واحدة ودين واحد، وهو دين الإسلام وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يعني بخذلانه إياه عدلا منه وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بتوفيقه إياه فضلا منه وذلك مما اقتضته الحكمة الإلهية لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وهو قوله تعالى وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته أو يغفر له. قوله عز وجل وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ يعني خديعة وفسادا بينكم فتغروا بها الناس فيسكنوا إلى أيمانكم، ويأمنوا إليكم ثم تنقضونها. وإنما كرر هذا المعنى تأكيدا عليهم وإظهارا لعظم أمر نقض العهد. قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام نهاهم عن نقض عهده، لأن الوعيد الذي بعده وهو قوله سبحانه وتعالى: فنزل قدم بعد ثبوتها لا
يليق بنقض عهد غيره، إنما يليق بنقض عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإيمان به وبشريعته وقوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها مثل يذكر لكل من وقع في بلاء ومحنة بعد عافية ونعمة أو سقط في ورطة بعد سلامة. تقول العرب لكل واقع في بلاء بعد عافية: زلت قدمه، والمعنى:
فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام، بعد ثبوتها عليها وَتَذُوقُوا السُّوءَ يعني العذاب بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني بسبب صدكم غيركم عن دين الله وذلك لأن من نقض العهد، فقد علّم غيره نقض العهد فيكون هو أقدمه على ذلك وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني بنقضكم العهد وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني ولا تنقضوا عهودكم وتطلبوا بنقضها عوضا من الدنيا قليلا، ولكن أوفوا بها إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ يعني فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بالعهد هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني من عاجل الدنيا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك فقال تبارك وتعالى ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ يعني من متاع الدنيا، ولذاتها يفنى ويذهب وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ يعني من ثواب الآخرة ونعيم الجنة وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا يعني على الوفاء بالعهد على السراء والضراء أَجْرَهُمْ يعني ثواب صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحب دنياه أضر
96
قوله سبحانه وتعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾، قال ابن عباس : العدل : شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان : أداء الفرائض. وفي رواية عنه قال : العدل : خلع الأنداد، والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، إن كان مؤمناً تحب أن يزداد إيماناً، وإن كان كافراً تحب أن يكون أخاك في الإسلام. وقال في رواية أخرى عنه : العدل : التوحيد، والإحسان : الإخلاص، وأصل العدل في اللغة : المساواة في كل شيء، من غير زيادة في شيء ولا غلو ولا نقصان فيه، ولا تقصير. فالعدل : هو المساواة في المكافأة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. والإحسان : أن تقابل الخير بأكثر منه، والشر بأن تعفوا عنه. وقيل : العدل : الإنصاف، ولا إنصاف أعظم من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان : أن تحسن إلى من أساء إليك، وقيل : يأمر بالعدل : في الأفعال، والإحسان : في الأقوال، فلا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ما هو حسن. ﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾، يعني : ويأمر بصلة الرحم، وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك، فيستحب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله، فإن لم يكن لك فضل، فدعاء حسن وتودد. ﴿ وينهى عن الفحشاء ﴾، قال ابن عباس : يعني : الزنا. وقال غيره : الفحشاء : وما قبح من القول والفعل، فيدخل فيه الزنا وغيره، من جميع الأقوال والأفعال المذمومة. ﴿ والمنكر ﴾، قال ابن عباس : يعني : الشرك والكفر. وقال غيره : المنكر : ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. ﴿ والبغي ﴾، يعني : الكبر والظلم. وقيل : البغي : هو التطاول على الغير على سبيل الظلم والعدوان. قال بعضهم : إن أعجل المعاصي البغي، ولو أن جبلين بغى أحدهما على الآخر، لدك الباغي. وقال ابن عيينة في هذه الآية : العدل : استواء السر والعلانية، والإحسان : أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر والبغي، أن تكون علانتيه أحسن من سريرته، وقال بعضهم : إن الله سبحانه وتعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر : العدل وهو الإنصاف، والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء، وهي ما قبح من الأقوال والأفعال. وذكر الإحسان، وهو أن تعفو عمن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك، وذكر في مقابلته المنكر، وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك. وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به : صلة القرابة والتودد إليهم، والشفقة عليهم، وذكر في مقابلته البغي، وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم. ثم قال تعالى :﴿ يعظكم لعلكم تذكرون ﴾، يعني : إنما أمركم بما أمركم به، ونهاكم عما نهاكم عنه، لكي تتعظوا وتتذكروا فتعملوا، بما فيه رضا الله تعالى. قال ابن مسعود : إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية. وقال أهل المعاني : لما قال الله تعالى في الآية الأولى، ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء، بيَّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال، فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم، مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية. وروى عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قرأ على الوليد بن المغيرة أنّ الله يأمر بالعدل إلى آخر والآية، فقال له :« يا ابن أخي أعد عليّ » فأعادها عليه، فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
قوله عز وجل :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾، لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة المأمورات والمنهيات على سبيل الإجمال، ذكر هذه الآية بعض ذلك الإجمال على التفصيل، فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد ؛ لأنه آكد الحقوق، فقال تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾، نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأمرهم بالوفاء بهذه البيعة، وقيل : المراد منه كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد أيضاً ؛ لأن الوعد من العهد، وقيل : العهد هاهنا اليمين. قال القتيبي : العهد يمين، وكفارته كفارة يمين، فعلى هذا يجب الوفاء إذا كان فيه صلاح، أما إذا لم يكن فيه صلاح، فلا يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم :« من حلف يميناً، ثم رأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه ». فيكون قوله :﴿ وأوفوا بعهد الله ﴾، من العام الذي خصصته السنة. وقال مجاهد وقتادة : نزلت في حلف أهل الجاهلية، ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم :« كل حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة. » ﴿ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾، يعني : تشديدها، فتحنثوا فيها، وفيه دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين ؛ لأنه أعم منها. ﴿ وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ﴾، يعني : شهيداً بالوفاء بالعهد. ﴿ إن الله يعلم ما تفعلون ﴾، يعني : من وفاء العهد ونقضه، ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لنقض العهد.
قال تعالى :﴿ ولا تكونوا ﴾، يعني : في نقض العهد، ﴿ كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ﴾، يعني : من بعد إبرامه وإحكامه. قال الكلبي ومقاتل : هذه امرأة من قريش يقال لها : ربطة بن عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم، وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسة، وكانت قد اتخذت مغزلاً قدر ذراع، وصنارة مثل الإصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف، أو الشعر أو الوبر، وتأمر جواريها بالغزل، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها. والمعنى : أن هذه المرأة، لم تكف عن العمل، ولا حين عملت كفت عن النقض، فكذلك من نقض العهد لا تركه ولا حين عاهد وفى به. ﴿ أنكاثاً ﴾، جمع نكث، وهو ما ينقض من الغزل أو الحبل بعد الفتل. ﴿ تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ﴾، يعني : دغلاً وخيانة وخديعة، والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل : الدخل والدغل أن يظهر الرجال الوفاء بالعهد ويبطن نقضه. ﴿ أن تكون ﴾، يعني : لأن تكون، ﴿ أمة هي أربى من أمة ﴾، يعني : أكثر وأعلى من أمة. قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا قوماً أكثر من أولئك وأعز، نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر. والمعنى : أنكم طلبتم العز بنقض العهد لأن كانت أمة، أي : جماعة أكثر من جماعة، فنهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بالوفاء بالعهد لمن عاهدوا وحالفوا، ﴿ إنما يبلوكم الله به ﴾، يعني : يختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهد، وهو أعلم بكم. ﴿ وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ﴾، يعني : في الدنيا فيثيب الطائع المحق، ويعاقب المسيء الخالف.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾، يعني : على ملة واحدة ودين واحد، وهو دين الإسلام. ﴿ ولكن يضل من يشاء ﴾، يعني بخذلانه إياه عدلاً منه، ﴿ ويهدي من يشاء ﴾، بتوفيقه إياه فضلاً منه، وذلك مما اقتضته الحكمة الإلهية لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وهو قوله تعالى :﴿ ولتسألن عما كنتم تعملون ﴾، يعني : في الدنيا، فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته أو يغفر له.
قوله عز وجل :﴿ ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم ﴾، يعني : خديعة وفساداً بينكم، فتغروا بها الناس فيسكنوا إلى أيمانكم، ويأمنوا إليكم ثم تنقضونها. وإنما كرر هذا المعنى تأكيداً عليهم، وإظهاراً لعظم أمر نقض العهد. قال المفسرون : وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، نهاهم عن نقض عهده ؛ لأن الوعيد الذي بعده، وهو قوله سبحانه وتعالى :﴿ فنزل قدم بعد ثبوتها ﴾ لا يليق بنقض عهد غيره، إنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشريعته. وقوله :﴿ فتزل قدم بعد ثبوتها ﴾، مثل يذكر لكل من وقع في بلاء ومحنة بعد عافية ونعمة، أو سقط في ورطة بعد سلامة. تقول العرب لكل واقع في بلاء بعد عافية : زلت قدمه، والمعنى : فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام، بعد ثبوتها عليها. ﴿ وتذوقوا السوء ﴾، يعني : العذاب، ﴿ بما صددتم عن سبيل الله ﴾، يعني : بسبب صدكم غيركم عن دين الله ؛ وذلك لأن من نقض العهد، فقد علّم غيره نقض العهد، فيكون هو أقدمه على ذلك. ﴿ ولكم عذاب عظيم ﴾، يعني : بنقضكم العهد.
﴿ ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً ﴾، يعني : ولا تنقضوا عهودكم وتطلبوا بنقضها عوضاً من الدنيا قليلاً، ولكن أوفوا بها. ﴿ إنما عند الله ﴾، يعني : فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بالعهد ﴿ هو خير لكم ﴾، يعني : من عاجل الدنيا. ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾، يعني : فضل ما بين العوضين، ثم بين ذلك فقال تبارك وتعالى :﴿ ما عندكم ينفد ﴾.
قال تبارك وتعالى :﴿ ما عندكم ينفد ﴾، يعني : من متاع الدنيا ولذاتها، يفنى ويذهب. ﴿ وما عند الله باق ﴾، يعني : من ثواب الآخرة ونعيم الجنة. ﴿ ولنجزين الذين صبروا ﴾، يعني : على الوفاء بالعهد على السراء والضراء. ﴿ أجرهم ﴾، يعني : ثواب صبرهم، ﴿ بأحسن ما كانوا يعملون ﴾. عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ».
قوله سبحانه وتعالى :﴿ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ﴾، فإن قلت : من عمل صالحاً يفيد العموم، فما فائدة الذكر والأنثى ؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر وأطلق، كان الظاهر تناوله للذكر دون الأنثى، فقيل : من ذكر أو أنثى، على التبيين، ليعلم الوعد للنوعين جميعاً، وجواب آخر : وهو أن الآية واردة بالوعد بالثواب والمبالغة في تقرير الوعد، من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكد وإزالة لِوَهْمِ التخصيص، وقوله : وهو مؤمن، جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب، ﴿ فلنحيينه حياة طيبة ﴾، قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال، وقال مقاتل : هي العيش في الطاعة، وقيل : هي حلاوة الطاعة. وقال الحسن : هي القناعة. وقيل : رزق يوم بيوم، واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا، وإن كان فقيراً أطيب من عيش الكافر وإن كان غنياً ؛ لأن المؤمن لما علم أن رزقه من عند الله، وذلك بتقديره وتدبيره، وعرف أن الله محسن كريم متفضل لا يفعل إلا الصواب، فكان المؤمن راضياً عن الله، وراضياً بما قدره الله له ورزقه إياه، وعرف أنه له مصلحة في ذلك القدر الذي رزقه إياه، فاستراحت نفسه من الكد والحرص، فطاب عيشه بذلك، وأما الكافر أو الجاهل بهذه الأصول الحريص على طلب الرزق، فيكون أبداً في حزن وتعب وعناء وحرص وكد، ولا ينال من الرزق إلا ما قدر له، فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره. وقال السدي : الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر ؛ لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة : في قوله :﴿ فلنحيينه حياة طيبة ﴾، هي الجنة. وروى العوفي عن الحسن، قال : لا تطيب لأحد الحياة إلا في الجنة ؛ لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة، فثبت بهذا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولقوله في سياق الآية :﴿ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ ؛ لأن ذلك الجزاء إنما يكون في الجنة.
بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» وقوله سبحانه وتعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فإن قلت: من عمل صالحا يفيد العموم فما فائدة الذكر والأنثى؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر وأطلق، كان الظاهر تناوله للذكر دون الأنثى فقيل من ذكر أو أنثى على التبيين، ليعلم الوعد للنوعين جميعا وجواب آخر وهو أن الآية واردة بالوعد بالثواب والمبالغة في تقرير الوعد، من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتا للتأكد، وإزالة لوهم التخصيص، وقوله: وهو مؤمن، جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح موجبا للثواب فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال سعيد بن جبير وعطاء: هي الرزق الحلال، وقال مقاتل:
هي العيش في الطاعة، وقيل: هي حلاوة الطاعة. وقال الحسن هي القناعة وقيل رزق يوم بيوم، واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا، وإن كان فقيرا أطيب من عيش الكافر وإن كان غنيا لأن المؤمن لما علم أن رزقه من عند الله، وذلك بتقديره وتدبيره وعرف أن الله محسن كريم متفضل لا يفعل إلا الصواب، فكان المؤمن راضيا عن الله وراضيا بما قدره الله له ورزقه إياه، وعرف أنه له مصلحة في ذلك القدر الذي رزقه إياه فاستراحت نفسه من الكد والحرص فطاب عيشه بذلك وأما الكافر أو الجاهل بهذه الأصول الحريص على طلب الرزق فيكون أبدا في حزن وتعب وعناء وحرص وكد ولا ينال من الرزق إلا ما قدر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره.
وقال السدي: الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة: في قوله فلنحيينه حياة طيبة هي الجنة. وروى العوفي عن الحسن، قال: لا تطيب لأحد الحياة إلا في الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاة، فثبت بهذا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولقوله في سياق الآية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأن ذلك الجزاء إنما يكون في الجنة. قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٩٨ الى ١٠٢]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه غيره من أمته، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان غير محتاج إلى الاستعاذة، وقد أمر بها فغيره أولى بذلك، ولما كان الشيطان ساعيا في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم وكانت الاستعاذة بالله مانعة من ذلك، فلهذا السبب أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة، حتى تكون مصونة من وسواس الشيطان عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي صلاة، قال عمر: ولا أدري أي صلاة هي. قال: الله أكبر كبيرا ثلاثا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخته ونفثته وهمزته. قال: نفخته الكبر ونفثته السحر وهمزته المونة أخرجه أبو داود. المونة الجنون والفاء في قوله فاستعذ بالله للتعقيب. فظاهر لفظ الآية يدل على أن الاستعاذة بعد القراءة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وجماعة وداود الظاهري. قالوا: لأن قارئ القرآن يستحق ثوابا عظيما وربما حصلت الوساوس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أم لا؟ فإذا استعاذ بعد القراءة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصا فأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار، فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة، قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاستعذ بالله ومثله قوله سبحانه وتعالى «إذا قمتم إلى
﴿ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾، لما أمر الله رسوله صلى الله عليه سلم بالاستعاذة من الشيطان، فكأن ذلك أوهم أن له سلطان، يعني : ليس له قدرة، ولا ولاية على الذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون، قال سفيان ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر، ويظهر من هذا١ أن الاستعاذة، إنما تفيد إذا حضر بقلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنه لا يمكنه التحفظ من وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة إلا بتوفيق الله.
١ قوله ويظهر من هذا، اسم الإشارة راجع لما ذكره قبل قول سفيان كما يعلم من الفخر فإنه لم يذكر في هذا المحل قول سفيان وذكر ما قبله وما بعده وعبارته صحيحة بخلاف ما هنا فإنه يوهم رجوع اسم الإشارة لقول سفيان وهو غير ظاهر ا هـ..
قال تعالى :﴿ إنما سلطانه على الذين يتولونه ﴾، يعني : يطيعونه ويدخلون في ولايته، يقال : توليته إذا أطعته، وتوليت عنه إذا أعرضت عنه. ﴿ والذين هم به مشركون ﴾، يعني : بالله، وقيل : الضمير في " به " راجع إلى الشيطان، والمعنى : هم من أهله مشركون بالله.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل ﴾، وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا : إن محمداً يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً، ما هو إلا مفتر، يتقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى : وإذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكماً آخر، والله أعلم بما ينزل، اعتراض دخل في الكلام، والمعنى : والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه، وبما يغير ويبدل من أحكامه، أي : هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى :﴿ قالوا إنما أنت مفتر ﴾، أي : تختلقه من عندك، والمعنى : إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ ؟ وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد، كما يقال : إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء، ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمر بغيره لما يرى فيه من المصلحة. ﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾، يعني : لا يعلمون فائدة الناسخ وتبديل النسوخ.
﴿ قل ﴾، أي : قل لهم يا محمد، ﴿ نزله ﴾، يعني : القرآن. ﴿ روح القدس ﴾، يعني : جبريل صلى الله عليه وسلم، أضيف إلى القدس وهو الطهر، كما يقال : حاتم الجود، وطلحة الخير، والمعنى : الروح المقدس المطهر، ﴿ من ربك ﴾، يعني : أن جبريل نزل بالقرآن من ربك يا محمد، ﴿ بالحق ليثبت الذين آمنوا ﴾، يعني : ليثبت بالقرآن قلوب المؤمنين فيزدادوا إيماناً ويقيناً. ﴿ وهدى وبشرى ﴾، يعني : وهو هدى وبشرى ﴿ للمسلمين ﴾.
الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم» إلخ ومثله من الكلام إذا أردت أن تأكل فقل: بسم الله وإذا أردت أن تسافر فتأهب، وأيضا فإن الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة، لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها، ومذهب عطاء أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة سنة في الصلاة وغيرها، وقد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها في أول سورة الفاتحة، والاستعاذة: الاعتصام بالله والالتجاء إليه من شر الشيطان ووسوسته. والمراد من الشيطان إبليس. وقيل: هو اسم جنس يطلق على المردة من الشياطين، لأن لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله إياهم على ذلك إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لما أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة من الشيطان فكأن ذلك أوهم أن له سلطان يعني ليس له قدرة، ولا ولاية على الذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون. قال سفيان ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر ويظهر من هذا «١» أن الاستعاذة، إنما تفيد إذا حضر بقلب الإنسان كونه ضعيفا، وأنه لا يمكنه التحفظ من وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ثم قال تعالى إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يعني يطيعونه ويدخلون في ولايته، يقال: توليته إذا أطعته وتوليت عنه إذا أعرضت عنه وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ يعني بالله، وقيل: الضمير في به راجع إلى الشيطان، والمعنى هم من أهله مشركون بالله قوله سبحانه وتعالى وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا: إن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر والله أعلم بما ينزل اعتراض دخل في الكلام، والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه، وبما يغير ويبدل من أحكامه أي هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي تختلقه من عندك، والمعنى: إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمدا إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ؟
وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد، كما يقال: إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمره بغيره لما يرى فيه من المصلحة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يعلمون فائدة الناسخ وتبديل النسوخ قُلْ أي قل لهم يا محمد نَزَّلَهُ يعني القرآن رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل صلّى الله عليه وسلّم أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وطلحة الخير، والمعنى الروح المقدس المطهر مِنْ رَبِّكَ يعني أن جبريل نزل بالقرآن من ربك يا محمد بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني ليثبت بالقرآن قلوب المؤمنين فيزدادوا إيمانا ويقينا وَهُدىً وَبُشْرى يعني وهو هدى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
(١). قوله ويظهر من هذا، اسم الإشارة راجع لما ذكره قبل قول سفيان كما يعلم من الفخر فإنه لم يذكر في هذا المحل قول سفيان وذكر ما قبله وما بعده وعبارته صحيحة بخلاف ما هنا فإنه يوهم رجوع اسم الإشارة لقول سفيان وهو غير ظاهر اهـ.
﴿ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾، يعني : لا يصدقون أنها من عند الله، ﴿ لا يهديهم الله ﴾، يعني : لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان.
﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾، يعني : إنما يقدم على فرية الكذب من لا يؤمن بآيات الله، فهو رد لقول كفار قريش : إنما أنت مفترٍ. ﴿ وأولئك هم الكاذبون ﴾، يعني : في قولهم : إنما يعلمه بشر لا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت : قد قال تبارك وتعالى :﴿ إنما يفتري الكذب ﴾، فما معنى قوله تعالى :﴿ وأولئك هم الكاذبون ﴾، والثاني هو الأول ؟ قلت : قوله سبحانه وتعالى :﴿ إنما يفتري الكذب ﴾، أخبار عن حال قولهم، وقوله :﴿ وأولئك الكاذبون ﴾، نعت لازم لهم، كقول الرجل لغيره كذبت وأنت كاذب، أي : كذبت في هذا القول، ومن عادتك الكذب، وفي الآية دليل على أن الكذب من أفحش الذنوب الكبار ؛ لأنه الكذاب المفتري، هو الذي لا يؤمن بآيات الله. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جراد قال :« قلت : يا رسول الله المؤمن يزني ؟ قال : قد يكون ذلك. قلت : المؤمن يسرق ؟ قال : قد يكون ذلك. قلت : المؤمن يكذب قال : لا.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله، وليس هو من عند الله كما يزعم فأجابهم الله بقوله ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر واختلفوا في ذلك البشر من هو فقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلم قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيا أعجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه ويخرج من عنده، فكانوا يقولون إنما يعلمه بلعام. وقال عكرمة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرئ غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش فكان يقرأ الكتب؟ فقالت قريش: إنما يعلمه يعيش، وقال محمد بن إسحاق: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني عبد لبعض بني الحضرمي يقال له: جبر وكان يقرأ الكتب. وقال عبيد الله بن مسلمة: كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما: يسار ويكنى أبا فكيهة، ويقال للآخر: جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل بمكة فربما مر بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وهما يقرآن فيقف ويستمع قال الضحاك: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما فيتروح بكلامهما، فقال المشركون إنما يتعلم محمد منهما. وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلم محمد من عائش المملوك كان لحويطب بن عبد العزى كان نصرانيا، وقد أسلم وحسن إسلامه وكان أعجميا، وقيل: هو عداس غلام عتبة بن ربيعة. والحاصل أن الكفار اتهموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا إنما يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يضيفها لنفسه، ويزعم أنه وحي من الله عز وجل وهو كاذب في ذلك فأجاب الله عنه، وأنزل هذه الآية تكذيبا لهم فيما رموا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكذب فقال تعالى لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ يعني يميلون، ويشيرون إليه أَعْجَمِيٌّ يعني هو أعجمي والأعجمي هو الذي لا يفصح في كلامه، وإن كان يسكن البادية ومنه سمي زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان من العرب، والعجمي منسوب إلى العجم، وإن كان فصيحا بالعربية والأعرابي الذي يسكن البادية، والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب وهو منسوب إلى العرب وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ يعني بين الفصاحة والبلاغة ووجه الجواب، هو أن الذي يشيرون إليه رجل أعجمي في لسانه عجمة تمنعه من الإتيان بفصيح الكلام ومحمد صلّى الله عليه وسلّم جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم أنتم عنه، وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة، فكيف يقدر من هو أعجمي على مثله وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي يشيرون إليه، فثبت بهذا البرهان، أن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وحي أوحاه الله إليه وليس هو من تعليم الذي يشيرون إليه ولا هو أتى به من تلقاء نفسه بل هو وحي من الله عز وجل إليه وروي أن الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني لا يصدقون أنها من عند الله لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ يعني لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ
يعني إنما يقدم على فرية الكذب من لا يؤمن بآيات الله فهو رد لقول كفار قريش إنما أنت مفتر وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ يعني في قولهم، إنما يعلمه بشر لا محمد صلّى الله عليه وسلّم. فإن قلت: قد قال تبارك وتعالى إنما يفتري الكذب فما معنى قوله تعالى وأولئك هم الكاذبون والثاني هو الأول؟ قلت: قوله سبحانه وتعالى إنما يفتري الكذب إخبار عن حال قولهم، وقوله: وأولئك الكاذبون نعت لازم لهم كقول الرجل لغيره كذبت وأنت كاذب، أي كذبت في هذا القول ومن عادتك الكذب، وفي الآية دليل على أن الكذب من أفحش الذنوب الكبار لأن الكذاب المفتري، هو الذي لا يؤمن بآيات الله. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جراد قال: «قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك قلت: المؤمن يكذب قال: لا قال الله تعالى إنما يفتري
الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله»
. قوله تعالى:
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٠٦ الى ١١٧]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
99
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ نزلت في عمار بن ياسر وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية، وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام، فأما سمية أم عمار فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قلبها بحربة، فقتلت، وقتل زوجها ياسر فهما أول قتيلين قتلا في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرها. قال قتادة أخذ بنو المغيرة عمار وغطوه في بئر ميمون وقالوا له: اكفر بمحمد فبايعهم على ذلك وقلبه كاره، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عمارا كفر. فقال «كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما وراءك قال: شر يا رسول الله نلت منك وذكرت. فقال: كيف وجدت قلبك قال: مطمئنا بالإيمان فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينيه. وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد:
نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هاجروا إلينا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم عن دينهم فكفروا كارهين، وهذا القول ضعيف لأن الآية مكية وكان هذا في أول الإسلام قبل أن يؤمروا بالهجرة، وقال مقاتل: نزلت في جبر مولى عامر ابن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر، فكفر مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان ثم أسلم عامر بن الحضرمي مولى جبر، وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة والأولى أن يقال إن الآية عامة في كل من أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وإن كان السبب خاصا. فإن قلت: المكره على الكفر ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر، فما معنى هذا الاستثناء فيه إلا من أكره. قلت: المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا صح هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة والله أعلم.

فصل في حكم الآية


قال العلماء: يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد والإيلامات القوية، مثل التحريق بالنار ونحوه. قال العلماء: أول من
100
أظهر الإسلام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعة: أبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأبوه ياسر وأمه سمية فأما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب وأما أبو بكر، فمنعه قومه وعشيرته وأخذ الآخرون، وألبسوا أدراع الحديد وأجلسوا في حر الشمس بمكة، فأما بلال فكانوا يعذبونه وهو يقول أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه وقتل ياسر وسمية كما تقدم. وقال خباب: لقد أوقدوا لي نارا ما أطفأها إلا ودك ظهري.
وأجمعوا على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة تصريحا بل يأتي بالمعاريض، وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان غير معتقد، ما يقوله من كلمة الكفر ولو صبر حتى قتل كان أفضل لأن ياسرا وسمية قتلا ولم يتلفظا بكلمة الكفر، ولأن بلالا صبر على العذاب ولم يلم على ذلك. قال العلماء: من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، والميتة ونحوها فمن أكره بالسيف أو القتل على أن يشرب الخمر أو يأكل الميتة أو لحم الخنزير أو نحوها، جاز له ذلك لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وقيل: لا يجوز له ذلك ولو صبر كان أفضل، ومن الأفعال ما لا يتصور الإكراه عليه كالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنع انتشار الآلة فلا يتصور فيه الإكراه واختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه وأكثر العلماء: لا يقع طلاق المكره. وقال أبو حنيفة: يقع. حجة الشافعي ومن وافقه قوله سبحانه وتعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته، لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به، وقوله تعالى وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً يعني فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني في الآخرة ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ يعني يكون ذلك الإقدام على الارتداد إلى الكفر، لأجل أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل به أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ تقدم تفسيره وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ يعني عما يراد بهم من العذاب في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني أن الإنسان إنما يعمل في الدنيا، ليربح في الآخرة فإذا دخل النار بان خسرانه وظهر غبنه لأنه ضيع رأس ماله، وهو الإيمان ومن ضيع رأس ماله فهو خاسر. قوله عز وجل ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا يعني عذبوا ومنعوا من الدخول في الإسلام فتنهم المشركون ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا على الإيمان والهجرة والجهاد إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعني من بعد الفتنة التي فتنوها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة، وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل كان أخاه لأمه وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام وعبد الله ابن أسد الثقفي فتنهم المشركون، وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا. وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم، وكان يكتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فاستزله الشيطان، فارتد ولحق بدار الحرب فلما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتله فاستجاره عثمان، وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وحسن إسلامه وهذا القول إنما يصح إذا قلنا: إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة فتكون من الآيات المدنيات في السور المكيات، والله أعلم بحقيقة ذلك قوله سبحانه وتعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها يعني تخاصم وتحتج عن نفسها أي بما أسلفت من خير وشر، واشتغلت بالمجادلة لا تتفرغ إلى غيرها. فإن قلت: النفس هي نفس واحدة، وليس لها نفس أخرى فما معنى قوله كل نفس تجادل عن نفسها؟ قلت: إن النفس قد يراد بها بدن الإنسان، وقد يراد بها مجموع ذاته وحقيقته فالنفس الأولى هي مجموع ذات الإنسان وحقيقته والنفس الثانية، هي بدنه فهي عينها وذاتها أيضا، والمعنى: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه غيره ومعنى هذه المجادلة الاعتذار بما لا يقبل منه كقولهم والله ربنا ما كنا مشركين،
101
ونحو ذلك من الاعتذارات وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ يعني جزاء ما عملت في الدنيا من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني لا ينقصون
من جزاء أعمالهم شيئا، بل يوفون ذلك كاملا من غير زيادة ولا نقصان.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: خوفنا فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبيا، لأتت عليك ساعات وأنت لا يهمك إلا نفسك وإن جهنم لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى إبراهيم خليل الرحمن يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإن تصديق ذلك فيما أنزل الله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: يا رب لم تكن لي أيد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد: يا رب خلقتني كالخشبة، ليست لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فيه نطق لساني، وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي فضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد دخلا حائطا، يعني بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمار والمقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب. قوله عز وجل وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره، وقيل: هو عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، قال الإمام فخر الدين الرازي: المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء، كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئا مفروضا، ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثر من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلا لمكة ومثل مكة يكون غير مكة، وقال الزمخشري في كتابه الكشاف: وضرب الله مثلا قرية أي جعل القرية التي هذه حالها، مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضرب الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها وقال الواحدي: ضرب المثل ببيان المشبه والمشبه به، وهاهنا ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين، والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن، والنعمة بتكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فتقدير الآية ضرب الله مثلا لقريتكم أي بين الله لها شبها ثم قال: قرية فيجوز أن تكون القرية بدلا من مثلا لأنها هي الممثل بها، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله مثلا، مثل قرية فحذف المضاف هذا قول الزجاج والمفسرون كلهم قالوا: أراد بالقرية مكة يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر. وقال ابن الجوزي: في هذه القرية قولان: أحدهما أنها مكة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وهو الصحيح، والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع، قاله الحسن. وأقول: هذه الآية نزلت بالمدينة في قول مقاتل وبعض المفسرين، وهو الصحيح لأن الله سبحانه وتعالى وصف هذه القرية بصفات ستة كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة، فضربها الله مثلا لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم، فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف، ويشهد لصحة ما قلت إن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف هو البعوث والسرايا التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبعثها في قول جميع المفسرين لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بالقتال، وهو بمكة وإنما أمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث البعوث والسرايا إلى حول مكة يخوّفهم بذلك، وهو بالمدينة والله أعلم بمراده، وأما تفسير قوله تعالى: وضرب الله مثلا قرية يعني مكة كانَتْ آمِنَةً يعني ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم مُطْمَئِنَّةً يعني قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع كما كان يحتاج إليه سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً يعني واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ يعني يحمل إليها الرزق
102
والميرة من البر والبحر
. نظيره قوله سبحانه وتعالى تجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وهو قوله «وارزق أهله من الثمرات» فَكَفَرَتْ يعني هذه القرية والمراد أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع نعمة والمراد بها سائر النعم التي أنعم الله بها على أهل مكة فلما قابلوا نعم الله التي أنعم بها عليهم بالجحود والكفر، لا جرم أن الله تعالى انتقم منهم فقال تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر وقطعت عنهم العرب الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب والميتة والعهن، وهو الوبر يعالج بالدم ويخلط به حتى يؤكل، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، وقالوا: ما هذا هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حمل الطعام إليهم، وهم بعد مشركون. والخوف يعني خوف بعوث النبي صلّى الله عليه وسلّم وسراياه التي كان يبعثها للإغارة فكانت تطيف بهم وتغير على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم. فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما، والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة إيقاعها عليه، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس، فيقال كساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع قلت: قال صاحب الكشاف: أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر، والألم بما يدرك من طعم المر البشع وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان، والتلبس به من بعض الحوادث وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ثم ذكر بعده من علم المعاني والبيان ما يشهد لصحة ما قال. وقال الإمام فخر الدين الرازي: جوابه من وجوه، الأول، أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان: أحدهما أن المذوق هو الطعام فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني، أن ذلك الجوع كان شديدا كاملا فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس، والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، الوجه الثاني: أن التقدير أن الله عرفها أثر لباس الجوع والخوف، إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فوضع موضع التعرف، وهو الاختبار تقول ناظر فلانا وذاق ما عنده:
ومن يذق الدنيا فاني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
ولباس الجوع والخوف ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون ونهكة البدن وتغيير الحال وكسوف البال، كما تقول: تعرفت سوء أثر الجوع والخوف على فلان، كذلك يجوز أن تقول: ذقت لباس الجوع والخوف على فلان. الوجه الثالث: أن يحمل لفظ الذوق واللبس على المماسة، فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف ثم قال تعالى بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ولم يقل بما صنعت لأنه أراد أهل القرية، والمعنى: فعلنا بهم ما فعلنا بسبب ما كانوا يصنعون، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عز وجل عليهم بالنعمة العظيمة وهي إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو منهم فكفروا به وكذبوه وبالغوا في إيذائه، وأرادوا قتله فأخرجه الله من بينهم وأمره بالهجرة إلى المدينة وسلط على أهل مكة البلاء والشدائد والجوع والخوف كل ذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخروجه من بين أظهرهم. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يعرفون نسبه، ويعرفونه قبل النبوة وبعدها فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ يعني الجوع والخوف وقيل القتل يوم بدر، والقول الأول أولى لما تقدم في الآية وَهُمْ ظالِمُونَ يعني كافرون فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في المخاطبين بهذا قولان: أحدهما، أنهم المسلمون، وهو قول جمهور المفسرين، والثاني، أنهم هم المشركون من أهل مكة. قال الكلبي: لما اشتد الجوع بأهل مكة كلم رؤساؤهم
103
﴿ ذلك بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة ﴾، يعني : يكون ذلك الإقدام على الارتداد إلى الكفر ؛ لأجل أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. ﴿ وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾، يعني : لا يرشدهم إلى الإيمان، ولا يوفقهم للعمل به.
﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ﴾، تقدم تفسيره، ﴿ وأولئك هم الغافلون ﴾، يعني : عما يراد بهم من العذاب في الآخرة.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ﴾، يعني : أن الإنسان إنما يعمل في الدنيا، ليربح في الآخرة، فإذا دخل النار بان خسرانه وظهر غبنه ؛ لأنه ضيع رأس ماله، وهو الإيمان، ومن ضيع رأس ماله فهو خاسر.
قوله عز وجل :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾، يعني : عذبوا ومنعوا من الدخول في الإسلام فتنهم المشركون، ﴿ ثم جاهدوا وصبروا ﴾، على الإيمان والهجرة والجهاد، ﴿ إن ربك من بعدها ﴾، يعني : من بعد الفتنة التي فتنوها، ﴿ لغفور رحيم ﴾، نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة، وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل : كان أخاه لأمه، وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام وعبد الله ابن أسد الثقفي فتنهم المشركون، وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا.
وقال الحسن وعكرمة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستنزله الشيطان، فارتد ولحق بدار الحرب فلما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجاره عثمان، وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه، وهذا القول إنما يصح إذا قلنا : إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة فتكون من الآيات المدنيات في السور المكيات، والله أعلم بحقيقة ذلك.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾، يعني : تخاصم وتحتج عن نفسها، أي : بما أسلفت من خير وشر، واشتغلت بالمجادلة لا تتفرغ إلى غيرها. فإن قلت : النفس هي نفس واحدة، وليس لها نفس أخرى، فما معنى قوله كل نفس تجادل عن نفسها ؟ قلت : إن النفس قد يراد بها بدن الإنسان، وقد يراد بها مجموع ذاته وحقيقته، فالنفس الأولى هي مجموع ذات الإنسان وحقيقته، والنفس الثانية هي بدنه فهي عينها وذاتها أيضاً، والمعنى : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه غيره، ومعنى هذه المجادلة الاعتذار بما لا يقبل منه، كقولهم :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾، ونحو ذلك من الاعتذارات. ﴿ وتوفى كل نفس ما عملت ﴾، يعني : جزاء ما عملت في الدنيا من خير أو شر، ﴿ وهم لا يظلمون ﴾، يعني : لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئاً، بل يوفون ذلك كاملاً من غير زيادة ولا نقصان. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار : خوفنا، فقال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبياً، لأتت عليك ساعات وأنت لا يهمك إلا نفسك، وإن جهنم لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه، حتى إبراهيم خليل الرحمن يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإن تصديق ذلك فيما أنزل الله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح : يا رب لم تكن لي أيدٍ أبطش بها، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد : يا رب خلقتني كالخشبة، ليست لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فجاء هذا الروح كشعاع النور، فبه نطق لساني، وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي، فضرب الله لهما مثلاً أعمى ومقعد دخلا حائطاً، يعني : بستاناً فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمار، والمقعد لا يناله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، فعليهما العذاب.
قوله عز وجل :﴿ وضرب الله مثلاً قرية ﴾، المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً من شيء آخر بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره، وقيل : هو عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني، أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، قال الإمام فخر الدين الرازي : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة، سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن، وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً، ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها، والأكثر من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلاً لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة، وقال الزمخشري في كتابه الكشاف : وضرب الله مثلاً قرية، أي : جعل القرية التي هذه حالها، مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضرب الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها. وقال الواحدي : ضرب المثل ببيان المشبه والمشبه به، وهاهنا ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين، والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن، والنعمة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، فتقدير الآية : ضرب الله مثلاً لقريتكم، أي : بين الله لها شبهاً، ثم قال : قرية، فيجوز أن تكون القرية بدلاً من مثلاً ؛ لأنها هي الممثل بها، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله مثلاً، مثل قرية، فحذف المضاف، هذا قول الزجاج، والمفسرون كلهم قالوا : أراد بالقرية مكة، يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر. وقال ابن الجوزي : في هذه القرية قولان : أحدهما أنها مكة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور، وهو الصحيح، والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع، قاله الحسن. وأقول : هذه الآية نزلت بالمدينة في قول مقاتل وبعض المفسرين، وهو الصحيح ؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف هذه القرية بصفات ستة كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة، فضربها الله مثلاً لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم، فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف، ويشهد لصحة ما قلت إن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله :" فأذاقها الله لباس الجوع والخوف "، هو البعوث والسرايا التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثها، في قول جميع المفسرين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالقتال وهو بمكة، وإنما أُمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث البعوث والسرايا إلى حول مكة يخوّفهم بذلك، وهو بالمدينة والله أعلم بمراده، وأما تفسير قوله تعالى :" وضرب الله مثلاً قرية "، يعني : مكة. ﴿ كانت آمنة ﴾، يعني : ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم. ﴿ مطمئنة ﴾، يعني : قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع، كما كان يحتاج إليه سائر العرب. ﴿ يأتيها رزقها رغداً ﴾، يعني : واسعاً، ﴿ من كل مكان ﴾، يعني : يحمل إليها الرزق والميرة من البر والبحر. نظيره قوله سبحانه وتعالى :" تجبى إليه ثمرات كل شيء "، وذلك بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله :﴿ وارزق أهله من الثمرات ﴾. ﴿ فكفرت ﴾، يعني : هذه القرية، والمراد أهلها، ﴿ بأنعم الله ﴾، جمع نعمة، والمراد بها سائر النعم التي أنعم الله بها على أهل مكة، فلما قابلوا نعم الله التي أنعم بها عليهم بالجحود والكفر، لا جرم أن الله تعالى انتقم منهم فقال تعالى :﴿ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ﴾، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر، وقطعت عنهم العرب الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف الكلاب والميتة والعهن، وهو الوبر يعالج بالدم ويخلط به حتى يؤكل، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقالوا : ما هذا ؟ ! هبك عاديت الرجال، فما بال النساء والصبيان، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون. " والخوف "، يعني : خوف بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كان يبعثها للإغارة، فكانت تطيف بهم وتغير على من حولهم من العرب، فكان أهل مكة يخافونهم. فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما، والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة إيقاعها عليه، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس، فيقال : كساهم الله لباس الجوع، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع، قلت : قال صاحب الكشاف : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر البشع، وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان، والتلبس به من بعض الحوادث، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ؛ فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ثم ذكر بعده من علم المعاني والبيان ما يشهد لصحة ما قال. وقال الإمام فخر الدين الرازي : جوابه من وجوه، الأول : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان : أحدهما أن المذوق هو الطعام، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع.
والثاني : أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس، والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال :" فأذاقهما الله لباس الجوع والخوف ". الوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها أثر لباس الجوع والخوف، إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذوق بالفم، ثم قد يستعار، فوضع موضع التعرف، وهو الاختبار، تقول : ناظر فلاناً وذاق ما عنده :
ومن يذق الدنيا طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
ولباس الجوع والخوف ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون، ونهكة البدن، وتغيير الحال، وكسوف البال، كما تقول : تعرفت سوء أثر الجوع والخوف على فلان، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان. الوجه الثالث : أن يحمل لفظ الذوق واللبس على المماسة، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف، ثم قال تعالى :﴿ بما كانوا يصنعون ﴾، ولم يقل : بما صنعت ؛ لأنه أراد أهل القرية، والمعنى : فعلنا بهم ما فعلنا بسبب ما كانوا يصنعون، وهذا مثل أهل مكة ؛ لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عز وجل عليهم بالنعمة العظيمة، وهي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وهو منهم، فكفروا به وكذبوه وبالغوا في إيذائه، وأرادوا قتله، فأخرجه الله من بينهم، وأمره بالهجرة إلى المدينة، وسلط على أهل مكة البلاء والشدائد والجوع والخوف، كل ذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه من بين أظهرهم.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ ولقد جاءهم ﴾، يعني : أهل مكة، ﴿ رسول منهم ﴾، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم يعرفون نسبه، ويعرفونه قبل النبوة وبعدها، ﴿ فكذبوه فأخذهم العذاب ﴾، يعني : الجوع والخوف، وقيل : القتل يوم بدر، والقول الأول أولى لما تقدم في الآية. ﴿ وهم ظالمون ﴾، يعني : كافرون.
﴿ فكلوا مما رزقكم الله ﴾، في المخاطبين بهذا قولان : أحدهما، أنهم المسلمون، وهو قول جمهور المفسرين، والثاني، أنهم هم المشركون من أهل مكة. قال الكلبي : لما اشتد الجوع بأهل مكة كلم رؤساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنك إنما عاديت الرجال، فما بال النساء والصبيان ؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا الطعام إليهم، حكاه الواحدي وغيره، والقول الأول هو الصحيح. قال ابن عباس : فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله، يريد الغنائم، ﴿ حلالاً طيباً ﴾، يعني : أن الله سبحانه وتعالى أحل الغنائم لهذه الأمة وطيبها لهم، ولم تحل لأحد قبلهم، ﴿ واشكروا نعمة الله ﴾، يعني : التي أنعم بها عليكم.
﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ﴾، تقدم تفسير هذه الآية وأحكامها في سورة البقرة فلم نعده هنا.
وقوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ﴾، يعني : ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب ﴿ هذا حلال وهذا حرام ﴾، يعني : أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره، فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى وسبب إلا الكذب فقط، فلا تفعلوا ذلك.
قال مجاهد : يعني : البحيرة والسائبة. وقال ابن عباس : يعني : قولهم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يحلون أشياء ويحرمون أشياء من عند أنفسهم، وينسبون ذلك إلى الله تعالى، وهو قوله تعالى :﴿ لتفتروا على الله الكذب ﴾، يعني : لا تقولوا إن الله أمرنا بذلك فتكذبوا على الله ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ثم توعد المفترين للكذب فقال سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ﴾، يعني : لا ينجون من العذاب، وقيل : لا يفوزون بخير ؛ لأن الفلاح هو الفوز بالخير والنجاح، ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب.
فقال تعالى :﴿ متاع قليل ﴾، يعني : متاعهم في الدنيا قليل فإنه لا بقاء له، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾، يعني : في الآخرة.
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنك إنما عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحملوا الطعام إليهم حكاه الواحدي وغيره والقول الأول هو الصحيح. قال ابن عباس فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله يريد الغنائم حَلالًا طَيِّباً يعني أن الله سبحانه وتعالى أحل الغنائم لهذه الأمة وطيبها لهم ولم تحل لأحد قبلهم وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ يعني التي أنعم بها عليكم إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقدم تفسير هذه الآية وأحكامها في سورة البقرة فلم نعده هنا، وقوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ يعني ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ يعني أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى وسبب إلا الكذب فقط، فلا تفعلوا ذلك. قال مجاهد: يعني البحيرة والسائبة. وقال ابن عباس: يعني قولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يحلون أشياء ويحرمون أشياء من عند أنفسهم، وينسبون ذلك إلى الله تعالى وهو قوله تعالى لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يعني لا تقولوا إن الله أمرنا بذلك فتكذبوا على الله لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله ثم توعد المفترين للكذب فقال سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ يعني: لا ينجون من العذاب، وقيل:
لا يفوزون بخير لأن الفلاح هو الفوز بالخير والنجاح ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب فقال تعالى مَتاعٌ قَلِيلٌ يعني متاعهم في الدنيا متاع قليل فإنه لا بقاء له وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة.
[سورة النحل (١٦): الآيات ١١٨ الى ١٢٣]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني ما سبق ذكره وبيانه في سورة الأنعام وهو قوله تعالى «وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» الآية وَما ظَلَمْناهُمْ يعني بتحريم ذلك عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب بغيهم وظلمهم أنفسهم ونظيره قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. وقوله تعالى ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته، لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءا بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك، يعني من بعد عمل ذلك السوء وَأَصْلَحُوا يعني أصلحوا العمل في المستقبل، وقيل معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعني من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه لَغَفُورٌ يعني لمن تاب وآمن رَحِيمٌ يعني بجميع المؤمنين والتائبين. قوله سبحانه وتعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وفلان علامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به. والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك
وقوله تعالى :﴿ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ﴾، المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته ؛ لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح، فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي، وكل من عمل السوء فإنما يفعله بجهالة ؛ لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح، فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءاً بجهالة ثم تاب، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى :﴿ ثم تابوا من بعد ذلك ﴾، يعني : من بعد عمل ذلك السوء، ﴿ وأصلحوا ﴾، يعني : أصلحوا العمل في المستقبل، وقيل : معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة، ﴿ إن ربك من بعدها ﴾، يعني : من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه، ﴿ لغفور ﴾، يعني : لمن تاب وآمن، ﴿ رحيم ﴾، يعني : بجميع المؤمنين والتائبين.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمة ﴾، حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة، وفلان علامة ونسابة، يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به. والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك وتعالى :﴿ فنادته الملائكة ﴾، وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمة ؛ لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة. ومنه قول الشاعر :
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ثم للمفسرين في معنى هذه اللفظة أقوال :
أحدها : قول ابن مسعود : الأمة معلم الخير، يعني : أنه كان معلماً للخير يأتّم به أهل الدنيا.
الثاني : قال مجاهد : إنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار ؛ فلهذا المعنى كان أمة واحدة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل :« يبعثه الله أمة واحدة » ؛ وإنما قال فيه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام.
والثالث : قال قتادة : ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه، وقيل : الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به، وكان إبراهيم عليه السلام إماماً يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى :﴿ إني جاعلك للناس إماماً ﴾، وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق، وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل : إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله، ﴿ قانتاً لله ﴾، يعني : مطيعاً لله، وقيل : هو القائم بأوامر الله، ﴿ حنيفاً ﴾، مسلماً، يعني : مقيماً على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول. وهو أول من اختتن وضحّى، وأقام مناسك الحج، ﴿ ولم يك من المشركين ﴾، يعني : أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره.
﴿ شاكراً لأنعمه ﴾، يعني : أنه كان شاكراً لله على أنعمه التي أنعم بها عليه، ﴿ اجتباه ﴾، أي : اختاره لنبوته واصطفاه لخلته، ﴿ وهداه إلى صراط مستقيم ﴾، يعني : هداه إلى دين الإسلام ؛ لأنه الصراط المستقيم والدين القويم.
﴿ وآتيناه في الدنيا حسنة ﴾، يعني : الرسالة والخلة. وقيل : هي لسان الصدق، والثناء الحسن، والقبول العام في جميع الأمم ؛ فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى، ومشركو العرب وغيرهم، وقيل : هو قول المصلي في التشهد : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل : إنه آتاه أولاداً أبراراً على الكبر. ﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾، يعني : في أعلى مقامات الصالحين في الجنة. وقيل : معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين، يعني : الأنبياء في الجنة، فتكون من بمعنى مع، ولما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه سلم باتباعه.
فقال تعالى :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ﴾، يعني : دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد. قال أهل الأصول : كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله :﴿ حنيفاً ﴾، مسلماً، ﴿ وما كان من المشركين ﴾، تقدم تفسيره.
وتعالى «فنادته الملائكة» وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة. ومنه قول الشاعر:
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ثم للمفسرين في معنى هذه اللفظة أقوال أحدها: قول ابن مسعود: الأمة معلم الخير يعني أنه كان معلما للخير يأتمّ به أهل الدنيا. الثاني قال مجاهد: إنه كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة واحدة ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في زيد بن عمرو بن نفيل «يبعثه الله أمة وحده» وإنما قال فيه هذه المقالة لأنه كان قد فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام. الثالث قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه، وقيل: الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به وكان إبراهيم عليه السلام إماما يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله قانِتاً لِلَّهِ يعني مطيعا لله وقيل هو القائم بأوامر الله حَنِيفاً مسلما يعني مقيما على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول. وهو أول من اختتن وضحّى، وأقام مناسك الحج وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره شاكِراً لِأَنْعُمِهِ يعني أنه كان شاكرا لله على أنعمه التي أنعم بها عليه اجْتَباهُ أي اختاره لنبوته واصطفاه لخلته وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني هداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم والدين القويم وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني الرسالة والخلة. وقيل: هي لسان الصدق والثناء الحسن والقبول العام في جميع الأمم فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى، ومشركو العرب وغيرهم، وقيل: هو قول المصلي في التشهد:
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل إنه آتاه أولادا أبرارا على الكبر وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني في أعلى مقامات الصالحين في الجنة. وقيل: معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين يعني الأنبياء في الجنة فتكون من بمعنى مع ولما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباعه فقال تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد. قال أهل الأصول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم مأمورا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعا له، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله حَنِيفاً مسلما وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تقدم تفسيره وقوله تعالى:
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٢٤ الى ١٢٨]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم اليهود. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أمرهم موسى بتعظيم يوم الجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئا من صنعتكم وستة أيام لصنعتكم، فأبوا عليه وقالوا
105
لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضا بيوم الجمعة. فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون اليهود فاتخذوا الأحد فأعطى الله عز وجل الجمعة لهذه الأمة فقبلوها، فبورك لهم فيها (ق) عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه، وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى» وفي رواية لمسلم «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة» وفي رواية أخرى له قال «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في الدنيا، الأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق» قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: قال العلماء في معنى الحديث: نحن الآخرون في الزمان والوجود السابقون في الفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم. وقوله بيد أنهم يعني غير أنهم أو إلا أنهم. وقوله فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له قال: القاضي عياض الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه، فاختلف أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله له وفرضه على هذه الأمة مبينا، ولم يكلهم إلى اجتهادهم ففازوا بفضيلته قال: يعني القاضي عياضا- وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة، وأعلمهم بفضله فناظروه أن السبت أفضل. فقيل له دعهم. قال القاضي: ولو كان منصوصا عليه لم يصح اختلافهم فيه بل كان يقول: خالفوا فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي: ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحا ونص على عينه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه، وغلطوا في إبداله. قال الإمام فخر الدين الرازي في قوله تعالى «على الذين اختلفوا فيه» يعني على نبيهم موسى، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم، أي لأجله وليس معنى قوله اختلفوا فيه أن اليهود اختلفوا، فمنهم من قال بالسبت، ومنهم من لم يقل به، لأن اليهود اتفقوا على ذلك. وزاد الواحدي على هذا فقال: وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال: هو أعظم الأيام حرمة لأن الله فرغ من خلق الأشياء، وقال الآخرون بل الأحد أفضل لأن الله سبحانه وتعالى، ابتدأ فيه بخلق الأشياء، وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فريقين في السبت، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل. فان قلت إن اليهود إنما اختاروا السبت، لأن أهل الملل اتفقوا على أن الله خلق الخلق في ستة أيام وبدأ بالخلق والتكوين في يوم الأحد، وتم الخلق يوم الجمعة وكان يوم السبت يوم فراغ، فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك العمل في هذا اليوم، فاختاروا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى: إنما بدأ بخلق الأشياء في يوم الأحد فنحن نجعل هذا اليوم عيدا لنا، وهذان الوجهان معقولان فما وجه فضل يوم الجمعة حتى جعله أهل الإسلام عيدا؟ قلت: يوم الجمعة أفضل الأيام لأن كمال الخلق وتمامه كان فيه وحصول التمام والكمال يوجب الفرح والسرور فجعل يوم الجمعة عيدا بهذا الوجه وهو أولى. ووجه آخر وهو أن الله عز وجل خلق فيه أشرف خلقه، وهو آدم عليه السلام وهو أبو البشر وفيه تاب عليه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله سبحانه وتعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة وادخره لهم، ولم يختاروا لأنفسهم شيئا، وكان ما اختاره الله لهم أفضل مما اختاره غيرهم لأنفسهم، وقال بعض العلماء
: بعث الله موسى بتعظيم يوم السبت ثم نسخ بيوم الأحد في شريعة عيسى عليه السلام ثم نسخ يوم السبت، ويوم الأحد بيوم الجمعة في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان أفضل الأيام يوم الجمعة كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء. وفي معنى الآية قول آخر قال قتادة: الذين اختلفوا فيه اليهود استحله بعضهم، وحرمه بعضهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله إنما جعل السبت أي وبال السبت ولعنته على الذين اختلفوا فيه، وهم
106
اليهود فأحله بعضهم فاصطادوا فيه فلعنوا ومسخوا قردة وخنازير في زمن داود عليه السلام، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة الأعراف وبعضهم ثبت على تحريمه، فلم يصطد فيه شيئا وهم الناهون والقول الأول أقرب إلى الصحة. وقوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني في أمر السبت فيحكم الله بينهم يوم القيامة فيجازي المحققين بالثواب والمبطلين بالعقاب. قوله عز وجل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعني ادع إلى دين ربك يا محمد، وهو دين الإسلام بالحكمة يعني بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة، يعني وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. وقيل: إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام: القسم الأول هم العلماء الكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها، فهؤلاء المشار إليهم بقوله «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة» يعني ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها حتى ينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم.
القسم الثاني: هم أصحاب الفطرة السليمة، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام، وهم المشار إليهم بقوله: والموعظة الحسنة أي ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث: هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة، وهؤلاء المشار إليهم بقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه. وقيل: المراد بالحكمة القرآن يعني ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقيل: المراد بالحكمة النبوة أي ادعهم بالنبوة والرسالة والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وجادلهم بالتي هي أحسن أي أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير: هذا منسوخ بآية السيف إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعني إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي فيجازي كل عامل بعمله قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك:
لئن أظهرنا الله عليهم، لنربين على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد. ووقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبدا حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار» فلما نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«رحمة الله عليك فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالا للخيرات، وصولا للرحم ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك». فأنزل الله عز وجل:
«وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل نصبر وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه» عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم. قال: فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين» فقال رجل: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كفوا عن القوم إلا أربعة» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب وأما تفسير الآية
107
فقوله تعالى «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله «وجزاء سيئة سيئة مثلها» أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق. يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ يعني ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيرا من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين.

فصل


اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين: أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد، ونسخ هذا بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية، القول الثاني: أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري. قال بعضهم:
الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم. قوله عز وجل وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يعني على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل: معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضلوا إلى رحمة الله ورضوانه وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ يعني: ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم. قرئ في ضيق بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان. وقال أبو عمر: والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيد الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكن وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى: ولا تك في أمر ضيق من مكرهم. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام من المقلوب، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلا في الصفة فكان المعنى فلا يكن الضيق حاصلا فيك إلا أن الفائدة في قوله: ولا تك في ضيق، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي اتقوا المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ يعني بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت: أوص. فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
108
قوله عز وجل :﴿ ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾، يعني : ادع إلى دين ربك يا محمد، وهو دين الإسلام بالحكمة، يعني : بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة، يعني : وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم، ﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾، يعني : بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة في الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. وقيل : إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام : القسم الأول هم العلماء والكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها، فهؤلاء المشار إليهم بقوله :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ﴾، يعني : ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية، حتى يعلموا الأشياء بحقائقها، حتى ينتفعوا وينفعوا الناس، وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني : هم أصحاب الفطرة السليمة، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام، وهم المشار إليهم بقوله : والموعظة الحسنة، أي :﴿ ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة ﴾. القسم الثالث : هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة، وهؤلاء المشار إليهم بقوله :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه. وقيل : المراد بالحكمة القرآن، يعني : ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقيل : المراد بالحكمة النبوة، أي : ادعهم بالنبوة والرسالة، والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، ﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾، أي : أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق، فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير : هذا منسوخ بآية السيف :﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾، يعني : إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم، ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة، وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي، فيجازي كل عامل بعمله.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾، نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم، لنربين على صنيعهم، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد. ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :« أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار ». فلما نظر رسول الله إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« رحمة الله عليك، فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولو كان حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك ». فأنزل الله عز وجل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« بل نصبر، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه ». عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا بهم فقال الأنصار : لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم. قال : فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾، فقال رجل : لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« كفوا عن القوم إلا أربعة » أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب، وأما تفسير الآية فقوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾، سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾، أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق. يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى، فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة، ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى :﴿ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾، يعني : ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيراً من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين.
فصل : اختلفت العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين : أحدهما : أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال، ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد، وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله : ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، ونسخ هذا بقوله :﴿ اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ الآية، القول الثاني : أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم، وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري. قال بعضهم : الأصح أنها محكمة ؛ لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم.
قوله عز وجل :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ﴾، الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته، ﴿ ولا تحزن عليهم ﴾، يعني : على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل : معنى الآية : ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ورضوانه. ﴿ ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾، يعني : ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم. قرئ في ضيق بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان. وقال أبو عمر : والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيدة : الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكن، وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي : الضيق تخفيف ضيق مثل : هين وهين، ولين ولين، فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى : ولا تك في أمر ضيق من مكرهم. قال الإمام فخر الدين الرازي : وهذا الكلام من المقلوب ؛ لأن الضيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى فلا يكن الضيق حاصلاً فيك إلا أن الفائدة في قوله : ولا تك في ضيق، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى.
﴿ إن الله مع الذين اتقوا ﴾، أي : اتقوا المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي، ﴿ والذين هم محسنون ﴾، يعني : بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني : إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. قال بعض المشايخ : كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت : أوص. فقال : إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
Icon