تفسير سورة لقمان

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

تقدم في أول سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه الآية، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين، وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها، وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراؤوا ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكوراً، فمن فعل ذلك كذلك فهو من الذين قال الله تعالى :﴿ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي ﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ أي في الدنيا الآخرة.
لما ذكر تعالى حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعة عطف بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء، بالألحان وآلات الطرب. روى ابن جرير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ فقال عبد الله ابن مسعود : الغناء، والله الذي لا إله إلاَ هو، يرددها ثلاث مرات، وقال الحسن البصري : نزلت هذه الآية ﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ في الغناء والمزامير، وقيل : أراد بقوله :﴿ يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث ﴾ اشتراء المغنيات من الجواري، قال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة عن النبي ﷺ، قال :« لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، وأكل أثمانهن حرام، وفيهن أنزل الله عزَّ وجلَّ عليَّ :﴿ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ »، قال الضحّاك :﴿ لَهْوَ الحديث ﴾ يعني الشرك، وبه قال ابن أسلم، واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله، وقوله :﴿ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ إي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله، وقوله تعالى :﴿ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً ﴾ قال مجاهد : ويتخذ سبيل الله هزواً يستهزىء بها، وقال قتادة : يعني ويتخذ آيات الله هزواً. وقول مجاهد أولى. وقوله :﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ أي كما استهانوا بآيات الله وسبيلهن أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر، ثم قال تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً ﴾ أي هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب، إذ تليت عليه الآيات القرآنية، ولى عنها وأعرض وأدبر، وتصامم وما به من صمم، كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها، إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها، ﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي يوم القيامة يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.
هذا ذكر مآل الآبرار، من السعداء في الدار الآخرة، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لشريعة الله ﴿ لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم ﴾ أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ، من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، والمراكب، والنساء، والنضرة، والسماع، الذي لم يخطر ببال أحد، وهم في ذلك مقيمون دائماً لا يظعنون ولا يبغون عنها حولاً، وقوله تعالى :﴿ وَعْدَ الله حَقّاً ﴾ أي هذا كائن لا محالة، لأنه وعد الله، والله لا يخلف الميعاد لأنه الكريم المنان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء، ﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء، ﴿ الحكيم ﴾ في أقواله وأفعاله الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين، ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ].
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السماوات والأرض، وما فيها وما بينهما، فقال تعالى :﴿ خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ ﴾ قال الحسن وقتادة : ليس لها عمد، وقال ابن عباس : لها عمد لا ترونها، وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد، ﴿ وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ ﴾ يعني الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء، ولهذا قال :﴿ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ أي لئلا تميد بكم، وقوله تعالى :﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ﴾ أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلاّ الذي خلقها، ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق، بقوله :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ أي من كل زوج من النبات ﴿ كَرِيمٍ ﴾ أي حسن المنظر، وقال الشعبي : من دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم، وقوله تعالى :﴿ هذا خَلْقُ الله ﴾ أي ذها الذي ذكره تعالى من خلق السماوات والأرض وما بينهما صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ ﴾ أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد، ﴿ بَلِ الظالمون ﴾ يعني المشركين بالله العابدين معه غيره ﴿ فِي ضَلاَلٍ ﴾ أي جهل وعمى ﴿ مُّبِينٍ ﴾ أي واضح ظاهر لا خفاء به.
اختلف السلف في لقمان : هل كان نبياً أو عبداً صالحاً؟ على قولين : الأكثرون على الثاني، قال ابن عباس : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقال سعيد بن المسيب : كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وقال ابن جرير عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، فقال له مولاه : اذبح لنا هذه الشاة فذبحها، قال أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال اذبح لنا هذه الشاة فذبحها فقال : أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه، أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما : فقال لقمان؛ إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا، وقال مجاهد : كان لقمان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً، غليظ الشفتين مصفح القدمين قاضياً على بني إسرائيل. وقوله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة ﴾ أي الفهم والعلم والتعبير، ﴿ أَنِ اشكر للَّهِ ﴾ أي أمرنا أن يشكر الله عزَّ وجلَّ على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من ابناء جنسه وأهل زمانه، ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين، لقوله تعالى :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [ الروم : ٤٤ ]، وقوله :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعاً، فإنه الغني عما سواه، فلا إله إلاّ الله ولا نعبد إلاّ إياه.
يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده، وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف، ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، ثم قال محذراً له ﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ أي هو أعظم الظلم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت ﴿ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ] « شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله ﷺ :» إنه ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان ﴿ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ « »، ثم قرن بوصيته أياه بعبادة الله وحده، البر بالوالدين كما قال تعالى :﴿ وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن؛ وقال هاهنا :﴿ وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ ﴾، قال مجاهد : مشقة وهن الولد؛ وقال قتادة : جهداً على جهد؛ وقال عطاء الخراساني : ضعفاً على ضعف، وقوله :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال تعالى :﴿ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] ألآية، ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه قال في الآية الأخرى :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ]، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة، وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً، ليذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى :﴿ وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ [ الإسراء : ٢٤ ]، ولهذا قال :﴿ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير ﴾ أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء. عن سعيد بن وهب قال : قدم علينا معاذ بن جبل وكان بعثه النبي ﷺ، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : إني رسول رسول الله ﷺ إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تطيعوني لا آلوكم خيراً، وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار، إقامة فلا ظعن، وخلود فلا موت.
وقوله تعالى :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ﴾ أي إن حرصا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك أن تصاحبهما في الدنيا ﴿ مَعْرُوفاً ﴾ أي محسناً إليهما، ﴿ واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ يعني المؤمنين، ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، روى الطبراني عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال : أنزلت فيّ هذه الآية :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ﴾ الآية، قال : كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمت قالت : يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتعيّر بي، فيقال : يا قاتل أمه، فقلت : لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء؛ فمكثت يوماً وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت فمكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء؛ فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي، فأكلت.
هذه وصايا نافعة حكاها الله سبحانه عن ( لقمان الحكيم ) ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال :﴿ يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ ﴾ أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية في السماوات أو في الأرض ﴿ يَأْتِ بِهَا الله ﴾ أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، وجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال تعالى :﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] الآية، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فإن الله يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ أي لطيف العلم فلا خفى عليه الأشياء، وإن دقّت ولطفت وتضاءلت، ﴿ خَبِيرٌ ﴾ بدبيب النمل في الليل البهيم، وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله ﴿ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ﴾ أنها صخرة تحت الأرضين السبع، والظاهر والله أعلم أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه، كما قال رسول الله ﷺ :« لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة. لخرج عمله للناس كائناً ما كان »، ثم قال :﴿ يابني أَقِمِ الصلاة ﴾ أي بحدودها وفروضها وأوقاتها، ﴿ وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر ﴾ أي بحسب طاقتك وجهدك، ﴿ واصبر على مَآ أَصَابَكَ ﴾ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا بد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر، وقوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور ﴾ أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ يقول : لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك، احتقاراً منك لهم واستكباراً عليهم، ولكن أَلِنْ جانبك وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث :« ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط »، قال ابن عباس يقول : لا تتكبر فتحتقر عباد الله وعرض عنهم بوجهك إذا كلموك، وقال زيد بن أسلم ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ : لا تتكلم وأنت معرض، وقال إبراهيم النخعي : يعني بذلك التشدق في الكلام، والصواب القول الأول، قال الشاعر :
دوكنا إذا الجبار صعَّر خده أقمنا له من ميله فتقوما
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً ﴾ أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً، لا تفعل ذلك يبغضك الله، ولهذا قال :﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ أي مختال معجب في نفسه ﴿ فَخُورٍ ﴾ أي على غيره، وقال تعالى :﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً ﴾
1986
[ الإسراء : ٣٧ ]. عن ثابت بن قيس بن شماس قال : ذكر الكبر عند رسول الله ﷺ فشدد فيه فقال :« » إن الله لا يحب كل مختال فخور « فقال رجل من القوم : والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها ويعجبني شراك نعلي وعلاَّقة سوطي، فقال :» ليس ذلك الكبر، إنما الكبر أن تسفه الحق، وتغمط الناس « »، وقوله :﴿ واقصد فِي مَشْيِكَ ﴾ أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط بل عدلاً وسطاً بين بين، وقوله :﴿ واغضض مِن صَوْتِكَ ﴾ أي تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، ولهذا قال :﴿ إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير ﴾ قال مجاهد : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى، وهذا التشبيه بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم، لأن رسول الله ﷺ قال :« ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه »، وروى النسائي عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطاناً » فهذه وصايا نافعة جداً، وهي من قصص القرآن العظيم، عن لقمان الحكيم، قود روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثرة.
1987
يقول تعالى منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، بأنه سخر لهم ما في السماوات، من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار، وما خلق لهم في الأرض من أنهار وأشجار وزروع وثمار، واسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله أي في توحيده وإرساله الرسل، ومجادلته في ذلك بغير علم ولا مستند، ومن حجة صحيحة ولا كتاب مأثور صحيح، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ أي مبين مضيء ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾ أي لهؤلاء المجادلين في توحيده الله ﴿ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله ﴾ أي على رسوله من الشرائع المطهرة، ﴿ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا ﴾ أي لم يكن لهم حجة إلاّ اتباع الآباء الأقدمين، قال الله تعالى :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٠ ] أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه، ولهذا قال تعالى :﴿ أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير ﴾.
يقول تعالى مخبراً عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل، وانقاد لأمره وابتع شرعه، ولهذا قال :﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ أي في عمله باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر ﴿ فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى ﴾ أي فقد أخذ موثقاً من الله ممتيناً أنه لا يعذبه، ﴿ وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور * وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ﴾ أي لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم بالله وبما جئت به، فإن قدر الله نافذ فيهم، وإلى الله مرجعهم ﴿ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا ﴾ أي فيجزيهم عليه، ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ فلا تخفى عليه خافية، ثم قال تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ﴾ أي في الدنيا، ﴿ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ ﴾ أي نلجئهم ﴿ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ أي فظيع صعب شاق على النفوس، كما قال تعالى :﴿ مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٧٠ ].
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين، أنهم يعرفون أن الله خالق السماوات والأرض، وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنه خلق له وملك له، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ ﴾ أي إذا قامت عليكم الحجة باعترافكم ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض ﴾ أي هي خلقه وملكه، ﴿ إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد ﴾ أي الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه، ﴿ الحميد ﴾ في جميع ما خلق له في السماوات والأرض، وهو المحمود في الأمور كلها.
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه، وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما ق سيد البشر :« لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك »، فقال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله ﴾ أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً وأمده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولو جاء أمثالها مدداً، وإنما ذكرت السبعة على جه المبالغة ولم يرد الحصر، فقد قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ]، فليس المراد بقوله :﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ آخر فقط، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله، ثم هلم جرا، لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته، قال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاماً وجعل البحر مداداً، وقال الله : إن من أمري كذا ومن أمري كذا لنفد ماء البحر وتكسرت الأقلام، وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ أي ما خلق جميع الناس، وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته، إلاّ كنسبة خلق نفس واحدة، الجميع هيّن عليه، ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ]، ﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] أي لا يأمر بالشيء إلاّ مرة واحدة فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده، ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ [ النازعات : ١٣-١٤ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة، ولهذا قال تعالى :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ الآية.
يخبر تعالى أنه ﴿ يُولِجُ الليل فِي النهار ﴾ يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذلك وبقصر هذا، وهذا يكون زمن الصيف يطول النهار إالى الغاية، ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار وهذا يكون في الشتاء ﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ قيل إلىغاية محدودة، وقيل إلى يوم القيامة، وكلا المعنيين صحيح ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« » يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ « قلت الله ورسوله أعلم؟ قال :» فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأذن ربها فيوشك أني قال لها ارجعي من حيث جئت « »، وعن ابن عباس أنه قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها، قال : وكذلك القمر، وقوله. ﴿ وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ المعنى أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل ﴾ أي إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق أي الإله الحق، وأن كل ما سواه باطل، فإنه الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه، الجميع خلقه وعبيده، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلاّ بإذنه، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذباباً لعجزوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير ﴾ أي العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، فالكل خاضع حقير بالنسبة إاليه.
يخبر تعالى أنه هو الذي سخر البحر، لتجري فيه الفلك بأمره، أي بلطفه وتسخيره، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت، ولهذا قال :﴿ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ ﴾ أي من قدرته ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ أي صبار في الضراء، شكور في الرخاء، ثم قال تعالى :﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل ﴾ أي كالجبال والغمام ﴿ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، وقال تعالى :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] الآية، ثم قال تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ قال مجاهد : أي كافر، كأنه فسر المقتصد هاهنا بالجاحد، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] وقال ابن زيد، هو المتوسط في العمل، وهذا الذي قاله ابن زيد في المراد في قوله تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] الآية، فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل، ويكون من باب الإِنكار على من شاهد تلك الأهوال، والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر؛ ثم بعدها أنعم الله عليه بالخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصراً والله أعلم، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ الختار : هو الغدّار، قال مجاهد والحسن وهو الذي كلما عاهد نقض عهده، والختر أتم الغدر وأبلغه. قال عمر بن معد يكرب :
وإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
وقوله ﴿ كَفُورٍ ﴾ أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها.
يقول تعالى منذراً للناس يوم المعاد، وآمراً لهم بتقواه والخوف منه، والخشية من يوم القيامة حيث ﴿ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾ أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبله منه، وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يقبل منه، ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله :﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا ﴾ أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة، ﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور ﴾ يعني الشيطان، فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه، وليس من ذلك شيء، بل كان كما قال تعالى :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ]، قال وهب بن منبه : قال عزير عليه السلام : لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي، فتضرعت إلى ربي وصليت وصمت، فأنا في ذلك التضرع أبكي إذا أتاني الملك، فقلت له : خبرني هل تشفع أرواح الصديقين للظلمة، أو الآباء لأبنائهم؟ قال : إن القيامة فيها فصل القضاء، وملك الظاهر ليس فيه رخصة لا يتكلم فيه أحد إلاّ بإذن الرحمن، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه، ولا عبد عن سيده، ولا يهتم أحد به بغيره، ولا يحزن لحزنه ولا أحد يرحمه، كل مشفق عل نفسه، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان، كل يهمه همه ويكبي ذنبه، ويحمل وزره ولا يحمل وزره معه غيره.
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلاّ بعد إعلامه تعالى بها؛ فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب ﴿ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ]، وكذلك إنزال الغيب لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى، شقياً أو سعيداً، علم الملائكة الموكلون بذلك، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها، ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك وهي شبيهة بقوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] الآية، وقد وردت السنّة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب، روى الإمام أحمد « عن أبي بريدة سمعت رسول الله ﷺ يقول :» خمسٌ لا يعلمهن إلاّ الله عزَّ وجلَّ :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ «، عن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :» مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلاّ الله ﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ «.
وعن مجاهد قال : جاء رجل من أهل البادية فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ إلى قوله :﴿ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ قال مجاهد وهي مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من حدثك أنه يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ قال قتادة : أشياء استأثر الله بهن فلن يطلع عليهن ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو في أي شهر أو ليل أو نهار، ﴿ وَيُنَزِّلُ الغيث ﴾ فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام ﴾ فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود وما هو، ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾ أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غداً لعلك المصاب غداً ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ أي ليس أحد من الناس يدري أي مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل. وقد جاء في الحديث :»
إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة « وروي مثله عن ابن مسعود، وبمعناه عن أسامة.
Icon