تفسير سورة الأحقاف

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله ﴾ الآية وإلا ﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾ الآية وإلا ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾ الثلاث آيات، وهي خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي لا يذل من والى ولا يعز من عادى. ﴿ الرحمان ﴾ الذي سبقت رحمته غضبه ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص حزبه بعمل الأبرار للفوز في دار القرار.

وتقدّم الكلام على قوله تعالى :﴿ حم ﴾ مراراً، وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وقرأ ورش وأبو عمرو بإمالتها بين بين وفتحها الباقون. وقيل : المراد بحم حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي النهاية في الصواب والسداد أحكمها الذي أحاطت قدرته فهو لا يخلف الميعاد.
وقوله تعالى :﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي الجامع لجميع الخيرات بالتدريج على حسب المصالح ﴿ من الله ﴾ أي الجبار المتكبر المختص بصفات الكمال ﴿ العزيز ﴾ في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه لأنه لم يفعل شيئاً إلا في أوفق محاله وأنه الخالق للخير والشرّ وأنه يعز أولياءه ويذل أعداءه.
﴿ ما خلقنا ﴾ أي ؛ على ما لنا من العظمة الموجبة للتفرّد بالكبرياء ﴿ السماوات والأرض ﴾ على ما فيهما من الآيات ﴿ وما بينهما إلا ﴾ خلقاً ملتبساً ﴿ بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرّف المطلق ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا ﴿ وأجل ﴾ أي وبتقدير أجل ﴿ مسمى ﴾ ينتهي إليه وهو يوم القيامة.
﴿ والذين كفروا عما أنذروا ﴾ أي : خوفوا به من القرآن من هول ذلك اليوم الذي لا بدّ لكل خلق من انتهائه إليه ﴿ معرضون ﴾ أي لا يؤمنون به ولا يهتمون للاستعداد له.
ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء المعرّضين أنفسهم لغاية الخطوب منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً ﴿ أرأيتم ﴾ أي : أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمّل وروية باطنة. ﴿ ما تدعون ﴾ أي : تعبدون ثم نبه على سفولهم بقوله تعالى :﴿ من دون الله ﴾ أي : المالك الأعظم الذي كل شيء دونه فلا كفء له مفعول أوّل وقوله تعالى :﴿ أروني ﴾ أي : أخبروني تأكيد وقوله :﴿ ماذا خلقوا ﴾ مفعول ثان وقوله تعالى :﴿ من الأرض ﴾ بيان لما أي : ليصح ادّعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزء.
﴿ أم لهم ﴾ أي : الذين تدعونهم ﴿ شرك ﴾ أي مشاركة ﴿ في ﴾ خلق ﴿ السماوات ﴾ أي : بنوع من أنواع الشركة مع الله تعالى و﴿ أم ﴾ بمعنى همزة الإنكار ولما كان الدليل أحد شيئين سمع وعقل قال تعالى :﴿ ائتوني بكتاب ﴾ أي : منزل على دعواكم في هذه الأصنام : أنها خلقت شيئاً أو أنها تستحق أن تعبد.
تنبيه أبدل ورش والسوسيّ الهمزة من ﴿ ائتوني ﴾ في الوصل ياء وحققها الباقون. وأما الابتداء بها، فجميع القرّاء أبدلوها ياء بعد الابتداء بهمزة الوصل مكسورة.
﴿ من قبل هذا ﴾ أي : القرآن الذي أنزل علي كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوّة، فإنها كلها شاهدة بالوحدانية لو أتى بها آت لشهدت عليه. ولما ذكر تعالى الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به وهو : النقل القاطع، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه فقال :﴿ أو أثارة ﴾ أي : بقية ﴿ من علم ﴾ يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام : أنها تقرّبكم إلى الله تعالى. وقال المبرد :﴿ أثارة ﴾ ما يؤثر من علم كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان. ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار. يقال : جاء في الأثر كذا وكذا. وقال الواحدي : وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال ؛ الأوّل : الأثارة واشتقاقها من : أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار. والثاني : من الأثر الذي هو الرواية. والثالث : من الأثر بمعنى العلامة. وقال الكلبي في تفسير الأثارة : أي بقية من علم يؤثر عن الأوّلين أي : يسند إليهم وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء قال الرازي : وههنا قول آخر : أو أثارة من علم هو علم الخط الذي يخط في الرمل، والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«كان نبيّ من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه » فعلى هذا الوجه معنى الآية ﴿ ائتوني بعلم من قبل هذا ﴾ الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وأقوالهم ودلائلهم. ثم أشار إلى تقريعهم بالكذب إذ لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : عريقين في الصدق على ما تدّعون لأنفسكم.
ولما أبطل سبحانه قولهم في الأصنام بعدم قدرتها أتبعه إبطاله بعدم علمها بقوله تعالى :﴿ ومن أضلّ ﴾ وهو استفهام بمعنى النفي أي : لا أحد أضل ﴿ ممن يدعو ﴾ أي : يعبد ما لا قدرة له ولا علم. ومن انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل. وأرشد إلى سفولها بقوله عز وجل :﴿ من دون الله ﴾ أي : من أدنى رتبة من رتب الذي له صفات الكمال فهو يعلم كل شيء. ويقدر على كل شيء فهو بحيث يجيب الدعاء، ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء، ويدبر عبده لما يعلم من سرّه وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به، ويريد العبد في كثير من الأشياء ما لو وكل فيه إلى نفسه، وأجيب إلى طلبته، كان فيه حتفه فيدبره سبحانه بما تشتدّ كراهته له، فيكشف الحال على أنه لم يكن له فرج إلا فيه. ﴿ من لا يستجيب له ﴾ أي : لا توجد الإجابة، ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها، لأنه لا أهلية له لذلك. والمعنى : أنه لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجدل، ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ولا تجيب لا في الحال، ولا في المآل ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ وإنما جعل ذلك غاية ؛ لأنّ يوم القيامة قد قيل : إن الله تعالى يحييها ويخاطب من يعبدها. فلذلك جعله الله تعالى حدّاً وقيل المراد عبدة الملائكة وعيسى وأنهم يوم القيامة يظهرون عبادة هؤلاء العابدين. ﴿ وهم عن دعائهم ﴾ أي : دعاء المشركين إياهم. ﴿ غافلون ﴾ أي : لهم هذا الوصف لا ينفكون عنه لا يعلمون من يدعوهم ومن لا يدعوهم وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعمّ من الأصنام وغيرها مما عبدوه من عقلاء الإنس وغيرهم.
ولما غيّا سبحانه بيوم القيامة فأفهم أنهم يستجيبون لهم فيه، بيّن ما يحاورونهم به إذ ذاك فقال تعالى :﴿ وإذا حشر ﴾ أي : جمع بكره على أيسر وجه وأسهل أمر. ﴿ الناس ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ كانوا ﴾ أي : المدعوّون ﴿ لهم ﴾ أي : الداعين ﴿ أعداء ﴾ ويعطيهم الله تعالى قوّة الكلام فيخاطبونهم بكل ما يخاطب به العدوّ عدوّه ﴿ وكانوا ﴾ أي : المعبودون ﴿ بعبادتهم ﴾ أي : الداعين وهم المشركون إياهم. ﴿ كافرين ﴾ أي : جاحدين لأنهم كانوا عنها غافلين كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام ﴿ وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ﴾ ( يونس : ٢٨ ).
ثم بين تعالى أنهم في نهاية الغباوة بإنكار ما لا شيء أبين منه. بقوله سبحانه :﴿ وإذا تتلى ﴾ أي : تقرأ من أي قارئ كان على وجه المتابعة ﴿ عليهم ﴾ أي : هؤلاء البعداء البغضاء ﴿ آياتنا ﴾ التي لا أعظم منها في أنفسها بإضافتها إلينا وهي القرآن وقوله تعالى :﴿ بينات ﴾ أي : ظاهرات حال قالوا هكذا كان الأصل. ولكنه تعالى بين الوصف الحامل لهم على القول فقال عز وجل :﴿ قال الذين كفروا ﴾ أي : ستروا تلك الأنوار التي أبرزتها تلك التلاوة لها هكذا كان الأصل ولكن قال تعالى ﴿ للحق ﴾ أي : لأجله ﴿ لما ﴾ أي : حين ﴿ جاءهم ﴾ أي : من غير نظر وتأمّل ﴿ هذا ﴾ أي : الذي يتلى ﴿ سحر ﴾ أي : خيال لا حقيقة له ﴿ مبين ﴾ أي : ظاهر في أنه خيال باطل.
وقوله تعالى :﴿ أم يقولون افتراه ﴾ إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحراً إلى ذكر ما هو أشنع وإنكار له وتعجب، ثم بين تعالى بطلان شبهتهم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : يا أشرف الخلق ﴿ إن افتريته ﴾ أي : تعمدت كذبه على زعمكم وأنا إنما أريد به نصيحتكم فالذي أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً وذلك هو معنى قوله :﴿ فلا تملكون ﴾ أي : أيها المنصوحون بوجه من الوجوه ولا في وقت من الأوقات. ﴿ لي من الله ﴾ أي : المتكبر الحليم ﴿ شيئاً ﴾ من الأشياء لما يردّ عني انتقامه لأنّ الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب فكيف من يتعمد الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة وملازمته مساءً وصباحاً فأيّ حامل لي حينئذ على افترائه ؟ ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله :﴿ هو ﴾ أي : الله سبحانه ﴿ أعلم ﴾ أي : منكم ومن كل أحد ﴿ بما تفيضون فيه ﴾ أي : بما تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه بأنه سحر. ﴿ كفى به شهيداً ﴾ أي : شاهداً بليغ الشهادة لأنه أعلم بجميع أحوالنا.
﴿ بيني وبينكم ﴾ أي أن القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ولكم بالكذب، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني أقدر على ما تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين، وأنتم عرب مثلي، بل وأنا أمّي وفيكم أنتم الكتبة، والذين خالطوا العلماء، وسمعوا أحاديث الأمم، وضربوا بعد بلاد العرب في بلاد العجم، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون ﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ الغفور ﴾ أي : الذي من شأنه أن يمحو الذنوب أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿ الرحيم ﴾ أي الذي يكرم بعد المغفرة ويتفضل بالتوفيق لما يرضيه قال الزجاج : هذا دعاء إلى التوبة ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيم به.
ولما حكى تعالى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم : إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله تعالى على سبيل الفرية حكى عنهم شبهة أخرى وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك. بقوله عز وجل :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء ﴿ ما كنت ﴾ أي : كونا مّا ﴿ بدعاً ﴾ أي : منشأ مبتدعاً محدثاً مخترعاً، بحيث أكون أجنبياً منقطعاً ﴿ من الرسل ﴾ أي : لم يتقدّم لي منهم مثال في أصل ما جئت به وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدّمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به، ودعوا إليه كما دعوت إليه، وصدّقهم الله تعالى بمثل ما صدّقني به. فثبت بذلك رسالتهم وسعد بهم من صدّقهم من قومهم وشقي من كذبهم فانظروا إلى آثارهم واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم.
﴿ تنبيه ﴾ البدع والبديع من كل شيء : المبدأ والبدعة ؛ ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله. وفي الحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار » قال البقاعي معناه والله أعلم : أنه يبتدع ما يخالف السنة إذا كانت البدعة ضدّ السنة فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه ضالاً مشركاً وكان وما أحدث في النار. ولم يدخل تحت هذا ما يخترعه الإنسان من أفعال البّر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكر. ا. ه. وقال ابن عبد السلام : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة : قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ؛ فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، كالاشتغال بعلم النحو، أو في قواعد التحريم فمحّرمة، كمذهب القدرية والمجسمة والرافضة، قال : والردّ على هؤلاء من البدع الواجبة، أوفى قواعد المندوب، فمندوبة كبناء الربط والمدارس، وكل إحسان لم يحدث في العصر الأوّل كصلاة التراويح، أو في قواعد المكروه فمكروهة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف أو في قواعد المباح فمباحة، كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس. وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعيّ رضى الله تعالى عنه أنه قال : المحدثات ضربان ؛ أحدهما : ما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو بدعة وضلالة، والثاني : ما أحدث من الخير فهو غير مذموم.
واختلف في تفسير قوله تعالى عن قوله عليه الصلاة والسلام :﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ على وجهين ؛ أحدهما : أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني : أن يحمل على أحوال الآخرة. أما الأوّل ؛ ففيه وجوه. أحدها : أنّ معناه لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم، ومن الغالب منا ومن المغلوب. ثانيها : قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة : رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ما بهم من أذى المشركين. ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت متى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ هو شيء رأيته في المنام. ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أتبع ﴾ أي : بغاية جهدي وجدّي ﴿ إلا ما ﴾ أي : الذي ﴿ يوحى ﴾ أي : يجدّد لقاؤه ممن لا يوحى بحق سواه ﴿ إلي ﴾ على سبيل التدريج لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري. ثالثها : قال الضحاك : لا أدري ما تؤمرون به ولا ما أومر به من التكاليف والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان.
﴿ وما أنا ﴾ أي : بإخباري لكم عما يوحى إليّ ﴿ إلا نذير مبين ﴾ أي : بيّن الإنذار. رابعها : كأنه يقول : ما أدري ما يفعل بي في الدنيا ؛ أموت أو أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون ؛ أترمون بالحجارة من السماء، أو يخسف بكم، أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم ؟ قال السدّي : ثم أخبره الله تعالى أنه يظهر دينه على الأديان بقوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ﴾ ( التوبة : ٣٣ ) وقال في أمّته ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ ( الأنفال : ٣٣ ) فأخبره الله تعالى بما يصنع به وبأمّته.
وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية، فرح المشركون والمنافقون واليهود. وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ( ١ ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً ﴾ ( الفتح : ١ _ ٥ ) فقالت الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا ؟ فأنزل الله عز وجل :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ( الفتح : ٥ ) الآية وأنزل :﴿ وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً ﴾ ( الأحزاب : ٤٧ ) فبين لهم ما يفعل به وبهم وبهذا قال أنس والحسن وعكرمة. وقالوا إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه، لأنه إنما أخبر به عام الحديبية فنسخ ذلك.
قال الرازي : وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول من وجهين ؛ أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر، وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أو لا ثانيهما : أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال تعالى في حقهم ﴿ إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ( الأحقاف : ١٣ ) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفور لهم ؟ فثبت ضعف هذا القول.
﴿ قل ﴾ يا أفضل الخلق لهؤلاء المصرّين على التكذيب ﴿ أرأيتم ﴾ أي : أخبروني ﴿ إن كان ﴾ أي : هذا الذي أتيتكم به وهو القرآن ﴿ من عند الله ﴾ أي : الملك الأعظم. ﴿ وكفرتم به ﴾ أي : أيها المشركون ﴿ وشهد شاهد ﴾ واحد أو أكثر ﴿ من بني إسرائيل ﴾ أي : الذي جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم ﴿ على مثله ﴾ أي : مثل ما في القرآن من أنّ من وحد فقد آمن ومن أشرك فقد كفر وأن الله تعالى أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم فتطابقت عليه كتبهم وتضافرت به رسلهم، وتواترت على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام ﴿ فآمن ﴾ أي : هذا الذي شهد هذه الشهادة ﴿ واستكبرتم ﴾ أي : أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرياسة والفخر، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة فضللتم، فوضعتم الشيء في غير موضعه، فانسدّ عليكم باب الهداية.
واختلف في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو عبد الله بن سلام شهد بنبوّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به، واستكبرت اليهود فلم يؤمنوا به. كما روى أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كذاب، وتأمّله فتحقق أنه النبيّ المنتظر، فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبي :«ما أوّل أشراط الساعة ؟ وما أوّل طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أخبرني بهنّ جبريل آنفاً قال : جبريل ؟ قال : نعم قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ ﴿ من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله ﴾ ( البقرة : ٩٧ ) ثم قال : أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإذا سبق ماء المرأة نزعته. فقال : أشهد أنك لرسول الله حقاً. ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، أيّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال أفرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذه اللّه من ذلك فخرج إليهم عبد اللّه فقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا، وانتقصوه فقال : هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله. قال سعد بن أبي وقاص :«ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ؟ وفيه نزلت هذه الآية ﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل ﴾ ( الأحقاف : ١٠ ) وقيل : الشاهد هو موسى بن عمران قال الشعبي : قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأنّ ال ﴿ حم ﴾ نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؟ وإنما نزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بالمدينة وأجاب الكلبي : بأنّ السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية، وأن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين. وقيل المراد بالشاهد موسى، ومثل القرآن هو التوراة. فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان فكل واحد يصدّق الآخر : لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن مصدّق للتوراة.
وجواب الشرط : ألستم ظالمين دل عليه قوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الملك الأعظم ذا العزة والحكمة ﴿ لا يهدي القوم ﴾ أي : الذين لهم قوّة على القيام بما يريدون ﴿ الظالمين ﴾ أي : الذين من شأنهم وضع الأمور في غير مواضعها فلأجل ذلك لا يهديكم، إذ لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه هلاككم.
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ أي : تعمدوا تغطية الحق ﴿ للذين ﴾ أي : لأجل إيمان الذين ﴿ آمنوا ﴾ أي سبقوهم إلى الإيمان ﴿ لو كان ﴾ أي : إيمانهم بالقرآن ﴿ خيراً ﴾ أي : من جملة الخيور ﴿ ما سبقونا إليه ﴾ ونحن أشرف منهم، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأعلم بتحصيل العز والسؤدد الذي هو مناط الخير. كما لم يسبقونا إلى شيء من هذه الخيرات التي نحن فائزون بها وهم صفر منها لكن ليس بخير، فلهذا سبقونا إليه ﴿ وإذ ﴾ أي : و حين ﴿ لم يهتدوا به ﴾ أي : بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان ﴿ فسيقولون هذا ﴾ أي : القرآن الذي سبقتم إليه ﴿ إفك ﴾ أي : شيء مصروف عن وجهه إلى قفاه ﴿ قديم ﴾ أي : أفك غيره وعثر هو عليه فأتى به ونسبه إلى الله تعالى كما قالوا أساطير الأولين.
﴿ ومن ﴾ أي : قالوا ذلك، والحال أنه كان في بعض الزمن الذي من ﴿ قبله ﴾ أي : القرآن ﴿ كتاب موسى ﴾ كليم الله تعالى، حال كون كتابه وهو التوراة ﴿ إماما ﴾ أي : يستحق أن يؤمّه كل من سمع به ﴿ ورحمة ﴾ لما فيه من نعم الدلائل على الله تعالى، والبيان الشافي، وفي الكلام محذوف، تقديره : وتقدّمه كتاب موسى إماماً ورحمة ولم يهتدوا به كما قال تعالى في الآية الأولى ﴿ وإذ لم يهتدوا به ﴾.
﴿ وهذا ﴾ أي : القرآن ﴿ كتاب ﴾ أي : جامع لجميع الخيرات ﴿ مصدّق ﴾ أي : لكتاب موسى عليه السلام، وغيره من الكتب التي تصح نسبتها إلى الله تعالى في أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله تعالى وقوله تعالى :﴿ لساناً ﴾ حال من الضمير في مصدّق. وقوله :﴿ عربياً ﴾ صفة ل ﴿ لساناً ﴾ وهو المسوّغ لوقوع هذا الجامد حالاً أي : في أعلى طبقات اللسان العربي، مع كونه أسهل الكتب تناولاً، وأبعدها عن التكلف، ليس هو بحيث يمنعه علوّه بفخامة الألفاظ، وجلالة المعاني، ودقة الإشارة عن سهولة الفهم، وقرب التناول. وقوله تعالى :﴿ لينذر ﴾ أي : الكتاب بحسن بيانه، وعظم شأنه ﴿ الذي ظلموا ﴾ أي : سواء كانوا عريقين في الظلم، أم لا وقرأ نافع وابن عامر : بالتاء خطاباً أي : أيها الرسول. والباقون : بالياء غيبة بخلاف عن البزي. ﴿ وبشرى ﴾ أي : كاملة ﴿ للمحسنين ﴾ أي : المؤمنين، بأنّ لهم الجنة.
ولما قرّر دلائل التوحيد والنبوّة، وذكر شبهات المتكبرين وأجاب عنها ذكر بعد ذلك طريقة المحقين. فقال تعالى :﴿ إن الذين قالوا ربنا ﴾ أي : خالقنا ومولانا والمحسن إلينا ﴿ الله ﴾ وحده ﴿ ثم استقاموا ﴾ أي : جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الأمور التي هي منتهى العلم، و﴿ ثم ﴾ للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ أي : من لحوق مكروه ﴿ ولاهم يحزنون ﴾ أي : على فوات محبوب، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط.
﴿ أولئك ﴾ أي : العالون الدرجات ﴿ أصحاب الجنة خالدين فيها ﴾ خلوداً لا آخر له جوزوا بذلك ﴿ جزاءً بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا ﴾ طبعاً وخلقاً ﴿ يعملون ﴾ أي : على سبيل التجديد المستمر.
ولما كان رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما كما ورد به الحديث حث عليه بقوله تعالى :﴿ ووصينا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ الإنسان ﴾ أي : هذا النوع الذي أنس بنفسه ﴿ بوالديه ﴾ وقرأ :﴿ حسناً ﴾ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الحاء وسكون السين. وقرأ الكوفيون بسكون الحاء وقبلها همزة مكسورة وفتح السين وبعدها ألف، فهو منصوب على المصدر بفعل مقدّر، أي : وصيناه أن يحسن إليهما إحساناً، ومثله حسناً. وقرأ :﴿ حملته أمّه كرهاً ﴾ أي : على مشقة ﴿ ووضعته كرهاً ﴾ أي : بمشقة الكوفيون وابن ذكوان بضم الكاف فيهما، والباقون بالفتح، وهما لغتان بمعنى واحد. مثل الضعف والضعف، وقيل : المضموم اسم، والمفتوح مصدر. وليس المراد ابتداء الحمل. فإنّ ذلك لا يكون بمشقة لقوله تعالى :﴿ فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرّت به فلما أثقلت ﴾ ( الأعراف : ١٨٩ ) فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً.
تنبيه : دلت الآية على أنّ حق الأم أعظم لأنه تعالى قال :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسناً ﴾ فذكرهما معاً ثم خص الأم بالذكر فقال :﴿ حملته أمّه كرهاً ووضعته كرهاً ﴾ وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأنّ وصول المشاق إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب. ﴿ وحمله وفصاله ﴾ أي : من الرضاع ﴿ ثلاثون شهراً ﴾ كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد، ومبالغة في الوصية بها. وفي ذلك دلالة على أنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، وقال تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ﴾ ( البقرة : ٢٣٣ ) فإذا أسقطنا الحولين الكاملين، وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر.
روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعت أحد وعشرين شهراً. وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً وروي عن أبي بكر أنّ امرأة دفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها، فقال عمر : لا رجم عليها، وذكر الطريق المتقدمة وعن عثمان نحوه، وأنه همّ بذلك، فقرأ ابن عباس رضي الله عنهما عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه، واختلف الأئمة في ذلك : فعند الشافعي أربع سنين. وقوله تعالى :﴿ حتى إذا بلغ أشده ﴾ لا بد فيه من جملة محذوفة. تكون حتى غاية لها، أي : عاش واستمّرت حياته حتى إذا بلغ أشده قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : الأشد ثماني عشرة سنة، وقيل : نهاية قوّته وغاية شبابه واستوائه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة فذلك قوله تعالى :﴿ وبلغ أربعين سنة ﴾ وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقيل : نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه : وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو وأمّه أم الخير بنت صخر بن عمرو وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله تعالى بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر يصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام، فلما بلغ أربعين سنة، وتنبأ النبيّ صلى الله عليه وسلم آمن به ثم آمن أبواه، ثم ابنه عبد الرحمان، وابن عبد الرحمان أبو عتيق ثم إنّ أبا بكر دعا ربه بأن ﴿ قال رب أوزعني ﴾ أي : ألهمني، وقرأ ورش والبزي : بفتح الياء في الوصل، والباقون بسكونها ﴿ أن أشكر نعمتك التي أنعمت ﴾ أي : بها ﴿ علي ﴾ أي : وعلى أولادي ﴿ وعلى والديّ ﴾ وهي : التوحيد.
وأكثر المفسرين : على أنّ الأشد ثلاث وثلاثون. قال الرازي : مراتب الحيوان ثلاثة ؛ لأنّ بدن الحيوان لا يكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية والرطوبة الغريزية زائدة في أوّل العمر ناقصة في آخره. والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدّتين، فثبت أنّ مدّة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام فأوّلها : أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية. وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذواتها وزيادتها في الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشء والثانية وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان. وهذا هو سن الوقوف، وهو حين الشباب.
والمرتبة الثالثة : أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول : هو النقصان الخفي، وهو سن الكهولة. والثاني : هو النقصان الظاهر، وهو سن الشيخوخة.
قال المفسرون : لم يبعث نبيّ قط إلا بعد الأربعين سنة. قال الرازي : وهذا يشكل بعيسى عليه السلام فإنه تعالى جعله نبياً من أوّل عمره، إلا أنه يجب أن يقال : الأغلب أنه ما جاء الوحي إلا بعد الأربعين، وهكذا كان الأمر في حق نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم إنّ أبا بكر دعا أيضاً فقال :﴿ وأن أعمل صالحاً ترضاه ﴾ قال ابن عباس : أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله تعالى، منهم بلال ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ودعا أيضاً فقال :﴿ وأصلح لي في ذرّيتي ﴾ فأجاب الله تعالى دعاءه، فلم يكن له ولد إلا آمن فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً وأدرك أبواه وابنه عبد الرحمان وابن ابنه أبو عتيق النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنون. ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة.
تنبيه أصلح يتعدى بنفسه لقوله تعالى :﴿ وأصلحنا له زوجه ﴾ ( الأنبياء : ٩٠ ) وإنما تعدى بفي لتضمنه معنى ألطف بي في ذرّيتي، أو لأنه جعل الذرّية ظرفاً للإصلاح والمعنى : هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم.
﴿ إني تبت ﴾ أي : رجعت ﴿ إليك ﴾ عن كل ما يقدح في الإقبال عليك. وأكده إعلاماً بأنّ حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع : فينكر إخباره به وكذا قوله :﴿ وإني من المسلمين ﴾ أي : الذين أسلموا بظواهرهم وبواطنهم فانقادوا أتمّ انقياد.
﴿ أولئك ﴾ أي : العالون الرتبة، القائلون هذا القول أبو بكر، وغيره ﴿ الذين نتقبّل ﴾ بأسهل وجه ﴿ عنهم ﴾ وأشار بصيغة التفعل إلى أنه يعمل في قبوله عمل المعتني، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله وقوله تعالى :﴿ أحسن ما عملوا ﴾ أي : أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا.
فإن قيل : كيف قال الله تعالى ﴿ أحسن ﴾ والله تعالى يتقبل الأحسن وما دونه ؟.
أجيب بوجهين أحدهما : أنّ المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى :﴿ واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم ﴾ ( الزمر : ٥٥ ) وكقوله : الناقص والأشج أعدلا بني مروان. أي : عادلا بني مروان.
ثانيهما : أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. والأحسن ما يغاير ذلك، وهو المندوب، أو الواجب.
ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً، نبه على ذلك بقوله تعالى :﴿ ويتجاوز ﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿ عن سيئاتهم ﴾ أي : فلا يعاقبهم عليها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي : بنون مفتوحة قبل الفوقية من ﴿ يتقبل ﴾ ونصب ﴿ أحسن ﴾، ونون مفتوحة قبل الفوقية من ﴿ يتجاوز ﴾ والباقون بياء مضمومة قبل الفوقية من ﴿ يتقبل ﴾، و﴿ يتجاوز ﴾ ورفع ﴿ أحسن ﴾ وقوله تعالى :﴿ في أصحاب الجنة ﴾ في محل الحال أي : كائنين في جملة أصحاب الجنة. كقولك أكرمني الأمير في أصحابه أي : في جملتهم. وقيل : خبر مبتدأ مضمر أي : هم في أصحاب الجنة وقوله تعالى :﴿ وعد الصدق ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنّ قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يتقبل عنهم ﴾ في معنى الوعد. فيكون قوله تعالى :﴿ يتقبل ﴾، و﴿ يتجاوز ﴾ وعداً من الله تعالى لهم بالتقبل والتجاوز. والمعنى يعامل من صفته ما قدّمنا بهذا الجزاء. وذلك وعد من الله تعالى صدق، لكونه مطابقاً للواقع ﴿ الذي كانوا يوعدون ﴾ أي : يقع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام حين أخبروا بقوله تعالى :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات ﴾ ( التوبة : ٧٢ ).
ولما وصف تعالى الولد البار بوالديه وصف الولد العاق لهما. بقوله تعالى :﴿ والذي قال لوالديه أف لكما ﴾ والمراد به الجنس. وقال ابن عباس والسدي : نزلت في عبد الله بن أبيّ. وقيل : في عبد الرحمان بن أبي بكر قبل إسلامه ؛ كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وهو ﴿ قوله أف لكما ﴾ وقال الحسن وقتادة : إنها نزلت في كل كافر عاق لوالديه وعلى ثبوت أنها نزلت فيمن تقدم، لا ينافي أن المراد الجنس، فإنّ خصوص السبب لا يوجب التخصيص وفي ﴿ أف ﴾ قراءات ذكرت في سورة بني إسرائيل ﴿ أتعدانني ﴾ أي : على سبيل الاستمرار والتجديد في كل وقت وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية وفتح الياء نافع وابن كثير وسكنها الباقون. ﴿ أن أخرج ﴾ أي : من مخرج يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً يحييني كما كنت أوّل مرّة ﴿ وقد ﴾ أي : والحال أنه قد ﴿ خلت ﴾ أي : مضت على سنن الموتى ﴿ القرون ﴾ أي : الأمم الكثيرة مع صلابتهم ﴿ من قبلي ﴾ أي : قرناً بعد قرن، وتطاولت الأزمان، ولم يخرج منهم أحد من القبور ﴿ وهما ﴾ أي : والحال أنهما كلما قال لهما ذلك ﴿ يستغيثان الله ﴾ أي : يطلبان بدعائهما من له جميع صفات الكمال أن يغيثهما بإلهامه قبول كلامهما ويقولان إن لم ترجع ﴿ ويلك ﴾ أي : هلاكك بمعنى : هلكت ﴿ آمن ﴾ أي : أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره، وهو الذي ينقذ من كل هلكة، ويوجب كل فوز، بالتصديق بالبعث وبكل ما جاء عن الله تعالى. ثم علّلا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره بقولهما :﴿ إنّ وعد الله ﴾ أي : الملك المحيط بجميع صفات الكمال حق أي : ثابت أعظم ثبات ؛ لأنه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الإخلاف الذي لا يرضاه لنفسه أقل الملوك. فكيف بملك الملوك ؟ ﴿ فيقول ﴾ مسبباً عن قولهما ومعقباً له ﴿ ما هذا ﴾ أي : الذي تذكرانه من البعث ﴿ إلا أساطير ﴾ أي : أكاذيب ﴿ الأوّلين ﴾ التي كتبوها.
﴿ أولئك ﴾ أي البعداء من العقل والمروءة وكل خير ﴿ الذين حق ﴾ أي : ثبت ووجب ﴿ عليهم القول ﴾ أي : الكامل في بابه، بأنهم أسفل السافلين. وهذا كما قال البيضاوي يردّ على من قال : إنها نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر ؛ لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جب عنه إن كان لإسلامه وقال البقاعي : وهذا يكذب من قال : إنها نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة فحقت له الجنة، ولما أثبت لهم هذه الشنعة بين كثرة من شاركهم فيها بقوله تعالى :﴿ في ﴾ أي : كائنين في ﴿ أمم ﴾ أي : خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس، ويتبع بعضهم بعضاً ﴿ قد خلت ﴾ أي : تلك الأمم ﴿ من قبلهم ﴾ وكانوا قدوتهم وأدخل الجار ؛ لأنّ المحكوم عليه بعض السالفين ﴿ من الجنّ ﴾ لأنّ العرب كانت تستعظمهم، وتستجير بهم وذلك لأنهم يتظاهرون لهم، ويؤذونهم ولم يقطع أذاهم لهم، وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن : فإنه أحرقهم بأنواره، وجلاهم عن تلك البلاد بتجلي آثاره ﴿ وإلانس ﴾ ولا نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم وقوله تعالى ﴿ إنهم ﴾ أي : كلهم ﴿ كانوا ﴾ أي : جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه ﴿ خاسرين ﴾ أي عريقين في هذا الوصف تعليل للحكم على الاستئناف.
﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾ قال ابن عباس : يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقال مقاتل : ولكل واحد من الفريقين يعنى البارّ بوالديه والعاق لهما درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية.
فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات على أهل النار وقد روي «الجنة درجات والنار دركات » أجيب من وجوه أحدها : أنّ ذلك على جهة التغليب وثانيها : قال ابن زيد : درج أهل الجنة تذهب علواً، ودرج أهل النار تذهب هبوطاً وثالثها : المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات، ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات.
وقوله تعالى :﴿ وليوفيهم أعمالهم ﴾ أي : جزاءها معلله محذوف، تقديره : جازاهم بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وهشام، وعاصم : بالياء التحتية أي : الله والباقون بالنون أي نحن وقوله تعالى :﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي : شيئاً بنقص للمؤمنين ولا بزيادة للكافرين ( والواو ) إمّا استئناف وإمّا حال مؤكدة.
﴿ ويوم ﴾ أي : واذكر يا أفضل الخلق لهؤلاء يوم يعرضون هكذا كان الأصل. ولكنه تعالى أظهر الوصف الذي أوجب لهم الخزي بقوله تعالى :﴿ يعرض الذين كفروا على النار ﴾ أي : يصلون لهيبها ويقلبون فيها، كما يعرض اللحم الذي يشوى وقيل : تعرض عليهم النار ليروا أهوالها، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع ؛ لأنهم لم يذكروه تعالى حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها عند مخالفة أمره سبحانه وتعالى ﴿ أذهبتم طيباتكم ﴾ أي : لذاتكم باتباعكم الشهوات. وقرأ ابن كثير وابن عامر قبل الدال : بهمزتين مفتوحتين الأولى : محققة بلا خلاف. والثانية : مسهلة بخلاف عن هشام وأدخل هشام بينهما ألفاً ولم يدخل ابن كثير وابن ذكوان والباقون بهمزة واحدة محققة. ﴿ في حياتكم الدنيا ﴾ أي : القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها ﴿ واستمتعتم ﴾ أي : طلبتم وأوجدتم انتفاعكم ﴿ بها ﴾ وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم. والمعنى : أن ما قدّر لكم من الطيبات والدرجات فقد استوفيتموه في الدنيا فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها وعن عمر رضي الله عنه «لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي » قال الواحدي : إنّ الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل لأنّ هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع لأنها وردت في حق الكافر وإنما وبخ الله تعالى الكافر لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤدّ شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ ( الأعراف : ٣٢ ) نعم لا ينكر أنّ الاحتراز عن التنعم أولى لأنّ النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربما حمل الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي.
روى عمر قال :«دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على رمال حصير، قد أثر الرمال بجنبه فقلت : يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يوسع على أمتك، فإنّ فارس والروم قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله تعالى. فقال صلى الله عليه وسلم : أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا » وعن عائشة رضي الله عنها قالت :«ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم » وعنها أنها قالت :«كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً وما هو إلا الماء والتمر » «وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم الشعير » والأحاديث في هذا كثيرة.
ولما كانت الاستهانة بالأوامر والنواهي استهانة بيوم الجزاء سبب عنه قوله تعالى :
﴿ فاليوم تجزون ﴾ أي : على إعراضكم عنا ﴿ عذاب الهون ﴾ أي : الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلّ وخزي ﴿ بما كنتم ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ تستكبرون ﴾ أي : تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار ﴿ في الأرض ﴾ التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب أحق شيء بالتواضع والذل والهوان ﴿ بغير الحق ﴾ أي : الأمر الذي يطابقه الواقع، وهو أوامرنا ونواهينا ﴿ وبما كنتم ﴾ أي : على الاستمرار ﴿ تفسقون ﴾ أي : بسبب الاستكبار الباطل، والفسوق عن طاعة الله تعالى.
تنبيه : دلت الآية على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأنّ الله تعالى علل عذابهم بأمرين ؛ أولهما : الكفر. وثانيهما : الفسق وهذا الفسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر، لأنّ العطف يوجب المغايرة فثبت أنّ فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات.
ولما كان قوم عاد أكثر أموالاً وقوة وجاهاً من أهل مكة، ذكر تعالى قصتهم ليعتبروا، فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا. فقال عز من قائل :﴿ واذكر ﴾ يا أشرف الرسل، لهؤلاء الذين لا يتعظون ﴿ أخا عاد ﴾ وهو أخوك هود عليه السلام، الذي كان بين قوم أشدّ من قومك، ولم يخف عاقبتهم وأمرهم ونهاهم ونجيناه منهم فهو لك قدوة، وفيه أسوة، ولقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة. وقوله تعالى :﴿ إذ أنذر ﴾ بدل اشتمال من ﴿ أخا ﴾ ﴿ قومه ﴾ أي : الذين لهم قوة على القيام فيما يحاولونه. ﴿ بالأحقاف ﴾ قال ابن عباس : واديين عمان ومهرة، وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له : مهرة إليها تنسب الإبل المهرية. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم. وكانوا من قبيلة إرم قال قتادة : ذكر لنا : أن عاداً كانوا حياً من اليمن، كانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر.
﴿ وقد ﴾ أي : والحال أنّه قد ﴿ خلت النذر ﴾ أي : مرّت ومضت الرسل الكثيرون ﴿ من بين يديه ﴾ أي : قبل هود، كنوح وشيث وآدم عليهم السلام ﴿ ومن خلفه ﴾ أي : بعده والمعنى ؛ أنّ الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، والجملة حال، أو اعتراض. ولما أشار إلى كثرة الرسل، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء، فقال مفسراً للإنذار معبراً بالنهي ﴿ أن لا تعبدوا ﴾ أي : أيها العباد المنذرون، بوجه من الوجوه شيئاً من الأشياء ﴿ إلا الله ﴾ أي : الملك الذي لا ملك غيره، ولا خالق سواه، ولا منعم إلا هو فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم والملك لا يقرّ على مثل هذا ﴿ إني أخاف عليكم ﴾ لكونكم قومي، وأعز الناس عليّ ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ أي لا يدع جهة إلا ملأها عذابه إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك.
﴿ قالوا ﴾ له في جوابه منكرين عليه ﴿ أجئتنا ﴾ أي : يا هود، ﴿ لتأفكنا ﴾ أي : لتصرفنا عن وجه أمرنا إلى قفاه ﴿ عن آلهتنا ﴾ فلا نعبدها، ولا نعتد بها ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ من العذاب ؛ سموا الوعيد وعداً ﴿ إن كنت ﴾ أي : يقال عنك كوناً ثابتاً ﴿ من الصادقين ﴾ في أنك رسول من الله، وأنه يأتينا بما تخافه علينا من العذاب إن أصررنا.
﴿ قال ﴾ أي هود مكذباً لهم في نسبتهم إليه ادعاء شيء من ذلك :﴿ إنما العلم ﴾ أي : المحيط بكل شيء، عذابكم وغيره. ﴿ عند الله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال، فهو ينزل علم ما توعدون به على من يشاء إن شاء. ولا علم لي إلى الآن، ولا لكم بشيء من ذلك ولا قدرة، ﴿ وأبلغكم ﴾ أي : في الحال والاستقبال وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة وتخفيف اللام والباقون : بفتح الموحدة وتشديد اللام. ﴿ ما أرسلت به ﴾ ممن لا مرسل في الحقيقة غيره، سواء أكان وعداً أم وعيداً أم غير ذلك. ولم يذكر الغاية ؛ لأنّ ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم ﴿ ولكني أراكم ﴾ أي : أعلمكم علماً كالرؤية. وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو : بفتح الياء والباقون : بسكونها. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين وأمالها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي محضة. والباقون بالفتح. ﴿ قوماً تجهلون ﴾ أي : باستعجال العذاب. فإنّ الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا مقترحين.
﴿ فلما رأوه ﴾ أي : العذاب الذي توعدهم به ﴿ عارضا ﴾ أي : سحاباً أسود بارزاً في الأفق، ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر، حال كونه قاصداً إليهم. ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾ أي : طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك. ﴿ قالوا ﴾ على عادة جهلهم، مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل، لأنّ جهلهم به استمّر حتى كاد أن يواقعهم. ﴿ هذا عارض ﴾ أي : سحاب معترض في عرض السماء. أي : ناحيتها. ﴿ ممطرنا ﴾ قال المفسرون : كان حبس عنهم المطر أياماً فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى ﴿ بل هو ﴾ أي : هذا العارض الذي ترونه ﴿ ما استعجلتم به ﴾ أي : طلبتم العجلة في إتيانه وقوله تعالى :﴿ ريح ﴾ بدل من ﴿ ما ﴾ ﴿ فيها عذاب أليم ﴾ أي : شديد الإيلام وروي أنها كانت تحمل الفسطاط فترفعه في الجوّ، وتحمل الظعينة في الجوّ، فترفعها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، ثم تقذف بهم.
ثم وصف تلك الريح. بقوله تعالى :﴿ تدمر ﴾ أي : تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً. ﴿ كل شيء ﴾ أي : أتت عليه من الحيوان والناس وغيرهما، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه السلام ومن آمن به، فسلامته أمر خارق للعادة. كما أنّ أمرها في إهلاك كل ما مرّت عليه أمر خارق للعادة. ﴿ بأمر ربها ﴾ أي : المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام من أعدائه.
فإن قيل : ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب : بأنّ فائدة ذلك : الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها، مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه، وأكابر جنوده. وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرانات.
قيل : إنّ أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار. وروي : أنّ أوّل ما عرفوا به أنه عذاب أليم : أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، وحملتهم، فرمت بهم في البحر.
وروي : أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحاً طيبة هادئة، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض.
وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة، ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه «قال صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى خازن الريح أن يرسل على عاد إلا مقدار الخاتم وذلك القدر أهلكهم بكليتهم » كما قال تعالى :﴿ فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ﴾ أي : فجاءتهم الريح فدمّرتهم، فأصبحوا بحيث لو خضت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم. وقرأ عاصم وحمزة : بالياء التحتية المضمومة ورفع النون من مساكنهم، لقيامه مقام الفاعل. والباقون : بالتاء الفوقية مفتوحة مبنياً للفاعل، ونصب مساكنهم مفعولاً به. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين، وأبو عمرو وحمزة والكسائي محضة. وكذلك من ﴿ القرى ﴾ ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الجزاء الهائل ؛ في أصله، أو جنسه، أو نوعه، أو شخصه من الإهلاك. ﴿ نجزي ﴾ بعظمتنا دائماً إذا شئنا ﴿ القوم المجرمين ﴾ أي : العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع «وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح فزع وقال :«اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، وإذا رأى مخيلة أي : سحابة. قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فنقول له : يا رسول الله ما تخاف ؟ فيقول : إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا : هذا عارض ممطرنا فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا » فإن قيل قال تعالى :﴿ وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ﴾ ( الأنفال : ٣٣ ) فكيف يحصل التخويف أجيب بأنّ ذلك كان قبل نزول الآية.
ثم أخبر الله تعالى عن مكنة عاد بقوله سبحانه :﴿ ولقد مكناهم ﴾ أي : تمكيناً تظهر به عظمتنا ﴿ فيما ﴾ أي : في الذي ﴿ إن ﴾ نافية أي : ما ﴿ مكناكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ فيه ﴾ من قوّة الأبدان، وطول الأعمار، وكثرة الأموال، وغيرها. ثم إنّهم مع ذلك ما نجوا من عذاب الله تعالى. فكيف يكون حالكم ؟.
تنبيه : قال البقاعي : وجعل النافي إن ؛ لأنها أبلغ من ﴿ ما ﴾ لأن ما تنفى تمام الفوت، لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك. وإن تنفي أدنى مظاهر مدخولها، فكيف بما وراء من تمامه ؟ لأنّ الهمزة أوّل مظهر لفوت الألف، والنون لمطلق الإظهار. هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ، وصونه عن ثقل التكرار، إلى غير ذلك من بديع الأسرار ا. ه.
وقال الزمخشريّ : إن نافية أي : فيما ما مكناكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ، لما في مجامعة ما بمثلها من التكرار المستبشع، ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ولقد أغث أبو الطيب في قوله :
لعمرك ما ما بان منك لضارب ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : لعمرك ما إن بان منك لضارب. وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش رحمه الله تعالى :
يرجى المرء ما إن لا يراه *** وتعرض دون أدناه الخطوب
وتؤوّل بأنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه والوجه هو الأوّل ﴿ وجعلنا لهم ﴾ أي على ما اقتضته عظمتنا ﴿ سمعاً ﴾ وأفرده لقلة التفاوت فيه ﴿ وأبصاراً ﴾ وجمعه لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار، وكذا في قوله تعالى :﴿ وأفئدة ﴾ أي : فتحنا عليهم أبواب النعم، وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل. وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السماوات والأرض وأعطيناهم أفئدة، أي : قلوباً فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها. فلا جرم قال تعالى :﴿ فما أغنى عنهم ﴾ في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان هود عليه السلام ثم النقمة بيد الريح ﴿ سمعهم ﴾ وأكد النفي بتكرير النافي بقوله تعالى :﴿ ولا أبصارهم ﴾ وكذا في قوله تعالى :﴿ ولا أفئدتهم ﴾ أردنا إهلاكهم، وأكد بإثبات الجار بقوله تعالى :﴿ من شيء ﴾ أي : من الأشياء وإن قل وقال الجلال المحلي إنّ ﴿ من ﴾ زائدة وقوله تعالى :﴿ إذ ﴾ معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل. أي : لأنهم ﴿ كانوا ﴾ أي : طبعاً وخلقاً ﴿ يجحدون ﴾ أي : يكرّرون على ممر الزمان الجحد ﴿ بآيات الله ﴾ أي : الإنكار لما يعرب عن دلائل الملك الأعظم ﴿ وحاق ﴾ أي : نزل ﴿ بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ لأنهم ؛ كانوا يطلبون نزول العذاب على سبيل الاستهزاء.
ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم أتبعهم من كان مشاركاً لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك فقال تعالى :﴿ ولقد أهلكنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ ما حولكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ من القرى ﴾ كحجر ثمود وعاد وأرض سدوم وسبأ ومدين والأيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس، وغيرهم ممن فيهم معتبر ﴿ وصرّفنا ﴾ أي : بينا ﴿ الآيات ﴾ أي : الحجج البينات ﴿ لعلهم ﴾ أي : الكفار ﴿ يرجعون ﴾ أي : ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات، حال من يرجع عن الغيّ الذي كان يرتكبه، لتقليد أو شبهة كشفتها الآيات وفضحتها الدلالات ؛ فلم يرجعوا فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكهم.
﴿ فلولا ﴾ أي : فهلا ولم لا ﴿ نصرهم الذين ﴾ أي : نصر هؤلاء المهلكين الذين ﴿ اتخذوا ﴾ أي : اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل حتى أخذوا. ﴿ من دون الله ﴾ أي : الملك الذي هو أعظم من كل عظيم ﴿ قرباناً ﴾ أي : متقرباً بهم إلى الله تعالى :﴿ آلهة ﴾ معه وهم الأصنام ومفعول اتخذوا الأوّل ضمير محذوف يعود على الموصول أي : هم، وقرباناً المفعول الثاني، وآلهة بدل منه ﴿ بل ضلوا ﴾ أي : غابوا ﴿ عنهم ﴾ وقت نزول النقمة. وقرأ الكسائي بإدغام اللام في الضاد، والباقون بالإظهار ﴿ وذلك ﴾ أي : اتخاذهم الأصنام آلهة قرباناً ﴿ إفكهم ﴾ أي : كذبهم ﴿ وما كانوا ﴾ أي : على وجه الدوام لكونه في طباعهم ﴿ يفترون ﴾ أي : يتعمدون كذبه، لأنّ إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا كذلك، لأنّ من نظر فيها مجرداً نفسه عن الهوى اهتدى.
﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر إذ ﴿ صرفنا ﴾ أي : أملنا ﴿ إليك نفراً ﴾ وهو اسم يطلق على ما دون العشرة وسيأتي في ذلك خلاف ﴿ من الجنّ ﴾ أي جنّ نصيبين اليمن، أو جنّ نينوى ﴿ يستمعون القرآن ﴾ أي : يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس، وأنت في صلاة الفجر في نخلة، تصلي بأصحابك ﴿ فلما حضروه ﴾ أي : صاروا بحيث يستمعونه ﴿ قالوا ﴾ أي : قال بعضهم لبعض، ورضي الآخرون ﴿ أنصتوا ﴾ أي : اسكتوا، وميلوا بكلياتكم، واستمعوا. حفظاً للأدب على بساط الخدمة وفيه تأدب مع العلم في تعلمه. قال القشيري : فأهْل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار.
تنبيه : ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين : أحدهما «قال سعيد بن جبير : كان الجنّ تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب، وكان قد اتفق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن، فمرّ به نفر من أشرار جنّ نصيبين، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، فسمعوا القرآن فعرفوا أن ذلك هو السبب ». والقول الثاني أنّ الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله تعالى إليه نفراً من الجنّ يستمعون منه القرآن وينذرون قومهم روي أن الجنّ كانوا يهوداً لأنّ في الجنّ مللاً كما في الإنس من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، والمجوس وأطبق المحققون على أنّ الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجنّ ثواب قال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب يلبثون في أبواب الجنة ويزدحمون على أبوابها. «وروى الطبراني عن ابن عباس أن أولئك الجنّ كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم ». «وعن زرّ ابن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة » «وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى » وروي في الحديث :«أنّ الجنّ ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون ويظعنون » واختلفت الروايات هل كان عبد الله بن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ أو لا ؟ وروي عن أنس قال كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لمشية جني، ثم أتى فسلم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم إنها لنغمة جنيّ فقال الشّيخ : أجل يا رسول الله. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : من أيّ الجنّ أنت ؟ فقال يا رسول الله، أنا هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين. قال : أجل يا رسول الله، قال : كم أتى عليك من العمر ؟ قال : أكلت عمر الدنيا إلا القليل، كنت حين قُتل هابيل غلاماً ابن أعوام، فكنت أتشرف على الآكام، وأصطاد الهام، وأورّش بين الأنام. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بئس العمل. فقال : يا رسول الله، دعني من العتب فإني ممن آمن مع نوح عليه السلام وعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال : والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت هوداً فعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت إبراهيم، وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رمي به في المنجنيق، وكنت معه في النار إذ ألقي فيها وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره. ولقيت موسى بن عمران بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى ابن مريم عليهما السلام. فقال لي : إن لقيت محمداً فاقرأ عليه السلام. قال أنس : فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : وعليه السلام وعليك يا هام ما حاجتك ؟ قال : إنّ موسى علمني التوراة، وإنّ عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن قال أنس : فعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم سورة الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كوّرت وقل يا أيها الكافرون وسورة الإخلاص والمعوّذتين. ﴿ فلما قضي ﴾ أي : فرغ من قراءته ﴿ ولّوا ﴾ أي : رجعوا ﴿ إلى قومهم ﴾ الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه ﴿ منذرين ﴾ أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
ولما كان كأنه قيل ما قالوا لهم في إنذارهم ؟ قيل :﴿ قالوا يا قومنا ﴾ مترققين لهم، ومترفقين بهم بذكر ما يدل على أنهم منهم، يهمهم ما يهمهم ﴿ إنا سمعنا ﴾ أي : ما بيننا وبين القارىء واسطة. وأشاروا إلى أنه لم ينزل بعد التوراة شيء جامع لجميع ما يراد منه، مغن عن جميع الكتب غير هذا. وبذلك عرفوا أنه ناسخ لجميع الشرائع بقولهم :﴿ كتاباً ﴾ أي : ذكراً جامعاً، لا كما نزل بعد التوراة على بني إسرائيل ﴿ أنزل ﴾ أي : ممن لا منزل غيره، وهو ملك الملوك لأنّ عليه من رونق الكتب الإلهية ما يوجب القطع لسامعه بأنه منها، فكيف إذا انضم إلى ذلك الإعجاز ؟ وعلموا قطعاً بعربيته أنه عربي، وبأنهم كانوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ويسمعون قراءة الناس لما يحدثونه من الحكم والخطب والكهانة والرسائل والأشعار، وأنه مباين لجميع ذلك ﴿ من بعد موسى ﴾ فلم يقتدوا بما أنزل بين هذا الكتاب وبين التوراة، من الإنجيل وما قبله، لأنه لا يساوي التوراة في الجمع، وروي عن عطاء والحسن : إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهوداً. «وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ الجنّ ما سمعوا أمر عيسى، فلذلك قالوا من بعد موسى ». ولما أخبروا بأنه منزل، أتبعوه ما يشهد له بالصحة بقولهم :﴿ مصدقاً لما بين يديه ﴾ أي : من جميع كتب بني إسرائيل الإنجيل وما قبله، ثم بينوا تصديقه بقولهم :﴿ يهدي إلى الحق ﴾ الأمر الثابت الذي يطابق الواقع، فلا يقدر أحد على إزالة شيء مما يخبر به الكامل في جميع ذلك ﴿ وإلى طريق ﴾ موصل إلى المقصود ﴿ مستقيم ﴾ لا عوج فيه.
﴿ يا قومنا ﴾ الذين لهم قوة العلم والعمل ﴿ أجيبوا داعي الله ﴾ أي : الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال. فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره وفي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن، كما كان مبعوثاً إلى الإنس ﴿ وآمنوا به ﴾ أي : أوقعوا التصديق بسبب الداعي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم لا بسبب آخر فإن المفعول معه مفعول مع الله تعالى.
فإن قيل قوله تعالى :﴿ أجيبوا داعي الله ﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال وآمنوا به ؟ ! أجيب بأنه إنما ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهمّ الأقسام وأشرفها وقد جرت العادة في القرآن العظيم بأن يذكر اللفظ العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله تعالى ﴿ وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ ( البقرة : ٩٨ ) وقوله تعالى ﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ﴾ ( الأحزاب : ٧ )
ولما أمر تعالى بالإيمان ذكر فائدته بقوله تعالى :﴿ يغفر لكم ﴾ أي : الله تعالى ﴿ من ذنوبكم ﴾ أي : بعضها من الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها، مما أشار إليه قوله تعالى ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ ( الشورى : ٣٠ ) وأما المظالم فلا تغفر إلا برضا أربابها، وقيل :﴿ من ﴾ زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم، وقيل : بل فائدته أن كلمة ﴿ من ﴾ هنا لابتداء الغاية، والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل ﴿ ويجركم ﴾ أي : يمنعكم منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه. ﴿ من عذاب أليم ﴾ «قال ابن عباس : فاستجاب لله تعالى لهم من قومهم نحو سبعين رجلاً من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ».
تنبيه : اختلفوا في أن الجنّ هل لهم ثواب أو لا فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، ويقال لهم : كونوا تراباً، مثل البهائم واحتجوا على ذلك بقوله تعالى ﴿ ويجركم من عذاب أليم ﴾ وهو قول أبي حنيفة.
والصحيح أنّ حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وتقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً نحو ذلك قال الضحّاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، لأنّ كل دليل دلّ على أنّ البشر يستحقون الثواب فهو بعينه قائم في حق الجن، والفرق بينهما بعيد جداً وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنهم يدخلون الجنة، فقيل : هل يصيبون من نعيمها قال يلهمهم الله تعالى تسبيحه وذكره فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة وقال أرطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب هل للجنّ ثواب ؟ قال : نعم وقرأ ﴿ لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ ﴾ ( الرحمان : ٥٦ ) وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها ».
ولما أفهم كلامهم أنهم إن لم يجيبوا ينتقم منهم بالعذاب الأليم، أتبعوه ما هو أغلظ إنذاراً منه فقالوا ﴿ ومن لا يجب ﴾ أي : لا يتجدد منه أن يجيب ﴿ داعي الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفء له ﴿ فليس بمعجز ﴾ أي : لا يعجز الله عز وجلّ بالهرب منه ﴿ في الأرض ﴾ فيفوته فإنه أيّ مكان سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به ﴿ وليس له من دونه ﴾ أي : الله تعالى الذي لا مجير عليه ﴿ أولياء ﴾ يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء ﴿ أولئك ﴾ البعيدون من كل خير ﴿ في ضلال مبين ﴾ ظاهر في نفسه أنه ضلال مظهر لكل أحد قبح إحاطته بهم.
تنبيه : ههنا همزتان مضمومتان من كلمتين ولا نظير لهما في القرآن العظيم قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى كالواو مع المدّ والقصر وسهل الثانية ورش وقنبل بعد تحقيق الأولى ولهما أيضاً إبدال الثانية ألفاً وأسقط الأولى أبو عمرو مع المدّ والقصر والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ.
﴿ أوَلم يروا ﴾ أي : يعلموا علماً هو في الوضوح كالرؤية ﴿ أن الله ﴾ ودل على ما دلّ عليه هذا الاسم الأعظم بقوله تعالى :﴿ الذي خلق السماوات ﴾ على ما احتوت عليه بما يعجز الوصف من العبر ﴿ والأرض ﴾ على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان والخبر ﴿ ولم يعي ﴾ أي : ولم يتعب ولم يعجز ﴿ بخلقهنّ ﴾ أي : بسبب من الأسباب. فإنه لو حصل له شيء من ذلك أدّى إلى نقصان فيهما، أو في إحداهما. وأكد الإنكار المتضمن للنفي بزيادة الجارّ في خبر أنّ فقال :﴿ بقادر ﴾ أي : قدرة عظيمة ﴿ على أن يحيي ﴾ أي : على سبيل التجديد مستمرّاً ﴿ الموتى ﴾ والأمر فيهم لكونه إعادة وكونه جزءاً يسيراً مما ذكر، اختراعه أصغر شأناً وأسهل صنعاً وأجاب بقوله تعالى ﴿ بلى ﴾ لأنّ هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي. أي : قد علموا أنه قادر على ذلك علماً هو في إيقانه كالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك، وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم، ولكنهم عن ذلك غافلون لأنهم عنه معرضون. وقوله تعالى :﴿ إنه على كل شيء قدير ﴾ تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود. كأنه لما صدر السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد.
ولما أثبت البعث بما أقام من الدلائل، ذكر بعض ما يحصل في يومه من الأهوال بقوله تعالى :﴿ ويوم ﴾ أي : واذكر يوم ﴿ يعرض ﴾ أي : بأيسر أمر من أوامرنا ﴿ الذين كفروا ﴾ أي : ستروا بغفلتهم وتماديهم الأدلة الظاهرة ﴿ على النار ﴾ عرض الجند على الملك، فيسمعون من تغيظها وزفيرها ما لو قدّر أن أحداً يموت في ذلك اليوم لماتوا من معاينته، وهائل رؤيته ثم يقال لهم ﴿ أليس هذا ﴾ أي : الأمر الذي كنتم به توعدون، ولرسلنا في إخبارهم به تكذبون ﴿ بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، أم هو خيال وسحر ﴿ قالوا ﴾ أي : مصدّقين حيث لا ينفعهم التصديق ﴿ بلى ﴾ وما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه بقولهم :﴿ وربنا ﴾ أي إنه لحق هو أثبت الأشياء، وليس فيه شيء مما يقارب السحر.
تنبيه : المقصود من هذا الاستفهام التحكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. ﴿ قال فذوقوا العذاب ﴾ أي : باشروه مباشرة الذائق باللسان. ومعنى الأمر ؛ الإهانة بهم والتوبيخ لهم ثم صرّح بالسبب فقال تعالى :﴿ بما كنتم ﴾ أي : خلقاً مستمرّاً ﴿ تكفرون ﴾ في دار العمل.
ولما قرّر تعالى المطالب الثلاثة ؛ وهي التوحيد، والنبوّة، والمعاد. وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنّ الكفار كانوا يؤذونه ويوحشون صدره فقال تعالى :﴿ فاصبر ﴾ أي : على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة، وعلى أذى قومك قال القشيري : الصبر، هو الوثوق بحكم الله تعالى والثبات من غير بث ولا استكراه ﴿ كما صبر أولو العزم ﴾ أي : الثبات والجدّ في الأمور. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أولو الحزم وقوله تعالى :﴿ من الرسل ﴾ يجوز فيه أن تكون ﴿ من ﴾ تبعيضية وعلى هذا فالرسل : أولو عزم وغير أولي عزم ويجوز أن تكون للبيان، وعليه جرى الجلال المحلي فكلهم على هذا أولو عزم.
قال ابن زيد كل الرسل كانوا أولي عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز. وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعلة كانت فيه. ألا ترى أنه قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم ﴿ ولا تكن كصحاب الحوت ﴾ ( القلم : ٤٨ ) وقال قوم : هم نجباء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ ( الأنعام : ٩٠ ) وقال الكلبيّ هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله تعالى وقيل : هم ستة ؛ نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى. وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل : هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده، وذهاب بصره ويوسف صبر في الجب والسجن، وأيوب صبر على الضرّ. وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة ونظمهم بعضهم في بيت فقال :
محمد إبراهيم موسى كليمه فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم
قال البغوي : ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى ﴿ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ﴾ ( الأحزاب : ٧ ) وفي قوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ﴾ ( الشورى : ١٣ ) الآية.
وعن مسروق قال «قالت عائشة رضي الله عنها : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا الصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها. ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم قال تعالى ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ وإني والله لا بدّ لي من طاعته والله لأصبرنّ كما صبروا ولأجهدنّ، ولا قوّة إلا بالله ».
ولما أمره الله تعالى بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل فقال عز من قائل :﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ أي : لا تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. فإنه نازل بهم في وقته لا محالة. قيل : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه، وأحب أن ينزل الله تعالى العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أنّ ذلك العذاب إذا نزل بهم يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال تعالى :﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون ﴾ أي : من العذاب بهم في الآخرة ﴿ لم يلبثوا ﴾ أي : في الدنيا ﴿ إلا ساعة من نهار ﴾ استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا، ولأنّ ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن قال الشاعر :
كأنّ شيئاً لم يكن إذا مضى كأنّ شيئاً لم يكن إذا أتى
تنبيه : تم الكلام ههنا وقوله تعالى ﴿ بلاغ ﴾ خبر مبتدأ محذوف قدره بعضهم : تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله تعالى ﴿ إلا ساعة من نهار ﴾ وبعضهم : هذا أي القرآن بلاغ أي تبليغ من الله تعالى إليكم وجرى عليه الجلال المحلي. ﴿ فهل ﴾ أي : لا ﴿ يهلك ﴾ أي : بالعذاب إذا نزل ﴿ إلا القوم ﴾ أي : الذين هم أهل القيام بما يحاولونه من اللدد، ﴿ الفاسقون ﴾ أي : العريقون في إدامة الخروج عن الانقياد والطاعة، وهم الكافرون. قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع فضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم : ما في الرجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية. وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري : من أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ سورة الأحقاف كتب الله له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا ». حديث موضوع.
Icon