تفسير سورة النجم

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة النجم من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ

﴿ والنجم إذا هوى ﴾ النجم اسم جنس يُراد به جميع النجوم، وقوله ﴿ إذا هوى ﴾ : لها معنيان، المعنى الأول : إذا غاب، والمعنى الثاني : إذا سقط منه شهاب على الشياطين التي تسترق السمع وهو مقسم به
﴿ ما ضل صاحبكم وما غوى ﴾ هذا جواب القسم، أي المقسم عليه ﴿ ما ضل صاحبكم ﴾ أي : ما جهل، ﴿ وما غوى ﴾ أي : ما عاند، لأن مخالفة الحق إما أن تكون عن جهل، وأما أن تكون عن غي، قال الله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ فإذا انتفى عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهل، وانتفى عنه الغي تبين أن منهجه صلى الله عليه وسلم علم ورشد، علم ضد الجهل وهو الضلال، ﴿ ما ضل صاحبكم ﴾ ورشد ضد الغي ﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ إذاً النبي عليه الصلاة والسلام كلامه حق وشريعته حق، لأنها عن علم ورشد، وقوله :﴿ ما ضل صاحبكم ﴾ يخاطب قريشاً، جاء بهذا الوصف لفائدتين :
الأولى : الإشارة إلى أنهم يعرفونه، ويعرفون نسبه، ويعرفون صدقه، ويعرفون أمانته، فهو ليس شخصاً غريباً عنهم حتى يقولوا لا نؤمن به، لأننا لا نعرفه، بل هو صاحبهم الذي نشأ فيهم، فكيف بالأمس يصفونه بالأمين، والآن يصفونه بالكاذب الخائن.
الثانية : أنه إذا كان صاحبهم فإن مقتضى الصحبة أن يصدقوه وينصروه لا أن يكونوا أعداء له. فهو لم يقل «ما ضل رسول الله » أو«ما ضل محمد »، بل قال :﴿ ما ضل صاحبكم ﴾، فالفائدة من هذا هو أن مقتضى الصحبة أن يكونوا عارفين به، ومقتضى الصحبة أن يكونوا مناصرين له
﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ أي : لا يتكلم بشيء صادر عن الهوى بأي حال من الأحوال، فما حكم بشيء من أجل الهوى، ولكنه ينطق بما أوحي إليه من القرآن، وما أوحي إليه من السنة، وما اجتهد به صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتهاداً يريد به المصلحة، فنطقه عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام : الأول : أن ينطق بالقرآن. الثاني : أن ينطق بالسنة الموحاة إليه التي أقرها الله تعالى على لسانه. الثالث : أن ينطق باجتهاد لا يريد به إلا المصلحة، أما نحن فننطق عما نريد به المصلحة، وننطق عن الهوى، وليس كل إنسان منا سالم من الهوى، يميل مع صاحبه، ويميل مع قريبه، ويميل مع الغني، ويميل مع الفقير، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتكلم عن هوى، وإذا كان لايمكن أن ينطق عن الهوى صار لا ينطق إلا بحق
﴿ إن هو إلا وحى يوحى ﴾ يعني ما القرآن ﴿ إلا وحى يوحى ﴾، أي : وحي من الله - عز وجل - والواسطة بين الله وبين الرسول
﴿ علمه شديد القوى ﴾ يعني علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوحي شديد القوى، أي : ذو القوة الشديدة، فهو من إضافة الصفة إلى موصوفها، وهو جبريل عليه السلام، كما قال الله تعالى :﴿ إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين ﴾ فجبريل عليه السلام قوي شديد أمين كريم، لا يمكن أبداً أن يفرط بهذا الوحي الذي نقله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى :﴿ نزل به الروح الأَمين على قلبك لتكون من المنذرين ﴾.
﴿ ذو مرة فاستوى ﴾ المرة : الهيئة الحسنة، فهو ذو قوة، وذو جمال وحسن، وقد رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صورته التي خُلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق، فهو الذي نزل بهذا القرآن، حتى ألقاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى :﴿ نزل به الروح الأَمين على قلبك لتكون من المنذرين ﴾. وقوله :﴿ فاستوى ﴾ أي فعلى، أو فكمل ؛ لأن الاستواء في اللغة العربية تارة يذكر مطلقاً دون أن يقيد، فيكون معناه الكمال، ومنه قوله تعالى :﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا ﴾ أي : كمل، وتارة يقيد بعلى فيكون معناه العلو، كما في قوله تعالى :﴿ وجعل لكم من الفلك والأَنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ﴾ فقال :﴿ لتستووا على ظهوره ﴾، وقال :﴿ إذا استويتم عليه ﴾ أي : علوتم عليه، ومنه قوله تعالى فيما وصف به نفسه :﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ أي : علا عليه - عز وجل - العلو الخاص بالعرش، وهذا غير العلو المطلق على جميع المخلوقات، وتارة يتعدى بإلى، ويقال : استوى إلى كذا، فيفسر بأنه القصد والانتهاء، ومنه قوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان ﴾ وتارة يقيد بالواو فيكون معناه التساوي مثل قولهم : استوى الماء والخشبة، أي ساواه، فقوله هنا :﴿ فاستوى ﴾ يحتمل أن المعنى استوى على ؛ لأن جبريل ينزل من السماء، فيلقي الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يصعد إلى السماء، ويحتمل معناه كمل، ويكون كامل القوة، والهيئة، وكامل من كل وجه مما يليق بالمخلوقات،
﴿ وهو ﴾، أي جبريل عليه الصلاة والسلام﴿ بالأُفق الأَعلى ﴾ أي : الأرفع، وهو أفق السماء،
﴿ ثم دنا ﴾ أي من النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ فتدلى ﴾ أي : قرب من فوق،
﴿ فكان ﴾ أي : جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ قاب قوسين أو أدنى ﴾، وهذا مثل يضرب للقرب، ﴿ قاب قوسين ﴾ يعني قريباً جداً، بل أدنى، فقوله ﴿ أو أدنى ﴾ بمعنى بل، أي بل هو أدنى من ذلك،
﴿ فأوحى ﴾ أي : جبريل ﴿ إلى عبده مآ أوحى ﴾ أي : إلى عبدالله، فالضمير في ﴿ أوحى ﴾ يعود على جبريل والضمير في ﴿ عبده ما أوحى ﴾ يعود إلى الله عز وجل، أي : أوحى جبريل إلى عبدالله ما أوحى، ولم يبين ما أوحى به تعظيماً له، لأن الإبهام يأتي مراداً به التفخيم والتعظيم، ومنه قوله تعالى :﴿ فغشيهم من اليم ما غشيهم ﴾ أي : غشيهم شيء عظيم، وهنا أوحى إلى عبده ما أوحى أي من الشيء العظيم، ولا كلام أعظم من القرآن الكريم ؛ لأنه كلام الله - عز وجل -.
ثم قال الله تبارك وتعالى في قصة المعراج :
﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ اعلم أيها الأخ المسلم أن للنبي صلى الله عليه وسلم إسراءً ومعراجاً، فالإسراء ذكره الله في سورة الإسراء. والمعراج ذكره الله في سورة النجم وكلاهما في ليلة واحدة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، أو سنة ونصف، اختلف المؤرخون في هذا، ثم إن الإسراء والمعراج كان ببدن الرسول صلى الله عليه وسلم وروحه، وليس بروحه فقط، وأما قوله تعالى :﴿ وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنةً للناس ﴾ فالمراد بها رؤية العين، لا رؤية المنام، يقول الله تعالى في سياق الآيات في المعراج :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ الفؤاد القلب، والمعنى أن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم بعينه فإنه رآه بقلبه وتيقنه وعلمه، وذلك أن العين قد ترى شيئاً فيكذبها القلب، وقد يرى القلب شيئاً فتكذبه العين، فمثلاً قد يرى الإنسان شبحاً بعينه فيظنه فلاناً ابن فلان، ولكن القلب يأبى هذا، لأنه يعلم أن فلاناً ابن فلان لم يكن في هذا المكان، فهنا العين رأت، والقلب كذَّب، أو بالعكس، قد يتخيل الإنسان الشيء بقلبه ولكن العين تكذبه، أما ما رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة المعراج فإنه رآه حقًّا ببصره وبصيرته، ولهذا قال :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ بل تطابق القلب مع رؤية العين، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاذباً فما رآه من الآيات العظيمة في تلك الليلة بل هو صادق، ولكن المشركين كذبوه، وقالوا : كيف يمكن أن يصل إلى بيت المقدس ويعرج إلى السماء في ليلة واحدة، ولهذا قال :﴿ أفتمارونه على ما يرى ﴾
﴿ أفتمارونه على ما يرى ﴾ والاستفهام هنا للإنكار والتعجب، ومعنى تمارونه أي : تجادلونه بقصد الغلبة، لهذا عداها بعلى دون( في )، فلم يقل :( أفتمارونه في ما يرى ) بل قال ﴿ على ما يرى ﴾، إشارة إلى أن الفعل ضمن معنى المغالبة، أي أفتجادلونه تريدون أن تغلبوه على ما يرى، أي : على شيء رآه، ولكنه عبر عن الماضي بالمضارع إشارة إلى استحضار هذا الشيء، وأنه عليه الصلاة والسلام حين أخبر به كأنما يراه الآن، لأن الإنسان إذا حدث عن ماضي فربما يقول قائل : لعله نسي فأخطأ، ولكن إذا عبر بالمضارع صار كأنه يتحدث عن شيء هو يشاهده، فالمعنى على ما رأى من قبل، ولكن عبر عمّا رأى من قبل بالمضارع لحكمة بالغة، والحكمة البالغة، حيث تكون تعبيرات القرآن الكريم إذا عبر بخلاف ما يتوقع فلابد أن يكون هناك حكمة تظهر للمتأمل
﴿ ولقد رءاه نزلةً أخرى ﴾ رآه الفاعل محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمفعول به جبريل، أي رأى محمدٌ جبريلَ ﴿ نزلةً أخرى ﴾، أي : مرة أخرى حين نزل، والمرة الأولى رأى الرسولُ عليه الصلاة والسلام جبريلَ وهو في غار حراء، رآه على خلقته التي كان عليها، رآه وله ستمائة جناح قد سد الأفق، كل الأفق الذي حول الرسول عليه الصلاة والسلام في حراء انسد من أجنحة هذا الملك الكريم، وهذا يدل على عظمته، ولهذا وصفه الله أنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، وبأنه ذو مرة أي هيئة حسنة كما سبق في هذه السورة، والمرة الثانية : في السماء فوق السماء، فتارة رآه من تحت السماء من فوق الأرض، وتارة من فوق السماء، ولهذا قال :﴿ ولقد رءاه نزلةً أخرى ﴾ أي مرة أخرى
﴿ عند سدرة المنتهى ﴾، أي رآه عند السدرة، والسدرة شجرة معروفة في الأرض، لكن السدرة التي في السماء السابعة ليست كصفة السدرة التي في الدنيا، بل نبقها كالقلال، وأوراقها كآذان الفيلة، فهي شجرة عظيمة، وسميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها كل صاعد من الأرض، وينتهي إليها كل نازل من عند الله عز وجل، فهي منتهى من الطرفين : الطرف الأول : ما يصعد من الأرض إلى السماء، ينتهي عند هذه السدرة، وما ينزل من الرب عز وجل ينتهي عند هذه السدرة،
﴿ عندها جنة المأوى ﴾، أي : عند هذه السدرة جنة المأوى، إذاً الجنة فوق السماء السابعة، لأنه إذا كانت السدرة فوق السماء السابعة وكانت الجنة عندها لزم أن تكون الجنة فوق السماء السابعة، وهو كذلك، وأعلاها وأوسطها الفردوس، - جعلنا الله من أهلها - فوقها عرش الرحمن جل وعلا، ولهذا قال تعالى :﴿ كلا إن كتاب الأَبرار لفي عليين ﴾ وعليين مبالغة من العلو، يعني في أعلى الشيء، ﴿ المأوى ﴾ يعني المصير، مأوى من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، يأوون إليها ويخلدون فيها، وأما النار فهي مأوى الكافرين والعياذ بالله، وفي هذا دليل واضح على أن غاية الخلائق الجن والإنس إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا ثالث لهما، فالجن والإنس إما في النار وإما في الجنة، قال السفاريني - رحمه الله - في عقيدته :
وكل إنسان وكل جِنةٍ في دار نارٍ أو نعيم جنة
ويستفاد من قوله ﴿ المأوى ﴾ أن القبور ليست هي المأوى والمثوى، لأن القبور ممر ومعبر، إذ إن وراء القبور بعث، ويذكر أن بعض الأعراب في البادية سمع قارئاً يقرأ قول الله تعالى :﴿ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ﴾ فقال الأعرابي بفطرته وعربيته :«والله ما الزائر بمقيم، وإن وراء ذلك شيئاً »، لأن الزائر يزور ويمشي، والقبور يمكث الناس فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها، قال الله تعالى :﴿ ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون ﴾ فالناس لابد أن يبعثوا، والعبارة التي نسمعها أو نقرأها أحياناً أن الرجل حملوه إلى مثواه الأخير، يعني إلى المقبرة عبارة غير صحيحة، لأن القبور ليست المثوى الأخير، ولو كان قائلها يعتقد معناها لكان لازم ذلك أنه ينكر البعث
﴿ إذ يغشى السدرة ما يغشى ﴾ السدرة هي سدرة المنتهى، لأنه تعالى قال :﴿ ولقد رءاه نزلةً أخرى عند سدرة المنتهى ﴾ :﴿ إذ يغشى السدرة ﴾ وأل في مثل هذه العبارة تسمى عند النحويين ( ال ) للعهد الذكري كقوله تعالى :﴿ كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذاً وبيلاً ﴾ ﴿ ما يغشى ﴾، أبهم الله ذلك للتفخيم والتعظيم، يعني غشيها شيء عظيم بأمر الله عزوجل بلحظة، كن فيكون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنه غشيها من الحسن والبهاء ما لا يستطيع أحد أن يصفها.
﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ البصر بصر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول العلماء :﴿ زاغ ﴾ أي انحرف يميناً وشمالاً، ﴿ وما طغى ﴾ أي : تجاوز أمامه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان على كمال الأدب في هذا المقام العظيم، لم يلتفت يميناً وشمالاً، ولم يتقدم بصره أكثر مما أذن له فيه، وهذا من كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، وجرت العادة أن الإنسان إذا دخل منزلاً غريباً تجده ينظر يميناً وشمالاً في هذا المنزل، وخصوصاً إذا تغير تغيراً عظيماً في هذه اللحظة، لابد أن ينظر ما الذي حدث، لكن لكمال أدب النبي صلى الله عليه وسلم ورباطة جأشه صلوات الله وسلامه عليه وتحمله ما لا يتحمله بشر سواه صار في هذا الأدب العظيم، ولهذا قال تعالى عنه :﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾.
ثم قال - عز وجل - :
﴿ لقد رأى من آيات ربه الكبرى ﴾ وأنت أخي المسلم القارىء للقرآن يمر بك مثل هذا التعبير دائماً ﴿ ولقد رءاه ﴾، ﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾، ﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سللة من طين ﴾ والأمثلة كثيرة، هذه الجملة يقول العلماء : إنها مؤكدة بأنواع ثلاثة من المؤكدات : الأول : قسم مقدر، والثاني : اللام. والثالث : قد، لأن المعنى :( والله لقد ) فتكون جملة مؤكدة بالقسم واللام، وقد، والقسم مقدر لكن دل عليه السياق، ورأى يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ من آيات ربه الكبرى ﴾، الآية هي العلامة المخصصة لمدلولها التي لا يشركه فيها أحد، وإلا لم تكن آية، فالآية لابد أن تكون خاصة بمدلوها، فليس كل علامة آية، بل هي التي تختص بمدلولها، فهذا الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام من آيات الله كبير عظيم، وقوله ﴿ الكبرى ﴾ قيل : إنها مفعول ثان لرأى، أي : لقد رأى من آيات ربه الكبرى، وقيل : إن الكبرى صفة لآياته، والمعنى أنه رأى من آيات الله الكبيرة، والثاني أصح وأقرب، يعني أنه رأى من الآيات الكبرى ما رأى، وليس ما رآه أكبر شيء، بل قد يكون هناك شيء أكبر لا نعلمه، والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في هذا المعراج من آيات الله الكبير ما لم يكن يره من قبل، وما لا يستطيع الصبر عليه أحد من البشر، ونحن لو رأينا سرادقاً عظيماً لملك من الملوك لانبهرنا وتعجبنا، وجعلنا نلتفت يميناً وشمالاً، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتغير عقله ولا اتزانه، بل كان على أكمل ما يكون الاتزان، وإلا فقد أسري به من المسجد الحرام من الحجر عند الكعبة - والحجر من الكعبة - أسري به من ذلك المكان إلى بيت المقدس مسيرة شهرين، في لحظة لأنه ركب البراق، والبراق دابة عظيمة قوية سريعة، خطوته مد بصره، وسريع جداً وصل إلى هناك وصلى بالأنبياء، ثم عُرج به إلى السماء، والسماء بعيدة جداً، ثم من سماء إلى سماء وتتلقاه الملائكة تسأل جبريل : من معك ؟ فيقول : محمد، فيسألونه هل أرسله إلى الناس ؟ فيقول : نعم، ثم يسلم على بعض من في السموات من أنبياء، ثم تفرض عليه الصلاة ويتردد بين الله عز وجل وموسى كل هذا وهو ثابت الجأش عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء حقيقي هو بنفسه عليه الصلاة والسلام صعد، ولهذا لما جاء وحدث الناس من الغد أنكرته قريش، لأنها تنكر ما لا يمكن في عقلها، وإنكار ما لا يمكن في العقل ليس خاصًّا بكفار قريش حتى فيمن ينتسب إلى هذه الأمة أنكروا من صفات الله ما أثبته الله لنفسه، لأنه على زعمهم لا يمكن في العقل، فقريش أنكرت هذا المعراج : ولو كان مناماً لم تنكره قريش، لأن المنامات يكون فيها مثل هذا، لكنه أمر حسي حقيقي أسري بالرسول عليه الصلاة والسلام بجسده وعُرج به في ليلة واحدة، وحصلت كل هذه الأمور ثم عاد إلى الأرض وصلى الفجر في مكة عليه الصلاة والسلام. ﴿ لقد رأى من ءايات ربه الكبرى ﴾، وفي هذا إشارة إلى أن آيات الله - عز وجل - منها الكبير ومنها ما دون ذلك، ولا نقول : منها الصغير. لأن الكبرى اسم تفضيل. وغلط من قال من المفسرين المتأخرين : إن الكبرى اسم فاعل، بل هي اسم تفضيل، لأن آيات الله - عز وجل - إما كبيرة، وإما كبرى عظمى، فالمعراج الذي حصل لا شك أنه من الآيات الكبرى العظيمة.
ولما بين الله سبحانه وتعالى ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه العظيمة في الآفاق، قال :
﴿ أفرءيتم اللات والعزى ﴾ وهذا الاستفهام للتحقير وانحطاط رتبة هذه الأصنام التي ذكرها الله - عز وجل - يعني أخبروني بعد أن سمعتم من آيات الله الكبرى ما سمعتم، أخبروني عن شأن هذه الأصنام وما قيمتها، وما مرتبتها، وما عزتها ﴿ أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى ﴾ هذه ثلاثة أصنام مشهورة عند العرب يعبدونها من دون الله، ويخضعون لها كما يخضعون لله، ويتقربون إليها كما يتقربون لله - عز وجل -، ومع ذلك هم يعتقدون أنها لا تنفعهم عند الشدة، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، وعلموا أنه لا منجي من هذه الشدة إلا رب العالمين، لكن الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم في عبادة هذه الأصنام التي يدعون أنها تقربهم من الله تعالى، كما قال الله عنهم ﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ولكن في الحقيقة لا تقربهم إلى الله بل تبعدهم منه، ﴿ أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى ﴾
الثالثة بالنسبة لاثنتين قبلها ﴿ الأُخرى ﴾ يعني المتأخرة وكأنها - والله أعلم - دون اللات والعزى في المرتبة عند العرب، ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء المشركين ﴿ ألكم الذكر وله الأُنثى ﴾
﴿ ألكم الذكر وله الأُنثى ﴾ يعني أتجعلون لكم الذكور، ولله الإناث، وذلك بقولهم إن الملائكة بنات الله، وهم لم يشهدوا خلق الملائكة، ولم يطلعوا على ذلك، كما قال الله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ﴾ والجواب : لا، لم يشهدوا خلقهم، ولكن مع ذلك ستكتب هذه الشهادة عليهم ويسألون، نسأل الله العافية، وهم ﴿ وإذا بشر أحدهم بالأُنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ﴾، ومع ذلك يجعلون لرب العالمين الذي خلق الذكر والأنثى البنات، ويجعلون لأنفسهم البنين، وهذه القسمة قسمة جور.
﴿ تلك إذاً قسمة ضيزى ﴾، يعني تلك القسمة، وهي أن يجعل لله البنات ولهم البنين ﴿ قسمة ضيزى ﴾ أي : جائرة مائلة عن الحق، لأننا لو قلنا بأنه جائز أن يكون لله ولد لكان الأولى أن يكون له البنون، لأن البنين أعلى من البنات بلا شك، وهو سبحانه وتعالى أعلى من المخلوقين، فيجب أن يكون الأعلى للأعلى، والأدنى للأدنى، هذه القسمة العادلة، ثم هناك قسمة أخرى دونها في العدل، ولكن فيها عدل أن يجعلوا لله البنات ولهم بنات، ولله البنين، ولهم بنين لكن ما فعلوا هذا، جعلوا الأدنى للخالق، والأعلى لهم، ولهذا قال عز وجل :﴿ تلك إذاً قسمة ضيزى ﴾
ثم عاد الله - عز وجل - إلى بيان حقيقة هذه الأصنام المعبودة، فقال :﴿ إن هي إلا أسماء سميتموهآ ﴾ ﴿ إن ﴾ هنا نافية بمعنى ما، وهذا ضابط ينتفع به طالب العلم أنه إذا أتت ( إلا ) مثبتة بعد ( أن ) فإن ( إن ) هنا تكون نافية مثل : إن هذا إلا بشر، إن هذا إلا مجتهد، وما أشبه ذلك ف( إن ) هنا نافية بمعنى، ما هي إلا أسماء سميتموها، يعني ما هذه الأصنام إلا مجردأسماء لا حقيقة لها، سموها إلهاً معبوداً، ولكنه لا حقيقة لذلك، ما هي إلا مجرد أسماء، والاسم لا يدل على مسماه، فلو أنك سميت الحديد خشباً، ما صار خشباً، ولو سميت الخشب حديداً، ما صار حديداً، ولو سميت البغل حماراً، لم يكن حماراً، وهكذا هذه الأصنام يسمونها آلهة، ولا تكون إلهاً، بل مجرد اسم، والاسم بلا مسمى لا فائدة منه، ولهذا قال ﴿ إن هي ﴾، أي : ما هذه الأصنام والمسميات ﴿ إلا أسماء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان ﴾، المخاطبون هم الذين أدركوا البعثة. وآباؤكم يعني الأجداد السابقين مجرد أسماء ﴿ مآ أنزل الله بها من سلطان ﴾ ( ما ) نافية، والمعنى أن الله - عز وجل - لم ينزل بها دليلاً، وسمي الدليل سلطاناً لأن صاحب الدليل معه سلطة يعلو بها على خصمه، ومن ليس له دليل ليس له سلطان، فالسلطان يأتي دائماً بمعنى الحجة أي الدليل، لأن من معه الدليل ذو سلطة على خصمه ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾. ( إن ) نافية بمعنى ( ما ) ﴿ يتبعون ﴾ أي : هؤلاء وآباؤهم ﴿ إلا الظن ﴾، أي : الوهم الذي لا حقيقة له، لأنهم يقولون هذه آلهة، واعتمدوا في ذلك على الوهم، فالظن هنا بمعنى الوهم، يعني ما يتبع هؤلاء بقولهم إنها آلهة إلا الظن، أي الوهم الخيال الذي لا حقيقة له، ﴿ وما تهوى الأَنفس ﴾، يعني وما تميل إليه نفوسهم من الباطل، ثم قال - عز وجل - :﴿ ولقد جاءهم من ربهم الهدى ﴾ الجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات : القسم المحذوف، واللام، وقد، وتقديره : والله لقد جاءهم من ربهم الهدى، فيؤكد الله هنا أنه قد جاءهم من ربهم الهدى، وفي قوله :﴿ من ربهم ﴾ ولم يقل : من الله. إشارة إلى أنه لا يجوز تلقي الشريعة إلا من عند الله، لأن الله سبحانه وتعالى هو الرب، والرب هو الخالق المالك المدبر ﴿ الهدى ﴾، فاعل والمراد به العلم المقابل بقوله ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ فهم يتبعون الظن، والعلم جاء من عند الله، ﴿ ولقد جاءهم من ربهم الهدى ﴾ أي : العلم على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام، الذين خُتموا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
﴿ أم للإنسان ما تمنى ﴾ ( أم ) هنا منقطعة ؛ لأنها تأتي منقطعة وتأتي متصلة، فإذا كان هناك مقابل فهي متصلة، وإذا لم يكن مقابل فهي منقطعة، فإذا قلت : أعندك زيد أم عمرو ؟ فهي متصلة، وإذا قلت في مثل هذه الآية ﴿ أم للإنسان ما تمنى ﴾ فهي بمعنى بل، وهمزة استفهام، يعني بل أللإنسان ما تمنى، والاستفهام هنا للإنكار والنفي، أي ليس للإنسان ما تمنى، كم يتمنى الإنسان من شيء ولكن لا يحصل، لأن هناك مدبراً، وهو الله - عز وجل - فليس للإنسان ما تمنى، وفي هذا إشارة إلى رد صنيع هؤلاء المشركين الذين يعبدون الأصنام، ويقولون : إنها تقربهم إلى الله، وليس لهم ذلك، وأيضاً رد لقولهم : إن لله البنات ولهم البنين، وليس لهم ذلك، وهم وإن تمنوا ذلك وصار في مخيلتهم فإنه لا يحصل، وليس للإنسان ما تمنى، كثيراً ما يتمنى الإنسان شيئاً ولكن لا يحصل، كثيراً ما يتمنى الشيء ويسعى في أسبابه ولكن لا يحصل، لأن الأمر بيد الله - جل وعلا - ولهذا قال :﴿ فلله الآخرة والأُولى ﴾
﴿ فلله الآخرة والأُولى ﴾ وبدأ بالآخرة، لأن ملك الله - عز وجل - في الآخرة يظهر أكثر مما في الدنيا، فالدنيا فيها ملوك، وفيها رؤساء، وفيها زعماء، يرى العامة أن لهم تدبيراً، لكن في الآخرة لا يوجد هذا ﴿ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾
قال الله - عز وجل – ﴿ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ﴾ كم تكثيرية لأنها تأتي تكثيرية، وتأتي استفهامية، فإذا قلت : كم مالك ؟ فهي استفهامية، وهنا ﴿ وكم من ملك في السماوات ﴾ يعني كثير من الملائكة في السماوات لا تغني شفاعتهم وهنا نقول : كم من ملك وما أكرم الملائكة، كما قال الله تعالى :﴿ بل عباد مكرمون ﴾ ﴿ في السماوات ﴾ لا في الأرض، والسماوات أعلى من الأرض وإذا كان هؤلاء الملائكة الكرام الذين مقرهم السماوات - إلا من أذن له ينزل الأرض - إذا كانت شفاعتهم لا تنفع، فهل يمكن أن تنفع شفاعة اللات والعزى ومناة ؟ الجواب : لا، كأن الله تعالى يقول لهؤلاء : ما أصنامكم هذه التي تشفعون بها إلى الله، كم من ملك وهو أشرف من هذه الأصنام في السماوات وهي أشرف من الأرض، لا تغني شفاعتهم شيئاً لو شفع إلا بثلاثة شروط : الأول : أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بأن يشفع فيشفع، الثاني : أن يرضى عن المشفوع له، الثالث : يرضى عن الشافع لأنه لا يمكن أن يأذن للشافع إلا بعد أن يرضى عنه، ولابد أن يرضى عن المشفوع له وإلا فلا تنفع الشفاعة، كما قال عز وجل :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ فأصنامكم هذه لن تنفع ولن يقبل الله شفاعتها، فشروط الشفاعة ثلاثة : الأول : رضى الله عن الشافع بأن يكون أهلاً للشفاعة لكونه من المقربين لله - عز وجل - والثاني : أن يرضى عن المشفوع له، بأن يكون أهلاً لأن يشفع له، أما الكافر فما تنفعهم شفاعة الشافعين. الثالث : الإذن لقوله تعالى :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ وقوله تعالى :﴿ وكم من ملك في السماوات لا تغنى شفعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ﴾ وهذا فيه تيئيس هؤلاء المشركين من شفاعة آلهتهم.
﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى ﴾ أكد الله هذا الخبر بمؤكدين هما القسم المقدر واللام : ومعنى ﴿ لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي : لا يصدقون بها ولا بما فيها من الثواب والعقاب، إذ إن الإيمان بالآخرة لابد أن يكون إيماناً بأن هذا اليوم سيكون، وإيماناً بكل ما ثبت من حصوله ووقعه فيه، إما في القرآن وإما في السنة، حتى إن شيخ الإسلام - رحمه الله - قال : إن مما يدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان بما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذاب القبر، ونعيم القبر، وصدق رحمه الله، لأن الإنسان إذا مات قامت قيامته، وانتهى من الدنيا كأن لم يكن، فكما أنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فسيأتي عليه حين من الدهر لم يكن إلا خبراً من الأخبار، كما قال الشاعر الحكيم :
في الدنيا بين يرى الإنسان فيه مخبراً
حتى يرى خبراً من الأخبار
فأنت الآن تخبر تقول : حصل كذا وحصل كذا، وقال فلان كذا وفي يوم من الأيام. سوف يخبر عنك، قال فلان كذا وأنت رميم، فالإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور : الأول : الإيمان بوقوع اليوم الآخر أنه لابد كائن. الثاني : الإيمان بما سيكون في هذا اليوم من : أهوال، وحساب، وموازين، وصراط، وجنة، ونار لابد من هذا، الثالث : الإيمان باليوم الآخر الإيمان بما يكون في القبر من فتنة القبر، سؤال الملكين الميت عن ثلاثة أشياء : من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ ﴿ إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ هل أحد من الناس لا يؤمن بالآخرة ؟ نعم كثير من الناس، أكثر الناس لا يؤمنون بالآخرة، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال في الإنسان :﴿ أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ﴾ يعجزنا فيه ﴿ ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم ﴾ ما أحسن قوله :﴿ ونسي خلقه ﴾ قبل أن يقول مقالة هذا الإنسان، يعني هذا الإنسان قال :﴿ من يحي العظام وهي رميم ﴾ ﴿ ونسي خلقه ﴾، ما هو خلقه ؟ إنه لم يكن شيئاً، خلق من ماء دافق، فصار عظاماً وعصباً ولحماً، وصار إنساناً ينطق ويخاصم ﴿ من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ﴾ وذكر الأدلة على إمكان ذلك، فمن الناس من ينكر اليوم الآخر، ويقول : لا بعث. وهذا من سفهه في عقله وضلاله في دينه، وإلا فهل من الحكمة أن تخلق هذه الخليقة وتبتلى بالأمر والنهي، ويحصل الجهاد وقتال الأعداء، واستحلال دمائهم وأموالهم، ونسائهم ثم يكون نتيجة هذا لا شيء، هذا لا يمكن، وتأباه الحكمة، إذاً الذين لا يؤمنون بالآخرة، سفهاء عقولاً، ضلال ديناً ﴿ ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى ﴾ يعني يجعلون الملائكة إناثاً كالمشركين، قالوا : الملائكة بنات الله، فسموا الملائكة تسمية الأنثى، وهي البنت، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولو آمنوا بالعقاب ما قالوا هذا، لكنهم لا يؤمنون، فيقولون ما يريدون، قال الله تعالى :﴿ وما لهم به من علم ﴾ نفى أن يكون لهم بذلك علم، لأن هذا هو الواقع : هل شهدوا خلق الملائكة ؟ ولهذا قال الله في آية أخرى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ﴾ والجواب : لا، لكن ﴿ ستكتب شهادتهم ويسئلون ﴾ حين لا يجدون جواباً فهؤلاء الذين قالوا : الملائكة بنات الله.
يقول الله - عز وجل - :﴿ ما لهم به من علم ﴾ وعلم هنا مجرورة بحرف الجر وحرف الجر، هنا عند المعربين، حرف جر زائد، الفائدة منه توكيد النفي، ولهذا هنا قاعدة مفيدة : جميع الحروف الزائدة يقصد بها التوكيد، وهي من أدوات التوكيد.
﴿ وما لهم به من علم ﴾ يعني لا قليل ولا كثير، لأنهم لم يشهدوا خلقهم ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾، ﴿ إن ﴾ هنا بمعنى ما، والضابط أنه إذا جاءت ﴿ إلا ﴾ بعد ﴿ إن ﴾ فهي بمعنى ما، ﴿ إن هذا إلا بشر ﴾ أي : ما هذا إلا بشر ﴿ إن هذا إلا ملك كريم ﴾ أي : ما هذا إلا ملك كريم ﴿ إن أنتم إلا بشر مثلنا ﴾ أي : ما أنتم إلا بشر مثلنا :﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ أي ما هم إلا يظنون، والأمثلة على هذا كثيرة ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ يعني ما يتبعون إلا الظن، والمراد بالظن هنا الوهم الكاذب، وليس المراد بالظن هنا الراجح من أحد الاحتمالين، وانتبه لهذا فالظن يأتي بمعنى التهمة، ويأتي بمعنى رجحان الشيء، ويأتي بمعنى اليقين. قال الله تعالى :﴿ الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم ﴾ والمراد : اليقين ولا يكفي الظن في اليوم الآخر، بل لابد تيقن، وقال النبي عليه الصلاة والسلام :«إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب » والتحري هنا يعني هو الظن الغالب.
﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ ظن الاتهام يعني يظنون ظنًّا، هو وهم، ليس له أصل، وبعض العلماء أخذ من هذه الآية أنه لا يجوز العمل بالظن في المسائل الفقهية وغيرها، وهذا خطأ، لأن كثيراً من المسائل الفقهية ظنية : إما لخفاء الدليل، أو خفاء الدلالة : ليس كل مسألة في الفقه يقول بها الإنسان على سبيل اليقين أبداً، بل بعضها يقين وبعضها ظن، والظن إذا تعذر اليقين مما أحل الله، ومن نعمة الله أنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، فليس كل ظن منكراً، لكن الظن الذي ليس له أصل يبنى عليه منكر. فهؤلاء الذين سموا الملائكة تسمية الأنثى لا علم لهم بذلك بل هو ظن مبني على وهم، وربما يكون مبنياً على أهواء، يعني لم يطرأ على بالهم أنهم إناث، ولكن تبعوا آباءهم ﴿ وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾ أي : هذا الظن المبني على الوهم لا على القرائن لا يغني من الحق شيئاً، أي لا يفيد شيئاً من الحق، لأنه وهم باطل، والوهم الباطل لا يمكن أن يفيد،
ثم قال - عز وجل - :﴿ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ ﴿ فأعرض ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو المراد به كل من يصح أن يوجه إليه الخطاب، فعلى الأول يكون المعنى : أعرض يا محمد، وعلى الثاني يكون : أعرض أيها الإنسان المؤمن ﴿ عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ يعني أعرض عنه لا تتبعه ولا يهمنك أمره، وليس المعنى : أعرض عنه لا تنصحه. لأن التذكير واجب، قال الله تعالى :﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ يعني ذكر كل أحد، فمن الناس من ينتفع، ومنهم لا ينتفع، والذي ينتفع هو المؤمن، فعلى هذا نقول معنى أعرض يعني لا تبالي به ولا يهمنك أمره، ولا تستحسر من أجل توليه، بل ادع إلى سبيل الله - عز وجل - أيا كان، لكن من أعرض وتولى لا يهمك أمره، ﴿ عن ذكرنا ﴾ هو القرآن، ويحتمل أن يكون الذكر بمعنى التذكير، أي عن تذكيرنا، وكلا المعنيين متلازمان صحيحان. لأن القرآن ذكر كما قال تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ وقال تعالى :﴿ إن هو إلا ذكر وقرءان مبين ﴾ أو المعنى ﴿ عن ذكرنا ﴾ أي : عن تذكيرنا بالمواعظ التي ينزلها الله - عز وجل - ﴿ ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ يعني لا يريد الآخرة ولا يهتم بها، بل همه الدنيا ما المركوب ؟ وما الملبوس ؟ وما المسكن ؟ فلا يهتم بالآخرة، وأهم شيء عنده الدنيا، أما ذكر الله القرآن، أو تذكير الله فإنه متول عنه - والعياذ بالله - نسأل الله السلامة والعافية، والحياة الدنيا وصفها بالدنيا من الدنو وهو القرب، وذلك لانحطاط مرتبتها، ولسبقها على الآخرة، لأن الدار الدنيا هي أول دار ينزلها الإنسان، وهي سابقة في الزمن على الآخرة، فهي دنيا قريبة، وهي أيضاً دنيا من حيث المرتبة، ليست بشيء بالنسبة للآخرة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه :«لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها » فليست خيراً من الدنيا التي أنت فيها فقط ؛ بل من الدنيا منذ أن خلقها الله إلى أن تفنى، موضع السوط الذي يكون بقدر المتر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، إذاً هي دنيا حقيقة، ولهذا إذا مات الإنسان وهو مؤمن - جعلنا الله منهم - ثم حمل من بيته الذي يسكنه ويأوي إليه، وفيه أهله وماله وحشمه، إذا خرج تقول روحه : قدموني قدموني، لأن ما ستذهب إليه خير مما تخرج منه، قال الله تعالى :﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ﴾ لكن لمن ؟ ﴿ لمن اتقى ﴾ لكنها شر لمن لم يتق، ويذكر أن ابن حجر - رحمه الله - وكان رئيس القضاء في مصر، مر يوماً من الأيام في موكبه على العربة تجرها البغال، وحوله الجنود برجل يهودي زيَّات يبيع الزيت، قد تدنست ثيابه بالزيت، وشقي في طلب المعيشة فأوقفه اليهودي وقال لابن حَجَر : إن نبيكم يزعم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ! فكيف يتفق هذا الحديث مع الواقع، أنت الآن مؤمن وهو يهودي فأيهما الشقي ؟ قال : نعم ما أنا فيه الآن بالنسبة للآخرة سجن، لأن الآخرة خير لمن اتقى، وما أنت فيه بالنسبة للآخرة جنة، لأن الآخرة ليس لك فيها إلا النار وبئس القرار، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فانظر كيف فتح الله عليه حيث ظهر صدق كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بكل سهولة، فالآخرة خير من الدنيا وما فيها، ولهذا ذم الله تعالى الذي أعرض عن ذكر الله، ﴿ ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ ومن أراد الحياة الدنيا لن تحصل له قطعاً، قال الله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ أي : ما يشاء الله، لا ما يشاء هو ﴿ ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا ﴾. وقال تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ﴾ لأنه يعطى الدنيا والآخرة ﴿ ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ﴾ أي بعضها وليس كلها ﴿ وما له في الآخرة من نصيب ﴾.
﴿ ذلك مبلغهم من العلم ﴾ والمشار إليه كونهم متولين معرضين، لا يريدون إلا الحياة الدنيا، يعني ذلك منتهى بلوغ علمهم، لأن علمهم قاصر، لا ينظرون إلى المستقبل، ولا يصدقون بخبر، فتجد أكبر همهم أن يصلحوا حالهم في الدنيا معرضين عن حالهم في الآخرة، وفي الدعاء المأثور :«اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا »، ثم قال - عز وجل - :﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ هو أعلم - عز وجل - بمن ضل عن سبيله فعلاً، ومن سيضل، لأنه عالم بما كان وبما يكون، فقوله :﴿ بمن ضل ﴾ لا تعني أنه لا يعلم إلا من حصل منه الضلال بالفعل بل هو يعلم من حصل منه الضلال بالفعل، ومن سيحصل منه، لأن الله - سبحانه وتعالى - موصوف بالعلم التام في الحاضر والمستقبل والماضي، وقوله :﴿ وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ ضد الضلال، فالناس بين فئتين : إما مهتدٍ وإما ضال، وإنما بيَّن الله سبحانه وتعالى أنه أعلم بمن ضل عن سبيله، وبمن اهتدى ؛ لفائدتين :
الفائدة الأولى : أن نعلم أن ما وقع من الضلال والهداية فهو صادر عن علم الله وبإرادته، إذ لا يمكن أن يوجد في خلقه خلاف معلومه، ولو قدر أن يوجد في خلقه خلاف معلومه لكان الله جاهلاً - وحاشاه من ذلك -.
الفائدة الثانية : التحذير من الضلال، والترغيب في الاهتداء، مادام الإنسان يعلم أن أي عمل صدر منه فعلمه عند الله، فإنه سوف يخشى أن يعصي الله، وسوف يسعى أن يرضي الله - عز وجل -.
كأنه يقول : إن ضللت فالله أعلم بك، وإن اهتديت فالله أعلم بك، فيجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأَرض ﴾يقول علماء البلاغة : إنه إذا تقدم شيء حقه التأخير فهو دليل على الحصر والتخصيص، فلننظر في هذه الآية هل فيه تأخير وتقديم :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأَرض ﴾ ( لله ) خبر مقدم ( وما في السموات ) مبتدأ مؤخر، إذاً قدم فيها ما حقه التأخير وهو الخبر ؛ لأن حق الخبر أن يكون متأخراً عن المبتدأ. تقول : الرجل قائم ولا تقول : قائم الرجل، فالأصل أن المبتدأ على اسمه يكون هو الأول والخبر هو الثاني، لكن أحياناً يقدم الخبر لفائدة، فهنا الفائدة : الحصر يعني : لله لا لغيره ﴿ ما في السماوات وما في الأَرض ﴾ ولا أحد يملك ما في السماوات ولا ما في الأرض إلا الله تبارك وتعالى، ونحن نملك ما نملك من أموالنا ولكن ملكنا ليس عاماً، فملكي ليس ملكاً لك، وملكك ليس ملكاً لي، فأملاكنا ليست عامة، ثم نحن لا نملك التصرف بما هو ملكنا كما نشاء، فتصرفنا محدود حسب الشريعة، ولهذا لو تراضى اثنان في بيع الربا قلنا : لا تملكان ذلك، ولو أراد الإنسان أن يحرق ماله قلنا : هذا ممنوع، فملك غير الله قاصر، وغير شامل، والملك التام الواسع الشامل لله - عز وجل - ولهذا قال :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأَرض ﴾ فهو مالك لذواتهما، ومالك لما فيهما أيضاً، وكم من ملك في السماوات، وكم من مخلوق في الأرض كله ملك لله - عز وجل - يتصرف فيه كما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته، وإيماننا بأن لله ملك السماوات والأرض يفيد فائدتين عظيمتين :
الفائدة الأولى : الرضى بقضاء الله، وأن الله عز وجل لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء، فهو كما يتصرف في السحاب يمطر أو لا يمطر، يمضي أو لا يمضي، ويتصرف في الشمس والقمر، ويتصرف في المخلوقات، يتصرف فيك أيضاً كما يشاء، إن شاء أعطاك صحة، وإن شاء سلبها، إن شاء أعطاك عقلاً، وإن شاء سلبك، إن شاء أعطاك مالاً، وإن شاء سلبك، أنت ملكه، فإذا آمنت بهذا رضيت بقضائه.
الفائدة الثانية : الرضا بشرعه وقبول شرعه والقيام به، لأنك ملكه، إذا قال لك : افعل. فافعل، وإذا قال : لا تفعل. فلا تفعل، أرأيت لو كان لك عبد رقيق فأمرته، ولكنه لم يفعل، أو نهيته ففعل، فالسيادة ناقصة، إذاً أنت إذا عصيت ربك : إما بفعل محرم وإما بترك واجب، فإنك خرجت عن مقتضى العبودية التامة ؛ لأن مقتضى العبودية التامة أن تخضع لشرعه، كما أنك خاضع كرهاً أو طائعاً لقضائه وقدره، فانتبه ليس معنى قوله تعالى :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأَرض ﴾ أن يخبرنا أنه مالك فقط، لكن لأجل أن نعتقد مقتضى هذا الملك، وهو الرضا بقضائه، والرضا بشرعه، هذه حقيقة الملك. ﴿ ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ جاءت كلمة ﴿ ليجزى ﴾ كأن قائلاً يقول : وإذا تبين أن الملك لله - عز وجل - فما النتيجة ؟ النتيجة أن الناس بين محسن وبين مسيء كما قال - عز وجل - :﴿ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ وإذا كانوا بين محسن ومسيء فما جزاء كل واحد ﴿ ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ﴾ الذين أساءوا هم الذين خالفوا المأمور أو ارتكبوا المحظور، هؤلاء الذين أساءوا ليجزيهم بما عملوا، السيئة بالسيئة لا تزيد، أو يعفو - عز وجل - عمن يستحق العفو، وهو كل من مات على غير الشرك ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ فلا يمكن أن يزيد سيئة لم يعملها الإنسان، ولهذا قال :﴿ ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ﴾. بدون زيادة ﴿ ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ ولم يقل : بما عملوا، لأن فضل الله أوسع من أعمالنا، يجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فأنت إذا فعلت حسنة فتكون عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ونضرب مثلاً قريباً، الصلاة المفروضة عندما تتوضأ وتسبغ الوضوء ثم تخرج إلى الصلاة لا يخرجك من بيتك إلا الصلاة فما الثمرات التي تحصل عليها ؟ كل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة، ويحط عنك بها خطيئة، فخطواتك لا يحصيها إلا الله عز وجل، مع أن المقصود شيء واحد وهو الصلاة، لكن سعيك إلى الصلاة فيه أجر مادمت خرجت من بيتك لا يخرجك إلا الصلاة، وتأهبت في بيتك، أسبغت الوضوء في بيتك، فأنت لا تخطو خطوة إلا رفع الله لك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، والخطوات لا يحصيها إلا الله، ثم إذا وصلت المسجد وصليت ما شاء الله، ثم انتظرت الصلاة ولو تأخر مجيء الإمام لصلاة الجماعة يكتب لك أجر المصلي، «لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة »، وهذا أحسن من أعمالنا ولهذا قال :﴿ ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ أي بما هو أحسن وأكثر من عملهم، وهذا يدلك على سعة فضل الله - عز وجل - وإحسانه وكمال عدله. فالمسيئون يجازيهم بالعدل أو يعفو، والمحسنون يجازيهم بالفضل
ثم ذكر شيئاً من أوصافهم فقال :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ أي : يبتعدون عنه، وسمي الابتعاد اجتناباً ؛ لأن الإنسان في جانب، والذي أبعد عنه في جانب آخر، فيبعدون، ولا يتصلون بكبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴿ كبائر الإثم ﴾ كبائر جمع كبيرة، والكبيرة بعض العلماء عدها، وبعض العلماء حدها، والصواب الحد، أي أنها محدودة وليست معدودة، والذين ذكروا عدداً الظاهر - والله أعلم - أنهم أرادوا المثال، فمثلاً إذا قال الإنسان : هي الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، هذه سبع، إذا قال الإنسان هذه هي الكبائر ليس معنى قوله إنها محصورة في هذا، إذ من الممكن أن يحمل كلامه أن ذلك على سبيل التمثيل فقط، أما الذين حدوها يعني جعلوا له ضابطاً. فقالوا في ضابطها :( كل ذنب رتب الله عليه لعنة، أو غضباً، أو سخطاً، أو تبرأ منه، أو ما أشبه ذلك فهو كبيرة )، ورأيت لبعضهم ومنهم شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه قال :( كل ذنب جعلت له عقوبة خاصة إما في الدنيا، أو في الآخرة فهو كبيرة )، فالزنا كبيرة، لأن فيه عقوبة وهو الجلد أو الرجم، والسرقة كبيرة، وقطع الطرق كبيرة، وعقوق الوالدين كبيرة، وهلم جرا، فكلما رأيت شيئاً من الذنوب جعل الشارع له عقوبة خاصة فهو كبيرة، أما الذنب الذي نهى عنه فقط فهو صغيرة : كنظر الرجل للمرأة الأجنبية للشهوة، هذا ليس كبيرة هو صغيرة من الصغائر، لكن إن أصر الإنسان عليه وصار هذا ديدنه، صار كبيرة بالإصرار لا بالفعل. ومكالمة المرأة الأجنبية على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة، ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة، فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث الإصرار، لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله - عز وجل -، وأنه غير مبال بما حرم الله، وقوله :﴿ والفواحش ﴾ أي : كبائر الكبائر، لأن الكبائر منه ما هو فاحش يستفحش ويستعظم ويستقبح بشدة، ومنها ما هو دون ذلك، فمثلاً الزنا فاحشة ﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً ﴾ واللواط فاحشة أعظم من الزنا، لأن الله قال في الزنا :﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً ﴾ وقال في اللواط :﴿ أتأتون الفاحشة ﴾ فأتى بأل الدالة على القبح، وأنها جامعة لكل أنواع الفواحش، ونكاح المحارم فاحشة، قال الله تعالى :﴿ ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً ﴾ فهو أشد من الزنا، فلو زنا الإنسان بامرأة أجنبية منه، وبأم زوجته مثلاً صار زناه بأم زوجته أعظم وأشد وأشنع، ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء : أن من زنا بامرأة من محارمه وإن لم يكن محصناً فإنه يرجم، لأن الله فرق بين الزنا وبين نكاح ذوات المحارم فالزنا بذوات المحارم وصفه الله تعالى :﴿ إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً ﴾ والزنا وصفه بوصف بواحد وهو :﴿ إنه كان فاحشةً ﴾ وجاءت السنة بالتفريق بين من زنا بامرأة من محارمه أو بامرأة أجنبية، فجعلت حد الأول القتل بكل حال، وإن لم يتزوج وإن لم يكن ثيباً، لأن هذا أعظم والعياذ بالله، إنسان يزني بأمه أو أخته أو أم زوجته، أو بنت زوجته التي دخل بها هذا فاحشة عظيمة، إذاً هم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والفواحش كبائر الكبائر وأعظم، ونأخذ من هذه الآية الكريمة أن الكبائر والفواحش تختلف ؛ لأن كبائر وصف كل ما كان أعظم صار أشد كبيرة، والفواحش كذلك، وفيما سقناه من الآيات دليل على ذلك :﴿ ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً ﴾ ﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً ﴾ ﴿ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾ ففرق الله بينها، مع أنها كلها فواحش، لكن بعضها أعظم من بعض.
قوله :﴿ إلا اللمم ﴾ قيل : إنه استثناء متصل. وقيل : إنه استثناء منقطع، لأن اللمم الشيء القليل، فهل المعنى إلا الشيء القليل من الكبائر، أي أنهم يأتون الشيء القليل من الكبائر، أو المعنى إلا الصغائر من الذنوب. إن قلنا بالأول، فالاستثناء متصل، وإن قلنا بالثاني، فالاستثناء منقطع. وتكون بمعنى لكن، والمعنى الثاني أقرب من حيث التقسيم، لأن الله ذكر الكبائر والفواحش والصغائر، وعلى هذا فيكون معنى ﴿ إلا اللمم ﴾ يعني : أن هؤلاء الذين أحسنوا يأتون الصغائر، والصغائر والحمد لله مكفرة بالحسنات، قال الله تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئتكم ﴾ وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، وقال عليه الصلاة والسلام :«العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما »، وعلى هذا فيكون المعنى أن الصغائر تقع مكفرة إما باجتناب الكبائر، أو باجتناب الكبائر مضموماً إليها فعل هذه الحسنات العظيمة : الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والخلاصة أن الصغائر التي تقع مغفورة للإنسان إذا اجتنب الكبائر، وإذا أحسن في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان ﴿ إن ربك وسع المغفرة ﴾ في هذه الجملة إشارة إلى قوله :﴿ إلا اللمم ﴾ يعني أن اللمم يقع في سعة مغفرة الله - عز وجل - فيغفره الله - عز وجل - والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، ولا يكفي ستر الذنب بل لابد من تجاوز، والدليل على هذا أمران : لغوي وسمعي، أما اللغوي فلأن المغفرة مشتقة من المغفر، والمغفر وهو ما يوضع على الرأس عند القتال ويسمى خوذة، ويسمى بيضة، يوضع على الرأس ليتقي السهم. هذا الذي يوضع على الرأس جمع بين أمرين الوقاية والستر، فإذا المغفرة لابد من ستر ووقاية، وأما السمعي فهو أن الله تبارك وتعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه وأقر قال :«قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم » فدل هذا على أن الوقاية من الذنوب وعدم المؤاخذة من المغفرة، نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر.
وفي قوله تعالى :﴿ إن ربك واسع المغفرة ﴾ إشارة إلى أن الصغائر تغفر، وقد ثبت في القرآن الكريم أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، فقال جل وعلا :﴿ إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ﴾. ولهذا قال :﴿ إن ربك واسع المغفرة ﴾ أما إذا قلنا : اللمم القليل من الفواحش والكبائر، فيكون قوله :﴿ إن ربك واسع المغفرة ﴾ إشارة إلى أن الكبائر إذا تاب الإنسان منها غفر الله له، وكأنها لم تكن، وإن لم يتب منها فهو تحت المشيئة : إن شاء غفر الله له، وإن شاء عاقبه بما يستحق، هذه الكبيرة، وللأسف يوجد قوم من هذه الأمة يقولون : إن الكبيرة لا تغفر، وهم الخوارج والمعتزلة يقولون : إن الإنسان إذا فعل كبيرة خرج من الإيمان، لكن الخوارج يقولون : خارج من الإيمان داخل في الكفر. والمعتزلة يقولون : خارج من الإيمان غير داخل في الكفر بل هو في منزلة بين منزلتين، لكن قولهم باطل، والصواب : أن فاعل الكبيرة داخل تحت قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ فلو قال قائل : إذا قلت هذا فتحت الباب على مصراعيه لفعل الكبائر، لأن أي إنسان يفعل كبيرة ويقول : أنا يمكن أن يغفر الله لي، وهذا يحتج به العوام، يقول : إذا كان الله يقول :﴿ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ أي ما دون الشرك لمن يشاء، إذاً سأفعل الكبائر، ويغفر الله لي، فهذه حجة فكيف تجيبه ؟
نجيبه : أن الله تعالى قال :﴿ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ولم يقل لكل أحد بل قال :﴿ لمن يشاء ﴾ فهل أنت تتيقن أنك ممن يغفر الله له، أأحد يتقين هذا ؟ لا أحد يتيقن، إذاً لا حجة في هذه للعاصي، ثم إن قوله تعالى :﴿ لمن يشاء ﴾ نعلم أن الله حكيم، لا يشاء أن يغفر للمذنب غير الشرك إلا إذا اقتضت الحكمة أن يغفر ذلك، ومن منا يستطيع أن يقول إن حكمة الله تقتضي أن يغفر لي ؟ لا أحد يقول هذا، بل لو قال هذا لقلنا : إن قولك هذا من أسباب المؤاخذة والمعاقبة ؛ لأنك تأليت على الله.
ثم قال - عز وجل - :﴿ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأَرض ﴾ أعلم بنا من ذاك الوقت الطويل البعيد ﴿ إذ أنشأكم من الأَرض ﴾، أي بخلق أبينا آدم، لأن آدم خلق من التراب، ثم صار طيناً، ثم صار صلصالاً، ثم خلقه الله بيده جسماً ونفخ فيه الروح، فصار آدميًّا إنساناً، هذا معنى قوله تعالى :﴿ إذ أنشأكم من الأَرض ﴾، إذاً نحن من الأرض أول نشأة :﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى ﴾ أي الإخراج الذي ليس بعده وفاة يوم القيامة، ولذلك الآن بنو آدم كالأرض تماماً، فيهم الحزم الصلب الشديد، وفيهم السهل، وفيهم ما بين ذلك، وفيهم الأبيض، وفيهم الأحمر، وفيهم الأسود، لأن الأراضي تختلف، هكذا، وقد ذُكر أن الله لما أراد أن يخلق آدم أخذ من كل الأرض سهلها وحزنها، وأسودها وأبيضها كلها :﴿ وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ﴾ هذه النشأة الثانية ( أجنة ) جمع جنين وهو الحمل، وسمي الحمل جنيناً، لأنه مستتر ﴿ وإذ أنتم أجنة ﴾ أي مستترين ﴿ في بطون أمهاتكم ﴾، أي من حين كان الإنسان نطفة، ومن النطفة يخلق، وهذا معنى قوله :﴿ ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين ﴾ فمن حين يكون نطفة يكون جنيناً ثم يتطور أربعة، أولاً : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة، ثم أنشأناه خلقاً آخر. الطور الأخير الذي تحل فيه الروح، إذاً هو عالم بنا حين النشأة الأولى، وحين النشأة الثانية في بطون أمهاتنا :﴿ فلا تزكوا أنفسكم ﴾ أي : لا تزكوها وتقول عملت كذا وكذا، وصليت، وزكيت، وصمت، وجاهدت، وحججت، لا تقل هكذا، تُدل بعملك على ربك، هذا لا يجوز.
فإن قال قائل : أليس الله يقول :﴿ قد أفلح من زكاها ﴾ ؟
فالجواب : بلى، لكن معنى ﴿ من زكاها ﴾ أي : من عمل عملاً تزكو به نفسه، وليس المعنى من زكاها من أثنى عليها ومدحها بأنها عملت وعملت، بل المراد عمل عملاً تزكو به نفسه، فلا معارضة بين الآيتين، ولهذا نقول : من زكى نفسه بذكر ما عمل من الصالحات فإنه لم يزك نفسه. فمن زكى نفسه بمدحها فإنه لم يزكِّ نفسه، وفرق بينهما، فالتزكية التي يحمد عليها الإنسان أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً تزكو به نفسه، والتزكية التي يذم عليها أن يدل بعمله على ربه ويمدح، وكأنه يمن على الله، يقول : صليت، وتصدقت، وصمت، وحججت، وجاهدت، وبريت والدي وما أشبه ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه، وفي هذا رد على أولئك الصوفية الذين يدعون أنهم أئمة ويزكون أنفسهم، ويقولون : وصلنا إلى حد لا تلزمنا الطاعة، وصلنا : إلى عالم الملكوت فليس علينا صلاة، ولا صدقة، ولا صيام، ولا يحرم علينا شيء، وهؤلاء منسلخون من الدين انسلاخاً تامًّا، ولذلك نقول : هؤلاء الذين يزكون أنفسهم هم أبعد الناس عن الزكاة، لأنهم أعجبوا بأعمالهم، وأدلوا بها على الله - عز وجل - وجعلوا لأنفسهم منصباً لم يجعله الله تعالى لهم ﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾ كأنه يقول : لماذا تزكون أنفسكم ؟ أ
﴿ أفرأيت الذي تولى ﴾ الخطاب في قوله :﴿ أفرأيت ﴾ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويجوز أن يراد به كل من يتوجه إليه الخطاب، فيكون المعنى على الأول : أفرأيت يا محمد، وعلى القول الثاني : أفرأيت أنت أيها المخاطب أي أخبرني وكلما جاءت ( أرأيت ) في القرآن فهي بمعنى أخبرني ﴿ الذي تولى ﴾، أي : عن طاعة الله - عز وجل - وعن الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعن إقامة شعائر الإسلام،
﴿ وأعطى قليلاً وأكدى ﴾ يعني أحياناً يعطي، وإذا أعطى أعطى قليلاً، وأحياناً يكدي، أي : يمنع فلا يعطي شيئاً، لأنه ليس ينفق المال ابتغاء وجه الله، فلذلك كانت حاله بين أمرين : إما المن، أو الإعطاء قليلاً، قالوا : وأكدى مأخوذة من الكدية، وهي الصخرة الشديدة التي لا تتفتت إلا بالمعاول، فهذا الرجل ليس مطيعاً لله وليس نافعاً لعباد الله فهو متولٍ عن طاعة الله، وهو مانع فضل الله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل :﴿ أفرأيت ﴾وهذا الاستخبار ليس لعدم علمه جل وعلا، ولكن لشحذ النفوس والهمم إلى الاستماع إلى ما يلقى، وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى، يزعم أنه إذا بعث فإنه سوف يعطي المال الكثير، وهذه عادة من ينكر البعث، كما في صاحب الجنة الذي قال :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأَجدن خيراً منها منقلباً ﴾ فهو يظن أنه سوف يمتع في الدنيا ويمتع في الآخرة أكثر وأكثر إن كان آمن بها،
قال الله تعالى :﴿ أعنده علم الغيب فهو يرى ﴾ وهذا الاستفهام استفهام استنكار بمعنى النفي، يعني ليس عنده علم الغيب، وهو يرى أنه سينتقل إلى دار أفضل من التي هو فيها، وعلى هذا فتكون الجملة جملة نفي، وليست جملة إثبات، وليست جملة استخبار، بل هي جملة نفي واستنكار، إذ لا أحد عنده علم الغيب، ولولا ما أخبر الله به من النعيم في الجنة والجحيم لأهل النار، ما علمنا بهذا شيء.
﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ﴾ أم هنا للإضراب والمعنى بل :﴿ لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ﴾ ذكر موسى لأن موسى عليه السلام أفضل أنبياء بني إسرائيل والتوراة هي التي عليها عمدة ما نزل على بني إسرائيل. وصحف إبراهيم عليه السلام أنزلها الله تعالى على إبراهيم فيها المواعظ، وفيها الأحكام، لكن لم يبين لنا منها شيئاً سوى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان على التوحيد وعلى الملة المستقيمة، كما قال الله تعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكراً لأَنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ﴾.
﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ ذكر إبراهيم عليه السلام لأنه أبو الأنبياء، فهو أبو الأنبياء في بني إسماعيل، وأبو الأنبياء في بني إسرائيل، وهنا قدم موسى على إبراهيم، وفي سورة الأعلى قدم إبراهيم على موسى، ولا شك أن الأحق بالتقديم إبراهيم عليه السلام ؛ لأنه أسبق زمناً وأعلى مرتبة، ولكن مراعاة لفواصل الآيات قدم موسى، ولأجل الثناء الخاص بإبراهيم قدم موسى، وقوله تعالى :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ أي وفَّى بما أمر به ربه، ومن أعظم ما وفاه أنه أمر بذبح ابنه فامتثل أمر الله - عز وجل - وصمم على تنفيذه، حتى إنه تله على جبينه ليمر السكين على رقبته، ولكن الفرج من عند الله ﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾
والذي في هذه الصحف قال :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ هذه بيان ما في صحف إبراهيم وموسى﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي : لا تحمل إثم ﴿ وزر أخرى ﴾ أي : أن الإنسان لا يحمل ذنب غيره، إلا أنه يستثنى من ذلك، إذا كان صاحب سنة آثمة فإن عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولكن الحقيقة أن هذا لا يتحمل وزر غيره، لأن غيره قد وزر وأثم، لكن هو تحمل إثم السنة السيئة والبدء بالشر، فيكون حقيقة أنه لم يوزر وزر غيره ولكنه وزر بوزر نفسه ﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ وقد كذَّب الله تعالى قول الذين كفروا للذين آمنوا ﴿ اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ﴾ فقال الله تعالى :﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ﴾ حتى لو قال لك القائل : افعل هذا الذنب والإثم عليَّ فإنه لا يتمكن من هذا، ولا يمكن، فإن فعل هذا، وقيل له : الإثم عليَّ فالإثم على الفاعل، ثم إن كان الفاعل ممن يغتر بالقول ولا يفهم، فعلى القائل إثم التغرير، أي أنه غرر وخدع
﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ يعني ليس للإنسان من الثواب إلا ثواب ما سعى وما عمل، فلا يمكن أن يعطى من ثواب غيره، يعني لا يمكن أن نأخذ من أجر زيد ونعطيه عمراً، كما لا يمكن أن نأخذ من سيئات زيد ونضيفها إلى سيئات عمرو، فهذا لا يمكن إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم، فصار الإنسان مرتهن بكسبه :﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾ ﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾ فلا يمكن أن يؤخذ من حسناته إلى غيره، ولا أن يؤخذ من أوزار غيره فيحمل عليها إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم.
وقد استدل بعض أهل العلم على أنه لا يمكن أن ينتفع الميت بثواب عمل غيره، لأن الله قال :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى هذا فلو أنك صليت ركعتين لزيد وهو ميت، أو صمت يوماً لزيد وهو ميت فإنه لا ينفعه، لعموم قوله :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ فإذا أورد عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من مات وعليه صيام صام عنه وليه » قالوا : هذا في الواجب، لأن عليه صيام وليس في التطوع، وكذلك الحج الواجب لحديث :«أفحج عنه ؟ » قال :«نعم »، وإذا أورد عليهم أن رجلاً قال يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو بقيت لتصدقت أفأتصدق عنها ؟ قال :«نعم »، قالوا : هذا مستثنى بالنص، وليس لنا أن نرد النص. والعام يجوز تخصيصه بحكم مخالف، وإذا أورد عليهم قول سعد بن عبادة - رضي الله عنه - في مخارفه أي في نخله الذي يخرف أنه يريد أن يجعله صدقة لأمه فأجاز النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالوا : هذا ورد به النص، وما ورد به النص فإنه لا يمكن أن يرد، لأن نصوص الشريعة الإسلامية جاءت بتخصيص العام، يعني بإخراج بعض أفراد العام، فيحكم له بحكم مخالف لأحكام العام، وعلى هذا نقول : لا يمكن أن ينتفع الإنسان بعمل غيره حيًّا كان أو ميتاً إلا ما وردت به السنة، ولا شك أن هذا القول له وجهة نظر قوية، ولكن الإمام أحمد - رحمه الله - قال : أي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت أو حي من المسلمين فإن ذلك ينفعه، وقال : إن الذي وقع قضايا أعيان، بمعنى أن رجلاً حصلت له حادثة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجازها، فإذا أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام جنس العبادات ولو كانت مالية دل ذلك على جواز جنس جميع العبادات، وقالوا أيضاً : الصيام ليس عبادة مالية، ومع ذلك قال :«من مات وعليه صيام صام عنه وليه » وإذا أجيز هذا في الواجب، والواجب متحتم، فهو كالدين، والدين إذا قضاه الغير عن المدين أجزى، وحملوا قوله تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ على أن المعنى أنه لا يمكن أن يأخذ من عمل غيره، لكن إذا أهدى إليه غيره من العمل فإنه لا بأس به، كما أن الإنسان ليس له التصرف في مال غيره، ولو أعطاه شخص مالاً لتصرف فيه. وقد نقل الجمل في حاشيته على الجلالين ( الفتوحات الإلهية ) في هذا الموضع عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجوز إهداء القرب وأن الميت ينتفع بذلك، وذكر لهذا أكثر من عشرين وجهاً، فمن أحب أن يراجعه فليراجعه. وعلى كل حال حتى ولو قلنا بما ذهب إليه الإمام أحمد - رحمه الله - من أي قربة فعلها الإنسان وجعلها لمسلم فإن ما عليه عمل الناس اليوم مخالف لهذا الكلام، إذ إن الناس اليوم تجدهم يهدون كثيراً من العمل الصالح للأموات، يعتمر للميت دائماً ويصوم عنه تطوعاً دائماً، ويضحي عنه دائماً، ولو ضحى لنفسه كل هذا ليس من عمل السلف، والسلف يهتدون بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أنه قال :«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له » فأرشد إلى الدعاء للميت، لكن كونك كل ما سبحت قلت : اللهم اجعل ثوابه لأبي، لأمي، وكل ما عملت تقول : اجعل ثوابه إلى أبي إلى أمي، أو جدي، أو خالي، أو عمي فهذا غير صحيح، وأنت محتاج إلى العمل كما هم محتاجون للعمل، فلا تجعل عملك لهم، اجعل لهما ما أرشدك إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الدعاء، أما العمل فخص به نفسك.
﴿ وأن سعيه سوف يرى ﴾ سعيه يعني عمله سوف يرى، وهل المراد ثواب السعي يرى في الآخرة عند الجزاء، أو أن السعي يرى في الدنيا ويعرف، الجواب : أن هذا عام سوف يرى في الدنيا وفي الآخرة، الذي يرى في الآخرة وفي الدنيا هو نفس العمل، ولهذا قال الله تعالى :﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ يعني عملكم لن يخفى علي ﴿ فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن بعض الناس إذا عمل عملاً كمكتبة، أو مسجد، أو عمارة للفقراء أو ما أشبه ذلك كتب :﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ وهذا لا يجوز، لأن أحد الأطراف الثلاثة لا يمكن أن يراه، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، صحيح أن الله - عز وجل - يرى والمؤمنون في هذا الوقت يرون، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يرى، ثم هذا في المنافقين وهو تهديد لهم وليس ثناء عليهم، وعلى كل حال نقول : سعي الإنسان سوف يرى، ولكن قد يستر الله تعالى عن العبد ذنوبه فضلاً منه ومنة، وإذا لاقاه في الآخرة خلا به سبحانه وتعالى وقرره بذنوبه وقال :«قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم »، لكن في الأصل أن سعي الإنسان سوف يرى
﴿ ثم يجزاه الجزاء الأَوفى ﴾ أي : بعد أن يرى يجزى عليه الجزاء الأوفى، أي : الأكمل، والأوفى في الصالح زيادة المثوبة، والأوفى في السيء العدل بحيث لا يزاد في سيئاته، وعلى هذا فالأوفى يفسر بمعنى العدل، ويفسر بالزيادة والفضل، العدل في السيئة لا يمكن أن يزاد سيئة. والفضل في الحسنات، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾ هذه الآية فيها قراءتان : القراءة الأولى فتح الهمزة :﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾ والثانية كسر الهمزة ﴿ وإنَّ إلى ربك المنتهى ﴾ وكلاهما قراءتان صحيحتان سبعيتان، إذا قرأ الإنسان بإحداهما صح، بل الأولى للإنسان الذي يعرف القراءات أن يقرأ بهذه القراءة مرة، وبهذه القراءة مرة أخرى، لكن لا يقرأ على ملأ من الناس وسماع منهم، لأن العامة إذا سمعوك تقرأ على خلاف ما يقرأون فسيحصل بذلك مفسدة، إما أن يقولوا : إن هذا الرجل لا يعرف القرآن، وإما أن يتشككوا في القرآن، حيث يظن العامي أن القرآن يمكن أن يبدل أو يغير، لذلك ننصح إخواننا الذين أعطاهم الله تعالى علماً في القراءات أن لا يقرأوا إلا بالقراءة المعروفة عند العامة حتى لا يحصل اللبس، لكن فيما بينك وبين نفسك إذا كنت تدرك القراءة الثانية إدراكاً تامًّا فاقرأ بها أحياناً ؛ لأن الكل كلام الله - عز وجل - فإذا كانت بالكسر :﴿ وإنَّ إلى ربك المنتهى ﴾ صارت هذه الجملة وما بعدها ليست في ﴿ صحف إبراهيم وموسى ﴾ بل تكون استئنافية، وإذا كانت بالفتح صارت الجملة وما بعدها مما جاء في صحف إبراهيم وموسى، وعلى كلٌّ فهي كلام الله عز وجل. ﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾ أي : المنتهى في أمور الدين والدنيا، فإلى الله المنتهى في مسائل العلم، فعندما تشكل علينا مسألة من مسائل العلم فننتهي إلى الله ورسوله، كما قال تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئاً من عنده، إنما هو من عند الله - عز وجل - فيكون المنتهى إلى الله في الحكم بين الناس وفي الحكم للناس :﴿ إلى ربك المنتهى ﴾ أي منتهى الخلائق أيضاً ؛ لأن هذا الخلق الموجود الآن سوف يفنى وينتقل إلى خلق آخر، كما قال الله - عز وجل - :﴿ أفعيينا بالخلق الأَول بل هم في لبس من خلق جديد ﴾ والمنتهى على هذا التقدير هو يوم القيامة، فإلى الله المنتهى، وإلى الله المصير، فمنتهى أحوالنا وأحكامنا وجميع ما يصدر منا وعلينا إلى الله - عز وجل - وإذا كان إلى الله المنتهى، فإلى من تشكو إذا أصابك الضر ؟ إلى الله - عز وجل - وإذا أردت النفع فتطلبه من الله عز وجل، لأنه المنتهى، وكم من إنسان انعقدت له أسباب الرزق وإذا هو يحرم منها في آخر لحظة، إذاً لا يجلب لك الخير إلا الله، ولا يمنع عنك الضرر إلا الله - عز وجل - فاجعله منتهاك في كل أمورك،
﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ هل المراد حقيقة الضحك، أو المراد لازم ذلك وهو الفرح، وكذلك يقال في أبكى : هل المراد حقيقة البكاء، أو المراد الحزن، إذا نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا : الضحك الحقيقي، والضحك الحقيقي لا ينشأ إلا عن سرور، وأبكى البكاء الحقيقي، وهو لا يحصل إلا عن حزن، فالله تعالى أضحك في الدنيا وأبكى، وأضحك في الآخرة، وأبكى، والكفار في الدنيا يضحكون على المسلمين، وعلى المؤمنين ﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ﴾ لكن هذا الضحك سيعقبه بكاء يوم القيامة ﴿ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ﴾ فالذي أضحك في الدنيا وأبكى، والذي أضحك في الآخرة وأبكى هو الله عز وجل، إذاً هو مقدر ما يكون به الضحك، ومقدر ما يكون به البكاء، وأتى بالأمرين وهما متقابلان، ليعلم بذلك أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وهو القادر على خلق الضدين،
﴿ وأنه هو أمات وأحيا ﴾ أي : أمات في الدنيا وأحيا في الدنيا، وأمات في الدنيا وأحيا في الآخرة، أمات وأحيا البشر، تجد هذا تنفخ فيه الروح اليوم، فيكون الله قد أحياه، والآخر تنزع روحه من بدنه ويكون الله قد أماته، وهكذا دواليك، هو الذي أمات وأحيا، وهناك أيضاً ميتة عامة وحياة عامة، أمات العالم في الدنيا، وأحياهم في الآخرة، فهو الذي خلق الموت، وهو الذي خلق الحياة، وهذان أيضاً متضادان، حياة وموت، كلها من عند الله - عز وجل -، لأن الله تعالى على كل شيء قدير،
﴿ وأنه خلق الزوجين الذكر والأُنثى من نطفة إذا تمنى ﴾، الزوج بمعنى الصنف، ومثاله قوله تعالى :﴿ وآخر من شكله أزواج ﴾ أي : أصناف، وقوله تعالى :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾ ليس المراد زوجاتهم، بل المراد بأزواجهم، أي : أصنافهم، إذاً الزوجين يعني الصنفين، ثم بين هذين الزوجين فقال :﴿ الذكر والأُنثى ﴾
من مادة واحدة، ﴿ نطفة ﴾ وهي المني ﴿ إذا تمنى ﴾ أي : تراق وتصب في رحم المرأة، فالله - عز وجل - خلق هذين الصنفين المختلفين خلقاً، والمختلفين مزاجاً، والمختلفين عقلاً، والمختلفين فكراً، خلقهما من شيء واحد من نطفة، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في آخر سورة القيامة :﴿ فجعل منه الزوجين الذكر والأُنثى أليس ذلك بقدر على أن يحيى الموتى ﴾ الجواب : بلى، فالله تعالى خلق الزوجين من شيء واحد، وهذا يدل على كمال قدرته - جل وعلا - إذ إنه خلق صنفين مختلفين في كل الأحوال : في القوة البدنية والعقلية، والفكرية، والتنظيمية يختلف الذكر عن الأنثى، وبذلك نعرف ضلال أولئك القوم الذين يريدون أن يلحقوا المرأة بالرجل في أعمال تختص بالرجل، فإنهم سفهاء العقول، ضلال الأديان، فكيف يمكن أن نسوي بين صنفين، فرَّق الله بينهما خلقة وشرعاً، فهناك أحكام يطالب بها الرجل ولا تطالب بها المرأة، وأحكام تطالب بها المرأة ولا يطالب بها الرجل، وأما قدراً وخلقة فالأمر واضح، لكن هؤلاء الذين لم يوفقوا وسلب الله عقولهم وأضعف أديانهم يحاولون الآن أن يلحقوا النساء بالرجال، وهذه لا شك أنها فكرة خاطئة مخالفة للفطرة، ومخالفة للطبيعة كما أنها مخالفة للشريعة
﴿ وأن عليه النشأة الأُخرى ﴾ أي : على الله، وفي هذا دليل على أن الله أوجب على نفسه أن يبعث الناس، لأنه لو كان الناس يحيون ويموتون بلا إرجاع لكان هذا عبثاً محضاً ؛ لأننا نعلم الآن أن الناس في الدنيا يختلفون في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والذكاء والعقل وغير ذلك، ولو كان الخلق هكذا فقط بدون إرجاع لكان هذا منافٍ للحكمة تماماً، لكن لابد من رجوع، ولهذا قال :﴿ وأن عليه تصدى ﴾ وعلى تفيد الوجوب، فيكون الله أوجب على نفسه أن ينشأ الناس مرة أخرى، ولا مانع من أن الله يفرض على نفسه ما شاء، كما قال تعالى :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ أي : أوجب على نفسه الرحمة، كذلك هنا قال :﴿ وأن عليه النشأة الأُخرى ﴾ أي أن الله أوجب على نفسه أن ينشىء الناس نشأة أخرى للجزاء، كل بحسب عمله، والنشأة الأخرى تفيد بأن هناك نشأة قبل وهي النشأة الأولى، وهي خلق الناس فابتداء خلق الناس من عند الله - عز وجل - وفي قوله :﴿ الأُخرى ﴾ فائدة عظيمة وهي الإشارة إلى أن القادر على الأولى قادر على الآخرة، والنشأة الآخرة أهون من الأولى، كما قال الله عز وجل :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾ والهين يختلف باعتبار ذاته لا باعتبار قدرة الله فإنها لا تختلف : كن. فيكون، سواء كان أعلى شيء أو أدنى شيء، لكن بالنسبة للمقدور عليه الإعادة أهون، أما بالنسبة لقدرة الله فكلها واحد، لأن المسألة لا تعدو أن يقول : كن. فيكون، وبهذا نعرف أن بعض المفسرين - رحمهم الله وعفا عنهم - قالوا في قوله :﴿ وهو أهون عليه ﴾ ( أي : وهو هين عليه ) وهذا غلط، كيف يقول الله عن نفسه ﴿ وهو أهون عليه ﴾ ويقول : وهو هين، لكن نقول الهون له نسبتان : نسبة للمفعول، ونسبة للفاعل، بالنسبة للفاعل هما سواء، لأن كل شيء منهما يتكون بكلمة واحدة كن فيكون، وبالنسبة للمفعول يختلف لا شك أن الأول أشد من الثاني.
﴿ وأنه هو أغنى ﴾ أي : أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فهو الذي أغنى من شاء من خلقه ﴿ وأقنى ﴾ قيل : المعنى أفقر ؛ لأنها في مقابلة ( أغنى ) وقيل : أغنى بالكفاية، وأقنى بما زاد على الكفاية، فالله عز وجل بسط لعباده الرزق، فمنهم من أغناه عن غيره، ومنهم من أقناه، أي : جعل له قنية وهي الزائد عن الكفاية، والقاعدة : أن الكلمة إذا كانت تحتمل معنيين لا منافاة بينهما ولا مرجح لأحدهما على الآخر فإنها تحمل عليهما ؛ لأنه أعم للمعنى، فالذي يغني هو الله عز وجل، والذي يقني هو الله عز وجل، وليست هذه الأصنام التي هي مناة والعزى، بل ذلك إلى الله عز وجل.
﴿ وأنه هو رب الشعرى ﴾ أتى بضمير الفصل تأكيداً للجملة، و﴿ رب الشعرى ﴾ أي : هو خالقها ومالكها ومدبرها، والشعرى هي النجم المضيء الذي يخرج في شدة الحر، ونص على هذا النجم ؛ لأن بعض العرب كانوا يعبدونها ويعظمونها، فبين تبارك وتعالى أن الشعرى من جملة المخلوقات المربوبات وليست إلهاً، ولا تستحق أن تعبد،
﴿ وأنه ﴾ أي : الله - عز وجل - ﴿ أهلك عاداً الأُولى ﴾ وهم قوم هود، و( الأولى ) وصف كاشف، وليس وصفاً مقيداً، يعني ليس هناك عاد أولى وعاد ثانية، بل هي واحدة، لكنها عاد قديمة سابقة، ولهذا وصفها بأنها الأولى أي : أنها القديمة السابقة وليس ثمة عاد أخرى، وهم قوم هود، وكان الله تعالى قد أعطاهم من القوة والنشاط وشدة البطش ما ليس لغيرهم، حتى إنهم قالوا من أشد منا قوة، قال الله تعالى :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وكانوا بآياتنا يجحدون ﴾ فهؤلاء القوم يفتخرون بشدتهم وقوتهم فأهلكهم الله بألطف الأشياء، أهلكهم ﴿ بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾ ابتدأت من بعد الفجر وانتهت عند الغروب فصارت الأيام ثمانية، والليالي سبعاً، ﴿ فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾ تحمل الإنسان إلى القمة ثم تقذف به على الأرض فصاروا ﴿ كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾ والعياذ بالله، فهؤلاء القوم مع شدة بطشهم وشدة بأسهم لم يمنعهم ذلك من عذاب الله - عز وجل -
وقوله :﴿ وثمود فما أبقى ﴾ أي : وأهلك ثموداً وما أبقاهم، وثمود هم أصحاب الحجر، أرسل الله إليهم صالحاً فكذبوه، وكان الله تعالى قد أعطاهم قوة، وأعطاهم معرفة وعلماً بهندسة البناء، لكن مع ذلك ما دفعوا ما أراد الله بهم، صيح بهم ورجفت بهم الأرض ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ والعياذ بالله
﴿ وقوم نوح من قبل ﴾ يعني وأهلك قوم نوح من قبل بالغرق، كما قال الله تعالى عن نبيهم نوح ﴿ فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ﴾ وفي قراءة ﴿ ففتَّحنا ﴾ مما يدل على الكثرة وشدة الانفتاح ﴿ أبواب السماء بماء منهمر ﴾ يعني نازل بشدة :﴿ وفجرنا الأَرض عيوناً ﴾ الأرض كلها كانت عيوناً يعني ليس فيها موضع شبر إلا وهو يفور، حتى إن التنور الذي هو محل الإيقاد صار يفور مع أن محل الإيقاد أبعد ما يكون عن الرطوبة لكنه فار، فصارت الأرض كلها عيوناً والسماء تمطر، والتقى الماء، ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر، يعني أمر مقدر محدد بدون زيادة ولا نقص، فغرق القوم حتى بلغ الماء قمم الجبال، ويذكر أن امرأة كان معها صبي فكلما علا الماء صعدت الجبل، كلما علا الماء صعدت الجبل، حتى وصل الماء إلى قمة الجبل ووصل إلى المرأة وارتفع إلى جسدها، وكان معها صبي، فحملت الصبي على يديها ترفعه، لئلا يغرق قبلها، وجاء في الحديث :«لو رحم الله أحداً لرحم أم الصبي » لكن إذا حقت كلمة الله فلا راد لقضاء الله تعالى، أجارني الله وإياكم من العذاب الأليم، وقوله :﴿ إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ﴾ اختلف المفسرون في مرجع الضمير فقيل : إن الضمير يعود على قوم نوح فقط.
وقيل : إنه يعود على كل الأمم التي ذكرها الله - عز وجل - ممن أهلكهم.
فعلى القول الأول يكون المعنى أن قوم نوح أظلم وأطغى من قوم ثمود وعاد، ووجه ذلك أنهم حصل منهم عتو واستكبار مع طول المدة، حيث إن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يقول الله تبارك وتعالى عنه :﴿ قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذنهم ﴾ حتى لا يسمعوا ﴿ واستغشوا ثيابهم ﴾ تغطوا بها حتى لا يبصروا، وهذا يدل على شدة كراهتهم لما يدعوهم إليه عليه الصلاة والسلام، ﴿ واستكبروا استكباراً ﴾ أي : استكباراً عظيماً فلم يخضعوا لعبادة الله - عز وجل -، فكانوا أظلم وأطغى من عاد ومن ثمود.
وعلى القول الثاني : إن الضمير يعود على كل هؤلاء الأمم، يكون المعنى : أن هؤلاء كانوا أظلم وأطغى من قريش الذين كذبوك يا محمد، فيكون في هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أهلك هؤلاء القوم مع أنهم أظلم وأطغى من قومك، والذي أهلك من سبق قادر على أن يهلك من لحق، وكلا المعنيين صحيح، فهؤلاء الأمم أظلم وأطغى من قريش، وقوم نوح أظلم وأطغى من عاد وثمود،
ثم قال - عز وجل - :﴿ والمؤتفكة أهوى ﴾ أي : أسقط، والمؤتفكة هي قرى قوم لوط، وأهوى بمعنى أنزل، واختلف المفسرون في قوله ﴿ أهوى ﴾ هل المعنى أنه أهوى بها من فوق إلى أسفل بناءً على أن الله تعالى رفع هذه القرى إلى فوق ثم قلبها. أو أن المعنى أنه أهوى أسقطها، أي : أرسل عليها الحجارة حتى تهدم البناء فصار أعلى البناء أسفله، المهم أن الله تعالى أخبر عن قوم لوط بأنه أهواهم أي أسقطهم، سواء من الجو، أو من سقوط أعلى البناء على أسفله
﴿ فغشاها ﴾ أي : غطاها، ﴿ ما غشى ﴾ مبهم للتعظيم والتفخيم، كقوله تعالى :﴿ فغشيهم من اليم ما غشيهم ﴾ أي غشيهم شيء عظيم، فالإبهام أحياناً يراد به التعظيم والتهويل والتفخيم، كما في هذه الآية.
﴿ فبأي آلاء ربك تتمارى ﴾ الاستفهام هنا للتوبيخ و﴿ آلاء ﴾ : النعم، و﴿ تتمارى ﴾ أي : تتشكك، أي : بأي نعم الله تتشكك أيها الإنسان، إذ إن الواجب أن الإنسان يقر بنعم الله ويشكر الله عليها، لا أن يتشكك، ويقول : هذا من عملي. هذا من كذا. هذا من كذا، كما كانت العرب تقول : مطرنا بنوء كذا وكذا، يعني بالنجم وينسون الخالق - عز وجل -
ثم قال - جل وعلا - :﴿ هذا نذير من النذر الأُولى ﴾ المشار إليه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿ نذير ﴾ بمعنى منذر، والمنذر هو الذي يعلم بالشيء على وجه التخويف، لأن الإنذار هو إعلام بتخويف، والبشارة إعلام برجاء :﴿ هذا نذير من النذر الأُولى ﴾ ولم يقل بشير ؛ لأن المقام لا يقتضي إلا ذكر الإنذار، إذ إن الله تحدث من أول السورة إلى آخرها عن قريش، وتكذيبها للرسول صلى الله عليه وسلم وعبادتها للأصنام، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ نذير من النذر الأُولى ﴾ أي : من الرسل السابقين، وكما أن الذين كذبوا الرسل حل بهم العقاب والنكال فأنتم أيها المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يحل بكم النكال والعقوبة، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم مثل غيره نذير من النذر، فإذا كان نذير من النذر فإن من كذبه سوف يقع به مثل ما وقع بالأمم السابقة
﴿ أزفت الآزفة ﴾ أي : قربت القيامة، ومنه قول الشاعر :
أزف الترحل غير أن ركابنا ***لما تزل برحالنا وكأن قد
فالآزفة هي القيامة، لأن الساعة قريبة، كما قال الله تعالى :﴿ وما يدريك لعل الساعة قريب ﴾ وقال الله تعالى في الآية الأخرى :﴿ وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً ﴾ فهي قريبة، ويدل لقربها أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فمعناه أن الأمر قريب، وأما كون الله تعالى يذكر أن الأمر قريب وبيننا وبين نزول القرآن أربعة عشر قرناً، ونحن في القرن الخامس عشر، ومع ذلك يذكر الله - عز وجل - أن الساعة قريبة، ومن هنا نعرف أن عُمر الدنيا طويل وبعيد، ولكن هل نأخذ بقول هؤلاء الذين يتخرصون، ويقولون : عمر الدنيا الماضي كذا وكذا ؟ والجواب : لا نأخذ بقولهم، ولا نصدقهم ولا نكذبهم، أحياناً يقولون : إنهم عثروا على آثار حيوان له كذا وكذا من ملايين السنين، أو على أحجار، فهذا لا نصدق ولا نكذب، لأنهم لا يعلمون الغيب الماضي، وإنما يقيسونه بحال الحاضر، أي يقيسون عمر هذا الأثر بحسب المؤثرات في الوقت الحاضر، لكن من يعلمنا أن المؤثرات في الوقت الحاضر هي المؤثرات في الوقت الماضي لا ندري، قد يتغير الطقس من حرارة إلى برودة، ومن برودة إلى حرارة، وقد تتغير الرياح والأمطار وغير ذلك، وما نقرأه أو نسمع به من علوم هؤلاء موقفنا نحوه أن لا نصدق ولا نكذب، أما في المستقبل فيجب أن نكذب كل من أخبر عن شيء مستقبل ؛ لأنه يدعي الغيب، والله عز وجل يقول :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأَرض الغيب إلا الله ﴾ فعليه :﴿ أزفت الآزفة ﴾ أي قربت القيامة لكن هل يمكن أن نحدد مدى القرب ؟ لا يمكن، ومن ادعى أنه يعلم أنه متى تقوم الساعة فإنه مكذب لله ورسوله، أما الله فقد قال تعالى :﴿ يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً ﴾ وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فإن جبريل لما سأله قال :«أخبرني عن الساعة ؟ » قال له النبي صلى الله عليه وسلم :«ما المسؤول عنها بأعلم من السائل » يعني إذا كنت تجهلها فأنا مثلك، فمن ادعى أن الساعة تقوم بعد مليون سنة، أو مائة ألف سنة، أو أقل، أو أكثر فإننا يجب علينا أن نكذبه، ونقول : إنه كافر، لأنه مكذب لله ورسوله.
﴿ ليس لها من دون الله كاشفة ﴾ لها معنيان : المعنى الأول : كاشفة يعني مانعة، يعني لا أحد يكشفها أي : يمنعها، كما في قوله :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ﴾. والمعنى الثاني : كاشفة يعني عالمة تكشفها وتبينها، وعلى كل حال فلا أحد يمنع الساعة إذا شاء الله، ولا أحد اطلع على الساعة متى تكون.
﴿ أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا ﴾ الخطاب هنا للمكذبين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والاستفهام في قوله :﴿ أفمن هذا الحديث ﴾ للإنكار والتعجب من هؤلاء المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالآيات البينات، وأخبر عن الأمم السابقة، وبيَّن أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نذير من النذر الأولى، ويخشى على من كذبه أن يناله من العذاب ما نال المكذبين للنذر الأولى، يقول الله - عز وجل - :﴿ أفمن هذا الحديث تعجبون ﴾ أيها المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى ﴿ تعجبون ﴾ أي : ترونه عجباً منكراً، ولهذا قالوا :﴿ أجعل الآلهة إلهاً وحداً إن هذا لشيء عجاب ﴾ وقال الله تعالى :﴿ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ﴾ فهم يتخذون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عجباً، والمراد عجب الإنكار والاستبعاد،
﴿ وتضحكون ﴾ : يعني استهزاء بهذا الحديث الذي هو القرآن، وكذلك يضحكون بشرائع هذا الحديث، حيث كانوا يضحكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباداته ويسخرون به، إذاً ﴿ تعجبون ﴾ إنكاراً ﴿ وتضحكون ﴾ استهزاء ﴿ ولا تبكون ﴾، أي : لا تبكون من هذا الحديث خشية وخوفاً وإنابة إلى الله - عز وجل - بل هم أقسى الناس قلوباً، - والعياذ بالله - أو من أقسى الناس قلوباً لا تلين قلوبهم ولا يبكون من خشية الله
﴿ وأنتم سامدون ﴾ أي : غافلون بما تمارسونه من اللغو والغناء وغير ذلك، لأن منهم من إذا سمعوا كلام الله - عز وجل - جعلوا يغنون، كما قال الله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ فسامدون قيل : المعنى مغنون، وقيل : المعنى غافلون، والصواب أن المراد غافلون عنه بالغناء وغيره مما تتلهون به، حتى لا تسمعوا كلام الله - عز وجل -، وهذا نظير ما قاله المكذبون لأول رسول أرسل إلى بني آدم، حيث قال الله تبارك وتعالى عن قوم نوح :﴿ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذنهم ﴾ حتى لا يسمعوا ﴿ واستغشوا ثيابهم ﴾ أي : تغطوا بها حتى لا يروا ولا يبصروا ﴿ وأصروا واستكبروا استكباراً ﴾ فما كان في أول أمة كان في آخر أمة،
﴿ فاسجدوا لله واعبدوا ﴾ اسجدوا لله خضوعاً وذلاًّ، والمراد بالسجود هنا الصلوات كلها، وليس الركن الخاص الذي هو السجود، وليس أيضاً سجود التلاوة بل هو عام في كل الصلوات، ﴿ واعبدوا ﴾، هذا عام لكل العبادات، وخص الصلاة بالذكر وقدَّمها ؛ لأنها أهم العبادات البدنية الظاهرة بعد الشهادتين، وعلى هذا فيكون العطف في قوله :﴿ واعبدوا ﴾ على قوله ﴿ فاسجدوا ﴾ من باب عطف العام على الخاص كما أن قوله تعالى :﴿ تنزل الملائكة والروح فيها ﴾ من باب عطف الخاص على العام، وبهذا انتهى الكلام الذي منَّ الله به في تفسير هذه السورة، سورة النجم، أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم به.
Icon