تفسير سورة نوح

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة نوح من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ أي على رأس الأربعين، كما قال ابن عباس، وقيل: أرسل وهو ابن ثلاثمائة وخمسين، وقيل: أرسل وهو ابن خمسين سنة، وعاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فهو أطول الناس عمراً، ولا يرد شعيب، لأن ما جاء في عمره رواية آحاد، ونوح أول رسول أرسل بالنهي عن الشرك، لأن الشرك إنما حدث في زمنه، وأما قبله فلم يعرفوا عبادة غير الله حتى يؤمروا بتركها. قوله: ﴿ إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ المراد بهم جميع أهل الأرض. قوله: (أي بإنذار) أشار بذلك إلى أن ﴿ أَنْ ﴾ مصدرية، ويصح جعلها تفسيرية، لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه. قوله: (في الدنيا والآخرة) أي وهو الطوفان وعذاب النار. قوله: (بين الانذار) أي واضحة. قوله: (أي بأن أقول لكم) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ أَنْ ﴾ تفسيرية، ويصح كونها مصدرية كالسابقة، فيصح في كل منهما الوجهان.
قوله: ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ مجزو في جواب الأوامر الثلاثة. قوله: (من زائدة) أي على رأي الأخفش القائل: بأنه لا يشترط في زيادتها تقدم نفي وكون مدخولها نكرة. قوله: (فإن الإسلام) الخ، تعليل لما قبله، والمعنى: أن الإِسلام يغفر به ما تقدمه من الذنوب ولو حقوق العباد، فلا يؤاخذ بها في الآخرة. قوله: (لإخراج حقوق العباد) أي فإنها لا تغفر بالإِسلام، أي فيطالب الكافر إذا أسلم، بالحدود وبالأموال التي ظلم فيها، والديون المستقرة في ذمته. قوله: (بلا عذاب) جواب عن سؤال مقدر، كيف قال ﴿ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ مع أنه قال في الآية الأخرى﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾[المنافقون: ١١]؟ فالجواب: أن المراد بالأجل هنا أولاً وثانياً العذاب، وهو معلق على ترك الإيمان، وفي الآية الأخرى انتهاء العمر، وهو لا يتقدم ولا يتأخر، آمنوا أم لم يؤمنوا. قوله: ﴿ مُّسَمًّى ﴾ أي معلوم عند الله لا يزيد ولا ينقص. قوله: ﴿ إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ ﴾ أضاف الأجل له سبحانه، لأنه هو الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كما في قوله:﴿ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾[يونس: ٤٩] لأنه مضروب لهم. قوله: (لآمنتم) أشار بذلك إلى أن ﴿ لَوْ ﴾ شرطية. قوله: ﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ ﴾ بفتح الياء وسكونها قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ مفعول ثان ليزدهم، وهو استثناء من محذوف، والتقدير: فلم يزدهم دعائي شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها إلا فراراً، أي بعداً واعراضاً عن الإيمان. قوله: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ ﴾ ﴿ كُلَّمَا ﴾ معمول لجعلوا، والجملة خبر إن ومعمول ﴿ دَعَوْتُهُمْ ﴾ محذوف، والتقدير إلى الإيمان بك لأجل مغفرتك. قوله: (لئلا ينظروني) أي فكرهوا النظر إلي من فرط كراهتهم دعوتي، فقد خالفوه باطناً بالإصرار والاستكبار، وظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار، ولا أقبح من هذه المخالفة. قوله: ﴿ جِهَاراً ﴾ إما نعت مصدر محذوف أي دعاء جهاراً، أو حال على حد زيد عدل، والمعنى: أنه فعل عليه السلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ابتدأ أولاً بالأهون، ثم ترقى للأشد فالأشد، فافتتح بالسر؛ فلما لم يفد ثنى بالجهر، فلما لم يفد ثلث بالجمع بين السر والجهر، وتم للدلالة على تباعد الأحوال. قوله: ﴿ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ﴾ أي اطلبوا منه محو ذنوبكم بأن تأمنوا به وتتقوه، فليس المراد بالاستغفار مجرد قول أستغفر الله، فمن لازم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، عن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وشكا إليه آخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون إليك أبواباً، ويسألونك أنواعاً، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا الآية. قوله:(وكانوا قد منعوه) أي لما كذبوا نوحاً، حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت أموالهم ومواشيهم فقال لهم نوح ﴿ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ مِّدْرَاراً ﴾ حال من السماء، لم يؤنث لأن مفعالاً يستوي فيه المذكر والمؤنث. قوله: (بساتين) أشار بذلك إلى أن المراد جنات الدنيا؛ وكرر فعل الجعل، ولم يقل يجعل لكم جنات وأنهاراً، لتغير المعمولين، فإن الجنات مما لهم فيها مدخل بخلاف الأنهار، ولذا قال ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ ولم يقل يجعل لتغير المعمول.
قوله: ﴿ مَّا لَكُمْ ﴾ مبتدأ وخبر، والمعنى أي شيء ثبت لكم، وقوله: ﴿ لاَ تَرْجُونَ ﴾ جملة حالية من الكاف، وقوله: ﴿ وَقَاراً ﴾ أي توقيراً من الله لكم، والسلام بمعنى من، والمعنى أي شيء ثبت لكم لا شيء ثبت لكم لا تؤملون الله في كونه يوقركم ويعظمكم، بل المطلوب منكم أن ترجوا وقار الله إياكم بأن تؤمنوا به، فالمقصود الحث على الإيمان والطاعة الموجبين لرجاء ثواب الله لأن الرجاء تعلق القلب بمرغوب فيه يحصل في المستقبل مع الآخذ في الأسباب، وهو لا يكون إلا بالإيمان والطاعة. قوله: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ تَرْجُونَ ﴾ و ﴿ أَطْوَاراً ﴾ حال مؤولة بمشتق أي منتقلين من حال إلى حال. قوله: (والنظر) أي التأمل. قوله: (في خلقه) أي الإنسان، والمعنى: أن التأمل في أحوال الإنسان، من أسباب الإيمان بالله تعالى. قوله: (تنظروا) أي نظر اعتبار وتفكر. قوله: ﴿ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ ﴾ الخ، هذه الجملة سدت مسد مفعولي ﴿ تَرَوْاْ ﴾.
قوله: (بعضها فوق بعض) أي من غير مماسة، بل بين كل واحدة والأخرى خمسمائة عام، وسمك الواحدة منهن خمسمائة عام. قوله: (أي في مجموعهن) دفع بذلك ما يقال: إن القمر لم يكن إلا في خصوص سماء الدنيا، فما معنى إضافته إلى الكل؟ فأجاب بما ذكر، وفيه أن المجموع لا بد فيه من تعدد أفراد، وهنا ليس كذلك، فالأحسن الجواب بأن السماوات شفافة، فيرى الكل كأنه سماء واحدة، وما في واحدة كأنه في الكل. قوله: ﴿ وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ ﴾ أي فيهن، فحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، واعلم أن القمر في سماء الدنيا اتفاقاً؛ واختلف في الشمس فقيل في السماء الرابعة، وقيل في الخامسة، وقيل في الشتاء في الرابعة، وفي الصيف في السابعة، ووجههما مما يلي السماء، وقفاهما مما يلي الأرض. قوله: ﴿ سِرَاجاً ﴾ أي مثل السراج في كونها تزيل ظلمة الليل كما يزيلها السراج. قوله: (وهو أقوى من نور القمر) إن قلت: إن القمر أقوى من المصباح بالمشاهدة لعمومه المشارق والمغارب وانتشاره. أجيب: بأن الضمير عائد على الضوء المفهوم من (مضيئاً) أو يقال: إن المصباح في محل انتشاره أقوى من القمر، وإن كان أوسع امتداداً منه، لأن الإنسان يمكنه قراءة الخط في المصباح دون القمر، فلا يقرؤه إلا القليل من الناس. قوله: (خلقكم) أي أنشأكم منها؛ فالانبات استعارة للخلق. قوله: (إذ خلق أباكم آدم منها) أي أو باعتبار النطفة فإن أصلها وهو الغذاء من الأرض. قوله: ﴿ نَبَاتاً ﴾ مصدر لأنبت على حذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر. قوله: (مقبورين) حال. قوله: (مبسوطة) أي لا مسنمة فتتعب من عليها. قوله: ﴿ فِجَاجاً ﴾ جمع فج وهو الطريق الواسع، وقيل: هو المسلك بين الجبلين.
قوله: ﴿ قَالَ نُوحٌ ﴾ أي بعد يأسه من إيمانهم وصبره المدة الطويلة عليهم، وهذا مقدمة لدعائه عليهم. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ﴾ أي وعصياني عصيان لك يا رب. قوله: (وبفتحهما) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَمَكَرُواْ ﴾ معطوف على صلة ﴿ مَن ﴾ كأنه قال واتبعوا من مكروا. وجمع الضمير نظراً لمعنى من، وأفرد في قوله: ﴿ يَزِدْهُ ﴾ باعتبار لفظها قوله: ﴿ كُبَّاراً ﴾ بضم الكاف وتشديد الباء، وهي قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بالضم والتخفيف، وهي مبالغة أيضاً بمعنى المشدد والكسر والتخفيف جمع كبير. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ عطف على الصلة أيضاً. قوله: ﴿ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً ﴾ عطف خاص على عام. قوله: (بفتح الواو وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ ﴾ بغير تنوين في قراءة العامة، ومنع الصرف إن كانا عربيين للعلمية، ووزن الفعل، وإن كانا أعجميين فاللعلمية والعجمة، وقرئ شذوذاً بالصرف للتناسب، لأن ما قبلهما مصروف وما بعدهما مصروف. قوله: ﴿ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾ لم يذكر بالنفي مع هذين، لكثرة التكرار وعدم اللبس. قوله: (هي أسماء أصنام) أي كانوا يعبدونها، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، ولذا خصوها بالذكر، وأصلها كما قال عروة بن الزبير أنه كان لآدم خمس بنين، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر. وكانوا عباداً فمات رجل منهم فحزنوا عليه فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله، إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: افعل، فصوره في المسجد من صرف ورصاص، ثم مات آخر فصوره، حتى ماتوا كلهم وصورهم، فلما تقادم الزمان، تركت الناس عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ قالوا: ما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آباءكم، ألا ترون أنها في مصلاكم، فعبدوها من دون الله تعالى، حتى بعث الله نوحاً عليه السلام فقالوا: ﴿ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ﴾ الآية. قوله: ﴿ وَقَدْ أَضَلُّواْ ﴾ معمول لقول مقدر، أي وقال قد أضلوا، فهو معطوف على قوله: ﴿ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ﴾.
قوله: (دعا عليهم لما أوحي إليه) الخ، جواب عما يقال: إنه مبعوث لهدايتهم، فكيف ساغ له الدعاء عليهم بالضلال؟ فأجاب: بأنه لما يئس من إيمانهم، بإخبار الله له بأنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ساغ له الدعاء عليهم. قوله: (ما صلة) أي ومن تعليلية. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾ أي في الدنيا عقب الإغراق، فكانوا يغرقون من جانب، ويحترقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى، وهذا ما أفاده المفسر، ويحتمل أن المراد بها نار الآخرة، وهو من التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع.
قوله: ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ ﴾ الخ، عطف على قوله:﴿ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ ﴾[نوح: ٢١] وما بينهما اعتراض مبين لسبب استحقاقهم العذاب. قوله: (أي نازل دار) هذا معنى الديار في اللغة، والمراد صاحب دار، سواء كان نازلاً بها أم لا، فهو مرادف لأحد، فديار من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالديار ديار. قوله: (من يفجر) الخ، أشار بذلك إلى أن فيه مجاز الأول، لأنهم لم يفجروا وقت الولادة، بل بعدها. قوله: (قال ذلك) أي قوله: ﴿ لاَ تَذَرْ ﴾ الخ، وأما قوله: ﴿ وَلاَ يَلِدُوۤاْ ﴾ الخ، فعلمه بالتجربة، لكونه عاش فيهم زماناً طويلاً، فعرف طباعهم وأحوالهم، فكان الرجل ينطلق إليه بابنه ويقول له: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي حذرني من ه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك. قوله: (وكانا مؤمنين) أي واسم أبيه لمك، بفتحتين أو بفتح فسكون، ابن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء والواو وسكون الشين وكسر اللام، ابن اخنوخ وهو إدريس واسم أمه شمخا بوزن سكرى بنت أنوش. قوله: (منزلي أو مسجدي) أي أوسفينتي. قوله: ﴿ مُؤْمِناً ﴾ حال. قوله: (إلى يوم القيامة) أي من مبدأ الدنيا إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ إِلاَّ تَبَاراً ﴾ مفعول ثان لـ ﴿ تَزِدِ ﴾، والاستثناء مفرغ، وفعله تبر من باب قتل وتعب، ويتعدى بالتضعيف فيقال تبره والاسم التبار. قوله: (فأهلكوا) أي وغرقت معهم صبيانهم على القول بأنهم لم يعقموا ومواشيهم، ولكن لا على وجه العقاب لهم، بل لتشديد عذاب المكلفين، قال عليه الصلاة والسلام:" يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى ". وعن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال: علم الله براءتهم، فأهلكهم بغير عذاب، وما قيل في صبيان قوم نوح، يقال في صبيان كل أمة هلكت، والله أعلم.
Icon