تفسير سورة نوح

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة نوح من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ نُوحٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ -
[إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١) *]
رسالة نُوحٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ -[مقصورة*] على قومه، ومن قال بعمومها فهي للإنس فقط، وأما الرسالة [العامة*] فخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، والفرق بينهما أيضا أن رسالة نُوحٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ - أتت لجميع أهل زمانه دون من بعدهم، ونبينا ﷺ لَا تزال شريعته ورسالته إلى يوم قيام الساعة، [ولابن المنير*] في أول شرح البخاري عن [**هذا الجزية آخر، وكذا لابن أبي بجرة] في أول ترجمة البخاري، وأما آدم على نبينا وعليه السلام فأرسل لذريته خاصة بعد نزوله من الجنة، وإن تأكيد الإرسال [تنبيه*] على أنه أمر معهود وعادة مستمرة، والإنذار أخص من الموعظة، وأوقع الظاهر موقع المظهر، والأصل أن أنذرهم؛ لأنه حكاية للكلام الذي خوطبوا به وليس فيه مضمر، وأدخل (مِن) لابتداء الغاية إشارة إلى تأكيد الوعظ والإنذار والمبادرة به في أول [أزمنته*] القبلية، وقال (يَأْتِيَهُم) ولم يقل: ينزل بهم، إما إشارة إلى أنه يقصدهم وينزل بسببهم، أو أنه يأتيهم من كل الجهات، ويؤخذ من الآية ثبوت التعذيب قبل البعثة إذ المعنى: من قبل أن يأتيهم عذاب، [قبل*] الإنذار. [أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) *] العبادة هي النطق، فكلمة التوحيد الإيمان بالرسول، والطاعة اتباعه في الفرائض وأحكام الشريعة، وقيل: إن العطف تأكيد.
قوله تعالى: ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ... (٤)﴾
(مِنْ) يحتمل أن يكون للغاية أي للابتداء أو الانتهاء، وقول ابن عطية: هي للتبعيض، والمراد يغفر لكم من ذنوبكم وهو المهم الموبق الكبير؛ لأنهم أبهم عليهم بأنه لو غفرت الكبائر لغفرت الصغائر، فيلزم إما أن يغفر الكبائر فيغفر الصغائر من أجل ذلك، أو يغفر الجميع من أصل فلا تكون للتبعيض، وقيل: يغفر لهم ما مضى؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها، ويبقى ما يأتي [ماصدق*] التبعيض، والمراد يغفر لكم.
قوله تعالى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ).
ابن عطية: احتج بها المعتزلة في قولهم في المقتول: أن له أجلين وأنه مات قبل أجله، انتهى. تقرير حجتهم لو لم يكن أجل المقتول متعددا لما استقام نفي التأخير عنه، واللازم باطل فالملزوم مثله، بيان الملازمة أن التقدم والتأخر أمر نسبي، والأمور النسبية لَا تعقل إلا [بعد تعقل طرفيها*]، والجواب إما منع الملازمة وهو أن نقول الأصل متحد في علم الله ومتعدد في علمنا، نحن ما سمعنا دعاء [يصح*] له أجل واحد عند الله تعالى لا
يتقدم عنه ولا يتأخر، وأجلان في فهمنا نحن واعتقادنا يصح تقدمه على أحدهما وتأخره عنه، فإن قلت: كيف يتقرر معنى الآية وهو من تحصيل الحاصل كأنه قيل إذا جاء جاء؟ فالجواب أن الضمير عائد على الشخص المؤخر إلى الأجل المسمى، أي إن أجل الله إذا جاء لَا يؤخر صاحبه، أو يكون المراد بمجيء الأجل مقاربة مجيئه؛ لأن الأجل هنا المراد به إهلاكهم بالعذاب. أي إذا صار إهلاكهم بالعذاب لَا يؤخرون عنه كما جرى لقوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فكشف عنهم.
قوله تعالى: (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
جوابها مقدر أي لعبدتم الله وآمنتم واتقيتموه.
قوله تعالى: ﴿لَيْلًا وَنَهَارًا (٥)﴾
والمراد الدوام المادي لَا العقلي، قال ابن رشد: فيمن [حلف*] أن لَا يفارق دار الحاكم مع عزيمة ليلا ولا نهارا، أنه [لا*] يلزمه المقام إلا وقت الحكم فقط، والعقلي كقولك: الإنسان حيوان ليلا ونهارا، فإن قلت: لم نكرهما مع أن التنكير أقل تقليل، والتعريف أعم فائدة؟ فالجواب أن الألف واللام للعهد فقد يتوهم معهود هناك، وأيضا فإن المعرف بالألف واللام لَا تدخل عليه أداة العموم؛ بخلاف المنكر، فلا نقول: كل الإنسان حيوان وكل الرجل إنسان.
قوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ... (٦)﴾
عطفه بالفاء التي للتسبيب، أي بسبب الدعاء ازدادوا فرارا، فإن قلت: (لما) أبلغ في النهي؛ إذ هي تنفي الماضي المتصل بالحال، فلم يدل بها إلى لم؟ فالجواب أن لم لنفي قد فعل، وقلَّ فيها معنى التوقع، وهؤلاء لم يحصل لهم التوقع للخبر فقط، فإن قلت: لم أكد هذه الجملة بـ (إنَّ) مع [أن*] موجب التأكيد ينتفي عن*] الله تعالى، والقائل: من أعلم النَّاس بالله؟ فالجواب أنه جرى على عادة البشر في [مخاطباتهم*]، فإنهم يحترزون [**من أن يكون يحصر لهم] من يتعرض لهم بشيء، فيؤكدون كلامهم، [بإنَّ*]. قلت: يجاب بأنه لشدة خوفه من عدم الخروج من عهدة التبليغ ترك نفسه منزلة الشاك في حصول التبليغ، قلت: هذا ينتج العكس؛ لأن التأكيد ينافي الشك ويدل على التحقق.
قوله تعالى: ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ... (٧)﴾
أوقع السبب موقع المسبب؛ لأن الدعاء إنما هو للإيمان لَا للمغفرة، لكن الإيمان سبب في المغفرة.
قوله تعالى: [(كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ) *].
عموم قوله (كُلَّمَا) ليس على حقيقته، وهو مخصوص بأول [قسم*] لهم فإِنهم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حينئذٍ؛ [إذ*] لم يكن لهم علم بدعواه [الرسالة*] إليهم؟ قلت: بل هو على عمومه لوروده بعد قوله (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) أي دعوتهم دائما فلم يؤمنوا [ثم*] بعد ذلك دعوتهم فسدوا آذانهم وغطوا رؤوسهم؛ ولأنهم قد سمعوه أحيانا وأصغوا له وأجابوه، فقالوا (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، وأيضا الأول مطلق يصدق بصورة، وهو [مطلق*] الدعوة في مطلق زمان فلا يفيد التكرار، فقال هنا (كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ) ليفيد التكرار، وأيضا يكون المراد [بالأول الآباء*]، والثاني آبائهم [وأبنائهم*].
قوله تعالى: (وَاسْتَكْبَرُوا).
استكبروا: تأكيد الاستكبار [بالمصدر*] دون الإصرار، إما مراعاة لرؤوس الآي، وإما لأن الاستكبار [مدرك*] بالبديهة، والإصرار من أفعال القلوب، والاستكبار أشنع، [فلذلك*] أكده، ووجه الترتيب في هذه المعطوفات في جعل الأصابع في الآذان قدر مشترك بين جميعهم فقدم، وربما لم يكن عند بعضهم ثياب، فلا يتوجه طلب الاشتغال بالثياب فكان تابعا لأنه أخص، وقوله (وَأَصَرُّوا) لما كان دالا على وصفهم بالجفاء والبلادة، وتشبيههم بالحمر الوحشية كان تابعا لما قبله؛ لأنه ترق في الذم، وقوله (وَاسْتَكْبَرُوا) لما كان تجافيا للجهل والبلادة، وإنَّمَا يجب في حق الجاهل البليد أن يذل [... ] كان هذا دالا أن جهلهم مركب؛ فكان تابعا لأنه أبلغ في الذم وفيه تهكم بهم.
قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ... (١٢)﴾
[أخبر في الأموال بالمد، وفي الجنات بالجعل*]، وفي سورة الشعراء (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ).. فإِن قلت: لم قدم الجنات على الأنهار مع أن الأنهار سبب في حصول الجنات؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أن الجنات مقصد والأنهار وسيلة، والمقصد أحق بالتقديم.
الثاني: أن الجنات ذكرت بعد إرسال السماء عليهم مدرارا؛ فكأن السامع يتوهم أن المطر لَا يدوم بل ينقطع أحيانا فتبقى الجنات بلا سقي؛ فاحترس من ذلك بقوله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا).
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥)﴾
فيه سؤال وهو أن المعلوم للخلق بالضرورة إنما هو مجرد السماوات لَا كونها [سبعا*]، وأتى نوح عليه السلام بهذا الدليل تقريرا على قوله، فكأنه يقول لهم: ألم تعلموا أن الله خلق سبع سماوات طباقا فكيف تكفرون به؟ وهذا غير معلوم إلا من جهة السمع، أو من جهة النظر والرصد، وليس بأمر ضروري، والجواب أن علماء أهل الهيئة نصوا على أن ذلك يدرك بالرصد وأن القمر في السماء الدنيا، وعطارد في السماء الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة، وأنها كلها تكسف فتحجب بعضها، ولا يدرك ذلك إلا بطول الأعمار، فالمتقدمون لطول أعمارهم رصدوا ذلك فعلموا منه عدد السماوات، وهذه الآية من كلام نوح عليه السلام لقومه، وقد كانت أعمارهم طويلة فهم ممن حصل لهم العلم الضروري بكون السماوات سبعا من الرصد والكسوفات.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا... (١٦)﴾
الزمخشري: القمر في السماء الدنيا، وإنَّمَا قال (فِيهِنَّ) لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن كذا، وإن لم يكن في جميعهن، كما يقال في المدينة كذا، وهو في بعض [نواحيها*]، انتهى. هذا دليل على أن السماء عنده بسيطة، لقوله: [وإن*] لم يكن في جميعهن، [ولأنا*] إذا قلنا: إنها [كورية*] والقمر في السماء الدنيا، فهو في قلب السماوات السبع كلها، ولذلك قال ابن عطية: لأن القمر من حيث هو في آخرها فهو في الجميع عند ابن عطية [كورية*]، وعن ابن عمران: الشمس لها وجه وظهر، فوجهها ما يلي السماء، انتهى. يريد أن ضوءها مختلف فهو من جهة قوي ساطع فسماها وجها، ومن جهة ذلك فسماها ظهرا، وقيل: إنها من الجهتين على حد سواء، ابن عرفة؛ وقيل: إن الشمس في السماء الخامسة، وقيل: في الرابعة، وقال عبد الله بن عمر هي في الشتاء في السماء الرابعة، وفي الصيف في السماء السابعة، انتهى.
وهذا عندنا جائز أعني انتقالها من سماء إلى سماء، وأما الطبائعون فيستحيل ذلك عندهم؛ ومراده بالسماء السابعة سماء الدنيا الموالية لنا فحينئذٍ يكون عندنا الصيف، ولو كانت في أعلى الفلك كما هو المتبادر للذهن لبعدت عنا، فإن قلت: كيف يفهم
هذا مع أن زمن الشتاء والصيف أمر نسبي يختلف باختلاف الأقطار، فإذا كانت الشمس في رأس السرطان كان عندنا أول الصيف، وعند أهل الجنوب أول الشتاء، وإذا كانت في رأس الجدي فعلى العكس؟، وكيف يفهم انتقالها وما تقول في زمن الربيع والخريف هل تنتقل فيه أو لَا؟ فإن قلتم الجنوب غير معمور وإنما كلامنا في معمور الأرض؟ قلت: السؤال واجب [رده*] من حيث الجملة لَا بالنظر إلى معمور وغيره وأيضا فنص بطليموس على أن بعض الجنوب معمور، وأيضا كيف انتقالها مع كونها قدر الدنيا مائة وستين مرة ونيف؟ فكيف تنتقل للسماء الدنيا؟ فالجواب: أن ذلك يفهم على أحد وجهين:
إما بأن المنتقل شعاعها لَا ذاتها، وإما بأن مراده بالسماء السابعة [... ] وهو أعلى فلكها وأقصى ارتفاعها؛ لأن السماء يراد بها العلو فقط، وقيل في الصيف: تبلغ إلى أعلى الفلك فيكون في آخر [الجوزاء*]، وأول السرطان وهو أوجها.
قوله تعالى: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا).
أبو حيان: فيه الحذف من الثاني لدلالة الأول؛ أي وجعل الشمس فيهن سراجا، هذا لَا يصح؛ لأن الشمس ليست في جميعهن؛ لأنها في الفلك الرابع وما فوقه محتو عليه؛ بخلاف ما تحته وهو الفلك الأول والثاني والثالث فإنها خارجة عنهن وليست فيهن؛ فليس فيه الحذف من الثاني لدلالة الأول، وإنما تقدير المحذوف وجعل الشمس في بعضهن سراجا، فإن قلت: إن كانت جعل بمعنى خلق فما قلته ظاهر، وإن كانت بمعنى صير، فتقول: إن الشمس مصيرة في الجميع باعتبار كونها سراجا؛ لأن ضوءها يعم الجميع؟ قلت: إنها في ذاتها وصفتها، كما تقول: زيد في المدينة كريم، فكرمه وذاته في المدينة، وعبر بالسراج في الشمس إشارة إلى أن ما فيها من الحرارة كما في ضوء السراج، وأما القمر فلا حرارة فيه، فلذلك لم [يسمه*] سراجا.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)﴾
الزمخشري: (نَبَاتًا) مصدر من لفظ نبت أو من معناه، فتعقب أبو حيان قوله من معناه بأنه غير معقول، ويجاب بأنه أراد أن المصدر من المعنى هو الذي يستلزمه الفعل الأول، فلا يكون إلا أخص من الفعل، مثل: جلست القرفصاء، ولا يجوز أن يكون أعم منه، فلا تقول: قام زيد حركة؛ لأنه لَا يفسر الجلي إلا أجلى منه، وأنبت أخص من نبت، وقيل: (نَبَاتًا) بدل، ورد بأنه بدل الأعم من الأخص، وهو باطل حسبما نص عليه ابن عصفور في باب الاستثناء من مقربه وغيره.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨)﴾
إن قلت: لم عطف الأول بـ ثم والثاني بالواو؟، فالجواب من وجهين:
الأول: أنه لما كان الإخراج دفعة واحدة، والإنبات شيئا بعد شيء، والإعادة في الأرض كذلك أتى بـ ثم إشارة إلى المهلة بين أول الإنبات وأول الإعادة في الأرض لما كانت أمرا ضروريا مشاهدا لَا يخالف فيه أحد أتى به على حكم الوجود الخارجي بـ ثم التي للمهلة، ولما كان الإخراج من الأرض قد أنكروه، أتى به معطوفا بالواو؛ تحقيقا لوجوده إشارة إلى أنه لَا مهلة فيه حتى كأنه أقرب شيء، فإِن أجيب بأن المهلة الفاصلة بين الإنبات والموت هي في زمن الحياة؛ فهي مشاهدة ظاهرة يدركها كل أحد، والفصل بين الإعادة في الأرض والإخراج منها يوم القيامة ليس بظاهر فلذلك لم يأت فيه بالمهلة بأن هذا إنما يتم في الشخص الواحد بذاته فإِنه يدرك الفصل بين نشأته وموته، وأما الفصل بين موته وإخراجه من الأرض فلا يدركه، ونحن نجعله في أبناء جنس الإنسان المهلة الفاصلة بين نشأة جده وموته وسيشاهد المهلة عند موته.
قوله تعالى: ﴿سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠)﴾
وفي سورة (فِجَاجًا سُبُلًا) فكل منهما صفة وموصوف.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ عَصَوْنِي... (٢١)﴾
إن قلت: إنها تؤكد الجملة إذا كان المخاطب منكرا لها، أو ظهرت عليه مخائل الإنكار، والله أعلم بكل شيء، فلا يتم ذلك بالنسبة إليه؟ فالجواب: أن الإنكار قسمان: فهو بالمعنى المذكور مستحيل هنا.
والقسم الثاني: أن يكون ما تعاطاه المكلف منكرا غير الموافق عليه للشريعة، وهو المراد هنا لقوله (عَصَوْنِي) مع أن طاعة الرسول واجبة، والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من جهة عصيان قوم نوح نوحا، وتخويف لقريش من جهة عقوبته قوم نوح على عصيانهم، والآية حجة لمن يقول: إن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء؛ لأن نوحا هو مبلغ عن الله تعالى، فهم إنما عصوا الله تعالى لمخالفتهم أمره لهم على لسان رسوله، فلما قال (عَصَوْنِي) دل على أنه هو [الآمر لهم، بذلك الشيء*]؛ إلا أن يجاب بأنه أسند العصيان إلى نفسه على [جهة*] الأدب؛ لأن في إسناده إلى الله تعالى جفاء وغلظة في العبارة.
قوله تعالى: (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ).
قال المفسرون: المراد به إسرافهم، فعلى ما قالوه تكون الآية دالة على عصيان الأشراف المتبوعين باللزوم لَا بالمطابقة؛ إن جعلنا ضمير اتبعوا عائدا على ما عاد عليه
ضمير فاعل عصوني، وإن جعلناه عائدا على بعضه كما قالوا في قوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) فيكون دلالة مطابقة، ويحتمل أن يكون المراد بالمتبوعين الأمم المتقدمة، ولم يذكره المفسرون.
قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا... (٢٢)﴾
إما معطوف على (لَمْ يَزِدْهُ) فيكون من فعل الأشراف، أو على (اتَّبَعُوا) فيكون من فعل الأتباع، أو على (عَصَوْنِي) فيكون صفة للجميع.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا... (٢٣)﴾
إما الأشراف، أو الجميع بعضهم لبعض.
قوله تعالى: ﴿كَثِيرًا... (٢٤)﴾
إما مفعول به أو [مصدر*].
قوله تعالى: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا).
أورد الزمخشري هنا سؤالا يتقرر على مذهبه وعلى مذهبنا، وتقدم له نظيره في سورة يونس، وهو أنه لَا يصح [الدعاء*] على الكافرين بالموت على الكفر، ولا على العاصي بالموت على العصيان؛ لأنه مأمور في كل وقت بنهيه عن ذلك والتغيير عليه والدعاء بذلك إقرارا ورضا، وهو من باب طلب الكفر والمعصية؛ فكيف صح ذلك؟ وأجاب الزمخشري عن ذلك على مذهبه بأنه طلب الترك لَا الفعل، وطلب تخليتهم ومنعهم الألطاف فهو طلب العدم، وذلك لأنه يقول: إن الله تعالى يستحيل عليه أن يخلق الكفر والضلال، وجوابنا نحن على مذهبنا إما بأن نوحا عليه السلام غلب على ظنه بطول الممارسة لهم أنهم لَا يؤمنون فطلب ذلك، وإما بأنه أوحى الله تعالى إليه أنهم لا يؤمنون كما في سورة [هود*]، فإِن قلت: يلزم عليه تحصيل الحاصل، قلت: لم يطلب لازمه، وهو تضعيف العذاب عليهم في الدار الآخرة، وأجاب القرطبي بأن الممتنع إنما هو الدعاء على الشخص المعين، وهذا دعاء على جميع الكفار، ويقال لهم ولعلهم يسلمون، وعبر بالوصف الأعم وهو الضلال؛ لأن كل [ما*] لزم الأعم لزم الأخص.
قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ... (٢٥)﴾
أي من أجل خطيئاتهم، فهو إشارة إلى أنهم لم يعاقبوا على مجرد الكفر فقط؛ بل عليه وعلى جميع خطاياهم؛ فيدل على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة.
قوله تعالى: (فَأُدْخِلُوا نَارًا).
عطفه بالفاء إما لأن المراد عذاب [القبر*]؛ لأن (نَارًا) منكرة ولو أريد جهنم لعرفت، وقال الزمخشري: لاقترابه وتحقق وقوعه حتى كأنه قد كان، فإن قلت: هذا على مذهبه في [أنها الآن غير مخلوقة*]، قلت: بل وعلى مذهبنا؛ لأن المراد إدخال الأجسام لَا الأرواح، وقول القرطبي، قيل: المراد بالنار إغراقهم في البحر، لقول ابن عمر: "متى تعود يا بحر نارا" من بدع التفاسير، ويلزم عليه التكرار، قال: وقيل إن المراد أن كل واحد منهم عذب نصفه بالغرق، ونصفه بالنار.
قوله تعالى: (فَلَمْ يَجِدُوا).
فيه إشارة وهو أن العطف بالفاء المقتضية للتعقيب لَا تقتضي إلا عدم وجدان الناصر إثر دخولهم النار، لَا دائما، فهلا عطف بالواو المقتضية لعدم وجدان الناصر دائما؟ والجواب بأن هذا في أشخاصهم، والعام في الأشخاص عندنا عام في الأزمنة والأحوال، يرد بأنهم [موصوفون*] بـ (لم) التي هي لنفي الوجدان، لَا نفي الوجود، فظاهر الآية أن هناك أنصارا خفيت عنهم ولم يجدوهم؛ مع أن الثابت في نفس الأمر عدم الناصر بالإطلاق، ويحتمل أن [يكون تهكما*]، ويكون من باب نفي الشيء [بإيجابه*]، مثل: [لا أرينك هاهنا*].
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ... (٢٦)﴾
إن قلت: الأصل تقديم هذه الجملة على الذي قبلها؛ لأن دعاءه عليهم من جملة أسباب عذابهم؟ فالجواب أنه لو قدم على ذكر العقوبة، لأوهم أن العقوبة مترتبة على المجموع الذي هو دعاء عليهم وحسابهم، ومع التأخير يزول هذا التوهم، وهو أبلغ، [**ولهم من يتق].
قوله تعالى: (عَلَى الْأَرْضِ).
يريد في ذلك الزمان، وإلا فيقال: قد وجد الكافر الآن.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا.. (٢٧)﴾
إن قلت: ما الجمع بينه وبين حديث: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"؟ فالجواب أنه يولد على الفطرة ثم يصير في ثاني حال فَاجِرًا كَفَّارًا، القرطبي فإن قلت:
كيف يفهم ما ورد في حديث الشفاعة من أن الخلق يأتون إلى نوح عليه السلام ليشفع فيهم، فيذكر دعوته فيمتنع من الشفاعة مع أنه لم يدع إلا دعاء [... ] فيه؟ فالجواب أن تلك الشفاعة عامة تشتمل الخلائق كلهم، وفيهم قومه، وقد كان دعا عليهم فكيف يشفع حينئذ فيهم.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ... (٢٨)﴾
هذه ليست مغفرة الذنوب؛ لأن الأنبياء معصمون من ذلك، وإنَّمَا هو باعتبار تفاوت الدرجات؛ كما ورد "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، وبدأ بنفسه على سبيل الإقرار والاعتراف [بأنه*] أحوج النَّاس إلى ذلك، وذكر المؤرخون أن آباءه كانوا مؤمنين إلى آدم، والآية تدل على صحة ذلك؛ لأن المغفرة إنما يُدعَى بها للمؤمن، قال تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وما استثنوا من ذلكَ سوى إبراهيم، الزمخشري: أبوه لمك [بن متوشلخ*]، وأمه شمخا بنت أنوش كانا مؤمنين، انتهى الذي ذكر أبو عمر ابن عبد البر أن أباه لامك، وذكر البكري أن آدم عليه السلام عاش حتى رأى نوحا ولم يذكره غيره، قال شيخنا: لما قرأنا هذا المحل في مجلس السلطان ابن الحسن المريني، قال لبعض أولاده: يا ولدي الله الله [أكثِرْ*] من قراءة هذه السورة لاشتمالها على الدعاء، وكان بعض الشيوخ يقول: إذا قرأها بهذا القصد فإِنه يخرج الآية عن المعنى الذي سيقت [له*]، فإن المراد بالوالد فيها والد نوح قطعا، فإِذا دعا القارئ [نادي*] والده خرجت عن معناها فلا يسوغ له هذا وإلزامه بعضهم أنه لَا يصح دعاء من قرآن، فإنه كذلك مهما دعا به نفسه فقد أخرج الآية عما أريد بها، والصواب أن ذلك على قسمين: ففي الآيات العامة يجوز، وإلا فلا.
301
قوله تعالى: (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا).
أي لمن دخل شريعتي مؤمنا، وهذه الحال إما مؤكدة؛ لأن دخول يستلزم الإيمان، وإما مبنية؛ لأن مؤمنا اسم فهو دال على الثبوت، أي لمن دخل شريعتي ثابتا على الإيمان فيرجع إلى كونها مؤكدة.
قوله تعالى: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
ابن عطية: هذا رد مطرد في كل ملة، والذي استجاب دعوة نوح فأغرق أهل الأرض جدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين، انتهى، وهنا سؤال وهو أن دعاء نوح عليه السلام للمؤمنين بالمغفرة إما أن يراد به عدم مؤاخذة العصاة بذنوبهم أو لَا، وعلى كل تقدير فيشكل باعتبار الفهم بأن يقال: فلا يبقى لشفاعة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الواردة في الحديث الصحيح؛ لأنه أريد بالمغفرة عدم المؤاخذة بالذنب أن تكون أمة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَا يدخلون النار فلا يحتاجون إلى الشفاعة؛ لأن الظن بهذه الدعوة أنها مستجابة، وإن أريد بالمغفرة الصفح عنهم بعد دخولهم النار؛ لزم أن يكون خروجهم منها بدعوة نوح عليه السلام لَا بشفاعة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ والجواب: إما [أنَّ*] نوحا عليه السلام أراد مؤمني أهل زمانه، وإما بأن [تُأوَّل*] المغفرة على تخفيف العذاب؛ لَا على عدم المؤاخذة بالذنب فهم يخفف عنهم العذاب بدعوة نوح - عليه السلام -، ويخرجون من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (إِلَّا تَبَارًا).
وقال قبله [(إِلَّا ضَلَالًا) *] فخص تلك بالضلال؛ لأنها في حال الحياة الدنيا وهذه في حال الموت؛ فناسب تعقبها بالهلاك، الزمخشري: فإن قلت: [ما فعل صبيانهم حين أغرقوا*]؟ فأجاب بأن غرقهم ليس عقابا؛ بل سبب من أسباب الموت كما يموتون بغيره من الأنواع، الطيبي، عن صاحب الانتصاف: هذا السؤال إنما يتقرر على قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح؛ لأن هلاك الصبيان بغير سبب قبيح عندهم، انتهى.
يرد بأن السؤال بالإطلاق لَا يتقرر إلا على قواعدهم، [وإنما*] باعتبار التفصيل فيتقرر عندنا وعندهم، فنقول أما باعتبار النقل فلا يلزم عندنا؛ بل قد يهلكون وهم لم يعلموا شيئا، وهم يقولون: إنما يهلكون لسبب، وأما باعتبار الشرع فالتلازم معتبر عندنا وعندهم؛ لأن الشرع ورد بتنعيم الطائع وتعذيب [العاصين*]، والأطفال [لم يعملوا*] ما يعذبون عليه، فيرد السؤال على مذهبنا وعلى مذهبهم.
302
Icon