تفسير سورة يونس

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة يونس من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

[الجزء الثاني]

تفسير سورة يونس
ظاهرة الوحي
ظاهرة الوحي هي همزة الوصل بين الإله وبعض الناس من أنبيائه ورسله، فلولاها لم يكن هناك وجود للدين وأحكام الشرع ونظام الإله الذي شرعه لعباده.
ولولا الوحي لم نعرف شيئا عن الغيبيات في عالم الآخرة وما بعد الموت من حساب وعذاب وصراط وجنة ونار، ولولا الوحي الإلهي لكانت حياة البشرية بمثابة حياة الغابة يتحكم فيها القوي بالضعيف، دون خوف من حساب أو تقدير لمسؤولية، والتعجب من ظاهرة الوحي منشؤها انعدام الإيمان بالله تعالى وسيطرة الفكر المادي، وغلبة الأهواء والشهوات، من غير تقدير ومعرفة لمدى قدرة الله عز وجل، وخلقه الملائكة وسائط نقل الكلام الإلهي لرسل الله الكرام، وقد صور القرآن الكريم مدى العجب في نزول الوحي بما لا يصح في قاموس الإيمان، فقال الله تعالى في مطلع سورة يونس المكية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
«١» [يونس: ١٠/ ١- ٢].
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدا رسولا،
(١) سابقة فضل.
937
أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية، وأنزل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف: ١٢/ ١٠٩] فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٤٣/ ٣١] يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف. فأنزل الله ردا عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٤٣/ ٣٢].
ابتدأ الله تعالى هذه السورة (سورة يونس) بقوله الر كابتداء البقرة ب الم (١) والقصد من هذه الحروف المقطعة التنبيه إلى ما يتلى بعدها ليعتني المرء بفهم ما يسمع أو يقرأ، وتعديد الحروف على طريق تحدي العرب بأن يأتوا بشيء من مثل هذه السورة أو بغيرها من القرآن، وحيث إنهم عجزوا، دل ذلك على أن القرآن كلام الله تعالى. تلك آيات القرآن المحكم، أو ذات الحكمة لاشتماله عليها، أو تلك آيات السورة الحكيمة، التي أحكمها الله وبيّنها لعباده، وقوله تعالى: تِلْكَ بمعنى (هذه). والْكِتابِ المراد به القرآن، وهو الأظهر.
وقوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ يراد به الإنكار على من تعجب من الكفار على إرسال المرسلين من البشر، أي عجيب أمر بعض الناس الذين ينكرون إيحاءنا إلى رجل من جنسهم من البشر، قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله عز وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً.
هذا التعجب في غير محله، لأن كل الرسل من البشر، من جنس المرسل إليهم ليكون ذلك أدعى إلى قبول دعوتهم والتفاهم معهم.
938
ومهمة هذا النبي الموحى إليه هي الإنذار من الناس: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس، وخوّفهم من عذاب النار يوم البعث، إذا ظلوا كافرين ضالين عاصين، والمهمة الثانية: تبشير المؤمنين الذين يعلمون الصالحات أن لهم قدم صدق عند ربهم، أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عند الله في جنات النعيم، وأجرا حسنا بما قدموا. والأعمال الصالحة: هي صلاتهم وصومهم وصدقهم في القول والفعل وتسبيحهم.
وقوله سبحانه: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ فيه حذف يدل الظاهر عليه تقديره: فلما أنذر وبشر، قال الكافرون كذا وكذا. أو: ومع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، قال الكفار: إن هذا القرآن سحر ظاهر بيّن، وهم الكاذبون في ذلك. ووصفوه بالسحر: لما رأوا من تأثيره القوي في القلوب.
ثم تبين لعقلاء العرب وحكمائهم أن القرآن ليس سحرا، لأنهم جربوا السحر وعرفوه، فلم يجدوه مطابقا له، وإنما هو وحي من عند الله على قلب نبيه، مشتمل على أحكام سامية عالية في التشريع والقضاء، والسياسة والاجتماع والعلوم والأخلاق والآداب، معجزة في أسلوبه ونظمه ومعانيه، يفوق قدرة البشر على محاكاته أو الإتيان بشيء مثله.
أدلة توحيد الله وإثبات البعث
أقام القرآن الكريم الأدلة الواضحة والبراهين القاطعة على أصلين أو ركنين من أركان الدين: وهما أولا- التوحيد الخالص لله في العبادة والدعاء، وثانيا- إثبات البعث والجزاء. وتوحيد الله يتضمن إثبات وجود إله قادر نافذ الحكم بالأمر والنهي، وإثبات البعث يقتضي إثبات حياة الآخرة بما فيها من حشر ونشر ومعاد
939
وقيامة، ليحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر بهما الأنبياء، ولإحقاق الحق وإظهار العدل المطلق. وهذه آيات كريمة تبين هذين الأصلين:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
«١» «٢» [يونس: ١٠/ ٣- ٤].
الآية الأولى ابتداء دعوة إلى الإقرار بوجود الله وتوحيده وعبادته والاعلام بصفاته، وفي هذا ردّ على إنكار الوحي ووصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه ساحر. ومضمون الرد: أن الله تعالى رب العالم والكون جميعه، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، قيل: هي من أيام الآخرة، وقال الجمهور وهو الصواب: بل من أيام الدنيا، ثم استوى ربنا تبارك وتعالى استواء يليق بعظمته وجلاله، ولا يعلم كيفيته إلا هو، والعرش أعظم المخلوقات، واستوى بقهره وغلبته، وقد سئل الإمام مالك: كيف استوى؟ فقال: «الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».
والله تعالى في استوائه على العرش يدبر أمر الخلائق والكون بما يتفق مع حكمته وعلمه، ويقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته. والسلطان المطلق لله تعالى في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة لا يستطيع شفيع أن يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه، أي إرادته ومشيئته، كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: ٢/ ٢٥٥] فلا تشفع الأصنام والملائكة أو البشر الذين يزعمون
(١) بالعدل. [.....]
(٢) ماء شديد الحرارة.
940
أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وإنما الشفاعة لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية من الخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف في الشفاعة: وغيرها وهو ربكم المتولي شؤونكم، لا غيره، إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.
فَاعْبُدُوهُ أي فأفردوه بالعبادة وحده لا شريك له: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أفلا تتفكرون أدنى تفكر في أمركم أيها المشركون، فتتوصلون إلى أن الله وحده هو المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدونه من الآلهة، وأنتم تقرون بوجود الله وتفرده بالخلق، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: ٤٣/ ٨٧].
ومع إيمان العرب بوحدة الربوبية، كما تدل هذه الآية وغيرها، إلا أنهم كانوا يشركون معه غيره في الألوهية، وهذا ضلال يستدعي التصحيح والرجوع عنه.
ثم أثبت الله تعالى أصلا آخر من أصول الإيمان بعد إثبات التوحيد في العبادة والدعاء، وهو البعث والجزاء، فيخبر الله تعالى أن إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، بعد الموت، لا يترك أحدا منكم أبدا، ووعد الله بإيجاد المعاد في الآخرة وعدا حقا ثابتا لا خلف فيه ولا نقص.
والدليل على البعث أنه تعالى كما بدأ الخلق وأنشأه حين التكوين، كذلك يعيده في النشأة الأخرى، والإعادة في ميزان الإنسان أهون من البدء، وهما سواء بالنسبة لله سبحانه، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:
٣٠/ ٢٧].
وفائدة المعاد واضحة هي أن يجزي الله الذين آمنوا بالله ورسله وما أنزل إليهم، وعملوا الأعمال الطيبة الصالحة، بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم، فهو الجزاء الأوفى، حيث يعطي كل عامل ما يستحقه من الثواب. والجزاء بالعدل لا يمنع
941
التفضل بمضاعفة أجر المحسنين. وأما الذين كفروا بالله ورسله وأنكروا البعث، وتعجبوا من الإيحاء لبشر ينذرهم ويبشرهم، فلهم من الجزاء شراب ساخن شديد الحرارة، يقطّع الأمعاء، ويشوي البطون، فبئس الشراب شرابهم، ولهم أيضا يوم القيامة عذاب موجع مؤلم أشد الألم بسبب كفرهم، من سموم وحميم وظل من يحموم، بسبب ما كانوا يكفرون أو يجحدون من توحيد الله وإنكار البعث والجزاء.
إثبات القدرة الإلهية
ما من شيء معقول أو محسوس أو ملموس أو مشاهد إلا ويدل دلالة قاطعة على قدرة الله تعالى الخارقة والزائدة على أية قدرة، لأن قدرة الله تعالى تتميز في إيجاد الموجودات وما يكون بينها من نسب ومقادير يقتضيها إبداع التسوية والتركيب وإتقان الأشياء. أما قدرة البشر مثلا فهي مقصورة على معرفة ظواهر القدرة الإلهية والاستفادة منها في التصنيع والتعديل والتطوير وتغيير الشكل، مع العجز التام عن إيجاد المعدوم وخلق الأشياء، قال الله تعالى واصفا بعض الظواهر الكونية الدالة على قدرته الفائقة:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ٦]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
«١» [يونس: ١٠/ ٥- ٦].
هذه الآية تصف آيات الله، وتنبه على صنعته الدالة على الصانع المتقن، من خلال بيان أحوال الشمس والقمر الدالة على التوحيد من جهة الخلق والإيجاد، وعلى إثبات
(١) جعله ذا منازل يسير فيها.
942
المعاد من جهة كونهما أداة لمعرفة السنين والحساب، ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وما أبدع الله في السماوات والأرض.
الله سبحانه جعل الشمس في النهار ضياء للكون، ومصدرا للحياة وإشعاع الحرارة الضرورية للحياة، في النبات والحيوان، وجعل القمر نورا في الليل يبدد الظلمات، وقدر مسيره في فلكه منازل، ينزل كل ليلة في واحدة منها، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب، يرى القمر فيها بالأبصار: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: ٣٦/ ٣٩] وهي البروج.
وهذه الآية تقتضي أن الضياء أعظم من النور وأبهى، بحسب الشمس والقمر، والضياء أشد تأثيرا على الأبصار، وأما نور القمر فهو أهدأ وأقرب للتفاعل والتجاوب معه. لذا شبه الله تعالى هداه ولطفه بخلقه بالنور، فهداه في الكفر كالنور في الظلام، فيهتدي قوم ويضل آخرون. ولو شبه الله هداه بالضياء لوجب ألا يضل أحد، فيصبح الهدى مثل الشمس التي لا تبقى معها ظلمة.
ومن فوائد الشمس والقمر: معرفة حساب الأوقات والأزمان، فبالشمس تعرف الأيام، وبالقمر تعرف الشهور والأعوام، وفي كل من الحساب الشمسي والقمري فوائد، فالحساب الشمسي ثابت، والحساب القمري أسهل على البدوي والحضري، لذا أنيطت به الأحكام الشرعية، وبكلا الحسابين رفق بالناس، وتسهيل لمعرفة شؤون المعاش والتجارة والإجارة وغير ذلك مما يحتاج لمعرفة التواريخ.
ما خلق الله ذلك المذكور من الشمس والقمر إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثا بل لحكمة وفائدة، فمعنى قوله تعالى: ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي للفائدة لا للعب والإهمال، فيحق أن تكون كما هي.
يبين الله الآيات الكونية الدالة على عظمته وقدرته، والآيات القرآنية المرشدة
943
للإيمان ونظام الحياة، لقوم يعلمون طرق الدلالة على الخالق ومنافع الحياة، ويميزون بين الحق والباطل. وإنما خص تفصيل ذلك بالعلماء، لأن نفع التفصيل وإدراكه فيهم ظهر، وعليهم أضاء.
ودليل آخر على قدرة الله تعالى وهو تعاقب الليل والنهار، إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئا، وفي تفاوتهما أيضا عبرة، فيظهر طولهما وقصرهما بحسب مواقع الأرض من الشمس، وما لهما من نظام دقيق، وما فيهما من برودة وحرارة، يعود نفع كل ذلك للإنسان الذي جعل الله له الليل لباسا وسكنا، والنهار معاشا وحركة وتقلبا، ويعود نفعه أيضا للحيوان والنبات.
ومن أدلة القدرة الإلهية أيضا: ما خلق الله في السماوات والأرض من أحوال الجماد والنبات والحيوان، وأحوال الرعود والبروق والسحب والأمطار، وأحوال البحار من مد وجزر، وأحوال المعادن من خواص وتركيب ومنافع في البناء والحياة وتقدم المدينة والحضارة.
إن في ذلك كله لآيات ودلائل دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته، وحكمته وعظمته، وكمال علمه، لقوم يتقون مخالفة سنن الله في التكوين، وسننه في التشريع، فسنة الحياة المادية الحفاظ على الصحة، وسنة الحياة المعنوية الاستقامة، من أفسدها وخالفها أساء لنفسه، وكل من لم يتق عقاب الله وسخطه وعذابه، بارتكابه المعاصي ومخالفة السنن، عوقب على ذلك في الدنيا والآخرة. وخص الله تعالى هنا القوم المتقين تشريفا لهم، إذ الاعتبار فيهم يقع، وتأملهم فيها أدق وأفضل من تأملات من لم يهتد ولا اتقى.
944
جزاء المؤمن والكافر
العدالة التامة هي ميزان الجزاء الواقع في الآخرة، وهذا مقتضى المنطق وأمل المحرومين والمعذبين والمظلومين في عالم الدنيا، فلا ترتاح النفس ولا تهدأ إلا بإنصاف الخلائق، والشعور بأن هناك ربا عادلا ينصف أهل الحق والعمل الصالح، ويجازي أهل الباطل والضلال والفساد، وهذا المنهج الإلهي هو ما فاضت به دلالات آيات القرآن المجيد في كل مناسبة من مناسبات الترغيب لأهل الإيمان، وترهيب أهل الجحود والعصيان، قال الله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
«١» [يونس: ١٠/ ٧- ١٠].
هذه الآيات تقارن بين مصير أهل الجحود والكفر، وأهل التصديق والإيمان، لتحذير الكافرين منكري البعث، وتثبيت المؤمنين، ومعناها ما يأتي: إن الذين لا يتوقعون لقاء الله في الآخرة، ولا يحسنون الظن بذلك، ولا أمل لهم بالنجاة، ولا خوف عندهم من الحساب والعقاب والجزاء على الأعمال، لإنكارهم البعث والمعاد، ورضوا بالحياة الدنيا بدل الآخرة، لغفلتهم عنها، واطمأنوا بها وسكنوا إلى لذائذها فهي آخر همهم ومنتهى غرضهم، وكانوا غافلين عن آيات الله الكونية والشرعية، فلا يتفكرون في الكون ولا يأتمرون بأحكام الشرع، هؤلاء المذكورون مقامهم ومقرهم في نار جهنم، وذلك بسبب كسبهم السيئات واجتراحهم الآثام
(١) لا يتوقعونه.
945
والخطايا، مع كفرهم بالله ورسوله واليوم الآخر. وفي هذا رد واضح على الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبر مكره على المعصية، ونص صريح على تعلق العقاب بما يكسبه الإنسان من السيئات.
هذا جزاء الكافرين الأشقياء الذين أنكروا البعث ولم يريدوا إلا الحياة الدنيا ومتعتها، وألهتهم الدنيا عن التأمل في الآخرة والإعداد لها. ولما قرر الحق تبارك وتعالى حالة الفرقة الهالكة في الآخرة، عقّب ذلك ببيان حال الفرقة الناجية، ليتضح الطريقان، ويرى الناظر فرق ما بين الهدى والضلال، وهذا كله من الله لطف بعباده وتعريف سابق للمصير المرتقب في المستقبل الأخروي.
وحال الفريق الثاني هو ما قررته الآية: إن الذين صدقوا بالله ورسله، وامتثلوا ما أمروا به، فعملوا الصالحات، ولم يغفلوا عن آيات الله في الكون والشريعة، يرشدهم ربهم إلى طرق الجنان في الآخرة، وهي التي تجري الأنهار من تحت أشجارها ومن تحت غرفها، فيكون مستقرهم جنات الخلد والنعيم الأبدي، جعلنا الله منهم ونجانا من عذاب النار. وعطف العمل الصالح على الإيمان دليل على استقلال كل منهما عن الآخر، فلا يكفي الإيمان القلبي، بل لا بد للنجاة من العمل الصالح الذي هو كالتابع للإيمان والدليل عليه والتتمة له.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ قال: حدثنا الحسن قال:
بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المؤمن إذا خرج من قبره، صوّر له عمله في صورة حسنة وريح طيبة، فيقول له: ما أنت؟ فو الله إني لأراك عين امرئ صدق، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، وأما الكافر فإذا خرج من قبره، صوّر له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيقول له: ما أنت؟ فو الله إني لأراك عين امرئ سوء، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار».
946
ويكون دعاء المؤمنين في الجنة مبدوءا بقولهم: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، أو اللهم إنا نسبحك، وتكون تحيتهم في الجنة عبارة (السلام) الدالة على السلامة من كل مكروه، كما جاء في آية أخرى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (٢٦) [الواقعة: ٥٦/ ٢٥- ٢٦] وهي تحية المؤمنين في الدنيا، وتحية الله تعالى حين لقائه لأهل الجنة: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: ٣٣/ ٤٤] وتحية الملائكة لهم عند دخول الجنة: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٣٩/ ٧٣] وآخر دعائهم الذي هو التسبيح: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إن خاتمة كلامهم شكر الله تعالى وحمده على سابغ نعمه، والحمد أعم من الشكر، وهو أول ثناء على الله حين دخول الجنة، كما في آية أخرى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) [الزمر: ٣٩/ ٧٤].
عجلة الإنسان في تقرير المصير
يتعجّل الإنسان عادة تقرير المصير وتحقيق النتائج، سواء في حال الخير أو الشرّ، وهذا دليل القصور في التفكير، وسوء التقدير، ولو فكر الإنسان تفكيرا مليّا هادئا، وتأمّل في أحداث الدنيا، لتوقف عن العجلة، وبادر إلى الحلم والأناة، والصبر والإيمان، وتفويض الأمر للخالق الدّيان. ولو لم يفعل ذلك في حال المكروه أو الشرّ، لوقع في أسوأ العواقب، ودمّر نفسه ووجوده لطيشه وعجلته، وهذا الطبع يصفه القرآن الكريم للتحذير والتنبيه، فقال الله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
«١»
(١) لأهلكوا.
947
«١» «٢» «٣» [يونس: ١٠/ ١١- ١٢].
قال مجاهد: «نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابتهم إلى الخير لأهلكهم». وقيل: إن هذه الآية نزلت بمناسبة قوله تعالى واصفا طيش المشركين: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٨/ ٣٢]. وقيل: نزلت في قوله تعالى: ائْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف: ٧/ ٧٧] وما جرى مجراه.
والمعنى: إن الإنسان كما يتعجّل الخير، لأنه يحبّه، يتعجّل الشرّ حين يغضب ويضجر، فلو استجاب الله للناس دعاءهم في حال الشرّ، كاستعجالهم تحقيق الخير، لأميتوا وهلكوا، مثل استعجال مشركي مكة إنزال العذاب عليهم، كما قال تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرّعد: ١٣/ ٦].
وسمى الله تعالى العذاب شرّا في هذه الآية، لأنه أذى في حقّ المعاقب، ومكروه عنده، كما سماه سيّئة في آية: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ ولكنه سبحانه وتعالى بحلمه ولطفه بعباده لا يستجيب للناس دعاءهم في الشرّ، إمهالا لهم وتركا لفرصة التّأمل والتفكير، إذ لو أجابهم لانتهى أمر وجودهم وهلكوا، كما هلك الذين كذبوا الرّسل، وربما آمن بعضهم بالله. وأما عذاب سائر الكفار فيتركه إلى يوم القيامة، فيترك الذين لا يتوقعون لقاء الله ولا يؤمنون بالبعث، في طغيان الكفر والتكذيب،
(١) في تجاوزهم الحدّ في الكفر يتحيّرون.
(٢) استغاث بنا لكشفه في حال الاتكاء على جنبه.
(٣) استمر على حالته الأولى.
948
يترددون فيه متحيرين، ولا يعجل لهم في الدنيا عذاب الاستئصال تكريما لخاتم النّبيّين محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وكذلك اقتضت رحمته تعالى بعباده ألا يستجيب لهم دعاءهم على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشرّ، في حال الضّجر والغضب، لأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك.
روى أبو داود والبزار عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة، فيستجيب لكم».
ومن عجلة الإنسان أيضا أنه إذا أصابه ضرّ من مرض أو فقر أو خطر، بادر إلى دعاء ربّه بإلحاح في كشف ضرّه وإزالته، حالة كونه مضطجعا على جنبه، أو قاعدا، أو قائما، وفي جميع أحواله، فإذا فرّج الله شدّته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء، ومضى في طريقه من الغفلة عن ربّه وفي إشراكه بالله وقلّة توكّله عليه، كأنه لم يدع ربّه إلى شيء، ومثل ذلك العمل القبيح المنكر، أو التّزيين من الله بخلقه الكفر لهم واختراعه في نفوسهم، أو من الشيطان بالوسوسة والمخادعة، مثل ذلك زيّن للمشركين طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشّرك، والإعراض عن القرآن والعبادات، واتّباع الشّهوات.
والضّرّ عند اللّغويين: لفظ عام لجميع الأمراض والرّزايا في النفس والمال والأحبّة، وقيل: هو مختصّ برزايا البدن: الهزال والمرض.
وقوله: مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا وإن نزلت في الكفار، فهي تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص. والمراد بالإنسان في قوله سبحانه: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ هو الكافر، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم. والخلاصة: المراد من الآية النّهي عن العجلة في الدعاء، والأمر بالتسليم إلى الله تعالى، والضّراعة إليه في كل حال.
949
السّنّة الإلهيّة في تعاقب الأجيال
في القرآن الكريم تقرير جلي لسنن الله في الكون والنفس والحياة، يقصد من بيانها تربية النّفس الإنسانية على أساس من الإصلاح الجذري، والبعد عن المزالق والمهالك، أو الوقوع في البلايا والمصائب. فهناك سنّة إلهيّة في الهداية والضّلال، وسنّة إلهيّة في المؤمنين والظالمين من الكافرين والمنافقين، وسنّة إلهية في المسؤولية الشخصية والمسؤولية الجماعية، وسنّة إلهيّة في الدعاء والعبادة والجهاد والمعاملة، والابتلاء والمصيبة، والرزق والإنفاق، والحياة الدنيوية والأخروية.
وهذه السّنن الإلهية تقرر قوانين محددة، وتتصف بأنها دائمة خالدة، وثابتة غير متغيرة، ومستمرة غير متحولة، تشمل الأولين والآخرين. وهذا منهاج الله تعالى في قرآنه كما حكى في آيات كثيرة، منها قوله سبحانه: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: ٣٣/ ٦٢].
ومن سنن الله تعالى في النفس وتعاقب الأجيال ما جاء في قوله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
«١» «٢» [الأحزاب: ١٠/ ١٣- ١٤].
هذه آية وعيد وتهديد بعذاب الاستئصال والإهلاك للكفار مقرونة بضرب الأمثال لهم، في تعذيب الأمم السابقة، ليرتدعوا عما هم فيه من تحدّ لموكب الإيمان أو مطلب متسرع في تعجيل العذاب، مع أن القانون الإلهي واحد، فكما فعل السابقون أفعالا منكرة فعذّبوا، كذلك يفعل بالأجيال المتلاحقة بسبب التّشابه في الأسباب واقتراف السّيئات.
(١) القرون أي الأمم.
(٢) استخلفناكم بعد إهلاك الماضين.
950
يخبر الله تعالى أهل مكة وغيرهم في هذه الآية بأنه أهلك كثيرا من الأمم بسبب ظلمهم وتكذيبهم الرّسل فيما جاءوهم به من البيّنات والحجج الواضحة كما قال سبحانه: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف: ١٨/ ٥٩] والإهلاك إما بعذاب الاستئصال لأقوام الرّسل الذين كذبوا بهم مثل نوح وعاد وثمود، وإما بإذلالهم واستيلاء الأمم القوية عليهم، بسبب ظلم بعضهم بالفسق والفجور.
لقد أهلك الله الأمم العاتية لما ظلموا أنفسهم، وأصروا على الكفر، وكذبوا بالبيّنات الدّالة على صدق الرّسل، فلم يؤمنوا بهم وعارضوهم وقاوموهم، وقوله تعالى: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إخبار عن قسوة قلوبهم، وشدة كفرهم، وإفراطهم في العناد والتّحدي، فلم يعد هناك أمل في إصلاحهم، ولا فائدة في إمهالهم، بعد إقامة الحجج عليهم ببعثة الرّسل.
وقوله سبحانه: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ معناه: مثل ذلك الجزاء أي الإهلاك، نجزي كل مجرم. وهذا إعلان واضح ووعيد لأهل مكة المشركين على جريمتهم بتكذيب نبيّهم ورسولهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وليس عذاب الاستئصال العام لقوم إفناء للنوع البشري، وإنما هو مجرد وعيد وإنذار، فيعّوض الله جيلا بجيل، لذا خوطب مشركو مكة بأن جعلهم الله خلفاء في الأرض، بعد تلك القرون أو الجماعات المهلكة، ليبين في الوجود ما علمه أزلا في القديم الذي لا أول له، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السّر والعلانية» وكان عمر يقول أيضا: «قد استخلفت يا بن الخطاب، فانظر كيف تعمل».
وتقرير وجود المشركين المكّيين عقب إهلاك الظالمين المتقدّمين إشعار بأن دورة
951
الزمان ستتحول قريبا، فتكون أمّة القرآن هي صاحبة العزّة والسّيادة، والخلافة في الأرض، إذا لازمت الطاعة، واتّبعت هدي القرآن وسنّة رسول الإسلام، كما جاء في آية أخرى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النّور: ٢٤/ ٥٥]. وقد تحقق هذا الوعد على مدى التاريخ الماضي، ويمكن أن يتحقق مرة أخرى إذا أحسن المسلمون أعمالهم، وساروا في فلك الهداية الرّبانيّة، واستظلّوا بظلّ راية القرآن المجيد.
مطالب المشركين العجيبة
لقد أبدى المشركون في عهد نزول الوحي الإلهي رغبات غريبة ومطالب عجيبة للتّهرب من الحقيقة، والعبث بالشريعة، فطالبوا بتبديل القرآن من أجل إقرار شركهم والرّضا عن كفرهم ووثنيتهم، ولم يدروا بأن إنزال القرآن من عند الله الذي يفعل ما يشاء، ويأمر بما يريد، ويختار ما هو حقّ وصواب، ويهدم ما كان باطلا وخطأ.
وليس أبطل مما أعلنه المشركون من التشكك في القرآن والطعن في نبوة الرسول المنزل عليه كلام الله، وصف القرآن هذا الموقف العجيب بقوله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
«١» «٢»
(١) لا أعلمكم به.
(٢) لا يفوزون بمطلوب.
952
[يونس: ١٠/ ١٥- ١٨].
هذه الآيات إظهار للحجة القاطعة من الله على المشركين في التكذيب بالقرآن، والعكوف على عبادة الأصنام، وبيان واضح أن القرآن ليس من قبل النّبي محمد ولا هو من عنده، وإنما هو من عند الله، ولو شاء الله ما بعثه به، ولا تلاه عليهم، ولا أعلمهم به. فقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي من نمط آخر ليس فيه عيب آلهة المشركين، إنهم يريدون تبديل القرآن على حسب مزاجهم، بجعل آية مكان آية في الوعيد والطعن بهم. ومنشأ هذا المطلب: هو إنكارهم البعث والحساب، وتكذيبهم بالثواب والعقاب في الآخرة.
فردّ الله عليهم معلّما نبيّه أن يقول: ما يصح لي ولا من شأني أن أبدّل هذا القرآن من قبل نفسي، فليس هو كلامي، وإنما هو كلام الله، وإني لا أتبع فيه إلا ما يوحى إلي، وهو ما أبلّغكم به، إني أخشى إن خالفت وحي ربّي وأمره عذاب يوم عظيم الهول، شديد الوقع، وهو عذاب النار يوم القيامة.
بل قل لهم أيها الرّسول: لو شاء الله ألا أتلو هذا القرآن عليكم ما تلوته، ولو شاء الله ألا أعلمكم به أو أخبركم بأحكامه، وأنتم أعلم الناس بسيرتي، ولم تجرّبوني في كذب، بدليل أني مكثت بينكم أربعين سنة من قبل نزول القرآن، لا أتلو شيئا منه ولا أعلمه، أفلا تستعملون عقولكم وتتفكرون في أن من عاش أمّيّا أربعين عاما، لم يقرأ كتابا ولا تعلّم من أحد، لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن المعجز في بلاغته وفصاحته وعلومه وشرائعه، ولم تستطيعوا معارضته أو الإتيان بمثل أقصر سورة منه، وهذا دليل على أن القرآن يتميّز بإعجازه التّام، لأنه كلام الله، وليس كلام بشر.
953
فلا أحد في البشر أظلم من رجلين: أحدهما- من افترى على الله الكذب بنسبة الشّريك أو الولد لله، أو بتبديل كلامه على النّحو الذي اقترحتموه، والثاني- من كذب بآيات الله البيّنة، فكفر بها، إنه لا يفوز المجرمون (أي الكافرون) في الآخرة.
وهذا دليل على عظم جرم المفتري على الله بعد بيانه الساطع بأن القرآن كلام الله، ودليل أيضا على أنه لا نجاة للكفار من العذاب الأخروي، ولن يحققوا أي فوز، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى.
وأي الموقفين أصحّ عقلا وأسلم عاقبة وأبين حقيقة: موقف الإيمان بربّ واحد خالق رازق، نافع مانع للضّر، أو موقف المشركين الذين يعبدون الأصنام، ويزعمون أن شفاعتها تنفعهم عند الله، أو أنهم وسطاء لهم بين يدي الله. فردّ الله عليهم بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.. أي قل لهم أيها الرّسول: لا دليل لكم على ما تدّعون، أتخبرون الله بما لا وجود له في السّماوات ولا في الأرض، وما لا يعلم من وجود هؤلاء الشفعاء المزعومين، تنزه الله عن أن يكون له شريك أو معين، وتعاظم وتعالى علوّا كبيرا عما يشركون به من الشّفعاء والوسطاء، ويستحيل على الله وجود شيء من الشّرك أو الشّركاء الذين يشركونهم به.
وهذا تقريع وتوبيخ للمشركين في زعمهم وافترائهم بوجود أنباء في السماوات والأرض، لا يعلمها الله ولا وجود لها في الواقع.
وحدة المعبود والسّلطان الإلهي
تدلّ الفطرة الإنسانيّة الأصليّة في جميع البشر على الإقرار بوجود إله واحد، والإذعان لربّ واحد، له السّلطان الغيبي المطلق والتّصرف الشّامل في الكون
954
والإنسان، والرحمة والشدة، والنفع والضّر، فإذا تركت هذه الفطرة على مساقها السليم، كان الإنسان موحّدا، عابدا لله وحده، فهو المعبود بحق، وكل ما يصدر عن الإنسان من شرك وانحراف، وتصورات شاذّة عن الإله خالق الكون، فإنما هو من منشأ طارئ، يعكّر صفو الاتجاه الصحيح نحو الله تعالى. قال الله سبحانه مصوّرا حقيقة الفطرة السّوية في أقدم العصور:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٩ الى ٢١]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١)
«١» «٢» «٣» [يونس: ١٠/ ١٩- ٢١].
إن توحيد الله تعالى أمر قديم في البشر، وهو الأصل العام في كل إنسان، وما الشّرك في العبادة أو الوثنية وعبادة الأصنام إلا أمر طارئ دخيل، ومذهب فاسد حادث في الناس، بسبب اتّباع الأهواء والتصورات المخطئة. فقد كان الناس كلهم على دين واحد وملّة واحدة هو دين التوحيد، وفطرة الاعتراف بربّ واحد. وذلك كما جاء في آية أخرى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة: ٢/ ٢١٣] ويوضح هذا
الحديث الصحيح: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه».
لقد طرأ الاختلاف في توحيد الله تعالى على عقول البشر وتصوراتهم بعد الخلق السّوي والتكوين القويم، ولكن حلم الله ورحمته اقتضيا إمهال الإنسان ليراجع
(١) نائبة أصابتهم.
(٢) دفع وطعن.
(٣) أعجل جزاء. [.....]
955
حسابه ويصحح خطأه، ولولا ما تقدم من الله تعالى من كلمة حق في جعل الجزاء الفاصل بين الناس يوم القيامة، لعجّل العذاب للناس في الدنيا بإهلاك المبطلين، وتعذيب العصاة بسبب اختلافهم، ولقضي بينهم في منازعاتهم أو خلافاتهم. وفي هذا وعيد للمنحرفين وإمهال للظالمين الكافرين.
ثم أورد الله شبهة يتمسك بها الكفار في كفرهم وزعمهم، وهي أنهم يقولون: هلا أنزل على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم آية كونية حسّية مشاهدة كالتي نزلت على نوح وشعيب وهود وصالح وموسى وعيسى، تلك الآية تضطر الناس إلى الإيمان بالله، فردّ الله عليهم بأن يقول نبيّه لهم: إنما سلطان الغيب وتقديره أو معرفته وتوجيهه لله تعالى، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، لا يطّلع على غيبه أحد، والله وحده هو المختصّ بعلم الغيب، فلا يعلم به إلا هو، والأمر كله لله، يعلم عواقب الأمور، فإن قدر وشاء، أنزل آية كونية أو عقلية أو غيرهما، وإن شاء لم ينزلها، ويعلم الوقت المناسب لكل شيء. ثم قال تعالى: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وهذا وعيد واضح، فإن كنتم لا تؤمنون بي حتى تشاهدوا ما سألتهم من نزول الآيات المقترحة، فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم، وهو ما يستحلّ بكم من العذاب جزاء عنادكم وجحودكم بالآيات.
وقد حقق الله تعالى وعيده، بنصر عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم في معركة بدر وغيرها.
وهناك جواب آخر على طلب إنزال آية غير القرآن، وهو أن الله تعالى إذا أذاق الناس وهم الكفار رحمة، ورزقهم فضلا، من بعد ضرّاء مسّتهم، كالرّخاء بعد الشّدة، والخصب بعد الجدب، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، إذا هم يسرعون بالمفاجأة الغريبة وهي المكر، أي الاستهزاء والطعن في مقام الحمد والشكر، والتّنكر للجميل والمعروف بعد زوال المكروه عنهم، وعدم الارتداع عن المعاصي، وذلك في الناس كثير. وإزاء هذا الموقف قل لهم يا محمد: الله تعالى أسرع مكرا، أي
956
تدبيرا محكما، وجزاء عدلا على أفعالكم، قبل أن تدبروا مكيدة أو خطة لإطفاء نور الإسلام، وكل آت قريب، إن رسلنا وهم الملائكة الحفظة الكرام يكتبون أو يسجّلون جميع ما تفعلونه وتدبرونه، أو تخطّطون له، ويحصونه عليكم، ثم يعرضونه على الله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، فيجازي كل واحد على فعله بما يستحق.
مقابلة النّعمة بالجحود
يختلف الناس في تقدير نعمة الله الخالق عليهم، فالمؤمن يشكر الله تعالى على أفضاله ونعمه الكثيرة في الحياة والصحة والرزق والجاه والمال، والكافر أو المشرك يقابل النعمة بالجحود، ويتنكر للمعروف، وينسى ما تفضّل به الله عليه من نجاة بعد خوف، وأمن بعد قلق، وعافية بعد مرض، وغنى بعد فقر، وعزّ بعد ذلّ. والشأن في الإنسان السّوي المنصف أن يقرّ بهذه الأفضال الإلهية، ويشكر المنعم في جميع الأحوال. قال الله تعالى واصفا حال الجاحدين المتنكّرين للجميل والخير:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
«١» «٢» »
[يونس: ١٠/ ٢٢- ٢٣].
هذه الآية تتضمن تعداد النّعم على الناس، ثم تزجرهم عن الجحود وتذمّ بغيهم وتجاوزهم الحدود، ومن أعظم النعم تحقيق الأمن بعد الخوف، والنّجاة من المخاطر
(١) شديدة الهبوب.
(٢) أحدق بهم الهلاك.
(٣) يفسدون ويظلمون
.
957
بعد التعّرض لها، فالله تعالى هو الذي يمكّن الناس من السير وتجاوز المسافات في البر والبحر بوسائط النقل المعروفة، من الدّواب والبواخر والسيارات والطائرات والقطارات، وتلك نعم جليلة، حتى إنه إذا كان الناس راكبين في السّفن الشراعية وجرت فوق الماء بريح هادئة لينة، ثم تعرّضت للاضطرابات ومخاطر الغرق بتغيّر الريح واشتدادها، فتهبّ عاصفة قوية، ويعتقد الركاب أنهم غارقون هالكون بسبب الأعاصير والأمواج العاتية التي تحيط بهم من كل جهة، في تلك الحالة الرهيبة لا يجد الركاب ملجأ إلا الله، فيتّجهون إلى دعائه مخلصين له الدعاء والعبادة والتّضرع، ولا يتّجهون لغير الله ربّهم، ويقولون بصدق وحرارة وإخلاص: لئن أنجانا الله من هذه المخاطر والدّواهي لنكونن من جماعة الشاكرين نعمة الله، الموحّدين له، العابدين إياه. ولكن سرعان ما يتبدل الموقف، وينقض هؤلاء الركاب العهد أو الوعد، فحينما ينجيهم الله من تلك الورطة، وينقذهم من خطر الغرق أو الهلاك، إذا هم يعودون إلى سيرتهم الأولى، من نكران وجود الله وتوحيده، والوقوع في الظلم والبغي، والعصيان والفسوق، كما جاء في آية أخرى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) [الإسراء: ١٧/ ٦٧].
ثم زجر الله أهل البغي والإسراف، والجحود والإنكار، والمعصية والضّلال، فقال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنما وبال هذا البغي وجزاؤه وإثمه على أنفسكم في الدنيا والآخرة، ولا تضرّون به أحدا غيركم، تتمتعون في الدنيا متاعا زائلا لا قرار له، من توبيخ الضمير والوجدان، أو التعرض لأنواع البلايا والأمراض والقلاقل أو الخسران في نهاية الأمر، وفي الآخرة أيضا جزاء محقق على البغي والانحراف، لأن مصير جميع الخلائق ومآلهم إلى الله يوم القيامة، فيخبرهم
958
بجميع أعمالهم، ويجازيهم عليها الجزاء الأوفى المناسب، بسبب ما كانوا يعملون. وفي هذا تهديد كاف، ووعيد قاطع شاف. جاء في حديث أحمد والبخاري: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرّحم».
وقال سفيان بن عيينة: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تعجّل لكم عقوبته في الحياة الدنيا، وعلى هذا قالوا: البغي يصرع أهله.
والحقّ أن إنذارات القرآن وألوان التهديد والوعيد بالعذاب لها هدف تربوي سام، فهي من أجل توجيه الإنسان نحو الخير، والصلاح، والهدى والنّور، والاستقامة على أمر الله وشكره باستعمال القوى الإنسانية في مرضاته، وهي أيضا تحذير من الشّر وتنبيه إلى مغبّته وسوء عاقبته، فالويل كل الويل لمن بغى على نفسه وظلم غيره، قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النّور: ٢٤/ ٦٣].
أروع مثل للحياة الدنيا
تتميز تشبيهات القرآن الكريم لبعض الأوضاع الجسمية أو الخطيرة بالواقعية والإيجاز، والتصوير السريع البليغ، ليسهل إدراك الأمور على وجهها الصحيح، ولتكون الأحوال المشاهدة خير دليل معبّر عن الواقع، وعبرة للمتأمّل المتّعظ. فإذا تفاعل الإنسان مع منظور المستقبل وتأثّر بما يؤول إليه، أحسّ بمسؤوليته، وبادر إلى العمل والبناء، والعطاء والإنتاج، قبل أن يفوت الأوان وتضيع الفرصة. وهذا مثل بليغ للحياة الدنيا تصوّره الآية القرآنية التالية كأن رساما ماهرا يرسم مشاهدها:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
959
«١» «٢» «٣» [يونس: ١٠/ ٢٤].
هذه الآية العظيمة تصوير للحياة والفناء العاجل، وقد تكرر هذا التشبيه أو التمثيل في القرآن الكريم في مناسبات عديدة، مثل قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) [الحديد: ٥٧/ ٢٠].
وتوضيح هذا المثل كما يبدو فيما يأتي:
إنما مثل التّفاخر في الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين، ثم أيلولتها إلى الفناء السريع، كمطر نزل من السماء، فاختلط بالتراب والنبات، فأنبت نباتات شتى، تشابكت واختلط بعضها ببعض، منها ما يأكله الناس من زروع وحبوب وثمار، ومنها ما تأكله الأنعام من علف ومراع وغير ذلك.
حتى إذا تكامل نمو النبات وازدهر، وأخذت الأرض حسنها وزينتها الفانية، وتزيّنت بأبهى أنواع الزينة، واكتسست الجبال والوديان والسهول بالأشجار الباسقة، والأزهار النّضرة، والحبوب والثمار اليانعة، مما يأكل الناس من الزروع والأشجار ونحو ذلك من المراعي والأعلاف، وازّيّنت، أي ظهرت زينتها، وأيقن أهلها الذين زرعوها أو غرسوها أنهم قادرون على جذاذها وحصادها والانتفاع بها. وبينما هم كذلك، مفتونون بحسن النّبات والثّمر والزهر، جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة،
(١) نضارتها بالنباتات.
(٢) كالنبات المحصود.
(٣) لم تمكث زروعها.
960
فيبست أوراقها وتلفت ثمارها، ونزل بها القضاء المقدّر لهلاكها ليلا أو نهارا، فجعلها الله تعالى كالأرض المحصودة، لا خضرة ولا نضرة فيها، كأن لم تنبت، وكأنها لم تكن في حال حياة قبل ذلك، وهذا معنى قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأن لم تنعم ولم تنضر ولم تغر بغضارتها، وفي تفسير أبي بن كعب: وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها.
ثم ختم الله تعالى هذا المثل الرائع بقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي كهذا المثل المبيّن الذي يوضح حال الدنيا وسرعة زوالها، نبيّن الحجج والأدلّة الدّالة على إثبات التوحيد والجزاء وكل ما فيه صلاح الناس في معاشهم ومعادهم، لقوم يتفكرون في آيات الله، أي يستعملون تفكيرهم وعقولهم في الاتّعاظ والاعتبار بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها زوالا سريعا، مع اغترارهم بها، وتمكّنهم من خيراتها، علما بأن من طبع الدنيا الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها.
والغرض الواضح من هذه الآية التحذير من الاغترار بالدنيا، إذ هي معرّضة للتّلف والزّوال بموت أو غيره من رزايا الدنيا. وخصّ المتفكّرين بالذّكر تشريفا للمنزلة، وليقع التّسابق إلى هذه الرتبة. فجدير بكل عاقل ألا يغتر بالدنيا، فإنها غرّارة زائلة، وليبادر إلى اغتنام أيام عمره فيها، فيعمل العمل الصالح، ويصحح العقيدة، ويؤمن بالله حقّ الإيمان، وينفع نفسه وأمّته ووطنه، ويخلّد سمعة طيبة إما بكلمة طيبة، أو بخير يفعله، أو منع من شرّ يدمّر حياته وحياة غيره.
التّرغيب في الجنّة والتّرهيب من النّار
لم يترك القرآن المجيد خيرا إلا دعا إليه جميع البشر في كل زمان ومكان، ولم ير في شيء شرّا إلا حذّر منه ونفّر، وأعلن وأنذر، وجعل القرآن غاية للخير ومقصدا عامّا
961
ألا وهو الجنّة، كما جعل مصير الشّر مصيرا شاملا ومحقّقا ألا وهو النار. وهذا دليل واضح على حبّ الله الخير والمصلحة لعباده، وإرادته تعالى إبعادهم من الشرور والمفاسد والمساوئ، لما فيها من ضرر مؤكد وتدمير محقق. قال الله تعالى مبيّنا هذا المنهج الإلهي في شرعة القرآن:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
«١» «٢» «٣» «٤» [يونس: ١٠/ ٢٥- ٢٧].
إذا كانت دعوة الإسلام إلى الإيمان بالله وحده دعوة عامّة لكل أجناس البشر، فإن الهداية التي هي الإرشاد مختصّة بمن قدّر إيمانه. ومعنى الآية: والله يدعو إلى الإيمان والعمل الصالح المؤدّيين إلى دار السّلام وهي الجنّة، وسميت الجنة بدار السلام، لأن من دخلها ظفر بالسّلامة والكمال، وأمن الفناء والآفات، وسلم من الشوائب والنقائص والأكدار.
ودعوة الله إلى دار السّلام وأمره بالإيمان عام لكل البشر، ولكنه سبحانه يختص أهل الإيمان بالهداية، أي بالإرشاد والتوفيق إلى الطريق القويم الموصّل إلى الجنّة، ولا أقوم ولا أهدى من شرعة القرآن والإسلام المتضمنة أصول العقائد والأخلاق والشرائع والأحكام. ومن المعلوم أن الهداية نوعان: هداية دلالة عامّة، وهي عامة لجميع الناس، وهي الدعوة إلى الإيمان والإسلام، وهداية توفيق وعناية، وهي خاصة بالمؤمنين، يوفقهم الله إلى طريق الاستقامة، ويعينهم على القيام بواجباتها وآدابها.
(١) غبار مع سواد.
(٢) أثر هوان.
(٣) مانع يمنع عذابه.
(٤) كسيت وغطّيت.
962
ودعوة القرآن إلى الدين الحق كالدعوة إلى مأدبة فاخرة،
أخرج ابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه عن جابر رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتّخذ دارا، ثم بنى فيها بيتا، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله الملك، والدّار الإسلام، والبيت الجنّة، وأنت يا محمد الرّسول، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنّة، ومن دخل الجنّة أكل منها».
والسبب في دعوة القرآن إلى الإسلام هو مراعاة مصلحة المدعوين، فإن للذين أحسنوا العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح: المثوبة الحسنى في الدار الآخرة، ولهم أيضا زيادة وهي النظر إلى وجه الله عزّ وجلّ. ولا يغشى وجوه أهل الجنّة شيء مما يغشى وجوه الكفرة من الغبرة التي فيها السواد، والهوان والصغار: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ والقتر: الغبار المسودّ. أولئك هم مستحقّو الجنّة وأصحابها حقّا ووجوبا، ويقيمون فيها على الدوام من غير زوال، وهذا على جهة المدح لهم والتشريف.
وفي مقابل هؤلاء صنف آخر وهم الأشقياء الذين اقترفوا السّيئات وارتكبوا المنكرات من الكفر والشّرك والظّلم، فلهم جزاء عادل سيّئة مثل سيّئتهم، أي جزاء مناسب لمعاصيهم، وتعمّ السّيئات هنا الكفر والمعاصي، فسيّئة الكفر التّخليد في النار، وسيّئة المعاصي مرجع الجزاء فيها إلى الله تعالى، وتحيط بالكافرين والعاصين مذلّة وهو ان لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، كأنما ألبست وجوههم أغشية من سواد الليل المظلم، لفرط سوادها وظلمتها، أولئك المتّصفون بتلك الصفات هم
963
لا غيرهم أصحاب النّار هم فيها خالدون، أي دائمون فيها، لا يزحزحون عنها.
والحاصل: أن مصير المؤمنين إلى نعيم في الجنان وخلود فيها، ومصير الكافرين إلى عذاب شديد في النّيران وتخليد فيها، والمرجع في أهل المعاصي إلى مشيئة الله تبارك وتعالى، إن شاء عذّبهم، وإن شاء غفر لهم.
مشهد من مشاهد الحشر
جميع مشاهد القيامة عجيبة مذهلة، رهيبة مخوفة مؤلمة، لأن المصير مجهول، والحساب عسير، والنهاية أبدية، فإما إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار شديدة اللهب والإحراق. ومن أبرز تلك المشاهد الفصل النهائي بين المشركين وآلهتهم المزعومة، والحوار الحادّ بين الفريقين، وهذا ما أوضحه القرآن المجيد في قوله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
«١» «٢» [يونس: ١٠/ ٢٨- ٣٠].
هذا مشهد رهيب من مشاهد الحشر يوم القيامة، حيث يجتمع الناس في صعيد واحد، وتحسم فيه المواقف، وتتبدّد مزاعم المبطلين. يقول الله لنبيّه: اذكر أيها الرسول يوم نجمع أهل الأرض كلهم من الجنّ والإنس، والبرّ والفاجر، والمحسن والمسيء، ثم نقول لأهل الشّرك: الزموا مكانكم، وذلك مقترن بحال الشّدة والخزي،
(١) أي فرقنا بينهم في الحجة والمذهب.
(٢) تختبر أو تعلم.
964
أنتم وشركاؤكم، لا تبرحوا المكان حتى تنظروا ماذا يفعل بكم، ففرقنا بين الشركاء والمشركين، وقطعنا ما كان بينهم من الصّلات والعلاقات.
يقف المشركون عبدة الأوثان يوم القيامة، في موقف الخزي، مع أصنامهم، ثم ينطق الله الأصنام بالتّبري منهم، فيقول الشّركاء وهم الذين يزعم الوثنيّون أنهم شركاء لله، يقولون لعابديهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا، فوافقتموهم وأطعتموهم. وفي هذا تهديد ووعيد، وبيان انقطاع الأمل في شفاعة الشركاء.
والشّركاء: إما الملائكة أو عيسى أو الأصنام التي ينطقها الله تعالى، وكل ما عبد من دون الله تعالى، من صنم أو وثن أو شمس وقمر، أو ملك وإنسيّ وجنّي. فكفى بالله شاهدا وحكما عدلا بيننا وبينكم أنّا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك. وهذا تبكيت عظيم للمشركين، وتهديد في حقّ العابدين.
إننا كنّا في غفلة تامّة عن عبادتكم، لا ندري بها، ولا ننظر إليها، ولا نرضى عنها.
هنالك في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتذوق وتعلم ما قدمت من العمل من خير وشرّ، فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليتبين حاله.
وأرجعوا إلى عقاب الله وشديد بأسه، ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، الحقّ الثابت الدّائم، ففصّلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، دون تلك الشركاء والأنداد الأصنام. وهذا يبين أن الله مولى المشركين في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه.
وذهب عن المشركين افتراؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه،
965
ويتخذون تلك الأنداد آلهة مزعومة، ولم يبق لهم نصير ولا شفيع، والأمر كله يومئذ لله تعالى. وهذا تنبيه على زوال ما يدعون أن تلك الشركاء شفعاء لهم عند الله، وأن عبادتهم تقرّب إلى الله تعالى.
إن ما يلاقيه المشركون من خيبة الأمل بالأصنام ونحوها من المعبودات تبرهن للعقلاء أن السلطان في الحساب والثواب والعقاب لله وحده. وإذا كان الله وحده هو المحاسب للناس، فهو المعبود بحق، وما على الناس قاطبة إلا أن يوجهوا أنفسهم نحو ما يفيد، ويمنع الضّرر، وأنه لا شفاعة إطلاقا للأصنام ونحوها، فهي تعلن البراءة من عابديها ومن عبادتهم الباطلة.
ألا فليستيقظ الضمير والعقل البشري، وليعلم أن من بيده الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والحساب والثواب والعقاب، هو الجدير بالعبادة والتعظيم، والتّنزيه والتّقديس، وطلب المدد منه سبحانه وتعالى.
مناقشة المشركين في وحدانيّة الله
ما من إنسان سوي عاقل إلا ويحسّ في أعماق نفسه بوجود الله الخالق، ولا بدّ من أن يمرّ في خاطره يوما ما ومضة من تفكير أو شعور مرهف بأنه بأشد الحاجة إلى قدرة الله في تفريج كربه، ونجاته من محنته، وهذا ما كان مستقّرا في أذهان المشركين الوثنيّين وعقائدهم، فإنهم كانوا يقرّون بوجود الله تعالى، ولكنهم كانوا يسيئون التّصوّر، فلا يوحّدون الله، وإنما ينسبون إليه الشّركاء من الأوثان والأصنام وغيرها، وهذا غاية الانحدار والهبوط في الفكر والتّصور والاعتقاد، لذا ردّ الله عليهم في هذه الآيات لإثبات توحيد الألوهية وتوحيد الرّبوبية معا من غير انفصال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
966
«١» «٢» «٣» [يونس: ١٠/ ٣١- ٣٣].
هذه الآيات مناقشة حادّة، وتوبيخ وإلزام في الحجة لأولئك المشركين الذين يقرّون بوجود الله، ولكنهم خطأ لا يعتقدون بوحدانية الله، قل أيها النّبي لمشركي مكّة وأمثالهم: من الذي ينزل المطر من السماء، فينبت به الزرع والشجر ومختلف النباتات والثمار والفاكهة، فيكون ذلك رزقا لكم أيها البشر، بسبب خيرات السماء وبركات الأرض، ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار، وهذا لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه، حتى إن ما عداهما تبع، ومن الّذي يهب الحياة، ويزيلها بالموت، فيخرج الحي من الميت كالجنين من النطفة، والطائر من البيضة، والنبات من الأرض، إذ له نمو شبيه بالحياة الحركية. ومن الذي يخرج الميت من الحي مثل البيضة من الطائر، والحبّ والنّوى من الزرع والشّجر، وهناك أمثلة علمية أخرى لإخراج الحيّ من الميت كالغذاء المحروق الذي يتناوله الإنسان، فيتولّد منه الدّم، وإخراج الميت من الحيّ كالخلايا الميتة في الدم والجلد التي يطرحها مع البخار والعرق. ومن الذي يدبّر أمور العالم ويسيطر على شؤون الكون، ويتصرّف في المخلوقات حسبما يشاء، من غير عوائق ولا موانع؟! هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا: إن الفاعل هو الله، فهو موجود من غير شكّ ولا مندوحة لهم عن هذا الإقرار، بسبب إيجاد الرزق، وإحياء الإنسان، وهبة الحياة، وإحداث الموت والفناء، وتدبير الأمور كلها. وإذا اعترف الإنسان بوجود الله، فما باله ينكر وحدانية الله؟ وقل لهم أيها الرسول: أفلا تتّقون
(١) الثابت الوجود بالبرهان.
(٢) تعدلون عنه إلى الكفر. [.....]
(٣) ثبتت ووجبت.
967
أنفسكم عقاب الله بالإشراك وعبادة غير الله، أفلا تتّقون في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة؟! فذلكم المتّصف بالقدرة الخلاقة والإرادة المبدعة هو الله الخالق المربّي والمدبّر، وهو الحق الثابت بذاته الذي لا شك فيه، وهو الواحد القهار الذي لا يصلح معه مخلوق في الألوهية والرّبوبية، ومن كانت هذه صفاته هو الرّب الحقّ، أي المستوجب للعبادة والألوهية، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق. وليس فيما وراء الحقّ إلا الضّلال والباطل، ومن يتجاوز الحق الذي هو عبادة الله وحده، وقع في الضّلال.
فكيف تصرفون عن الحق إلى الضّلال، وكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال؟ ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق.
وكما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر، وحقت الرّبوبية لله والألوهية لله، أي ثبتت واستقرّت في الواقع، كذلك حقّت وثبتت كلمة الله وحكمه على الذين فسقوا، أي تمرّدوا في الكفر، وأصرّوا على الضّلال: أنهم لا يؤمنون، أي حقّ عليهم واستقرّ انتفاء الإيمان في قلوبهم، وتحقّق منهم البعد عن الإيمان الحق. وإذا لم يؤمنوا بالرغم من استقرار هذه الصفات الإلهية التي لا مجال لإنكارها، فإنهم يكونون من أصحاب النار.
والخلاصة: إن المنطق يقضي بالتّسوية بين الإقرار بوجود الله، وبين الاعتراف بوحدانية الله، ولا يعقل التفريق بينهما، ومن آمن بوجود الله، فعليه أن يؤمن بتوحيد الله، وهذا أسلوب في إثبات التوحيد من طريق العقل والفكر المجرد، لأن توحيد الألوهية والرّبوبية متلازمان.
968
إثبات البعث
إن إثبات التوحيد لله يقتضي إثبات البعث من القبور، لأن من ابتدأ الخلق، قادر على إعادة الخلق، والإعادة أهون من الابتداء، ووجود البعث أمر ضروري لإقامة العدل المطلق بعد اختبار الناس في عالم الدنيا المملوء بالمظالم والانحرافات، فيكون إيجاد عالم الآخرة ضروريا للتناصف وإحقاق الحق، ودحر الباطل، وإنجاز الوعد الإلهي الحق بتحقيق الآمال، والظفر بدار الخلود.
قال الله تعالى مقيما الدليل على وجود البعث:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
«١» «٢» [يونس: ١٠/ ٣٤- ٣٦].
هذا وصف آخر لقصور الأصنام وعجزها، وتنبيه على قدرة الله عزّ وجلّ، وبدء الخلق يراد به إنشاء الإنسان في أول مرة، وإعادة الخلق: هي البعث من القبور.
قل أيها الرسول للمشركين: من الذي بدأ خلق السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات؟ هل يستطيع أحد غير الله ذلك، سواء كان صنما أو ملكا أو كوكبا أو رسولا ونحو ذلك؟ ومن الذي يقدر أن يعيد إيجاد الخلق مرة أخرى، فيكون خلقا جديدا؟
إنه لا مجال أن يكون غير الله هو الذي يبعث من القبور، قل لهم أيها الرسول:
الله هو القادر وحده على بدء الخلق وإعادته، لأن القادر على البدء قادر على
(١) تصرفون عن طريق الرّشد.
(٢) لا يهتدي بنفسه، أصله يهتدي، فأدغم التاء بالدال، وفتحت الهاء بحركة التاء.
969
الإعادة، فهو سبحانه وتعالى الذي يفعل ذلك، ويستقل به وحده لا شريك له، لأنه ليس من الممكن للبشر بحال، لا عقلا ولا عادة أن يعيد إنسانا أو حيوانا إلى الوجود بعد الموت، وليس أدلّ على ذلك من الواقع، فإن الإنسان حريص على بقاء الأحياء، ولكنه عاجز عن إعادة ميت إلى الحياة مرة أخرى. وإذا كان لا بدّ من الاعتقاد بحصر القدرة على البعث بالله وحده، فكيف تصرفون أيها المشركون عن طريق الرشد إلى الباطل، وعن الحق وهو التوحيد إلى الضلال، وهو الإشراك وعبادة الأصنام؟! قل لهم أيها الرسول أيضا: هل يستطيع أحد من شركائكم هداية الضّال والحيران، إما بالفطرة والغريزة، وإما بالحواس من سمع وبصر ونحوهما، وإما بالعقل والتفكير، وإما بهداية كتب السماء والرسل، أو هم عاجزون عن ذلك كله؟! هذه الهداية إلى طريق الصواب، والدعوة إلى العدل هي تماما كالقدرة على الخلق والتكوين، لا يستطيعها أحد سوى الله وحده.
وبما أن المشركين يدركون تمام الإدراك أن شركاءهم لا يستطيعون شيئا من الخلق والهداية التشريعية، فلم يجدوا جوابا، فأجابهم الله: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي إن الله وحده هو الذي يهدي إلى الحق والصواب بما أوجد من الأدلة والبراهين، وبما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وبما منح الإنسان من التوصل للإيمان بطريق العقل والحواس التي هي مفاتيح المعرفة.
ومن أحق باتّباع قوله وطاعة أمره؟ أهو الذي يقدر على الهداية إلى الحق والرشاد والإيمان، أم الذي لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهو الله تعالى؟ إن الأصنام كما وصفها الله لا تستطيع هداية أحد، فكيف يصح عبادتها، وما لكم أيها المشركون كيف تحكمون بالتسوية بين الله وبين خلقه؟ وهذا تعجب شديد من حكمهم الجائر بالمساواة بين عبادة الله مباشرة، وعبادة الشركاء العاجزين عن كل شيء.
970
وكلمة أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى يراد بها الأصنام لا تستطيع أن تهتدي بنفسها إلا أن تهدى من قبل غيرها.
لقد آن الأوان إلى الاعتراف بأن أكثر المشركين لا يتّبعون في اعتقادهم بشفاعة الأصنام وعبادتها إلا مجرد ظنّ خطأ، ووهم فاسد، إن الظنّ الفاسد لا يفيد في إثبات الحق شيئا، إن الله عليم تامّ العلم بأفعالهم، فيجازيهم عليها، فمن كذب القرآن والرسول، واتّبع الآباء والأجداد من دون دليل ولا حجة، يعاقب عقابا شديدا في نار جهنم. وهذا تهديد لهم ووعيد شديد.
إثبات كون القرآن كلام الله
إن أعظم هدية دائمة الأثر من الله لعباده هي هدية القرآن وحي الله وكلامه المنزل على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، فليس هو بالحديث المفترى، وآية ذلك إعجازه نظما ومعنى، وتحدي العرب بأن يأتوا بمثله في بيانه المحكم وتشريعه المبرم. فأجدر بالبشر قاطبة أن يحتفلوا على الدوام بهذه الهدية الرّبانية، وأن يبادروا لقبول هذا التنزيل ليحققوا لأنفسهم عزّ الدنيا وسعادة الآخرة. وهذا ما وصف الله تعالى به كتابه العزيز لإثبات كونه كلام الله ومعجزة النّبي:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)
«١» [يونس: ١٠/ ٣٧- ٣٩].
(١) بيان عاقبته.
971
هذا نفي قول من قال من قريش: «إن محمدا يفتري القرآن، وينسبه إلى الله تعالى» وهو تشنيع لقولهم وإعظام للأمر، فإن القرآن الكريم هو المعجزة الباقية الخالدة، الدّالّة على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو كلام الله قطعا، وإعجازه وتحدّي العرب به دليل على ذلك.
ومعنى الآية: ما من شأن القرآن أن يختلق ويصاغ من غير الله تعالى، لأن تميّزه بأرقى درجات البلاغة والفصاحة، وإحكام تشريعه، وإخباره عن المغيبات، وإعجازه العلمي، واشتماله على المعاني الشاملة الخصبة النافعة في الدنيا والآخرة، كل ذلك برهان قاطع على أن القرآن من الله سبحانه، فهو كلامه الذي لا يشبه كلام المخلوقين في جملته وتراكيبه، ولا يقدر أحد أن يجاريه أو يعارضه.
لقد ثبت أن أبا جهل فرعون هذه الأمة قال: إن محمدا لم يكذب على بشر قط، أفيكذب على الله؟! إنه- أي القرآن- مصدّق ومؤكد ما تقدمه من الكتب الإلهية المنزلة على الرسل، كإبراهيم وموسى وعيسى وداود من الصحف والتوراة والإنجيل والزبور، وموافق لها في أصول الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر، وتقرير صالح الأعمال، وبيان فضائل الأخلاق، وهو أيضا مهيمن عليها، ومبيّن ما لها وما عليها، كما قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: ٥/ ٤٨].
ومعنى قوله سبحانه: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ أي وفي القرآن بيان الأحكام والشرائع، والحلال والحرام، والعبر والمواعظ، والآداب والأخلاق بيانا شافيا كافيا. ولا شك في ذات القرآن أبدا، وإن ارتاب مبطل فيه، فلا يلتفت إليه، إنه كلام ربّ العالمين المنزل بالوحي على نبيّه الأمين، بدليل سلامته عن الاضطراب والاختلاف.
972
ثم جاء الكلام بصيغة الاستفهام والإضراب عن الكلام السابق في قوله تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. أم هنا بمعنى الألف والاستفهام، أيقولون: اختلقه محمد؟! ومحمد بشر مثلكم، فأتوا بسورة مثل سور القرآن في الفصاحة والقوة والإحكام، واستعينوا على ذلك بمن تريدون من الإنس والجنّ إن كنتم صادقين في ادّعائكم أن القرآن من عند محمد.
والواقع: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ.. أي بل سارع هؤلاء إلى تكذيب القرآن، من قبل الإحاطة بما فيه، والتدبر لآياته، وفهم مراميه، والتعرف على تأويله وإدراك ما جاء فيه من الإخبار بالمغيبات، وكذلك أصرّوا على تكذيبه بعد معرفته والعلم بإعجازه. ومثل ذلك التكذيب بالقرآن من المشركين، كذبت الأمم السابقة بمعجزات الأنبياء قبل النظر فيها وقبل تقييمها وتدبّرها، من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن تقليدا للآباء وعنادا. فانظر أيها الرسول كيف كانت عاقبة أولئك الظالمين لأنفسهم بتكذيبهم رسلهم، وطلبهم الدنيا، وترك الآخرة، وتلك العاقبة أن الله تعالى أهلكهم ودمّر ديارهم بسبب تكذيبهم رسلهم وأنبياءهم.
موقف قريش من القرآن والنّبي
حينما صدع النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بدعوة قومه في مكة إلى الإسلام، انقسمت قريش في شأن القرآن والنّبي فريقين: فريق يصدّق بالقرآن ذاته وأنه كلام الله ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند ويكابر، وفريق لا يصدق به ويشكّ فيه لفرط الغباء والجهل، فيصّر على تكذيب النّبي، لفقده الاستعداد للإيمان به، فلا يكون هناك أمل في إصلاحه وهدايته، مما يقتضي إعطاء الفرصة للفريق الأول للإيمان بالقرآن دون التعجيل بعذاب الاستئصال. وقد حكى القرآن خبر الفريقين في قوله تعالى:
973

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]

وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
«١» [يونس: ١٠/ ٤٠- ٤٤].
هذا إخبار عن موقف مشركي مكة من القرآن والنّبي، فهم فريقان: من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ويتبع النّبي، وينتفع بما أرسل به. ومنهم من يصرّ على كفره ولا يؤمن أبدا، ويموت على ذلك، وربّك أعلم بمن يفسد في الأرض بالشرك والظلم، فلا أمل في إصلاحه، وسيعذّبه الله في الدنيا والآخرة. وهذا تهديد ووعيد.
وإن كذبك هؤلاء المشركون أيها النّبي، فتبرأ منهم ومن عملهم، وقل لهم: لي عملي: وهو الإيمان بالله وتبليغ رسالته وطاعته، وأنا مسئول عنه، وسيجازيني الله عليه. ولكم عملكم: وهو الظلم والشرك والفساد، وسيجازيكم الله عليه. أنتم بريئون مما أعمل، وأنا بريء من عملكم، فلا تؤاخذون بعملي، ولا أؤاخذ بعملكم، وأنتم مسئولون عنه. وهذه آية مناجزة لهم ومتاركة، وفي ضمنها وعيد وتهديد. والآية في معنى قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ.. [الكافرون: ١٠٩/ ١- ٦].
وأما موقف المشركين المكّيين منك أيها النّبي فهم أصناف، منهم من يستمعون إليك بآذانهم إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وإنما يسمعون دون تدبّر ولا فهم، وحينما لا يؤمنون ولا ينتفعون بسماع القرآن، كأنهم
(١) يعاين أدلّة نبوّتك الواضحة.
974
لا يسمعون، وأنت أيها الرسول لا تستطيع الإسماع النافع لقوم صموا آذانهم عن سماعك، ولا يعقلون ما يسمعون ولا يفهمون معناه، فينتفعون به، فلا تكترث بهؤلاء، لفساد العقل والدماغ، ولا سبيل لأن يعقلوا حجة ولا دليلا أبدا.
ومنهم من ينظر إليك أيها النّبي عند قراءة القرآن نظرة إعجاب، ولكنهم لا يبصرون نور الإيمان والقرآن، وهداية الدين القويم والخلق السليم، ولا تقدر على هدايتهم، لأنهم وإن كانوا مبصرين بأعينهم في الظاهر، فهم غير مبصرين بقلوبهم في الحقيقة، كما قال تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحجّ: ٢٢/ ٤٦].
وهذان الفريقان لا تستطيع يا محمد هدايتهم، لفقدهم الاستعداد للفهم والانتفاع بنور الهداية لأن فائدة السمع والبصر هي الانتفاع، فإذا لم ينتفعوا فكأنهم عطلوا حواسهم، وفقدوا حاستي السمع والبصر، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) [ق: ٥٠/ ٣٧].
ثم ختمت هذه الآيات بخاتمة تعدّ مبدءا عظيما في الحساب والمسؤولية، وهي إقرار العدل ومنع الظلم والترفع عنه، فإن الله تعالى لا يجور أبدا، بسلب الحواس والعقول التي تدرك بها الأشياء، ويهتدى بها إلى الحق والصواب، ولكن الناس هم الظالمون لأنفسهم وحدها دون غيرها، لأنهم يعرّضونها لعقاب الكفر والتكذيب والمعاصي، بتعطيل نعمة العقل، والتّنكر لهداية الدين. وهذا وعيد واضح للمكذبين، ويكون عذابهم يوم القيامة حقّا وعدلا، لا ظلم فيه.
975
تهديد المشركين على تكذيبهم
توالت تهديدات القرآن الكريم للمشركين على تكذيبهم برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبكل ما جاء فيها من وعد ووعيد، وتنوعت أساليب التهديد، فمرة ينذرهم القرآن بزوال الدنيا السريع، ومرة يبين لهم أن تعذيبهم سيكون في الدنيا وفي الآخرة، وأحيانا يحذّرهم بالقضاء الحاسم بينهم وبين رسولهم، ويوضح أن إنزال العذاب مقصور على إرادة الله ومشيئته، وهذا ما أوضحته الآيات التالية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)
«١» «٢» [يونس: ١٠/ ٤٥- ٤٧].
هذه ألوان من تهديدات مشركي مكة وأمثالهم بالعذاب، والتهديد الأول يشتمل على وعيد بالجزاء في الآخرة والحشر وخزيهم فيه وتلاوم بعضهم لبعض، وأن قيام الساعة والحشر قريب، وزوال الدنيا سريع.
والمعنى: اذكر لهم أيها الرسول وأنذرهم يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت في موقف الحساب والجزاء، فيقدّرون أنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة، وكأنهم ما لبثوا في الحياة الدنيوية إلا مقدار ساعة بالنسبة لعالم الآخرة. إنهم أضاعوا الدنيا والعمر في اللهو والفساد، ولم يعملوا لما ينفعهم في الآخرة. والساعة التي قضوها في الدنيا هي مقدار تعارفهم فيما بينهم، ثم تنقطع المعرفة بينهم والأسباب.
لذا أعلن الله تعالى خسارة المكذّبين بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي
(١) الحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد.
(٢) بالعدل يوم الجزاء.
976
إن هؤلاء الكفرة المكذّبين بالبعث في الآخرة، قد خسروا ثواب الجنة خسارة كبري، حين بدّلوا الإيمان بالكفر، ولم يكونوا مهتدين لأوجه الربح والنفع بعمل الصالحات، فما أخسرهم. وهذا تعجّب شديد من أفعالهم.
والتهديد الثاني أن بعض عذاب المشركين المكذّبين برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم سيكون في الدنيا وبعضه سيكون في الآخرة، فقل لهم أيها الرسول لمن يستعجل العذاب استهزاء واستبعادا: إما أن ننتقم منهم حال حياتك لتقرّ عينك كما حدث في معركة بدر وحنين وغيرهما، وإما أن نعذبهم بعد رجوعهم إلينا في الآخرة وبعد وفاتك، فنطلعك على أفعالهم، ونجازيهم عن علم وشهادة حق، فإن الله شاهد على ما يفعلون، كما جاء في آية أخرى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) [الرّعد: ١٣/ ٤٠]. ويدلّ هذا على أن الله تعالى يري رسوله ألوانا من ذلّ الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاة النّبي، وفي عالم الآخرة.
فتكون الآية وعيدا بالرجوع إلى الله تعالى، فإن أريناك أيها النّبي عقوبتهم، أو لم نركها، فهم على كل حال راجعون إلى الحساب والعذاب في الآخرة، والله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم.
والتهديد الثالث إخبار من الله تعالى بالقضاء الفصل في مصير المشركين يوم القيامة، فإن لكل أمة رسولا، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم، صيّر قوم للجنّة وقوم للنّار، فذلك القضاء بينهم بالقسط أي بالعدل، وهم لا يظلمون في قضائه شيئا، ولا عذاب بغير ذنب مرتكب، ولا مؤاخذة بغير حجة، من آمن بالرسول فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذّب، كما جاء في آية أخرى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٧/ ١٥].
977
هذه التهديدات الثلاثة كفيلة بردع أهل الغواية والشّر والضّلالة والكفر، فإن العاقل يدرك المخاطر، ويتجنّب المآخذ والسّيئات، ويرسم لنفسه طريق النّجاة. ويتفاقم الخطر حين يعلم الإنسان أن العذاب لمن كفر بالله شديد مضاعف في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فذلّ وهزيمة وخزي وقلق، وأما في الآخرة فنيران ملتهبة تحرق الأجساد، ويتجدد العذاب على الدوام من غير انقطاع، لأن الكافرين مخلدون في النار.
استعجال المشركين العذاب الدنيوي
ليس هناك أقبح جرما ولا أشنع موقفا من التّحدي والعناد والتّكبر، وهذا الأسلوب من المعارضة كان منهج المشركين في مقاومة دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فاستعجلوا نزول العذاب الذي هددهم به، استهزاء وإصرارا على الشرك والوثنية، فأمهلهم القرآن وناقش مطالبهم وأنذرهم بقرب العذاب والعقاب. قال الله تعالى واصفا موقف مشركي مكّة:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
«١» «٢» «٣» [يونس: ١٠/ ٤٨- ٥١].
لقد طالب مشركو قريش تحديد وقت العذاب الذي هددهم به النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا:
متى يقع هذا الوعيد، إن كنتم صادقين في تهديدكم وقولكم؟ أي إن هذا الذي توعدنا به حدّد لنا فيه وقته، لنعلم الصدق في ذلك من الكذب.
(١) أخبروني.
(٢) ليلا.
(٣) هل الآن تؤمنون بوقوع العذاب؟
978
فأجابهم الله تعالى ردّا للحجة: قل لهم يا محمد، إني بشر، لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا من دون الله، ولا أنا إلا في قبضة سلطانه وفي مظلة الحاجة إلى لطفه وتوجيهه، إلا ما شاء الله أن يقدرني ويخبرني، فإذا كنت هكذا، فأحرى ألا أعرف غيبه، ولا أتعاطى شيئا من أمره، ولكن لكل أمة أجل، انفرد الله تبارك وتعالى بعلم حدّه ووقّته، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة، لم يتأخّروا ساعة، ولا أمكنهم التقديم عن حدّ الله عزّ وجلّ. إن تعيين وقت الوعيد وإنزال العذاب مرجعه إلى الله تعالى وحده. وأما الرسول فمهمته مقصورة على تبليغ ما جاء من عند الله سبحانه. وهذا يبين الحدّ الفاصل بين سلطان الله ونطاق معرفة البشر وخبرتهم.
ثم أجابهم الله تعالى بجواب آخر: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي قل لهم أيها الرّسول: أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه، إن أتاكم عذابه ليلا وقت مبيتكم، أو نهارا وقت شغلكم، فماذا تستعجلون منه، وأنتم لا قبل لكم به؟ أي عذاب وقع فهو شديد، وكل ما تطلبون تعجيله هو جهل وحماقة.
أتنظرون مجيء هذا العذاب لتؤمنوا بالله ربّكم؟ فإذا وقع بالفعل آمنتم به، في وقت لا ينفع الإيمان، ويقال لكم حينئذ توبيخا: آلآن آمنتم بالله والرّسول اضطرارا وقسرا، مع أنكم كنتم قبل ذلك تستعجلون العذاب على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب والاستكبار؟! والمراد أنه إذا وقع العذاب وآمنتم بالله، فذلك غير نافعكم.
ثم يجيء الوعيد الأعظم بالخلود لأهل الظلم الأخصّ وهو ظلم الكفر، لا ظلم المعصية. فيقال لأولئك الكفار المعاندين الظالمين أنفسهم، المكذبين الرسول ووعيده:
تذوقوا وتجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا، لا تجزون إلا ما كنتم تكسبون وتعملون
979
باختياركم من الكفر والمعاصي. وقوله سبحانه: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ توبيخ وبيان لقانون الجزاء: وهو أن الجزاء في الآخرة، إنما يكون على تكسب العبد، وإقدامه على الفعل بحرية واختيار وجرأة على مخالفة أوامر الله. وذكر هذه العلة:
بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ بعد ذكر العذاب: دليل على أن جانب الرّحمة الإلهية راجح غالبا، وجانب العذاب مرجوح مغلوب. لكن الرحمة الإلهية منوطة بإرادة الله، أما قانون العدل فهو أن الجزاء من جنس العمل، ويوجب العمل، لأن الجزاء واجب بحكم الوعد المحض، ولله سبحانه المشيئة المطلقة، يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد.
تحقّق المشركين من وقوع العذاب الأخروي
استبطأ المشركون لجهلهم وحماقتهم وقوع العذاب في الدنيا، فأخرسهم القرآن، وأبان لهم أن توقيت العذاب بأمر الله وحكمته، ثم تشكّكوا في وقوع عذاب الآخرة، فبدؤوا يتساءلون عن مدى صحته ومصداقية الوعيد به لأنهم قوم ينكرون البعث والآخرة جملة، ويعتقدون بأن الموت في الدنيا نهاية دائمة، لا عودة بعدها إلى الحياة مرة أخرى. وهذا ما صوره القرآن الكريم تصويرا دقيقا وبيانا صريحا بقوله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [يونس: ١٠/ ٥٣- ٥٦].
(١) يستخبرونك.
(٢) نعم وربي.
(٣) بفائتين من العذاب بالهرب.
(٤) أخفوا الغم والحسرة. [.....]
980
إن آثار الشّرك خطيرة، ومزالقه كثيرة، ومن أخطرها إنكار عالم الآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، وحساب وجنّة ونار، لذا بادر المشركون إلى التشكيك فيما أخبر به القرآن من وجود الآخرة قطعا. فطلبوا الأخبار، ولجّوا في الجواب، كما تصور الآية التي مفادها: ويستخبرونك أيها الرسول عن وقوع عذاب الخلد في الآخرة، أحقّ أنه سيقع على جرائم الدنيا، أم أنه مجرد تخويف وترهيب؟ فقل لهم أيها الرسول:
نعم إنه والله واقع، إنه لحقّ ثابت ماله من دافع، والوعيد صدق قائم، وما أنتم بمعجزين، أي بفائتين العذاب، أو متخلّصين منه، وليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم، فإن قدرة الله شاملة وافية بتحقيق أي شيء ممكن.
لكن إذا جاءت القيامة فلا أمل بالفرار منها، وإذا قامت القيامة يودّ الكافر الظالم أن يفتدي نفسه من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفى الكفار الندامة وهي: ما يعانونه في أنفسهم من الألم والحسرة على أفعالهم الشنيعة وأعمالهم الضّارة، لمّا عاينوا العذاب الشديد، فصاروا مبهوتين متحيرين، علما بأنه لا ظلم في الحساب يوم القيامة، فإن الله تعالى يحكم بين الظالمين والمظلومين بالعدل لأن الكفار وإن اشتركوا في العذاب، فإنه لا بد من أن يقضي الله تعالى بينهم بالحق، رفعا لما ظلم به بعضهم بعضا في الدنيا، فيكون في القضاء تخفيف عذاب بعضهم، وتثقيل عذاب الباقين. وهذا إخبار للكفار في سياق إخبارهم بأن وعد الله بالبعث ووعيده حق.
وأتبع الله ذلك الإخبار أو الاعلام بأن الملك كله لله، وأنه المعاقب، فإن الله مالك السماوات والأرض، وكل الأشياء في ملكه وفي سلطانه، وأكّد سبحانه أن وعده حقّ كائن لا محالة، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة والمعاد، لغفلتهم عنها، وعدم إيمانهم بالإله القادر الحكيم، وتلك حقيقة
981
أبانها الله بوضوح، ليعلموا علم اليقين بأن الملك المطلق لله، وأن كل ما سواه مملوك له.
ومن أدلّ الأدلة على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء والثواب والعقاب: أنه تعالى هو المحيي والمميت، وإليه مرجع الخلائق حين يحييهم بعد موتهم، فيحشرهم للحساب والجزاء على أعمالهم، يحيي من النطفة، ويميت بالأجل، ثم يجعل المرجع إليه بالحشر يوم القيامة. قال ابن عطية: وفي قوة هذه الآيات ما يستدعي الإيمان وإجابة دعوة الله عزّ وجلّ.
وتتجلى القوة والرّهبة في عالم الحساب في أمور ثلاثة:
الأمر الأول- ذلك الصراع العنيف في داخل نفوس الكفار وإظهار الندامة على ما فاتهم من الفوز والخلاص من العذاب، ولهذا يقولون: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) [المؤمنون: ٢٣/ ١٠٦].
الأمر الثاني- معاينة العذاب الذي لا يوجد أشد منه، ولا يتصور الإنسان في الدنيا مدى إيلامه وقسوته، وتنوعه ورهبته.
الأمر الثالث- اليأس من النجاة والشفاعة، لأن الملك المطلق والسلطان النافذ لله تعالى، فهو وحده القادر على ما يريد، العليم بما يستحقه كل إنسان من العقاب العادل. قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) [الكهف: ١٨/ ٤٩].
982
مقاصد القرآن وشرائعه
أراد القرآن المجيد بالناس خيرا، فزوّدهم بما فيه النفع والسعادة، وشفى نفوسهم من أمراض القلوب، وهداهم إلى الحق، وأبعدهم عن كل أنواع الضلال والانحراف، وشرع لهم الشرائع بفضل من الله ورحمة منه، فكان جديرا بالناس جميعا الإيمان به والتزام أحكامه والبعد عن أسباب الشقاوة والعذاب، وعدم التورّط بالتحليل والتحريم بمجرد الهوى والشهوة، من غير ميزان العقل والحكمة كشأن أهل الجاهلية، قال الله تعالى مبيّنا مقاصد القرآن وأسباب تشريعاته:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
«١» «٢» [يونس: ١٠/ ٥٧- ٦٠].
جمعت هذه الآيات بين خطاب جميع العالم، وبين توبيخ عرب الجاهلية على التحليل والتحريم بسبب الأهواء والمزاعم. أما الخطاب العام لجميع البشر فمضمونه: يا أيها الناس، قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ التي يراد بها إصلاح الأخلاق والأعمال، والزّجر عن الفواحش، وشفاء الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، والهداية إلى الحق واليقين والطريق القويم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وسمي القرآن الكريم موعظة لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف، ويزجر، ويرقّق النفوس، ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز. وهي موعظة مِنْ رَبِّكُمْ لم يختلقها محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا غيره، بل هي من عند الله عزّ وجلّ.
(١) أخبروني.
(٢) تكذّبون.
983
وهذا الخطاب العام اشتمل على بيان مقاصد أربعة للقرآن الكريم وهي:
١- كونه موعظة حسنة من عند الله تعالى، يجمع بين الترغيب والترهيب، وبين الحثّ على فعل الحسن وترك القبيح.
٢- وكونه شفاء لما في القلوب من الشبهات والشكوك، والنفاق والكفر، وسوء الاعتقاد وشراسة الخلق، والتّخلص من الجهل والعتو عن النظر في آيات الله تعالى.
٣- كونه هاديا إلى الحق الأبلج واليقين الساطع والصراط المستقيم المحقق لسعادة الدنيا والآخرة.
٤- إن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين خاصة، ينجيهم من ظلمات الضلال، إلى نور الإيمان، ويبعدهم عن النّيران، ويرقى بهم إلى درجات الجنان.
قل أيها الرسول للمؤمنين: ليفرحوا بفضل الله ورحمته بما جاءهم من الهدى ودين الحقّ، فإنه أولى ما يفرحون به. والفضل كما قال ابن عطية: هو هداية الله تعالى إلى دينه، والتوفيق إلى اتّباع شريعته، والرّحمة: هي عفوه وسكنى جنّته التي جعلها جزاء على الإيمان والإسلام. والفرح بهذا الفضل وبهذه الرحمة هو أجدى وأنفع من كل ما يجمعه الناس من الأموال وسائر خيرات الدنيا لأنه يؤدي لسعادة الدارين.
ثم أوضح الله تعالى بخطابه الخاص بعرب الجاهلية: أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حقّ الله تعالى، وليس للناس الحق في التشريع، فما قام به العرب من تحريم البحائر والسّوائب والوصايل من المواشي وغير ذلك مجرد اختلاق وكذب منهم، ولم يأذن الله به. وهذا توبيخ شديد على إعطاء الجاهلين أنفسهم حقّ التّحليل والتّحريم، فمن أحلّ برأيه أو حرّم بمجرد هواه، فإنه مفتر على الله، ومتجاوز حدوده، كما جاء في آية أخرى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النّحل: ١٦/ ١١٦].
984
وأي شيء ذلك الظّن الصادر من المفترين على الله الكذب فيما يصنع بهم من الجزاء يوم القيامة؟! أيظنّون أنهم يتركون بغير عقاب على جريمة الافتراء والكذب على الله؟ إن ظنّهم في غاية الرّداءة بحسب سوء أفعالهم. وهذا وعيد عظيم مقتضاه التّهكم وتأكيد العقاب.
إن الله تعالى صاحب الفضل العميم على الناس، حيث أنعم عليهم بنعمة العقل، ورحمهم بالوحي، وأبان لهم الحلال والحرام، وشرائع الدين، ورزقهم من الطّيبات، ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ولا ذلك الفضل، فاستحقّوا العذاب، والعتاب، وإهمالهم في الآخرة.
شمول العلم الإلهي وجزاء الأولياء
يذكّرنا الله تعالى في مناسبات مختلفة أن علمه شامل كل شيء في السماوات والأرض، ليحملنا على الطاعة والشكر، والعبادة والاستقامة، والبعد عن المعصية، لأن العلم الإلهي بالأشياء، يسّر به الطائعون، ويحذره المذنبون. وأهل الطاعة وأولياء الله مشمولون بالرّعاية الإلهية وبالإفضال الرّبانيّة، وليس هناك أعظم من الفوز بالنّجاة من العقاب في عالم الآخرة، وصف الله تعالى إحاطة علمه وتبشيره أولياءه بهذه الآيات:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) في أمر معتنى به.
(٢) أي تأخذون وتنهضون بجدّ.
(٣) أي لا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه.
(٤) أي وزن نملة أو أصغر.
985
[يونس: ١٠/ ٦١- ٦٤].
القصد من الآية تبيان إحاطة علم الله بكل شيء، والإخبار بأنه يعلم جميع أحوال الناس، ومعنى اللفظ: وما تكون يا محمد وغيرك في شأن من جميع الشؤون، وأمر من الأمور الخاصة والعامة، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك، لنشر دعوة الله في الأرض، إلا ونحن شهود عليكم، حين تفيضون فيه، أي تقومون فيه بجدّ ونشاط. ولا يغيب عن علم الله شيء حتى يخفى عليه، ولو كان مثقال ذرة، أي وزن نملة، أو هباء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر كالعرش، إلا في كتاب مبين، أي إلا ومعلوم له، ومدون في اللوح المحفوظ، الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها. وقوله سبحانه: مِثْقالِ ذَرَّةٍ جعله الله مثالا، إذ لا يعرف في الحيوان المتغذّي المتناسل المشهور النوع والموضع أصغر منه.
وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) [الأنعام: ٦/ ٥٩].
وبعد أن أعلم الله عباده بإحاطة علمه بجميع الأشياء والأعمال، ليبعثهم على الشكر والعبادة، ذكر حال الشاكرين المتّقين الذين حسن جزاؤهم في الآخرة، وهم أولياء الله، أي أحبّاؤه وأصفياؤه، وهم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة، فكل من آمن بالله واتّقى ربّه، فهو داخل في أولياء الله. وهؤلاء الأولياء المقرّبون إلى الله لا خوف عليهم في الدنيا من مكروه يتوقع، ولا حزن عليهم في الآخرة من مخاوف القيامة، فهم لا يخافون عذابا ولا عقابا ولا يحزنون لذلك،
روى البزار
986
وغيره عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله».
ولهم البشارة في الحياة الدنيا بالنصر والتّمكن في الأرض، ما داموا على شرع الله ودينه، يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، كما قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النّور: ٢٤/ ٥٥].
ولهم البشارة أيضا في الحياة الأخروية بحسن الثواب والنعيم المقيم في الجنة، كما قال الله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) [التّوبة: ٩/ ٢١] تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لا تغيير لأقواله، ولا خلف لمواعيده، ولا ردّ في أمره، كقوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٥٠/ ٢٩] ومن كلماته تعالى: تبشير المؤمنين بالجنّة، وذلك المذكور وهو البشارة للمؤمنين المتقين أولياء الله في الدّارين بالسعادة: هو الفوز العظيم الذي لا فوز غيره بالنعيم المبشر به لأنه ثمرة الإيمان والعمل الصالح.
إن هاتين البشارتين للأولياء العاملين بأوامر الله، المجتنبين نواهيه لهما أعظم البشائر وأجلّها وأكرمها، فما أكرم المبشّر وأحبّه عند ربّه، وما أسعد المبشّرين، نسأل الله العظيم أن يجعلنا في زمرتهم.
العزّة لله جميعا
لقد أيّد الله نبيّه تأييدا مطلقا، وسرّى عنه في أوقات الشدة والمحن، وأخبره بالسلامة، وبشّره بالغلبة على المشركين المغترين بالقوة والمال، وأعلمه بأن العزّة لله جميعا، فهم لا يقدرون لك أيها النّبي على شيء، ولا يؤذونك إلا بما شاء الله، وهو
987
القادر على عقابهم وإيقاع العذاب الشديد بهم. وفي هذا تقوية لعزيمة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، لكي يظلّ قائما بدعوته، ماضيا في تبليغ رسالته، غير آبه بما يلقى من المصاعب، ولا خائف من أحد. وهذه المعاني تتمثل في الآيات التالية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)
«٢» [يونس: ١٠/ ٦٥- ٦٧].
لم يترك المشركون في مكة وسيلة لإيذاء النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ارتكبوها، فحينما بدّد القرآن شبهاتهم الفكرية وردّ عليها، لجؤوا إلى طريق آخر، وهو التّهديد والتّخويف بأنهم أصحاب السلطة والمال، والقوة والنفوذ، فلا مجال للضعفاء والفقراء بينهم، ولا سبيل لمحاولة بسط النفوذ عليهم من خلال أي شيء في دنيا العرب، لا بدعوة إلى الدين الجديد، ولا بغير ذلك من وسائل الهيمنة كما يتصورون.
فجاءت آيات الوحي القرآني تواسي محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وتشدّ عزيمته، ومعناها: لا يهمّك ولا يحزنك أيها الرسول قول المشركين أبدا: لست مرسلا، وغير ذلك من المعارضة والإصرار على الشّرك والتّكذيب لرسالتك، والتهديد بأنهم أصحاب القوة والمال، واستعن بالله عليهم، وتوكّل عليه، فإن العزّة، أي الغلبة والقوة والقهر لله تعالى جميعا، جميعها له، فهو مصدرها ومانحها لمن يشاء من عباده، كما جاء في آية أخرى:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: ٦٣/ ٨].
والله سبحانه هو السميع لجميع ما يقولون، والعليم بما في نفوسهم من ذلك، وفي ضمن هذه الصفات تهديد.
(١) إن القهر والغلبة لله تعالى.
(٢) أي يحسدون ويخمنون ويكذبون فيما ينسبونه إلى الله تعالى.
988
ودليل تفرد الله بالعزة أنه مالك السماوات والأرض وما بينهما ومن فيهما، لا ملك لأحد فيهما سواه، فكان هو صاحب السلطان المطلق والتّصرف الشامل، ولا يتّبع الذين أشركوا الشّركاء لله فيما زعموا إلا بمحض الظّن الفاسد، أي الوهم الخطأ، من غير أي دليل، ولا حقيقة واقعية، فليس لله شريك أبدا، ولا تصلح الأصنام وغيرها آلهة لأنها مملوكة لله، ولا قدرة لها على شيء من أمور العباد، سواء النفع أو الضّر، بل لا تستطيع دفع الضرّ عن نفسها، ولا جلب الخير أو النفع لذاتها.
ما يتّبع هؤلاء المشركون فيما زعموا إلا الأوهام والتّخرصات أي التّخمينات وألوان الكذب فيما ينسبون إلى الله. وإذا لم تكن معبودات الوثنيين آلهة، فلا تصلح وسطاء أو شفعاء لعابديها عند الله لأن جميع من في السماوات والأرض مملوك لله تعالى، والمملوك لا شأن له أمام المالك، قال الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) [مريم: ١٩/ ٩٣- ٩٤].
ودليل آخر على تفرّد الله بالعزّة التّامة، وانعدام أي دور للشّركاء أنّه تعالى خالق الليل والنّهار، وجاعل الليل للاستراحة والسّكن والاطمئنان فيه بعد عناء النهار والاشتغال فيه، وجاعل النّهار مضيئا للمعاش والعمل والسّفر وقضاء الحوائج والمصالح، إن في ذلك (وهو كون الليل مظلما يسكن فيه، والنّهار مبصرا يتصرّف فيه) لدلالات وعلامات على قدرة الله وعزّته وكونه الإله المعبود بحق، لقوم يسمعون هذه الأدلة، ويعون ما فيها ويتدبّرون ما يسمعون، ويستدلّون على عظمة خالقها ومقدّرها ومسيّرها.
والحاصل: ان للعقل البشري في القرن العشرين بعد نضجه واكتماله أن يدرك إدراكا صحيحا أن الله وحده هو الإله المعبود، وكل من سواه من المخلوقات ليس لها
989
إطلاقا مقوّمات الألوهيّة والرّبوبية، وبرهان ذلك أنها مخلوقة وعاجزة عن خلق غيرها ورفدها بالرّزق وإمدادها بمقومات الحياة. أما توارث المعتقدات فيحتاج لإعادة نظر وتأمّل صحيح وفهم لطبيعة ذات الإله، ولا يعذر الإنسان في خطئه الاعتقادي.
إبطال نسبة الولد لله تعالى
إن من أعظم المفتريات وأبطل الباطلات نسبة الولد لله تعالى، سواء كان ذلك من المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله، أو من الزاعمين أن بعض البشر المقرّبين أو الرّسل الكرام أبناء الله تعالى. فليس لله حاجة على الإطلاق لاتّخاذ الولد والصاحبة والشّريك لأنه المتعالي عن صفات البشر، ولأن الله غني، والمخلوقون عاجزون، والعاجز يحتاج لمساعدة غيره، ومن استغنى عن غيره، كان غضاضة ومنقصة أن تنسب إليه شيئا من صفات النّقص. لكل هذا قال الله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
«١» [يونس: ١٠/ ٦٨- ٧٠].
إن القرآن العظيم أثبت عظمة الله تعالى بأدلة مختلفة، منها خلق السماوات والأرض ومن فيهما، ومنها أفعاله المبينة لعظمته كخلق الليل والنهار وإيجاد تعاقب بينهما. وما دامت العظمة المطلقة ثابتة لله سبحانه فلا بدّ من الإنكار على المشركين
(١) أي حجة وبرهان.
990
وغيرهم الذين ادّعوا أن لله تعالى ولدا. وموضوع الآيات هو هذا الإنكار الشديد على نسبة الولد لله سبحانه. ومعناها: زعم بعض المشركين أن الملائكة بنات الله، وزعم غيرهم أن رسولا نبيّا أو وليّا مقرّبا صالحا هو ابن الله. تنزه الله وتقدّس عن الولد والشريك، لأنه هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه، ولا حاجة له للولد.
وكيف يكون لله ولد مما خلق؟ وكل شيء مملوك له وعبد له، وهو خالق السماوات والأرض ومن فيهما، ولا شبيه له ولا نظير، ولا يحتاج لأحد من خلقه، ولا يشاركه في ملكه وسلطانه وتصرّفه وتدبيره أحد، فكيف يتخذ ولدا مخلوقا موهوبا له، محتاجا إليه في كل شيء مادّي كالرزق والمعيشة، أو معنوي كالإعانة والنّصرة؟! والولد جزء مما هو غني عنه، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) [فاطر: ٣٥/ ١٥].
وليس عندكم أيها المشركون أي سلطان أو دليل على ادّعائكم وجود ولد لله، وما تقولونه محض الكذب والافتراء والبهتان، أتقولون على الله قولا لا حقيقة له، وتنسبون إليه تعالى ما لا يصح عقلا وواقعا نسبة الولد إليه؟! وقوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ استفهام يراد به التوبيخ والتقريع، والتّهديد الشّديد.
ثم توعّد الله تعالى الكاذبين عليه المفترين الزّاعمين أن لله ولدا بأنهم قوم خاسرون، لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فيستدرجهم ربّهم ويمتّعهم قليلا، وأما في الآخرة فيضطرّهم إلى عذاب غليظ شديد، فهم لا يظفرون ببغية، ولا يبقون في نعمة.
وهذا ما قررته الآية هنا مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أي لهم تمتع في الدنيا قليل ولمدة قصيرة، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي ثم بعد الموت يرجعون إلى ربّهم بالبعث يوم
991
القيامة، وما فيه من أهوال المحشر والحساب والعقاب. ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي ثم يلقون الشقاء المؤيّد، ويعذّبون في نار جهنّم العذاب المؤلم الموجع الشديد الألم، بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما نسبوه إليه زورا وبهتانا. وهذا توعّد بحقّ.
وفي الآية دليل واضح على تعرّض الكافرين للخسارة المحققة، فإن ما يتوهّمون أنه نجاح في الدنيا بالحصول على المنافع المادّية والمعنوية، والثروة والجاه، لا قيمة ولا وزن له أصلا في مقابلة ما فاتهم في الآخرة من ثواب عظيم ونعيم مقيم في جنان الخلد، فإن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة. وهذا يشعرنا بأن وجود الثروة أو المال والجاه عند بعض الجاحدين الكافرين لا يدلّ على حسن الحال، أو ارتقاب النّجاة والسّعادة في عالم الآخرة.
قصة نوح عليه السّلام مع قومه
ليس هناك أناس صبروا على إيذاء أقوامهم، وجاهدوا في سبيل نشر دعوتهم، مثل الرّسل والأنبياء عليهم السّلام، ومن أسبقهم نوح عليه السّلام أبو البشر الثاني، وأول الرّسل أولي العزم، دعا قومه إلى توحيد الإله من غير أجر ولا مقابل، فكذّبوه وآذوه، فأنجاه الله ومن آمن معه، وأغرق المكذّبين بالطّوفان. وهذا ما قصد القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) المقام: وقوف الرجل لكلام أو لخطبة أو نحوه. والمقام: إقامته ساكنا في موضع أو بلد.
(٢) التّذكير: الوعظ والزّجر.
(٣) اعزموا وصمموا.
(٤) مبهما، والغمّة: أي الخفي المشكل.
992
«١» «٢» «٣» [يونس: ١٠/ ٧١- ٧٣].
ذكر الله تعالى في قرآنه مجموعة من قصص الأنبياء، مواساة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ليتأسى بهم، ويأنس بسيرتهم، فتهون عليه الشدائد والمكائد، ويتّعظ مشركو مكة بعاقبة المكذّبين رسلهم قبلهم.
وتتعدد أساليب بيان القصة بحسب المناسبات وما يقتضيه المقام، وهذه الآيات وصف سريع لقصة نوح عليه السّلام مع قومه، معناها: أخبر أيها الرسول كفار مكة الذين يكذّبونك بخبر قوم نوح الذي كذّبوه، كيف أهلكهم الله بالغرق، فيعاملون بمثل ما عومل به من تقدّمهم.
اذكر لهم حين قال نوح لقومه: يا قوم إن كان قد شقّ أو عظم عليكم قيامي بوعظكم من كلام ونحوه، وتذكيري إياكم بالوعظ والزجر بالأدلة والبراهين الدّالة على وحدانية الله وعبادته، فإني توكلت على الله وفوّضت أمري إليه ووثقت به، فلا أبالي بعدئذ بما أوذيت، ولا أكفّ عن دعوتي ورسالتي، فاعزموا على ما تريدون من أمر تفعلونه بي، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله من الأصنام والأوثان.
ولا تجعلوا أمركم الذي تعتزمونه خفيّا مشكلا بل أظهروه لي، وتبصروا فيه، ثم نفّذوا ذلك الأمر بالفعل، ولا تؤخّروني ساعة واحدة عن تنفيذ هذا الحكم المقضي، فإني لا أبالي بكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء، والله عاصمي وحامي ومسلّمي من أذاكم.
(١) اقضوا: أدّوا إلي. [.....]
(٢) لا تمهلوني.
(٣) يخلفون الذين أغرقوا.
993
وهذا غاية الثقة بالله والاعتماد عليه، والاستهانة والاستخفاف بمن دونه، فعلى المؤمن أن يعتصم بالله ويثق بوعده، ويعتمد على ربّه، فإن العاقبة في النهاية له.
فإن أعرضتم عن تذكيري، وكذبتم، ولم تؤمنوا برسالتي، ولم تطيعوني فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وعبادته، فإني لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا من أجر أو جزاء، إن ثواب عملي وجزائي على الله ربّي الذي أرسلني إليكم، وأمرني أن أكون من المسلمين، أي المنقادين الطائعين الممتثلين لما أمرت به من الإسلام والخضوع لله عزّ وجلّ. والإسلام بالمعنى العام وهو الانقياد لله وطاعته والالتزام بالدين الحنيف وهو توحيد الله وإطاعته والإعداد للقائه، هو مضمون رسالات الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم.
ثم أخبر الله عن مصير قوم نوح المكذبين، وفي ضمن ذلك الإخبار توعّد للكفار بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وضرب المثال لهم، فحالكم من التكذيب تشبه حال الأقدمين بالنقمة والتعذيب. لقد أصرّوا على تكذيب نوح عليه السّلام، فنجّاه الله هو والمؤمنين به، بحملهم في السفينة التي صنعها بأمر الله، وجعل الله النّاجين مع نوح خلائف أولئك الهالكين في عمارة الأرض وسكناها من بعدهم، وأغرق الله بالطّوفان الذين كذّبوا نوحا، فانظر أيها الرّسول محمد كيف أنجينا المؤمنين، وأهلكنا المكذّبين المنذرين الذين أنذرهم رسولهم بالعذاب قبل وقوعه، فلم يرتدعوا، وأصرّوا على تكذيبه.
وهذه هي العاقبة الوخيمة لكل المصرّين على تكذيب الأنبياء، وهذه هي العاقبة الحميدة للمؤمنين المصدّقين بالله ربّا وبالإسلام دينا وشرعة ومنهاجا.
994
قصة موسى عليه السّلام مع قومه
- ١- الحوار بين موسى وفرعون
استمرّ تكذيب الأنبياء بين الأمم من بعد نوح عليه السّلام، فمنع الله عنهم الخير والإيمان، ومن أمثلة ذلك قصة موسى مع فرعون وقومه، وفيها يشتدّ الحوار بين رسول الحق موسى، وبين زعيم الباطل فرعون، فموسى عليه السّلام يعلو صوته بالدعوة إلى توحيد الله وإبطال الوهية من دونه، وفرعون يدافع عن عرشه وسلطانه وادّعاء ألوهيته، لتظلّ له الهيمنة، ويكون الهدف من إيراد القصة في هذه الآيات ضرب المثل لحاضري محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومضمونه: كما حلّ بهؤلاء يحلّ بكم معشر قريش.
وهذه آيات تصوّر صولة الحق مع موسى وهزيمة الباطل مع فرعون، قال الله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٤ الى ٧٨]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)
«١» «٢» «٣» «٤» [يونس: ١٠/ ٧٤- ٧٨].
هذا موكب النور الإلهي، بعث الله من بعد نوح عليه السّلام رسلا إلى أقوامهم، مثل هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السّلام بالمعجزات الدّالة على صدقهم، والبراهين الواضحة على صدق نبوّتهم ورسالتهم، فلم تؤمن تلك الأقوام
(١) أي بعد نوح عليه السلام.
(٢) البيّنات: المعجزات والبراهين الواضحة.
(٣) نختم.
(٤) لتصرفنا.
995
بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم بالوحي والرسالة الإلهية، كما كذّب المتقدمون من قبلهم، ممن كانوا على شاكلتهم في الكفر كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي هذا فعلنا بهؤلاء الذين تجاوزوا طورهم، واجترحوا ما لا يجوز لهم، كما فعلنا بأمثالهم، ختمنا على قلوب المعاندين، فلم يعد الخير نافذا إليها، ولا يتنظر إيمانهم حتى يروا العذاب الأليم. وهذا إنذار شديد لمشركي العرب بأنهم يستحقون عذابا مثل عذاب الأمم السابقة إذا استمروا في تكذيبهم الرّسل ومعارضة دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم بعث الله تعالى من بعد أولئك الرّسل موسى وأخاه هارون عليهما السّلام إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه وأتباعهم، بعثهما الله بالآيات البيّنات الدّالة على صدقهما كالعصا واليد، فاستكبر فرعون وأتباعه عن قبول الحق والانقياد له، وعن الإيمان بموسى وهارون، وكانوا قوما مجرمين، أي معتادي الاجرام كفارا ذوي آثام عظام، والغين في الجريمة، ممعنين في الكفر والضلال.
فلما جاءهم موسى عليه السّلام بدليل الحق على الرّبوبية والألوهية لله تعالى، قالوا عنادا وعتوّا: إن هذا لسحر واضح، أي إن عصا موسى التي تنقلب حية، ويده التي تضيء كالشمس هما في زعم فرعون وملئه سحر بيّن.
فأجابهم موسى منكرا عليهم وموبّخا لهم: أتقولون للحق الواضح البعيد عن السحر الباطل: إنه سحر، والحال أنكم تعرفون أن السحر تخييل وتمويه، ولو كان هذا سحرا لانكشف واضمحلّ وزال، ولم يبطل سحر السحرة، فهو إذن معجزة إلهية، لا سحر وشعوذة ولا تمويه.
فقال قوم فرعون لموسى قول صاحب الحجة الضعيفة بالتمسك بالتقليد للآباء والأجداد: أجئتنا يا موسى لتصرفنا وتردّنا عن دين آبائنا وأجدادنا؟ ولتكون لكما، أي لك ولهارون أخيك الكبرياء في الأرض، أي الرياسة الدينية والسلطة الدنيوية
996
وهي الملك والسلطان، وما نحن لكما بمصدّقين فيما تدّعيانه من دين جديد، يبطل دين الأسلاف والآباء.
وهذا إعلان صريح من فرعون وقومه بأنهم مكذبون برسالة موسى وأخيه هارون، إلا أنهم خاطبوا موسى أولا بقولهم: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا لأنه كان هو الدّاعي لهم للإيمان بما جاء به، والإقرار بتوحيد الإله، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان. ثم أشركوا معه أخاه في قولهم: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ لأنه كان رسولا شريكا في الدعوة، وفي الإفادة من ثمراتها، وهي في زعمهم تحقيق النفوذ والسلطة والعظمة.
وهذه ذريعة للتكذيب برسالة موسى وأخيه هارون، وإغراء للمستفيدين من حكم فرعون بمقاومة هذه الرسالة، ومطاردة موسى وأخيه، حفاظا على كرسي الحكم الملكي والسلطة في أراضي مصر.
- ٢- الاحتكام للسحرة في عهد فرعون
زعم فرعون أو ظنّ أن ما جاء به موسى من معجزة العصا واليد مجرد سحر ظاهر، فدعا إلى الاحتكام للسّحرة ليبطل دعوة موسى عليه السّلام، ولينقذ موقفه أمام الناس، وليحافظ على هيلمانه وسلطانه، ولكن الله غالب، والمعجزة الإلهية هي التي ستبطل إفك السحرة، ويظهر الحق، وتعلو كلمة الله والإيمان به، حتى ولو كره المجرمون ذلك. وهذا ما صوّرته الآيات القرآنية التالية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
[يونس: ١٠/ ٧٩- ٨٢].
997
أراد فرعون بكل إصرار وعناد التمويه على الناس وصدّهم عن اتّباع موسى، ومعارضة ما جاء به عليه السّلام من دعوة الحق المبين إلى توحيد الله، فاعتمد على زخارف السّحرة والمشعوذين، فانعكس الأمر عليه، وظهرت البراهين الإلهية على الملأ العام، وآمن السحرة بالله تعالى، وخسر فرعون.
ومعنى الآيات: قال فرعون لخدمته وحاشيته لما رأى معجزة العصا واليد البيضاء: ائتوني بكل ساحر حاذق عالم، ظنّا منه ألا فرق بين المعجزة الإلهية والسحر، فأتوا به، فلما جاء السحرة وتجمعوا، قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون من أفانين السحر، ليظهر الحق، ويبطل الباطل.
فلما ألقوا حبالهم وعصيهم، وخيّلوا بها، وظنّوا أنهم قد ظهروا وانتصروا، قال لهم موسى واثقا غير مبال بهم: ما أتيتم به هو السّحر بعينه، لا ما سماه فرعون سحرا مما جئت به من المعجزة من عند الله. وهذا السحر الذي أظهر تموه إن الله سيبطله ويمحقه ويظهر زيفه قطعا أمام الناس، بما يفوقه من المعجزة التي هي آية خارقة للعادة، تفوق السحر وأشكاله المختلفة. وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ عدة بالإبطال من الله تبارك وتعالى.
وعلة ذلك: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يثبته ولا يقويه، ولا يجعله صالحا للبقاء لأنه محض افتراء والسّحر تخييل وتمويه، يتبدد ويفنى أمام المعجزة الرّبانية المجراة على يد موسى عليه السّلام.
وتابع موسى عليه السّلام قوله: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) أي ويريد الله أن يؤيّد الحق ويظهره، ويثبّته ويقويه، وينصره على الباطل بأوامره ووعده موسى، وذلك ولو كره المجرمون، أي الظالمون كفرعون وملئه.
والمجرم: المجترم الراكب للخطر. وتحقق بالفعل انتصار الحق على الباطل، كما جاء في
998
آية أخرى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) [الأعراف: ٧/ ١١٨]، وقوله سبحانه:
إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: ٢٠/ ٦٩].
هذا اختيار صعب قاس لكل من المعجزة والسحر، فالمعجزة آية إلهية خارقة للعادة، يؤيد الله تعالى بها صدق الأنبياء، لإقناع الناس وتصديق دعوتهم. وأما السحر فهو إفساد وتمويه وتزييف، لا حقيقة له ثابتة، لذا لم يصمد أمام الشيء الحقيقي الثابت، الذي لا تمويه فيه.
وهذا المعنى هو ما تضمنته آية: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يضرّ أحدا كيد ساحر، لذا قال العلماء: لا تكتب هذه الآية على مسحور إلا دفع الله عنه السّحر.
وكان في برمجة أو خطة موسى عليه السّلام بأن يبدأ السّحرة أولا بالإلقاء براعة وثقة بما لديه من المعجزة، وعدم الاكتراث بالسّحرة، فإن كل ما فعلوه من لفت أنظار الناس وإخافتهم، حينما ألقوا حبالهم وعصيهم، محق وأبطل بإلقاء العصا التي انقلبت ثعبانا عظيما، التهم جميع الحبال والعصي، وصدق موسى فيما أعلنه قبل المبارزة: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ.
وحينئذ، حين التهمت العصا جميع الحبال والعصي، أدرك السّحرة خسارتهم، وعرفوا أن فعل موسى ليس من قبيل السّحر، فهم أعرف الناس بأساليبه وفنونه، فلم يعاندوا، وشرح الله صدورهم للإيمان، فآمنوا دون خشية من فرعون وبأسه وتهديده، وأسقط في يد فرعون وملئه، وخابوا وخسروا، وانتصر الحق وزهق الباطل.
999
- ٣- إيمان طائفة بموسى عليه السّلام
بالرغم من الجهود المباركة المضنية من موسى عليه السّلام في دعوة الناس في مصر إلى الإيمان برسالته وبوحدانية الله، لم يؤمن به إلا طائفة قليلة من قومه بني إسرائيل، وهم فتيان وشباب أكثرهم أولو آباء كانوا تحت خوف من فرعون وأعوانه. وفي ذلك تسرية عن هموم نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام بسبب اغتمامه من إعراض قومه عنه وإصرارهم على الكفر، فله أسوة بسائر الأنبياء. وهذا ما أبانته الآيات القرآنية التالية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
«١» «٢» [يونس: ١٠/ ٨٣- ٨٧].
هذه هي حصيلة دعوة موسى عليه السّلام في أول أمره، فلم يصدق بدعوته بادئ الأمر إلا قليل من قومه بني إسرائيل، مع ما جاء به من البيّنات الواضحة الدّالة على صدقه، وهم طائفة من الشباب الخاضعين للحكم الفرعوني، على خوف من فرعون وجنوده أن يردوهم إلى الكفر لأن فرعون كان جبّارا عنيدا، شديد البطش بخصومه، مستعليا في أرض مصر، ومتجاوزا الحدّ بادّعاء الرّبوبية واسترقاق أسباط الأنبياء.
(١) الفتنة: الاختبار والابتلاء بالشدائد، والمراد هنا: موضع عذاب.
(٢) اتّخذوا بيوتكم مساجد ومصلى.
1000
وتابع موسى رعاية المؤمنين، فقال لهم حينما لمس خوفهم من الاضطهاد: إن كنتم آمنتم، أي صدقتم بالله وآياته حقّا، فعليه توكّلوا وفوّضوا أموركم إليه، وثقوا بنصره وحمايته لكم إن كنتم مسلمين، أي خاضعين لله وطاعته، منقادين لأحكامه وأوامره، لأن التوكّل على الله لا يختلط بغيره. فالمراد من قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أهل طاعة مع إيمان، فيكون ذكر الإسلام فيه زيادة معنى. فقالوا فورا: على الله توكّلنا واعتمدنا، وبه وثقنا واستعنّا على أعدائنا، ربّنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، أي لا تنزل بنا بلاء بأيدينا أو بغير ذلك، مدة مجاورتنا لأتباع فرعون، فيعتقدون أن إهلاكنا إنما هو لسوء ديننا، وصلاح دينهم، وأنهم أهل الحق. فهذا الدعاء يتضمن دفع أمرين: أحدهما- القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون. والآخر- ظهور الشّرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق، وفي ذلك فساد الأرض.
وتابعت طائفة الإيمان دعاءها بقولهم: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) أي خلّصنا برحمتك وإحسانك وعفوك من تسلّط الكافرين بك، الظّالمين الطّغاة، الذين كفروا الحق وستروه، ونحن قد أعلناه وآمنّا بك وتوكّلنا عليك.
ثم أوضح الحقّ تعالى سبب إنجاء بني إسرائيل من فرعون وقومه، فقال: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً... أي أمرنا موسى وأخاه هارون عليهما السّلام أن يتخذا لقومهما بمصر بيوتا، تكون مساكن للاعتصام فيها، وأمر القوم أن يتخذوا البيوت مساجد متّجهة نحو القبلة في بيت المقدس، وأن يقيموا جميعا الصلاة في تلك البيوت، أي أتموها وافية بشروطها، لئلا يطّلع عليهم الكفرة، فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم. وبشر يا موسى المؤمنين برسالتك بالصون والنصر على أعدائهم في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
ولا شك بأن الإيمان الطوعي الاختياري هو الإيمان الحق، وهو المطلوب والذي
1001
يفيد صاحبه في الدّارين. وخطاب بني إسرائيل بالصلاة بعد الإيمان كان قبل نزول التوراة، لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر وإهلاك فرعون وجنوده في اليم.
ومن ثمار الإيمان الحق: التّفاني في مرضاة الله وتقديم الدين على الدنيا، لذا قدمت الطائفة المؤمنة بموسى عليه السّلام الحماية من الفتنة الإيمانية وعدم المحنة في الدين، على نجاة أنفسهم من ظلم القوم الظالمين، فقالوا أولا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثم قالوا: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦).
- ٤- دعاء موسى على فرعون وملئه
حينما ييأس الرّسول النّبي من إجابة دعوته عند قومه، قد يدعو عليهم بإذن من ربّه، وهذا ما فعله موسى عليه السّلام الذي دعا قومه في مصر لتوحيد الإله، زمنا طويلا، فدعا الله عليهم بالهلاك والإبادة حتى تتهيأ الأرض لجيل آخر يستجيب لدعوة الإيمان. وكان دعاء موسى عليه السّلام متميزا ببيان سبب الدعاء، وهذا ما وصفه القرآن الكريم في قوله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)
«١» «٢» [يونس: ١٠/ ٨٨- ٨٩].
غضب موسى عليه السّلام من أقباط مصر، فدعا عليهم، وقدم للدعاء تقرير نعم
(١) أتلفها وأزلها.
(٢) اطبع عليها.
1002
الله عليهم وكفرهم بها، قائلا: ربّنا آتيت فرعون وأشراف قومه من الدنيا والنعمة ما أبطرهم، وهو الزينة الشاملة من حلي ولباس وأثاث ورياش وأموال كثيرة ومتاع الدنيا ونحوها من الزروع والأنعام، وأدى التّرف والنعيم بهم أن تكون عاقبة أمرهم إضلال عبادك عن الدين، والطغيان في الأرض، والإسراف في الأمور كلها.
واللام في قوله تعالى: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ تسمى لام العاقبة والصيرورة، أي إن النعمة آلت بهم وصارت إلى الضّلال والانحراف، مثل اللام في قوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ «١» آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً والمعنى: آتيتهم تلك النّعم، فصار أمرهم إلى كذا، وكان عاقبة قوم فرعون من النّعم هو الضّلال والكفر وتأليه فرعون.
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي ربّنا أمحق وأزل آثار أموالهم وأهلكها، واختم على قلوبهم واجعلها قاسية، حتى لا تنشرح للإيمان، فيستحقّوا شديد العقاب، ولا يؤمنوا حتى يشاهدوا العذاب المؤلم الشديد الإيلام. وجعل موسى في دعائه رؤية العذاب نهاية وغاية، وذلك لعلمه من قبل الله تعالى أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره، وكان دعاء موسى مشتملا على عقابين: مادي ومعنوي. أما المادي فهو تدمير أموالهم وإهلاكها. وأما المعنوي: فهو الطبع والختم على قلوب قوم فرعون بالكفر ومنع نفاذ الخير إليها.
ثم أجاب الله هذه الدعوة في فرعون نفسه وقومه معه، بالغرق، وروي عن ابن جريج ومحمد بن علي والضّحاك: أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وحينئذ كان أمر الغرق. وروي أيضا أن هارون كان يؤمّن على دعاء موسى عليه السّلام فلذلك نسب الدعاء إليهما.
لقد أجيبت دعوتكما يا موسى وهارون، وقبلنا دعاءكما كما سألتما من تدمير آل
(١) أي الطفل موسى في التّابوت.
1003
فرعون، فاستقيما، أي فاثبتنا على ما أنتما عليه من الدعوة لدين الحق، وإلزام الحجة، ولا تستعجلا الأمر قبل ميقاته، فإن ما طلبتما كائن، ولكن في وقته، ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون، أي طريق الجهلة في الاستعجال، أو عدم الثقة والاطمئنان بوعد الله تعالى، فإن وعدي لا خلف فيه.
ولا يدلّ هذا النّهي عن الجهل أن مقتضاه صدر من موسى وهارون عليهما السّلام، كما في خطاب نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزّمر: ٣٩/ ٦٥] لا يدلّ على صدور الشّرك منه.
ومن المقرر أن إجابة الدعاء يصادف مقدورا، ودعاء موسى وهارون على هذا النحو، وهذا معنى إجابة الدعاء.
وإجابة الدعاء لها وقت مخصوص في علم الله وتقديره، وليس ذلك بحسب مراد العبد الداعي، وإنما بحسب مراد الله تعالى. فتعجل الإجابة جهل لا يليق مع الأدب مع الله تعالى. وهو أيضا شك في الثقة بوعد الله تعالى بإجابة الداعي إذا دعاه. لهذا أمر الله موسى وهارون عليهما السّلام بالاستقامة وترك سلوك طريق من لا يعلم حقيقة الوعد والوعيد.
لقد طويت صفحة الطاغية فرعون وقومه من التاريخ بتدبير من الله وعدل لأن ادّعاء الألوهية وممارسة ألوان البغي والجور، غير مقبول بحال في منهج الحكم الإلهي.
- ٥- إغراق فرعون وإنجاء الإسرائيليين
اشتطّ فرعون وقومه في الظلم، وبالغوا في إيذاء بني إسرائيل واستعبادهم وتسخيرهم في الأعمال الشاقة، ولكن البغي والجور لا يدوم في شرع الله وقدره.
1004
وحينما آن وقت العذاب بحسب حكمة الله، صمم فرعون وجنوده على استئصال بني إسرائيل فتابعوهم حينما خرجوا من مصر، وصمموا على إبادتهم، وإنهاء دعوة موسى عليه السّلام، حتى لا يكون هناك مضايق أو معارض. وتحققت المعجزة الكبرى بتدبير الله، قال الله تعالى واصفا مصير فرعون وأتباعه وعاقبة بني إسرائيل:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [يونس: ١٠/ ٩٠- ٩٣].
هذه نهاية الطاغية فرعون وقومه، روي أن فرعون كان في ثمان مائة ألف أدهم «٦»، حاشا ما بقي من ألوان الخيل، وروي أقل من هذه الأعداد. كما روي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ست مائة ألف.
والمعنى: تجاوزونا ببني إسرائيل البحر بقدرتنا وحفظنا، فلحقهم فرعون وجنوده ظلما وعدوا، أي باغين وعادين عليهم، فلما أشرف فرعون على الغرق قال: آمنت بأنه لا إله بحق إلا الله الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين، أي المنقادين المذعنين لأمره.
كرر فرعون هذه العبارة ثلاث مرات، فلم يقبل منه الإيمان، لأنه إيمان عند الإكراه والاضطرار، وليس فيه اختيار. لذا ردّ الله تعالى عليه عن طريق جبريل أو
(١) ظلما واعتداء.
(٢) أفي هذه اللحظة تؤمن حين أيقنت الهلاك؟
(٣) عبرة. [.....]
(٤) أنزلنا وأسكنا.
(٥) منزلا صالحا مرضيّا.
(٦) أي أسود.
1005
بإلهام من الله بقوله: أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق، وأيست من نفسك، وقد عصيت الله من قبل هذا الوقت، وكنت من الضّالّين المضلّين عن الإيمان، وذلك في قوله سبحانه: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً... أي فاليوم ننقذ جسدك من الغرق والارتماء في قاع البحر، لتكون لبني إسرائيل دليلا أو علامة على موتك وهلاكك لأنه كان في أنفس المصريين الأقباط: أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق، ولتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك، فينزجرون عن الكفر والفساد في الأرض وادّعاء الرّبوبية. وفي هذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته.
وليس الأمر مقصورا على فرعون وجنوده في إهمال النظر في الكون وآياته، للدلالة على وجود الله وتوحيده، وإنما أكثر الناس غافلون عن حجج الله وأدلّته على أن العبادة لله وحده، فلا يتّعظون بها ولا يعتبرون، لعدم تفكّرهم في أسبابها ونتائجها. وفي هذا دلالة على ذمّ الغفلة وترك أو إهمال الفكر والنظر في أسباب الحوادث وعواقبها.
وقد كان هلاكهم يوم عاشوراء من شهر المحرم، كما صحّ في حديث البخاري عن ابن عباس.
وفي مقابل إغراق فرعون وأتباعه، أنعم الله على بني إسرائيل نعما أخرى، فأنزلهم منزلا صالحا للعيش فيه، ورزقهم من الطيبات، أي اللذائذ المستطابة المباحة فيها، وأنعم الله عليهم فيها بكثير من الخيرات، من الثمار والغلال والأنعام وصيد البر والبحر. ولكنهم جحدوا هذه النعم، فلم يستحقوا التكريم، ووقعوا في المنازعات والخلافات في التوراة وفي شأن رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد ما علموا أحكام التوراة وأوصاف نبي آخر الزمان فيما هو مسطر في كتابهم، فكفر به بعضهم، وآمن آخرون. إن ربّك يفصل ويحكم بينهم يوم القيامة في شأن ما اختلفوا فيه، فيميز المحق
1006
من المبطل، بإنجاء أهل الحق من النار، وإدخالهم الجنة، وإهلاك المبطلين وتعذيبهم في نار جهنم.
الدّعوة إلى تصديق القرآن
إن مهام الداعية لتصديق القرآن دقيقة وشاقة، وتتطلب صبرا وحكمة، وعزيمة وإرادة، وهي بالتالي يسيرة غير عسيرة لأن تصديق القرآن فرع من الإيمان بالله تعالى، فمن آمن بوجود الله وتوحيده، سهل عليه الإيمان بالقرآن الذي أنزله ربّ العزّة بواسطة الوحي على قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن هنا كان مطلع أول السورة الثانية في سورة البقرة من القرآن الكريم: الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) [البقرة: ٢/ ١- ٢]. وكانت مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء دعوته المشركين للتصديق بالقرآن الكريم صعبة للغاية، لأنها في وسط وثني، لا يعرف غالبا غير عقيدة الوثنية، وتأليه الأصنام والأوثان. قال الله تعالى مبيّنا صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته للإيمان بالقرآن مبتدئا به عليه السّلام على سبيل المبالغة:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
«١» [يونس: ١٠/ ٩٤- ٩٧].
جمهور العلماء والصواب في معنى الآية: أنها مخاطبة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض. ومطلعها: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ.. له مثال في قوله تعالى لعيسى عليه السّلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي....
(١) الشّاكّين.
1007
ومعنى الآيات: إن وقع منك شك أيها النّبي في صدق النّبوة والقرآن وإنزاله إليك.
والمراد بذلك قومه، على سبيل الافتراض والمبالغة، فاسأل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب، أي التوراة من قبلك، فهم على علم تامّ بصحة ما أنزل إليك، فلا تكونن من الشّاكين. فالخطاب للسامع ويراد به غيره، وهو تعبير مألوف بين العرب، على طريقة المثل العربي: «إياك أعني واسمعي يا جارة».
فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يوصف بالشّك، قال ابن عباس: لا والله ما شكّ طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم، وقال: «لا شك ولا أسأل، بل أشهد أنه الحق» كما ذكره قتادة وسعيد بن جبير والحسن البصري.
وتتمة الآية: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي والله لقد جاءك الحق واضحا، لا مرية فيه ولا ريب، بما أخبرناك في القرآن، وبأنك رسول الله، وأن اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، لما يجدون في كتبهم من نعتك وأوصافك، فلا تكونن من الشّاكين في صدق ما نقول، وفي بيان الوعد والوعيد.
وفي هذا تثبيت للأمة، وإعلام لكل فرد أن صفة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما جاء في آية أخرى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: ٧/ ١٥٧]. والنّهي في قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ تعريض بالشّاكّين والمكذّبين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم من قومه.
قال البيضاوي في تفسيره: وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدّين ينبغي أن يسارع إلى حلّها بالرجوع إلى أهل العلم.
ثم أورد القرآن في مجال تأكيد تصديقه ما هو أشد مما سبق، فقال الله تعالى:
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) أي ولا تكونن
1008
أيها النّبي وكل سامع ممن كذب بآيات الله الدّالة على وحدانيته وقدرته على إرسال الرّسل لهداية البشر، فتكون ممن خسروا الدنيا والآخرة.
وهذا أيضا من باب التّهييج والتّثبيت وقطع الأطماع عنه عليه السّلام في مساومته على حلول وسط، مثل قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: ٢٨/ ٨٦].
وفي الآية هنا تعريض بالكفار الخاسرين الضّالّين.
وأنهى القرآن المشكلة في عناد الكفار، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) أي إن الّذين ثبتت عليهم كلمة الله، أي قضاؤه وحكمه بالعذاب، لا يؤمنون أبدا، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وتصميمهم على الكفر، وليس المراد منعهم من الإيمان، وإنما بيان لحقيقة اختيارهم بحسب علم الله عزّ وجلّ المحيط بكل شيء. وهؤلاء الذين علم الله أنهم لا يؤمنون سيبقون على كفرهم وجحودهم، ولو جاءتهم كل آية كونية حسّية أو علمية أو قرآنية، كآيات موسى التّسع، وتفجير الأنهار والصعود في السماء، وآيات إعجاز القرآن، لو جاءهم أي شيء من ذلك وغيره لا يؤمنون حتى يروا العذاب المؤلم الموجع الذي يطبق عليهم، وحينئذ لا ينفعهم الإيمان، لأنه إيمان اليأس كإيمان فرعون.
متى يصحّ الإيمان
؟ الإيمان جوهر وكنز يملأ النفس والقلب، ويلازم العقل والفكر، ويظل رأس مال المؤمن في جميع أدوار الحياة حتى يفارق الدنيا، ولا ينجي الإنسان سواه بعد الموت والرحيل إلى عالم الآخرة. لذلك كان قائما على الإرادة والاختيار، ولا فائدة منه، ولا بقاء له إذا فرض بالإكراه أو نشأ حال الاضطرار أو اليأس من الحياة. والإيمان
1009
الجماعي مثل الإيمان الفردي لا بدّ فيه من الطواعية والرّضا والاختيار، وقد وصف الله تعالى حالة الإيمان المقبول في الآيات التالية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
«١» [يونس: ١٠/ ٩٨- ١٠٠].
تتضمن هذه الآيات أمورا أربعة: ارتباط الإيمان بالاختيار والرّضا، والإشارة لقصة يونس مع قومه، ومنع الإكراه على الدّين، وكون الإيمان حاصلا بمشيئة الله وإرادته وإذنه.
أما ارتباط الإيمان بالاختيار والرّضا فقد حثّ القرآن عليه في مطلع هذه الآيات، ومضمون ذلك: فهلا آمن أهل قرية من قرى الرّسل المرسلين إليهم، بإرادتهم، وبعد دعوتهم للإيمان وإقامة الحجة عليهم، وقبل نزول العذاب واستحالة الإيمان، فنفعهم إيمانهم.
والأمر الثاني- قصة يونس عليه السّلام، فإن قومه في أرض نينوى بمقاطعة الموصل شمال العراق، كانوا قد كفروا، ثم لما رأوا أمارات العذاب، تضرّعوا إلى الله تعالى، وأخلصوا التوبة، وأظهروا الإيمان، فرحمهم الله وتقبّل منهم إيمانهم على سبيل الاستثناء، وكشف عنهم العذاب، ومتّعهم إلى أجل، تعليما وتوجيها ليونس عليه السّلام. والفرق بين إيمانهم وإيمان فرعون: أنهم آمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وإن كان بعد ظهور أماراته. وأما إيمان فرعون فكان عند اقتراب الموت ومعاينة الغرق وحين اليأس من النجاة. وفي هذا تعريض بأهل مكة، وحضّ شديد لهم على
(١) العذاب.
1010
أن يكونوا على الأقل، مثل قوم يونس، آمنوا قبل أن يصلوا إلى درجة اليأس، مع احتمال حدوث العذاب كما وقع في قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وجنوده. وهذا كله بقضاء الله ومشيئته فيهم.
والأمر الثالث في الآيات: منع الإكراه على الإيمان. فلو شاء ربّك يا محمد أن يأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان برسالتك، والاستجابة لدعوتك، لفعل، ولو شاء الله تعالى لكان الجميع مؤمنين، كما جاء في آية أخرى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرّعد: ١٣/ ٣١]. وكلمة كُلُّهُمْ تفيد الإحاطة والشمول. وكلمة جَمِيعاً تفيد حدوث الإيمان في وقت واحد، دون تباطؤ ولا تعاقب.
وإذا كان هذا بمقدور الله تعالى، أفأنت يا محمد تكره الناس بالقتال وتلزمهم أو تلجئهم إلى الإيمان، حتى يكونوا مؤمنين موحّدين. فالإيمان لا يتم ولا يطلب إلا بالاختيار والطواعية، ولا يحدث بالإكراه والقسر والإرهاب الملجئ، وما أكثر الآيات المانعة من الإكراه على الدين والإيمان، في قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢/ ٢٥٦].
والأمر الرابع والأخير في الآيات ردّ الأمر في الإيمان لإرادة الله ومشيئته. فليس لنفس أن تؤمن إلا بمراد الله وتوفيقه، أو بقضائه وقدره، والنفس مختارة في الدخول في الإيمان اختيارا غير مطلق، حتى لا يتنافى ذلك مع سلطان الله في كونه، فلا يتم شيء قهرا عنه، ويكون الإيمان مقيدا بسنّة الله في الخلق. ويجعل الله الرّجس أي العذاب على الذين لا يتدبرون حجج الله وبيّناته وبراهينه، ويسيئون في تفكيرهم، ولا يستعملون عقولهم في النظر بما يرشدهم إلى الحق من آيات الله في الكون والحياة، ويتأمّلون في آيات القرآن. فإذا عطّلوا منافذ المعرفة والحواس الهادية إلى
1011
الصواب، واتّبعوا الهوى، وانقادوا لمؤثرات البيئة وتقليد الآباء والأجداد، كانوا هم المسيئين لأنفسهم، المؤثرين الكفر على الإيمان، والضّلالة على الهدى والرّشاد، وكانوا بهذا الاختيار وإهمال العقل غير معذورين في كفرهم.
النّظر والتّفكّر
الطريق إلى تصحيح العقيدة بالله وجودا وتوحيدا أمر مبسط يسير، وهو لا يعدو أن يكون تأمّلا حرّا من غير تأثر ببيئة ووراثة وتقاليد، وتقديرا من النهج القرآني للعقل الإنساني والإرادة البشرية وجّه الإسلام نحو إعمال العقل والفكر في مكنونات الكون وأسراره، وأوجب الدين النظر والتفكر وجعله فريضة إسلامية شاملة، من أجل التوصل إلى الحق، والتخلّص من العقائد الفاسدة والموروثات الضّالّة. وهذا هو صريح الآيات القرآنية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
[يونس: ١٠/ ١٠١- ١٠٣].
قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمر صريح للناس، والأمر للوجوب، بإيجاب الاعتبار والنظر في المصنوعات الدّالة على الصانع، وغير ذلك من آيات السماوات وأفلاكها وكواكبها وسحابها، وعجائب المخلوقات فيها وفي الأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك. والمعنى: انظروا في ذلك نظرا صحيحا ينبّهكم إلى المعرفة بالله والإيمان بوحدانيته.
إن النظر في الأكوان وما فيها من أسرار يرشد الإنسان الضّال أو الكافر إلى وجود
1012
الخالق وتوحيده، ويدعو إلى التصديق بالرّسل، والإيمان بالقرآن والوحي المخبر عن هذه الآيات العظام.
ولكن ما تغني أو تفيد هذه الآيات أو الدلائل الكونية والقرآنية، والأنبياء المنذرون، أو الإنذارات الإلهية، قوما لا يتوقع إيمانهم بالله والرّسل، وقضى الله أنهم لا يؤمنون بحسب علمه المحيط بإرادة الإنسان واختياره، وكل شيء لا يقع إلا بمشيئة الله، لأن ما في الوجود في ملك الله، ولا يحدث أمر في ملكوت الله إلا بإرادته، حتى لا يكون هناك قهرا أو تجاوز لإرادة المالك.
وإذا أهمل الكفار والمشركون المكذبون المعاندون النظر في آيات الله وأسراره، حتى ولو كانوا بسطاء أو أميّين، فهل ينتظرون أو يتوقعون إلا نزول العذاب المماثل لوقائع الأمم الماضية المكذبة لرسلهم، وهي وقائع العذاب في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أي وقائع الماضين، والأيام هنا بمعنى الوقائع، كما في آية أخرى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: ١٤/ ٥]، وكل ما مضى لك من خير أو شرّ فهو أيام.
قل أيها الرسول للمشركين منذرا ومهددا: انتظروا عذاب الله وعقابه، إني من المنتظرين هلاككم، أو فانتظروا هلاكي، إني معكم من المنتظرين الهلاك، أو موعد ربّي به. والآية وعيد محض لمن كفر، فإذا أصرّوا على الكفر، حلّ بهم العذاب، وإذا آمنوا نجوا، هذه سنّة الله في الأمم الخالية، فهل عند مشركي مكة وأمثالهم غير ذلك؟.
وإذا وقع العذاب بقوم في الدنيا، فإن من سنّة الله المقررة إنجاء الرّسل ومتّبعيهم المؤمنين، كما في آية أخرى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: ١٩/ ٧٢]، ومثل هذا الإنجاء للرّسل السابقين ومن آمن معهم، ننجي المؤمنين معك أيها الرّسول، ونهلك المكذبين بالرّسل. وهذا حق أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة، كما جاء في آية أخرى:
1013
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: ٦/ ٥٤]. وكما
ورد في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش، إنّ رحمتي سبقت غضبي».
الخلاصة: دلّت الآيات على وجوب النظر في الكون، والبحث عما فيه للعظة والاعتبار، وتحقيق الخشية من الله تعالى والإيمان به، والحثّ على العلم والبحث والتأمّل، فمن دون العلم لا تتقدم البشرية، ومن غير العلم والنظر لا توجد عقيدة الإيمان بالله تعالى، وبغير العلم لا تنتظم شؤون الدنيا، ولا يقتنع الناس بعدالة الله في الحساب، وإذا لم يوجد العلم حلّ الجهل والفوضى. كل ذلك لتقرير أن الإسلام دين علم وعمل، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو المعلّم الأول، والموجّه الأول للبشرية نحو السعادة.
أصول الدين والعبادة والدعاء
يوجّه القرآن الكريم الناس جميعا إلى ما ينفعهم ويسعدهم، ويبعدهم عن كل ما يضرّهم ويشقيهم، وليس الدين إلا مجرد مدرسة تربوية عالية، تأمر بأصول الحياة الصحيحة، وبمكارم الأخلاق العالية، وتنهى وتمنع عن انحراف الفكر والسلوك.
ومن أخصّ مقتضيات النظام الأصلح أن تكون العبادة والدّعاء لله عزّ وجلّ وحده، دون إشراك أحد معه سواه. وهذا ما قررته الآيات التالية:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
«١» «٢»
(١) اصرف ذاتك كلها للدين الحق.
(٢) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.
1014
[يونس: ١٠/ ١٠٤- ١٠٧].
هذه الآيات الكريمة قانون خالد عام، وخطاب مختصر شامل للناس أجمعين إلى يوم القيامة. فبعد أن أقام القرآن الكريم الأدلة الواضحة على صحة الدين ووحدانية الخالق وصدق النّبوة والوحي، أمر الله بإظهار دينه، وإيضاح الفوارق بين الدين الحق والشّرك الباطل، حيث يعبد المشركون أصناما وأوثانا لا تضر ولا تنفع.
والمعنى: قل يا محمد للناس جميعا: يا أيها الناس إن كنتم تشكون في ديني فأنتم مخطئون، فإن الله لا يشك فيه، وإنما الشّك في دينكم، ولا تعبدون الله، وإني لا أعبد أحدا غيره، فلا أعبد شيئا على الإطلاق مما تعبدون من دون الله، من الأصنام والأوثان، من حجارة ومعادن وغيرها لأنها لا تضرّ ولا تنفع، وإنما أعبد الله الخالق البارئ القادر الذي يتوفّاكم كما أحياكم، ثم إليه مرجعكم، وأمرني ربّي أن أكون من المصدّقين به تصديقا تامّا، عارفا به تمام المعرفة. وقوله سبحانه: وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ تذكير بالموت الذي قهر الله به العباد، وفزّع النفوس به، وإيضاح أن المصير إلى الله بعد الموت. والتّوفي دليل على بدء الخلق والإعادة جميعا.
وفي هذا النّص الصريح تعريض بأن الدين الحق لا يشكّ فيه، وترتاح إليه العقول السليمة، وأما عبادة الأصنام فهي عبادة باطلة، لأن الأصنام لا تعقل ولا تضرّ ولا تنفع، ويستنكرها كل عاقل لأنها أحجار صماء.
ثم يأمر الله نبيّه أي وبقية الناس بأن يخلص العبادة لله وحده، حنيفا أي مائلا عن الشّرك والباطل إلى الدين الحق، وألا يكون من جماعة المشركين الذين يشركون في عبادة الله إلها آخر، فالعبادة تتطلب الاستقامة والدوام والإخلاص في التّوجّه لله
1015
سبحانه، وترك كل ما سواه، والبعد عن أي توجّه ذات اليمين أو ذات الشمال، كما جاء في آية أخرى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) [الأنعام: ٦/ ٧٩]. فمن توجه بقلبه أو مال إلى غير الله في عبادة أو دعاء، فهو عابد غير الله تعالى.
ولم يقتصر القرآن الكريم على الأمر بعبادة الله وحده، وإنما نهى عن عبادة ما سواه، ومضمون النّهي: لا تدع ولا تعبد أيها الرسول أحدا سوى الله، متجاوزا الله تعالى إلى غيره، متّجها إلى ما لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة إن دعوته، ولا يضرّك أصلا إن تركت دعاءه.
فإن فعلت هذا على سبيل الافتراض والمبالغة وعبدت غير الله ودعوته، كنت من الظالمين نفسك، والظالم: الذي يضع الشيء في غير محلّه. ولا ظلم أكبر ولا أشد من الشّرك بالله تعالى، ومن الظلم: وضع العبادة في غير موضعها.
ثم أخبر الله تعالى أن الحول والقوة لله، بدليل ما يحسّ به الناس من أنفسهم، وليس لأحد غير الله قدرة على نفع ولا ضرّ. فإن تتعرض أيها النّبي وكل إنسان لضرر في جسمك كالمرض والألم أو مالك كالفقر والتّلف، فلا كاشف ولا رافع له إلا الله، وإن يردك أو يخصك الله بخير منه في الدين والدنيا من نصر ورخاء ونعمة وعافية، فلا دافع لفضل الله إلا الله، لأنه لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه، ولا مانع لفضله أحد، يصيب بالخير من يشاء، وهو سبحانه الغفور لمن تاب إليه، الرحيم بعباده. والضّرّ لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان، سواء كان ذلك في المال أو في البدن. وهذه الآية تظهر فساد حال الأصنام، وإن كان كل مميز يعرف يقينا أنها لا تكشف ضرّا ولا تجلب نفعا.
1016
الإسلام دين الحق
أبان القرآن المجيد في سورة يونس أسس الدين العامة، وعقائده الكبرى التي طالب بها مشركي العرب والناس جميعا إلى يوم القيامة، من توحيد الله تعالى، وإثبات البعث والجزاء، والوحي والنّبوة والرّسالة، وما شملته من هداية وخير للبشرية جمعاء، لأن القرآن أكمل الله به النعمة وأتم به الدين، وأصبح هو منار الطريق مدى الدهر، وهذه هي خاتمة سورة يونس، كما قال تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
[يونس: ١٠/ ١٠٨- ١٠٩].
تعددت شرائع الله تعالى وبيّناته، ورسالاته ونبواته، منذ عهد آدم عليه السّلام إلى خاتمة الشرائع، وانتهاء النّبوات، في نبوة ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم والكتاب الذي أنزل عليه من ربّه في مدى ثلاث وعشرين سنة، وكان القصد من هذه الشرائع إسعاد البشرية وإنقاذها من الضّلالة إلى النور، وتقرير مبدأ وحدانية الله، وإثبات عالم المعاد والآخرة، وما فيها من جنة ونار، عن طريق ظاهرة الوحي.
وهاتان الآيتان قرار نهائي حاسم، خاطب الله بهما جميع الناس والجنّ إلى يوم القيامة أبد الدهر، والمعنى الواضح منهما: قل أيها الرّسول للناس قاطبة، من حضر ومن يأتي: قد جاءكم الحقّ المبين من ربّكم، يبيّن حقيقة هذا الدين، وكمال هذه الشريعة، على لسان رجل منكم، بلسان عربيّ مبين.
أمر الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله تعالى هو الحقّ الذي لا شكّ ولا شبهة ولا ريب فيه.
والحق هو القرآن والشّرع الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من عند ربّه. فمن اهتدى أي اتّبع
1017
الحق وأذعن له، وصدّق بالقرآن ورسول الله، فإنما يهتدي لنفسه ويسعى لها، أي يعود نفع عمله وثواب اهتدائه واتّباعه على ذاته، ويجد خير رشده في مصيره وآخرته لأنه يوجب لها رحمة الله ويدفع عذابه.
ومن ضلّ، أي حاد عن طريق الحق، ولم ينظر بعين الحقيقة، وحاد عن منهج الله، وكفر بربّه عزّ وجلّ، فإنما يضلّ على نفسه، أي يرجع وبال عمله عليه. والدنيا مزرعة الآخرة، فمن زرع نباتا حسنا استفاد منه، ومن زرع نباتا سيّئا، حصد منه الشّر والضّرر.
ثم يؤكد القرآن عنصر الإرادة والاختيار وترك الإجبار في قوله تعالى لرسوله:
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي وما أنا بموكل بكم من عند الله بأموركم حتى أجعلكم مؤمنين، وأكرهكم أو أجبركم على الإيمان، وإنما أنا نذير منذر لكم عذاب الله لمن أعرض وكذب، وبشير أيضا، أي مبشّر من اهتدى، والهداية على الله تعالى.
والرسول مجرّد مبلّغ وحي ربّه، لا يأتي بشيء من عند نفسه، لذا تعدد الأمر القرآني لرسوله بأن يعلن أنه ما عليه إلا البلاغ، وأنه مأمور بالتبليغ، وهنا قال الله له: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ.. أي اتّبع يا محمد ما أنزل الله عليك، وأوحاه إليك عن طريق جبريل، وتمسّك به أشدّ التّمسّك، واصبر على دعوتك وأذى قومك ومخالفة من خالفك من الناس المعاندين والمستكبرين، حتى يحكم الله، أي يقضي بالفصل بينك وبينهم، أي المكذّبين من قومك، فينصرك الله عليهم ويحقق لك الغلبة، وهو خير الحاكمين، أي أعدل الحكام وأحكمهم، يقضي بالعدل التام والحكمة الصحيحة، والواقع الحقيقي. وقد أنجز الله وعده لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فنصره مع الجند المؤمنين، على تكتّلات المشركين العرب ومؤامراتهم، واستخلف الله أهل الإيمان في الأرض، وجعلهم الأئمة الوارثين.
1018
وفي هذا الكلام تسرية عن هموم النّبي صلّى الله عليه وسلّم مما لقيه من أذى قومه، ووعد له وللمؤمنين بأن يغلّبهم وينصرهم، ووعيد للأعداء الكافرين بأن يخذلهم ويهزمهم، ويطوي صفحتهم من التاريخ إلى الأبد.
1019
Icon