ﰡ
فإن لكل حرف اسماً ومُسمَّى، واسم الحرف يعرفه الخاصة الذين يعرفون القراءة والكتابة، أما العامة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة؛ فهم يتكلمون بمسميات الحروف، ولا يعرفون أسماءها.
فإن الأمي إذا سُئل أن يتهجى أيَّ كلمة ينطقها، وأن يفصل حروفها نطقاً؛ لما عرف، وسبب ذلك أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، أما المتعلم فهو يعرف أسماء الحروف ومُسمَّياتها.
ونحن نعلم أن القرآن قد نزل مسموعاً، ولذلك أقول: إياك أن تقرأ كتاب الله إلا أن تكون قد سمعته أولاً؛ فإنك إذا قرأته قبل أن تسمعه فسيستوي عندك حين تقرأ في أول سورة البقرة: ﴿الم﴾ [البقرة: ١].
مثلما تقول في أول سورة الشرح: ﴿أَلَمْ﴾ [الشرح: ١].
أما حين تسمع القرآن فأنت تقرأ أول سورة البقرة كما سمعها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جبريل عليه السلام «ألف لام ميم»، وتقرأ أول سورة الشرح «ألم».
وأقول ذلك لأن القرآن كما نعلم ليس كأي كتاب تُقبِل عليه لتقرأه من غير سماع، لا. بل هو كتاب تقرؤه بعد أن تسمعه وتصحح
ونحن نعلم أيضا أن آيات القرآن منها آياتٌ مُحْكمات وأُخَر مُتَشابهات. والآيات المُحْكماتُ تضم الأحكام التي عليك أن تفعلها لِتُثاب عليها، وإنْ لم تفعلها تُعاقب، وكل ما في الآيات المُحْكمات وَاضح.
أما الآيات المُتَشابهات إنما جاءت متشابهة لاختلاف الإدراك من إنسان لآخر، ومن مرحلة عُمرية لأخرى، ومن مجتمع لآخر، والإدراكات لها وسائل يتشابه فيها الناس، مثل: العين، والأذن، والأنف، واللسان، واليد.
ووسائل الإدراك هذه؛ لها قوانين تحكمها:
وصوتُك له قانون؛ تحكمه ذبذبات الهواء التي تصل إلى أدوات السمع داخل أذنك.
وكذلك الشَّمُّ له حدود؛ لأنك لا تستطيع شَمَّ وردة موجودة في بلد بعيدة.
وكذلك العقل البشري له حدود يُدرك بها، وقد علم الله كيف يدرك الإنسان الأمور، فلم يمنع تأمل وردة جميلة، لكنه أمر بغضِّ البصر عند رؤية أي امرأة.
وهكذا يُحدِّد لكَ الحق الحلال الذي تراه، ويُحدِّد لك الحرام الذي يجب أن تمتنع عن رؤيته.
وكذلك في العقل؛ قد يفهم أمراً وقد لا يفهم أمراً آخر، وعدم فَهْمك لذلك الأمر هو لَوْن من الفهم أيضاً، وإنْ تساءلتَ كيف؟
انظر إلى موقف تلميذ في الإعدادية؛ وجاء له أستاذه بتمرين
وهكذا يعلمنا الله الأدب في استخدام وسائل الإدراك؛ فهناك أمر لك أن تفهمه؛ وهناك أمر تسمعه من ربك وتطيعه، وليس لك أن تفهمه قبل تنفيذه؛ لأنه فوق مستوى إدراكك.
ودائما أقول هذا المثل ولله المثل الأعلى إنك حين تنزل في فندق كبير، تجد أن لكل غرفة مفتاحاً خاصاً بها، لا يفتح أي غرفة أخرى، وفي كل دَوْر من أدوار الفندق يوجد مفتاح يصلح لفتْح كل الأدوار، ولا يفهم هذا الأمر إلا المتخصص في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله تعالى، وهو الكتاب الجامع في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله تعالى وهو الكتاب الجامع الذي يقول فيه الحق تبارك وتعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في
إذن: فهذا المتشابه يعتبره أهل الزيغ فرصة لتحقيق مَأْربهم، وهو إبطال الدين بأيِّ وسيلة وبأي طريقة، ويحاولون ممارسة التكبر على كتاب الله.
ولهؤلاء نقول: لقد أراد الله أن يكون بعضٌ من سور الكتاب الكريم مُبْتدئةً بحروف تنطق بأسمائها لا بمُسمَّياتها.
وقد أرادها الحق سبحانه كذلك ليختبر العقول؛ فكما أطلق سبحانه للعقل البشري التفكير في أمور كثيرة؛ فهناك بعض من الأمور يخيب فيها التفكير، فلا يستطيع العقل إدراك الأشياء التي تفوق حدود عقله.
وقوله الحق سبحانه: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم..﴾ [آل عمران: ٧].
قد يُفْهم منه أنه عطف؛ بمعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله؛ وبالتالي سيُعلِّمون الناس ما ينتهون إليه من علم بالتأويل. ولكن تأويل الراسخين في العلم هو قولهم: ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا... ﴾ [آل عمران: ٧].
إذن: فنهاية تأويلهم: هو من عند ربنا، وقد آمنا به.
وجاء لنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِيَحُل لنا إشكال المُتَشابَه:
«ما تشابه منه فآمنوا به».
والمثل الذي أضربه هنا هو أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنا أن نستلم الحجر الأسود وأن نُقبِّله، وأن نَرْجُم الحجر الذي يمثل إبليس، وكلاهما حجر، لكننا نمتثل بالإيمان لما أمرنا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وأنت لو أقبلتَ على كل أمر بحُكْم عقلك، وأردتَ أن تعرف الحكمة وراء كل أمر، لَعبدْتَ عقلك، والحق سبحانه يريد أن تُقبِل على الأمور بِحُكْمِه هو سبحانه.
وأنت إن قلتَ لواحد: إن الخمر تهري الكبد. ووضعت على كبده جهاز الموجات فوق الصوتية الذي يكشف صورة الكبد، ثم ناولتَ الرجل كأس خمر؛ فرأى ما يفعله كأس الخمر في الكبد، ورَاعَه ذلك؛ فقال: والله لن أشربها أبداً.
لقد ربط سلوكه بالتجربة، وهو يختلف عن المؤمن الذي نفَّذ تعاليم السماء فامتنع عن الخمر لأن الله أمر بذلك، فلا يمكن أن نؤجل تعاليم السماء إلى أن تظهر لنا الحكمة منها.
إذن: فعِلَّة المُتَشابه؛ الإيمان به. وقد يكون للمُتَشابه حكمة؛ لكِنَّا لن نُؤجِّل الإيمان حتى نعرف الحكمة.
وأقول دائماً: يجب أن يعامل الإنسانُ إيمانَه بربه معاملته لطبيبه، فالمريض يذهب إلى طبيبه ليعرض عليه شكواه من مرض يؤلمه؛ ليصفَ الطبيب له الدواء، كذلك عمل عقلك؛ عليه أن ينتهي عند عتبة إيمانك بالله.
ونجد من أقوال أهل المعرفة بالله مَنْ يقول: إن العقل كالمطيَّة، يُوصِّلك إلى باب السلطان، لكنه لا يدخل معك.
إذن: فالذي يناقش في عِلَل الأشياء هو مَنْ يرغب في الحديث مع مُسَاوٍ له في الحكمة، وهل يوجد مُسَاوٍ لله؟
طبعا لا، لذلك خُذْ افتتاحيات السور التي جاءت بالحروف المقطعة كما جاءت، واختلافنا على معانيها يؤكد على أنها كَنْز لا ينفذ من
ومن العجيب أن آيات القرآن كلها مبنيةٌ على الوَصْل، ففي آخر سورة هود نجد قول الحق سبحانه: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٢٣].
وكان من المفترض أن نقف عليها فننطق كلمة «تعملون» ساكنة النون، لكنها موصولة ب «بسم الله الرحمن الرحيم» ؛ لذلك جاءت النون مفتوحة.
وأيضاً ما دامت الآيات مبنية على الوصل، كان من المفروض أن ننطق بدء سورة يوسف «ألفٌ لامٌ رَاءٌ» لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علَّمنَا أن نقرأها «ألفْ لامْ راءْ» وننطقها ساكنة.
وهذا دليل على أنها كلمة مبنية على الوقف، ودليل على أن لله سبحانه حكمة في هذا وفي ذاك.
ونحن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يراجع القرآن مرة كل رمضان مع جبريل عليه السلام وراجعه مرتين في رمضان الذي سبق وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهنا يقول الحق: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ [يوسف: ١].
و «تلك» إشارة لما بَعْدَ (الر)، وهي آيات الكتاب.
أي: خذوا منها أن آيات القرآن مُكوَّنة من مثل هذه الحروف، وهذا فَهْم البعض لمعنى: ﴿الر... ﴾ [يوسف: ١] لكنه ليس كل الفهم.
مثل: صانع الثياب الذي يضع في واجهة المحل بعضاً من الخيوط التي تم نَسْج القماش منها؛ ليدلنا على دِقَّة الصنعة.
فكأنَّ الله سبحانه يُبيِّن لنا أن ﴿الر... ﴾ [يوسف: ١] أسماء لحروف هي من أسماء الحروف التي نتكلم بها، والقرآن تكوَّنت ألفاظه من مثل تلك الحروف، ولكن آيات القرآن معجزة، لا يستطيع البشر ولو عاونهم الجن أن يأتوا بمثله.
إذن: فالسُّمو ليس من ناحية الخامة التي تُكوِّن الكلام، ولكن المعجزة أن المتكلم هو الحق سبحانه فلا بد أن يكون كلامه مُعجزاً؛ وإن كان مُكوَّناً من نفس الحروف التي نستخدمها نحن البشر.
ويقول الحق سبحانه: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾ [يوسف: ١].
كلمة «الكتاب» عندما تُطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم.
ونجد كلمة «المبين»، أي: الذي يُبيِّن كل شيء تحتاجه حركة الإنسانِ الخليفةِ في الأرض، فإن بانَ لك شيء وظننتَ أن القرآن لم
ويُروى عن الإمام محمد عبده أنه قابل أحد المستشرقين في باريس؛ ووجَّه المستشرق سؤالاً إلى الإمام فقال:
مادامتْ هناك آية في القرآن تقول: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ... ﴾ [الأنعام: ٣٨] فَدعْنِي أسألك: كم رغيفاً ينتجه أردبُّ القمح؟
فقال الإمام للمستشرق: انتظر. واستدعى الإمام خبازاً، وسأله: كم رغيفاً يمكن أن نصنعه من أردب القمح؟ فأجاب الخباز على السؤال.
هنا قال المستشرق: لقد طلبتُ منك إجابة من القرآن، لا من الخباز.
لقد فَطِن الإمام محمد عبده إلى أن العقل البشري أضيق من أن يسع كل المعلومات التي تتطلبها الحياة؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يوزِّع المواهب بين البشر؛ ليصبح كل متفوق في مجال ما، هو من أهل الذكر في مجاله.
ونحن على سبيل المثال عندما نتعرض لمسألة ميراث؛ فنحن نلجأ إلى مَنْ تخصص في المواريث، ليدلنا على دقة توزيع أنصبة هذا الميراث.
وحين يؤدي المسلم من العامة فريضة الحج، فيكفيه أن يعلم أن الحج فريضة؛ ويبحث عند بَدْء الحج عمَّنْ يُعلِّمه خُطوات الحج كما أدَّاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهكذا نرى أن علوم الحياة وحركتها أوسع من أن يتسع لها رأس؛ ولذلك وزَّع الله أسباب فضله على عباده، ليتكاملوا تكاملَ الاحتياج، لا تكامل التفضُّل، ويصير كل منهم مُلْتحماً بالآخرين غَصبْاً عنه.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً... ﴾.
فنسب النزول مرة لجبريل كحامل للقرآن ليبلغ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومرة يقول: ﴿نُزِّلَ... ﴾ [محمد: ٢]، والنزول في هذه الحالة منسوب لله وجبريل والملائكة.
أما قول الحق سبحانه: ﴿أُنْزِلَ... ﴾ [البقرة: ٩١]، فهو القول الذي يعني أن القرآن قد تعدى كونه مَكْنوناً في اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ببعث رسول الله صلى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهكذا يؤول الأمر إلى أن القرآن نزل أو نزل به الروح الأمين.
والحق سبحانه يقول: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ..﴾ [الإسراء: ١٠٥] أي: أن الحق سبحانه أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزله مفرقاً ليعالج الأحداث ويباشر مهمته في الوجود الواقعي.
﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً... ﴾ [يوسف: ٢].
وفي الآية السابقة قال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب... ﴾ [يوسف: ١].
فمرَّة يَصِفه بأنه قرآن بمعنى المقروء، ومرَّة يَصِفه بأنه كتاب؛ لأنه مسطور، وهذه من معجزات التسمية.
ونحن نعلم أن القرآن حين جُمِع ليكتب؛ كان كاتب القرآن لا يكتب إلا ما يجده مكتوباً، ويشهد عليه اثنان من الحافظين.
ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالأهواء، أما السطور فمُثْبتة لا لَبْسَ فيها.
وهو قرآن عربي؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيجاهر بالدعوة في أمة عربية، وكان لابد من وجود معجزة تدل على صدق بلاغه عن الله، وأن تكون
وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر، وكانوا يجتمعون في الأسواق، وتتفاخر كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المُفوَّهين، وكانت المباريات الآدائية تُقَام، وكانت التحديات تجرى في هذا المجال، ويُنصَب لها الحكام.
أي: أن الدُّرْبَة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة، محكوم عليها من الناس في الأسواق، فهم أمة بيان وبلاغة وفصاحة.
لذلك شاء الحق سبحانه أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أول قوم نزل فيهم القرآن، وحين يؤمن
وهي مبادىء قد نزلت في أمة مبتدِّية ليس لها قانون يجمعها، ولا وطن يضمهم يكون الولاء له، بل كل قبيلة لها قانون، وكلهم بَدْو يرحلون من مكان إلى مكان.
وحين نزل فيهم القرآن عَلِم أهل فارس والروم أن تلك الأمة المُبتدِّية قد امتلكتْ ما يبني حضَارة ليس لها مثل من قَبْل، رغم أن النبي أمِيٌّ وأن الأمة التي نزل فيها القرآن كانت أمية.
وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك الأمة تحدَّاهم بما نبغُوا فيه، وما استطاع واحد منهم أن يقوم أمام التحدي، ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من نوع آخر لم يعرفوه.
ويشاء الحق سبحانه أن ينزل القرآن عربياً؛ لأن الحق لم يكن ليرسل رسولاً إلا بلسان قومه، فهو القائل: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ... ﴾ [إبراهيم: ٤].
ويظلُّ القرآن معجزة تحمل منهجاً إلى أنْ تقومَ الساعة، ومادام قد آمنَ به الأوائل وانساحوا في العالم، فتحقق بذلك ما وعد به الله أن يكون هذا الكتابُ شاملاً، يجذب كل مَنْ لم يؤمن به إلى الانبهار بما فيه من أحكام.
ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار الإسلام في تلك المدة الوجيزة، يجدون أن الإسلام قد انتشر لا بقوة مَنْ آمنوا به؛ بل بقوة مَنْ انجذبوا إليه مَشْدُوهِين بما فيه من نُظُمٍ تُخلِّصهم من متاعبهم.
ففي القرآن قوانين تُسعِد الإنسانَ حقاً، وفيه من الاستنباءات بما سوف يحدث في الكون؛ ما يجعل المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزله الله على رسولهم لم يفرط في شيء.
وإذا قال قائل من المستشرقين: كيف تقولون: إن القرآن قد نزل
وهؤلاء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العربي استقبل ألفاظاً مختلفة من أمم متعددة نتيجة اختلاطه بتلك الأمم، ثم دارتْ هذه الألفاظ على لسانه، وصارت تلك الألفاظ عربية، ونحن في عصورنا الحديثة نقوم بتعريب الألفاظ، وندخل في لغتنا أيَّ لفظ نستعمله
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢].
ليستنهض همة العقل، ليفكر في الأمر، والمُنْصف بالحق يُهِمه أن يستقبل الناس ما يعرضه عليهم بالعقل، عكس المدلس الذي يهمه أن يستر العقل جانباً؛ لينفُذَ من وراء العقل.
وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما، ويستعرض معك مَتَانتها ومحاسنها؛ فهو يفعل ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته.
أما لو كانت الصَّنْعة غير جيدة، فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك؛ لأنك حين تتدبر بعقلكَ الأمر تكتشف المُدلس وغير المُدلس؛ لذلك فهو يدلس عليك، ويُعمِّي عليك، ولا يدع لك فرصة للتفكير.
ومَنْ غيره سبحانه له كل الصفات التي تفعل ما تشاء وقْتَ أن تشاء؟
لا أحد سواه قادر على ذلك؛ لأنه سبحانه وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب في الحياة ومُقدَّر.
لكن حين يتكلم سبحانه عن الذات؛ فهو يؤكد التوحيد فلا تأتي بصيغة الجمع، يقول تعالى: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني
وهنا يتكلم سبحانه بأسلوب يعبر عن أفعال لا يَقْدر عليها غيره؛ بالدقة التي شاءها هو سبحانه فيقول:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص... ﴾ [يوسف: ٣].
وحدد سبحانه أنه هو الذي يقصُّ، وإذا وُجِد فعل لله؛ فنحن نأخذ الفعل بذاته وخصوصه؛ ولا نحاول أن نشتق منه اسماً نطلقه على الله؛ إلا إذا كان الفعل له صفة من صفاته التي عَلِمْناها في أسمائه الحسنى؛ لأنه الذات الأقدس.
وفي كل ما يتعلق به ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً إنما نلتزم الأدب؛ لأننا لا نعرف شيئا عن ذات الله إلا ما أخبرنا الله عن نفسه، لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنه قصَّاص، بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسماً لله؛ لأنه لم يصف نفسه في أسمائه الحسنى بذلك.
وهنا يقول سبحانه:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص....﴾ [يوسف: ٣].
ونعلم أن كلمة «قص» تعني الإتباع، وقال بعض العلماء: إن القصة تُسمَّى كذلك لأن كل كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قَصَّ الأثر، وهو تتبع أثر السائر على الأرض، حتى يعرف الإنسان مصير مَنْ يتتبعه ولا ينحرف بعيداً عن الاتجاه الذي سار فيه مَنْ يبحث عنه.
واقرأ قول الحق سبحانه: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: ١١].
و ﴿قُصِّيهِ... ﴾ [القصص: ١١] أي: تتبعي أثره.
إذن: فالقَصُّ ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة، إنما القَصُّ هو تتبُّع ما حدث بالفعل.
وهكذا نعلم أن القص هو تتبُّع ما حدث بالفعل، فتكون كل كلمة مُصوِّرة لواقع، لا لَبْسَ فيه أو خيال؛ ولا تزيُّد، وليس كما يحدث
أما قصص القرآن فوضْعُه مختلف تماماً، فكلُّ قَصص القرآن إنما يتتبع ما حدث فعلاً؛ لنأخذ منها العبرة؛ لأن القصة نوع من التاريخ.
والقصة في القرآن مرةً تكون للحدث، ومرَّة تكون لتثبيت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم تَأْتِ قصة رسول في القرآن كاملة، إلا قصة يوسف عليه السلام.
أما بقية الرسل فقَصَصهم جاءت لقطات في مناسبات لتثبيت فؤاد الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتأتي لقطة من حياة رسول، ولقطة من حياة رسول آخر، وهكذا.
ولا يقولن أحد: إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة
فقصة يوسف عليه السلام في القرآن لا تتميز بالحَبْكة فقط؛ بل جمعتْ نَوعَيْ القصة، بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات، وبالشخص الذي تدور حوله الأحداث.
جاءتْ قصة يوسف بيوسف، وما مَرَّ عليه من أحداث؛ بَدْءً من الرُّؤيا، ومروراً بحقد الأخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على تأويل الأحلام، ثم تولَّي السلطة، ولقاء الأخوة والإحسان إليهم، وأخيراً لقاء الأب من جديد.
إذن: فقول الحق سبحانه:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص... ﴾ [يوسف: ٣].
يبيّن لنا أن الحُسْن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف، لكن أحبار اليهود حين قرأوا القصة كما جاءتْ بالقرآن ترك
أو: هي أحسن القصص بما اشتملتْ عليه من عِبَر متعددة، عِبَر في الطفولة في مواجهة الشيخوخة، والحقد الحاسد بين الأخوة، والتمرد، وإلقائه في الجبِّ والكيد له، ووضعه سجيناً بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتى تمَّ له النصر والتمكين.
وكيف ألقى الله على يوسف عليه السلام محبَّة منه؛ ليجعل كل مَنْ يلتقي به يحب خدمته.
وكيف صانَ يوسف إرثَ النبوة، بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة؛ فعفَا عن إخوته بما روتْه السورة: ﴿قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ [يوسف: ٩٢].
وقالها سيد البشر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأهله يوم فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
أو: أنها أحسنُ القصص في أنها أدّتْ المُتَّحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة، وجاء على لسان محمد الأمي، الذي لا خبرة له بتلك الكتب؛ لكن جاء عَرْضُ الموضوع بأسلوب جذَّاب مُسْتمِيل مُقْنع مُمْتع.
أو: أنها أحسن القصص؛ لأن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطاتٍ متعددةٍ تساير: العمر الزمني؛ والعمر العقلي؛ والعمر العاطفي للإنسان في كل أطواره؛ ضعيفاً؛ مغلوباً على أمره؛ وقوياً مسيطراً، مُمكَّناً من كل شيء.
بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات مُوزَّعة كآيات ضمن سُور أخرى؛ وكل آية جاءت في موقعها المناسب لها.
إذن: فالحُسْن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي لا يستطيع واحد من البشر أن يأتي بمثله.
يقول الحق سبحانه: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣].
والمقصود بالغفلة هنا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أُمِّياً، ولم يعرف عنه أحدٌ قبل
إن الكذب أمر مُسْتبعد تماماً في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل البعثة وبعدها.
والمثال على تصديق الغير لرسول الله هو تصديق أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه له حين أبلغه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الوحي قد نزل عليه، لم يَقُلْ له أكثر من أنه رسول من عند الله، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صدقْتَ.
وحين حدثتْ رحلة الإسراء؛ وكذَّبها البعض متسائلين: كيف نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ويقول محمد إنه قطعها في ليلة؟ فسألهم أبو بكر: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال أبو بكر: ما دام قد قال فقد صدق.
مثال ذلك: تصديق خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأرضاها له؛ حين أبلغها بنزول الوحي، فقالت له: «والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المَعْدُوم، وتَقْري الضَّيف، وتعين على نوائب الحق».
وكان في صدق بصيرتها، وعميق حساسية فطرتها أسبابٌ تؤيد تصديقها له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نبوته.
وحين وقعت بعض الأمور التي لا تتفق مع منطق المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات؛ كانت بعض العقول المعاصرة
مثال هذا: ما حدث في صلح الحديبية، حين يقول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه متسائلاً ويكاد أن يكون رافضاً لشروط هذا الصلح: ألسْنا على الحق؟ عَلام نعطي الدَّنية في ديننا؟
ويرد عليه أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: استمسك بِغَرْزِه يا عمر، إنه رسول الله.
أي: انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليس في ذلك انصياعٌ أعمى؛ بل هي طاعة عن بصيرة مؤمنة.
والحق سبحانه يقول هنا:
﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣].
والغافل: هو الذي لا يعلم لا عن جهل، أو قصور عقل ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله.
﴿لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: ٣].
أي: أنك يا محمد لم تكن ممَّنْ يعرفون قصة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى مُعلِّم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضاً من أطراف القصة من هنا أو هناك.
بل أنت لم تَتَلقَّ الوحي بها إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة: اسألوه عن أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟
وكان ضَرْباً من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيان العالي بكل تفاصيل القصة، كدليل عمليٍّ على أن مُعلِّم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الله، وأنه سبحانه هو مَنْ أَوحى بها إليه.
والوَحْي كما نعلم هو الإعلام بخفاء، وسبحانه يوحي للملائكة فيقول: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ... ﴾ [الأنفال: ١٢].
ويقذف الحق سبحانه بالإلهام وحياً لا يستطيع الإنسان دَفْعاً له، مثل الوحي لأم موسى بأن تلقي طفلها الرضيع موسى في اليَمِّ: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ [طه: ٣٨ - ٣٩].
ويوحي سبحانه إلى الأرض وهي الجماد، مثل قوله الحق: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥].
والحق سبحانه يوحي لمن شاء بما شاء، فالكل؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان؛ من خَلْقه، وهو سبحانه يخاطبهم بِسِرِّ خلقه لهم، واختلاف وسائل استيعابهم لذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ... ﴾.
ويستمر يوسف في قوله:
﴿ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤].
وكلنا رأينا الشمس والقمر؛ كُلٌّ في وقت ظهوره؛ لكن حلُم يوسف يُبيِّن أنه رآهما معاً، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافاً لا حَصْرَ لها، فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكباً فقط؟
لا بُدَّ أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميَّزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى؛ وأنه قام بعدِّهِم.
ورؤيا يوسف عليه السلام تبيِّن أنه رآهم شمساً وقمراً وأحد عشر كوكباً؛ ثم رآهم بعد ذلك ساجدين.
وهذا يعني أنه رآهم أولاً بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود؛ ثم رآهم وهم ساجدون له؛ بملامح الخضوع لأمر من الله، ولذلك تكررت كلمة «رأيت» وهو ليس تكراراً، بل لإيضاح الأمر.
ونجد أن كلمة: ﴿سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] وهي جمع مذكر سالم؛ ولا يُجمع جَمْع المذكر السالم إلا إذا كان
ومَنْ سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الله، فَهُم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى.
مثلهم في ذلك مَثَلْ ما جاء في قول الحق سبحانه: ﴿إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الانشقاق: ١ - ٢] هذه السماء تعقل أمر ربها الذي بناها.
وقال عنها أنها بلا فُرُوجٍ:
أي: أنها امتلكت حاسة السمع؛ لأن «أذنت» من الأذن؛ وكأنها بمجرد سماعها لأمر الله؛ تنفعل وتنشق.
وهكذا نجد أن كل عَالَم من عوالم الكون أُمَم مثل أمة البشر، ويتفاهم الإنسان مع غيره من البشر ممَّن يشتركون معه في اللغة، وقد يتفاهم مع البشر أمثاله ممن لا يعرف لغتهم بالإشارة، أو من خلال مُترجم، أو من خلال تعلُّم اللغة نفسها.
ولكن الإنسان لا يفهم لغة الجماد، أو لغة النبات، أو لغة الحيوان؛ إلا إذا أنعم الله على عبد بأن يفهم عن الجماد، أو أن يفهم الجماد عنه.
والمثل: هو تسبيح الجبال مع داود، ويُشكِّل تسبيحه مع تسبيحها «جُوقة» من الانسجام مُكَوَّن من إنسان مُسبِّح؛ هو أعلى الكائنات، والمُردِّد للتسبيح هي الجبال، وهي من الجماد أدنى الكائنات.
إذن: فلكُلِّ أُمَّة من الكائنات لغة، وهي تفهم عن خالقها، أو مَنْ أراد له الله سبحانه وتعالى أن يفهم عنها، وبهذا نعلم أن الشمس والقمر والنجوم حين سجدتْ بأمر ربها ليوسف في رؤياه؛ إنما فهمتْ عن أمر ربها.
أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول «ابني» مثل قول الحق سبحانه عن نوح يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على الإيمان: ﴿إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي... ﴾ [هود: ٤٥].
وكلمة «يا بني» بما فيها من حنان وعطف؛ ستفيدنا كثيراً فيما سوف يأتي من مواقف يوسف؛ ومواقف أبيه منه.
وقول يعقوب ليوسف «يا بني» يُفْهم منه أن يوسف عليه السلام ما زال صغيراً، فيعقوب هو الأصل، ويوسف هو الفرع، والأصل دائماً يمتلئ بالحنان على الفرع، وفي نفس الوقت نجد أيَّ أب يقول: مَنْ يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي.
وحين يفزع يوسف مما يُزعِجه أو يُسيء إليه؛ أو أي أمر مُعْضَل؛ فهو يلجأ إلى مَنْ يحبه؛ وهو الأب؛ لأن الأب هو الأقدر في نظر الابن - على مواجهة الأمور الصعبة.
وحين روى يوسف عليه السلام الرؤيا لأبيه؛ قال يعقوب عليه السلام:
﴿قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ﴾ [يوسف: ٥].
ونفهم من كلمة «رؤيا» أنها رؤيا منامية؛ لأن الشمس والقمر والنجوم لا يسجدون لأحد، وهذا ما يوضح لنا دقة اللغة العربية، فكلمة واحدة هي «رأى» قد يختلف المعنى لها باختلاف ما رُؤيَ؛ فرؤيتك وأنت يقظانُ يُقال عنها «رؤية» ؛ ورؤيتك وأنت نائم يُقال عنها «رؤيا».
والرؤية مصدر مُتفق عليه من الجميع: فأنت ترى ما يراه غيرك؛ وأما «الرؤيا» فهي تأتي للنائم.
وهكذا نجد الالتقاء في «رأى» والاختلاف في الحالة؛ هل هي حالة النوم أو حالة اليقظة. وفي الإعراب كلاهما مؤنث؛ لأن علامة التأنيث إما: «
وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة «التاء» وهي عمدة التأنيث؛ أما الرؤيا المنامية فقد أخذت ألف التأنيث.
ولا يقدح في كلمة «رؤيا» أنها منامية إلا آية واحدة في القرآن حيث تحدث الحق سبحانه عن لحظة أن عُرِجَ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠].
ولكن من يقولون: «إنها رؤيا منامية» لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول؛ فالمعنى هو: إن ما حدث شيء عجيب لا يحدث إلا في الأحلام، ولكنه حدث في الواقع؛ بدليل أنه قال عنها: أنها «فتنة للناس».
وهنا يقول يعقوب عليه السلام:
﴿قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ..﴾ [يوسف: ٥].
لأن يعقوب عليه السلام كأب مأمونٌ على ابنه يوسف؛ أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين عليه، وحين يقصُّ يوسف رؤياه على أبيه، فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدلُّه عليه.
أما إن قصَّ الرؤيا على إخوته؛ فقد تجعلهم الأغيار البشرية يحسدون أخاهم، وقد كان.
وإن تساءل أحد: ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية، رأى فيها الشمس والقمر وأحدَ عشرَ كوكباً يسجدون له؟
نقول: لا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد عَلِم تأويل الرُّؤيا: وأنها نبوءة لأحداث سوف تقع؛ ولا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد علم أيضاً قدرة إخوة يوسف على تأويل تلك الرؤيا، ولو قالها يوسف لهم لَفهِموا المقصود منها، ولا بُدَّ حينئذ أن يكيدوا له كيداً يُصيبه بمكروه.
فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو ما زال طفلاً، فما باله بضيقهم إنْ عَلِموا مثل هذه الرؤيا التي سيجد له فيها الأب والأم مع الإخوة.
والمثال على ذلك: أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنساناً آخر صفعة على الخَدِّ؛ ولكنه بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك الإنسان، فيفكر أن يصفعه صفعتين بدلاً من صفعة واحدة؛ ثم يرى أن الصفعتين لا تكفيان؛ فيرغب أن يُزيد العدوان بأن يصوِّب عليه مسدساً؛ وهكذا يُصعِّد الشرير تفكيره الإجرامي.
أما الخَيِّر فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه «علقة» ؛ ولكنه يُقلِّل من التفكير في رَدِّ الاعتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربة صفعتين بدلاً من «العلقة»، ثم يهدأ قليلاً ويعفو عَمَّنْ أساء إليه.
وإخوة يوسف وهم الأسباط بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف، فقالوا لبعضهم:
ثم هبطوا عن هذه الدرجة المُؤْلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادةِ محبة أبيهم ليوسف، فقالوا: ﴿أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: ٩].
وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضاً ترددوا؛ واستبدلوا ذلك بإلقائه في الجُبِّ لعل أن يلتقطه بعض السيَّارة. فقالوا: ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة... ﴾
[يوسف: ١٠].
وهذا يدل على أنهم تنزَّلوا عن الانتقام الشديد بسبب الغيرة؛ بل إنهم فكروا في نجاته.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
والكيد: احتيال مستور لمَنْ لا تقوى على مُجَابهته، ولا يكيد إلا الضعيف؛ لأن القوي يقدر على المواجهة.
ولذلك يُقَال: إن كيد النساء عظيم؛ لأن ضعفهن أعظم.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
﴿إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [يوسف: ٥].
وهذه العداوة معروفة لنا تماماً؛ لأنه خرج من الجنة ملعوناً مطروداً؛ عكس آدم الذي قَبِل الله توبته؛ وقد أقسم الشيطان بعزة الله لَيُغْوِينَّ الكُلَّ، واستثنى عبادَ اللهِ المخلصين.
ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد أعانني الله على شيطاني فأسلم».
ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للإنسان أنها عداوةٌ مُبينة. أي: محيطة. وحين نقرأ القرآن نجد إحاطة الشيطان للإنسان فيها يقظة: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ... ﴾ [الأعراف: ١٧]
ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلام مخاطباً يوسف عليه السلام في هذه الآية:
﴿فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً﴾ [يوسف: ٥]، ولم يقل: فيكيدوك، وهذا من نَضْح نبوة يعقوب عليه السلام على لسانه؛ لأن هناك فارقاً بين العبارتين، فقول: «يكيدوك» يعني أن الشرَّ المستور الذي يدبرونه ضدك سوف يصيبك بأذى. أما ﴿فَيَكِيدُواْ لَكَ... ﴾ [يوسف: ٥] فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به إلحاق الشر بك سيكون لحسابك، ويأتي بالخير لك.
ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة: ﴿كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ... ﴾ [يوسف: ٧٦] أي: كدنا لصالحه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
ومعنى تأويل الشيء أي معرفة ما يؤول إليه الشيء، ونعلم أن الرُّؤى تأتي كطلاسم، ولها شَفرة رمزية لا يقوم بِحلِّها إلا مَنْ وهبه الله قدرة على ذلك؛ فهي ليست عِلْماً له قواعد وأصول؛ لأنها إلهامات من الله سبحانه وتعالى.
ويتابع الحق سبحانه:
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... ﴾ [يوسف: ٦].
فكل ما تَمَتَّع به يوسف هو من نعم الدنيا، وتاج نعمة الدنيا أن الله اجتباه رسولاً.
أو أن: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... ﴾ [يوسف: ٦].
بمعنى إلا تسلب منك النعمة أبداً؛ ففي حياة يوسف منصبٌ مهم، هو منصب عزيز مصر، والمناصب من الأغيار التي يمكن أن تنزع.
أو أن: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... ﴾ [يوسف: ٦].
بأن يصل نعيم دنياك بنعيم أُخْراك.
ويتابع الحق سبحانه:
﴿وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: ٦].
يُذكِّر الحق سبحانه يوسف عليه السلام بأن كيد إخوته له لا يجب أن يُحوِّله إلى عداوة؛ لأن النِّعم ستتم أيضاً على هؤلاء فهم آلُ يعقوب؛ هم وأبناؤهم حَفَدة يعقوب، وسينالهم بعضٌ من عِزِّ
وهو سبحانه أعلمُ بمَنْ يستحق حمْل الرسالة، وهو الحكيم الذي لا يترك شيئاً للعبث؛ فهو المُقدِّر لكل أمر بحيث يكون مُوافِقاً للصواب.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ... ﴾.
و «يوسف» اسم أعجمي؛ لذلك فهو «ممنوع من الصرف» أي: ممنوع من التنوين فلا نقول: في يوسفٍ.
و ﴿يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: ٧]
وهذا يعني أن ما حدث إنما يُلفِت لقدرة الله سبحانه؛ فقد أُلقِيَ في الجُبِّ وأُنقِذ ليتربى في أرقى بيوت مصر.
آية كونية: مثل الشمس والقمر والليل والنهار، تلك الآيات الكونية رصيد للنظر في الإيمان بواجب الوجود وهو الله سبحانه؛ فساعة ترى الكون منتظماً بتلك الدقة المتناهية؛ لا بُدًَّ أن تفكر في ضرورة وجود خالق لهذا الكون.
والآيات العجيبة الثانية هي المعجزات الخارقة للنواميس التي يأتي بها الرسل؛ لتدل على صدق بلاغهم عن الله، مثل النار التي صارت بَرْداً وسلاماً على إبراهيم، ومثل الماء الذي انفلق وصار كالطور العظيم أمام عصا موسى.
وهناك المعنى الثالث لكلمة آية، والمقصود بها آيات القرآن الكريم.
وفي قول الحق سبحانه:
﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: ٧].
وفي كل ذلك سَلْوى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لتثبيت فؤاده؛ فلا يُعِير بالاً لاضطهاد قومه له، وتآمرهم عليه، ورغبتهم في نَفْيه إلى الشام، ومحاولتهم قَتْله، ومحاولتهم مُقاطعته، وقد صاروا من بعد ذلك يعيشون في ظلال كَنفِه.
إذن: فلا تيأس يا محمد؛ لأن الله ناصرك بإذنه وقدرته، ولا تستبطئ نصر الله، أنت ومَنْ معك، كما جاء في القرآن. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤].
ويبين لنا الحق سبحانه ما حدث ليوسف بعد القهر الذي أصابه من إخوته، ويمر الوقت إلى أن تتحقق رؤيا الخير التي رآها يوسف عليه السلام.
ويُقال: إن رؤيا يوسف تحققت في فترة زمنية تتراوح بين
ولذلك نجد رُؤْيَا الخير يطول أَمَدُ تصديقها؛ ورُؤْيَا الشر تكون سريعة؛ لأن من رحمة الله أن يجعل رؤيا الشر يقع واقعاً وينتهي، لأنها لو ظلَّتْ دون وقوع لأمد طويل؛ لوقع الإنسان فريسةَ تخيُّل الشر بكُلِّ صوره.
والشر لا يأتي إلا على صورة واحدة، ولكن الخير له صور متعددة؛ فيجعلك الله مُتخيلاً لما سوف يأتيك من الخير بألوان وتآويل شتى.
والمثل لدعوة الشر هو دعوة موسى على آل فرعون؛ حين قال: ﴿رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ [يونس: ٨٨].
﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: ٧] فكل يوم من أيام تلك القصة هناك آية وتُجمع آيات.
وهناك قراءة أخرى: «لقد كان في يوسف وإخوته آية للسائلين» أي: أن كل القصة بكل تفاصيلها وأحداثها آية عجيبة.
والحق سبحانه أعطانا في القرآن مثلاً على جَمْع الأكثر من آية في آية واحدة، مثلما قال: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] مع أن كلاً منهما آية منفردة.
ولك أن تنظر إلى قصة يوسف كلها على أنها آية عجيبة تشمل كل اللقطات، أو تنظر إلى كل لقطة على أنها آية بمفردها.
ويقول الحق سبحانه في آخر هذه الآية أن القصة: ﴿آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: ٧].
والسائلون هنا إما من المشركين الذين حرَّضهم اليهود على أنْ
وأنت حين تقرأ السورة؛ قد تأخذ من الوقت عشرين دقيقة، هاتْ أنت أيَّ إنسان ليتكلم ثُلث ساعة، ويظل حافظاً لما قاله؛ لن تجد أحداً يفعل ذلك؛ لكن الحق سبحانه قال لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦].
ولذلك نجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحفظ ما أُنزل إليه من ربه، ويُمليه على صحابته ويصلي بهم؛ ويقرأ في الصلاة ما أُنزِل عليه، ورغم أن في القرآن آياتٍ متشابهات؛ إلا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يخطئ مرة أثناء قراءته للقرآن.
والأمثلة كثيرة منها قوله الحق: ﴿واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [لقمان: ١٧].
ومرة أخرى يقول: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] وكذلك قول الحق سبحانه:
وفي موقع آخر يقول الحق: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ [الطور: ١٧].
فكيف يتأتَّى لبشر أمي أن يتذكر كل ذلك، لولا أن الذي أنزل عليه الوحي قد شاء له ذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ... ﴾.
وتبدأ الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
﴿ذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا..﴾ [يوسف: ٨].
وحرف اللام الذي سبق اسم يوسف جاء للتوكيد، وكأنهم قالوا: والله إن أبانا يحب يوسف وأخاه أكثر من حُبِّه لنا. والتوكيد لا يأتي إلا بصدد إنكار.
وهذا يدل على أنهم مختلفون في أمر يوسف عليه السلام؛ فأحدهم يريد أن ينتقم من يوسف، وآخر يقترح تخفيف المسألة بإلقائه في الجب؛ ثم انتهوا إلى أن يوسف أحبُّ إلى أبيهم منهم.
وفي قولهم لَمْحة من إنصاف؛ فقد أثبتوا حب أبيهم لهم؛ ولكن قولهم به بعضٌ من غفلة البشر؛ لأنهم كان يجب أن يلتمسوا سبب زيادة حُبِّ أبيهم ليوسف وأخيه.
فيوسف وأخوه كانوا صِغَاراً وماتت أمهما؛ ولم يَعُدْ لهم إلا الأب الذي أحسَّ بضرورة أن يَجتمع فيه تجاههما حنانُ الأب وحنانُ الأم؛ ولأنهما صغارٌ نجد الأب يحنُو عليهما بما أودعه الله في قلبه من قدرة على الرعاية.
وهذا أمر لا دَخْل ليعقوب فيه؛ بل هي مسألة إلهية أودعها الله
وقد شاء سبحانه أن يجعل الحنان على قدر الحاجة؛ فالقطة على سبيل المثال إن اقتربَ أحد من صغارها المولودين حديثاً؛ تهجم على هذا الذي اقترب من صغارها.
ولذلك نجد العربي القديم قد أجاب على مَنْ سأله «أي أبنائك أحب إليك؟» فقال: «الصغير حتى يكبر؛ والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى».
وهذه مسألة نراها في حياتنا اليومية، فنجد امرأة لها ولدان، واحد أكرمه الله بسعة الرزق ويقوم بكل أمورها واحتياجاتها؛ والآخر يعيش على الكفاف أو على مساعدة أخيه له؛ ونجد قلبها دائما مع الضعيف.
ولذلك نقول: إن الحب مسألة عاطفية لا تخضع إلى التقنين؛ ولا تكليف بها؛ وحينما يتعرض القرآن لها فالحق سبحانه يوضح: أن الحب والبغض انفعالات طبيعية؛ فأحبِبْ مَنْ شئتَ وأبغِضْ مَنْ شئتَ؛ ولكن إياك أن تظلم الناس لمن أحببت؛ أو تظلم مَنْ أبغضت.
فأحبب مَنْ شئتَ، وأبغض مَنْ شئتَ، ولكن لا تظلم بسبب الحب أو البغض.
وقد يقول قائل: ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه».
نقول: اقرأ ما جاء في نفس رواية الحديث؛ فقد قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بوضوحه وصراحته وجراءته؛ دون نفاق: أحبك يا رسول الله عن مالي وعن ولدي أما عن نفسي؛ فلا، فكرر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه».
وحب العقل كما نعلم هو أن تُبصر الأمر النافع وتفعله؛ مثلما تأخذ الدواء المُرَّ؛ وأنت تفعل ذلك بحبٍّ عقلي؛ رغبةً منك في أن يأذن الحق بالشفاء.
والمسلم يحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعقله؛ لأنه يعلم أنه لولا مجيء رسول الله لما عرف حلاوة الإيمان، وقد يتسامى المسلم في حُبِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن يصير حب الرسول في قلبه حباً عاطفياً.
وهكذا نرى أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قد أوضح لنا الخطوط الفاصلة بين مباديء الحب العقلي والحب العاطفي.
والمثال الآخر من سيرة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في نفس المسألة؛ حب العقل وحب العاطفة؛ حين مَرَّ عليه قاتل أخيه؛ فقال واحد ممَّنْ يجلسون معه: هذا قاتل أخيك. فقال عمر: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟
وصرف عمر وجهه بعيداً عن قاتل أخيه؛ فجاء القاتل إليه قائلاً: لماذا تزوي وجهك عني؟ قال عمر: لأنِّي لا أحبك، فأنت قاتل أخي. فقال الرجل: أو يمنعني عدم حبك لي من أيِّ حق من حقوقي؟ قال عمر: لا. فقال الرجل: «لك أن تحب مَنْ تريد، وتكره مَنْ تريد، ولا يبكي على الحب إلا النساء».
وكان على إخوة يوسف أن ينتبهوا إلى حب والدهم ليوسف
وتستمر القصة بما فيها من تصعيد للخير وتصعيد للشر؛ ولسائل أن يسأل: ولماذا أنصبَّ غضبهم على يوسف وحده؟
ويقال: إنهم لم يرغبوا أنْ يَفْجعوا أباهم في الاثنين يوسف وأخيه أو أن شيئاً من رؤيا يوسف تسرب إليهم.
ومن العجيب أن يقولوا بعد ذلك: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف: ٨].
والعصبة من عدد عشرة فما فوق؛ والعصبة أيضاً هم المُتكاتفون المُتعصِّبون لبعضهم البعض؛ وهم الذين يقومون بالمصالح ويقضون الحاجات؛ وقد تقاعد أبوهم؛ وترك لهم إدارة أعمال العائلة.
وقالوا: «ما دُمْنَا نقوم بمصالح العائلة، فكان من الواجب أن يَخُصَّنا أبونا بالحب» ولم يلتفتوا إلى أنهم عُصْبة، وهذا ما جعل الأب يحبهم، لكنه أعطى مَنْ ليسوا عصبة مزيداً من الرعاية، ولكنهم سدروا في غَيِّهم، ووصلوا إلى نتيجة غير منطقية وهي قولهم:
وهذا القول هو نتيجة لا تنسجم مع المقدمات، فيوسف وأخوه طفلان ماتت أمهما، ولا بُدَّ أن يعطف عليهم الأب؛ وحبُّه لهما لم يمنع حبه للأبناء الكبار القادرين على الاعتماد على أنفسهم.
وحين يقولون:
﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [يوسف: ٨]
قد يفهم بعض الناس كلمة «ضلال» هنا بالمعنى الواسع لها.
نقول: لا؛ لأن هناك ضلالاً مقصوداً، وهو أن يعرف طريق الحق ويذهب إلى الباطل، وهذا ضلال مذموم.
وهناك ضلال غير مقصود، مثل: ضلال رجل يمشي فيسلك طرقاً لا يعرفها فيضل عن مقصده؛ ومثل مَنْ ينسى شيئاً من الحق. وسبحانه القائل: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى... ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
وسبحانه القائل أيضاً: ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾ [الضحى: ٧].
إذن: فالضلال المذموم هو أن تعرف طريق الحق، وتذهب إلى الضلال.
وهكذا أخطأ إخوة يوسف في تقدير أمر حُبِّ أبيهم ليوسف
﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [يوسف: ٨].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على ألسنة إخوة يوسف: ﴿اقتلوا يُوسُفَ... ﴾.
فكأنهم خافوا من إثم القتل؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحبِّ أبيهم؛ لأنهم قالوا: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: ٩].
والوجه هو الذي تتم به المواجهة والابتسام والحنان، وهو ما تظهر عليه الانفعالات.
والمقصود ب: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: ٩]،
وقولهم: ﴿وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾ [يوسف: ٩]، أي: أنهم يُقدِّرون الصلاح؛ ويعرفون أن الذي فكَّروا فيه غيرُ مقبول بموازين الصلاح؛ ولذلك قالوا: إنهم سيتوبون من بعد ذلك.
ولكن: ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا؟ وهم بقولهم هذا نَسُوا أن أمر المَوْت قد أبهم حتى لا يرتكب أحدٌ المعاصيَ والكبائرَ.
أو: أن يكون المقصود ب: ﴿قَوْماً صَالِحِينَ﴾ [يوسف: ٩]، هو أن يكونوا صالحين لحركة الحياة، ولعدم تنغيص علاقتهم بأبيهم؛ فحين يخلُو لهم وجهه؛ سيرتاحون إلى أن أباهم سيعدل بينهم، ويهبُهم كل حبه فيرتاحون.
أو أن يكون المقصود ب: ﴿قَوْماً صَالِحِينَ﴾ [يوسف: ٩]، أن تلك المسألة التي تشغل بالهم وتأخذ جزءاً من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلاً؛ فسيرتاح بالهم فينصلح حالهم لإدارة شئون دنياهم.
وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلاح: منوط بمراداتهم في الحياة، بحسب مفهومهم للصلاح والحياة.
ولم يحدد الحق سبحانه لنا اسم القائل حتى يعصمهم جميعاً من سوء الظن بهم.
والجب هو البئر غير المطوي؛ ونحن نعلم أن الناس حين تحفر بئراً، فمياه البئر تتدفق طوال الوقت؛ وقد يأتي الردم فيسُدُّ البئر؛ ولذلك يبنون حول فُوَّهة البئر بعضاً من الطوب لحمايته من الرَّدْم؛ ويسمون مثل هذا البئر «بئر مطوي»، وهكذا تظل المياه في البئر في حالة استطراق.
ولسائل أن يقول: وكيف يتأتَّى إلقاؤه في مكان مَخْفيٍّ مع قول أحد الإخوة: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠].
ونقول: إن في مثل هذا القول تنزيلاً لدرجة الشر التي كانت مُتوقِّدة في اقتراح بعضهم بقتل يوسف؛ وفي هذا الاقتراح تخفيض لمسألة القتل أو الطّرْح أرضاً.
وبعد ذلك عاد القائل لحالته العادية، وصَحَتْ فيه عاطفة الأخوة؛ وقال:
﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [يوسف: ١٠]، أي: أنه توقع عدم رفضهم لاقتراحه.
وهكذا يشرح لنا الحق سبحانه كيف تمَّتْ تصفية هذه المسألة؛ فلم يقف صاحب هذا الرأي بالعنف ضد اقتراح إخوته بقتل يوسف أو طَرْحه في الأرض؛ بل أخذ يستدرجهم ليستلَّ منهم ثورة الغضب؛ فلم يَقُلْ لهم «لا تقتلوه»، ولكنه قال: «لا تقتلوا يوسف».
وفي نُطْقِه للاسم تحنين لهم.
﴿وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [يوسف: ١٠].
وكأنه يأمل في أن يتراجعوا عن مخططهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿قَالُواْ ياأبانا... ﴾.
وساعة تسمع قول جماعة؛ فاعلم أن واحداً منهم هو الذي قال، وأمَّنَ الباقون على كلامه؛ إِما سُكوتاً أو بالإشارة.
ولكي يتضح ذلك اقرأ قول الحق سبحانه عن دعاء موسى عليه السلام على فرعون وكان معه هارون.
ورد الحق سبحانه على دعاء موسى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا... ﴾ [يونس: ٨٩].
والذي دعا هو موسى، والذين أمَّنَ على الدعوة هو هارون عليه السلام.
وهكذا نفهم أن الذي قال:
﴿ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ [يوسف: ١١].
تلك الكلمات التي وردتْ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، هو واحد من إخوة يوسف، وأمَّن بقية الإخوة على كلامه.
وقولهم: ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ [يوسف: ١١]، يدل أنه كانت هناك محاولات سابقة منهم في ذلك، ولم يوافقهم الأب.
يعني أنهم سوف ينتبهون له، ولن يحدث له ضرر أو شرّ؛ وسيعطونه كل اهتمام فلا داعي أن يخاف عليه الأب.
ويستمر عَرْض ما جاء على لسان إخوة يوسف: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً... ﴾.
ويُفضِّل الشرع أن يكون اللعب في مجال قد يطلبه الجدُّ مستقبلاً؛ كأن يتعلمَ الطفلُ السباحةَ، أو المصارعة، أو إصابة الهدف؛ وهي الرماية وهكذا نفهم معنى اللعب: إنه شُغُل لا يُلهِي عن واجب، أما اللهو فهو شغُلُ يُلهِي عن واجب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿قَالَ إِنِّي ليحزنني..﴾.
﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ [يوسف: ١٣] وقال بعض الناس: لقد علَّمهم يعقوب الكذبة؛ ولولا ذلك ما عرفوا أن يكذبوها.
ونلحظ أن يعقوب جعل للأخوة لَحْظاً؛ فلم يقل: «أخاف أن يأكله الذئب وأنتم قاعدون» بل قال:
﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ [يوسف: ١٣].
ونلحظ في ردِّهم عجزَهم عن أنْ يردوا على قوله:
﴿قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ..﴾ [يوسف: ١٣].
فهذا الحب من يعقوب ليوسف هو الذي دفعهم إلى الحقد على يوسف، ورَدُّوا فقط على خوفه من أنْ يأكله الذئب، وجاء القرآن بما قالوه: ﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ... ﴾.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
﴿وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب... ﴾ [يوسف: ١٥] يدلنا على أن تلك المسألة أخذتْ منهم مناقشة، فيها أَخْذٌ ورَدٌّ، إلى أن استقروا عليها.
وألهم الحق سبحانه يوسف عليه السلام بما سوف يفعلونه، والوحي كما نعلم هو إعلام بخفاء.
وسوف يأتي في القصة أن يوسف عليه السلام بعد أن تولى الوزارة في مصر ودخلوا عليه أمسك بقدح ونقر عليه بأصابعه، وقال لهم: اسمعوا ما يقوله القدح؛ إنه يقول: إن لكم أخاً وقد فعلتم به كذا وكذا.
ونقول: إن الوَحْي إعلام بخفاء، ولا يمكن أن يشعر به غير المُوحَى إليه، وعلى ذلك نرى أنهم لم يعلموا هذا الأمر إلا بعد أن تولى يوسف مقاليد الوزارة في مصر؛ بل إنهم لم يعرفوا أن يوسف أخوهم؛ لأنهم قالوا له لحظتها: ﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧].
والمقصود بالوحي في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو إيناس الوَحْشة؛ وهو وارد إلهي لا يرده وارد الشيطان؛ والإلهام وارد بالنسبة لمَنْ هم غير أنبياء؛ مثلما أوضحنا الأمر الذي حدث مع أم موسى حين أوحى لها الله أن تلقيه في اليم.
فكان لا بُدَّ أن تعطيه السماء دليلاً على أن ما حدث له ليس جَفْوة لك يا يوسف؛ ولكنه إعداد لك لتقابل أمراً أهمَّ من الذي كنت فيه؛ وأن غُرمَاءك وهم إخوتك سوف يُضطَّرون لدقِّ بابك ذات يوم يطلبون عَوْنك، ويطلبون منك أقواتهم، وستعرفهم أنت دون أن يعرفوك.
هذا من جهة يوسف؛ وجهة الجُبِّ الذي ألقوْه فيه، وبقي أن تعالج القصة أمر الإخوة مع الأب، فيقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وجآءوا أَبَاهُمْ... ﴾.
هذا هو الانفعال النفسي الذي لا تستطيع فطرة أن تثبته؛ فقالوا: نؤخر اللقاء لأبينا إلى العشاء: والعشاء مَحَلُّ الظلمة، وهو ستر للانفعالات التي توجد على الوجوه من الاضطراب؛ ومن مناقضة كذب ألسنتهم؛ لأنهم لن يخبروا الأب بالواقع الذي حدث؛ بل بحديث مُخْتلق.
وقد تخدعهم حركاتهم، ويفضحهم تلجلجهم، وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم؛ فقالوا: الليل أخْفَى للوجه من النهار، وأستَر للفضائح؛ وحين ندخل على أبينا عِشَاءً؛ فلن تكشفنا انفعالاتنا.
وبذلك اختاروا الظرف الزمني الذي يتوارون فيه من أحداثهم:
﴿وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ﴾ [يوسف: ١٦].
والبكاء انفعال طبيعي غريزي فطريّ؛ ليس للإنسان فيه مجال اختيار؛ ومَنْ يريد أن يفتعله فهو يتباكى، بأن يَفْرُك عينيه، أو يأتي ببعض ريقه ويُقرِّبه من عينيه، ولا يستر ذلك إلا أن يكون الضوء
والحق سبحانه حينما تكلم عن الخصائص التي أعطاها لذاته، ولم يُعْطِها لأحد من خلقه؛ أعلمنا أنه سبحانه هو الذي يميت ويحي، وهو الذي يُضحك ويُبْكي.
والحق سبحانه هو القائل: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم: ٤٣ - ٤٤].
ولا يوجد فَرْق بين ضحك أو بكاء إنسان إنجليزي وآخر عربي؛ ولا يوجد فرق بين موت أو ميلاد إنسان صيني وآخر عربي أو فرنسي؛ فهذه خصائص مشتركة بين كل البشر.
وإذا ما افتعل الإنسان الضحك؛ فهو يتضاحك؛ وإذا ما افتعل الإنسان البكاء فهو يتباكى؛ أي: يفتعل الضحك أو البكاء. والذي يفضح كل ذلك هو النهار.
والتاريخ يحمل لنا الكثير من الحكايات عن اتخاذ الليل كستار للمواقف؛ والمثل في سيدنا الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه؛ حين جاءت موقعة كربلاء، ورأى العدو وقد أحاط به؛ ورأى الناس وقد انفضوا عنه بعد أن دَعَوْهُ ليبايعوه، ولم يَبْقَ معه إلا قلة؛ وعَزَّتْ عليه
فلما أقبل الليل دعا أصحابه وقال لهم:
«إن كنتم قد استحييتم أن تفروا عني نهاراً، فالليل جاء وقد ستركم، فمَنْ شاء فليذهب واتركوني».
يقص الحق سبحانه ما بدر منهم فَوْرَ أنْ دخلوا على أبيهم: ﴿قَالُواْ ياأبانآ... ﴾.
وقد يكون الاستباق في حركة بآلة؛ كان يمسك إنسان ببندقية ويُصوِّبها إلى الهدف؛ ويأتي آخر ويمسك ببندقية أخرى ويحاول أن يصيب الهدف؛ ومَنْ يسبق منهما في إصابة الهدف يكون هو المتفوق في هذا المجال.
وقد يكون الاستباق في الرمي بالسهام؛ ونحن نعرف شكل السهم؛ فهو عبارة عن غُصْن مَرنٍ، يلتوي دون أن ينكسر؛ ومُثبَّت عليه وتر، ويوضع السهم في منتصف الوتر، ليشده الرامي فينطلق السهم إلى الهدف.
وتُقَاسُ دقة إصابة الهدف حسب شدة السهم وقوة الرمي، ويسمى ذلك «تحديد الهدف».
أما إذا كان التسابق من ناحية طول المسافة التي يقطعها السهم؛ فهذا لقياس قوة الرامي.
وهكذا نجد الاستباق له مجالات متعددة؛ وكل ذلك حلال؛ فهم أسباط وأولاد يعقوب، ولا مانع أن يلعب الإنسان لُعْبة لا تُلهِيه عن واجبه؛ وقد تنفعه فيما يَجِدُّ من أمور؛ فإذا التقى بعدو نفعه التدريب على استخدام السهم أو الرمح أو أداة قتال؛ واللعب الذي لا يَنْهي عن طاعة، وينفع وقت الجد هو لَعِب حلال.
وأقول: قد يوجد عَدوَّانِ؛ وبينهما قنبلة موقوتة؛ ويحاول كل طرف أن يبعدها عن موقعه، والقوة والحكمة تظهر في محاولة كل فريق في إبعاد الكرة عن مرماه.
ولكن لا بد ألا يُلْهِي لعب الكرة عن واجب؛ فمثلاً حين يؤذن المؤذن للصلاة، والوَاجب علينا ألا نهمل الصلاة ونواصل اللعب، وعلى اللاعبين أن يُراعُوا عدم ارتداء ملابس تكشف عن عوراتهم.
وأبناء يعقوب قالوا:
﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا... ﴾ [يوسف: ١٧].
وفي هذا إخلال بشروط التعاقد مع الأب الذي أذِنَ بخروج يوسف بعد أن قالوا: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ [يوسف: ١٢].
وقالوا: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ [يوسف: ١١].
وقالوا: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [يوسف: ١٢].
فهل أخذتموه معكم ليرتع ويلعب، ويأكل من ثمار الأشجار والفاكهة؛ وتحفظونه، أم ليحفظ لكم متاعكم وأنتم تستبقون.
﴿فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: ١٧].
أو: أنهم قالوا ذلك لأنهم يعلمون أن والدهم لن يُصدِّقهم مهما قالوا. ونعلم أن «آمن» إما أن تتعدى إلى المفعول بنفسها مثل «آمنه الله من الجوع»، أو قوله الحق: ﴿وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤].
أو: تجئ بالباء، ويُقال «آمن به» أي: صدَّق واعتقد.
أو: يُقَال «آمن له» أي: صدَّقه فيما يقول.
وهم هنا يتهمون أباهم أنه مُتحَدٍّ لهم، حتى ولو كانوا صادقين، وهم يعلمون أنهم غير صادقين؛ ولكن جاءوا بكلمة الصدق ليداروا كذبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَجَآءُو على قَمِيصِهِ....﴾.
ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص:
فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب.
وفي أواسط السورة تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد شُقَّ من دُبُرٍ لحظة أنْ جذبتْه امرأة العزيز لتراوده عن نفسه.
وفي آخر السورة يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره.
ولهذا أخذ العلماء والأدباء كلمة القميص كرمز لبعض الأشياء؛ والمثل هو قول الناس عن الحرب بين علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ومعاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
وهنا يقول الحق سبحانه:
﴿وَجَآءُو على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: ١٨]، وكأن القميص كان معهم، ووضعوا عليه دماً مكذوباً، لأن الدم لا يكذب، إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على القميص.
وشاء الحق سبحانه هنا أن يُعطي الوصف المصدري للمبالغة؛ وكأن الدم نفسه هو الذي كذب؛ مثلما تقول «فلان عادل» ويمكنك أن تصف إنساناً بقولك «فلان عَدْل» أي: كأن العدل تجسَّد فيه، أو قد تقول «فلان ذو شر»، فيرد عليك آخر «بل هو الشر بعينه»، وهذه مبالغة في الحديث.
وهل كان يمكن أن يُوصف الدم بأنه صادق؟
نقول: نعم، لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل؛ وتلوَّث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق. ولكن ذلك لم يحدث، بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول «أنا كذب».
فلو كان قد أكله الذئب فعلاً؛ كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه؛ ولكنهم جاءوا بدم الشاة ولطخوا به القميص من الخارج.
وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم؛ أشار أحدهم خفية للباقين وقال لهم همساً: قولوا لأبيكم: إن اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه؛ فسمع يعقوب الهمس فقال: اللصوص أحوَجُ لقميصه من دمه؛ وهذا ما تقوله كتب السير.
وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب، هذه الفراسة التي يتحلى بها أيُّ محقق في قضية قتل؛ حين يُقلِّب أسئلته للمتهم وللشهود؛ لأن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من واقع؛ بل يستوحي أقواله من خيال مضطرب.
ولذلك يقال: «إن كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً».
ويأتي هنا الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب:
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨].
«والسَّوَل» : هو الاسترخاء؛ لأن الإنسان حين تكون أعصابه
ونأخذ ﴿سَوَّلَتْ... ﴾ [يوسف: ١٨] هنا بمعنى يَسَّرت وسهَّلتْ، وما دامت قد سوَّلتْ لكم أنفسكم هذا الأمر فسوف أستقبله بما يليق بهذا الوضع، وهو الصبر.
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ... ﴾ [يوسف: ١٨].
والذين يحاولون اصطياد خطأ في القرآن يقولون «وهل يمكن أن يكون الصبر جميلاً؟».
نقول: هم لا يعرفون أن الصبر يُقال فيه «اصبر عن كذا» إذا كان الأمر عن شهوة قد تُورِث إيلاماً؛ كأن يُقال «اصبر عن الخمر» أو «اصبر عن الميسر» أو «اصبر عن الربا».
ويُقال «اصبر عن كذا» إذا كان الصبر فيه إيلام لك. والصبر يكون جميلاً حينما لا تكون فيه شكوى أو جزع.
والحق سبحانه يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً﴾ [المزمل: ١٠].
وهؤلاء الذين يبحثون عن تناقض أو تضارب في القرآن إنما هم قوم لا يعرفون كيفية استقباله وفهمه؛ وقد بيَّن لنا يعقوب عليه السلام أن الصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه، وهو القائل: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله... ﴾ [يوسف: ٨٦].
ولذلك يقول يعقوب عليه السلام هنا:
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ..﴾ [يوسف: ١٨]، ويتبعها: ﴿والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨]، كأن الصبر الجميل أمر شاقٌّ على النفس البشرية، ولم يكُنْ يعقوب قادراً على أن يُصدِّق ما قاله أبناؤه له؛ فكيف يُصدِّق الكذب؟ وكيف يمكن أن يواجه أبناءه بما حدث منهم؟ وهم أيضاً أبناؤه؛ لكنه كان غير قادر على أن يكشف لهم كذبهم.
والمثل لذلك ما جاء في التراث العربي حين قِيلَ لرجل: إن ابنك قد قتل أخاك، فقال:
أقولُ لنفسِي تأساء وتعزيةً | إحدى يديَّ أصَابتْنِي ولم تُردِ |
كِلاهُمَا خلف عَْن فَقْدِ صاحبِه | هذا أخي حين أدعُوه وذَا ولدِي |
إنها مسألة تعزُّ على خَلْق الله؛ ولابد أن يفزع فيها الإنسان إلى الله؛ ولذلك علَّمنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة؛ وحزبه أمر
﴿والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨].
وقوله: «تصفون» يعني: أنكم لا تقولون الحقيقة، بل تصفون شيئاً لا يصادف الواقع، مثل قوله تعالى:
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ... ﴾ [النحل: ١١٦].
أي: أن ألسنتكم نفسها تَصِفُ الكلام أنه كذب.
والحق سبحانه يقول: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠].
وتعني أن هؤلاء الذين قالوا ما قيل عنه أنه وصف قد كذبوا فيما قالوا؛ وكان مصير كذبهم مفضوحاً.
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨].
وهكذا عبّر يعقوب عليه السلام عن نفسه؛ فالجوارح قد تكون ساكنة؛ لكن القلب قد يزدحم بالهموم ويفتقد السكون؛ لذلك لا بد من الاستعانة بالله.
فأنت تقف لعبادة الله وبين يديه؛ لكن الدنيا قد تشغلك عن العبادة أثناء أداء العبادة نفسها: لذلك تستعين بخالقك لتُخلِص في عبادتك.
وبعد أن عرض الحق سبحانه لموقف الأب مع أولاده، نأتي لموقف يوسف عليه السلام في الجُبِّ.
يقول سبحانه: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ..﴾.
والمقصود بالسيارة هم القوم المحترفون للسير، مثل مَنْ كانوا يرحلون في رحلة الشتاء والصيف؛ بهدف التجارة وجَلْب البضائع.
وكانت السيارة لا تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر، بل يذهب واحد منهم إلى البئر؛ ليأتي لهم بالمياه ويُسمَّى الوارد، وذهب هذا الوارد إلى البئر ليُحضِر لبقية السيارة الماء وألقى دَلْوه في البئر؛ ويسمى حبل الدلو الرشاء.
وحين نزل الدلو إلى مستوى يوسف عليه السلام تعلق يوسف في الحبل؛ فأحسَّ الوارد بثقل ما حمله الرشاء؛ ونظر إلى أسفل؛ فوجد غلاماً يتعلق بالدلو فنادى:
﴿يابشرى هذا غُلاَمٌ﴾ [يوسف: ١٩].
أي: أنه يقول يا بشرى هذا أوانك؛ وكأنه يبشر قومه بشيء طيب؛ فلم يحمل الدلو ماء فقط، بل حمل غلاماً أيضاً.
ويقول الحق سبحانه: ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ [يوسف: ١٩].
أي: أنهم أخفوْه وعاملوه كأنه بضاعة، ولم يتركوه يمشي بجانبهم؛
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله:
﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: ١٩].
وهذا قول يعود على مَنْ أسرُّوه بضاعة؛ وهم الذين عرضوه للبيع. ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ... ﴾.
والبخس أي: النقص، وهو إما في الكم أو في الكَيْف؛ فهو يساوي مثلاً مائة درهم وهم باعوه بعشرين درهماً فقط؛ وكان العبد في عُمر يوسف يُقوَّم بالنقد؛ وهم باعوه بالبخْس، وبثمن أقل قيمة إما كَمّاً وإما كَيْفاً.
﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ [يوسف: ٢٠]، والزهد هنا هو حيثية الثمن البَخْس؛ فهُم قد خافوا أن يبحث عنه أبوه أو صاحبه؛ وكأنهم قالوا لأنفسهم: أي شيء يأتي من ورائه فهو فائدة لنا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَقَالَ الذي اشتراه... ﴾.
وهذه اللقطة تبين لنا الفساد الذي ينشأ في البيوت التي تتبنى طفلاً، لكنهم لا يحسبون حساب المسألة حين يبلغ هذا الطفل مبلغ الرجال، وقد تعوَّد أن تحمله ربة البيت وتُقبِّله، وتغدق عليه من التدليل ما يصعب عليها أن تمتنع عنه؛ ولأن الطفل يكبر انسيابياً؛ فقد يقع المحظور وندخل في متاهة الخطيئة.
ويقول الحق سبحانه:
﴿وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ [يوسف: ٢١].
وهذا يعني أن تعتني بالمكان الذي سيقيم فيه، وبطبيعة الحال فهذا القول يقتضي أن تعتني بالولد نفسه؛ على رجاء أن ينتفع به الرجل وزوجته.
ولسائل أن يقول: كيف ينتفع به الرجل؛ وهو عزيز مصر، والكُلُّ في خدمته؟
ونقول: إن النفع المقصود هنا هو النفْع الموصول بعاطفة مَنْ ينفع؛ وهو غير نفع الموظفين العاملين تحت قيادة وإمرة عزيز مصر، فعندما ينشأ يوسف كابن للرجل وزَوْجه؛ وكإنسان تربَّى في بيت الرجل؛ هنا ستختلف المسألة، ويكون النفع مُحَمَّلاً بالعاطفة التي قال عنها الرجل:
وقد عَلِمنا من السِّيَر أنهما لم يُرزَقا بأولاد.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية:
﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٢١].
وقد بدأ التمكين في الأرض من لحظة دخوله إلى بيت عزيز مصر ليحيا حياة طيبة؛ وليعلمه الله تأويل الحديث؛ بأن يهبه القدرة على تفسير الرُّؤى والأحلام؛ وليغلب الله على أمره.
ولو نظر إخوته إلى ما آل إليه يوسف عليه السلام فسيعرفون أن مرادهم قد خاب؛ وأن مراد الله قد غلب؛ بإكرام يوسف؛ وهم لو علموا ذلك لَضَنَّوا عليه بالإلقاء في الجُبِّ، وهذا شأن الظالمين جميعاً.
ولذلك نقول: إن الظالم لو عَلِم ما أعدَّه الله للمظلوم لَضَنَّ عليه بالظلم.
وساعة يقول الحق سبحانه:
﴿والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ... ﴾ [يوسف: ٢١].
فهذا قول نافذ؛ لأنه وحده القادر على أن يقول للشيء كُنْ فيكون؛ ولا يوجد إله غيره ليرد على مراده.
ولكن خيبة بعض من الخلق الذين يتوهمون أنهم قادرون على أن يُخطِّطوا ويمكروا؛ متناسين أو ناسين أن فوقهم قَيُّوم؛ لا تأخذه سنة ولا نوم، ولو انتبه هؤلاء لَعلِمُوا أن الله يُملِّك بحق مَنْ يُظلم فوق إلى ظَلمه.
ورأينا في حياتنا وتاريخنا ظالمين اجتمعوا على ظُلْم الناس؛ وكان مصيرهم أسوأ من الخيال؛ وأشد هَوْلاً من مصيرهم لو تحكم فيهم مَنْ ظلموهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ... ﴾.
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [يوسف: ٢٢] أي: وصل إلى غايته في النُّضْج والاستواء؛ ومن كلمة «بلغ» أخذ مصطلح البلوغ؛ فتكليف الإنسان يبدأ فَوْرَ أن يبلغ أشده؛ ويصير في قدرة أن ينجب إنساناً مثله.
وحين يبلغ إنسانٌ مثل يوسف أشده، وهو قد عاش في بيت ممتليء بالخيرات؛ فهذا البلوغ إنْ لم يكُنْ محروساً بالحكمة والعلم؛ ستتولد فيه رعونة؛ ولهذا فقد حرسه الحق بالحكمة والعلم.
والحُكْم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين؛ حق وباطل؛ وما دام قد أعطاه الله الحُكْم، فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ.
وقد أعطاه الله العلم الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير، والذي سيكون منه تأويل الرؤى، وغير ذلك من العلم الذي سوف يظهر حين يولى على خزانة مصر.
إذن: فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم. ويُذيِّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله:
﴿وكذلك نَجْزِي المحسنين﴾ [يوسف: ٢٢].
وكل إنسان يُحسِن الإقامة لِمَا هو فيه؛ يعطيه الله ثمرة هذا
وهكذا نجد قول الحق سبحانه:
﴿وكذلك نَجْزِي المحسنين﴾ [يوسف: ٢٢].
لا ينطبق على يوسف وحده؛ بل على كل مَنْ يحسن استقبال قَدَرِ الله؛ لأنه سبحانه ساعة يأتي بحُكْم من الأحكام؛ وبعد ذلك يعمِّم الحكم؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس خاصاً بل هو عام.
وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها، فإنه يقرر بعدها أن كل مُحْسِن يعطيه الله الحُكْم والعلم.
وقول الحق سبحانه:
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ..﴾ [يوسف: ٢٢].
يوحي لنا أن يوسف عليه السلام كان قد بلغ مرحلة الفتوة، وهنا بدأت متاعبه في القَصْر، ففي طفولته نظرتْ إليه امرأة العزيز كطفل جميل؛ فلم يكُنْ يملك ملامح الرجولة التي تهيج أنوثتها.
أما بعد البلوغ فنجد حالها قد تغيَّر، فقد بدأت تدرك مفاتنه؛ وأخذ خيالها يسرح فيما هو أكثر من الإدراك، وهو التهاب الوجدان
ولو كانت محجوبة عنه؛ لما حدثت الغواية بالإدراك والوجدان.
وهذا يعطينا عِلَّة غَضِّ البصر عن المثيرات الجنسية؛ لأنك إنْ لم تغضّ البصر أدرَكتَ، وإن أدركتَ وجدتَ، وإن وجدتَ نزعتَ إلى الزواج أو التعفف بالكبْت في النفس، وتعيش اضطراب القلق والتوتر، وإن لم تتعفف عربدتَ في أعراض الناس.
وكذلك أمرنا الحق سبحانه ألا تُبدِي النساء زينتهن إلا لأناس حددهم الحق سبحانه في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء..﴾ [النور: ٣١].
وكانت نظرة امرأة العزيز إلى يوسف عليه السلام وهو في فتوته، بعد أن بلغ أَشُدَّه نظرةً مختلفة، يوضحها الله تعالى في قوله: ﴿وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ... ﴾.
والمُرَاودة مطالبةٌ برفق ولين بستر ما تريده مِمَّنْ تريده؛ فإنْ كان الأمر مُسهَّلاً، فالمُراودة تنتهي إلى شيء ما، وإنْ تأبَّى الطرف
وهكذا راودتْ امرأة العزيز يوسف عليه السلام، أي: طالبته برفق ولين في أسلوب يخدعه لِيُخرِجه عمَّا هو فيه إلى ما تطلبه.
ومن قبْل كان يوسف يخدمها، وكانت تنظر إليه كطفل، أما بعد أن بلغ أَشُده فقد اختلف الأمر، ولنفرض أنها طالبته أن يُحضر لها شيئاً؛ وحين يقدمه لها تقول له «لماذا تقف بعيداً؟» وتَدعوه ليجلس إلى جوارها، وهو لن يستطيع الفكاك؛ لأنه في بيتها؛ وهي مُتمكِّنة منه؛ فهي سيدة القصر.
وهكذا نجد أن المسألة مجموعة عليه من عدة جهات؛ فهو قد تربَّى في بيتها؛ وهي التي تتلطف وترقُّ معه، وفَهِم هو مرادها.
وهكذا شرح الحق سبحانه المسألة من أولها إلى آخرها بأدب رَاقٍٍ غير مكشوف، فقال تعالى:
﴿وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبواب... ﴾ [يوسف: ٢٣].
وكلمة: ﴿وَغَلَّقَتِ الأبواب... ﴾ [يوسف: ٢٣].
توضح المبالغة في الحدث؛ أو لتكرار الحَدث، فهي قد أغلقت أكثرَ من باب. ونحن حين نحرك المزلاج لنؤكد غَلْق الباب، ونحرك المفتاح، ونديره لتأكيد غَلْق الباب.
وامرأة العزيز قامت بأكثر من إغلاق لأكثر من باب، فَقُصور العظماء بها أكثر من باب، وأنت لا تدخل على العظيم من هؤلاء في بيته لتجده في استقبالك بعد أول باب، بل يجتاز الإنسان أكثر من باب لِيَلقى العظيم الذي جاء ليقابله.
يحمل لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الذي رفض أن يبايع معاوية في المدينة، فأمر معاوية باستدعائه إلى قصر الحكم في دمشق.
هذا القصر الذي سبق أن زاره عمر بن الخطاب؛ ووجد فيه أبهة زائدة بررها له معاوية بحيلة الأريب أنها أُبهة ضرورية لإبراز مكانة العرب أمام الدولة الرومانية المجاورة، فسكتَ عنها عمر.
وحين استدعى معاوية الرجل، دخل بصحبة الحرس من باب، وظن أنه سوف يلقى معاوية فَوْر الدخول؛ لكن الحرس اصطحبه عبر أكثر من باب؛ فلم ينخلع قلب الرجل، بل دخل بثبات على معاوية وضَنَّ عليه بمناداته كأمير المؤمنين، وقال بصوت عال:
ففطن معاوية إلى أن الرجل يرفض مبايعته.
ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ فنجد أن امرأة العزيز قد غلَّقتْ الأبواب؛ لأن مَنْ يفعل الأمر القبيح يعلم قُبْح ما يفعل، ويحاول أن يستر فِعْله، وهي قد حاولتْ ذلك بعيداً عن مَنْ يعملون أو يعيشون في القصر، وحدثتْ المراودة وأخذتْ وقتاً، لكنه فيما يبدو لم يَستجِبْ لها.
﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ... ﴾ [يوسف: ٢٣] أي: أنها انتقلتْ من مرحلة المُراودة إلى مرحلة الوضوح في طلب الفعل؛ بأن قالت: تهيأتُ لك؛ وكان ردُّه:
﴿قَالَ مَعَاذَ الله... ﴾ [يوسف: ٢٣].
والمَعَاذ هو مَنْ تستعيذ به، وأنت لا تستعيذ إلا إذا خارتْ أسبابك أمام الحدث الذي تمرُّ به عَلَّك تجد مَنْ ينجدك؛ فكأن المسألة قد عَزَّتْ عليه؛ فلم يجد مَعَاذاً إلا الله.
ولا أحد قادر على أن يتصرف هكذا إلا مَنْ حرسه الله بما أعطاه له من الحكمة والعلم؛ وجعله قادراً على التمييز بين الحلال والحرام.
ولبيان خطورة وقوة الاستعاذة نذكر ما ترويه كتب السيرة من «أن
فغادرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» قد عُذْتِ بمعاذ «وسرَّحها السراح الجميل».
وهناك في قضية السيدة مريم عليها السلام، نجدها قد قالت لحظة أن تمثَّل لها الملاك بشراً سوياً: ﴿إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ١٨].
فهي استعاذت بمَنْ يقدر على إنقاذها.
﴿قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ [يوسف: ٢٣]، وأعطانا هذا القول معنيين اثنين:
الأول: أنه لم يوافق على طلبها بعد أن أوضحتْ ما تريد.
والمعنى الثاني: أنه طلب المعونة من الله، وهو سبحانه مَنْ أنجاه من كيد إخوته؛ ونجَّاه من الجُبِّ؛ وهيَّأ له أفضل مكان في مصر، ليحيا فيه ومنحه العلم والحكمة مع بلوغه لأشُدَّه. وبعد كل هذا أيستقبل كل هذا الكرم بالمعصية؟ طبعاً لا.
أو: أنه قال: ﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: ٢٣].
ليُذكِّر امرأة العزيز بأن لها زوجاً، وأن هذا الزوج قد أحسن ليوسف حين قال لها: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ [يوسف: ٢١].
فالصعوبة لا تأتي فقط من أنها تدعوه لنفسها؛ بل الصعوبة تزداد سوء لأن لها زوجاً فليست خالية، وهذا الزوج قد طلب منها أن تُكرِم يوسف، وتختار له مكانَ إقامةٍ يليق بابن، ولا يمكن أن يُستَقبل ذلك بالجحود والخيانة.
وهكذا يصبح قول يوسف: ﴿إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: ٢٣].
قد يعود على الله سبحانه؛ وقد يعود على عزيز مصر.
و ﴿لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ [يوسف: ٢٣].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ... ﴾.
وقد جاءت العبارة هنا في أمر المراودة التي كانت منها، والامتناع الذي كان منه، واقتضى ذلك الأمر مفاعلة بين اثنين يصطرعان في شيء.
فأحد الاثنين امرأة العزيز يقول الله في حقها:
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ [يوسف: ٢٤].
وسبق أن أعلن لنا الحق سبحانه في الآية السابقة موقفها حين قالت: «هيت لك» وكذلك بيَّن موقف يوسف عليه السلام حين قال يوسف «معاذ الله».
وهنا يبين لنا أن نفسه قد حدثته أيضاً؛ وتساوى في حديث النفس؛ لكن يوسف حدث له أن رأى برهان ربه.
ويكون فَهْمُنا للعبارة: ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها؛ لأننا نعلم أن «لولا» حرف امتناع لوجود؛ مثلما نقول: لولا زيد عندك لأتيتك.
ولقائل أن يقول: كيف غابت قضية الشرط في الإيجاد والامتناع عن الذين يقولون؛ إن الهم قد وُجِد منه؟
ونقول: لو قال الحق ذلك لما أعطانا هذا القولُ اللقطةَ المطلوبة؛ لأن امرأة العزيز هَمَّتْ به لأن عندها نوازع العمل؛ وإنْ لم يَقُلْ لنا أنه قد هَمَّ بها لظننا أنه عِنِّين أو خَصَاه موقف أنها سيدته فخارتْ قواه.
إذن: لو قال الحق سبحانه: إنه لم يَهِمّ بها؛ لكان المانع من الهَمِّ إما أمر طبيعي فيه، أو أمر طاريء لأنها سيدته فقد يمنعه الحياء عن الهَمِّ بها.
ولكن الحق سبحانه يريد أن يوضح لنا أن يوسف كان طبيعياً وهو قد بلغ أشُدَّه ونُضْجه؛ ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها.
وهكذا لم يَقُمْ يوسف عليه السلام بما يتطلبه ذلك لنقص فيه؛ ولا لأن الموقف كان مفاجأة ضَيَّعَتْ رجولته بغتة؛ مثل ما يحدث لبعض الشباب في ليلة الزفاف، حين لا يستطيع أن يَقربَ عروسه؛ وتمر أيام إلى أن يستعيد توازنه. ويقرب عروسه.
إذن: لو أن القرآن يريد عدم الهَمِّ على الإطلاق؛ ومن غير شيء، لَقَال: ولقد هَمَّتْ به ولم يَهِم بها.
ومن لُطْفِ الله بالخلق أنه يُوجِد الالتقاءات التفاعلية في المتساويات، فلا تأتي عاطفة الخادم في بعض الأحيان ناحية بنات البيت الذي يعمل عنده؛ وقد يطلب من أهل البيت أن يخرج لشراء أي شيء من خارج المنزل، لعله يحظى بلقاء عابر من خادمة الجيران.
ويجوز أن الخادم قد فكر في أنه لو هَمَّ بواحدة من بنات الأسرة التي يعمل لديها؛ فقد تطرده الأسرة من العمل؛ بينما هو يحيا سعيداً مع تلك الأسرة.
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يوزع تلك المسائل بنظام وتكافؤات في كثير من الأحيان.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه:
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: ٢٤].
إذن: فبرهان ربه سابق على الهَمِّ، فواحد هَمّ ولم يرتكب ما يتطلبه الهمّ؛ لأن برهان ربه في قلبه، وقد عرف يوسف برهان ربه من البداية.
وحين تناقش مَنْ رأى هذا الرأي؛ يردّ بأن هدفه أن يثبت فحولة يوسف؛ لأن الهمّ وجد وأنه قد نازع الهمّ.
ونقول لصاحب هذا الرأي: أتتكلم عن الله، أم عن الشيطان؟.
أنت لو نظرتَ إلى أبطال القصة تجدهم: امرأة العزيز؛ ويوسف والعزيز نفسه؛ والشاهد على أن يوسف قد حاول الفِكَاك من ذلك الموقف، ثم النسوة اللاتي دَعتْهُنَّ امرأة العزيز ليشاهدوا جماله؛ والله قد كتب له العصمة.
فكُلُّ هؤلاء تضافروا على أن يوسف لم يحدث منه شيء.
وقالت: ﴿الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥١ - ٥٢].
وعن النسوة قال يوسف: ﴿مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠].
وقال يوسف لحظتها: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين﴾ [يوسف: ٣٣].
والصَّبْوة هي حديث النفس بالشيء؛ وهو ما يثبت قدرة يوسف عليه السلام على الفعل، وحماه الله من الصبوة؛ لأن الحق سبحانه قد قال:
وانظر إلى لقطة النسوة اللاتي تهامسْنَ بالنميمة عن امرأة العزيز وحكايتها مع يوسف، ألم يَقُلْنَ: ﴿مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١]، فحين دخل عليهن اتجهت العيون له، وللعيون لغات؛ وللانفعال لغات؛ وإلا لماذا قال يوسف: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ [يوسف: ٣٣].
وهكذا نعلم أنه قد حدثت مُقدِّمات تدل على أن النسوة نَويْنَ له مثل ما نَوَتْه امرأة العزيز؛ وظَننَّ أن امرأة العزيز سوف تطرده؛ فيتلقفنه هُنَّ؛ وهذا دَأب البيوت الفاسدة.
وهل هناك أفسد من بيت العزيز نفسه، بعد أن حكم الشاهد أنها هي التي راودتْ يوسف عن نفسه؛ فيدمدم العزيز على الحكاية، ويقول: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين﴾ [يوسف: ٢٩].
وكان هدف العزيز أن يحفظ مكانته من القيل والقال.
وحين سأل الشاهد النسوة، بماذا أَجبْنَ؟
يقول الحق سبحانه أن النسوة قُلْنَ:
وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائماً بالغُواية، وهو لا يدخل أبداً في معركة مع الله؛ ولكنه يدخل مع خَلْق الله؛ لأن الحق سبحانه يورد على لسانه: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٢ - ٨٣].
فالشيطان نفسه يُقِرُّ أن مَنْ يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز هو كشيطان عَن غوايته، ولا يجرؤ على الاقتراب منه.
والشاهد الذي من أهل امرأة العزيز، واستدعاه العزيز ليتعرف على الحقيقة قال: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٢٧].
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه:
﴿لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: ٢٤].
والبرهان هو الحجة على الحكم. والحق سبحانه هو القائل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾ [النساء: ١٦٥].
أي: لا بُدَّ أن يبعث الحقُّ رسولاً للناس مُؤيداً بمعجزة تجعلهم يُصدِّقون المنهج الذي يسيرون عليه؛ كي يعيشوا حياتهم بانسجام إيماني، ولا يعذبهم الله في الآخرة.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله:
﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤].
والفحشاء هي الزنا والإتيان؛ والسوء هي فكرة الهَمِّ، وبعض المعتدلين قالوا: إنها بعد أن راودتْه عن نفسه؛ وخرجت بالفعل إلى
فصرف الحق عنه فكرة القتل؛ وعنى بها هنا قوله الحق «السوء» ؛ ولكني اطمئن إلى أن السوء هو فكرة الهَمِّ، وهي مُقدِّمات الفعل.
ويقرر الحق سبحانه أن يوسف عليه السلام من عباده المُخْلصين، وفي هذا رد على الشيطان؛ لأن الشيطان قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٣].
وقوله الحق هنا:
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ [يوسف: ٢٤] يؤكد إقرار الشيطان أنه لن يَقْرب عباد الله المخلصين. وهناك «مُخْلِصِين». و «مُخْلَصِين» والمخلِص هو مَنْ جاهد فكسب طاعة الله، وَالمُخْلَص هو مَنْ كسَب فجاهد وأَخلصه الله لنفسه.
وهناك أُناس يَصِلُون بطاعة الله إلى كرامة الله، وهناك أُناس
وبعد الحديث عن المراودة بما فيها من لين وأَخْذٍ ورَد؛ ينتقل بنا الحق سبحانه إلى ما حدث من حركة، فيقول تعالى: ﴿واستبقا الباب... ﴾.
لكن قول الحق سبحانه:
﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الباب﴾ [يوسف: ٢٥].
هذا دليل على أنه قد سبقها إلى الباب؛ فشدَّته من قميصه من الخلف، وتمزَّق القميص في يدها، وقد محَّص الشاهد الذي هو من أهلها تلك المسألة ليستنبط من الأحداث حقيقة ما حدث.
وقوله تعالى:
﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الباب﴾ [يوسف: ٢٥].
أي: حدثت لهما المفاجأة، وهي ظهور عزيز مصر أمامهما؛ وصار المشهد ثلاثياً: امرأة العزيز؛ ويوسف؛ وزوجها.
وهنا ألقت المرأة الاتهام على يوسف عليه السلام في شكل سؤال تبريري للهروب من تبعية الطلب، وإلقاء التهم على يوسف:
﴿قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا﴾ [يوسف: ٢٥].
ثم حددت العقاب:
﴿إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٥].
ويأتي الحق سبحانه بقول يوسف عليه السلام:
وهنا وجد عزيز مصر نفسه بين قوليْنِ مختلفين؛ قولها هي باتهام يوسف؛ وقوله هو باتهامها، ولا بُدَّ أن يأتي بمَن يفصِل بين القولين، وأن يكون له دِقَّة استقبال وفَهْم الأحداث.
ويتابع الحق سبحانه: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي... ﴾.
وتأتي مرَّة بمعنى «علم»، مثل قوله سبحانه: ﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ [يوسف: ٨١].
وتأتي «شهد» بمعنى «حكم وقضى» أي: رجَّح كلاماً على كلام لاستنباط حق في أحد الاتجاهين. والشاهد في هذه الحالة وَثّق القرآنُ أن قرابته من ناحية المحكوم عليه، وهو امرأة العزيز، فلو كان من طرف المحكوم له لَرُدَّتْ شهادته.
وهكذا صار الموقف رباعياً: امرأة العزيز، ويوسف، وعزيز مصر، والشاهد، وحملت الآية نصف قول الشاهد:
﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٢٦].
لأن معنى هذا والواقع لم يكن كذلك أن يوسف عليه السلام وهو مَنْ أقبل عليها؛ تدلَّى منه ثوبه على الأرض، فتعثر فيه، فتمزَّق القميص. ويتابع الله قول الشاهد: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ..﴾.
ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص؛ بل وضع في كلماته الأساس الذي سينظر به إلى الأمر، وهو إطار دليل الإثبات.
وهذا ما تشرحه الآية التالية، فيقول سبحانه: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ... ﴾.
لذلك تابع قوله بما يدين امرأة العزيز:
﴿قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨].
والكيد كما نعلم هو الاحتيال على إيقاع السوء بخفاء، ويقوم به
وتعود آيات السورة بعد ذلك إلى موقف عزيز مصر، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان الزوج: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ... ﴾.
وهذا يبين لنا سياسة بعض أهل الجاه مع بيوتهم، وهو أمر نشاهده في عصرنا أيضاً؛ فنجد الرجل ذا الجاه وهو يتأبَّى أن يرى أهله في خطيئة، ويتأبى أكثر من ذلك فيرفض أن يرى الغيرُ أهله في مثل هذه القضية، ويحاول كتمان الأمر في نفسه؛ فيكفيه ما حدث له من مهانة الموقف، ولا يريد أن يشمتَ به خصومه أو أعداؤه.
وهنا مَلْحظ يجب أن نتوقف عنده، وهو قضية الإيمان، وهي
﴿أَعْرِضْ عَنْ هذا... ﴾ [يوسف: ٢٩].
ويقول لزوجته:
﴿واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين﴾ [يوسف: ٢٩].
وهو في قوله هذا يُقِرُّ بأن ذنباً قد وقع؛ وهو لن يُقِرَّ بذلك إلا إذا كان قد عرف عن الله منهجاً سماوياً، وهو في موقف لاَ يسعه فيه إلا أن يطلب منها أن تستغفر الله.
وبعد أن كان المشهد رباعياً: فيه يوسف، وامرأة العزيز، والعزيز نفسه، ثم الشاهد الذي فحص القضية وحكم فيها، ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع؛ وهو دائرة المجتمع الذي وقعتْ فيه القضية.
وهذا يدل على أن القصور لا أسرار لها؛ لأن لأسرار القصور عيوناً تتعسس عليها، وألسنة تتكلم بها؛ حتى لا يظن ظان أنه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة؛ لأن هناك مَنْ سوف يكشفها مهما بلغتْ قدرة صاحبها على التستُّر والكتمان.
وقد تلصص البعض من خدم القصر؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النسوة.
ومن العجيب أن المفرد، وهو كلمة «امرأة» له مثنى هو «امرأتان»، لكن في صيغة الجمع لا توجد «امراءات»، وتوجد كلمة نسوة اسم لجماعة الإناث، واحدتها امرأة، وجمعها نساء.
وقد قالت النسوة: ﴿امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ [يوسف: ٣٠].
وما قُلْنَه هو الحق؛ لكنهن لم يَقُلْنَ ذلك تعصباً للحق، أو تعصباً للفضيلة.
والمكر هو سَتْر شيء خلف شيء، وكأن الحق يُنبِّهنا إلى أن قول النسوة لم يكن غضبةً للحق؛ ولا تعصباً للفضيلة، ولكنه الرغبة للنِّكاية بامرأة العزيز، وفَضْحاً للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز.
وأردْن أيضاً شيئاً آخر؛ أن يُنزِلْنَ امرأة العزيز عن كبريائها، وينشرن فضيحتها، فَأتيْنَ بنقيضين؛ لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
فهي امرأة العزيز، أي: أرفع شخصية نسائية في المجتمع، قد نزلت عن كبريائها كزوجة لرجل يُوصَفُ بأنه الغالب الذي لا يُغلب؛ لأن كلمة «العزيز» مأخوذة من المعاني الحسية.
فكيف بامرأة العزيز حين تصير مُضْغة في الأفواه؛ لأنها راودتْ فتاها وخادمها عن نفسه؛ وهو بالنسبة لها في أدنى منزلة، وتلك فضيحة مزرية مشينة.
وقالت النسوة أيضاً:
﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً﴾ [يوسف: ٣٠]
والحب منازل؛ وأول هذه المنازل «الهوى» مثل: شقشقة النبات، ويُقال: «رأى شيئاً فهواه».
وبعد ذلك يأتي الكلف؛ أي: تكلَّف أن يصل إلى ما يطلبه من هذه العَلاقة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى مرتبة فيها التقاء وهي العشق، ويحدث فيها تبادل للمشاعر، ويعلن كل طرف كَلَفه؛ ولذلك يسمونه «عاشق ومعشوق».
ثم ينتقل إلى مرحلة اسمها «التدليه» ؛ أي: يكاد أن يفقد عقله. ثم يصير الجسم إلى هُزَال ويقال «تبلت الفؤاد» أي: تاه الإنسان في الأمر.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الهُيَام، أي: يهيم الإنسان على
تلك هي مراحل الحب التي تمر بالقلب، والقلب كما نعلم هو الجهاز الصنوبري، ويسمونه مَقَرّ العقائد المنتهية، والتي بحثها الإنسان واعتقدها بالفعل.
فالإنسان منا يدرك الأشياء بحواسه الظاهرة، يرى ويشُمُّ ويسمع ويذوق ويلمس، فإذا أدرك بعضاً من الأمور؛ فهو يعرضها على العقل ليوازن بينها؛ ويختار الأكثر قبولاً منه، وبعد ذلك تذهب تلك الأمور المقبولة إلى القلب؛ لتستقر عقيدة فيه لا يحيد عنها.
أما المسائل العقلية؛ فقد تأتي مسائل أخرى تزحزحها؛ ولذلك يُقال للأمور التي استقرت في القلب «عقائد»، أي: شيء معقود لا ينحل أبداً.
وما يصل إلى هذه المرتبة يظهر أثره في إخضاع سلوك حركة الحياة عليه، وإذا ما استقر المبدأ في نفس الإنسان؛ فهو يجعل كل حركته في ظل هذا المبدأ الذي اعتقده.
وهكذا نعرف: كيف تمرُّ العقيدة بعدَّة مراحل قبل أن تستقر في النفس، فالإدراك يحدث أولاً؛ ثم التعقُّل ثانياً؛ وبعد ذلك يعتقد
وكلمة: ﴿شَغَفَهَا حُبّاً..﴾ [يوسف: ٣٠].
تعني أن المشاعر انتقلتْ من إدراكها إلى عقلها إلى قلبها، والشغاف هو الغِشَاء الرقيق الذي يستر القلب؛ أي: أن الحب تمكَّن تماماً من قلبها.
وقولهن:
﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [يوسف: ٣٠].
هو قول حَقٍّ أُريد به باطل.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما يفضح مَقْصِدهن: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ... ﴾.
لا بُدَّ أن هناك مرحلة بين ما حدث في القصر؛ وكان أبطاله أربعة هم: العزيز، وامرأته، ويوسف، والشاهد، ولا بد أن يكون مَنْ نقل الكلام إلى خارج القصر؛ إنسان له علاقتان؛ علاقة بالقصر فسمع ورأى وأدرك؛ ونقل ما علم إلى مَنْ له به علاقة خارج القصر.
وبحث العلماء عن علاقة النسوة اللاتي ثرثرن بالأمر، وقال العلماء: هُنَّ خمسة نساء: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة الحاجب، وامرأة صاحب الدواب (أي: سائس الخيل)، وامرأة السجان.
وهؤلاء النسوة يَعِشْنَ داخل بيوتهن؛ فمَنِ الذي نقل لَهُنَّ أسرار القصر؟
لا بُدَّ أن أحداً من أزواجهن قد أراد أن يُسلِّي أهله، فنقل خبر امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام؛ ثم نقلتْ زوجته الخبر إلى غيرها من النسوة.
وحين وصل إلى امرأة العزيز الخبر؛ وكيف يمكرن بها؛ أرسلت إليهن:
﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً..﴾ [يوسف: ٣١].
والمتكأ هو الشيء الذي يستند إليه الإنسان حتى لا يطول به مَلَلٌ
ويتابع الحق سبحانه:
﴿وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ... ﴾ [يوسف: ٣١].
ويُقال: أكبرْتَ الشيء، كأنك قد تخيَّلته قبل أن تراه على حقيقته؛ وقد يكون خيالك قد رسم له صورة جميلة، إلا أنك حين ترى الشيء واقعاً؛ تكبر المرائي عن التخيُّل.
والمثل أن إنساناً قد يُحدِّثك بخير عن آخر؛ ولكنك حين ترى هذا الآخر تُفاجأ بأنه أفضل مما سمعتَ عنه.
والشاعر يقول:
كَادَتْ مُسَاءلةُ الرُّكْبانِ تُخبِرني | عن جَعْفرِ بنِ حبيبٍ أصدقَ القيم |
حتَّى التقيْنَا فَلا واللهِ مَا سَمِعتْ | أُذني بأطيبَ مِمَّا قَدْ رأى بَصَرِي |
وأول مراحل الانبهار هي الذهول الذي يجعل الشيء الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون بصدده؛ فإن كان في يدك شيء قد يقع منك.
وقد قطعتْ كلٌ منهن يدها بالسكين التي أعطتها لها امرأة العزيز لتقطيع الفاكهة، أو الطعام المُقدَّم لَهُنَّ.
وقال الحق سبحانه في ذلك:
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ [يوسف: ٣١].
وهل هناك تصوير يوضح ما حدث لَهُنَّ من ذهول أدقّ من هذا القول؟
ويتابع سبحانه:
﴿وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١].
هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خَلْق هذا الجمال المثالي، أو: أنهُنَّ قد نَزَّهْنَ صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز، أو: أن يوسف عليه السلام لا بد أن يكون قد خرج عن صورة أرقى من صورة الإنس التي يعرفنها؛ فقُلْنَ: لا بدّ أنه مَلَكٌ كريم.
وصورة الملك كما نعلم هي صورة مُتخيَّلة؛ والإنسان يحكم على الأشياء المُتَخيَّلة بما يناسب صورتها في خياله، مثلما نتخيل الشيطان كأبشع ما تكون الصورة.
والبشاعة نفسها تختلف من واحد إلى آخر؛ فما تراه بَشِعاً قد لا يراه غيرك كذلك؛ لأن مقاييس القبح أو الجمال تختلف من أمة إلى أخرى.
فالمرأة الجميلة في أواسط أفريقيا في نظر الرجل هي ذات الشفاه الغليظة جداً؛ أو صاحبة الشعر المُجعَّد والمُتموج.
وأكدت الحضارة الحديثة أن هذا لونٌ من الجمال ينجذب إليه الرجل في بعض الحالات؛ بدليل أن بعضاً من السيدات ذوات الشعر الناعم للغاية يذهبْن إلى مُصفِّفة الشعر، ويطلبْنَ منها تجعيد شعورهن.
والحق سبحانه يقذف معايير الجمال في النفس الإنسانية على قَدْر مُقوِّمات الالتقاء في الانسجام.
ولذلك يُقال في الريف المصري هذا المثل «كل فُولة ولها كَيَّال».
ونجد شاباً يتقدم لفتاة يرغب في الزواج منها؛ وما أنْ يراها حتى ينفر منها، ويتقدم لها شاب آخر فيقع في هَواها، ويتعجَّل الزواج منها، وهذا يعني أن مقاييس الأول تختلف عن مقاييس الثاني.
وحين يشاء الحق سبحانه أن يجمع بين اثنين فلا أحدَ بقادر على أن يمنع القبول من كل طرف للطرف الآخر؛ وهذه مسألة لها من الأسرار ما لا نعرفه نحن؛ لأنه سبحانه الذي يكتب القبول؛ ويُظهِر في المرأة جمالاً قد يجذب رجلاً ولا يجذب رجلاً آخر، ونفسَ المسألة تحدث في نفسية المرأة.
إذن: فحين رأت النسوة يوسف عليه السلام؛ قُلْنَ:
﴿مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١].
وهذا يعني أن يوسف هو الصورة العليا في الجمال التي لا يوجد لها مثيل في البشر.
وقولها: ﴿فذلكن﴾ [يوسف: ٣٢]، مُكوَّن من «ذا» إشارة ليوسف، و «ذلِكُنَّ» خطاب للنسوة، والإشارة تختلف عن الخطاب.
والمثل على النثر المسجوع هو قول الحق سبحانه: ﴿والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور﴾ [الطور: ١ - ٤].
وهذا نثر مسجوع بلا تكلُّف، وأنت إذا سمعت أو قرأت كلاماً؛ فأذنك تأخذ منه على قدر سُمُوِّ أسلوبه، لكنك إن انتقلت من أسلوب إلى أسلوب، فأذنك تلتقط الفارق بين الأسلوبين.
والمثل نجده في الرسالة التي كتبها ابن زيدون مُسْتعطفاً ابن جهور: «
فإنْ يَكُن الفعلُ الذي سَاء واحداً | فَأفْعالُه اللاتي سَرَرْنَ أُلوفُ |
والمثل نجده في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
﴿فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي﴾ [يوسف: ٣٢].
فهي موزونه من بحر البسيط، ولكنك لا تشعر أنك انتقلت من نثر إلى شعر.
وكذلك قوله الحق: ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [النور: ٤٦].
وأيضاً قوله الحق: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم﴾ [الحجر: ٤٩].
وهذا لا يتأتَّى إلا من كلام الحق تبارك وتعالى، وأنت لن تشعر بهذا الأمر لو لم يُنبِّهْك أحد لِمَا في بعض الآيات من وزن شعري.
أما كلام البشر؛ فأنت إنْ قرأتَ الموزون؛ ثم انتقلت إلى المنثور؛ أحسَّتْ أُذنك بهذا الانتقال؛ ونفس المسألة تشعر بها حين تقرأ المنثور، ثم تنتقل إلى الموزون؛ وستشعر أذنك بهذا الانتقال.
﴿قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم﴾ [يوسف: ٣٢].
قالت ذلك بجراءة مَنْ رأت تأثير رؤيتهن ليوسف، وأعلنت أنه» استعصم «، وهذا يعني أنه قد تكلَّف المشقة في حجز نفسه عن الفعل، وهو قول يثبت أن رجولة يوسف غير ناقصة، فقد جاهد نفسه لِيكبتَها عن الفعل.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز:
﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين﴾ [يوسف: ٣٢].
قالت ذلك وكأنها هي التي تُصدِر الأحكام، والسامعات لها هُنَّ من أكبرْنَ يوسف لحظة رؤيته؛ تعلن لهُنَّ أنه إن لم يُطِعْها فيما
أما النِّسْوة اللاتي سَمِعْنَها؛ فقد طمعتْ كل منهن أن تطرد امرأة العزيز يوسف من القصر؛ حتى تنفرد أي منهن به.
ولذلك يُورِد لنا الحق سبحانه قول يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ... ﴾.
﴿السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣].
على الرغم من أن امرأة العزيز هي التي قالت: ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ﴾ [يوسف: ٣٢].
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته، وللعيون والانفعالات وقَسَمات الوجه تعبير أبلغ من تعبير العبارات، وقد تكون إشارات عُيونهن قد دَلَّتْ يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن، وفي مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دوراً هاماً.
وها هو ذا أبو دلامة الشاعر وقد جلس في مجلس الخليفة، وكان أبو دلامة مشهوراً بقدرة كبيرة على الهجاء. وأراد الخليفة أن يداعبه فقال له: عزمتُ عليك إلا هجوتَ واحداً منا.
ودارت عيون في المجلس، وأشار له كل مَنْ حضر المجلس خُفيةً بأنه سيُجزل له العطاء إن ابتعد أبو دلامة عن هجائه؛ ولأن أبا دلامة معروفٌ بالطمع، وخشي أن يضيع منه أيُّ شيء من العطايا؛ لذلك قام بهجاء نفسه؛ وقال:
ألا أبلغْ لدَيْك أباَ دلامة | فليسَ منَ الكِرامِ ولاَ كرامه |
إذَا لَبِسَ العِمَامةَ كان قِرداً | وخِنْزِيراً إذا خلَع العِمَامه |
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة؛ فقال:
﴿رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣].
أي: أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء، أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يُحرِّر نفسه من السجن بأن يستجيب لها، ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك.
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه، فقال:
﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين﴾ [يوسف: ٣٣].
ولسائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلْ يوسف «يا إلهي» وهو يعلم أن مناط التكليف في الألوهية ب «افعل» و «لا تفعل» ؟
نقول: أراد يوسف أن يدعو ربه باسم الربوبية اعترافاً بفضله سبحانه؛ لأنه هو جَلَّ وعلا مَنْ ربَّاه وتعهّده؛ وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألاَّ يتخلى عنه في هذا الموقف.
فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإنْ لم يصرف الله عنه كيدهُنَّ؛ لاستجاب لغوايتهن، ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفون إلى عواقب الأمور.
يقول الحق: ﴿فاستجاب لَهُ... ﴾.
تلك الغواية التي تمثلت في قول الملك من بعد ذلك: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء... ﴾ [يوسف: ٥١].
وهكذا أنجاه الله من مَكْر النسوة؛ وهو جَلَّ وعَلا له مُطْلق السمع ومُطْلق العلم، ولا يخفى عليه شيء، ويستجيب لأهل الصدق في الدعاء. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ... ﴾.
لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يُوضَع يوسف عليه السلام في السجن؛ ليكون في ذلك فَصْلٌ بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا السوء الذي ظهر في بيت العزيز.
كما أن كلمة: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف: ٣٥].
فيها نوع من استبقاء الحب الذي يُكِنُّه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه بعيداً؛ بل احتفظ به بعيداً عن الزوجة المُصِرَّة على الخيانة، وعن المجتمع الذي يَلُوكُ تلك الوقائع.
والسجن كما نعلم هو حَبْس المسجون لتقييد حركته في الوجود؛ وهو إجراء يتخذه القاضي أو الحاكم كعقوبة يُراد بها إذلال المسجون، أو وقاية المجتمع من شرِّه.
ونعلم أن الإنسان لا يجتريء على الأحكام إلا حين يظن أو يعلم أن له قدرة؛ وله غلبة؛ فيعلن له القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة، ويأمر بدخوله إلى السجن ويحرس تقييد حريته سَجَّان؛ وقد يتعرض للضرب أو الإهانة.
هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة، حين تعزل المسجون عن المجتمع، وقد يعطف عليه بعض من أبناء
ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ حين عزل المجتمع الإيماني عن السجين، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يُكلِّم أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج معه للقتال بحجج واهية؛ بل وتسامى هذا العزل إلى أن صار عَزْلاً عن الأهل، إلى أن أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإنهاء هذا العزل بعد أن تحقق الغرض منه.
وماذا عن حال يوسف في السجن؟
يقول الحق سبحانه: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن....﴾.
وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز؛ وأن الساقي والخباز قد تم ضبطهما بمحاولة وضع السُّمِّ للعزيز.
وبعد فترة من حياة الاثنين مع يوسف داخل السجن، وبعد معايشة يومية له تكشَّف لهما سلوك يوسف كواحد من المحسنين.
وحدث أن رأى كل منهما حُلْماً، فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحُلْمين، والسجين غالباً ما يكون كثير الوساوس، وغير آمن على غَدِه؛ ولذلك اتجها إليه في الأمر الذي يُهِمهم:
﴿قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٣٦].
ومن سياق الكلام نعرف أننا أمام حُلْمين؛ فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر خمراً، ورأى الثاني أنه يحمل خُبْزاً فوق رأسه تأكل منه الطير، واتجه كلاهما أو كُلٌّ منهما على حِدَة يطلبان تأويل الرؤيتين المناميتيْنِ، أو أنهما قد طلبا نبأ تَأويل هذا الأمر الذي رأياه.
﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٣٦].
وهذا يدل على أن الإحسان أمر معلوم لكل البشر، حتى أصحاب النفوس المنحرفة، فلا أحد يمكن أن يحكم على آخر أنه محسن إلا إذا وافق عملُه مقاييسَ الإحسان في ذهن مَنْ يصدر هذا الحكم.
فكل نفس تعرف السوء، وكل نفس تعرف الإحسان، ولكن الناس ينظرون إلى الإحسان وإلى السوء بذاتية أنفسهم، ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون، ونظروا إلى أيِّ أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم؛ لَعرفوا أن الإحسان قَدْر مشترك بين الجميع.
ونجد اللص على سبيل المثال لا يسيئه أن يسرق أحداً، لكن يسيئه لو أن أحداً قام بسرقته، وهكذا نرى الإحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه، ويعرف حينئذ مقام الإحسان، ولكنه حين يمارس السرقة؛ ويكون السوء متوجهاً منه إلى الغير؛ فهو يغفل عن مقام الإحسان.
إذن: إنْ أَردتَ أن تعرف مقام الإحسان في مقاييس الفضائل والأخلاق؛ فافهم الأمر بالنسبة لك إيجاباً وسَلْباً.
والمثال الذي أضربه دائماً هو: قبل أن تَمُدَّ عينيك إلى محارم غيرك، وتعتبر أن هذا ليس سوءً، هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحُسْن إن نقلتَ الأمر إلى الصورة العكسية؛ حين تتجه عيون الغير إلى محارمك.
وإذا أردتَ اعتدال الميزان في كل فعل؛ فانظر إلى الفعل يقع منك على غيرك؛ وانظر إلى الفعل يقع من الغير عليك؛ وانظر إلى الراجح في نفسك من الأمرين ستجد قب الميزان منضبطاً.
وأقول دائماً: إن الحق سبحانه حين حرَّم عليك أن تسرق غيرك، لم يُضيِّق حريتك؛ بل ضيِّق حرية الملايين كي لا يسرقوك، وهذا مكسب لك.
إذن: فالذي يعرف مقام الإحسان؛ لا ينسب الفعل الصادر منه على الغير؛ والفعل الصادر من الغير عليه؛ بل ينظر إليهما معاً؛ فما استقبحه من الغير عليه؛ فليستقبحه منه على الغير.
وقد حكم السجينان على يوسف أنه من المحسنين، وعَلِم يوسف عليه السلام من حكمهما عليه أن مقاييس الإحسان موجودة عندهما؛ ولذلك نظر إلى الأمر الذي جاءاه من أجله، واستغل هذه المسألة؛ لا لقضاء حاجتهما منه؛ ولكن لقضاء حاجته منهما.
فقد رأى فيهما شبهة الإيمان بالإحسان؛ والإيمان بالمحسنين، فلماذا لا ينتهز الفرصة فيأخذ حاجته منهما؛ قبل أن يعطيهما حاجتهما منه؟
وكأنه قال لهما: ماذا رأيتُما من إحساني؟ هل رأيتم حُسْن معاملتي لكم؟ أم أن كلاً منكما قد رأى دقة اختياري للحَسَن من القول؟ وأنتما قد لا تعرفان أن عندي بفضل الله ما هو أكثر، وهو ما يقوله الحق سبحانه بعد ذلك في الآية التالية:
وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عِنْدياته، ولكنها من علم تلقَّاه عن الله، وهو أمر يُعلِّمه الله لعباده المحسنين؛ فيكشف الله لهم بعضاً من الأسرار.
وهما السجينان يستطيعان أن يكونا مثله إنْ أحسناً الإيمان بالله. ولذلك يتابع الحق سبحانه:
﴿ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٣٧].
وهذا يدلُّنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مَخِيلَة خير فَلْينمي هذه المخيلة فيه ليصل إلى خير أكبر؛ وبذلك لا يحتجز الخصوصية لنفسه حتى لا يقطع الأسوة الحسنة؛ ولكي يُطمِع العباد في تجليات الله عليهم وإشراقاته.
ولذلك أوضح يوسف عليه السلام للسجينين أنه ترك مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله بما يليق الإيمان به سبحانه، ولا يؤمنون بالبعث والحساب ثواباً بالجنة، أو عقاباً في النار.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام: ﴿واتبعت مِلَّةَ... ﴾.
وذلك من فضل الله بإنزاله المنهج الهادي، وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف التبليغ عنه سبحانه؛ ولذلك ما كان لِمَنْ يعرف ذلك أنْ يشرك بالله، فالشرك بالله يعني اللجوء إلى آلهة متعددة.
يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١].
فلو أن هناك آلهة غير الله سبحانه لصنع كلُّ إله شيئاً لا يقدر على صُنْعه الإله الآخر؛ ولأصبح الأمر صراعاً بين آلهة متنافرة.
ومن فضل الله هكذا أوضح يوسف عليه السلام أن أنزل منهجه على الأنبياء؛ ومنهم آباؤه إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لِيُبلغوا منهجه إلى خَلْقه، وهم لم يحبسوا هذا الفضل القادم من الله، بل أبلغوه للناس.
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف: ٣٨].
وساعة تقرأ أو تسمع كلمة: ﴿لاَ يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف: ٣٨] اعلم أن الأمر الذي أنت بصدده هو في مقاييس العقل والفطرة
ولو فَطِنَ الناس لَشكروا الأنبياء والرسل على المنهج الذي بلَّغوه عن الله؛ لأنه يهديهم إلى حُسْن إدارة الدنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما واصله يوسف من حديثه للسجينين: ﴿ياصاحبي السجن....﴾.
﴿ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾ [يوسف: ٣٩] وحين تطرح سؤالاً عبر مقابل لك، فأنت تعلم مُقدَّماً أنه يفهم أن أرباباً متفرقون ليسوا خيراً من إله واحد، وكأن يوسف قد وَثِق من أن إجابتهما لن تكون إلا بقولهم «بل عبادة إله واحد خير».
وهو لم يكُنْ ليسأل إلاَّ إذا عرف أنهما سيُديرانِ كل الأجوبة؛ فلا يجدان جواباً إلا الجواب الذي أراده.
فهما قد عبدا آلهة متعددة؛ وكان المفروض في مقاييس الأشياء أن تُغنِيكم تلك الآلهة عن اللجوء لمن يعبد الإله الواحد.
إذن: في قُوَى البشر نجد التعدد يُثْرِي ويُضخِّم العمل، لكن في الألوهية نجد الشرك يُضعِف العمل.
ولذلك نجد الصوفي يقول: اعمل لوجه واحد يكفيك كل الأوجه. ولذلك قال يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:
﴿ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ... ﴾ [يوسف: ٣٩].
ولو كان تفرُّقهم تفرُّقَ ذواتٍ لكانوا بلا كمال يستحقون من أجله العبادة، ولو كان تفرُّقهم تفرُّقَ تَكرار لما كان لهذا التكرار لزوم، ولو كان تفرُّقهم تفرُّق اختصاصات، فهذا يعني أن لكل منهم نقطةَ قوة ونقاطَ ضعف؛ وتفرُّقهم هذا دليل نقص.
ولذلك رحمنا الحق نحن المؤمنين به لنعبد إلهاً واحداً، فقال:
وقد حاول يوسف عليه السلام أن يهديهم إلى عباد الإله الواحد، وقال لهم من بعد ذلك ما جاء به الحق سبحانه: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ... ﴾.
وبذلك كان يوسف عليه السلام يؤثر السجينين؛ فقد أراد أن يلفتهما إلى الأمر الجوهري قبل أن يتحدث عن الجزئية الصغيرة التي يسألانِ فيها؛ وأراد أن يُصحِّح نصرة الاثنين إلى المنهج العام الذي يدير به الإنسان كل تفاصيل الحياة وجزئياتها؛ وفي هذا إيثار لا أثرة.
وهنا قال الحق سبحانه على لسان يوسف عليه السلام:
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ... ﴾ [يوسف: ٤٠].
أي: أن ما تعبدونه من آلهة مُتعدِّدة هو مُجرَّد عبادة لأسماء بلا معنى ولا وجود؛ أسماء ورثتموها عن آبائكم أو أنشأتموها أنتم، فكفرتُمْ بإنشاء أسماء لآلهة غير موجودة، كما كفر آباؤكم كُفْر نسيان التكليف أو إنكار التكليف.
وتُوضع الأسماء عادةً للدلالة على المُسمَّى؛ فإذا نطقنا الاسم تجيء صورة المسمى إلى الذِّهْن؛ ولذلك نسمي المولود بعد ولادته باسم يُميِّزه عن بقية إخوته؛ بحيث إذا أُطلِق الاسم انصرف إلى الذات المشخصة.
والمَثل من الريف المصري؛ حين يتفاءل أب باسم «محمد» ؛ فيسمِّي كل أولاده بهذا الاسم، ولكنه يُميِّز بينهم بأن يقول: «محمد الكبير» و «محمد الأوسط» و «محمد الصغير».
أما إذا وُضِع اسم لمُسمَّى غير موجود؛ فهذا أمر غير مقبول أو معقول، وهم قد وضعوا أسماء لآلهة غير موجودة؛ فصارت هناك أسماء على غير مُسمَّى.
ويأتي هؤلاء يوم القيامة؛ لِيُسألوا لحظة الحساب: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين﴾ [غافر: ٧٣ - ٧٤].
وهكذا يعترف هؤلاء بأنه لم تَكُنْ هناك آلهة؛ بل كان هنا أسماء بلا مُسمَّيات.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ﴾ [يوسف: ٤٠]. وكأن يوسف يتساءل: ءَإذا كانت لكم حاجة تطلبونها من السماء، هل ستسألون الاسم الذي لا مُسمَّى له؟
وهل يسعفكم الاسم بدون مُسمَّى؟
ويوسف عليه السلام يعلم أن المعبود لا يمكن أن يكون اسماً بلا
وهم قد سموا أسماء لا مُسمَّى لها، ولا يستطيع غير الموجود أن يُنزِل منهجاً، أو يُجيب مضطراً.
ولذلك يتابع القرآن ما جاء على لسان يوسف عليه السلام في وَصْف تلك الأسماء التي بلا مُسمَّيات، فيقول:
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ [يوسف: ٤٠].
أي: ما أنزل الله بها من حجة.
وتتابع الآية الكريمة ما جاء على لسان يوسف:
﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ... ﴾ [يوسف: ٤٠].
أي: إنني والكلام ليوسف إن قلتُ شيئاً فلأنِّي ناقلٌ للحكم عن الله، لا عن ذاتي؛ ولا من عندي؛ ولا عن هواي؛ لأنه هو سبحانه الذي أمر ألا تعبدوا إلا إياه، أي: لا تطيعوا أمراً أو نهياً إلا ما أنزله الله في منهجه الهادي للحق والخير.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة:
﴿ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٤٠].
أي: أن هذا هو الدين المستقيم دون سواه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بمعنى: أن الرسل قد بلَّغتهم بالمنهج،
ثم بدأ يوسف عليه السلام في تأويل المطلوب لهما.
يقول الحق سبحانه: ﴿ياصاحبي السجن... ﴾.
وتأويل الرؤيا علم يقذفه الله في قلوب مَنْ علَّمهم تأويل الأحاديث، وهي قدرة على فَكِّ شَفْرة الحُلْم، ويعطيها الله لمَنْ يشاء من عباده.
وقد قال يوسف لمَنْ قال: ﴿إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً﴾ [يوسف: ٣٦].
أنه سوف ينال العفو ما أظهرته الرؤيا التي قالها، وأما
ونلحظ أن يوسف عليه السلام قد انشغل بالحكم الذي أوضحته الرؤييان عن الاثنين صاحبي الرؤييين.
وهذا دليل على أن القاضي يجب أن يكون ذهنه مُنصبًّا على الحكم؛ لا على المحكوم عليه، فقد سمع يوسف منهما؛ وهو لا يعرف مَنْ سينال البراءة، ومَنْ الذي سوف يُعاقب.
فنزع يوسف ذاته من الأمر، ولم يسمح لنفسه بدخول الهوى إلى قلبه؛ لأن الهوى يُلوِّن الحكم، ولا أحد بقادر على أن يسيطر على عاطفته، ولا بد للقاضي لحظة أن يصدر حكماً أن يتجرد تماماً من الهوى والذاتيات.
ويُعلِّمنا الحق سبحانه ذلك حين أنزل لنا في قرآنه قصة سيدنا داود عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخطاب قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي
وكان من ذكر عدد نِعَاج أخيه أنه إنما أراد أن يستميل داود عليه السلام لِصفِّه؛ وكان يريد أن يُصوِّر الظلم الذي وقع عليه، وحكم داود بأن مَنْ أخذ النعجة ليضمها لنعاجه هو الذي ظلم؛ وشعر داود أنه لم يُوفَّق في الحكم؛ لأنه ذكر في حيثية الحكم نعاج الذي أراد أن يأخذ نعجة أخيه.
فالأخذ وحده كان هو المبرر عند داود لإدانة الذي أراد الاستيلاء على ما ليس من حقه؛ ولذلك اعتبر أن هذا الأمر كله فتنة لم يُوفَّق فيها، واستغفر الله بالركوع والتوبة.
وقد كان يوسف عليه السلام حكيماً حين قال تأويل الرُّؤيا متجرداً من الذاتية، وأنهى التأويل بالقول:
﴿قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ [يوسف: ٤١].
أي: أنه لا مجال للرجوع أو العدول عن حدوث ذلك الذي وصل إليه من تأويل؛ فقد جاء التأويل وفقاً لما علَّمه الله له.
وهناك الكثير من الروايات عما تحمَّله يوسف من صعاب قبل الجُبِّ وقبل السجن، وقيل: إن عمته ابنة إسحق، وهي أكبر أولاده؛ قد استقبلته بعد أن ماتت أمه لترعاه فتعلقت به؛ ولم تحب أحداً قَدْر محبتها له.
فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها، عمدتْ إلى شيء من ميراث إبراهيم عليه السلام يتوارثه اكبر الأبناء، ووضعته تحت ملابس يوسف.
وكان العُرفُ الجاري أنه إذا سرق أحد شيئاً وتَمَّ ضبطه؛ تحول من حرٍّ إلى عبد، وحين كاد يعقوب أن يخرج مع ابنه يوسف عائداً إلى بيته؛ أعلنت العمة فقدان الشيء الذي أعطاه لها والدها إسحق؛ وفتشوا يوسف فوجدوا الشيء المفقود.
فقالت عمته: والله إنه لَسَلْم أي عبد وكان العرف أن مَنْ يسرق شيئاً يتحول إلى عبد عند صاحب الشيء.
وهكذا بقي يوسف مع عمته محروماً من أبيه لفترة، ولم يستطع الأب استرداده إلا بعد أن ماتت العمَّة.
ثم جاءت حادثة الجُبِّ، ومن بعدها محاولة امرأة العزيز لِغُوايته، ورغم تيقُّن العزيز من براءته إلا أنه أُودِع السجن؛ ويقول الرواة:
«إن يوسف عليه السلام قد عُرف في السجن بالجود، والأمانة، وصدق الحديث، وحُسْن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير أي تأويل الرؤيا والإحسان إلى أهل السجن.
أي: أنه دخل السجن وصار معهما دون ذنب جَنَاه.
قال السجينان: إنا لا نستطيع غير ذلك».
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قاله يوسف لمن ظَنَّ أنه سينجو من السجن: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ... ﴾.
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ..﴾ [يوسف: ٤٢].
يعني أن الأمر بالنجاة لم يتيقن بعد، ولم يصبح علماً.
وقد أوصاه يوسف عليه السلام:
﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ... ﴾ [يوسف: ٤٢].
والذكر هو حضور شيء بالبال؛ وكان له بالبال صِلَة استقبال، مثل أي قضية عرفتَها من قبل ثم تركتَها، ونسيتَهَا لفترة، ثم تذكرتَها من جديد.
وهكذا نعلم أن للإنسان استقبالات للإدراكات، وهي لا تظل في بُؤْرة الشعور كل الوقت؛ لأن الذهن لا يستطيع أن يكون مشغولاً إلا بشيء واحد، فإن جاء شيء آخر فهو يزحزح الأمر الأول إلى حافة الشعور، ليستقر الأمر الجديد في بؤرة الشعور.
والمثل الذي أضربه دائماً هو إلقاء حجر في الماء، فيصنع الحجر دوائر تكبر ويتتابع اتساع أقطارها، وهكذا بؤرة الشعور، حين تستقبل أمراً أو خاطراً جديداً.
فالخاطر الجديد يُبعد كل الخواطر الأخرى من المركز إلى الحاشية، ثم يأتي ما يُذكِّرك بما في حاشية الشعور؛ ليعود لك الخاطر أو الأمر الذي كنت قد نسيتَه وتتذكره بكل تفاصيله؛ لأن ذاكرة الإنسان تعمل على مُسْتويين؛ فهي تحفظ المعلومات؛ وتسترجع المعلومات أيضاً.
﴿اذكرني عِندَ رَبِّكَ..﴾ [يوسف: ٤٢].
أي: اذكر ما وجدته عندي من خير أمام سيدك.
وقال بعض المفسرين: إن يوسف عليه السلام حين نطق هذا القول؛ شاء له الله أن يمكث في السجن بضع سنين؛ فما كان ينبغي له كرسول أن يُوسِّط الغير في مسألة ذِكْره بالخير عند سيد ذلك السجين.
فيوسف كرسول إنما يتلقى عن الله بواسطة الوحي؛ وهو قد قال لذلك السجين وزميله: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي﴾ [يوسف: ٣٧].
وهذا يعني أنه يستقبل عن الله مباشرة، وكان عليه أن يظل موصولاً بالمصدر الذي يفيض عليه.
ويتابع الحق سبحانه:
﴿فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: ٤٢].
ونسيان ذكر الله فيه نوع من العقوبة، أو يحمل شيئاً من التأديب ليوسف، وهكذا نرى أن الشيطان نفسه إنما يُعِين الحق على مُرَاداته من خَلْقه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَقَالَ الملك... ﴾.
وهكذا نعرف أن هناك «ملك»، وهناك «عزيز».
ونحن نعلم أن حكام مصر القديمة كانوا يُسمَّوْنَ الفراعنة، وبعد أن اكتُشِفَ «حجر رشيد»، وتم فَكُّ ألغاز اللغة الهيروغليفية؛ عرفنا
وكانت هذه هي الفترة التي ظهر فيها يوسف، وعمل يوسف وأخوه معهم، فلما استرجع الفراعنة حكم مصر طردوا الهكسوس، وقتلوا مَنْ كانوا يُوالونهم.
وحديث القرآن عن وجود مَلِك في مصر أثناء قصة يوسف عليه السلام هو من إعجاز التنبؤ في القرآن.
وساعة تقرأ:
﴿وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ [يوسف: ٤٣].
ثم يطلب تأويل رؤياه؛ فهذا يعني أنها رُؤيا منامية.
وكلمة: ﴿سِمَانٍ﴾ [يوسف: ٤٣].
أي: مُمْتلئة اللحم والعافية. وكلمة ﴿عجاف﴾ أي: الهزيلة؛ كما يُقال عند العامة «جلدها على عظمها» ؛ فكيف تأكل العجاف السمان؛ مع أن العكس قد يكون مقبولاً؟
وأضاف الملك:
﴿وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ... ﴾ [يوسف: ٤٣].
ولم يَصِف الملك أيَّ فعل يصدر عن السنابل، ثم سأل مَنْ حوله من أعيان القوم الذين يتصدرون صُدور المجالس، ويملأون العيون:
وكلمة (تعبرون) مأخوذة من «عبر النهر» أي: انتقل من شاطئ إلى شاطئ، وكأنه يطلب منهم المراد المَطْوي في الرُّؤيا.
ومن هذا المعنى أخذنا كلمة «العبْرة»، وهي التجربة التي نستفيد منها، ومنه أيضاً «العبارَة» وهو أن يكون هناك شيء مكتوم في النفس، ونُؤدِّيه، ونُظهِره بالعبارة.
ومنه «العَبْرة»، وهو الدَّمعْة التي تسقط من العين تعبيراً عن مشاعر ما؛ سواء كانت مشاعر حُزْن أو فرح، والمادة كلها تدور حول تعريف مجهول بمعلوم.
وهكذا يفعل مُفسِّر الرُّؤْيا حين يَعبُر من خلال رموزها من الخيال إلى الحقيقة.
ولم يعرف الملأ الذين حول المَلِك تفسيراً للرُّؤيا التي رآها في منامه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: ﴿قالوا أَضْغَاثُ... ﴾.
وهذا صِدْق من البطانة في ألاَّ يخبر أحدهم بشيء، إلا إذا كان على علم به؛ ولا يضير أحدهم أن يعلن جهله بأمر ما لا يعلمه.
والذي يعلن جهله بأمر لسائله ويكون قد علمه يجعله يسأل غيره، أما إن أجاب بجواب؛ فربما جعله يَثْبُتُ على هذا الجواب.
ولذلك قال العلماء ليفسحوا مجال الصِّدْق في الفُتْيا: «مَنْ قال لا أدري فقد أفتى» ؛ لأنه حين يقول «لا أدري» ؛ سيضطرك إلى أن تسأل غيره.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَقَالَ الذي... ﴾.
يعني: أنه أجهد عقله وذهْنه؛ وافتعل التذكُّر لأن فترة لا بأس بها من الزمن قد مَرَّتْ، وكلمة «أمة» تعني فترة من الزمن؛ كما في قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ [هود: ٨].
و «الأمة» قد يُراد بها الجماعة من الناس، ويُراد بها أيضاً الرجل الجامع لكل صفات الخير، كما قال الحق سبحانه في وصف إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين﴾ [النحل: ١٢٠].
أي: أن كل خصال الخير مجموعة في إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام، وبعد أن افتعل ساقي الملك واجتهد ليتذكر ما حدث له منذ فترة هي بضع سنين؛ أيام أنْ كان سجيناً ورأى رُؤيا منامية أوَّلَها له يوسف، قال الساقي للملأ وللملك عن تلك الرؤيا:
﴿أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ [يوسف: ٤٥].
وبذلك استأذن ليذهب إلى مَنْ يُؤوِّل له رُؤيا الملك.
وقوله: ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ [يوسف: ٤٥].
ونلحظ أن القرآن لم يحمل على لسان هذا الرجل: إلى من سوف يذهب؛ لأن ذلك معلوم بالنسبة له ولنا، نحن الذين نقرأ السورة.
وانتقل القرآن من طلب الإرسال إلى لقاء يوسف عليه السلام؛ فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان ساقي الملك: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا... ﴾.
يدل على أنه قد جرَّبه في مسائل متعددة، وثبت صدقه.
و «صِدِّيق» لا يقتصر معناها على أنه صادق في كل أقواله؛ وصادق في كل أفعاله، وصادق في كل أحواله، ولكن معناها يتسع لِيدُلَّنا على أن الصدق ملازم له دائماً في القول وفي الفعل.
وأما صدق الأفعال فهو ألاَّ تُجرِّب عليه كلاماً، ثم يأتي فعله مخالفاً لهذا الكلام؛ وهذا هو مَنْ نطلق عليه «صِدِّيق».
ونحن نعلم أن حركات الإنسان في الحياة تنقسم قسمين؛ إما قول وإما فعل؛ والقول أداته اللسان، والفعل أداته كل الجوارح.
إذن: فهناك قول، وهناك فعل؛ وكلاهما عمل؛ فالقول عمل؛ والرؤية بالعين عمل؛ والسمع بالأذن عمل، والمسُّ باليد عمل.
لكن القول اختصَّ باللسان، وأخذتْ بقية الجوارح الفعل؛ لأن الفعل هو الوسيلة الإعلامية بين متكلم وبين مخاطب، وأخذ شق الفعل.
وهكذا نعلم أن الفعل قسمان: إما قول؛ وإما فعل.
والصَّدِّيق هو الذي يصدُق في قوله، بأن تطابق النسبة الكلامية الواقع، وصادق في فعله بألاَّ يقول ما لا يفعل.
ولذلك قال الحق سبحانه: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣].
ونعلم أن ساقي الملك كانت له مع يوسف تجربتان:
وكان قولهما هذا هو حيثية سؤالهم له أن يُؤوِّل لهما الرؤييين: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٣٦].
والتجربة الثانية: هي مجيء واقع حركة الحياة بعد ذلك مطابقاً لتأويله للرؤييين. ولذلك يقول له هنا:
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٤٦].
أي: أفتِنَا في رُؤيا سبع بقرات سِمَان؛ يأكلهن سبعُ بقرات شديد الهُزَال، وسبع سُنْبلات خُضْر، وسبع أُخر يابسات، لَعلِّي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.
وقوله: ﴿أَفْتِنَا﴾ [يوسف: ٤٦].
يوضح أنه لا يسأل عن رؤيا تخصُّه؛ بل هي تخص رائياً لم يُحدده، وإنْ كنا قد عرفنا أنها رُؤيا الملك.
وقوله: ﴿لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس﴾ [يوسف: ٤٦].
هو تحرُّز واحتياط في قضية لا يجزم بها؛ وهو احتياط في واقع
﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً﴾ [الكهف: ٢٣٢٤].
وساعة تقول: «إن شاء الله» تكون قد أخرجتَ نفسك من دائرة الكذب؛ وما دُمْتَ قد ذكرتَ الله فهو سبحانه قادر على أن يَهديك إلى الاختيار المناسب في كل أمر تواجه فيه الاختيار.
فكأن الله يُعلِّم عباده أن يحافظوا على أنفسهم، بأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأفعالهم؛ لأنك مهما خططتَ فأنت تخطط بعقل موهوب لك من الله؛ وحين تُقدِم على أيِّ فعل؛ فأيُّ فعل مهما صَغُر يحتاج إلى عوامل متعددة وكثيرَة، لا تملك منها شيئاً؛ لذلك فعليك أنْ تردَّ كلَّ شيء إلى مَنْ يملكه.
وهنا قال الساقي:
﴿لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس﴾ [يوسف: ٤٦].
وبذلك يُعلِّمنا الحق سبحانه الاحتياط.
وأضاف الحق سبحانه على لسان الرجل:
﴿لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٤٦].
وكأن الرجل قد عرف أنه حين يأخذ التأويل من يوسف عليه
أيستقبلونه بالقبول، أم بالمُحاجَّة فيه؟ أو يستقبلون التأويل بتصديق، ويعلمون قَدْرك ومنزلتك يا يوسف؛ فيُخلِّصوك مما أنت فيه من بلاء السجن.
وقوله تعالى: ﴿لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس....﴾ [يوسف: ٤٦].
قد يدفع سائلاً أن يقول: مَنِ الذي كلَّف الساقي بالذَّهاب إلى يوسف؛ أهو الملك أم الحاشية؟
ونقول: لقد نسبها الساقي إلى الكل؛ للاحتياط الأدائي.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ... ﴾.
والدَّأْب معناه: المُواظبة؛ فكأن يوسف عليه السلام قد طلب أن يزرع أهل مصر بدأبٍ وبدون كسل.
أي: ما تحصدونه نتيجة الزرع بجِدٍّ واجتهاد؛ فلكم أنْ تأكلوا القليل منه، وتتركوا بقيته محفوظاً في سنَابله.
والحفظ في السنابل يُعلِّمنا قَدْر القرآن، وقدرة مَنْ أنزل القرآن سبحانه، وما آتاه الله جل علاه ليوسف عليه السلام من علم في كل نواحي الحياة، من اقتصاد ومقومات التخزين، وغير ذلك من عطاءات الله، فقد أثبت العلم الحديث أن القمح إذا خُزِّن في سنابله؛ فتلك حماية ووقاية له من السوس.
وبعض العلماء قال في تفسير هذه الآية؛ إن المقصود هو تخزين القمح في سنابله وعيدانه.
وأقول: إن المقصود هو تَرْك القمح في سنابله فقط؛ لأن العيدان هي طعام الحيوانات.
ونحن نعلم أن حبة القمح لها وعاءان؛ وعاء يحميها؛ وهو ينفصل عن القمحة أثناء عملية «الدَّرْس» ؛ ثم يطير أثناء عملية «التذرية» مُنفصِلاً عن حبوب القمح.
ولحبة القمح وعاء ملازم لها، وهو القشرة التي تنفصل عن الحبة حين نطحن القمح، ونسميها «الردة» وهي نوعان: «ردة خشنة» و «ردة ناعمة».
ومن عادة البعض أن يَفصِلوا الدقيق النقي عن «الردة»،
فهذه القشرة الملازمة لحبة القمح ليست لحماية الحبة فقط؛ بل تحتوي على قيمة غذائية كبيرة.
وكان أغنياء الريف في مصر يقومون بتنقية الدقيق المطحون من «الردة» ويسمُّونه «الدقيقة العلامة» ؛ الذي إنْ وضعت ملعقة منه في فمك؛ تشعر بالتلَبُّك؛ أما إذا وضعت ملعقة من الدقيق الطبيعي الممتزج بما تحتويه الحبة من «ردة» ؛ فلن تشعر بهذا التلبُّك.
ويمتنُّ الله على عباده بذلك في قوله الحق: ﴿والحب ذُو العصف والريحان﴾ [الرحمن: ١٢].
وقد اهتدى علماء هذا العصر إلى القيمة الفاعلة في طَحْن القمح، مع الحفاظ على ما فيه من قشر القمح، وثبت لهم أن مَنْ يتناول الخبز المصنوع من الدقيق النقي للغاية؛ يعاني من ارتباك غذائي يُلجِئه إلى تناول خبز مصنوع من قِشْر القمح فقط، وهو ما يسمى «الخبز السِّن» ؛ ليعوض في غذائه ما فقده من قيمة غذائية.
وهنا يقول الحق سبحانه:
وهكذا أخبر يوسف الساقي الذي جاء يطلب منه تأويل رُؤْيا الملك؛ بما يجب أن يفعلوه تحسُّباً للسنوات السبع العجاف التي تلي السبع سنوات المزدهرة بالخُضْرة والعطاء، فلا يأكلوا مِلْء البطون؛ بل يتناولوا من القمح على قَدْر الكفاف:
﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ [يوسف: ٤٧].
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام من بقية التأويل لحُلْم الملك: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن... ﴾.
وقوله سبحانه في وصف السبع «سنوات» بأنها:
﴿شِدَادٌ..﴾ [يوسف: ٤٨].
يعني: أن الجَدْب فيها سوف يُجهِد الناس؛ فإنْ لم تكُنْ هناك
ونحن نعلم أن الإنسان يستبقي حياته بالتنفس والطعام والشراب؛ والطعام إنما يَمْري على الإنسان، ويعطيه قوة يواجه بها الحياة.
ولكن أغلب طعامنا لا نهدف منه القوة فقط؛ بل نبغي منه المتعة أيضاً، ولو كان الإنسان يبغي سَدَّ غائلة الجوع فقط، لاكتفى بالطعام المسلوق، أو بالخبز والإدام فقط، لكننا نأكل للاستمتاع.
ويتكلم الحق سبحانه عن ذلك فيقول: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ [النساء: ٤].
أي: بدون أن يضرك، ودون أن يُلجِئك هذا الطعام إلى المُهْضِمات من العقاقير.
وهذا هو المقصود من قول الحق سبحانه: ﴿هَنِيئاً... ﴾ [النساء: ٤]، أما المقصود بقوله: ﴿مَّرِيئاً﴾ [النساء: ٤].
وهنا قال الحق سبحانه:
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ [يوسف: ٤٨].
وبطبيعة الحال نفهم أن السنوات ليست هي التي تأكل؛ بل البشر الذين يعيشون في تلك السنوات هم الذين يأكلون.
ونحن نفهم ذلك؛ لأننا نعلم أن أي حدث يحتاج لزمان ولمكان؛ ومرة يُنسب الحَدث للزمان؛ ومرة يُنسب الحَدث للمكان.
والمثال على نسبة الحَدث للمكان هو قول الحق سبحانه: ﴿وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير... ﴾ [يوسف: ٨٢].
وطبعاً نفهم أن المقصود هو سؤال أهل القرية التي كانوا فيها، وأصحاب القوافل التي كانت معهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد الحدث منسوباً للزمان؛ وهم سيأكلون مما أحصنوا إلا قليلاً؛ لأنهم بعد أن يأكلوا لا بد لهم من الاحتفاظ بكمية من الحبوب والبُذُور لاستخدامها كتقاوي في العام التالي لسبع سنوات موصوفة بالجدب.
﴿مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ [يوسف: ٤٨].
نجده من مادة «حصن» وتفيد الامتناع؛ ويقال: «أقاموا في داخل الحصن» أي: أنهم إنْ هاجمهم الأعداء؛ يمتنعون عليهم؛ ولا يستطيعون الوصول إليهم.
ويقول الحق سبحانه: ﴿والمحصنات مِنَ النسآء... ﴾ [النساء: ٢٤].
أي: المُمْتنعات عن عملية الفجور؛ وهُنَّ الحرائر.
وأيضاً يقول الحق سبحانه: ﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ [الأنبياء: ٩١].
أي: التي أحكمتْ صيانة عِفَّتها، وهي السيدة مريم البتول عليها السلام، وهكذا نجد مادة «حصَن» تفيد الامتناع.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ... ﴾.
وأنهى يوسف عليه السلام تأويل الرُّؤيا، وبعد ذلك جاء بحكم العقل على الأمور؛ حيث يعود الخِصْب العادي ليعطيهم مثلما كان يعطيهم من قبل ذلك.
وهذا يمكن أن يطلق عليه «غَوْث» ؛ لأننا نقول «أغِثْ فلاناً» أي: أَعِنْ فلاناً: لأنه في حاجة للعون، والغيث ينزل من السماء لِيُنهِي الجَدْب.
وقوله: ﴿يُغَاثُ الناس... ﴾ [يوسف: ٤٩].
أي: يُعانون بما يأتيهم من فضل الله بالضروري من قوت يمسك عليهم الحياة.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله: ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: ٤٩].
أي: ما يمكن عَصْره من حبوب أو ثمار؛ مثل: السمسم، والزيتون، والعنب، والقصب، أو البلح، وأنت لن تعصر تلك الحبوب أو الثمار إلا إذا كان عندك ما يفيض عن قوت ذاتك وقوت من تعول.
ولاحظنا كيف انتقل القرآن من لقطة عجز الحاشية عن الإفتاء في أمر الرؤيا، وتقديم الساقي طلباً لأن يرسلوه كي يُحضِر لهم تأويل الرؤيا، ثم جاء مباشرة بالحوار بين يوسف والساقي.
هنا ينتقل القرآن إلى ما حدث، بعد أن عَلِم الملك بتأويل الرُّؤيا، فيقول سبحانه: ﴿وَقَالَ الملك... ﴾.
لكنه فُوجِيء برفض يوسف للخروج من السجن، وقوله لمن جاء يصحبه إلى مجلس الملك:
﴿ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠].
وهكذا حرص يوسف على ألاَّ يستجيب لمَنْ جاء يُخلِّصه من عذاب السجن الذي هو فيه؛ إلا إذا برئتْ ساحته براءةً يعرفها الملك؛ فقد
وأراد يوسف عليه السلام بذلك أن يُحقق المَلِك في ذلك الأمر مع هؤلاء النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن؛ ودَعَوْنَهُ إلى الفحشاء.
واكتفى يوسف بالإشارة إلى ذلك بقوله:
﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠].
ويُخفي هذا القول في طيَّاته ما قالته النسوة من قبل ليوسف بضرورة طاعة امرأة العزيز في طلبها للفحشاء.
وهكذا نجد القصص القرآني وهو يعطينا العِبْرة التي تخدمنا في واقع الحياة؛ فليست تلك القصص للتسلية، بل هي للعبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة.
وبراءة ساحة أي إنسان هو أمر مُهِمٌ؛ كي تزول أيُّ ريبة من الإنسان قبل أن يُسند إليه أي عمل.
وهكذا طلب يوسف عليه السلام إبراء ساحته، حتى لا يَقُولَنَّ قائل في وشاية أو إشاعة «همزاً أو لَمْزاً» : أليس هذا يوسف صاحب الحكاية مع امرأة العزيز، وهو مَنْ راودته عن نفسه؟
وها هو رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه والله يغفر له حيث أُرْسِل إليه ليُستفتى في الرؤيا، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، وعجبت من
وشاء نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُوضِّح لنا مكانة يوسف من الصبر وعزة النفس والنزاهة والكرامة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم. قال لو لبثتُ في السجن ما لبثَ، ثم جاءني الرسول أجبتُ ثم قرأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ..﴾ [يوسف: ٥٠] ».
وهكذا بيَّنَ لنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكانة يوسف من الصبر والنزاهة، وخشيته أن يخرج من السجن فَيُشَار إليه: هذا مَنْ راود امرأة سيده.
وفي قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إشارة إلى مبالغة يوسف في ذلك الأمر، وكان من الأحوط أن يخرج من السجن، ثم يعمل على كشف براءته.
ومعنى ذلك أن الكريم لا يستغل المواقف استغلالاً أحمق، بل يأخذ كل موقف بقدْره ويُرتِّب له؛ وكان يوسف واثقاً من براءته، ولكنه أراد ألاَّ يكون الملك آخر مَنْ يعلم.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرى أن الإيمان بالله يقتضي ألاَّ يقف المؤمن موقفَ الرِّيبة؛ لأن بعض الناس حين يَرَوْنَ نَابِهاً، قد تثير الغيرةُ من نباهته البعضَ؛ فيتقوَّلون عليه.
لذلك فعليك أن تحتاطَ لنفسك؛ بألاَّ تقف موقف الرِّيبة، والأمر الذي تأتيك منه الرِّيبة؛ عليك أن تبتعد عنه.
ولنا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسوة حسنة، «فقد جاءته زَوْجه صفية بن حُيي تزوره وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامتْ تنقلب أي: تعود إلى حجرتها فقام معها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مرّ بهما رجلان من الأنصار فسلَّما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» على رِسْلكما، إنما هي صفية بنت حُيي. قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ما قال. قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما «.
قال عنها يوسف ما أورد الحق سبحانه: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين﴾ [يوسف: ٣٣].
واستدعاهن الملك، وسألهن: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ [يوسف: ٥١].
والخَطْب: هو الحَدَثْ الجَلَل، فهو حدث غير عادي يتكلم به الناس؛ فهو ليس حديثاً بينهم وبين أنفسهم؛ بل يتكلمون عنه بحديث
ولذلك نجد إبراهيم عليه السلام، وقد قال لجماعة من الملائكة: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣١ - ٣٢].
أي: أن الملائكة طمأنتْ إبراهيم عليه السلام؛ فهي في مهمة لعقاب قوم مجرمين.
وموسى عليه السلام حين عاد إلى قومه، ووجد السامري قد صنع لهم عِجْلاً من الذهب الذي أخذوه من قوم فرعون نجده يقول للسامري: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري﴾ [طه: ٩٥].
وقَوْل الملك هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ﴾ [يوسف: ٥١].
يدلُّ على أنه قد سمع الحكاية بتفاصيلها فاهتزَّ لها؛ واعتبرها خَطْباً؛ مما يوضح لنا أن القيم هي القيم في كل زمان أو مكان.
وبدأ النسوة الكلام، فقُلْنَ:
﴿حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء﴾ [يوسف: ٥١].
ولم يذكُرْنَ مسألة مُرَاودتهِنَّ له، وكان الأمر المهم هو إبراء ساحة يوسف عند المَلِك.
وقولهن: ﴿حَاشَ للَّهِ... ﴾ [يوسف: ٥١] أي: نُنزِّه يوسف عن هذا، وتنزيهُنَا ليوسف أمْرٌ من الله.
﴿قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق... ﴾ [يوسف: ٥١].
أي: أنها أقرَّتْ بأنه لم يَعُدْ هناك مجال للستر، ووضح الحقُّ بعد خفاء، وظهرتْ حِصَّة الحق من حِصَّة الباطل، ولا بُدَّ من الاعتراف بما حدث:
﴿أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾ [يوسف: ٥١].
وواصلت امرأة العزيز الاعتراف في الآية التالية: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ..﴾.
وهذا يدلُّنا على أن شِرَّةَ الإنسان قد تتوهج لغرض خاص، وحين يهدأ الغرض ويذهب، يعود الإنسان إلى توازنه الكمالي في نفسه، وقد يجعل من الزَّلة الأولى في خاطره وسيلة إلى الإحسان فيما ليس له فيه ضعف، كي تستر الحسنةُ السيئة، مصداقاً لقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: ١١٤].
ولو أن إنساناً عمل سيئة وفضحه آخر عليها؛ فالفاضح لتلك
ولذلك أقول: استروا سيئات المسيء؛ لأنها قد تلهمه أن يقدم من الخير ما يمحو به سيئاته.
ولذلك قالوا: إذا استقرأتَ تاريخ الناس، أصحاب الأنفس القوية في الأخلاق والقيم؛ قد تجد لهم من الضعف هنات وسَقَطات؛ ويحاولون أن يعملوا الحسنات كي تُذهِب عنهم السيئات؛ لأن بالَ الواحد منهم مشغولٌ بضعفه الذي يُلهِبه؛ فيندفع لفعل الخيرات.
وبعد أن اعترفتْ امرأة العزيز بما فعلت؛ قالت:
﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾ [يوسف: ٥٢].
أي: أنها أقرَّتْ بأنه سبحانه وتعالى لا يُنفِذ كيد الخائنين، ولا يُوصِّله إلى غايته.
وتواصل امرأة العزيز فتقول: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي... ﴾.
﴿إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ... ﴾ [يوسف: ٥٣].
ومجيء قول الحق سبحانه المؤكِّد أن النفس على إطلاقها أمَّارة بالسوء؛ يجعلنا نقول: إن يوسف أيضاً نفس بشرية.
وكان من المناسب أن يرد يوسف عليه السلام بالقول:
﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي﴾ [يوسف: ٥٣].
ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى يوسف كَلَوْنٍ من الحرص على ألاَّ يلمسه غرور الإيمان، فهو كرسول من الله يعلم أن الله سبحانه هو الذي صرف كيدهُنَّ عنه.
وهذا لَوْن من رحمة الله به؛ فهو كبشر مُجرّد عن العصمة والمنهج من الممكن أن تحدث له الغواية؛ لكن الحق سبحانه عصمه من الزَّلَل.
ومن لُطْف الله أن قال عن النفس: إنها أمَّارة بالسوء؛ وفي هذا توضيح كافٍ لطبيعة عمل النفس؛ فهي ليستْ آمرةً بالسوء، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي الأمر.
لا، بل انتبه أيها الإنسان إلى حقيقة عمل النفس، فهي دائماً أمَّارة بالسوء، وأنت تعلم أن التكليفات الإلهية كلها إمَّا أوامر أو نَوَاهٍ،
ولذلك يقول المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات».
أي: أن المعاصي قد تُغريك، ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه، ويُقدِّر العواقب البعيدة، ولا ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية؛ إلا إذا نظر معها إلى الغاية التي توصله إليها تلك اللذة؛ لأن شيئاً قد تستلِذُّ به لحظة قد تَشْقى به زمناً طويلاً.
ولذلك قلنا: إن الذي يُسرف على نفسه غافل عن ثواب الطاعة وعن عذاب العقوبة، ولو استحضر الثواب على الطاعة، والعذاب على المعصية؛ لامتنع عن الإسراف على نفسه.
ولذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
إذن: فلحظة ارتكاب المعصية نجد الإنسان وهو يستر إيمانه؛ ولا يضع في باله أنه قد يموت قبل أن يتوبَ عن معصيته، أو قبل أن يُكفِّر عنها.
وكل مِنَّا مُطَالب بأن يضع في حُسْبانه حديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الموت القيامة، فمَنْ مات فقد قامت قيامته».
ولنا أسوة طيبة في عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهو الخليفة الثالث لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الذي كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتلَّ لحيته، فسُئِل عن ذلك؛ وقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفتَ على قبر؟ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإنْ نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم يَنْجُ منه، فما بعده أشد».
لذلك فلا يستبعد أحد ميعاد لقائه بالموت.
وتستمر الآية: ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٣].
ونعلم أن هناك ما يشفي من الداء، وهناك ما يُحصِّن الإنسان، ويعطيه مناعة أن يصيبه الداء، والحق سبحانه غفور، بمعنى أنه يغفر الذنوب، ويمحوها، والحق سبحانه رحيم، بمعنى أنه يمنح الإنسان مناعة، فلا يصيبه الداء، فلا يقع في زلة أخرى.
فساعةَ تسمع القرآن فهو يشفيك من الداء الذي تعاني منه نفسياً ويُقويَّ قدرتك على مقاومة الداء؛ ويُفجِّر طاقات الشفاء الكامنة في أعماقك. وهو رحمة لك حين تتخذه منهجاً، وتُطبِّقه في حياتك؛ فيمنحك مناعة تحميك من المرض، فهو طِبّ علاجيّ وطبّ وقائيّ في آنٍ واحد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَقَالَ الملك... ﴾.
مرتين، مرة: بعد أن سمع تأويل الرؤيا؛ لكن يوسف رفض الخروج من السجن إلا بعد أن تثبت براءته؛ أو: أنه خرج وحضر المواجهة مع النسوة بما فيهنّ امرأة العزيز.
ورأى الملك في يوسف أخلاقاً رفيعة؛ وسِعَة عِلْم.
وانتهى اللقاء الأول ليتدبر الملك، ويُفكر في صفات هذا الرجل؛
والمرة الثانية عندما أراد الملك أن يستخلصه لنفسه ويجعله مستشاراً له.
ويورد الحق سبحانه هذا المعنى في قوله:
﴿ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: ٥٤].
وهذا الاستخلاص قد جاء بعد أن تكلم الملك مع يوسف، وبعد أن استشفَّ خفَّة يوسف على نفسه؛ وتيقَّن الملك من بعد الحوار مع يوسف أنه رجل قد حفظ نفسه من أعنف الغرائز؛ غريزة الجنس.
وتيقن من أن يوسف تقبّل السجن، وعاش فيه لفترة طالتْ؛ وهو صاحب عِلْم، وقد ثبت ذلك بتأويل الرُّؤيا؛ وقد فعل ذلك وهو سجين، ولم يقبل الخروج من السجن إلا لإثبات براءته، أو بعد إثبات البراءة.
ولكلِّ ذلك صار من أهل الثقة عند الملك، الذي أعلن الأمر بقوله:
﴿إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: ٥٤].
وذلك ليسُدَّ باب الوِشَاية به، أو التآمر عليه. ومكانة «المكين» هي المكانة التي لا ينال منها أيُّ أحد.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما تكلَّم عن الوحي من جبريل عليه السلام قال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ﴾ [التكوير: ١٩ - ٢٠].
فالمعنى: أن يوسف عليه السلام أَهْل ٌللثقة عند الحاكم؛ وهو الذي سيُنفذ الأمور، وله صِلَة بالمحكومين، وإذا كان هو المُمَكَّن من عند الحاكم؛ فهو أيضاً أمين مع المحكومين.
وعلى الحاكم الذكيّ أن يختار الذين يتمتعون بالأمرين معاً: أمانة على المحكوم؛ وثقة عند الحاكم. وبهذا تعتدل الحياة على منهج الله.
وحين سمع يوسف عليه السلام هذا الكلام من الحاكم:
﴿إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: ٥٤].
قرر أن يطلب منه شيئاً يتعلق بتعبيره لرُؤْياه، التي سبق أن أوَّلها يوسف: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: ٤٧ - ٤٩].
وهذه عملية اقتصادية تحتاج إلى تخطيط وتطبيق ومتابعة وحُسْن تدبير وحزم وعِلْم.
لذلك كان مطلب يوسف عليه السلام فيه تأكيد على أن الواقع القادم سيأتي وفقاً لتأويله للرؤيا، فتقول الآيات: ﴿قَالَ اجعلني... ﴾.
وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلَّى بهما يوسف عليه السلام.
وقد يقول قائل: أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية؟ والقاعدة تقول: إن طالب الولاية لا يولَّى.
فيوسف عليه السلام لم يطلب ولاية، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته وتحقيقاً لرسالته، حيث أنه كان آمراً فيستجاب، ولم يكن مأموراً للإيجاب حيث أنه كان واثقاً بالإيمان ومؤمناً بوثوق.
وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه.
ومثال ذلك: لنفترض أن قوماً قد ركبوا سفينة؛ ثم هاجتْ الرياح وهبَّتْ العاصفة؛ وتعقَّدت الأمور؛ وارتبك القبطان، وجاءه مَنْ يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويُحسن إدارة قيادة المركب، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك.
هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة؛ وبعد أن ينتهي الموقف؛ على القبطان أن يُوجِّه الشكر لهذا الخبير؛ ويعود لقيادة السفينة.
إذن: فمن حقِّ الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعيَّن عليه ذلك، بأن يرى أمراً يتعرض له غير ذي خبرة يُفسد هذا الأمر، وهو يعلم وَجْه الصلاح فيه. وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ المجتمع.
الشجاعة الأولى: أنه طلب الولاية لنفسه؛ لثقته في إنجاح المهمة.
والشجاعة الثانية: إنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصباً لا يعلم إدارته، وبهذا يصير الباطل متصرفاً.
وبذلك يُظهر وَجْه الحق؛ ويُزيل سيطرة الباطل.
ولذلك نجد يوسف عليه السلام يقول للملك:
﴿اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٥].
والخزائن يوجد فيها ما يُمكّن المسيطر عليها من قيادة الاقتصاد.
وقالوا: إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لوضع سياسة اقتصادية يواجهون بها سبع سنين من الجَدْب، وتلك مسألة تتطلب حكمة وحِفْظاً وعِلْماً.
وكان يوسف عليه السلام يأخذ من كل راغبٍ في المَيْرة الأثمان من ذهب وفضة، ومَنْ لا يملك ذهباً وفضة كان يُحضر الجواهر من الأحجار الكريمة؛ أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاماً.
ومَنْ لا يملك كان يُحضر بعضاً من أبنائه للاسترقاق، أي: يقول رَبُّ الأسرة الفقيرة: خُذْ هذا الولد ليكون عبداً لقاء أن آخذ طعاماً لبقية أفراد الأسرة.
وكان يوسف عليه السلام يُحسِن إدارة الأمر في سنوات الجَدْب ليشُد كل إنسان الحزام على البطن، فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في مِعىً واحد، كما يقول رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف:
«المؤمن يأكلَ في مِعيٍّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء».
وما دام لكل شيء ثمن يجب أن يُدفع، فكل إنسان سيأخذ على قَدْر ما معه، وبعد أن انتهت سنوات الجَدْب، وجاءت سنوات الرخاء؛ أعاد يوسف لكل إنسان ما أخذه منه.
وحين سُئِل: ولماذا أخذتَ منهم ما دُمْتَ قد قررت أن تردَّ لهم ما أخذته؟
أجاب: كي يأخذ كل إنسان في أقلَّ الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب.
ومثل هذا يحدث عندنا حين نجد البعض، وهو يشتري الخبز المُدعَّم ليُطعِم به الماشية، وحين يرتفع ثمن الخبز نجد كل إنسان يشتري في حدود ما معه من نقود، ويحرص على ألاَّ يُلقِي مما اشترى شيئاً.
وكانت قدرة الدولة أيام الجفاف محدودة؛ لذلك وجب على كل فرد أن يعمل لنفسه.
ونحن نرى ذلك الأمر، وهو يتكرر في حياتنا؛ فحين لا يجد أحد ثمن اللحم فقد لا تهفو نفسه إلى اللحم، وقد يعلن في كبرياء: «إن معدتي لم تَعُدْ تتحمل اللحم».
وقد يعلن الفقير حُبَّه للسمك الصغير؛ لأن لحمه طيِّب، عكس السمك الكبير الذي يكون لحمه «مِتفِّلاً»، أو يعلن إعجابه بالفجل الطازج، لأنه لذيذ الطعم.
وقديماً في بدايات العمر كنا حين ندخل إلى المنزل، ونحن نعيش بعيداً عن بيوت الأهل في سنوات الدراسة، ولا نجد إلا قرصاً واحداً من «الطعمية»، كنا نقسم هذا القرص ليكفي آخر لقمة في الرغيف،
وهكذا يتحمل كل واحد على قَدْر حركته وقدرته.
والشاعر يقول:
والنفسُ راغبةٌ إذَا رغَّبتَها... وإذَا تُرَدُّ إلى قَليلٍ تَقْنَعُ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وكذلك مَكَّنَّا... ﴾.
بدليل أن هناك أُنَاساً من بلاد أخرى لجئوا يطلبون رزقهم منها؛ والمثل: إخوة يوسف الذين جاءوا من الشام يطلبون طعاماً لهم ولمن ينتظرهم في بلادهم، فهذا دليل على أن رُقْعة الشدة كانت شاسعة.
وقول الحق سبحانه:
﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ﴾ [يوسف: ٥٦].
لكن: لماذا لا ننظر إليها بعيون تكشف حقيقة رجال الإدارة في بعض البلاد؛ فما أنْ يعلموا بوجود بيت للحاكم في منطقة ما؛ وقد يزوره؛ فهم يعتنون بكل المنطقة التي يقع فيها هذا البيت.
وهذا ما نراه في حياتنا المعاصرة، فحين يزور الحاكم منطقة ما فَهُمْ يُعيدون رَصْف الشوارع؛ ويصلحون المرافق؛ وقد يُحضِرون أُصَص الزرع ليُجمِّلوا المكان.
فما بَالُك إنْ عَلِموا بوجود بيت للحاكم في مكان ما؟ لا بُدَّ أنهم سَيُوالون العناية بكل التفاصيل المتعلقة بالمرافق في هذا الموقع.
إذن: فقول الحق سبحانه هنا عن يوسف عليه السلام:
﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ..﴾ [يوسف: ٥٦].
يعني: شُيوع العناية بالخدمات لكل الذين يسكنون في هذا البلد؛ فلا تأخذ الأمر على أنه تَرَف وشَرَف، بل خُذْ هذا القول على أنه تكليف سينتفع به المُحيطون، سواء كانوا مقصودين به أو غير مقصودين.
وتلك لقطة توضح أن التبُّوء حيث يشاء ليس رحمةً به فقط؛ ولكنه رحمةٌ بالناس أيضاً.
ولذلك يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ﴾ [يوسف: ٥٦].
فَمَنْ كان يحيا بلا مياه صالحة للشرب ستصله المياه النقية؛ ومَنْ كان يشقى من أجل أن يعيش في مكان مُريح ستتحول المنطقة التي
فيوسف المُمكّن في الأرض له مسكن مجاور له؛ وسيجد العناية من قِبَل الجهاز الإداري حيثما ذهب، وتغمر العناية الجميع، رحمة من الله له، وللناس من حوله.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ [يوسف: ٥٦].
والمُحْسِن هو الذي يصنع شيئاً فوق ما طُلب منه.
وهنا سنجد الإحسان يُنسب ليوسف؛ لأنه حين أقام لنفسه بيتاً في أكثر من مكان؛ فقد أحسن إلى أهل الأمكنة التي له فيها بيوت؛ بارتفاع مستوى الخدمة في المرافق وغيرها.
وسبحانه يجازي المحسنين بكمال وتمام الأجر، وقد كافأ يوسف عليه السلام بالتمكين مع محبة من تولَّى أمرهم.
ويتابع الحق سبحانه: ﴿وَلأَجْرُ الآخرة..﴾.
الأول: هو أن شيئاً خير من شيء آخر؛ أي: أنهما شركاء في الخير، وهو المعنى المقصود هنا، والمثال: هو قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «
والاستعمال الثاني لكلمة «خير» : هو خير مقابله شرّ، والمثال: هو قول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨]، والحق سبحانه يريد أن يعتدل ميزان حركة الحياة، لن يعتدل ميزان حركة الحياة بأن نقول للإنسان على إطلاقه: سوف تأخذ أجر عملك الطيب في الآخرة؛ لأن المؤمن وحده هو الذي سيصدق ذلك.
أما الكافر فقد يظلم ويسفك الدماء، ويسرق ويستشري الفساد في الأرض.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الجزاءَ نوعين: جزاء في الدنيا لمَنْ يُحسِن، سواء أكان مؤمناً أو كافراً؛ وجزاءً في الآخر يختصُّ به الحقُّ سبحانه المؤمنين به.
والحق سبحانه يقول هنا:
﴿وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [يوسف: ٥٧].
أي: أنه أكثر خيراً من جزاء الدنيا؛ لأن جزاء الآخرة يدوم أبداً،
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك عن إخوة يوسف: ﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ... ﴾.
ولكل حدث من تلك الأحداث أثر على ملامح الإنسان؛ فضلاً عن أنهم جاءوه وهو في منصبه العالي، بما يفرضه عليه من وجاهة في الهيئة والملبس.
أما هو فقد عرفهم؛ لأنه قد تركهم وهم كبار، وقد تحددت ملامحهم، ونعلم أن الإنسان حين يمر عليه عِقْد من الزمان؛ فهذا الزمن قد يزيد من تحديد ملامحه، إذا ما كانَ كبيراً ناضجاً، لكنه لا يغيرها مثلما يُغيِّر الزمنُ ملامح الطفل حين يكبر ويصل إلى النضج.
والذي دفعهم إلى المجيء هو القحط الذي لم يُؤثِّر على مصر وحدها؛ بل أثَّر أيضاً على المناطق المجاورة لها.
وذاع أمر يوسف عليه السلام الذي اختزن الأقوات تحسُّباً لذلك القحط؛ وقد أرسلهم أبوهم ليطلبوا منه الَميْرة والطعام، ولم يتخيَّلوا
ويقول الحق سبحانه: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم....﴾.
وكلمة «الجهاز» تُطلق هنا على ما تسبَّب في انتقالهم من موطنهم إلى لقاء يوسف طلباً للميرة.
وطلب منهم من بعد ذلك أن يأتوا بأخيهم «بنيامين» معهم، وقال لهم:
﴿أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين﴾ [يوسف: ٥٩].
وكان كل منهم قد أتى على بعير، عليه بضائع يدفعونها كأثمان لِمَا يأخذونه، وحين يحضرون ومعهم أخوهم سيأخذون كَيْل بعير فَوق ما أخذوه هذه المرَّة.
وهم قد قالوا لأبيهم هذا القول، حينما سألوه عن إرسال أخيهم معهم لمصاحبتهم في الرحلة حسب طلب يوسف عليه السلام؛ لذلك تقول الآية: ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ [يوسف: ٦٥].
وقوله:
﴿وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين﴾ [يوسف: ٥٩].
يعني: أنه يرحب بالضيوف؛ وقد لمسوا ذلك بحُسْن المكان الذي نزلوا فيه. بما فيه من راحة وطيب الاستقبال، ووجود كل ما يحتاجه الضيف في إقامته.
وكلمة «مُنْزِل» في ظاهر الأمر أنها ضدّ مُعْلِي، وحقيقة المعنى هو: مُنزِل مِنَ الذي ينزل بالمكان الموجود به كل مطلوبات حياته.
والحق سبحانه يقول عن الجنة: ﴿نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٢].
وقلت لإخواني الذين بُهروا بفندق رَاقٍ في سان فرانسيسكو: إن الإنسان حين يرى أمراً طيباً، أو شيئاً رَاقِياً، أو جميلاً عند إنسان آخر سيستقبلها بواحد من استقبالين: تظهر نَفسه فيه؛ فإن كان حَقُوداً فسينظر للأشياء بكراهية وبحقد، وإنْ كان مؤمنا يفرح ويقول:
هذه النعمة التي أراها تزيد من عِشْقي في الجنة؛ لأن تلك النعمة التي أراها قد صنعها بشر لبشر؛ فماذا عن صُنْع الله للجنة؟ وهو مَنْ خلق الكون كله بما فيه من بشر؟
ودائماً أقول: ما رأيتُ نعيماً عند أحد إلا ازداد إيماني، بأن الذي أراه من نعمة قد أعدَّه البشر للبشر؛ فما بالنا بما أعدَّه خالق البشر للمؤمنين من البشر؟
أما مَنْ ينظر نظرةَ حِقْد إلى النعمة عند الغير؛ فهو يحرم نفسه من صَبابة النعمة عند الغير؛ لأن النعمة لها صَبابة عند صاحبها، وتتعلق به، وإن فرحتَ بالنعمة عند إنسان؛ فثِقْ أن النعمة ستطرق بابك، وإن كرهتها عند غيرك؛ كرهتْ النعمة أن تأتي إليك.
فإنْ أردتَ الخير الذي عند غيرك؛ عليك أن تحب النعمة التي عند هذا الغير؛ لتسعى النعمة إليك؛ دون أن تتكلف عبء إدارة هذه النعمة أو صيانتها؛ لأنها ستأتي إليك بقدرة الحق سبحانه.
وقَوْل يوسف عليه السلام في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
هو إخبار منه يؤكد ما استقبلهم به من عدل، وتوفية للكيل، وحُسْن الضيافة، ولا شك أنهم حين يُحضِرون أخاهم سيجدون نفس الاستقبال.
ويواصل الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف: ﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي... ﴾.
﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي..﴾ [يوسف: ٦٠].
قال لهم ذلك، وهو يعلم أن المَعَاد مَعَادُ قَحْط وجَدْب ومجاعة.
وأضاف يوسف:
﴿وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ [يوسف: ٦٠].
أي: لا تأتوا ناحية هذا البلد الذي أحكمه؛ ولذلك سنجدهم يقولون لأبيهم من بعد ذلك: ﴿اأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [يوسف: ٦٣].
وتلقَّوْا الإنذار من يوسف، وقالوا ما أورده القرآن هنا:
وقولهم:
يعني: أن الأمر ليس سهلاً؛ وهم يعرفون ماذا فعلوا من قبل مع يوسف، والمُرَاودة تعني أخْذ وردّ، وتحتاج إلى احتيال؛ وسبق المعنى في قوله الحق سبحانه: ﴿وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ... ﴾ [يوسف: ٢٣].
وأكدوا قولهم:
﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ [يوسف: ٦١].
أي: أنهم سيبذلون كُلَّ جهودهم؛ كي يقبل والدهم إرسالَ أخيهم معهم، وهم يعلمون أن هذا مطلبٌ صَعْب المَنال، عسير التحقيق.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ... ﴾.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا... ﴾.
وحَكَوْا لأبيهم قصتهم مع عزيز مصر، وإن وافق الأب على إرسال أخيهم «بنيامين» معهم؛ فلسوف يكتالون، ولسوف يحفظون أخاهم الصغير.
وهنا يأتي الحق سبحانه بما قاله أبوهم يعقوب عليه السلام: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ....﴾.
وأضاف: ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ [يوسف: ٦٤].
وهو قَوْل نتنسَّم فيه أنه قد وافق على ذهاب بنيامين معهم، وأنه يدعو الحق ليحفظ ابنه.
وبدأ أبناء يعقوب في فتح متاعهم بعد الرحلة، وبعد الحوار مع أبيهم.
ويقول الحق سبحانه: ﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ....﴾.
ولا بُدَّ أن يصحبوا أخاهم في المرة القادمة، ولسوف يحفظونه، ولسوف يعودون ومعهم كيْل زائد فوق بعير، وهذا أمر هَيِّن على عزيز مصر.
ولكن والدهم يعقوب عليه السلام قال ما أورده الحق سبحانه هنا: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ... ﴾.
وطلب منهم أن يحلفوا بيمين مُوثقة أن يعودوا من رحلتهم إلى
﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ... ﴾ [يوسف: ٦٦].
وأقسم أبناء يعقوب على ذلك، وأعطَوْا أباهم اليمين والعهد على رَدِّ بنيامين، وليكون الله شهيداً عليهم.
قال يعقوب:
﴿الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [يوسف: ٦٦].
أي: أنه سبحانه مُطلع ورقيب، فإن خُنْتم فسبحانه المنتقم.
ويُوصِي يعقوب أولاده الأسباط: ﴿وَقَالَ يابني....﴾.
ومن هنا أمرهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، وكانت المدن قديماً لها أبواب؛ تُفتح وتقفل في مواعيد محددة، وحين يدخلون فُرادى فلن ينتبه أحد أنهم جماعة.
وقد خاف يعقوب على أبنائه من الحسد، ونعلم أن الحسد موجود.
وقد علَّمنا سبحانه أن نستعيد به سبحانه من الحسد؛ لأنه سبحانه قد عَلِم أزلاً أن الحسد أمر فوق طاقة دَفْع البشر له، وهو القائل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: ١ - ٥].
وفي أمر الحسد أنت لا تستطيع أن تستعيذ بواحد مُسَاوٍ لك؛ لأن الحسد يأتي من مجهول غير مُدْرَك، فالشعاع الخارج من العين قد يتأجج بالحقد على كل ذي نعمة، وإذا كان عصرنا، وهو عصر الارتقاءات المادية قد توصَّل إلى استخدام الإشعاع في تفتيت الأشياء.
إذن: فمن الممكن أن يكون الحسدُ مثل تلك الإشعاعات؛ والتي
والحق سبحانه هو القائل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١].
وإنْ قال قائل: ولماذا يُعطي الحق سبحانه بعضاً من خلقه تلك الخواص؟
أقول: إنه سبحانه يعطي من الإمكانات لبعض من خلقه، فيستخدمونها في غير موضعها، وكلُّ إنسان بشكل ما عنده إمكانية النظرة، ولكن الحقد هو الذي يولد الشرارة المُؤْذية، ويمكنك أن تنظر دون حسد إنْ قُلْتَ: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم بارك.
بذلك لا تتحقق الإثارة اللازمة لتأجُّج الشرارة المؤذية، ويمكنك أن تستعيذ بالله خالق البشر وخالق الأسرار، وتقرأ قول الحق سبحانه: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: ١ - ٥].
وأن تقول كلمات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين كان يُعوِّذ الحسن والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، ويقول: «
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كان أبوكما إبراهيم يُعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلام».
كما «أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» كان إذا حَزَبَهُ أمر قام وصلى «
، لأن معنى حَزْب أمر للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو لواحد من اتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن هذا الأمر يخرج عن قدرة البشر.
وهنا على الإنسان أن يأوي إلى المُسبِّب، فهو الركن الشديد، بعد أن أخذتَ أنت بالأسباب الممدودة لك من يد الله، وبذلك يكون ذهابك إلى الحق هو ذهاب المُضطر؛ لا ذهاب الكسول عن الأخذ بالأسباب.
والحق سبحانه يقول: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء﴾ [النمل: ٦٢].
والمضطر هو من استنفد كل أسبابه، ولم يَدْعُ ربه إلا بعد أن
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد يعقوب عليه السلام وقد أوصى أبناءه ألاَّ يدخلوا مصر من باب واحد؛ بل من أبواب متفرقة خشية الحسد، وتنبهت قضية الإيمان بما يقتضيه من تسلم لمشيئة الله، فقال:
﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ..﴾ [يوسف: ٦٧].
أي: لست أُغْني عنكم بحذري هذا من قدر الله، فهو مجرد حرص، أما النفع من ذلك الحرص والتدبير فهو من أمر الله، ولذلك قال:
﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾ [يوسف: ٦٧].
فكل الخَلْق أمرهم راجع إلى الله، وعليه يعتمد يعقوب، وعليه يعتمد كل مؤمن.
ونفَّذَ أبناءُ يعقوب ما أمرهم به أبوهم، يقول سبحانه: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ... ﴾.
ولذلك قال سبحانه:
﴿إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا... ﴾ [يوسف: ٦٨] ويعقوب يعلم أن أيَّ شيء لن يردَّ قدر الله، وسبحانه لم يُعْطِ الاحتياطات الولائية ليمنع الناس بها قدرَ الله.
ويقول سبحانه هنا عن يعقوب:
﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ... ﴾ [يوسف: ٦٨].
أي: أنه يعرف موقع المُسبِّب وموقع الأسباب، ويعلم أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله؛ لأنه سبحانه قد خلق الأسباب رحمةً بعباده:
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٦٨].
أي: يعزلون الأسباب عن المُسبِّب، وهذا ما يُتعِب الدنيا.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
وقد عرفنا من قبل أنه الشقيق الوحيد ليوسف؛ فهما من أم واحدة؛ أما بقية الإخوة فهم من أمهات أخريات.
وقول الحق سبحانه عن يوسف:
﴿آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ [يوسف: ٦٩].
يدلُّ على أن يوسف كان مُتشوِّقاً لرؤية شقيقه.
وقوله:
﴿قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: ٦٩].
يوضح لنا أن إخوة يوسف قد استفردوا لفترة ببنيامين، ولم
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ... ﴾.
إذن: لا بُدَّ من حيلة يستطيع بها أن يستبقي بها أخاه معه، وقد جَنَّد الله له فيها إخوته الذين كانوا يُعَادونه، وكانوا يحقدون عليه وعلى أخيه.
وجاءت هنا حكاية صُوَاع الملك، التي يشرب فيها الملك، وتُستخدم كمكيال، وجعلها في رَحْل أخيه.
والقرآن الكريم يقول: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ [التوبة: ١٩].
فكان معنى السقاية أيضاً هو المكان الذي يُوضَع فيه الماء ليشرب منه الناس.
أو: تُطلق «السقاية» على الآلة التي يُخرج بها الماء للشاربين.
وهنا تُطلق كلمة «السقاية» على الإناء الذي كان يشرب به الملك، ويُستخدم كمكيال، وهذا دليلٌ على نَفَاسة المَكِيل.
وتُطلق أيضاً كلمة «صواع» على مثل هذه الأداة التي يُشرب منها، أو يُرفع بها الماء من المكان إلى فَمِ الشارب؛ وأيضاً يُكَال بها؛ ومفردها «صاع».
ويقول الحق سبحانه هنا عن حيلة يوسف لاستبقاء أخيه معه:
﴿جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ [يوسف: ٧٠].
أي: أمر بعضاً من أعوانه أن يَضَعوا «السقاية» في رَحْل
﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠].
أي: يا أصحاب تلك العير أنتم سارقون. والسرقة فعل قبيح حينما يترتَّبُ عليها جزاء يُوقَّع على السارق، والمسروق هو شيء ثمين.
وفيما يبدو أن هذه الحيلة تمَّتْ بموافقة من «بنيامين» ليمكث مع أخيه يوسف حتى يحضر أبواه إلى مصر.
ولسائل أن يقول: وكيف رَضِى بنيامين بذلك، وهو أمر يُزِيد من حُزْن يعقوب؟ وكيف يتهم يوسف إخوته بسرقة لم يرتكبوها؟
أقول: انظروا إلى دِقَّة القرآن، ولنُحْسِنَ الفهم عنه؛ لنرى أن حزن يعقوب على فَقْد يوسف قد غلبه؛ فلَن يُؤثِّر فيه كثيراً فَقْد بنيامين.
ودليل ذلك أن يعقوب عليه السلام حين عاد أبناؤه وأخبروه
ولم يذكر يعقوب بنيامين.
وأما عن اتهامهم بالسرقة؛ فالآية هنا لا تُحدِّد ماذا سرقوا بالضبط، وهم في نظر يوسف قد سَرَقوه من أبيه، وألقوْه في الجُبِّ.
وهنا يأتي الحق سبحانه بموقف إخوة يوسف عليه السلام: ﴿قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ..﴾.
وهنا يقول الحق سبحانه ما قاله من اتهموهم: ﴿قَالُواْ نَفْقِدُ... ﴾.
وأكد رئيس المنادين أنه الضامن لمن يُخرج صواع الملك، ويحضرها دون تفتيش أن ينال جائزته، وهي حِمْل بعير من المَيْرة والغذاء.
وهنا قال إخوة يوسف عليه السلام: ﴿قَالُواْ تالله... ﴾.
وهنا يأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنة مَنْ أعلنوا عن وجود سرقة، وأن المسروق هو صُوَاع الملك.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: ﴿قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ....﴾.
وكان المعروف أن مَنْ يُضبط بسرقة في شريعة آل يعقوب أن يُسترقَّ أو يظل في خدمة مَنْ سرقهم، كما فعلت عمة يوسف التي أحبته وعاش معها بعد وفاة أمه؛ وحين أراد والده أن يسترده أخفَتْ في ثياب يوسف شيئاً عزيزاً ورثته عن أبيها إسحاق، وبذلك استبقتْ يوسف معها، ولم يأخذه أبوه إلا بعد أن ماتت عمَّته.
وكان هدف يوسف عليه السلام إذن أن يستبقي أخاه معه؛ وهو قد علم من قبل هذا الحكم، وهكذا تركهم يوسف عليه السلام يحكمون بأنفسهم الحكم الذي يَصْبُو إليه، وهو بقاء أخيه معه.
ويُورِد الحق سبحانه قولهم: ﴿قَالُواْ جَزَآؤُهُ... ﴾.
﴿كذلك نَجْزِي الظالمين﴾ [يوسف: ٧٥].
ويقول الحق سبحانه: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ... ﴾.
وهكذا جعل الحق سبحانه الكيد مُحْكماً لصالح يوسف، وهو الحق القائل:
﴿كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٧٦].
أي: كان الكيد لصالحه.
ويتابع سبحانه:
﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [يوسف: ٧٦].
ويتابع سبحانه:
﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦].
وهكذا رفع الله من شأن يوسف، وكَادَ له، وحقَّق له أمله، وهو يستحق كل ذلك؛ ورفعه سبحانه درجاتٍ عالية من العلم والحكمة.
ولم يكُنْ الكيد بسبب أن يُنزِل بشقيقه عذاباً أو ضياعاً، بل نريد ليوسف ولأخيه الرِّفْعة، فكأن كثيراً من المصائب تحدث للناس، وهم لا يَدْرون ما في المحنة من المِنَح.
وعلى المؤمن أن يعلم أن أيَّ أمر صعب يقع عليه من غير رأي منه؛ لا بُدَّ وأن يشعر أن فيه من الله نفعاً للإنسان.
وإخوة يوسف سبق أنْ كَادوا له، فماذا كانت نتيجة كَيْدهم؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يجعل الكيد كله لصالح يوسف، وجعله سبحانه ذَا علم، فقال:
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦].
و (ذي علم) أي: صاحب علم. وكلاهما مُنْفِصل، أي: هناك «صاحب»، وهناك «علم»، والصاحب يوجد أولاً؛ وبعد ذلك يطرأ عليه العلم؛ فيصير صاحبَ عِلْم، ولكن فوقه:
﴿عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦].
فماذا كان موقف أخوة يوسف؟
بطبيعة الحال لابد أنهم قد بُهِتوا، أول تصرف منهم كان لا بُدَّ أن ينصرف إلى الأخ الذي وُجدت السقاية في رَحْله؛ وأخذوا يُوبِّخونه؛ لأنه أحرجهم وفضحهم، وبحثوا عن أسباب عندهم للحفيظة عليه؛ لا للرفق به.
وموقفهم المُسْبق منه معروف في قولهم: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف: ٨].
وهم يعلمون أن يوسف وأخاه من امرأة أخرى هي «راحيل»، ولو كان شقيقاً لهم لَتلَّطفوا به. وأوضح لهم: إن مَنْ جعل البضاعة في رِحَالي هو مَنْ جعل البضاعة في رِحَالكم.
وهنا قال أحد الأخوة: تالله، يا أبناء راحيل، ما أكثر ما نزل علينا من البلاء منكم، فَرَدَّ بنيامين: بنو راحيل نزل عليهم من البلاء منكم فوق ما نزل عليكم من البلاء منهم.
ويورد الحق سبحانه هنا قولهم:
وقولهم:
﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ..﴾ [يوسف: ٧٧].
يُسمَّى في اللغة قضية شرطية. ومعنى القضية الشرطية؛ أن حدثاً يقع بسبب حَدَث وقع قبله، فهناك حَدَث يحدث وحده، وهناك حَدَث يحدث بشرط أن يحدث قبله حدث آخر.
مثال هذا هو قولك لتلميذ: إنْ تذاكر دروسك تنجحْ، وهنا حَدَثان، المذاكرة والنجاح، فكأن حدوثَ النجاح الشرط فيه حدوث المذاكرة، ولا بُدَّ أن يحدث الشرط أولاً؛ ثم يحدث الحدث الثاني، وهو هنا قولهم:
﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧]. كتعليل لسرقة بنيامين.
والمثل من القرآن أيضاً:
فكأن الله يوضح للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنْ كذَّبوك الآن فيما تنقل لهم من أخبار السماء؛ فلا تحزن ولا تبتئس؛ فهذا التكذيب ظاهرة عَانَى منها كل الرسل السابقين لك؛ لأنهم يجيئون بما يُنكره المرسل إليهم أولاً، فلا بد أن يكذبوا، وهكذا يستقيم الشرط، لأن الحق سبحانه هنا قد عدل بالشيء عن سببه، فكان جواب الشرط بعد الزمان الذي حدث فيه الشرط.
وهنا قال الحق سبحانه:
﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ..﴾ [يوسف: ٧٧].
أي: لا تعجب يا عزيز مصر؛ لأن هذه خصلة في أولاد راحيل، قالوا ذلك وهم يجهلون أنهم يتحدثون إلى يوسف ابن راحيل!!
وكل حدث يحدث للمَلَكات المستقيمة؛ لا بُدَّ أن يُخرج تلك المَلَكات عن وضعها، ونرى ذلك لحظة أن يتفوَّه واحد بكلمة تُخرج إنساناً مستقيماً عن حاله وتُنغِّصه، ويدرك بها الإنسان المستقيم ما يؤلمه؛ وينفعل انفعالاً يجعله ينزع للردِّ.
ولذلك يوصينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب؛ وإلا فليضطجع».
ولكن يوسف عليه السلام لم ينزع إلى الرد، لذلك قال الحق سبحانه:
﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ... ﴾ [يوسف: ٧٧].
وكان يستطيع أن يقول لهم ما حدث له من عمَّته التي اتهمته بالباطل أنه سرق؛ لتحتفظ به في حضانتها من فَرْط حُبِّها له، لكن يوسف عليه السلام أراد أن يظل مجهولاً بالنسبة لهم، لتأخذ الأمور مجراها:
﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ..﴾ [يوسف: ٧٧].
حدث ذلك رغم أن قولهم قد أثَّر فيه، ولكن قال رأيه فيهم لنفسه:
﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ٧٧].
لأنكم أنتم مَنْ أخذتموني طفلاً لألعب؛ ثم ألقيتموني في الجب؛ وتركتم أبي بلا موانسة.
. وأنا لم أسرق بل سُرِقت، وهكذا سرقتم ابناً من أبيه.
وهو إنْ قال هذا في نفسه فلا بُدَّ أن انفعاله بهذا القول قد ظهر على ملامحه، وقد يظهر المعنى على الملامح، ليصِلَ إليهم المعنى، والقول ليس إلا ألفاظاً يصل به مدلول الكلام إلى مُسْتمع.
وقد وصل المعنى من خلال انفعال يوسف.
أي: أنه سبحانه أعلم بما تنعتون، وتظهرون العلامات والسِّمات، وغلبت كلمة «تصفون» على الكلام.
ومثال هذا هو قول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾ [النحل: ١١٦].
أي: أن ما تقولونه يُوحي من تلقاء نفسه أنه كَذِب، وهكذا نعرف أن كلمة «تَصِف» وكلمة «تصفون» غلب في استعمالهما للكلام الذي يحمل معه دليلَ كَذِبه.
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنتهم بعد ذلك: ﴿قَالُواْ ياأيها... ﴾.
﴿إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً... ﴾ [يوسف: ٧٨].
ونلحظ أن كلمة «كبير» تُطلق إطلاقات متعددة، إنْ أردتَ الكِبَر في السنِّ تكون من «كَبرَ يَكْبَر»، وإنْ أردتَ الكِبَرَ في المقام تقول: «كَبُرَ يَكبُر».
والكِبَر واحد من معاني العظمة، أما الكِبَرُ في السِّنِّ فهو مختلف؛ وهنا قالوا:
﴿إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً... ﴾ [يوسف: ٧٨].
قد تكون ترقيقاً بالعزة، أو ترقيقاً بالضعف.
أي: إن له أباً شيخاً كبيراً عظيماً في قومه؛ وحين يُبلغه أن ابنه قد احتُجز من أجل سرقة، فهذا أمر مؤلم؛ ولك أن تُقدِّر ذلك وأنت عزيز مصر؛ ونرجو أن تحفظ للأب شرفه ومَجْده وعظمته، واسْتُرْ ذلك الأمر من أجل خاطر ومكانة والده.
أو: أن يكون قولهم مقصوداً به، أن الأب شيخ مُهدَّم، لا يحتمل الصدمة، وخصوصاً أن له ابناً قد فُقِد.
ثم يعرضون عَرْضاً آخر، فيقولون:
﴿فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٧٨].
أي: أنهم سألوه أن يُتمِّمَ إحسانه عليهم، فقد أحسن استقبالهم؛ وسبق أن أنزلهم منزلاً كريماً، وأعطاهم المَيْرة، ولم يأخذ بضائعهم ثمناً لها.
ومَنْ يفعل ذلك؛ لا يضِنُّ عليهم بأن يستجيب لرجائهم، بأن يأخذ واحداً منهم بدلاً من أخيهم الصغير.
وساعةَ تقرأ «إذا» مُنوَّنة؛ فاعرف أن هناك جملةً محذوفةً، أي: أن يوسف قال: إنْ أخذنا غير مَنْ وجدنا متاعنا عنده نكون من الظالمين.
وجاء «التنوين» بدلاً من الجملة المحذوفة التي ذكرناها.
ومثال آخر من القرآن هو قول الحق سبحانه: ﴿وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٤].
ويحدث ذلك حين تبلغ الرُّوح الحلقوم، وجاء «التنوين» عِوَضاً عن الجملة كلها.
وهكذا أراد يوسف أن يُذكِّرهم أنه لا يحِقُّ له أن يأخذ أخاً منهم بدلاً من بنيامين؛ لأنه هو مَنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك؛
وهنا علم أبناء يعقوب أن المسألة لا يُبَتُّ فيها بسهولة؛ لأنها تتعلق بأمر خطير.
ويصور الحق سبحانه حالتهم هذه فيقول: ﴿فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ..﴾.
فهم قد أخذوا يُرقِّقون كل ألوان المُرقِّقات؛ ولا فائدة؛ وكلما أوردوا مُرقِّقاً؛ يجدون الباب أمامهم مُوصَداً.
وكأنهم بذلك يُلِحُّون على اليأس أن يأتيهم؛ لأن الظروف المحيطة والجو المحيط لا يحمل أي بارقة أملٍ، وكلما تبدو بارقةُ أملٍ
وهنا: ﴿خَلَصُواْ نَجِيّاً..﴾ [يوسف: ٨٠].
أي: أنهم انفردوا عنه، وعن أعين الحاضرين؛ العزيز يوسف، ومَنْ حوله من المُعَاونِين له، وأخيهم موضع الخلاف، وانفردوا بأنفسهم.
والانفراد هو المناجاة؛ والمناجاة مَسرَّة؛ والمَسرَّة لا تكون إلا في أمر لا تحب لغيرك أن يطلع عليه.
ونلحظ أن: ﴿خَلَصُواْ... ﴾ [يوسف: ٨٠] هي جمع، و: ﴿نَجِيّاً﴾ [يوسف: ٨٠] مفرد، وهذا من ضمن المواقع التي يتساءل فيها مَنْ لا يملكون مَلَكةً عربية: كيف يأتي القرآن بمفرد بعد الجمع؟
ونقول دائماً: لو أنهم امتلكوا اللغة كملَكَة لَعرفوا أن ذلك جائز جداً. ومثال هذا هو قول الحق سبحانه: ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤].
وهم لا يفهمون أن اللغة فيها ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، كأن الملائكة يجمعون قوة كل واحد منهم لتكون قوة واحدة.
ومثال آخر: هو قول إبراهيم خليل الرحمن:
أي: أن إبراهيم عليه السلام جمع الآلهة المتعددة التي يعبدونها وجعلها عدواً واحداً له.
وكذلك يمكن أن نفعل مع كلمة «صديق»، وكذلك كلمة «عَدْل» فحين ينظر القضاء في أمر قضية ما؛ فالقاضي لا يُصدِر الحكم وحده؛ بل يُصِدره بعد التشاور مع المُستَشارين؛ ويصدر الحكم من الثلاثة: رئيس المحكمة، وعضو اليمين، وعضو اليسار وكلاهما بدرجة مستشار.
ويُقَال: «حكم القضاة عَدْلاً». ولا يقال: إن كل مستشار أو قاض له عدل.
وكذلك: ﴿نَجِيّاً﴾ [يوسف: ٨٠] في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فهم حين استيأسوا من يوسف انفردوا بأنفسهم ليتناجوا.
وعادة يكون الرأي الأول للأخ الأكبر، الذي عادة ما يكون له من الخبرة والحكمة ما يتيح له أن يُبدِي الرأي الصواب.
وهنا يقول الحق سبحانه:
﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ [يوسف: ٨٠].
وبناءً على ذلك استقر قراره ألاّ يبرحَ المكان، ولن يعود إلى أبيه إلا إنْ أذِنَ له بذلك؛ أو أن يحكمَ الله له بأن يُسلِّمه عزيزُ مصر أخاه، أو أن يموت هنا في نفس البلد.
وهذا القول في ظاهره دفاع عن النفس؛ وخجل من أن يعود إلى أبيه بدون بنيامين؛ ولذلك ترك أخوته يتحملَّون تلك المواجهة مع الأب.
وتبدو هذه المسألة أكثر قسوة على الأب؛ لأنه فقد في الرحلة الأولى يوسف، وفي الرحلة الثانية يفقد ابنه بنيامين، وكذلك الابن الكبير الذي يرأس الرحلة.
وفي هذا تصعيد للقسوة على الأب، وكان المفروض أن تدور مُدَاولَة بين الأخوة في تلك المُنَاجاة، ولكن الأخ الكبير أو رئيس الرحلة حسم الأمر.
وحين سألوه: ماذا نفعل يا كبيرنا؟ جاء قوله الذي أوردته الآية التالية:
ونحن لا نقول لك يا أبانا إلا ما وصل إلينا من معلومات، وقد أخذه العزيز طبقاً لشريعتنا، ونحن بخبرتنا بأخينا لا نشهد عليه بالسرقة، إلا أن ثبوتَ وجود صُواع الملك في رَحْله هو السبب في كل ذلك.
ويعلم الأخ الأكبر أن يعقوب عليه السلام قد يُكذِّب أولاده؛ لأن هناك سوابقَ لهم؛ لذلك أوصاهم الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة أن يقولوا لأبيهم إنْ كَذَّبهم ما جاء به الحق على ألسنتهم: ﴿وَسْئَلِ القرية... ﴾.
فإذا أردتَ أن تتأكد من صدق أقوالنا، فاسأل العِير التي كانت تسير معنا في الطريق، وهم يعرفون هذه القضية كما نعرفها، أو اسأل أهل القرية التي جئنا منها.
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه أورد كلام أخوة يوسف لأبيهم يعقوب:
﴿وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا..﴾ [يوسف: ٨٢].
ونحن نعلم أن كل حَدَثٍ من الأحداث لا بُدَّ له من فاعل، ومن مفعول يقع عليه، ومن مكان يقع فيه، ومن زمان يقع فيه؛ ومن سبب يُوجِبه، ومن قوة تنهض به.
وفي بعض الحالات نجد أن المكان هو الأمر الظاهر والقوي في الحدث، فننسبه إليه، فيُقال:
﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
والمراد بطبيعة الحال أن يَسأل أهل القرية، أو: أن المسألة كانت واضحة تماماً لدرجة أن الجماد يعرف تفاصيلها، أو: أنك نبيٌّ ويوحي لك الله فَسَلْهُ أن يجعل الأرض تخبرك بما وقع عليها.
وكذلك قولهم:
ونعلم أن العير هي المَطايا؛ سواء أكانت نِياقاً أو كانت من الجمال أو الحمير أو البِغَال التي تحمل البضائع.
وحين يُقَال:
﴿وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير... ﴾ [يوسف: ٨٢].
أي: أن العير كان لها في الأمر شيء فوق المُلاَبسات كلها.
ومثال هذا ما كان في موقعة بدر؛ فقد خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلقَى العير القادمة من الشام وهي مُحمَّلة بالبضائع؛ ليصادرها إيفاء ما استولى عليه الكافرون من أموال المهاجرين التي كانت بمكة، ولم يكن مع هذه العير إلا قليل من الحرس والرعاة.
ولكن حين تكلم عن المقاتلين الذين قَدِموا من مكة؛ وصفهم بالنفير، أي: الجماعة الذين نفروا لمواجهة معسكر الإيمان.
إذن: فكل حَدَث يأخذ الأمر البارز فيه.
وهنا يورد الحق سبحانه ما جاء على ألسنة إخوة يوسف حينما عادوا ليلقَوْا أباهم، وليس معهم أخوهم بنيامين؛ وكذلك تَخَلُّف أخيهم الكبير أو رئيس الرحلة.
يقول الحق سبحانه: ﴿وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا... ﴾ [يوسف: ٨٢].
ويجوز أن تفتيشهم قد تَمَّ في مكان بعيد قليلاً عن العُمْران؛
وسُمى المكان «قرية»، مثلما نفعل نحن حالياً حين نخصص مكاناً للجمارك؛ نفحص فيه البضائع الخارجة أو الداخلة إلى البلد، فقولهم:
﴿وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا... ﴾ [يوسف: ٨٢].
أي: اسأل أهل الموقع الذي حدث فيه التفتيش.
وكذلك قولهم: ﴿والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [يوسف: ٨٢].
أي: اسأل مَنْ كانوا معنا، وجِئْنا بصحبتهم من أصحاب القوافل الأخرى.
وكرر قولهم:
﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [يوسف: ٨٢].
لأنهم علموا سابق كذبهم من قبل ذلك؛ لذلك أرادوا هنا أن يُثبتوا صدقهم؛ وحين يسأل أبوهم يعقوب؛ سيجد أنهم صادقون فعلاً، وهم لم يطلبوا شهادة الغير إلا لأنهم واثقون من صدقهم هذه المرة.
وجاء الحق سبحانه بهذه الجملة الاسمية:
﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [يوسف: ٨٢].
لأنهم قد فهموا أن والدهم قد شَكَّ فيهم من قبل، حين جاءوا بدم كذبٍ، وادَّعوا أنه قميص يوسف، وأن الذئب قد أكله.
وقول الحق سبحانه على لسان يعقوب:
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً... ﴾ [يوسف: ٨٣].
أي: يسَّرتْ لكم أنفسكم أمراً يصعب أن تقبله النفوس المستقيمة، وسبق أن قال يعقوب لحظةَ أنْ جاءوا له بقميص يوسف وعليه الدم الكاذب: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨].
ويختلف الأمر هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ما جاء بعد الحديث عن تسويل النفس، واستلهام الصبر من الله، فَهِبَات الفرج قد اقتربتْ، فقال:
﴿عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً... ﴾ [يوسف: ٨٣].
في هذه الآية طلب الأمل الذي يوحي بالفرج، وقد كان.
وبعض من الذين تأخذهم الغفلة يتساءلون:
لماذا قال يعقوب:
﴿عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً..﴾ [يوسف: ٨٣].
والغائب عنه هما يوسف وأخوه؟
ونقول: ولماذا تنسوْنَ كبير الأخوة الذي رفض أن يبرحَ مصر، إلا بعد أن يأذن له يعقوب، أو يفرج عنه الله؟
لقد غاب عن يعقوب ثلاثة من أولاده: يوسف وبنيامين وشمعون؛ لذلك قال:
﴿عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً..﴾ [يوسف: ٨٣].
ولم يَقُلْ: يأتيني بهما.
﴿إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم﴾ [يوسف: ٨٣].
فالله سبحانه يعلم أين هم؛ لأنه العليم بكل شيء، وهو سبحانه حكيم فيما يُجريه علينا من تصرّفات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿وتولى عَنْهُمْ... ﴾.
وساعةَ تسمع نداءً لشيء محزن، مثل: «وا حُزْناه» أو «وا أسفاه» أو «وا مُصيبتاه» ؛ فهذا يعني أن النفس تضيق بالأحداث وتقول «يا همّ، هذا أوانك، فاحضر». أو أنه قال:
﴿ياأسفى عَلَى يُوسُفَ... ﴾ [يوسف: ٨٤].
لأن أخاه بنيامين كان أشبهَ الناس به؛ فكان حُزْنه على يوسف
وقول الحق سبحانه:
﴿وابيضت عَيْنَاهُ﴾ [يوسف: ٨٤].
أي: أن دموع يعقوب كثُرتْ حتى بَدا الجزء الأسود في العين وكأنه أبيض. أو: ابيضتْ عيناه من فَرْط حُزنه، الذي لا يبثُّه لأحد ويكظمه.
وهو قد يكظم غيظه من كل ما حدث، أما الانفعالات فلا أحد بقادر على أن يتحكم فيها. «ونجد رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبكي؛ وتذرف عيناه حُزْناً على موت ابنه إبراهيم، فقال له عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أتبكي؟ أو لم تكن نهيْتَ عن البكاء؟ قال:» لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحْمقيْنِ فاجرين: صوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان «.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه لا يريد من الإنسان أن يكون جلموداً أو يكون صخراً لا ينفعل للأحداث، بل يريده مُنفعلاً للأحداث؛ لأن هذا لَوْنٌ يجب أن يكون في إنسانيته، وهذه عاطفة يريد الله أن يُبقيها، وعلى المؤمن أن يُعلِيها.
فسبحانه هو الذي خلق العاطفة، والغريزة في الإنسان، ولو أراد الله الإنسانَ بلا عاطفة أو غريزة لَفعلَ ما شاء، لكنه أراد العاطفة والغريزة في الإنسان لمهمة.
ولحظة أن تخرج العاطفة أو الغريزة عن مُهمتها، يقول لك المنهج: لا. لأن مهمة المنهج أن يُهذِّب لك الانفعال.
والمثل الذي أضربه هنا هو حُبُّ الإنسان للاستمتاع بالطعام، يقول له المنهج: كُلْ ما يفيدك ولا تَكُنْ شَرِهاً.
والمثل الآخر: غريزة حب الاستطلاع، يقول لك المنهج: اعرف ما يفيدك؛ ولا تستخدم هذه الغريزة في التجسُّس على الناس.
والعاطفة على سبيل المثال هي التي تجعل الأب يَحنُو على ابنه الصغير ويرعاه، وعلى ذلك فالمؤمن عليه أن يُعْلِي غرائزه وعواطفه.
وقول الحق سبحانه عن يعقوب:
﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٨٤].
أي: أنه أخذ النزوع على قَدْره. وكلمة» كظيم «مأخوذة من» كظمت القربة «أي: أحكمنا غَلْق فوهة القِرْبة، بما يمنع تسرُّب الماء منها.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: ﴿قَالُواْ تَالله... ﴾.
والمعنى: أنك صِرْت عجوزاً عاجزاً، مهشماً. قال: إنما هشَّمني يوسف. فعتب عليه الله في هذه القَوْلة، وأوضح له: أتشكو ربك لخلقه؟ فرفع يده وقال: خطيئة أخطأتها يا رب فاغفرها لي. قال: غفرتُها لك.
وقد نبَّهه بعض أبنائه أو أحفاده فقالوا:
﴿تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين﴾ [يوسف: ٨٥].
أي: لا تزال تذكر يوسف وما حدث له، حتى تُشرف على الهلاك. و «الحَرَض» كما نعلم هو المُشْرِف على الهلاك، أو يهلك بالفعل.
وجاء الرد من يعقوب عليه السلام، وأورده الحق سبحانه:
والحق تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ [الأنعام: ٤٣].
فساعة يأتي البأْسُ ونتضرع إلى الله؛ يكون البأس قد غسلنا من الذنوب ونسيان الذِّكْر؛ وأعادنا إلى الله الذي لن يزيل البأس إلا هو.
أما الذي يتمرد ويستعلي على الأحداث، فويل له من ذلك التمرد. والحق سبحانه حين يصيب إنساناً بمصيبة، فهو يلطف بِمَنْ يدعوه.
وتساءَل بعضهم: ولماذا لم يَقُلْ يعقوب ما علَّمنا إياه رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٥٦].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يعلن يعقوب عليه السلام أنه لا يشكو حُزْنه وهَمَّه إلا إلى الله، فهو القادر على كشف الضُّرِّ؛ لأن يعقوب عليه السلام يعلم من الله ما لا يعلم أبناؤه أو أحفاده.
فقد كان يشعر بوجدانه، وبما كان لديه من شكوك لحظة إبلاغهم له بحكاية الذئب المكذوبة أن يوسف ما زال حياً، وأن الرُّؤيا التي حكى يوسف عنها لأبيه، سوف يأذن الحق بتحقيقها.
ويذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان يعقوب فيقول: ﴿يابنى اذهبوا... ﴾.
وهنا في هذه الآية جاء ذِكْر يوسف وأخيه، ولم يَأْتِ ذِكْر الأخ الكبير أو رئيس الرحلة. ونقول: إن يوسف وأخاه هما المعسكر الضعيف الذي عانى من مناهضة بقية الأخوة، وهما قد فارقا الأب صغاراً، أما الأخ الأكبر فيستطيع أن يحتال، وأن يعود في الوقت الذي يريد.
وقول يعقوب:
﴿اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ..﴾ [يوسف: ٨٧].
نجد فيه كلمة (تحسسوا)، وهي من الحسِّ، والحسُّ يُجمع على «حواس»، والحواس هي منافذ إدراك المعلومات للنفس البشرية، فالمعلومات تنشأ عندنا من الأمور المُحسَّة، وتدركها حواسنا لتصير قضايا عقلية.
وهكذا نعلم أن الحواس هي قنواتُ المعرفة، وهي غير مقصورة على الحواس الخمس الظاهرة؛ بل اكتشف العلماء أن هناك حواسَّ أخرى غير ظاهرة، وسبق أن تعرضنا لهذا الأمر في مراتٍ كثيرة سابقة.
وقوله:
﴿فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ..﴾ [يوسف: ٨٧].
يعني أعملوا حواسكم، بكل ما فيها من طاقة، كي تصلوا إلى الحقيقة.
وفي عُرْفنا العام نقول لمن يحترف التقاط الأخبار «شَمْ شِمْ لنا على حكاية الأمر الفلاني».
وتابع يعقوب القول:
﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ [يوسف: ٨٧].
أي: إياكم أن تقولوا أننا ذهبنا وتعبنا وتحايلنا؛ ولم نجد حلاً، لأن الله موجود، ولا يزال لله رحمة.
والأثر يقول: «لا كَرْبَ وأنت رَبُّ».
وما يَعِزُّ عليك بقانونك الجأ فيه إلى الله.
وقد علَّمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنه كلما حَزَبه أمر قام وصلى».
وبهذا لجأ إلى ربِّ الأسباب، وسبحانه فوق كل الأسباب، وجَرِّبوا ذلك في أيِّ أمر يُعضِلكم، ولن ينتهي الواحد منكم إلى نهاية الصلاة إلا ويجد حَلاّ لِمَا أعضلَه.
والحق سبحانه يقول: ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: ٨٩].
ونأخذ لهذه الروح مثلاً من المُحسَّات حين يشتد القيظ، ونجلس في بستان، وتهبُّ نسمة هواء؛ فيتعطر الجو بما في البستان من زهور.
والرُّوح هي التي ينفخها الحقُّ سبحانه في الجماد فيتحرك.
ويأتي هنا يعقوب عليه السلام بالقضية والمبدأ الذي يسير عليه كل مؤمن، فيقول:
﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ [يوسف: ٨٧].
لأن الذي ليس له رَبٌّ هو مَنْ ييأس، ولذلك نجد نسبة المنتحرين بين الملاحدة كبيرة، لكن المؤمن لا يفعل ذلك؛ لأنه يعلم أن له رباً يساعد عباده.
وما دام المؤمن قد أخذ بالأسباب؛ فسبحانه يَهبُه ممَّا فوق الأسباب.
وهذه مسألة تحدث لمن يتقي الله. أتحدى أن يوجد مؤمن ليس في حياته مثل هذه الأمور، ما دام يأخذ بالأسباب ويتقي الله، وسوف يجد في لحظة من لحظات الكرب أن الفرج قد جاء من حيث لا يحتسب؛ لأن الله هو الرصيد النهائي للمؤمن.
وهَبْ أنك سائر في الطريق، وفي جيبك جنيه واحد، وليس عندك غيره وضاع منك؛ هل تحزن؟ نعم سوف تحزن، ولكن إن كان في بيتك عشرة جنيهات فحزنك يكون خفيفاً لضياع الجنيه، ولو كان رصيدك في البنك ألف من الجنيهات، فلن تحزن على الجنيه الذي ضاع.
ومَنْ له رَبٌّ، يبذل الجَهْد في الأخذ بالأسباب؛ سيجد الحل والفرج من أيِّ كرب مِمَّا هو فوق الأسباب.
ولماذا ييأس الإنسان؟
إن المُلحِد هو الذي ييأس؛ لأنه لا يؤمن بإله، ولو كان يؤمن بإله، وهذا الإله لا يعلم بما فيه هذا الكافر من كَرْب، أو هو إله يعلم ولا يساعد مَنْ يعبده؛ إما عجزاً أو بُخْلاً، فهو في كل هذه الحالات ليس إلهاً، ولا يستحق أن يُؤمَن به.
وينقلنا الحق سبحانه إلى نَقْلة أخرى؛ وهي لحظة أنْ دخلوا على يوسف عليه السلام في مقرِّه بمصر؛ ونقرأ قوله الحق: ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ... ﴾.
﴿ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر﴾ [يوسف: ٨٨].
أي: أن الجوع صَيَّرنا إلى هُزَال، وبدأوا بترقيق قلب مَنْ يسمعهم؛ بعد تفخيمهم له؛ فهو الأعلى وهُم الأدنى.
ويستمر قولهم:
ونعلم أنهم قد جاءوا ليتحسسوا أمر يوسف وأخيه، وقد اختاروا مَدْخل الترقيق والتفخيم كَلَوْن من المَكْر، فالتفخيم بندائه بلقب العزيز؛ أي: المالك المُتمكِّن؛ ويعني هذا النداء أن ما سوف يطلبونه منه هو أمر في متناول سلطته.
والترقيق بشكوى الحال من جوع صار بهم إلى هُزال، وأعلنوا قدومهم ومعهم بضاعة مزجاة، أي: بضاعة تُستخدم كأثمان لِمَا سوف يأخذونه من سِلَع.
وكلمة: ﴿مُّزْجَاةٍ﴾ [يوسف: ٨٨].
أي: مدفوعة من الذي يشتري أو يبيع.
والحق سبحانه يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ [النور: ٤٣].
وكلمة «يزجي» بمعنى: يدفع.
إذن: فما معنى قول الحق سبحانه:
﴿بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ﴾ [يوسف: ٨٨].
وقد يقول لك مَنْ تشتري منه: «خذ هذه الورقة النقدية القديمة التي تدفعها لي، واستبدلها لي بورقة جديدة».
فما دامت النقود سوف تُدفع؛ فأنت تريد أن تتخلص من النقود القديمة؛ وتفعل ذلك وأنت مُرتاح، وبذلك يمكننا أن نفهم معنى:
﴿بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ﴾ [يوسف: ٨٨].
على أنها بِضَاعة رديئة.
فكأن الضُّرَّ الذي أصابهم جعلهم عاجزين عن دفع الأثمان للمَيْرة التي سوف يأخذونها، مثل الأثمان السابقة التي تميزت بالجودة.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم:
﴿فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين﴾ [يوسف: ٨٨].
أي: أنهم يرجونه أن يُوفِّي لهم الكيل ولا ينقصه؛ إنْ كان ما جاءوا به من أثمان لا يُوفى ما تساويه المَيْرة، وطالبوه أن يعتبر تلك التَّوْفِية في الكَيْل صدقة.
وبذلك رَدُّوه إلى ثمن أعلى مما حملوه من أثمان، وفوق قدرة البشر على الدَّفْع؛ لأن الصدقة إنما يُثيب عليها الحق سبحانه وتعالى.
نقول: إن عدم جواز الصدقة هو أمر اختصَّ به الحق سبحانه آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو أمر خاص بأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس».
وانظر إلى ما فعلته الترقيقات التي قالوها؛ نظر إليهم يوسف عليه السلام وتبسم، ولما تبسَّم ظهرت ثناياه، وهي ثنايا مميزة عن ثنايا جميع مَنْ رأوه.
وجاء الحق سبحانه بما قاله: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ... ﴾.
ثم يأتي التلطُّف الجميل منه حين يضيف:
﴿مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ [يوسف: ٨٩].
وفي هذا القول ما يلتمس لهم به العُذْر بالجهل، ولم يتحدث
وهذا مثلما يكون أحدهم قد أخطأ في حقِّك قديماً بسلوك غير مقبول، ولكن الأيام أزالتْ مرارتك من سلوكه، فتُذكِّره بما فعله قديماً وأنت تقول له: إن فعلك هذا قد صدر منك أيام طَيْشك، لكنك الآن قد وصلت إلى درجة التعقُّل وفَهْم الأمور.
وقول يوسف عليه السلام لهم هذا الأمر بهذه الصيغة من التلطُّف، إنما يعبر أيضاً عن تأثُّره بشكواهم، ثم تبسُّمه لهم، وظهور ثناياه دفعهم إلى تذكُّره، ودار بينهم وبينه الحوار الذي جاء في الآية التالية: ﴿قالوا أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ... ﴾.
﴿أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ... ﴾ [يوسف: ٩٠].
وجاء قولهم بأسلوب الاستفهام التقريريّ الذي أكّدوه ب «إنْ» و «اللام»، وقد قالوا ذلك بلهجة مُمتلئة بالفرح والتعجُّب بنجاحهم في التحسُّس الذي أوصاهم به أبوهم.
فرد عليهم:
﴿أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي﴾ [يوسف: ٩٠].
وبطبيعة الحال هم يعرفون أخَ يوسف «بنيامين»، وجاء ذكْر يوسف له هنا دليلاً على أن بنيامين قد دخل معه في النعمة، وأن الحق سبحانه قد أعزَّ الاثنين.
ويجيء شُكْر يوسف لله على نعمته في قوله:
﴿قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ [يوسف: ٩٠].
وجاء يوسف بهذا القول الذي يعرض القضية العامة التي تنفعهم كإخوة له، وتنفع أيَّ سامع لها وكل مَنْ يتلوها، وقد قالها يوسف عليه السلام بعد بيِّنة من واقع أحداث مرَّتْ به بَدْءً من الرُّؤيا إلى هذا الموقف.
فهو كلام عليه دليل من واقع مُعَاش، فقد مَنَّ الله على يوسف وأخيه مما ابْتُلِيا به واجتمعا من بعد الفُرْقة، وعَلَّل يوسف ذلك بالقول:
﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ﴾ [يوسف: ٩٠].
أي: مَنْ يجعل بينه وبين معصية الله وقاية، ويخشى صفات
فسبحانه وتعالى لا يُضيع أجر المحسنين الذين يتقونه، وصاروا بتقواهم مُستحقِّين لرحمته، وإحسانه في الدنيا والآخرة.
ويأتي قول الحق سبحانه بعد ذلك ليحمل لنا ما قاله أخوة يوسف في هذا الموقف: ﴿قَالُواْ تالله... ﴾.
و ﴿آثَرَكَ الله عَلَيْنَا..﴾ [يوسف: ٩١].
أي: خصَّك بشيء فوق ما خَصَّ به الآخرين، وهو لم يُؤثِرْك بظلم لغيرك، ولكنك كنت تستحق ما آثرك به من المُلْك وعلو الشَأن والمكانة.
وهكذا صدَّق إخوة يوسف على ما قاله يوسف، واعترفوا بخطيئتهم، حين حاولوا أن يكونوا مُقرَّبين مثله عند أبيهم، ولكنك يا يوسف وصلت إلى أن تصير مُقرباً مُقدَّماً عند ربِّ أبينا وربِّ العالمين.
والشأن والحال التي كنا فيها تؤكد أننا كنا خاطئين، ولا بُدَّ أن ننتبه إلى الفَرْق بين «خاطئين» و «مخطئين».
والعزيز قد قال لزوجته:
ولم يَقُلْ لها «كنت من المخطئين» فالمادة واحدة هي: «الخاء» و «الطاء» و «الهمزة»، ولكن المعنى يختلف، فالخاطئ هو مَنْ يعلم منطقة الصواب ويتعدَّاها، أما المُّخْطئ فهو مَنْ لم يذهب إلى الصواب؛ لأنه لا يعرف مكانه أو طريقه إليه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام لأخوته بعد أن أقرُّوا بالخطأ: ﴿قَالَ لاَ تَثْرِيبَ... ﴾.
أما إن كانت هزيلة، ولم تتغذَّ جيداً، فأمعاؤها تخرج وقد ذاب من عليه هذا الثَّرْب.
والتثريب يعني: أن اللوم العنيف قد أذابَ الشحم من لحمه، وجعل دمه ينزّ، ويكاد أن يصل بالإنسان إلى أن ينزل به ويسلّه.
وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «
أي: لا يقولن لها: يا مَنْ فعلت كذا وكذا، بل فليعاقبها بالعقاب الذي أنزله الله لمثل هذه الجريمة؛ فإن لم ترتدع عن الفعل فَلْيبِعْها، وهكذا نفهم أن التثريب أو اللوم العنيف قد يُولِّد العِناد.
وقال يوسف عليه السلام:
﴿اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ [يوسف: ٩٢].
ولقائل أن يتساءل: ولماذا قال يوسف ذلك؛ وقد يكونون قد استغفروا الله من قبل؟
ونقول: إن دعوة يوسف بالمغفرة لهم جاءت في حدود معرفته ولتصفية النفوس مما شابها بهذا اللقاء.
وقوله:
﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ [يوسف: ٩٢].
هو فَهْمٌ لحقيقة أن أيَّ رحمة في العالم، أو من أي أحد إنما هي مُستمدَّة من رحمته سبحانه.
ثم يعود الحديث بينه وبينهم إلى والدهم، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف لإخوته، وهو الذي عَلِم ما حدث لأبيه بعد فراقه له: ﴿اذهبوا بِقَمِيصِي... ﴾.
وتقول كتب السِّير أن أخاه الأكبر الذي رفض أن يبرح مصر، وقال: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ [يوسف: ٨٠].
قد قال ليوسف:
«يا أيها العزيز إنني أنا الذي حملتُ القميص بدم كذب إلى أبي، فدعْني احمل هذا القميص لأبي، كي تمحو هذه تلك».
﴿فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٣].
ونلحظ أنه لم يَقُلْ: «وجه أبيكم».
وفي قوله:
﴿وَجْهِ أَبِي﴾ [يوسف: ٩٣].
إشارة إلى الحنان الأبوي الذي فقدوه منذ أن غاب يوسف، فغرق والده في الحزن.
و ﴿يَأْتِ بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٣] أي: يرتدّ إليه بصره، أو يراه أمامه سليماً.
ويضيف يوسف:
﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [يوسف: ٩٣].
هذا تعبير قُرآني دقيق، أن يُحضروا معهم كل مَنْ يَمُتُّ بصلة قرابة لهم أو يعمل معهم، ولم يَقُلْ يوسف «بآلكم» حتى لا يأتوا بالأعيان فقط.
ونلحظ أنه لم يذكر والده في أمر يوسف لأخوته أن يأتوه بكل مَنْ يمُتُّ لهم بصلة قُرْبى؛ لأن في مثل هذا الأمر من موقع عزيز مصر إجباراً للأب على المجيء، وهو يُجِلُّ أباه عن ذلك.
وهنا قال يعقوب لمن كانوا حاضرين معه من الأحفاد وأبناء الأبناء:
﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٩٤].
والمعروف أن القميص الذي أرسله مع أخيه الأكبر يحمل رائحة يوسف، لكن الذين حول يعقوب من أقربائه لم يُصدِّقوا قوله، فأضاف:
﴿لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف: ٩٤].
أي: لولا اتهامكم لي بالخَرف، لأن التفنيد هو الخرف.
ويحاول العلم بوسائل من الأشعة أن يكشف صورة أيِّ جماعة كانت تجلس في مكان ما، ثم رحلتْ عنه منذ ساعة أو ساعتين، ممَّا يدلُّ على أن الصور لها نضح من شعاع وظلال يظل بالمكان لفترة قبل أن يضيع.
وكذلك الأصوات؛ فالعلماء يحاولون استرداد أصوات مَنْ رحلوا؛ ويقولون: لا شيءَ يضيع في الكون، بل كل ما وُجِد فيه محفوظ بشكل أو بآخر.
والرائحة أيضاً لا تضيع، بدليل أن الكلب يشُمُّ الريح من على مسافات بعيدة، ويميز الآن المخدرات من رائحتها؛ ولذلك تنتشر الكلاب المدرَّبة في المطارات وعلى الحدود؛ لتكشف أيَّ محاولة لتهريب المخدرات.
وإذا كان الحيوان المخلوق بقدرة الله قادراً على التقاط الرائحة من بين آلاف الروائح، وإذا كان العلم الموهوب من الله للبشر؛ يبحث الآن في كيفية استحضار الصورة واسترداد الصوت من الفضاء المحيط بالإنسان؛ فعلينا أن ندرك أن العِيرَ عندما خرجتْ من أسوار المدينة؛ وأخذتْ طريقها إلى الموقع الذي يعيش فيه يعقوب عليه السلام؛ استطاع يعقوبُ بقدرة الله أن يَشُمَّ رائحة يوسف؛ تلك التي يحملها قميصه القادم مع القافلة.
نقول: لأن العِيرَ لحظة تواجدها في المدينة تكون رائحة قميص يوسف مُخْتلطة بغيرها من الروائح؛ فهناك الكثير من الروائح الأخرى داخل أي مدينة، ويصعب نفاذ رائحة بعينها لتغلب على كل الروائح؛ ويختلف الأمر في الخلاء؛ حيث يمكن أن تمشي هَبَّة الرائحة دون أن يعترضها شيء.
وبذلك نؤمن أن كل شيء في الكون محفوظ ولا يضيع؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: ١٠ - ١١].
وكل ما يصدر منك مُسجَّل عليك؛ ولذلك يأتيك كتابك يوم القيامة لتقرأه، وتكون على نفسك حسيباً.
ويردُّ مَنْ بقِي من أهل يعقوب معه على قوله بأنه يجد رِيحَ يوسف: ﴿قَالُواْ تالله... ﴾.
ولما جاء هذا البشير ومعه قميص يوسف؛ فألقاه على وجه الأب تنفيذاً لأمر يوسف عليه السلام.
وبذلك زال سبب بكاء يعقوب، وفَرِح يعقوب فرحاً شديداً؛ لأنه في أيام حزنه على يوسف، وابيضاض عينيه من كثرة البكاء حدَّثه قلبه بالإلهام من الله أن يوسف ما زال حياً؛ وكان البكاء عليه من بعد ذلك هو بكاء من فَرْط الشوق لرؤية ابنه.
وقال يعقوب عليه السلام:
﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٩٦].
ولم يَقُلْ ذلك إذلالاً لهم، بل ليعطي الثقة والتوثيق لأخبار كل نبي، وأن الواقع قد أيَّد الكلام الذي قاله لهم: ﴿يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ [يوسف: ٨٧].
فإذا جاءكم خبر من معصوم؛ إياكم أن تقفوا بعقولكم فيه؛ لأن العقول تأخذ مُدْركات الأشياء على قَدْرها، وهناك أشياء فوق مُدْركات العقول.
وحين يُحدِّثكم معصوم عن ما فوق مُدْركات عقولكم إياكم أن تُكذِّبوه؛ سواء فهمتم ما حدَّثكم عنه، أو لم تستوعبوا حديثه عَمَّا فوق مُدْركات العقول.
أي: أنهم كانوا يعلمون الصواب، ولم يفعلوه.
ويأتي الحق سبحانه بما قاله يعقوب: ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي... ﴾
لكن والدهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول:
ولم يقل: «سأستغفر لكم ربي»، وهذا يدل على أن الكبار يحتاجون لوقت أكبر من وقت الشباب؛ لذلك أجَّل يعقوب الاستغفار لما بعد.
والشيخ الألوسي في تفسيره يقول: «إنما كان ذلك لأن مطلوبات البر من الأخ لأخوته غير مطلوبات البر من ابن لأبيه؛ لأن الأخ ليس له نفس حق الأب؛ لذلك يكون غضب الأب أشدَّ من غضب الأخ».
ثم إن ذنوبهم هنا هي من الذنوب الكبيرة التي مرّ عليها وعلى تأثيرها على الأب زمن طويل. ويقال: إن يعقوب عليه السلام قد أخَّر الاستغفار لهم إلى السَّحَر، لأن الدعاء فيه مُستجَاب.
وينقلنا الحق سبحانه من بعد ذلك إلى لحظة اللقاء بين يوسف عليه السلام وأهله كلهم، بعد أن انتقلوا إلى حيث يعيش يوسف، فيقول سبحانه:
﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ... ﴾
ثم دخل بهم الدخول الثاني إلى البلد بدليل أنه قال: ﴿... ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ [يوسف: ٩٩]
ففي الآية دخولان.
وقول الحق سبحانه: ﴿آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ... ﴾ [يوسف: ٩٩]
يدل على حرارة اللقاء لمغتربين يجمعهم حنان، فالأب كان يشتاق لرؤية ابنه، ولابُدَّ أنه قد سمع من أخوته عن مكانته ومنزلته، والابن كان مُتشوِّقاً للقاء أبيه.
وانفعالات اللقاء عادة تُترك لعواطف البشر، ولا تقنينَ لها، فهي انفعالات خاصة تكون مزيجاً من الود، ومن المحبة، ومن الاحترام، ومن غير ذلك.
فهناك مَنْ تلقاه وتكتفي بأن تسلم عليه مُصَافحة، وآخر تلتقي به ويغلبُك شوقك فتحتضنه، وتقول ما شِئتَ من ألفاظ الترحيب.
كل تلك الانفعالات بلا تقنين عباديّ، بدليل أن يوسف عليه السلام آوى إليه أبويه، وأخذهما في حضنه.
فقال سواد: أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني.
فكشف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بطنه وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» استقد «. فاعتنقه سَواد وقَبَّل بطنه.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما حملك على هذا يا سواد؟ «.
قال: يا رسولَ الله، قد حضر ما ترى يقصد الحرب فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جِلْدي جلدك. فدعا له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخير».
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
والعرش هو سرير الملك الذي يدير منه الحاكم أمور الحكم. وهم قد خَرُّوا سُجَّداً لله من أجل جمع شمل العائلة، ولم يخروا سُجَّداً ليوسف، بل خَرُّوا سُجَّداً لمن يُخَرّ سجوداً إليه، وهو الله.
وللذين حاولوا نقاش أمر سجود آل يعقوب ليوسف أقول: هل أنتم أكثر غَيْرةً على الله منه سبحانه؟
والمؤمن الحق يأخذ مسألة سجود الملائكة لآدم؛ على أنه تنفيذ لأمر الحق سبحانه لهم بالسجود لآدم، فآدم خلقه الله من طين، ونفخ فيه من روحه؛ وأمر الملائكة أن تسجد لآدم شكراً لله الذي خلق هذا الخَلْق.
وكذلك سجود آل يعقوب ليوسف هو شكر لله الذي جمع شملهم، وهو سبحانه الذي قال هذا القول، ولم يُجرِّم سبحانه هذا الفعل منهم، بدليل أنهم قَدَّموا تحية ليوسف هو قادر أن يردَّها بمثلها.
ولم يكن سجودهم له بغرض العبادة؛ لأن العبادة هي الأمور التي تُفعل من الأدنى تقرباً للأعلى، ولا يقابلها المعبود بمثلها؛ فإنْ كانت عبادة لغير الله فالله سبحانه يُعاقب عليها؛ وتلك هي الأمور المُحرَّمة.
أما العبادة لله فهي اتباع أوامره وتجنب نواهيه؛ إذن: فالسجود هنا استجابة لنداء الشكر من الكل أمام الإفراج عن الهم والحزن وسبحانه يُثيب عليها. أما التحية يقدمها العبد، ويستطيع العبد الآخر أن يردَّ بمثلها أو خَيْرٍ منها، فهذا أمر لا يحرمه الله، ولا دَخْل للعبادة به.
ومن بعد ذلك نجد قول يوسف لأبيه: ﴿وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... ﴾ [يوسف: ١٠٠]
وقد كانت الرُّؤيا هي أول لَقْطة في قصة يوسف عليه السلام حيث قال الحق ما جاء على لسان يوسف لأبيه: ﴿... إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] وقوله في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... ﴾ [يوسف: ١٠٠] أي: أمراً واقعاً، وقد رآه والد يوسف وأخوته لحظة أنْ سجدوا ليوسف سجودَ الشكر والتحية لا سجود عبادة، وقد سجد الأخوة الأحد عشر والأب والخالة التي تقوم مقام الأم، ورؤيا الأنبياء كما نعلم لابُدَّ أن تصير واقعاً.
ولقائل أن يقول: وماذا عن رُؤْيا إبراهيم عليه السلام التي أمره
نقول: إن الأنبياء وحدهم هم الملتزمون شرعاً بتنفيذ رؤاهم؛ لأن الشيطان لا يُخايلهم؛ فهم معصومون من مخايلة الشيطان.
أما إنْ جاء إنسان وقال: لقد جاءتني رؤيا تقول لي نَفِّذ كذا. نقول له: أنت غير مُلْزم بتنفيذ ما تراه في منامك من رُؤَى؛ فليس عليك حكم شرعي يلزمك بذلك؛ فضلاً عن أن الشيطان يستطيع أن يُخايلك.
أما تنفيذ إبراهيم عليه السلام لما رآه في المنام بأن عليه أن يذبح ابنه، وقيام إبراهيم بمحاولة تنفيذ ذلك؛ فسببه أنه يعلم بالتزامه الشرعي بتنفيذ الرُّؤيا.
وقد جاء لنا الحق سبحانه بهذا الذي حدث ليبين لنا عِظَم الابتلاءات التي مرَّتْ على إبراهيم، وكيف حاول أن يتم كل ما توجهه له السماء من أوامر، وأن ينفذ ذلك بدقّة.
وقال الحق سبحانه مُصوِّراً ذلك: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً... ﴾ [البقرة: ١٢٤]
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن... ﴾ [يوسف: ١٠٠]
ولقائل أن يسأل: ولماذا لم يذكر يوسف الأحداثَ الجِسَام التي مرَّتْ به في تَسَلسُلها؛ مثل إلقاء أخوته له في الجُبِّ؟
نقول: لم يُرِدْ يوسف أن يذكر ما يُكدِّر صَفْو اللقاء بين العائلة من بعد طول فراق. ولكنه جاء بما مرّ به من بعد ذلك، من أنه صار عبداً، وكيف دخل السجن؛ لأنه لم يستسلم لِغُواية امرأة العزيز، وكيف مَنَّ الله عليه بإخراجه من السجن، وما أن خرج من السجن حتى ظهرت النعمة، ويكفي أنه صار حاكماً.
وقد يقول قائل: إن القصة هنا غير مُنْسجمة مع بعضها، لأن بعضاً من المواقف تُذكر؛ وبعضها لا يُذْكر.
نقول: إن القصة مُنْسجمة تماماً، وهناك فارق بين قصص التاريخ كتاريخ؛ وبين قَصص يوضح المواقف الهامة في التاريخ.
والمناسبة في هذه الآية هي اجتماع الإخوة والأب والخالة، ولا داعي لذكر ما يُنغِّص هذا اللقاء؛ خصوصاً؛ وأن يوسف قد قال من قبل:
وسبق أن قال لهم بلطف من يلتمس لهم العذر بالجهل: ﴿... هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ [يوسف: ٨٩]
وهو هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يذكر إحسان الحق سبحانه له فيقول: ﴿هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً.
..﴾ [يوسف: ١٠٠]
ويُثني على الله شاكراً إحسانه فيقول: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن... ﴾ [يوسف: ١٠٠]
وهو إحسان له في ذاته، ثم يذكر إحسان الله إلى بقية أهله: ﴿وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو... ﴾ [يوسف: ١٠٠]
وكلمة «أحسن» كما نعلم مرة تتعدى ب إلى، فتقول: «أحسن إليه»، ومرة تتعدى بالباء، فنقول: «أحسن به»، وهو هنا في مجال «أحسن بي».
أي: أن الإحسان بسببه قد تعلَّق بكل ما اتصل به؛ فجعله حاكماً، وجاء بأهله من البدو؛ أما الإحسان إليه فيكون محصوراً في ذاته لا يتعداه.
وتخلو حياتهم من نِعَم الحضارة. ففي الحضارة يحضر إليك كل ما تطلب، ولكن الحياة في البدو تُحتِّم أن يذهب الإنسان إلى حيث يجد الخير؛ ولذلك تستقر الحياة في الحضر عنها في البادية.
ويعطينا الشاعر أحمد شوقي رحمة الله عليه صورة تبين الفارق بين البدو والحضر، حين صنع مناظرة بين واحدة تتعصب للبدو، وأخرى تتعصب للحضر. فقال:
فأنا مِنَ البِيدِ يا ابن جُرَيج | ومن هذه العِيشَة الجَافِيه |
ومن حَالبِ الشاة في موضعٍ | ومن مُوقِد النارِ في نَاحِيه |
مُغَنِّيكُمو معبدٌ والغَريق | وقَيْنتنا الضبع العَاوِيه |
هُمْ يأكلونَ فُنونَ الطهاةِ | ونحن نأكل ما طَهَتِ المَاشِيه |
وتردُّ ليلى المتعصِّبة للبادية:
قد اعتسفتْ هِنْدُ يا ابنَ جرَيج | وكانت على مَهْدِها قَاسيه |
فَمَا البِيِد إلاّ دِيَارُ الكِرَام | ومنزِلةُ الذِّمَمِ الوَاقِيه |
لها قِبْلةُ الشمسِ عند البُزُوغِ | وللحضر القبلة الثانيه |
ونحنُ الرَّياحِين مِلْء الفضاءِ | وهُنَّ الرَّياحِينُ في آنِيه |
ويَقْتُلنا العِشْقُ والحَاضِراتُ | يَقُمْنَ من العِشق في غَامِيه |
ثم تأتي إلى القيم؛ فتفخر أن بنت البادية يقتلها العِشْق، ولا تنال ممَّنْ تعشق شيئاً؛ فتنسلّ وتموت، أما بنت الحضر؛ فصحتها تأتي على الحب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يشكر يوسف ما مَنَّ به الله عليه، وعلى أهله الذين جاء بهم سبحانه من البادية، ليعيشوا في مصر ذات الحضارة الواسعة؛ وبذلك يكون قد ضخَّم
ثم يلمس ما كان من إخوته تجاهه فيقول: ﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي... ﴾ [يوسف: ١٠٠]
وهذا مَسٌّ لطيف لما حدث، وقد نسبه يوسف للشيطان؛ وصَوَّره على أنه «نَزْغ».
أي: أنه لم يكن أمراً مستقراً على درجة واحدة من السوء. أي: أن ما فعله الشيطان هو مجرد وَخْزة تُنبِّه إلى الشيء الضار فيندفع له الإنسان، وهي مأخوذة من المِهْماز الذي يُروِّض به مدرب الخيل أيَّ حصان، فهو ينغزه بالمِهْماز نزغة خفيفة، فيستمع وينفذ ما أمره به، فالنَّغْز تنبيه لمهمة، ويختلف عن الطَّعْن.
والحق سبحانه ينبهنا إلى ما يفعله الشيطان؛ فيقول لنا: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله... ﴾ [الأعراف: ٢٠٠]
وكُلٌّ منا يعلم أن الشيطان عدوٌّ له عداوة مُسبقة، وحين تستعيذ بالله من الشيطان، فأنت تكتسب حَصَانه من الشيطان.
وسبحانه القائل:
أي: أن الإنسان حين يتذكر العداوة بينه وبين الشيطان؛ فعليه أن يشحن نفسه بالمناعة الإيمانية ضد هذا النَّزْغ.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقول يوسف: ﴿... إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم﴾ [يوسف: ١٠٠]
فسبحانه هو المدير الذي لا تَخْفى عليه خافية أبداً، وكلمة «لُطْف» ضد كلمة «كثافة» فاللطيف هو الذي له جِرْم دقيق، والشيء كلما لَطُف عَنُفَ؛ لأنه لا توجد عوائق تمنعه.
ولا شيء يعوق الله أبداً، وهو العليم بموقع وموضع كل شيء، فهو يجمع بين اللطف والخبرة، فلُطْفه لا يقف أمامه أي شيء، ولا يوجد ما هو مستور عنه، ولا يقوم أمام مراده شيء، وسبحانه خبير بمواضع الأشياء، وعلْمه سبحانه مُطْلق، وهو حكيم يُجرِي كل حَدَث بمراد دقيق، ولا يضيف إليه أحد أيَّ شيء، فهو صاحب الكمال المطلق.
ويذكر الحق سبحانه بعد ذلك مناجاة يوسف لله سبحانه:
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك... ﴾
فالحق سبحانه أوجد من عدم، واستبقى الحياة الذاتية بالقوت، واستبقى الحياة النوعية بما أباح من تزاوج وتكاثر.
وكل مخلوق له حَظٌّ في عطاء الربوبية، مؤمناً كان أم كافراً، وكل مخلوقات الكون مُسخَّرة لكل الخلق، فسبحانه هو الذي استدعى الخَلْق إلى الوجود؛ ولذلك تكفل بما يحقق لهم الحياة.
ويختص الحق سبحانه عباده المؤمنين بعطاء آخر بالإضافة لعطاء الربوبية؛ وهو عطاء الألوهية المتمثل في المنهج.
يقول يوسف عليه السلام مناجياً ربه: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك... ﴾ [يوسف: ١٠١]
أي: أنه سبحانه هو الذي أعطاه تلك السيادة، وهذا النفوذ والسلطان؛ فلا أحد يملك قَهْراً عن الله، وحتى الظالم لا يملك قهراً عن الله؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى من القرآن: ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦]
وإتيان المُلْك لا توجد فيه مقاومة ممَّنْ يملك؛ ولكن نَزْع المُلْك هو الذي يقاومه المنزوع منه.
وحين تتغلغل هذه الآية في نفس المؤمن؛ فهو يُوقِن أنه لا مفرَّ من القدر، وأن إيتاء المُلْك خير، وأن نزع الملك خير، وأن الإعزاز خير والإذلال خير؛ كي لا يطغى الإنسان، ولا يتكبر، ولا يُعدِّل في إيمان غيره.
وكان بعض الناس يقولون: لابد أن تُقدر محذوفاً في الآية.
وهم قد قالوا ذلك بدعوى الظن أن هناك خيرين في الآية وشَرَّيْن محذوفين.
وأقول: لا، إن ما تظنه أيها الإنسان أنه شر إنما هو خير يريده الله؛ فكل ما يُجريه الله خير.
وقول يوسف عليه السلام: ﴿آتَيْتَنِي مِنَ الملك... ﴾ [يوسف: ١٠١]
يقتضي أن نفهم معنى «المُلْك» ؛ ومعنى «المِلْك»، ولنا أن نعرف أن كل إنسان له شيء يملكه؛ مثل ملابسه أو قلمه أو أثاث بيته، ومثل ذلك من أشياء، وهذا ما يُسمَّى: «المِلْك». أما «المُلْك» فهو أن تملك مَنْ يملك.
وقد ملَّك الله بعضاً من خَلْقه لخلقه، ملَّكهم أولاً ما في حوزتهم، وملَّكهم غيرهم، وسبحانه ينزع المُلْك من واحد ويهبه لآخر، كي لا تصبح المسألة رَتَابة ذات.
وأنت في هذه الدنيا تملك السيطرة على جوارحك؛ تقول لليد «إضربي فلان» فتضرب يدُك فلاناً، إلى أن يأتي اليوم الآخر فلا يملك الإنسان السيطرة على جوارحه؛ لأن المُلْك يومها يكون لله وحده، فسبحانه القائل: ﴿... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦]
ففي اليوم الآخر تنتفي كل الولايات، وتكون الولاية لله وحده.
وبجانب «المُلْك» و «المِلْك» ؛ هناك الملكوت، وهو ما لا تراه بأجهزة الحواس.
وسبحانه يقول: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض... ﴾ [الأنعام: ٧٥]
أي: أن الحق سبحانه قد كشف لإبراهيم أسرار العالم الخفية من المخلوقات، وأنت ترى العلماء وهم يتتبعون أسرار ممالك النباتات والحيوانات؛ فتتعجب من دِقَّة خَلْق الله.
ومَنْ وهبه الله دِقَّة العلم وبصيرة العلماء، يرى بإشعاعات البصر والعلم عالم الملكوت، ويستخرج الأسرار، ويستنبط الحقائق.
ويضيف يوسف عليه السلام في مناجاته لربه:
وهو يعترف بفضل الله عليه حين اختصّه بالقدرة على تأويل الأحاديث؛ تلك التي أوَّل بها رُؤْيا الفتييْنِ اللذين كانا معه في السجن؛ وأوَّل رؤيا المِلَك؛ هذا التأويل الذي قاده إلى الحكم، وليس هذا غريباً أو عجيباً بالنسبة لقدرة الله سبحانه.
ويقول يوسف شاكراً لله: ﴿فَاطِرَ السماوات والأرض... ﴾ [يوسف: ١٠١]
ومادام سبحانه هو خالق كل شيء؛ فليس غريباً أن يُعلِّمه سبحانه ما شاء، وكأن إيمان يوسف قد وصل به إلى أن يعلم ما قاله الحق سبحانه: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤]
ونحن في حياتنا نجد الذي صنع جهازاً يستفيد منه غيره؛ يوضح مواصفات استعمال الجهاز أو الأداة، حتى ولو كانت نورجاً أو مِحْراثاً؛ وذلك ليضمن للجهاز الحركة السَّوِيَّة التي يؤدي بها الجهاز عمله.
والواحد منا إن تعطلت منه السيارة يستدعي الميكانيكي الذي ينظر ما فيها؛ فإن كان أميناً، فهو يُشخِّص بدِقَّة ما تحتاجه السيارة، ويُصلِحها، وإن كان غير أمين ستجده يُفسد الصالح، ويزيد من الأعمال التي لا تحتاجها السيارة.
إنه خبير عليم بكل شيء.
ولماذا قال يوسف عن الحق سبحانه: ﴿فَاطِرَ السماوات والأرض... ﴾ [يوسف: ١٠١]
لأنه يعلم أن الحق سبحانه قد خلق الإنسان؛ والإنسان له بداية ونهاية، لا يعلمها أحد غير الله سبحانه، فقد يموت الإنسان وعمره يوم، أو يموت في بطن أمه، أو بعد مائة سنة، وتمر على الإنسان الأغيار.
أما السماوات والأرض فهي مخلوقات ثابتة، فالشمس لا تحتاج إلى قطعة غيار، ولم تقع، وتعطي الدفء للأرض، وهي مرفوعة عن الأرض؛ لا تقع عليها بمشيئة الله.
والحق سبحانه هو القائل: ﴿... وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
[الحج: ٦٥]
واسمع قوله الحق: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٧]
فالإنسان يتغير ويموت؛ أما السماوات والأرض فثابتة إلى ما شاء الله.
وصحيح أن الحق سبحانه وليّ ليوسف في الدنيا، وقد نصره وقرَّبه وأعانه؛ بدليل كل ما مَرَّ به من عقبات، ويرجو يوسف ويدعو ألاّ يقتصر عطاء الله له في الدنيا الفانية، وأن يثيبه أيضاً في الباقية، والآخرة.
ومادام سبحانه وليَّه في الدنيا والآخرة؛ فيوسف يدعوه: ﴿... تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ [يوسف: ١٠١]
وقوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً... ﴾ [يوسف: ١٠١]
إنما بسبب أن يكون أهلاً لعطاء الله له في الآخرة؛ فقد أخذ يوسف عطاء الدنيا واستمتع به، ومَتّع به، ومشى فيه بما يُرضِى الله.
وعند تمنِّي يوسف للوفاة وقف العلماء، وقالوا: ما تمناها أحد إلا يوسف.
فالإنسان إن كان مُوفّقاً في الدنيا، تجده دائم الطموح، وتوَّاقاً إلى المزيد من الخير.
وتحمل لنا ذاكرة التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه قَبِل الإمارة، حينما كانوا يجيئون له بثوب ناعم؛ كان يطلب
وحين صار خليفة؛ كانوا يأتونه بالثوب؛ فيطلب الأكثر خشونة وظن مَنْ حوله أنه لم يَعُدْ منطقياً مع نفسه، ولم يفهموا أن له نفساً توَّاقة إلى الأفضل؛ تستشرف الأعلى دائماً، فحينما تَاقَ إلى الإمارة جاءتْه؛ وحين تاق إلى الخلافة جاءتْه، ولم يَبْقَ بعدها إلا الجنة.
ونجد ميمون بن مهران وكان ملازماً له؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ دخل عليه مرة فوجده يسأل ربَّه الموت. فقال: يا أمير المؤمنين، أتسأل ربك الموت وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً؛ فأحيَيْتَ سُنناً وأَمَتَّ بِدعاً؛ وبقاؤك خير للمسلمين؟
فقال عمر بن عبد العزيز: ألا أكون كالعبد الصالح حينما أتمَّ الله عليه نعمته قال: ﴿... تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ [يوسف: ١٠١]
وقوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً... ﴾ [يوسف: ١٠١]
مكونة من شِقَّين:
الشق الأول: طلب الموت.
والشق الثاني: أن يموت مسلماً.
وكُلُّنا يُتوفَّى دون أن يطلب، وعلى ذلك يكون الشق الأول غير
وإنْ قال سائل: ولماذا نقول إن شاء الله بكم لاحقون، رغم أننا سنموت حَتْماً؟
نقول: إن قولنا «إن شاء الله» سببه هو رغبتنا أن نلحق بهم كمؤمنين.
وأيضاً قد يسأل سائل: لماذا يقول نبي لربه: ﴿... وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ [يوسف: ١٠١]
وهل هناك صالح يأتي إلى هذا العالم دون أن يهتدي بمنهج نبي مرسل؟
نقول: إن كلمة «الصالحين» تضم الأنبياء وغيرهم من الذين آمنوا برسالة السماء.
وهكذا انتهت قصة يوسف عليه السلام؛ ولذلك يتجه الحق
وذلك باستثناء قصة نوح التي جاءت مكتملة أيضاً، لدرجة أن بعض السطحيين قالوا «إن هذا تكرار للقصة في لقطات مختلفة» ودائماً أقول رداً على ذلك: إنه تأسيس للقطات؛ إن اجتمعت جاءت القصة كاملة.
وشاء الحق سبحانه أن تأتي اللقطات متفرقة؛ لأن كل لَقْطة إنما جاءت لمناسبة ما، وكل القَصَص القرآني قد جاء لتثبيت فؤاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه خلال عمره الرِّسالي الذي استمر ثلاثة وعشرين عاماً تعرَّض لأحداث جِسَام. وكل لحظة كانت تحتاج لتثبيت، فيُنزِل الحق سبحانه ما يُثبِّت به فؤاد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيوضح له في موقع ما: لا تحزن؛ لأن مَنْ سبقك من الرسل حدث معهم كذا.
بل قد تجد في الواقعة الواحدة لقطتيْن، مثلما جاء في العداوة بين موسى وفرعون.
قال الحق سبحانه: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... ﴾ [القصص: ٨]
وهنا تكون العداوة من طرف موسى.
وهنا تكون العداوة من جهتين؛ لأن العداوة تتفاعل حين تكون من جهتين، فلا يمكن أن يستمر عداءٌ من طرف واحد، وتقوم من أجل هذا العداء معركة، لكن حين تكون العداوة من جهتين فهذا يُطيل أَمَد المعركة.
والمثل الثاني هو قول الحق سبحانه في نفس قصة موسى؛ وهي لقطة متقدمة حدثتْ في الأيام الأولى من حياة موسى، وقبل أن تُلقيه أمه في اليَمِّ؛ فقد مهَّد الله لها الأمر.
يقول الحق سبحانه عن ذلك: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني... ﴾ [القصص: ٧]
وهذا شَحْذٌ لِهمَّتها قبل الحادث، وتنبيه لها من قبل أن يقع، ولحظةَ أن جاء الحادث نفسه أوحى لها الحق سبحانه: ﴿أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ... ﴾ [طه: ٣٩]
والذين قالوا: إن قَصص القرآن جاء مُبعثراً، قد نسوا أن قصة نوح جاءت في موقع واحد، وجاءت سورة يوسف مَحْبوكة من أول الرؤيا إلى تولي المُلْك، وجمع شَمْل العائلة.
ونزلت القصة في سورة واحدة بعد أن سألوا عنها؛ وهم يعلمون
ويقول الحق سبحانه في نهاية القصة:
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب... ﴾
فالحق سبحانه أخبرك بأنباء لم تكن حاضراً لأحداثها، والغيب كما عَلِمنا من قبل هو ما غاب عنك، ولم يَغِبْ عن غيرك، وهو غيب نسبيّ؛ وهناك الغيب المُطْلق، وهو الذي يغيب عنك وعن أمثالك من البشر.
والغيب كما نعلم له ثلاثة حواجز:
الأول: هو حاجز الزمن الماضي الذي لم تشهده؛ أو حاجز الزمن المستقبل الذي لم يَأْتِ بَعْد.
والثالث: هو حاجز الحاضر، بمعنى أن هناك أشياء تحدثُ في مكان أنت لا توجد فيه، فلا تعرف من أحداثه شيئاً. و ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ... ﴾ [يوسف: ١٠٢]
أي نُعلِمك به بطَرْفٍ خَفيّ، حين اجتمعوا ليتفقوا، إما أن يقتلوا يوسف، أو يُلْقوه في غيابة الجب.
وكشف لك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمر لم يُعلمه لرسول الله؛ ولم يشهد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما دار بين الإخوة مباشرة، أو سماعاً من مُعلِّم، ولم يقرأ عنه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُمِيّ لم يتعلم القراءة أو الكتابة.
وسبحانه يقول عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون﴾ [العنكبوت: ٤٨]
وهم بشهادتهم يعلمون كل حركة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يُبعث؛ إقامة وتِرْحالاً والتقاءً بأيِّ أحد.
فلو عَلموا أنه قرأ كتاباً لكانت لهم حُجَّة، وحتى الأمر الذي غابتْ عنهم فِطْنتهم فيه؛ وقالوا:
فرد عليهم الحق سبحانه: ﴿... لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣]
وأبطل الحق سبحانه هذه الحجة، وقد قَصَّ الحق سبحانه على رسوله الكثير من أنباء الغيب، وسبق أن قلنا الكثير عن: «ما كُنَّات القرآن»، مثل قوله تعالى: ﴿... وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤]
وقوله الحق: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾ [القصص: ٤٤]
فكأن مصدر علم الرسول بكل ذلك هو من إخبار الله له.
وقد استقبل أهل الكهف ما طلبوا أن يعرفوه من قصة يوسف
وقد جاء لهم بها كاملة؛ لأنهم لم يطلبوا جزئية منها؛ وإنما سألوه عن القصة بتمامها، وتوقعوا أن يعزف عن ذلك، لكنه لم يعزف، بل جاء لهم بما طلبوه.
وكان يجب أن يلتفتوا إلى أن الله هو الذي أرسله، وهو الذي علَّمه؛ وهو الذي أنبأه، لكنهم لم يؤمنوا، وعَزَّ ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأوضح له سبحانه: لا تبتئس ولا تيأس: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣]
ويقول له سبحانه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ [الكهف: ٦]
فأنت يا رسول الله عليك البلاغ فقط، ويذكر الحق ذلك لِيُسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رأى لدد الكافرين؛ بعد أن جاء لهم بما طلبوه، ثم جحدوه: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً... ﴾ [النمل: ١٤]
وأنت لا تستطيع أن تواجه المُعَاند بحجة أو بمنطق، فهم يريدون أن يظل الضعفاء عبيداً، وأن يكونوا مسيطرين على الخَلْق بجبروتهم، والدين سيُسوِّي بين الناس جميعاً، وهم يكرهون تلك المسألة.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقضية كونية، فيقول:
﴿وَمَآ أَكْثَرُ الناس... ﴾
ويقول فيه الحق سبحانه: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨]
لكنهم جحدوا ما جاءهم به؛ وقد أحزنه ذلك الأمر. وفي الحرص نجد آية خاصة باليهود؛ هؤلاء الذين دفعوا أهل مكة أن يسألوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصة يوسف؛ يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ... ﴾ [البقرة: ٩٦]
وجاء قول الحق: ﴿وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣]
جاء ذلك القولُ تسليةً من الحق سبحانه لرسوله، وليؤكد له أن ذلك ليس حال أهل مكة فقط، ولكن هذه هي طبيعة معظم الناس. لماذا؟
لأن أغلبهم لا يُحسن قياس ما يعطيه له منهج الله في الدنيا والآخرة، والإنسان حين يُقبل على منهج الله، يقيس الإقبال على هذا المنهج بما يُعطِيه له في الآخرة؛ فلسوف يعلم أنه مهما أعطى لنفسه من مُتَع الدنيا فعُمْره فيها مَوْقُوت بالقَدْر الذي قدَّره له الله، والحياة يمكن أن تنتهي عند أية لحظة.
والحق سبحانه حين خبأ عن الناس أعمارهم في الدنيا، لم يَكُنْ هذا الإخفاء إبهاماً كما يظن البعض، وهذا الإبهام هو في حقيقته عَيْن البيان، فإشاعة حدوث الموت في أي زمن يجعل الإنسان في حالة ترقُّب.
ولذلك فميتات الفُجَاءة لها حكمة أن يعرف كل إنسان أن الموت لا سببِ له، بل هو سبب في حَدِّ ذاته؛ سواء كان الموت في حادثة أو بسبب مرض أو فجأة، فالإنسان يتمتع في الدنيا على حسب عمره المحدد الموقوت عند الله، أما في الآخرة فإنه يتمتع على قدر إمدادات الخالق سبحانه.
وهَبْ أن إنساناً معزولاً عن أمر الآخرة، أي: أنه كافر بالآخرة وأخذها على أساس الدنيا فقط، نقول له: انظر إلى ما يُطلب منك نهياً؛ وما يُطلب منك أمراً، ولا تجعله لذاتك فقط، بل اجعله للمقابل لك من الملايين غيرك.
سوف تجد أن نواهي المنهج إن منعتْك عن شر تفعله بغيرك؛ فقد منعتْ الغير أن يفعل بك الشر، في هذا مصلحة لك بالمقاييس المادية التي لا دَخْل للدين بها.
ويجب أن نأخذ هذه المسألة في إطار قضية هي «دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة».
وهَبْ أن إنساناً مُحباً لك أمسك بتفاحة وأراد أن يقذفها لك، بينما يوجد آخر كاره لك، ويحاول أن يقذفك في نفس اللحظة بحجر، وأطلق الاثنان ما في أيديهما تجاهك، هنا يجب أن تردَّ الحجر قبل أن تلتقط التفاحة، وهكذا يكون دَرْء المفسدة مُقدّماً على جَلْب المصلحة.
وعلى الإنسان أن يقيس ذلك في كل أمر من الأمور؛ لأن كثيراً من أدوات الحضارات أو ابتكارات المدنية أو المخترعات العلمية قد تعطينا بعضاً من النفع، ولكن يثبت أن لها من بعد ذلك الكثير من الضرر.
مثال هذا: هو اختراع مادة «د. د. ت» التي قتلت بعض الحشرات، وقتلت معها الكثير من الطيور المفيدة.
وعليك أن تدرس أيَّ مُخْتَرع قبل استعماله؛ لترى نفعه وضرره قبل أن تستعمله.
وقد رأينا مَنْ يُدخِلون الكهرباء إلى بيوتهم، يحاولون أن يرفعوا موقع «فِيَش» الكهرباء عن مستوى تناول الأطفال؛ كي لا يضيع طفل أصابعه في تلك الفتحات فتصعقهم الكهرباء، ووجدنا بعضاً من المهندسين قد صَمَّموا أجهزة تفصل الكهرباء آلياً إنْ لمستْها يَدُ بشر.
وهذا هو دَرْء المفسدة المُقدَّم على جَلْب المنفعة، وعلينا أن نحتاط لمثل هذه الأمور.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه يقول: ﴿وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣]
وهل قوله: ﴿أَكْثَرُ الناس... ﴾ [يوسف: ١٠٣]
نسبة للذين لا يؤمنون، يعني أن المؤمنين قلة؟
ويقول الحق سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب... ﴾ [الحج: ١٨]
وهكذا نجد أن كلمة «كثير» قد يقابلها أيضاً كلمة «كثير».
وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه لو حرص ما استطاع أن يجعل أكثر الناس مؤمنين، والحِرْص هو تعلُّق النفس وتعبئة مجهود للاحتفاظ بشيء نرى أنه يجلب لنا نفعاً أو يذهب بضُرٍّ، وهو استمساك يتطلب جهداً.
ولذلك يوضح له الحق سبحانه: أنت لن تهدي مَنْ تحرص على هدايته.
ويقول سبحانه: ﴿إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ... ﴾ [النحل: ٣٧]
ومن هذه الآية نستفيد أن كل رسول عليه أن يوطن نفسه على أن الناس سيعقدون مقارناتٍ بين البدائل النفعية؛ وسيقعون في أخطاء اختيار غير الملائم لفائدتهم على المدى الطويل؛ فوطِّنْ نفسك يا محمد على ذلك.
وإذا كنتَ يا رسول الله قد حملتَ الرسالة وتسألهم الإيمان
والإنسان حريص على أن يدفع الأجر لمن يُعينه على منفعة؛ والمنفعة إما أن تكون موقوتة بزمن دنيوي ينتهي، وإما أن تكون منفعة ممتدة إلى ما لا نهاية؛ راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
ويأتي القرآن بقول الرسل: ﴿لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً... ﴾ [الأنعام: ٩٠]
ولم يَقُلْ ذلك اثنان هما: إبراهيم عليه السلام، وموسى عليه السلام.
وكان العقل يقول: كان يجب على الناس لو أنها تُقدِّر التقدير السليم؛ أن تدفع أجراً للرسول الذي يُفسِّر لهم أحوال الكون، ويُطمئنهم على مصيرهم بعد الموت، ويشرح لهم منهج الحق، ويكون لهم أُسْوة حسنة.
ومقتضى الأمر أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقدم نفعاً أبدياً لمن يتبعه، لكنه لم يطلب أجراً.
ويقول الحق سبحانه:
﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ... ﴾
والحق سبحانه هو القائل: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ [الطور: ٤٠]
والحق سبحانه يقول على لسان رسوله في موقع آخر: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله... ﴾ [سبأ: ٤٧]
وهو هنا يُعلِي الأجر، فبدلاً من أن يأخذ الأجر من محدود القدرة على الدَّفْع، فهو يطلبها من الذي لا تُحَدّ قدرته في إعطاء الأجر؛ فكأن العمل الذي يقوم به لا يمكن أن يُجَازى عليه إلا من الله؛ لأن العمل الذي يؤديه بمنهج الله ومن الله، فلا يمكن إلا أن يكون الأجر عليه من أحد غير الله.
والذكر يُطْلَق إطلاقات متعددة، ومادة «ذال» و «كاف» و «راء» مأخوذة من الذاكرة. وعرفنا من قبل أن الإنسان له آلات استقبال هي الحواس الإنسانية، وتنتقل المعلومات أو الخبرات منها إلى العمليات العقلية، وتمرُّ تلك المعلومات ببؤرة الشعور، لِتُحفظ لفترة في هذه البؤرة، ثم تنتقل إلى حاشية الشعور، إلى أن تستدعيها الأحداث، فتعود مرة أخرى إلى بُؤْرة الشعور.
ولذلك أنت تقول حين تتذكر معلومة قديمة «لقد تذكرتها» ؛ كأن المعلومة كانت موجودة في مكان ما في نفسك؛ لكنها لم تَكُنْ في بؤرة الشعور. وحين جاءت عملية الاستدعاء، فهي تنتقل من حاشية الشعور إلى بُؤْرة الشعور.
والتذكُّر هو: استدعاء المعلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.
والحق سبحانه يقول: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله... ﴾ [إبراهيم: ٥]
أي: ذكِّرهم بما مَرَّ عليهم من أحداث أجراها الله؛ وهي غير موجودة الآن في بُؤْرة شعورهم. وسُمِّي القرآن ذكراً؛ لأنه يُذكِّر كل مؤمن به بالله الذي تفضَّل علينا بالمنهج الذي تسير به حياتنا إلى خير الدنيا والآخرة.
ومن فضل الله عليهم أنه أرسل الرسل مُذكِّرين لهم بهذا العطاء الرباني.
وكلمة «ذكر» تدل على أن الفطرة في الإنسان كان يجب أن تظل واعية ذاكرة لله، وقد قَدَّر الله غفلة الأحداث، فجعل لهم الذكر كله في القرآن الكريم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات... ﴾
إذن: فالانصراف عن العَدِّ معناه أن الأمر الذي نريد أن نتوجه لِعَّده فوق الحصر، ولا أحد يعُدُّ النجوم أو يحصيها.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُنبِّهنا إلى هذه القضية، لإسباغ نعمه على خلقه، ويقول:
و «إنْ» هي للأمر المشوك فيه، وأنتم لن تعدُّوا نعمة الله؛ لأنها فوق الحصر، والمعدود دائماً يكون مُكَرراً، وذَكَر الحق هنا نعمة واحدة، ولم يحددها؛ لأن أيَّ نعمة تستقبلها من الله لو استقصيتها لوجدتَ فيها نِعَماً لا تُحصَر ولا تُعَدُّ.
إذن: فكلمة «كأين» تعني «كم»، وأنت تقول للولد الذي لم يستذكر دروسه: كم نصحتك؟ وأنت لا تقولها إلا بعد أن يفيض بك الكيل.
وتأتي «كم» ويُراد بها تضخيم العدد، لا منك أنت المتكلم، ولكن ممَّنْ تُوجِّه إليه الكلام، وكأنك تستأمنه على أنه لن ينطق إلا صِدْقاً، أو كأنك استحضرتَ النصائح، فوجدتها كثيرة جداً.
والسؤال عن الكمية إما أنْ يُلْقَى من المتكلم، وإما أن يُطلب من المخاطب؛ وطلبُه من المخاطب دليل على أنه سَيِقُرّ على نفسه، والإقرار سيد الأدلة.
وحين يقول سبحانه: ﴿وَكَأَيِّن... ﴾ [يوسف: ١٠٥]
فمعناها أن ما يأتي بعدها كثير.
وسبحان القائل:
وهكذا نفهم أن (كأين) تعني الكثير جداً؛ الذي بلغ من الكثرة مبلغاً يُبرر لنا العذر أمام الغير إنْ لم نُحْصِه.
والآيات هي جمع «آية» ؛ وهي الشيء العجيب، المُلْفِت للنظر ويُقال: فلان آية في الذكاء. أي: أن ذكاءه مضرب المثل، كأمر عجيب يفوق ذكاء الآخرين.
ويُقال: فلان آية في الشجاعة؛ وهكذا.
ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف، ولا يُنسَى.
وقد نثر الحق سبحانه في الكون آياتٍ عجيبة، ولكل منثور في الكون حكمة. وتنقسم معنى الآيات إلى ثلاث:
الأول: هو الآيات الكونية التي تحدثنا عنها، وهي عجائب؛ وهي حُجَّة للمتأمل أن يؤمن بالله الذي أوجدها؛ وهي تلفِتُك إلى أن مَنْ خلقها لابُدَّ أن تكون له منتهى الحكمة ومنتهى الدِّقة، وهذه الآيات تلفتنا إلى صدق توحيد الله والعقيدة فيه.
وحينما أعلن الله بواسطة رسله أنه سبحانه الذي خلقها، ولم يَقُلْ أحد غيره: «أنا الذي خلقت» فهذه المسألة مسألة الخلق تثبُت له سبحانه، فهو الخالق وما سواه مخلوق، وهذه الآيات قد خُلِقت من أجل هدف وغاية.
وفي سورة الروم نجد آيات تجمع أغلب آيات الكون؛ فيقول الحق سبحانه: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَيُحْي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: ١٧ - ٢٥]
كل هذه آيات تنبه الإنسان الموجود في الكون أنه يتمتع فيه
وبعد أن ينتبه إلى وجود واحد أعلى؛ كان عليه أن يسأل: ماذا يريد منه هذا الخالق الأعلى؟
هذه الآيات تفرض علينا عقلياً أن يوجد مَنْ يبلغنا مطلوبَ الواجد الأعلى، وحينما يأتي رسول يقول لنا: إن مَنْ تبحثون عنه اسمه الله؛ وهو قد بعثني لأبلغكم بمطلوبه منكم أن تعبدوه؛ فتتبعوا أوامره وتتجنبوا نواهيه.
والنوع الثاني من الآيات هي آيات إعجازية، والمراد منها تثبيت دعوة الرسل، فكان ولابُدَّ أن يأتي كل رسول ومعه آية؛ لتثبت صِدْق بلاغه عن الله؛ لأن كل رسول هو من البشر، ولابد له من آية تخرق النواميس، وهي المعجزات التي جاءت مع الرسل.
وهناك آيات حُكْمية، وهي النوع الثالث، وهي الفواصل التي تحمل جُملاً، فيها أحكام القرآن الكريم؛ وهو المنهج الخاتم.
وهي آياتٌ عجيبة أيضاً؛ لأنك لا تجد حُكْماً من أحكام الدين إلا ويمسُّ منطقياً حاجة من حاجات النفس الإنسانية، والبشر وإنْ كفروا سيُضطرون إلى كثير من القضايا التي كانوا ينكرونها، ولكن لا حَلَّ للمشكلات التي يواجهونها، ولا تُحَلّ إلا بها.
والمثل الواضح هو الطلاق، وهم قد عَابُوا مجيء الإسلام به؛ وقالوا: إن مثل هذا الحل للعلاقة بين الرجل والمرأة قد يحمل الكثير
وكذلك أمر الربا الذي يحاولون الآن وَضْع نظام ليتحللوا من الربا كله، ويقولون: لا شيء يمنع العقل البشري من التوصُّل إلى ما يفيد.
وهكذا نجد الآيات الكونية هي عجائب بكل المقاييس، والآيات المصاحبة للرسل هي معجزات خَرَقتْ النواميس، وآياتُ القرآن بما فيها من أحكام تَقِي الإنسان من الداء قبل أن يقع، وتُجبرهم معضلات الحياة أن يعودوا إلى أحكام القرآن ليأخذوا بها.
وهم يُعرضون عن كل الآيات، يُعرضون عن آيات الكون التي إنْ دَقَّقوا فيها لَثبتَ لهم وجود إله خالق؛ ولأخذوا عطاءً من عطاءات الله ليسري تربية وتنمية، وكل الاكتشافات الحديثة إنما جاءت نتيجةً لملاحظاتِ ظاهرةٍ ما في الكون.
وسبق أن ضربتُ المثل بالرجل الذي جلس ليطهو في قِدرْ؛ ثم رأى غطاء القِدْر يعلو؛ ففكَّر وتساءل: لماذا يعلو غطاء القدر؟ ولم يُعرِض الرجل عن تأمُّل ذلك، واستنباط حقيقة تحوُّل الماء إلى بخار؛ واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر يتمدد؛ ويحتاج إلى حَيِّزٍ اكبر من الحَيِّز الذي كان فيه قبل التمدد.
وكان هذا التأمُّل وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملتْ بها البواخر والقطارات، وبدأ عصر سُمِّى «عصر البخار». وهذا الذي رأى طَفْوَ طبقٍ على سطح الماء وتأمّل تلك الظاهرة، ووضع قاعدة باسمه، وهي «قاعدة أرشميدس».
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يضِنُّ على الكافر بما يفيد العالم مادام يتأمل ظواهر الكون، ويستنبط منها ما يفيد البشرية.
إذن فقوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا... ﴾ [يوسف: ١٠٥]
إنْ أردتها وسيلة للإيمان بإله؛ فهي تقودك إلى الإيمان؛ وإنْ أردتها لفائدة الدنيا فالحقُّ لم يبخل على كافر بأن يُعطَيه نتيجة ما يبذل من جهد.
فكل المطلوب ألاّ تمُرَّ على آيات الله وأنت مُعرِض عنها؛ بل على الإنسان أن يُقبِل إقبال الدارس، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تُثرِي حياتك؛ وتعطيك حياة لا نهايةَ لها، وهي حياة الآخرة، أو تُسعِد حياتك وحياة غيرك، بأن تبتكر أشياء تفيدك، وتفيد البشرية.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله... ﴾
المصفى الأول: قوله تعالى:
أي: أن الكثير من الناس لن يَصِلوا إلى الإيمان، حتى ولو حرص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكونوا مؤمنين.
وقلنا: إن مقابل «كثير» قد يكون «قليل»، وقد يكون «كثير»، وبعض المؤمنين قد يشوب إيمانهم شبهةٌ من الشرك، صحيح أنهم مؤمنون بالإله الواحد، ولكن إيمانهم ليس يقينياً، بل إيمان متذبذب، ويُشرِكون به غيره.
والمصفى الثاني: قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦]
ومثال هذا: كفار قريش الذين قال فيهم الحق سبحانه: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله... ﴾ [الزخرف: ٨٧]
ويقول فيهم أيضاً: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله... ﴾ [لقمان: ٢٥]
ورغم قولهم هذا إلا أنهم جعلوا شفعاء لهم عند الله، وقالوا: إن الملائكة بنات الله، وهكذا جعلوا لله شركاء. ومعهم كل مَنْ ادعى أن لله ابناً من أهل الكتاب.
وأيضاً مع هؤلاء يوجد بعض من المسلمين الذي يخصُّون قوماً أقوياء بالخضوع لهم خضوعاً لا يمكن أن يُسمَّى في العرف مودة؛ لأنه تَقرُّب ممتلئ بالذلة؛ لأنهم يعتقدون أن لهم تأثيراً في النفع والضر؛ وفي هذا لون من الشرك.
لكن صاحب الطلب يتمادى في الذِّلة، ليقول: وأنا اعتمد عليك أيضاً، لتقضي لي هذه الحاجة.
أو يرد صاحب النفوذ ويقول: أنا سوف افعل لك الشيء الفلاني؛ والباقي على الله.
وحين أسمع ذلك فأنا أتساءل: وماذا عن الذي ليس باقياً، أليس على الله أيضاً؟
وينثر الله حِكَماً في أشياء تمنَّاها أصحابها؛ فَقُضِيتْ؛ ثم تبين أن فيها شراً، وهناك أشياء تمناها أصحابها؛ فلم تُقْضَ؛ ثم تبين أن عدم قضائها كان فيه الخير كل الخير.
نجد الأثر يقول:
وَاطلبُوا الأشياءَ بِعزَّةِ الأنفُسِ | فَإِنَّ الأُمورَ تَجْرِي بِمقَادِير |
ودائماً أذكِّر بأننا حين نحجُّ أو نعتمر نسعى بين الصفا والمروة
فقد أخذتْ هي بالأسباب، فجاء لها رب الأسباب بما سألت عنه. ولم يأت لها الحق سبحانه بالماء في جهة الصفا أو المروة؛ ليثبت لها القضية الأولى التي سألت عنها إبراهيم عليه السلام حين أنزلها في هذا المكان.
فقد قالت له: ءأنزلتنا هنا برأيك؟ أم أن الله أمرك بهذا؟ قال: نعم أمرني رَبِّي. قالت: إذن لا يضيعنا.
وقد سَعَتْ هي بحثاً عن الماء أخذاً بالأسباب، وعثرتْ على الماء بقدرة المسبِّب الأعلى.
وقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦]
يتطلب منا أن نعرف كيف يتسرَّب الشرك إلى الإيمان، ولنا أن نتساءل: مادام يوجد الإيمان؛ فمن أين تأتي لحظة الشرك؟
ويشرح الحق سبحانه لنا ذلك حين يقول: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
هم إذن قد آمنوا وهم في الفُلْك، وأخذوا يدعُون الله حين واجهتهم أزمة في البحر؛ لكنهم ما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى ظهر بينهم الشرك.
حين يسألهم السائل: ماذا حدث؟
فيجيبون: أنهم كانوا قد أخذوا حذرهم، واستعدوا بقوارب النجاة. ونَسَوْا أن الله هو الذي أنقذهم فانطبق عليهم قول الحق سبحانه: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار﴾ [إبراهيم: ٣٠]
وفي حياتنا اليومية قد تذهب لتقضي حاجة لإنسان؛ وبعد أن يُسَهِّل لك الله قضاء تلك الحاجة؛ تلتفت فلا تجده، ولا يفكر في أن يُوجِّه لك كلمة الشكر.
وحين تلقاه يقول لك: كل ما طلبته منك وجدته مقضياً، لقد كلَّمْتُ فلاناً فقضاها.
ولا ينزعه من فرعنته إلا رؤياك؛ لأنه يعلم أنك صاحب جميل عليه، بل قد يريد بك الشر؛ رغم أنك أنت مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأن هذه هي طبيعة الإنسان.
يقول تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧]
ولذلك يقول في المثل: «اتَّقِ شَرَّ من أحسنت إليه».
وأنت تتقي شره، بأن تحذر أن تمُنَّ عليه بالإحسان؛ كي لا تنمي فيه غريزة الكره لك.
والناصح يحتسب أيَّ مساعدة منه لغيره عند الله؛ فيأخذ جزاءه من خالقه لحظة أداء فعل الخير، ولا ينتظر شيئاً ممَّنْ فعل الخير له؛ لأنك لا تعلم ماذا فكَّر لحظة أن أدَّيْتَ له الخدمة، فحين يجد ترحيبَ الناس بك في الجهة التي تُؤدِّي له الخدمة فيها؛ قد يتساءل: لماذا يحترمونك أكثر منه؟
وهو يسأل هذا السؤال لنفسه على الرغم من أنك مُتواجِد معه في هذا المكان لتخدمه.
ولذلك يقول العامة هذا المثل: «اعمل الخير وارْمه في البحر» ؛
والمعروف المنكُور هو أجْدى أنواع المعروف عليك؛ لأن الذي يُجازِي عليه هو الله؛ وهو سبحانه مَنْ سيناولك أجره وثوابه بيده؛ ولذلك عليك أن تنسى مَنْ أحسنتَ إليه؛ كي يُعوِّضك الله بالخير على ما فعلت.
ويُقال في الأثر: إن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، إني أسألك ألاّ يُقال فيّ ما ليس فيّ. فأوضح له الله: يا موسى لم أصنعها لنفسي؛ فكيف أصنعها لك.
ويعرض الحق سبحانه هذه المسألة في القرآن بشكل آخر فيقول سبحانه: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار﴾ [الزمر: ٨]
والإنسان لحظةَ أن يمسَّه الضُّر؛ فهو يدعو الربوبية المتكفِّلة بمصالحه: يا ربّ أنت الذي خلقتني، وأنت المتكفِّل بتربيتي؛ وأنا
ومثل هذا الإنسان كمثل الرُّبان الذي ينقذه الله بأعجوبة من العاصفة؛ لكنه بعد النجاة يحاول أن ينسب نجاة السفينة من الغرق لنفسه.
ولذلك أقول دائماً: احذروا أيها المؤمنون أن تنسَوْا المُنعِم المُسبِّب في كل شيء، وإياكم أن تُفْتنوا بالأسباب؛ فتغفلوا عن المُسبِّب؛ وهو سبحانه مُعْطي الأسباب.
وأقول ذلك حتى لا تقعوا في ظلم أنفسكم بالشرك بالله؛ فسبحانه القائل: ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢]
والظلم كما نعلم هو أن تُعطِي الحق لغيره صاحبه؛ فكيف يَجْرؤ أحد على أن يتجاهل فَضْل الله عليه؟ فيقع في الشرك الخفي، والظلم الأكبر هو الشرك.
وسبحانه القائل: ﴿... إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «من مات قامت قيامته».
فما الذي يُبطئهم عن الإيمان بالله والإخلاص التوحيدي لله، بدون أنْ يمسَّهم شرك؛ قبل أن تقوم قيامتهم بغتةً؛ أي: بدون جرس تمهيدي.
ونعلم أن مَنْ سبقونا إلى الموت لا يطول عليهم الإحساس بالزمن إلى أن تقومَ قيامة كُلِّ الخَلْق؛ لأن الزمن لا يطول إلا على مُتتبع أحداثه.
والنائم مثلاً لا يعرف كَمْ ساعةً قد نام؛ لأن وَعْيَه مفقود فلا
ويأتي قول الحق سبحانه من بعد ذلك:
﴿قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو... ﴾
يدل على أن كلمة السبيل تأتي مرة مُؤنَّثة، كما في هذه الآية، وتأتي مرة مُذكَّرة؛ كما في قوله الحق: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً... ﴾ [الأعراف: ١٤٦]
وأعْلِنْ يا محمد أن هذه الدعوة التي جِئْتَ بها هي للإيمان بالله الواحد؛ وسبحانه لا ينتفع بالمنهج الذي نزل عليك لِيُطبِّقه العباد، بل
ولنقرأ قول الحق: ﴿إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الانشقاق: ١ - ٢]
فهي تنشقُّ فَوْرَ سماعها لأمر الله، وتأتي لحظة الحساب.
وقوله الحق: ﴿قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ... ﴾ [يوسف: ١٠٨]
أي: أدعو بالطريق المُوصِّل إلى الله إيماناً به وتَقبُّلاً لمنهجه، وطلباً لما عنده من جزاء الآخرة؛ وأنا على بصيرة مما أدعو إليه.
والبصر كما نعلم للمُحسَّات، والبصيرة للمعنويات.
والبصر الحسيُّ لا يُؤدِّي نفس عمل البصيرة؛ لأن البصيرة هي يقينٌ مصحوب بنور يُقنِع النفس البشرية، وإنْ لم تَكُنْ الأمور الظاهرة مُلجئة إلى الإقناع.
ومثال هذا: أم موسى حين أوحى الله لها أن تقذف ابنها
فالبصيرة إذن: هي يقين ونور مبني على برهان من القلب؛ فيطيعه العبد طاعة بتفويض، ويُقال: إن الإيمان طاعة بصيرة.
ويمكن أن نقرأ قوله الحق: ﴿قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ... ﴾ [يوسف: ١٠٨]
وهنا جملة كاملة؛ ونقرأ بعدها: ﴿أَنَاْ وَمَنِ اتبعني... ﴾ [يوسف: ١٠٨]
أو نقرأها كاملة: ﴿قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ [يوسف: ١٠٨]
وقول الحق: ﴿وَسُبْحَانَ الله... ﴾ [يوسف: ١٠٨]
أي: أنه سبحانه مُنزَّه تنزيهاً مطلقاً في الذات، فلا ذاتَ تُشبِهه؛ فذاته ليست محصورة في القالب المادي مثلك، والمنفوخة فيه الروح، وسبحانه مُنزَّه تنزيهاً مُطْلقاً في الأفعال، فلا فعلَ يشبه فِعله؛ وكذلك صفاته ليست كصفات البشر، فحين تعلم أن الله يسمع ويرى، فخُذْ ذلك في نطاق: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... ﴾ [الشورى: ١١]
ولذلك قاس بعض الناس رحلة الإسراء والمعراج على قدرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولم ينتبهوا إلى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لقد أُسري بي».
ونزل قول الحق سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير﴾ [الإسراء: ١]
وهكذا تعلم أن الفعل لم يكن بقوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولكن بقوة من خلق الكون كله، القادر على كل شيء، والذي لا يمكن لمؤمن حق أن يشرك به، أمام هذا البرهان. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً... ﴾
أي: أنهم كانوا يطلبون رسولاً من غير البشر، وتلك مسألة لم تحدث من قبل، ولو كانت قد حدثتْ من قَبْل؛ لقالوا: «ولماذا فعلها الله مع غيرنا؟».
ولذلك أراد سبحانه أن يَرُدُّ لهم عقولهم؛ فقال تعالى: ﴿قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥]
والملائكة بطبيعتها لا تستطيع أن تحيا على الأرض، كما أنها لا تصلح لأنْ تكون قُدْوة أو أُسْوة سلوكية للبشر.
فالحق سبحانه يقول عن الملائكة: ﴿... لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]
والملاك لا يصلح أن يكون أُسْوة للإنسان؛ لأن المَلَك مخلوق غيبيّ غير مُحَسٍّ من البشر؛ ولو أراده الله رسولاً لَجسَّده بشراً؛ ولو جعله بشراً لبقيتْ الشبهةُ قائمةً كما هي.
أو: أن الآية جاءت لِتسُدَّ على الناس ذرائع انفتحت بعد ذلك
لذلك جاء الحق سبحانه من البداية بالقول: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى... ﴾ [يوسف: ١٠٩]
ليوضح لنا أن المرأة لا تكون رسولاً منه سبحانه؛ لأن مهمة الرسول أن يلتحم بالعالم التحامَ بلاغٍ، والمرأة مطلوب منها أن تكون سكناً.
كما أن الرسول يُفترض فيه ألاّّ يسقط عنه تكليف تعبديّ في أي وقت من الأوقات؛ والمرأة يسقط عنها التكليف التعبدي أثناء الطمث، ومهمة الرسول تقتضي أن يكون مُسْتوفي الأداء التكليفي في أيِّ وقتٍ.
ثم كيف يطلبون ذلك ولَمْ تَأْتِ في مهام الرسل من قبل ذلك إلا رجالاً، ولم يسأل الحق أيّاً منهم، ولم يستأذن من أيِّ واحد من الرسل السابقين ليتولى مهمته؛ بل تلقَّى التكليف من الله دون اختيار منه، ويتلقى ما يؤمر أن يبلغه للناس، ويكون الأمر بواسطة الوحي.
والوحي كما نعلم إعلام بخفاء، ولا ينصرف على إطلاقه إلا للبلاغ عن الله. ولم يوجد رسول مُفوَّض ليبلغ ما يحب أو يُشرِّع؛ لكن كل رسول مُكلَّف بأن ينقل ما يُبَلغ به، إلا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد فوَّضه الحق سبحانه في أن يُشرِّع، ونزل في القرآن: ﴿مَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا... ﴾ [الحشر: ٧]
والقرية كانت تأخذ نفس مكانة المدينة في عالمنا المعاصر. وأنت حين تزور أهل المدينة تجد عندهم الخير عكس أهل البادية، فالبدويّ من هؤلاء قد لا يجد ما يُقدِّمه لك، فقد يكون ضرع الماشية قد جَفَّ؛ أو لا يجد ما يذبحه لك من الأغنام.
والفارق بين أهل القرية وأهل البادية أن أهل القرية لهم توطُّن؛ ويملكون قدرة التعايش مع الغير، وترتبط مصالحهم ببعضهم البعض، وترِقُّ حاشية كل منهم للآخر، وتتسع مداركهم بمعارف متعددة، وليس فيهم غِلْظة أهل البادية.
فالبدويُّ من هؤلاء لا يملك إلا الرَّحْل على ظهر جَمله؛ ويطلب مساقط المياه، وأماكن الكلأ لما يرعاه من أغنام.
وهكذا تكون في أهل القرى رِقَّة وعِلْم وأدبُ تناولٍ وتعاملٍ؛ ولذلك لم يَأْتِ رسول من البدو كي لا تكون معلوماته قاصرة، ويكون جافاً، به غِلْظة قوْلٍ وسلوك.
والرسول يُفترض فيه أن يستقبل كل مَنْ يلتقي به بالرِّفق واللِّين وحُسْن المعاشرة؛ لذلك يكون من أهل القرى غالباً؛ لأنهم ليسوا قُسَاة؛ وليسوا على جهل بأمور التعايش الاجتماعي.
أي: أنهم إنْ كانوا غير مؤمنين بآخرة يعودون إليها؛ ولا يعلمون متى يعودون؛ فليأخذوا الدنيا مِقْياساً؛ وَلْينظروا في رُقْعة الأرض؛ وينظروا ماذا حدث للمُكذِّبين بالرسل، إنهم سيجدون أن الهلاك والعذاب قد حاقا بكل مُكذِّب.
ولو أنهم ساروا في الأرض ونظروا نظرة اعتبار، لرأوا قُرَى مَنْ نحتوا بيوتهم في الجبال وقد عصف بها الحق سبحانه، ولَرأوْا أن الحق قد صَبَّ سَوْط العذاب على قوم عاد وآل فرعون، فإن لم تَخَفْ من الآخرة؛ فعليك بالخوف من عذاب الدنيا.
وقول الحق سبحانه: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ [يوسف: ١٠٩]
وهذا القول هو من لَفتاتِ الكونيات في القرآن، فقديماً كنا لا نعرف أن هناك غلافاً جوياً يحيط بالأرض، ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي به الأكسوجين الذي نحتاجه للتنفس.
ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي من ضمن تمام الأرض،
والسَيْر في الأرض هو للسياحة فيها، والسياحة في الأرض نوعان: سياحة اعتبار، وسياحة استثمار.
ويُعبِّر الحق سبحانه عن سياحة الاعتبار بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ [الروم: ٩]
ويعبر سبحانه عن سياحة الاستثمار بقوله: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة... ﴾ [العنكبوت: ٢٠]
إذن: فالسياحة الاعتبار هي التي تَلْفتك لقدرة الله سبحانه، وسياحة الاستثمار هي من عمارة الأرض، يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً... ﴾ [النساء: ١٠٠]
وأنت مُكَّلف بهذه المهمة، بل إن ضاق عليك مكان في الأرض فابحث عن مكان آخر، بحسب قول الحق سبحانه: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... ﴾
[النساء: ٩٧]
ولك أن تستثمر كما تريد، شرطَ ألاَّ يُلهِيك الاستثمار عن الاعتبار.
ويتابع الحق سبحانه: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ... ﴾ [يوسف: ١٠٩]
يقول الحق سبحانه: ﴿... وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ١٠٩]
وحديث الحق سبحانه عن مصير الذين كَذَّبوا؛ يَظهر لنا كمقابل لما ينتظر المؤمنين، ولم تذكر الآية مصير هؤلاء المُكذِّبين بالتعبير المباشر، ويُسمُّون ذلك في اللغة بالاحتباك.
مثل ذلك قوله الحق: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا... ﴾ [الرعد: ٤١] وكل يوم تنقص أرض الكفر، وتزيد رقعة الإيمان.
وهكذا يأتي العقاب من جانب الله، ونأخذ المقابل له في الدنيا؛ ومرة يأتي بالثواب المقيم للمؤمنين، ونأخذ المقابل في الآخرة.
ولقائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلِ الحق سبحانه أنه سوف يأتي لهم بما هو أشد شراً من عذاب الدنيا في اليوم الآخر؟
ولكن الحق سبحانه لا يقول ذلك؛ بل عَدل عن هذا إلى المقابل في المؤمنين؛ فقال: ﴿... وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ١٠٩]
فإذا جاء في الدنيا بالعذاب للكافرين؛ ثم جاء في الآخرة بالثواب لِلمُتقين؛ أخذ من هذا المقابل أن غير المؤمنين سيكون لهم حسابٌ عسير، وقد حذف من هنا ما يدل عليه هناك؛ كي نعرف كيف يُحْبَك النظم القرآني.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
﴿حتى إِذَا استيأس الرسل... ﴾
وكلمة: ﴿حتى﴾ [يوسف: ١١٠]
والبداية التي تسبق:
هي قوله الحق: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ... ﴾ [يوسف: ١٠٩]
ومادام الحقُّ سبحانه قد أرسلهم؛ فهم قد ضَمِنوا النصر، ولكن النصر أبطأ؛ فاستيأس الرسل، وكان هذا الإبطاء مقصوداً من الحق سبحانه؛ لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين مهمة هداية حركة الحياة في الأرض إلى أن تقوم الساعة، فيجب ألا يضطلع بها إلا المُخْتَبر اختباراً دقيقاً.
ولابُدَّ أن يمر الرسول الأُسْوة لمَنْ معه ومن يتبعه من بعد بمحن كثيرة، ومَنْ صبر على المِحَن وخرج منها ناجحاً؛ فهو أَهْلٌ لأن يحمل المهمة.
وهو الحق سبحانه القائل: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله... ﴾ [البقرة: ٢١٤]
إذن: لابُدَّ من اختبار يُمحِّص. ونحن في حركة حياتنا نُؤهِّل التلميذ دراسياً؛ ليتقدم إلى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، ثم نُؤهِّله
وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه، فهو يبذل المزيد من الجَهْد.
وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير بها، فما بَالُنا بعملية بَعْث رسول إلى قوم ما؟
لابُدَّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه، وكي لا يبقى على العهد إلا المُوقِن تمام اليقين بأن ما يفوته من خير الدنيا؛ سيجد خيراً افضل منه عند الله في الآخرة.
ولقائل أن يقول: وهل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
نقول: فَلنفهم أولاً معنى «استيأس» ؛ وهناك فرق بين «يأس» و «استيأس»، ف «يأس» تعني قطع الأمل من شيء. و «استيأس» تعني: أنه يُلِحّ على قَطع الأمل.
أي: أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى.
لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة، فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول: أنا لا تُهمّني الأسباب؛ لأن معي المُسبِّب.
[يوسف: ٨٧]
ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين؛ لأنهم لا يملكون رصيداً إيمانياً، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون: ﴿متى نَصْرُ الله... ﴾ [البقرة: ٢١٤]
فضلاً عن ظَنِّهم أنهم كُذّبوا، والحق سبحانه يقول هنا: ﴿وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ... ﴾ [يوسف: ١١٠]
ومادة «الكاف»، و «الذال» و «الباء» منها «كَذَبَ»، و «كُذِبَ عليه» و «كُذِّب». والكذب هو القول المخالف للواقع، والعاقل هو من يُورِد كلامه على ذِهْنه قبل أن ينطق به.
أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبُّر؛ فينطق الكلام
وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق، وقلنا: إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع، والكذب هو ألاَّ تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع.
ومَنْ يقول كلاماً يعلم أنه لا يطابق الواقع؛ يقال عنه: إنه مُتعمِّد الكذب، ومَنْ يقول كلاماً بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع، ونقله عن غيره؛ فهو يكذب دون أن يُحسب كَذبه افتراءً، والإنسان الذي يتوخَّى الدِّقة ينقل الكلام منسوباً إلى مَنْ قاله له؛ فيقول «أخبرني فلان» فلا يُعَدُّ كاذباً.
ولذلك أقول دائماً: يجب أن يُفرِّق العلماء بين كذب المُفْتين، وكذب الخبر؛ وكذب المُخْبر. فالخبر الكاذب مسئول عنه مَنْ تعمَّد الكذب، أما الناقل للخبر مادام قد نسبه إلى مَنْ قاله، فموقفه مختلف.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين؛ قراءة هي: «وظنوا أنهم قد كُذبوا» أي: حدَّثهم غيرهم كَذِباً؛ وقراءة ثانية هي: «وظنوا أنهم قد كُذِّبوا» وهي تعني: أنهم قد
ولقائل أن يسأل: كيف يظن الرسل ذلك؟
وأقول: إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان؛ يعلم أن ما يُؤكِّد صدق رسالته هو مجيء النصر؛ وتمرُّ عليه بعض من الخواطر خوفاً أن يقول المقاتلون الذين معه: «لقد كذب علينا» ؛ لأن الظن إخبار بالراجح.
ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى معاذ الله قد كَذَبهم وعده، ولكنهم ظَنُّوا أن النصر سيأتيهم بسرعة؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلاً على أن النصر لن يأتي.
أو: أنهم خافوا أن يُكذِّبهم الغير.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه، ولا يعرفه أحد، فسبحانه لا يَعْجَلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد.
ويقول سبحانه: ﴿وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا... ﴾ [يوسف: ١١٠]
وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب... ﴾
يقول الحق سبحانه: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ... ﴾ [هود: ١٢٠]
ونعلم أن معنى القَصَص مأخوذ من قَصِّ الأثر؛ وتتبُّعه بلا زيادة أو نقصان.
وفي أول السورة قال الحق: ﴿... إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣]
ونعرف أن مادة «العين» و «الباء» و «الراء» تفيد التعدية من جَليّ إلى خَفيّ.
والعِبْرة في هذه القصة قصة يوسف وكذلك قصص القرآن كلها؛ نأخذ منها عِبْرة من الجَليِّ فيها إلى الخَفيِّ الذي نواجهه؛ فلا نفعل الأمور السيئة؛ ونُقدِم على الأمور الطيبة.
وحين نقبل على العمل الطيّب الذي جاء في أيّ قصة قرآنية؛ وحين نبتعد عن العمل السيئ الذي جاء خَبرُه في القصة القرآنية؛ بذلك نكون قد أحسنَّا الفهم عن تلك القصص.
وعلى سبيل المثال: نحن نجد الظالم في القصَص القرآني؛ وفي قصة يوسف تحديداً؛ وهو ينتكس، فيأخذ الواحد مِنَّا العبرة، ويبني حياته على ألاّ يظلم أحداً. وحين يرى الإنسان منا المظلومَ وهو ينتصر؛ فهو لا يحزن إنْ تعرَّض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتصر؛ فهو لا يحزن إن تعرض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتظره من نصر بإذن الله.
ونحن نقول: «عبر النهر» أي: انتقل من شاطئ إلى شاطئ.
وكذلك قولنا «تعبر الرُّؤْيا» أي: تؤوّلها؛ لأن الرُّؤْيا تأتي رمزية؛ وتعبرها أي: تشرحها وتنقلها من خفيّ إلى جليّ؛ وإيضاح المطلوب منها.
وهنا قال الحق سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب... ﴾ [يوسف: ١١١]
والعِبْرة قد تمرُّ، ولكن لا يلتفت إليها إلا العاقل الذي يُمحِّص الأشياء، أما الذي يمرُّ عليها مُرور الكرام؛ فهو لا يستفيد منها.
و «أولو الألباب» هم أصحاب العقول الراجحة، و «الألباب» جمع «لُبّ». واللب: هو جوهر الشيء المطلوب؛ والقَِشْر موجود لصيانة اللُّبِّ، وسُمِّي العقل «لُبّاً» لأنه ينثرُ القشور بعيداً، ويعطينا جوهر الأشياء وخيرها.
ويتابع الحق سبحانه: ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ... ﴾ [يوسف: ١١١]
أي: أن ما جاء على لسانك يا محمد وأنزله الحق وَحْياً عليك ليس حديث كَذبٍ مُتعمَّد؛ بل هو الحق الذي يطابق الكتب التي سبقتْه.
ويُقال: «بين يديك» أي: سبقك؛ فإذا كنت تسير في طابور؛ فَمَنْ أمامك يُقال له «بين يديك»، ومَنْ وراءك يُقال له «مَنْ خلفك».
والقرآن قد جاء ليصدق الكتب التي سبقتْه؛ وليست هي التي تُصدِّق عليه؛ لأنه الكتاب المهيمن، والحق سبحانه هو القائل:
ويضيف الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [يوسف: ١١١]
فالقرآن يُصدِّق الكتب السابقة، ويُفصِّل كل شيء؛ أي: يعطي كل جزئية من الأمر حُكْمها في جزئية مناسبة لها. فهو ليس كلاماً مُجْملاً، بل يجري تفصيل كل حُكْم بما يناسب أيَّ أمر من أمور البشر.
وفي أعرافنا اليومية نقول: «فلان قام بشراء بذلة تفصيل». أي: أن مقاساتها مناسبة له تماماً؛ ومُحْكمة عليه حين يرتديها.
وفي الأمور العقدية نجد والعياذ بالله مَنْ يقول: إنه لا يوجد إله على الإطلاق، ويقابله مَنْ يقول: إن الآلهة مُتعددة؛ لأن كل الكائنات الموجودة في الكون من الصعب أن يخلقها إله واحد؛ فهناك إله للسماء، وإله للأرض؛ وإله للنبات؛ وإله للحيوان.
ونقول لهم: كيف يوجد إله يقدر على شيء، ويعجز عن شيء آخر؟
وإنْ قال هؤلاء: «إن تلك الآلهة تتكاتف مع بعضها».
نرد عليهم: ليست تلك هي الألوهية أبداً، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
وحين يكون الشركاء مختلفين؛ فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضَنْك وعذاب؛ أما الرجل المملوك لرجل واحد فحاله يختلف؛ لأنه يأتمر بأمر واحد؛ لذلك يحيا مرتاحاً.
ونجد الحق سبحانه يقول عن الآلهة المتعددة: ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١]
أما مَنْ يقول بأنه لا يوجد إله في الكون، فنقول له: وهل يُعقل أن كل هذا الكون الدقيق المُحْكم بلا صانع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يُفَصّلَ هذا الأمر ليؤكد أنه لا يوجد سوى إله واحد في الكون، ونجد القرآن يُفصِّل لنا الأحكام؛ ويُنزِل لكل مسألة حُكْماً مناسباً لها؛ فلا ينتقل حُكْم من مجال إلى آخر.
وكذلك تفصيل الآيات، فهناك المُحْكم والمُتَشابه؛ والمَثَل هو قول الحق سبحانه. ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات... ﴾ [آل عمران: ١١٤]
ويقول في موقع آخر:
جاء مرة بقول «إلى»، ومرة بقول «في» ؛ لأن كلاً منها مناسبة ومُفصَّلة حَسْب موقعها.
فالمُسَارعة إلى المغفرة تعني أن مَنْ يسارع إليها موجود خارجها، وهي الغاية التي سيصل إليها، أما مَنْ يسارع في الخيرات؛ فهو يحيا في الخير الآن، ونطلب منه أن يزيد في الخير.
وأيضاً نجد قوله الحق: ﴿... واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [لقمان: ١٧]
ونجد قوله الحق: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣]
وواحدة منهما وردتْ في المصائب التي لها غَرِيم، والأخرى قد وردتْ في المصائب التي لا غريم فيها؛ مثل المرض حيث لا غَرِيم ولا خُصومة.
أما إذا ضربني أحد؛ أو اعتدى على أحد أبنائي؛ فهو غريمي وتوجد خصومة؛ فوجوده أمامي يَهِيج الشر في نفسي؛ وأحتاج لضبط النفس بعزيمة قوية، وهذا هو تفصيل الكتاب.
والحق سبحانه يقول: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ... ﴾ [فصلت: ٣]
أي: أن كل جزئية فيه مناسبة للأمر الذي نزلتْ في مناسبته.
وقوله الحق: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... ﴾ [الأنعام: ١٥١]
وكل آية تناسب موقعها، ومعناها مُتَّسق في داخلها، وتَمَّ تفصيلها بما يناسب ما جاءت له، فقوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ... ﴾ [الأنعام: ١٥١]
يعني أن الفقر موجود، والإنسان مُنْشغل برزقه عن رزق ابنه.
أما قوله: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... ﴾ [الإسراء: ٣١]
أي: أن الفقر غير موجود، وهناك خَوْف أن يأتي إلى الإنسان؛ وهو خوف من أمر لم يَطْرأ بعد.
وهكذا نجد في القرآن تفصيلاً لكل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم، وهو تفصيل لكل شيء ليس عندك؛ وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [النمل: ٢٣]
وقول الحق سبحانه: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ... ﴾ [يوسف: ١١١]
لا يعني أن نسأل مثلاً: «كم رغيفاً في كيلة القمح؟».
وقد حدث أن سأل واحد الإمام محمد عبده هذا السؤال؛ فجاء بخباز، وسأله هذا السؤال؛ فأجاب الخباز؛ فقال السائل: ولكنك لم تَأْتِ بالإجابة من القرآن؟ فقال الإمام محمد عبده: لماذا لا تذكر قوله الحق: ﴿... فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]
وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يُفرِّط في الكتاب من شيء.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: ﴿... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: ١١١]
ونعلم أن الهُدى هو الطريق المُؤدي إلى الخير، وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه.
والقسم الثاني: علاج لمَنْ وقع في المعصية.
وإليك المثال: هَبْ أن أُناساً يعلمون الشر؛ فنردهم عنه ونشفيهم منه؛ لأنه مرض، وهو رحمة بمعنى ألاَّ يقعوا في المرض بداية.
الملاحظة الأولى: أن المنهج القرآني قد نزل وقايةً لمن لم يقع في المعصية.
والملاحظة الثانية: أن المنهج يتضمن العلاج لِمَنْ وقع في المعصية.
ويُحدِّد الحق سبحانه مَنْ يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلاجاً، فيقول: ﴿... وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: ١١١]
أي: هؤلاء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون، ووضع للبشر قوانين صيانة حياتهم، ومن المنطقيِّ أن يسمع المؤمن كلامه ويُنفذه؛ لأنه وضع المنهج الذي يمكنك أن تعود إليه في كل ما يصون حياتك، فإنْ كنت مؤمناً بالله؛ فُخُذ الهدى، وخُذ الرحمة.
ونسأل الله أن نُعطَي هذا كله.