تفسير سورة سبأ

فتح البيان
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة سبأ
هي أربع أو خمس وخمسون آية، وهي مكية
قال القرطبي : في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها وهي قوله :﴿ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك ﴾. فقالت فرقة : هي مكية. وقالت فرقة : هي مدنية. وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله تعالى. وفيمن نزلت وعن ابن عباس قال : نزلت سورة سبأ بمكة.

(الحمد لله) التعريف إن أجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجري على الاستغراق فالتعريف مشعر باستحقاق جميع أفراد الحمد لله سبحانه على ما تقدم تحقيقه في فاتحة الكتاب. وقيل: معناه أن كل نعمة من الله فهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه واللام لام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلاً فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلاً، وقيل هي لام التخصيص والمعنى متقارب أي وله بكل المحامد الاختصاص.
(الذي له ما في السموات وما في الأرض) معناه أن جميع ما هو فيهما في ملكه وتحت تصرفه يفعل به ما يشاء ويحكم فيه بما يريد، فكل نعمة واصلة إلى العبد فهي مما خلقه له ومَنّ به عليه، فحمده على ما في السموات والأرض هو حمد له على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم، ولما بين أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به، بين أن الحمد الأخروي مختص به كذلك أيضاًً فقال:
161
(وله الحمد في الآخرة) كما له في الدنيا لأن النعم في الدارين كلها منه، وقيل المعنى أن له على الاختصاص حمد عباده الذي يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة كما في قوله (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده) وقوله (الحمد لله الذي هدانا لهذا) وقوله (الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن) وقوله (الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله) وقوله (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) فهو سبحانه المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم وتلذذاً بما نالوا من الأجر العظيم، كما ورد: يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس.
(وهو الحكيم) الذي أحكم أمر الدارين (الخبير) بأمر خلقه فيهما، وبضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض، ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به علمه من أمور السموات والأرض التي نيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية فقال:
162
(يعلم ما يلج في الأرض) أي ما يدخل ويوضع فيها من مطر أو كنز أو دفين أو أموات (وما يخرج منها) من زرع ونبات وحيوان وشجر وعيون ومعادن وأموات إذا بعثوا (وما ينزل من السماء) من الأمطار والسروج والثلوج والبرد والصواعق وأنواع البركات ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته وكتبه إلى أنبيائه قُرىء: ينزِل مسنداً إلى ما وينزّل مشدداً مسنداً إلى الله سبحانه.
(وما يعرج فيها) أي في السماء من الملائكة، وأعمال العباد والدعوات وضمن العروج معنى الاستقرار فعداه بفي دون إلى، والسماء جهة العلو مطلقاً (وهو الرحيم) بعباده (الغفور) لذنوبهم وتفريطهم في أداء ما وجب عليهم من شكر نعمه.
(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق أو كفار مكة على الخصوص والأول أولى، والمعنى لا تأتي بحال من الأحوال إنكار منهم لوجودها بالكلية لا بمجرد إتيانها في حال تكلمهم، أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد، وإنما عبروا عنها بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها فرد الله عليهم كلامهم وأثبت ما نفوه وأمر رسوله أن يقول لهم:
(قل بلى) على معنى ليس الأمر إلا إتيانها (وربي لتأتينكم) وهذا القسم لتأكيد الإتيان على أتم الوجوه وأكملها. قرىء: لتأتينكم بالفوقية أي الساعة، وبالتحتية على تأويل الساعة باليوم أو الوقت، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو أمره كما قال (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك).
(عالم الغيب) تقوية للتأكيد لأن تعقيب القسم بحلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته، لما أن ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر (لا يعزب) أي لا يغيب (عنه) ولا يستر عليه ولا يبعد عنه من عزب يعزب -بكسر الزاي- إذا غاب وبعد. وخفي وقرىء بضم الزاي، قال الفراء: والكسر أحب إليّ وهما لغتان (مثقال ذرة) أي مقدار أصغر نملة ووزن ذرة.
(في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك) أي من مثقال ذرة وفيه إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضاًً، ولو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال (ولا أكبر) منه (إلا في كتاب مبين) أي إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه ومكتوب فيه فهو مؤكد لنفي العزوب.
163
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٨)
164
(ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات) اللام للتعليل لقوله لتأتينكم أي إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب (أولئك) أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات (لهم مغفرة) لذنوبهم (ورزق كريم) أي حسن وهو الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه، ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند إتيان الساعة فقال:
(والذين سعوا في) إبطال (آياتنا) المنزلة على الرسل وقدحوا فيها وصدّوا الناس عنها وجاهدوا في ردها بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك لأن المكذب آت بإخفاء آيات بينات؛ فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به.
(معاجزين) مقدرين عجزنا أو مسابقين لنا يحسبون أنهم يفوتوننا ولا يدركون، وذلك باعتقادهم أنهم لا يبعثون، يقال: أعجزه وعاجزه إذا غالبه وسبقه. قرىء: معاجزين ومعجزين أي مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات (أولئك) الذين سعوا (لهم عذاب من رجز) الرجز هو العذاب فمن للبيان وقيل الرِّجز هو أسوأ العذاب وأشده والأول أولى.
164
ومن ذلك قوله فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء (أليم) أي الشديد الألم، ولما ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها فقال:
165
(ويرى) أي يعلم (الذين أوتوا العلم) وهم الصحابة قاله قتادة وقال مقاتل: هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل: جميع المسلمين، والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات، أي أن ذلك السعي منهم يدل على جهلهم، لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن الكتاب.
(الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) أي الصدق يعني أنه من عند الله (ويهدي إلى صراط) معطوف على الحق عطف فعل على اسم لأنه في تأويله كما في قوله: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) أي: وقابضات كأنه قيل وهادياً وقيل إنه مستأنف وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل، وهو القرآن، والصراط: الطريق أي: ويهدي إلى طريق.
(العزيز) في ملكه (الحميد) عند خلقه والمراد أن يهدي إلى دين الله الإسلام وهو التوحيد، ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من كلام منكري البعث فقال:
(وقال الذين كفروا) بعضهم لبعض: (هل ندلكم على رجل)؟ أي هل نرشدكم إلى رجل يعنون محمداً - ﷺ -، والتعبير برجل المنكر من باب التجاهل، كأنهم لم يعرفوا منه إلا أنه رجل وهو عندهم أشهر من الشمس قاله الشهاب، وقال القرطبي: كانوا يقصدون بذلك السخرية والهزأة.
(ينبئكم) يخبركم بأمر عجيب ونبأ غريب هو أنكم (إذا مزقتم كل ممزق) أي فرقتم كل تفريق وقطعتم كل تقطيع وصرتم بعد موتكم رفاتاً وتراباً، وقال الكرخي: أي كل مكان تمزيق من القبور، وبطون الوحش والطير.
(إنكم لفي خلق جديد) أي تخلقون وتنشأون خلقاً جديداً، وتبعثون
165
من قبوركم أحياء، وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها بعد أن تمزقت أجسادكم كل تمزيق، قال هذا القول بعضهم لبعض استهزاء بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث، وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به والتضاحك مما يقوله من ذلك، قال الزجاج: التقدير إذا مزقتم كل ممزق بعثتم أو ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم، وأصل المزق: خرق الأشياء يقال ثوب مزيق وممزق ومتمزق وممزوق.
وعن قتادة في الآية قال: قال ذلك مشركو قريش، إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً وتقطعتكم السباع والطير، أنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً له، وجديد عند البصريين بمعنى فاعل، يقال جد الشيء فهو جاد، وعند الكوفيين بمعنى مفعول من جددته أي قطعته، ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم رددوا ما وعدهم به رسول الله - ﷺ - من البعث بين أمرين فقالوا:
166
(أفترى على الله كذباً أم به جنة)؟ أي أهو كاذب فيما قاله، أم به جنون بحيث لا يعقل ما يقوله. قال قتادة: إما أن يكون يكذب على الله وإما أن يكون مجنوناً والهمزة في أفترى همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدم في قوله (أطلع الغيب) ثم رد عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله فقال:
(بل الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي ليس الأمر كما زعموا بل هم الذين ضلوا عن الفهم وإدراك الحقائق فكفروا بالآخرة، ولم يؤمنوا بما جاءهم به فصاروا بسبب ذلك (في العذاب) الدائم في الآخرة وهم اليوم.
(والضلال البعيد) عن الحق غاية البعد، ثم وبخهم سبحانه بما اجترأوا عليه من التكذيب مبيناً لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلا لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض، وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك ويعيده إلى ما كان عليه من الذات والصفات فقال:
166
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
167
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والمعنى أَعَموا فلم يروا ومن المعلوم أن ما بين يدي الإنسان هو كل ما يقع نظره عليه من غير أن يحول وجهه إليه وخلفه هو كل ما لا يقع نظره عليه حتى يحول نظره إليه فيعم الجهات كلها أي أنهم إذا نظروا رأوا السماء قدامهم وخلفهم، وكذلك إذا نظروا إلى الأرض رأوها خلفهم وقدامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم فهو القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسوله. وإنكارهم للبعث.
فهذه الآية اشتملت على أمرين:
أحدهما: أن هذا الخلق الذي خلقه الله من السماء والأرض يدل على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).
والأمر الآخر: التهديد لهم بأن من خلق السموات والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم كما قال:
(إن نشأ نخسف بهم الأرض) كما خسفنا بمن كان قبلهم كقارون (أو نسقط عليهم كسفاً) أي قطعاً (من السماء) كما أسقطها على أصحاب الأيكة فكيف يأمنون ذلك، وقال قتادة: إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل،
167
وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند، قرىء بالنون وبالتحتية في الأفعال الثلاثة.
(إن في ذلك) المذكور المرئي من خلق السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظرين من جميع الجوانب (لآية) واضحة ودلالة بينة.
(لكل عبد منيب) أي راجع إلى ربه بالتوبة والإخلاص، وخص النيب لأنه المنتفع بالتفكر، وقال قتادة: منيب أي تائب مقبل إلى الله، وقال هنا: لآية بالتوحيد، وفيما بعد ذلك لآيات يجمعها لأن -ما- هنا إشارة إلى إحياء الموتى فناسب التوحيد. وما بعد إشارة إلى سبأ قبيلة تفرقت في البلاد فصاروا فرقاً فناسب الجمع، ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود: (فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب). وقال في سليمان: (وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) فقال:
168
(ولقد آتينا داود منا فضلاً) أي آتيناه بسبب إنابته فضلاً منا على سائر الأنبياء، واختلف في هذا الفضل على أقوال فقيل النبوة وقيل الزبور وقيل العلم، وقيل القوة كما في قوله (واذكر عبدنا داود ذا الأيد) وقيل تسخير الجبال كما في قوله (يا جبال أوّبي معه)، وقيل التوبة، وقيل الحكم بالعدل، كما في قوله (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)، وقيل هو إلانة الحديد كما في قوله: (وألنا له الحديد)، وقيل حسن الصوت والأولى أن يقال: إن هذا الفضل المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله.
(يا جبال) إلى آخر الآية أي قلنا له يا جبال (أوبي معه) التأويب التسبيح كما في قوله: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن)، قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، وقال ابن عباس: أوّبي سبحي.
وروي مثله عن مجاهد وعكرمة وابن زيد وكان إذا سبح داود سبحت
168
الجبال معه، ومعنى تسبيحها أن الله يجعلها قادرة على ذلك أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود، وقيل معنى أوبي سيري معه من التأويب الذي هو سير النهار، أجمع قراء العامة أوبي على صيغة الأمر من التأويب وهو الترجيع والتسبيح أو السير أو النوح، وقرىء أوبي بضم الهمزة أمراً من آب يؤوب إذا رجع أي ارجعي معه.
(والطير) بالنصب عطفاً على (فضلاً) على معنى وسخرنا له الطير، لأن إيتاءه إياها تسخيرها له أو نادينا الجبال والطير، وقال سيبويه وأبو عمرو ابن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى وسخرنا له الطير وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون مفعولاً معه، كما تقول: استوى الماء والخشية، وقال الكسائي أي آتيناه فضلا وتسبيح الطير، وفي هذا النظم من الفخامة ما لا يخفى.
(وألنا له الحديد) أي جعلناه ليناً له ليعمل به ما شاء.
قال ابن عباس: كالعجين وقال الحسن: كالشمع يعمله من غير نار، وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم.
169
(أن اعمل سابغات) أي بأن اعمل أو لأن اعمل أو (أن) مفسرة لقوله ألنا قاله الحوفي وفيه نظر، لأنها لا تكون إلا بعد القول أو ما هو في معناه، وقيل: التقدير أمرناه أن اعمل ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، والمعنى دروعاً سابغات والسوابغ الكوامل الواسعات، يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه، وفضل منه فضلة، وقرىء صابغات بالصاد لأجل الغين.
(وقدر في السرد) السرد نسج الدروع، ويقال: السرد والزرد كما يقال: السراد والزراد لصانع الدروع والسرد أيضاًً الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز
169
ومنه سرد الكلام إذا جاء به متوالياً، ومنه حديث عائشة: [لم يكن النبي - ﷺ - يسرد الحديث كسردكم] قال سيبويه: ومنه سريد أي جرى، ومعنى سرْد الدروع إحكامها وأن يكون نظام حلقها ولاء غير مختلف.
قال قتادة: كانت الدروع قبل داود ثقالاً. فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة، أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه، فلا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف، ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها.
وقيل: إن التقدير في المسمار أي لا تجعل مسمار الدرع دقيقاً فيقلق ولا غليظاً فيفصم الحلق، وقال ابن عباس: قدر في السرد أي في حلق الحديد وعنه لا تدق المسامير وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير وتضيق الحلق فتفصم، واجعله قدراً.
وقال البقاعي: إنه لم تكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة إليها بسبب إلانة الحديد، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق، ولا كان للإلانة كبير فائدة وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير.
وقال الرازي: معناه إنك غير مأمور به أمر إيجاب وإنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة. وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل فيه القوت فحسب، ثم خاطب داود وأهله فقال:
(واعملوا) عملاً (صالحاً) كما في قوله (اعملوا آل داود شكراً) ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله (إني بما تعلمون بصير) أي لا يخفى على شيء من ذلك فأجازيكم به.
170
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)
171
(ولسليمان الريح) أي سخرنا له الريح كما قال الزجاج قرأ عاصم بالرفع على الابتداء والخبر أي ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة وقرىء: الريح والرياح بالإفراد والجمع.
(غدوها) أي سيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال أي جريها من أول النهار إلى الزوال (شهر ورواحها) أي سيرها من الزوال إلى الغروب (شهر) والجملة مستأنفة لبيان تسخير الريح أو حالية من الريح والمعنى: أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقبل باصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل أو ببابل وبينهما مسيرة شهر. وقيل: إنه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند.
(وأسلنا) أي أذبنا (له عين القطر) أي النحاس الذائب قال الواحدي قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء وكان بأرض اليمن، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطى سليمان ولولاها ما لان النحاس أصلاً، لأنه قبل سليمان لم يكن يلين أصلاً لا بنار ولا بغيرها والمعنى أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود.
وقال قتادة أسأل الله له عيناً يستعملها فيما يريد. قال ابن عباس:
171
القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي: سليمان، وقال مجاهد القطر الصفر والمعنى: جعلنا النحاس لسليمان في معدنه عيناً تسيل كعيون المياه دلالة على نبوته أي كالعين النابعة من الأرض.
(ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) الإذن مصدر مضاف إلى فاعله أي مسخراً أو ميسراً بأمر ربه (ومن يزغ منهم) أي ومن يعدل من الجن (عن أمرنا) الذي أمرناه به وهو طاعة سليمان.
(نذقه من عذاب السعير) قال أكثر المفسرين: وذلك في الآخرة، وقيل في الدنيا قال السدي، وكل الله بالجن ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة فتحرقه، ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجن لسليمان فقال:
172
(يعملون له ما يشاء من محاريب) من للبيان والمحاريب كل موضع مرتفع وهي الأبنية الرفيعة، والقصور العالية، والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال والمساكن.
قال المبرد: لا يكون المحراب إلا أن يرتقي إليه بدرج ومنه قيل للذي يصلي فيه محراب لأنه يرفع ويعظم، وقال مجاهد: المحاريب دون القصور، وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار وقال الضحاك وقتادة: المراد بالمحاريب هنا المساجد وكان مما عملوا له بيت المقدس.
(وتماثيل) جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء أي صورته بصورته من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك قيل: كانت هذه التماثيل صور الأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء كانوا يصورونها في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهاداً، وفي الحديث " إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصورة ليذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة " وقيل: هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان، وقيل: صور السباع والطيور.
172
وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحاً في شرع سليمان ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد - ﷺ -، وعن ابن عباس قال: اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال: يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فنفخ الله فيها الروح فكانت تخدمه؛ وكان أسفنديار من بقاياهم فقيل لداود وسليمان (اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور)!!
(وجفان) جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة (كالجواب) جمع جابية وهي حفيرة كالحوض، وقيل: هي الحوض الكبير يجبي الماء أي يجمعه. قال الواحدي: قال المفسرون يعني قصاعاً في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
قال النحاس: الأولى إثبات الياء في الجوابي ومن حذف الياء قال: سبيل الألف واللام أن يدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها فلما كان يقال: جواب، ودخلت الألف واللام أقر على حاله فحذف الياء، قال الكسائي يقال جبوت الماء وجبيته في الحوض أي جمعته، والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل وقال النحاس: والجابية القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد جمعته في الكساء، وقال ابن عباس كالجوبة من الأرض.
(وقدور راسيات) قال ابن عباس: اثافيها منها، وقال قتادة: هي قدور النحاس تكون بفارس، وقال النحاس: هي قدور تنحت من الجبال الصم عملتها له الشياطين، ومعنى راسيات ثابتات لا تحمل ولا تحرك لعظمها، وكان يصعد إليها بالسلالم، وكانت باليمن قيل: إنها باقية بها إلى الآن ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم سليمان وأهله فقال:
(اعملوا آل داود شكراً) أي: وقلنا لهم: اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكراً له على ما آتاكم واعملوا عملاً شكراً على أنه صفة مصدر
173
محذوف، أو اعملوا للشكر على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين أو مفعول به وسميت الطاعة شكراً لأنها من جملة أنواعه، أو منصوب على المصدرية بفعل مقدر من جنسه، أي اشكروا شكراً قيل: المراد بآل داود نفسه، وقيل: داود وسليمان وأهل بيته، وقيل: المعنى ارحموا أهل البلاء واسألوا ربكم العافية وسئل الجنيد عن الشكر فقال: بذل المجهود بين يدي المعبود، ثم بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده ليسوا بكثير فقال:
(وقليل من عبادي الشكور) أي العامل بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل وقال ابن عباس: يقول قليل من عبادي الموحدين توحيدهم والشكور المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكدحاً.
وعن ابن عباس: من يشكر على أحواله كلها، وقيل من يشكر على الشكر ومن يرى عجزه عن الشكر وعن داود عليه السلام أنه جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.
174
(فلما قضينا عليه الموت) أي حكمنا على سليمان به وألزمناه إياه (ما دلهم) أي الجن (على موته إلا دابة الأرض) يعني حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتاً، وهي دويبة يقال لها: سرفة وقرىء: الأرض بفتح الراء أي الأكل يقال: أرضة الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرض.
(تأكل منسأته) قال البخاري: يعني عصاه أي عصاته التي كان متكأ عليها والمنسأة العصا بلغة الحبشة أو هي مأخوذة من نسأت الغنم أي زجرتها.
قال الزجاج: المنسأة التي ينسأ بها أي يطرد، قرأ الجمهور منسأته بهمزة مفتوحة وقرىء بهمزة ساكنة وبألف محضة قال المبرد: بعض العرب تبدل من همزتها ألفاً فلما أكلتها الأرضة شكرتها الجن وأحبوها فهم يأتونها بالماء
174
والطين في خروق الخشب وزاد السدي، وقالوا لها: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما.
(فلما خر) أي سقط سليمان (تبينت الجن) أي ظهر لهم وانكشف من تبينت الشيء إذا علمته أي علمت الجن (أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب، أي العمل الذي أموهم به والطاعة له، وهو إذ ذاك ميت.
قال مقاتل العذاب المهين: الشقاء والنصب في العمل. قال الواحدي قال المفسرون: كانت الناس في زمان سليمان يقولون: إن الجن تعلم الغيب فلما مكث سليمان قائماً على عصاه حولاً ميتاً والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتاً، فعلموا بموته علم الناس أن الجن لا تعلم الغيب. ويجوز أن يكون تبينت من تبين الشيء لا من تبينت الشيء أي ظهر وتجلى وإن وما في حيزها بدل اشتمال مع تقدير محذوف أي ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب. ما لبثوا في العذاب المهين قرأ الجمهور: تبينت على البناء للفاعل مسنداً إلى الجن وقرأ ابن عباس وغيره: على البناء للمفعول ومعنى القراءتين يعرف مما قدمنا.
قال ابن عباس: لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خر على رأس الحول فأخذت الجن عصى مثل عصاه ودابة مثل دابته. فأرسلوها عليها فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ: فلما خر تبينت الإنس، قال سفيان: وفي قراءة ابن مسعود: وهم يدأبون له حولاً، وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن السني وغيرهم عن ابن عباس عن النبي - ﷺ - قال: " كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فتقول: لها ما اسمك فتقول كذا وكذا فيقول لم أنت؟ فتقول لكذا وكذا، فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء
175
كتبت فصلى ذات يوم فإذا شجرة نابتة بين يديه فقال لها ما اسمك؟ قالت: الخروب. قال: لأي شيء أنت؟ قالت لخراب هذا البيت. قال لها سليمان: ما كان الله ليخربه، وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ثم نزعها وغرسها في حائط له، ثم قال سليمان اللهم عمِّ عن الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فهيأ عصى فتوكأ عليها وقبضه الله وهو متكىء عليها، فمكث حولاً ميتاً والجن تعمل فأكلتها الأرضة فسقطت فعلموا عند ذلك بموته فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
وكان ابن عباس يقرأها كذلك فشكرت الجن للأرضة فأينما كانت يأتونها بالماء، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً.
وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله: إني تفضلت على عبادي بثلاث: ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب والفضة، وألقيت النتن على الجسد ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه واستلبت الحزن ولولا ذلك لذهب النسل.
ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وقيل: إن داود أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى فمات قبل أن يتمه فوصىّ به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل ربه أن يعمّيَ عليهم موته حتى يفرغوا عنه ولتبطل دعواهم على الغيب، روي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها، فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه.
ولما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقّبه بحال بعض الجاحدين لها، والمقصود من ذكر هذه القصة أن النبي - ﷺ - يذكرها لقومه لعلهم يتعظون وينزجرون ويعتبرون بها فقال:
176
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦)
177
(لقد كان لسبأ) المراد بها القبيلة التي هي من أولاد سبأ هو سبأ ابن يشجب بضم الجيم بن يعرب بن قحطان بن هود، قرأ الجمهور: لسبأ بالتنوين على أنه اسم حي أي الحي الذين هم أولاد سبأ وقرىء: لسبأ ممنوع الصرف بتأويل القبيلة ويقوي القراءة الأولى قوله في مسكنهم ولو كان على تأويل القبيلة لقال في مسكنها، وقرأ الجمهور على الجمع واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، ووجه الاختيار أنها كانت لهم منازل كثيرة ومساكن متعددة، وقرىء بالإفراد ووجه الإفراد أنه مصدر يشمل القليل والكثير، أو اسم مكان وأريد به معنى الجمع، وهذه المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن مأرب وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، وكانت أخصب البلاد.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي - ﷺ - فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم، فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في إثري فردني فقال: ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك، وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ أرض أم امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة. وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد
177
والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: الذي منهم خثعم وبجيلة.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبراني وابن عدي والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه.
(آية) أي علامة دالة على كمال قدرة الله وبديع صنعه بملاحظة أحوالها السابقة وهي نضارتها وخصبها وثمارها، واللاحقة كتبديلها وعدم ثمرها ثم بين هذه الآية فقال: (جنتان) أي جماعتان من البساتين.
(عن يمين وشمال) أي وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله قد أحاطتا به من جهتيه وقيل: عن يمين من أتاهما وشماله، وكانت مساكنهم في الوادي، وكل طائفة من تلك الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة، والآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها المكتل فيمتلىء من أنواع الفواكه التي يتساقط من غير أن تمسها بيدها.
وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة ولا ذباباً ولا برغوثاً ولا قملة ولا عقرباً ولا حية ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم، قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنتين بل أراد من الجهتين يمنة وشرة في كل جهة بساتين كثيرة وأشجار وثمار تستر الناس بظلالها.
(كلوا من رزق ربكم) أي قيل لهم ذلك وهذا الأمر للإذن والإباحة، وقيل: لم يكن ثم أمر ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم والأول أظهر، وقيل: إنها قالت لهم الملائكة، وقيل: إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم، والمراد بالرزق هو ثمار الجنتين.
178
(واشكروا له) على ما رزقكم من هذه النعم. واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه.
(بلدة طيبة) مستأنفة لبيان موجب الشكر والمعنى: هذه بلدة طيبة فكثيرة أشجارها وطيبة ثمارها وقيل: معنى كونها طيبة أنها غير سبخة وقيل: ليس فيها هوام لطيب هوائها، قال مجاهد: هي صنعاء، وقيل: كانت على ثلاثة فراسخ من صنعاء وفي المصباح: يطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامراً كان أو خلاء.
(ورب غفور) أي المنعم بها عليهم رب غفور لذنوبهم، فجمع لهم بين المغفرة وطيب البلدة، ولم يجمع ذلك لجميع خلقه، وقال مقاتل: المعنى: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب، وقيل: إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام، قرىء بنصب بلدة ورباً على تقدير اسكنوا بلدة واشكروا رباً، ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم فقال:
179
(فأعرضوا) عن الشكر وكفروا بالله وكذبوا أنبياءهم قال السدي: بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم وكذا قال وهب وزاد وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم؛ ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم كما قال:
(فأرسلنا عليهم سيل العرم) وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن فردموا ردماً بين جبلين وحبسوا الماء وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث فأخصبوا وكثرت أموالهم فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً ففتقت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم،
179
فهذا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة وهي السكر التي تحبس الماء، وكذا قال قتادة وغيره.
وقال السدي: العرم اسم للسد والمعنى أرسلنا عليهم سيل السد العرم، وقال عطاء: العرم اسم الوادي، وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم، وهو الذي يقال له: الخلد فنسب السيل إليه لكونه سبي جريانه. قال ابن الأعرابي: العرم من اسماء الفأر، وقال مجاهد وابن نجيح العرم: ماء أحمر أرسله الله في السد فشقه وهدمه، وقيل: إن العرم اسم المطر الشديد، وقيل: اسم للسيل الشديد والعرامة في الأصل الشدة والشراسة والصعوبة، ويقال: عرم فلان إذا تشدد وتصعب، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال: العرم السيل الذي لا يطاق. وقال المبرد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين وعن ابن عباس قال: العرم الشديد، وعنه قال: وادٍ كان باليمن كان يسيل إلى مكة.
(وبدلناهم بجنتيهم جنتين) أي أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة، والأنواع الحسنة، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما، وتسميتهما جنتين تهكم بهم على طريق الشاكلة، ولهذا قال:
(ذواتي) تثنية ذوات مفرد على الأصل لأن أصله ذويه قالوا: وعين الكلمة والياء لامها لأنه مؤنث ذو، وذو أصله ذوي فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الياء فصار ذوات ثم حذفت الواو تخفيفاً وفي تثنيته وجهان تارة ينظر للفظه الآن، فيقال: ذاتان، وتارة ينظر له قبل حذف الواو فيقال: ذواتان وقال السمين في تثنية ذات لغتان: أحدهما الرد إلى الأصل فإن أصله ذوية فالعين واو واللام ياء لأنها مؤنثة ذو، والثانية تثنيته على اللفط فيقال ذاتان.
(أكل خمط) قرىء: بتنوين أكل وعدم إضافته إلى خمط وقرىء:
180
بالإضافة والأولى أولى، قال الخليل: الخمط ضرب من الأراك وله حمل يؤكل، وبه قال ابن عباس وكذا قال كثير من المفسرين وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك، وقيل هو ثمر شجر يقال له: فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به، وقال الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله، وقال المبرد: كل شيء يغير إلى ما لا يشتهى يقال له: خمط، ومنه اللبن إذا تغير والخمط: اسم للمر والحامض من كل شيء والخمط: نعت لأكل أو بدل منه، لأن الأكل هو الخمط بعينه، وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب مثل ثوب خز ودار آجر والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل، ومن معه. قال الجوهري: الخمط ضرب من الآراك له حمل يؤكل.
(وأثل) هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره، قال: إلا أنه أعظم من الطرفاء طولاً وورقه كورق الطرفاء، ومنه اتخذ منبر رسول الله - ﷺ -، الواحدة أثلة، والجمع أثلاث، وقال الحسن: الأثل الخشب، وقال أبو عبيدة: هو شجر النظار والأول أولى ولا ثمر للأثل.
(وشيء من سدر قليل) السدر شجر معروف، قال الفراء هو السمر وقال الأزهري السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال، والثاني سدر ينبت على الماء وثمرة النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب، قيل ووُصف السدر بالقلة لأن منه نوعاً يطيب أكله وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري، ولذا يغرس في البساتين، قال قتادة بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر ويحتمل أن يرجع قوله (قليل) إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من التبديل أو إلى المصدر.
181
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨)
182
(جزيناهم بما كفروا) أي ذلك التبديل أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها.
(وهل نجازي إلا الكفور) أي وما نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة ونزول النقمة إلا الشديد الكفر المتبالغ، قرأ الجمهور: بضم التحتية وفتح الزاي على البناء للمفعول وقرىء: بالنون وكسر الزاي مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه، والكفور على الأولى مرفوع وعلى الثانية منصوب وظاهر الآية أنه لا يجازي إلا الكفور، مع كون أهل المعاصي يجازون، وقد قال قوم إن معنى الآية أنها لا يجازي هذا الجزاء وهو الاصطلام والإهلاك إلا من كفر وقال مجاهد: إن المؤمن تكفَّر عنه سيآته والكافر يجازى بكل عمل عمله، وقال طاووس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش. وقال الحسن: إن المعنى أنه يجازي الكافر مثلاً بمثل ورجح هذا الجواب النحاس.
(وجعلنا بينهم) أي وكان من قصتهم أنا جعلنا بين مساكنهم قبل إرسال السيل عليهم (وبين القرى التي باركنا فيها) بالماء والشجر وهي قرى الشام يعني الأرض المقدسة قاله ابن عباس.
(قرى ظاهرة) أي متواصلة عامرة مخصبة وكان مُتَّجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم، قال الحسن: إن هذه القرى هي بين اليمن
182
والشام قيل: إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام وقيل هي بين المدينة والشام قال المبرد القرى الظاهرة هي المعروفة وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى فكانت قرى ظاهرة، أي معروفة يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف وقيل ظاهرة لأعين الناظرين أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم.
(وقدرنا فيها السير) أي جعلنا السير من القرية إلى القرية ومن المنزل إلى المنزل مقدراً معيناً واحداً، وذلك نصف يوم في الغدو والرواح، فإذا صاروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار فكان ما بين اليمن والشام كذلك كما قال المفسرون، قال الفراء: أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء، ولخوف الطريق فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد، والحاصل أن الله سبحانه عدد عليهم النعم ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي.
(سيروا فيها) أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة فهو أمر تمكين أي ومكناهم من السير فيها متى شاءوا وفي لفظ: (في) إشعار بشدة القرب حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى قال ابن عباس: أي إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام المقدسة.
(ليالي وأياماً آمنين) مما تخافونه، وقال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظماء كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه، قيل: وأتى بلفظ النكرة تنبيهاً على قصر أسفارهم أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة بل طلبوا التعب والكد.
183
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
(فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العاقبة فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن من المفاوز والقفار، والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذلك وخرب تلك القرى المتواصلة، وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر.
فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) الآية مكان المن والسلوى وكقول النضر ابن الحرث: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية قرأ الجمهور: ربنا بالنصب على أنه منادى مضاف وقرأوا أيضاًً باعد وقرىء: بعد بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً فيكون معنى هذه القراءة الشكوى من بعد الأسفار، وقرىء: ربنا بالرفع وباعد بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر، والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وقال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً وأشراً، وكفراً للنعمة، وقرىء: ربنا بالرفع وبعد بفتح العين مشدّدة والمعنى على هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعّد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء.
فيكون هذا من جملة بطرهم وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله: لقد تقطع بينكم
184
وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير بعد سيرنا بين أسفارنا، قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداهما أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم بأنهم: دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم فلما فعل ذلك شكوا وتضرروا ولهذا قال سبحانه:
(وظلموا أنفسهم) حيث كفروا بالله وطغوا وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته (فجعلناهم أحاديث) يتحدث الناس بأخبارهم وعبرة لمن بعدهم، والأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر كما في القاموس. والمعنى جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم، وأمرهم وشأنهم واعتباراً بحالهم وعاقبتهم.
(ومزقناهم كل ممزق) أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق بحيث لا يتوقع بعده عود اتصال، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث وذلك إن الله سبحانه لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال فتقول: تفرقوا أيدي سبأ، وذهبو أيادي سبأ، والأيدي ههنا بمعنى الأولاد لأنهم يعتضد بهم، وفي المفصل الأيدي الأنفس كناية أو مجاز، قال في الكشف: وهو أحسن. قال الشعبي: فلحقت الأنصار يعني الأوس والخزرج بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخراعة بتهامة، وكان الذي قدم منهم المدينة عمر بن عامر وهو جد الأنصار، ولحق آل خزيمة بالعراق.
(إن في ذلك) أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم (لآيات) بينات وعبراً ظاهرات ودلالات واضحات (لكل صبار شكور) أي لكل من هو كثير الصبر عن المعاصي، والشكر لله على نعمه وخص الصبار والشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات.
185
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
186
(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه) قرىء بتخفيف صدق ونصب ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي صدق وظن ظنه أو صدق في ظنه أو على الظرفية، والمعنى أنه ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك، وقرىء: صدّق بالتشديد وظنه بالنصب على أنه مفعول به، وقال أبو علي الفارسي: أي صدق الظن الذي ظنه قال مجاهد: ظن ظناً فصدق ظنه فكان كما ظن وقرىء صدق بالتخفيف، وإبليس بالنصب وظنه بالرفع وقد أجاز هذه القراءة الفراء، وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل صدق وإبليس مفعوله، والمعنى أن إبليس سوّل له ظنه شيئاًً فيهم فصدق ظنه فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس، قيل: وهذه الآية خاصة بأهل سبأ والمعنى أنهم غيروا وبدلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم.
وقيل هي عامة أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله قاله مجاهد والحسن. قال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه. قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصى وإنما ظن ظناً فكان كمن ظن بوسوسته، وعن ابن عباس في الآية قال: قال إبليس: إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً وإني خلقت من
186
نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكن ذريته إلا قليلاً، قال: فصدق ظنه عليهم.
وانتصاب (إلا فريقاً من المؤمنين) على الاستثناء، وفيه وجهان أحدهما أن يراد به بعض المؤمنين لأن كثيراً من المؤمنين يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ولم يسلم منه إلا فريق وهم الذين قال الله فيهم: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، وقيل: المراد به المؤمنون كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين على أن تكون من بيانية.
187
(وما كان له عليهم من سلطان) أي من تسلط عليهم أي لم يكرههم على الكفر وإنما كان منه الدعاء والوسوسة والتزيين، وقيل: الضمير في عليهم يعود على من صدق عليهم ظن إبليس وعلى الفريق المؤمنين، وقيل السلطان القوة، وقيل الحجة، والاستثناء في قوله:
(إلا لنعلم) منقطع والمعنى لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم، وقال الفراء: المعنى إلا لنعلم ذلك عندكم، وقيل: إلا لتعلموا أنتم، وقيل: ليعلم أولياؤنا والملائكة وقرىء، ليعلم على البناء للمفعول والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار كما ذكرنا، وقيل: إلا لنعلم موجوداً ما علمناه معدوماً، والتغير على المعلوم لا على العلم، وقيل: هو متصل مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان له تسلط عليهم بحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا ليتميز.
(من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) لأنه سبحانه قد علم ذلك علماً أزلياً (وربك على كل شيء حفيظ) أي محافظ عليه فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز، قال مقاتل: علم كل شيء من الإيمان والشك.
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) قرىء: قلِ بكسر اللام على أصل التخلص من التقاء الساكنين وبضمها اتباعاً لضمة العين، والدال بينهما
187
حاجز غير حصين لسكونها، وهما قراءتان سبعيتان وهذا أمر للنبي - ﷺ - بأن يقول لكفار قريش أو للكفار على الإطلاق هذا القول، ومفعولا زعمتم محذوفان. أي: زعمتوهم آلهة لدلالة السياق عليهما، قال مقاتل يقول: ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سِني الجوع، ثم أجاب سبحانه عنهم فقال: (لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) أي ليس لهم قدرة على خير ولا شر، ولا على جلب نفع ولا دفع ضر في أمر من الأمور، وذكر السموات والأرض لقصد التعميم لكونهما ظرف الموجودات الخارجية.
(وما لهم فيهما من شرك) أي ليس للآلهة في السموات والأرض مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف (وما له منهم من ظهير) أي وما لله سبحانه من تلك الآلهة من معين يعينه على شيء من أمور السموات والأرض ومن فيهما، بل هو المتفرد بالإيجاد فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
188
(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم والعمل ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أي لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم لا من عداهم من غير المستحقين لها.
قيل: والمراد بقوله لا تنفع الشفاعة أنها لا توجد أصلاً إلا لمن أذن له، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها، قرأ الجمهور: أذن بفتح الهمزة أي أذن له الله سبحانه لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا، وقرىء على البناء للمفعول، والآذن هو الله سبحانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وقوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، وهذا تكذيب لقولهم (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، ثم أخبر الله سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع لهم فقال:
188
(حتى إذا فزّع عن قلوبهم) قرىء مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله سبحانه، وقرىء مبنياً للفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه، وكلتا القراءتين بتشديد، الزاي، وفعل معناه السلب، فالتفريغ إزالة الفزع وقرىء مخففاً وقرىء: فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة من الفراغ، والمعنى فرغ الله قلوبكم أي كشف عنها الخوف، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أفر نقع من الأفر نقاع وهو التفرق قال قطرب معنى فزع أخرج ما فيها من الفزع وهو الخوف وقال مجاهد كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة وقال ابن عباس فزع جلى وهو التفرق والمعنى أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام كائناً من كان إلا أن يأذن الله سبحانه للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها وهم على غاية الفزع من الله كما قال تعالى: وهم من خشيته مشفقون، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل والخوف الشديد من أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصيراً ويحدث شيء من أقدار الله. فإذا سرى عنهم.
(قالوا) للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن (ماذا قال ربكم) أي ماذا أمر الله به (قالوا) أي ليقولون لهم قال القول (الحق) وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم (وهو العلي الكبير) فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى، وقيل: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله دون الجمادات والشياطين، وقيل إن الذين يقولون ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم والذين أجابوهم هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء وقال الحسن وابن زيد ومجاهد معنى الآية حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار؛ وقيل إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة، وقيل: كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه
189
عن ابن عباس قال: لما أوحى الجبار إلى محمد - ﷺ - دعا الرسول من الملائكة
ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا الحق، وقد علموا أن الله لا يقول إلا حقاً.
قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوا خروا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم. قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم أيضاًً عنه قال: ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعه كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون: الحق وهو العلي الكبير.
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: [إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، الحديث]، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن مسعود قال: [إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفاة فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق] أخرجه أبو داود، والصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض وفي معناه أحاديث، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكت المشركين ويوبخهم فقال:
190
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)
191
(قل من يرزقكم من السموات والأرض) أي من ينعم عليكم بهذه الأرزاق التي تتمتعون بها فإن آلهتكم لا يملكون مثقال ذرة، والرزق من السماء هو المطر وما ينتفع به من الشمس والقمر والنجوم، والرزق من الأرض هو النبات والمعادن ونحو ذلك، ولما كان الكفار لا يقدرون على جواب هذا الاستفهام، ولا تقبل عقولهم نسبة هذا الرزق إلى آلهتهم وربما يتوقفون في نسبته إلى الله مخافة أن تقوم عليهم الحجة أمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك فقال:
(قل الله) أي هو الذي يرزقكم من السموات والأرض ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلالة لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعد ما سبق تقرير من هو على الهدى ومن هو على الضلالة فقال:
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) والمعنى أن أحد الفريقين من الذين يوحدون الله الخالق الرازق ويخصونه بالعبادة والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضرر لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلالة، ومعلوم لكل عاقل أن من عبد الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر هو الذي على الهدى، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر هو الذي على الضلالة، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى وهم المسلمون وفريق الضلالة وهم المشركون على وجه أبلغ من التصريح وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب
191
به: قد أنصفك صاحبك.
قال المبرد: ومعنى هذا الكلام معنى قول المتبصر في الحجة لصاحبه: أحدنا كاذب وقد عرف أنه الصادق المصيب، وصاحبه الكاذب المخطىء انتهي. وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه ينغمس في ظلام لا يرى أين يتوجه.
قال المبرد: (أو) عند البصريين على بابها وليست للشك لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. قيل: أو إياكم معطوف على اسم إن وخبرها هو المذكور وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، أو أنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ويجوز العكس، وهو كون المذكور خبر الثاني، وخبر الأول محذوفاً كما في قوله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه)، ثم أردف سبحانه هذا الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف وأدخل فيه وأبعد من الجدل والمشاغبة فقال:
192
(قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) أي: إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم ونفع، ولا ينالني من كفركم وترككم لإجابتي ضرر، وهذا كقوله سبحانه: (لكم دينكم ولي دين)، وفي إسناد الجرم إلى المسلمين ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين مع كون أعمال المسلمين من البر الخالص والطاعة المحضة وأعمال الكفار من المعصية البينة والإثم الواضح، من الإنصاف ما لا يقادر قدره، والمقصود المهادنة والمتاركة، وقد قيل: نسخت هذه الآية وأمثالها بآية السيف، ثم أمره سبحانه بأن يهددهم بعذاب الآخرة لكن على وجه لا تصريح فيه فقال:
192
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨)
193
(قل يجمع بيننا ربنا) أي يوم القيامة (ثم يفتح بيننا بالحق) أي يحكم ويقضي بيننا فيثيب المطيع ويعاقب العاصي (وهو الفتاح) أي الحاكم بالحق القاضي بالصواب (العليم) بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح. قيل وهذه أيضاًً منسوخة بآية السيف، ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة أخرى ليظهر بها ما هم عليه من الخطأ فقال:
(قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) أي ألحقتموهم بالله شركاء له، وهذه الرؤية هي القلبية فيكون شركاء هو المفعول الثالث، ويجوز أن تكون هي البصرية ويكون شركاء منتصباً على الحال، وأريد بأمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه - ﷺ - إظهار خطأهم وإطلاعهم على بطلان رأيهم، أي أرونيها لأنظر أي صفة فيها اقتضت إلحاقها بالله تعالى في استحقاق العبادة، وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزامهم الحجة، ثم رد عليهم ما يدعونه من الشركاء وأبطل ذلك فقال:
(كلا بل) أي ارتدعوا عن دعوى المشاركة بل المنفرد بالإلهية (هو الله العزيز) بالقهر والغلبة (الحكيم) بالحكمة الباهرة.
(وما أرسلناك إلا كافة للناس) في انتصاب كافة وجوه: فقيل: إنه منتصب على الحال من الكاف في أرسلناك قال الزجاج: أي وما أرسلناك إلا جامعاً للناس بالإنذار والإبلاغ والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة،
193
كعلامة. قال أبو حيان: إن اللغة لا تساعد عليه لأن كف ليس معناه جمع بل معناه منع، يقال كف يكف أي منع يمنع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر، ومنه الكف لأنه يمنع من خروج ما فيه، وقيل إنه منتصب على المصدرية، والهاء للمبالغة كالعاقبة والعافية، والمراد أنها صفة مصدر محذوف أي إلا رسالة كافة، وقيل إنه حال من الناس، والتقدير: (وما أرسلناك إلا للناس كافة)، ورد بأنه لا يتقدم الحال من المجرور عليه كما هو مقرر في علم الإعراب، ويجاب عنه بأنه قد جوز ذلك أبو علي الفارسي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون، وممن رجح كونها حالاً من المجرور بعدها ابن عطية وقال: قدمت للاهتمام والتقوى ورده الزمخشري وقال خطأ، وقال المحلي: بل هو الصحيح، وقيل المعنى إلا ذا كافة أي ذا منع فحذف المضاف، قيل: اللام في للناس بمعنى إلى أي ما أرسلناك إلى الناس إلا جامعاً لهم بالإنذار والإبلاع أو مانعاً لهم من الكفر والمعاصي.
عن قتادة قال: أرسل الله محمداً إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله - ﷺ -: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " أخرجه البخاري ومسلم. وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
(بشيراً ونذيراً) حال أي مبشراً لهم بالجنة أو بالفضل لمن أقر ومنذراً لهم من النار أو بالعدل لمن أصر (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
194
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
195
(ويقولون متى) يكون (هذا الوعد) الذي تعدوننا به وهو قيام الساعة أخبرونا به (إن كنتم صادقين) قالوا: هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله - ﷺ -، فأمر الله رسوله - ﷺ - أن يجيب عنهم فقال:
(قل لكم ميعاد يوم) أي ميقات يوم، وهو يوم البعث، وقيل وقت حضور الموت وقيل: أراد يوم بدر لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا وعلى كل تقدير فهذه الإضافة للبيان، وميعاد مصدر بمعنى الوعد، أو اسم زمان قال أبو عبيدة: الوعد والوعيد والميعاد بمعنى.
(لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه بالاستمهال ولا تتقدمون عليه بالاستعجال، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدر الله وقوعه فيه، وهذا جواب تهديد جاء مطابقاً لما قصدوا بسؤالهم من التعنت والإنكار، ثم ذكر سبحانه طرفاً من قبائح الكفار ونوعاً من أنواع كفرهم فقال:
(وقال الذين كفروا) يعني مشركي العرب (لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه) أي بما أنزل قبل القرآن من كتب الله تعالى كالتوراة والإنجيل أو القيامة أو الجنة والنار، يعني أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة فقال:
(ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) الخطاب لمحمد - ﷺ - أو لكل من يصلح له، والمعنى محبوسون في موقف الحساب، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عجيباً وحالاً فظيعاً (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا متعاضدين متناصرين متحابين، ثم بين سبحانه تلك المراجعة فقال:
(يقول الذين استضعفوا) وهم الأتباع (للذين استكبروا) وهم الرؤساء المتبوعون (لولا أنتم) صددتمونا عن الإيمان بالله والاتباع لرسوله (لكنا مؤمنين) بالله مصدقين لرسوله وكتابه.
(وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا) مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه (أنحن صددناكم عن الهدى)؟ أي أمنعناكم عن الإيمان (بعد إذ جاءكم) الهدى قالوا: هذا منكرين لما ادعوه عليهم من الصدّ لهم، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك، ثم بينوا لهم أنهم الصادون لأنفسهم الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم فقالوا:
(بل كنتم مجرمين) أي مصرين على الكفر كثيري الإجرام عظيمي الآثام.
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
(وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا) رداً لما أجابوا به عليهم، ودفعاً لما نسبوه إليهم من صدهم لأنفسهم (بل مكر الليل والنهار) أي أبطلوا إضرابهم بإضرابهم كأنهم قالوا: بل من جهة مكركم بنا ليلاً ونهاراً، وأصل المكر في كلام العرب الخديعة والحيلة، يقال: مكر به إذا خدعه واحتال عليه. قيل: هو طول السلامة في الدنيا وطول الأمل فيها، وقال الأخفش: هذا مكر الليل والنهار.
قال النحاس: والمعنى والله أعلم: بل مكركم في الليل والنهار ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا، وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرر في علم المعاني، قال المبرد: كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم.
وفي السمين: وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم: ليل ماكر فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه. وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه، وهذان أحسن من قول من قال: إن الإضافة بمعنى في أي في الليل؛ لأن ذلك لم يثبت في غير محل النزاع وقرىء: برفع مكر ونصب الليل، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، وقرىء: مكر بفتح الكاف وتشديد الراء مضافاً بمعنى الكرور من كَرَّيكرُّ إذا جاء وذهب أي مكر الليل والنهار صدنا أو صدنا مكرهما، وقرىء: مكر بفتح
197
الكاف وتشديد الراء لكنه ينصب على المصدرية أي بل يكون الإغواء مكراً دائماً لا يفترون عنه.
(إذ تأمروننا) أي بل مكركم بنا وقت أمركم لنا (أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً) أي أشباهاً وأمثالاً، قال المبرد يقال: ند فلان فلان أي مثله، وهذا قول القادة للأتباع: إن ديننا الحق، وإن محمداً كذاب ساحر، وهذا تنبيه للكفار أن تصير طاعة بعضهم لبعض في الدنيا سبب عداوتهم في الآخرة.
(وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) الضمير راجع إلى الفريقين أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم، وأخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة، وقيل: المراد بأسرّوا هنا أظهروا لأنه من الأضداد يكون تارة بمعنى الإخفاء وتارة بمعنى الإظهار، وقيل: المعنى تبينت الندامة في أسرة وجوههم، والجملة مستأنفة أو حال من الذين استضعفوا والذين استكبروا.
(وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا) الأغلال جمع غل يقال في رقبته غل من حديد أي جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار والمراد بالذين كفروا هم المذكورون سابقاً، والإظهار لمزيد الذم، أو للكفار على العموم فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً.
(هل) أي ما (يجزون إلا) جزاء (ما كانوا يعملون) في الدنيا من الشرك والكفر بالله والمعاصي، أو إلا بما كانوا يعملون على حذف الخافض، ولما قصّ سبحانه حال من تقدم من الكفار أتبعه بما فيه التسلية لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمر في الأعصر الأول فقال:
198
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
199
(وما أرسلنا في قرية) من القرى (من نذير) ينذرهم ويحذرهم عقاب الله (إلا قال مترفوها) حال من قرية وإن كانت نكرة لوقوعها في سياق النفي، والمعنى: قال متنعموها ورؤساؤها وأغنياؤها وجبابرتها وقادة الشر لرسلهم.
(إنا بما) أي بالذي (أرسلتم به) من الإيمان والتوحيد (كافرون).
عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل، فكتب إليه إنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه وكان يقرأ الكتب فأتى النبي - ﷺ - فقال: إلام تدعو؟ قال إلى كذا وكذا قال: أشهد أنك رسول الله. قال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم فنزلت هذه الآية فأرسل إليه النبي - ﷺ -. أن الله قد أنزل تصديق ما قلت، ثم ذكر سبحانه ما افتخروا به من الأموال والأولاد وما قاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم به الرسل، فقال:
(وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً) والمعنى أن الله فضلنا عليكم
199
بالأموال والأولاد في الدنيا وذلك يدل على أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين (وما نحن بمعذبين) في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا ورضاه عنا أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم نظراً إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لا رزقهم الله، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، فأبطل الله ظنهم وأمر نبيه - ﷺ - بأن يجيب عنهم رداً عليهم، وحسماً لمادة طمعهم وتحقيقاً للحق الذي عليه يدور أمر التكوين، وقال:
200
(قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء) أن يبسطه له (ويقدر) أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه، فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجاً له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيراً لأجره، وليس مجرد بسط الرزق لمن يبسط له يدل على أنه قد رضي عنه ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه، ولا رضي عمله، بل كل ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين أو المغالطة الواضحة.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ذلك ومن جملة هذا الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى.
(وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) كلام مستأنف من جهته تعالى خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق، والمعنى: ليسوا بالخصلة التي تقربكم عندنا قربى قال مجاهد: الزلفى: القربى، والزلفة القربة، قال الأخفش: زلفى اسم مصدر كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا تقريباً، قال الفراء: إن التي تكون للأموال والأولاد جميعاً وهو الصحيح، وقيل: المعنى وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي الخ وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، وقال الزجاج: إن العنى وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف الخبر الأول لدلالة الثاني عليه، ويجوز في غير
200
القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذي للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال والأولاد عندنا درجة ورفعة، ولا تقربكم تقريباً.
(إلا من آمن) استثناء منقطع أي لكن من آمن (وعمل) عملاً (صالحاً) وقيل: إنه متصل على أن يجعل الخطاب عاماً للكفرة والمؤمنين على أنه ابتداء كلام لا مقول لهم.
(فأولئك) إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها (لهم جزاء الضعف) أي جزاء الزيادة وهي المرادة بقوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أي جزاء التضعيف للحسنات، وقيل: لهم جزاء الأضعاف لأن الضعف في معنى الجمع أو من إضافة الموصوف إلى صفته. أي لهم الجزاء المضاعف قال مجاهد: أي تضعيف الحسنة، وعن محمد بن كعب قال: إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين وتلا هذه الآية إلى قوله (فأولئك لهم جزاء الضعف)، وقال تضعيف الحسنة.
(بما عملوا) الباء للسببية (وهم في الغرفات) أي غرفات الجنة، قرىء: بالجمع لقوله: (لنبوئنهم من الجنة غرفاً) وفي قراءة سبعية بالإفراد، بمعنى الجمع حملاً لأل على أنها جنسية لقوله: (أولئك يجزون الغرفة).
(آمنون) من كل هائل وشاغل وسائر المكاره، ومن جميع ما يكرهون، ثم لما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر حال الكافرين فقال:
201
(والذين يسعون في آياتنا) بالرد لها وإبطالها والطعن فيها حال كونهم (معاجزين) مسابقين لنا زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم أو معاندين لنا بكفرهم.
(أولئك في العذاب) أي عذاب جهنم (محضرون) تحضرهم الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصاً، ثم كرر سبحانه ما تقدم لقصد التأكيد للحجة والدفع لما قاله الكفرة فقال:
201
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢)
202
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يوسعه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء ليس في ذلك دلالة على سعادة ولا شقاوة، وفي القاري: هذا في شخص واحد باعتبار وقتين أو في المؤمن، وما سبق في شخصين أو في الكافر فلا تكرار ونحوه في البيضاوي، قال الشهاب: بل فيه تقرير لأن التوسيع والتقتير ليسا لكرامة ولا هوان فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد.
(وما أنفقتم من شيء) على أنفسكم وعيالكم وقيل: ما تصدقتم (فهو يخلفه) عليكم أي يعطي خلفه إذا كان في غير إسراف. يقال: أخلف له وأخلف عليه إذا أعطاه عوضه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة أو فيهما معاً إما عاجلاً بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما آجلاً بالثواب في الآخرة الذي كل خلف دونه، وقال مجاهد: هذا في الآخرة.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله "، أخرجه مسلم، وقال ابن عباس في الآية: يعني في غير إسراف ولا تقتير.
202
وعن مجاهد والحسن مثله، وعن جابر عن النبي - ﷺ - قال: " كلما أنفق العبد من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً إلا نفقة في بنيان أو معصية " أخرجه الدارقطني والبيهقي. وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: قال الله عز وجل: " أنفق يا ابن آدم أنفق عليك "، وثبت في الصحيح من حديثه أيضاًً قال: قال رسول الله - ﷺ - " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً ".
وعن علي ابن أبي طالب سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " إن لكل يوم نحساً فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة "، ثم قال: اقرأوا مواضع الخلف فإني سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، إذا لم ينفقوا كيف يخلف ". أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي هريرة عن رسول الله - ﷺ - قال: " إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤنة ".
(وهو خير الرازقين) فإن رزق العباد لبعضهم البعض إنما هو بتيسير الله وتقديره وليسوا برازقين على الحقيقة، بل على طريق المجاز كما يقال في الرجل إنه يرزق عياله وفي الأمير إنه يرزق جنده والرازق للأمير والمأمور والكبير والصغير هو الخالق لهم، ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئاًً فهو مما رزقه الله وأجراه على يده، قال بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي، فكم من مشته لا يجد، وكم من واجد لا يشتهي.
203
(و) اذكر (يوم يحشرهم جميعاً) هو متصل بقوله: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون) أي ولو تراهم أيضاً يوم يحشرهم الله جميعاً للحساب العابد والمعبود والمستكبر والمستضعف.
203
(ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) أي يقول تقريعاً للمشركين وتوبيخاً لمن عبد غير الله عز وجل كما في قوله لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)؟ وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام لأنهم أشرف معبودات المشركين، قال النحاس: والمعنى أن الملائكة إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين وتقريع للكافرين وارداً على المثل السائر إياك أعني فاسمعي يا جارة.
204
(قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) مستأنفة أي تنزيهاً لك أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم ما اتخذناهم عابدين، ولا توليناهم، وليس لنا غيرك ولياً، ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه فقالوا: (بل كانوا يعبدون الجن) أي الشياطين وهم إبليس وجنوده ويزعمون أنهم يرونهم وأنهم ملائكة وأنهم بنات الله. وقيل: كانوا يدخلون أجواف الأصنام ويخاطبونهم منها.
(أكثرهم بهم مؤمنون) أي أكثر المشركين بالجن مؤمنون مصدقون لهم فيما يقولون لهم، قيل: والأكثر في معنى الكل.
(فاليوم لا يملك بعضكم) وهم المعبودون (لبعض) وهم العابدون (نفعاً) أي شفاعة ونجاة (ولا ضراً) أي عذاباً وهلاكاً وإنما قيل لهم هذا القول إظهاراً لعجزهم وقصورهم وتبكيتاً لعابديهم، وقوله: ولا ضراً هو على حذف مضاف أي لا يملكون لهم دفع ضر والفاء ليست لترتيب ما بعدها من الحكم على جواب الملائكة فإنه محقق أجابوا بذلك أم لا، بل لترتيب الإخبار به عليه.
(ونقول للذين ظلموا) أنفسهم بعبادة غير الله (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) في الدنيا ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم فقال:
204
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨)
205
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) القرآنية حال كونها (بينات) واضحات الدلالات ظاهرات المعاني على التوحيد (قالوا ما هذا) يعنون التالي لها وهو النبي - ﷺ - (إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) أي أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها.
(وقالوا) ثانياً: (ما هذا) يعنون القرآن الكريم (إلا إفك مفترى) أي كذب في حد ذاته غير مطابق للواقع مختلق على الله من حيث نسبته إليه فمفترى تأسيس لا تأكيد.
(وقال الذين كفروا) ثالثاً: (للحق لما جاءهم) أي لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله - ﷺ - (إن هذا إلا سحر مبين) وفي تكرير الفعل والتصريح بالفاعل إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه، وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب
والمشركين، وقيل: أريد بالأول وهو قولهم (إلا إفك مفترى) معناه وبالثاني وهو قولهم (إن هذا إلا سحر مبين) نظمه المعجز. وقيل: إن طائفة منهم قالوا: إنه
205
إفك وطائفة قالوا إنه سحر، وقيل: إنهم جميعاً قالوا: تارة إنه إفك وتارة إنه سحر والأول أولى.
206
(وما آتيناهم من كتب يدرسونها) أي ما أنزلنا على العرب كتباً سماويه دالة على صحة الإشراك يدرسون فيها ويقرأونها.
(وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) يدعوهم إلى الإشراك أو إلى الحق وينذرهم بالعذاب فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه ولا شبهة يتشبثون بها، قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال الفراء: أي من أين كذبوك؟ ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه، ثم خوفهم سبحانه وأخبر عن عاقبتهم وعاقبة من كان قبلهم، فقال:
(وكذب الذين من قبلهم) أي من كفار القرون الخالية (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) أي ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوة والنعمة وكثرة المال والأولاد وطول الأعمار فأهلكهم الله كعاد وثمود وأمثالهم، ولم تنفعهم قوتهم شيئاًً في دفع الهلاك عنهم حين كذّبوا رسلهم فهؤلاء أولى بأن يحل بهم العذاب لتكذيبهم رسولهم والمعشار لغة في العشر قال الجوهري: معشار الشيء عشره وفي البحر المعشار: مفعال من العشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع.
ومعناهما العشر والربع وقيل: المعشار عشر العشر والأول أولى. وقيل: إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى.
وقيل: ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، وقيل: ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان، والأول أولى، وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير هو عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف جزء، قال الماوردي: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.
قلت: مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي
206
وقال ابن عباس في الآية: يقول من القوة في الدنيا، وعن ابن جريج نحوه.
(فكذبوا رسلي) عطف على: (كذب الذين من قبلهم) على طريقة التفسير كقوله: (كذبت قوم نوح فكذبوا عبدنا) الآية والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة والرسل المرسلة والمعجزات الواضحة وتكذيب الرسل أخص منه وإن كان مستلزماً له فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية، وما بينهما حال أو اعتراض، وقال البيضاوي: لا تكرير لأن الأول للتكثير، والثاني للتكذيب، ونحوه في الكشاف، وبمثله قال الكرخي.
(فكيف كان نكير)؟ أي فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة؟ فليحذر هؤلاء من مثل ذلك، قيل والتقدير فأهلكناهم فكيف نكيري، والنكير اسم بمعنى الإنكار ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها فقال:
207
(قل إنما أعظكم بواحدة) أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي:
(أن تقوموا لله مثنى وفرادى) فهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة، متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً لأن الاجتماع يشوش الفكر ويعمي البصر، ويمنع من الرؤية ويقل الإنصاف فيه، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب، وليس المراد القيام على الرجلين والنهوض والانتصاب على القدمين، بل المراد القيام بطلب الحق والاعتناء والاشتغال بالتدبر، وإصداق الفكر فيه كما يقال: قام فلان بأمر كذا، وقيل: المراد بواحدة هي لا إله إلا الله، كذا قال مجاهد، والسدي. وقيل: القرآن لأنه يجمع المواعظ كلها والأولى ما ذكرناه، وقال الزجاج: المعنى لأن تقوموا، وقال السدي. معنى مثنى وفرادى منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره.
207
وقال القتيبي: مناظراً مع عشيرته، ومتفكراً في نفسه، وقيل: المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول، وأقل جداوه ونصبهما على الحال، وقدم المثنى لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، فإن انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزداد بصيرة قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة فيزداد بعض القوم من بعضهم علماً
(ثم تتفكروا) في أمر النبي - ﷺ - وما جاء به من الكتاب فإنكم عند ذلك تعلمون أن (ما بصاحبكم من جنة) وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون فقال الله سبحانه: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه: هلم فلنصادق هل رأينا بهذا الرجل من جنة؟ أي جنون وجربنا عليه كذباً، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر، وينظر فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً - ﷺ - صادق وأنه رسول من
عند الله، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون.
قال محمد بن كعب في الآية: يقوم الرجل مع الرجل أو وحده فيفكر ما بصاحبه من جنة، وقال قتادة: يقول: إنه ليس مجنون، وقيل مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر عظيم والدعوى الكبيرة لا يعرض نفسه له إلا مجنون لا يبالي بما يقال فيه وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً، وأوزنهم حلماً وأحدَّهم ذهناً، وأرضاهم رأياً وأصدقهم قولاً، وأزكاهم نفساً، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، ويمدحون به فوجب أن يصدقوه في دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جربوا عليه كذباً مدة عمره، وعمرهم. وقيل: ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله (ثم تتفكروا) وعلى هذا تكون جملة ما بصاحبكم من جنة مستأنفة كما قدمنا. وقيل ليس بوقف لأن المعنى ثم تتفكروا
208
هل جربتم عليه كذباً؟ أو رأيتم منه جنة؟ أو في أحواله من فساد.
(إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) أي ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة أي قدامها وهو عذاب الآخرة وهو كقوله - ﷺ - بعثت بين يدي الساعة ثم أمره سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ولا رغبة فيها، حتى تنقطع عندهم الشكوك ويرتفع الريب فقال:
209
(قل ما سألتكم من أجر) أي من جعل (فهو لكم) يقول لم أسألكم على الإسلام جعلاً أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي إلى مقابل الرسالة فهو لكم إن سألتموه، والمراد نفي السؤال بالكلية كما يقول القائل ما أملكه في هذا فقد وهبته لك يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً، ومثل هذه الآية قوله قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، وقوله ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه فقال (إن أجري إلا على الله) لا على غيره (وهو على كل شيء شهيد) أي مطلع لا يغيب عنه منه شيء فيعلم أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه.
(قل إن ربي يقذف) القذف في الأصل الرمي بالسهم والحصى والكلام.
قال الكلبي: يرمي على معنى يأتي به، وقال مقاتل: يتكلم (بالحق) وهو القرآن والوحي أي يلقيه إلى أنبيائه، وقال قتادة: بالحق أي بالوحي والمعنى أنه يبين الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله وقيل: يرمي الباطل بالحق فيدمغه.
(علام الغيوب) قرىء برفع علام وبنصبه قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر كقوله: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار)، وقرىء: الغيوب بالحركات الثلاث في الغين وهو جمع غيب، والغيب هو الأمر الذي غاب وخفي جداً
209
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
210
(قل جاء الحق) أي الإسلام والتوحيد، وقال قتادة القرآن وقال النحاس التقدير صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج، وأقول لا وجه لتقدير المضاف فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه.
(وما يبدىء الباطل وما يعيد) أي ذهب الباطل ذهاباً لم يبق له إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة فجعل مثلاً في الهلاك بالمرة والإبداء فعل الشىء ابتداء والإعادة فعله على طريق الإعادة، ولما كان الإنسان ما دام حياً لا يخلو عن ذلك كنى به عن حياته وبنفيه عن هلاكه، ثم شاع ذلك في كل مذهب، ولم يبق له أثر، وإن لم يكن ذا روح فهو كناية أيضاًً أو مجاز متفرع على الكناية، وقيل: يجوز أن تكون ما استفهامية أي: أيُّ شىء يبدئه وأي شيء يعيده، وعن قتادة قال: الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك، وعنه قال: ما يخلق إبليس شيئاً ابتداء ولا يبعثه وبه قال مقاتل والكلبي. وقيل: الباطل الأصنام والأول أولى.
(قل إن ضللت) عن الطريق الحقة الواضحة وقرىء بفتح اللام وهذه لغة نجد، وهي الفصيحة وبكسرها وهي لغة أهل العالية (فإنما أضل) أي إثم ضلالتي يكون (على نفسي) وقال عمر بن سعد: أي إنما أوخذ بجنايتي وذلك أن الكفار قالوا له: تركت دين آبائك فضللت، فأمره الله أن يقول لهم
210
هذا القول.
(وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي) من الحكمة والموعظة والبيان بالقرآن و (ما) مصدرية أو موصولة والتقابل هنا من جهة المعنى دون اللفظ (إنه سميع قريب) مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة وإن بولغ في إخفائهما، وهذا حكم عام لكل مكلف وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به، ثم ذكر سبحانه حالاً من أحوال الكفار فقال:
211
(ولو ترى إذ فزعوا) الخطاب لرسول الله - ﷺ - أو لكل من يصلح له، قيل: المراد فزعهم عند نزول الموت بهم أو غيره من بأس الله تعالى وقال الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة: هو فزعهم إذا خرجوا من قبورهم.
وقال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فراراً ولا رجوعاً إلى التوبة، وقال ابن معقل: هو فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: هو الخسف الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى رجل منهم فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة (فلا فوت) أي فلا يفوتني أحد منهم ولا ينجو منهم ناج، قال مجاهد: فلا مهرب وقال ابن عباس: فلا نجاة.
(وأخذوا من مكان قريب) من ظهر الأرض أو من القبور وهي قريبة من مساكنهم في الدنيا كما قاله أبو حيان، أو قريب من موقف الحساب، وقيل: أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول: هذا الفزع عند النزع، وقيل: أخذوا من جهنم فألقوا فيها. وقيل: من حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.
وقال ابن عباس من تحت أقدامهم، وعنه قال: نزلت في ثمانين ألفاً
211
يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها فلما يدخلون البيداء يخسف بهم، فهو الأخذ من مكان قريب، ذكره القرطبي.
وقد ثبت في الصحيح أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أم سلمة وصفية وأبي هريرة وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها: فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) الآية، وقيل: يجوز أن يكون هذا الفزع هو الفرع الذي بمعنى الإجابة. يقال فزع الرجل: إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به كفزعهم إلى الحرب يوم بدر.
212
(وقالوا) وقت النزع وهو وقت نزول العذاب بهم عند الموت كقوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده)، أو عند البعث فإن الكفار كلهم يؤمنون حينئذ (آمنا به) أي بمحمد - ﷺ - قاله قتادة أو بالقرآن، وقال مجاهد: بالله عز وجل، وقال الحسن: بالبعث ثم نفى الله عنهم نفع الإيمان بقوله:
(وأنى) أي من أين (لهم التناوش) أي التناول، وهو تقابل من النوش الذي هو التناول، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإِيمان من بعد يعني في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا وهو معنى قوله:
(من مكان بعيد) وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة، قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذ برأسه أو بلحيته ناشه ينوشه نوشاً، ومنه المناوشة في القتال، وذلك إذا تدانى الفريقان. وقيل التناوش: الرجعة أي وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وقال ابن عباس: قال يسألون الرد إلى الدنيا وليس بحين رد، وقال التناوش: تناول الشيء وليس بحين ذلك وقال السدي: هو التوبة أي طلبوها، وقد بعدت لأنها إنما تقبل
212
في الدنيا وقرىء: التناوش بالواو وبالهمز واستبعد الثانية أبو عبيد والنحاس ولا وجه للاستبعاد فقد ثبت ذلك في لغة العرب وأشعارها، قال الفراء: الهمزة وتركها متقارب.
213
(وقد كفروا به من قبل) أي والحال أن قد كفروا بما آمنوا به من قبل هذا الوقت وذلك حال كونهم في الدنيا. قيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد - ﷺ - من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة.
(ويقذفون بالغيب) أي يؤمنون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول من المطاعن أو في العذاب من البت على نفيه، فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار (من مكان بعيد) أي من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل، وهو الشبه التي تمحلوها في أمر الآخرة كما حكاه من قبل.
وقيل: المعنى يقولون في القرآن أقوالاً باطلة: إنه سحر وشعر وأساطير الأولين، وقيل: يقولون في محمد - ﷺ -: إنه ساحر شاعر كاهن مجنون، قرىء: يقذفون مبنياً للمفعول أي يرجمون بما يسوؤهم من جزاء أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئاًً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه وهذا استعارة تمثيلية والجملة إما معطوفة على (وقد كفروا به) على أنها حكاية للحال الماضية، واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم.
(وحيل بينهم) فعل مبني للمفعول وإذا بني للفاعل يقال فيه: حال وهو فعل لا يتعدى ونائب الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل كأنه قيل: وحيل هو أي الحول، وجعل بعضهم نائب الفاعل الظرف، وهو بينهم، واعترض بأنه ينبغي حينئذ أن يرفع.
(وبين ما يشتهون) من النجاة من العذاب ومنعوا من ذلك، وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم، أو حيل بينهم وبين ما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا.
213
(كما فعل بأشياعهم من قبل) أي بأمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية الذين كانوا قبلهم في الدنيا سابقين عليهم في الزمان، والأشياع جمع شيع، وشيع: جمع شيعة، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض، فهم شيع فالأشياع جمع الجمع.
(إنهم كانوا في شك مريب) تعليل لما قبله أي في شك موقع في الريبة أو ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار، أو في التوحيد وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال: أراب الرجل إذا صار ذا ريبة فهو مريب، وقيل هو من الريب الذي هو الشك والتهمة، فهو كما يقال: عجب عجيب وشعر شاعر وهذا رد على من زعم أن الله لا يعذب على الشك والله أعلم.
214

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة فاطر
(وتسمى سورة الملائكة، وهي خمس أو ست وأربعون آية وهي مكية).
قال القرطبي: في قول الجميع، وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس: أنزلت سورة فاطر بمكة، وهذه السورة ختام السورة المفتتحة بالحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة، وهي الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها، وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء، قاله الخطيب.
215

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)
217
Icon