مكية
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( ١ ) ﴾.وساعة تسمع كلمة الحمد، فعليك أن تفهم أنها كلمة المدح والثناء والشكر. فالحمد أمر فطري موجود ونوجهه لله، فقد أخذ – سبحانه – بأيدينا ووضح وبين لنا أن الحمد لله حتى لا نختلف في مجال توجيهه ؛ لأنه سبحانه هو الذي أمد كل إنسان بشيء من أسبابه.
وحين تسأل أحدا عن شيء فإن سلسلات ما أمدك به منسوبة لله. إذن فكل حمد يجب أن يتوجه إلى الله.
وأضرب هذا المثل : هب أن إنسانا وقعت به طائرة في مكان ما موحش، ولا يوجد به أي شيء من أسباب الحياة، وأراد أن يأكل ويشرب ويستتر حتى ينام، لكنه لم يجد شيئا من هذا. وأخذته سنة من النوم ثم استيقظ فجأة فوجد مائدة عليها كل أطايب الطعام والشراب، وبجانب ذلك وجد خيمة فيها فراش وغطاء وصنبور للغسيل. وساعة يرى كل ذلك فهو لا يبدأ في استخدام أي شيء قبل أن يتساءل عن مصدره، لأنه يريد أن يشكر الذي أنعم عليه كل هذه النعم السابغة. فكأنك أيها الإنسان حين واجهت الكون ووجدت أشياء تخدمك ولا عمل لك فيها، ولا للسابقين عليك عمل فيها ؛ لأن أحدا لم يدعها لنفسه، فوجدت شمسا تشرق، وهواء يهب، وماء يروى، وأرضا تزرع، وغير ذلك من كل ما يخدمك، وأخبرك الحق أنه هو الذي منحك كل هذا ألا تشكره إذن ؟.
إن البشرية عندما استفادت من المصباح الكهربائي قامت الضجة لتكريم إديسون الذي اخترعه، فما بالنا بخالق الشمس التي تنير الكون كله ؟ إن الاختراعات البشرية تخلد أصحابها وتقوم الضجة لتكريمهم. فما بالنا بخالق الكون كله ؟ ما بالنا نكرم صانع المصباح الذي ينير مساحات ضيقة مهما اتسعت بالقياس إلى الأرض ويغفل بعضنا عن تنزيه خالق الشمس التي تنير الأرض في النهار وتختفي نصف اليوم حتى يستريح الإنسان ؟ ولكنها تسير سيرا دائما، فإن غابت عنك فقد أشرقت على غيرك فهي في فلكها تسبح.
إذن فالحمد لله حينما استقبل الإنسان هذا الوجود، ووجد كل مقومات الحياة التي لا يمكن أن يخضع لقوة بشر، ولا لادعاء بشر. إن الحمد أمر واجب الوجود وإن اختلف الناس حول من يوجه له الحمد. إننا نوجهه إلى الله تعالى لأنه هو واهب النعم.
وسور القرآن التي بدأها الخالق بالحمد لله خمس سور هي : الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، وتتركز حول شيئين : تربية مادية بإقامة البنيان بالقوت أو بقاء النوع بالتزاوج أو بتربيتهم تربية روحية قيمية، فيمدهم بمنهج السماء. فمرة يقول الحق :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾. وكلمة ( رب ) تعني أنه تولى تربية الخلق إلى غاية ومهمة، والتربية تحتاج إلى مقومات مادية ومقومات معنوية، روحية ومنهجية ؛ لذلك يأتي بها الحق شاملة للكون كله كما في فاتحة الكتاب :﴿ الحمد لله رب العالمين ( ٢ ) ﴾ ( سورة الفاتحة ).
فهو سيد كل العالمين ومالكهم ومربيهم، وهو الذي ينشئهم التنشئة التي تجعلهم صالحين لأداء مهمتهم في الحياة بقوة البنيان وببقاء النوع بالتزاوج وبقوة القيم. ومرة ثانية يأتي الحق بالمنهج وحده، مثل قوله الحق سبحانه :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ﴾( من الآية ١ سورة الكهف ).
ومرة أخرى يأتي الحق بالأشياء المنظورة فقط فيقول :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ( ١ ) ﴾ ( من الآية ١ سورة الأنعام ).
إنه سبحانه يأتي هنا بأشياء تختص بالمادة المنظورة، كالسماوات والأرض، والظلمات والنور، وهي أشياء يمكن أن تراها بوضوح، ومرة يأتي الحق بأشياء غير منظورة مع الأشياء المنظورة كقوله الحق :
﴿ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ( ١ ) ﴾( من الآية ١ سورة فاطر ).
ويأتي بالمجموع كله في فاتحة الكتاب، ويأتي بالمنهج فقط كما في سورة الكهف، ويأتي بالكون المادي كما في سور الأنعام، ويأتي بالكون المادي والمعنوي كما في سورة فاطر.
إذن فالحمد مستحق مستحق، ويوجه لله حتى ولو كانت أسبابها الظاهرة من غير الله، لأن كل أسباب الدنيا والكون تنصرف أخيرا إلى الله. هنا - في سورة الأنعام - خص الحق الحمد لله خالق السماوات والأرض بما فيهما من كائنات، وأتى من بعد ذلك بالظلمات والنور. والخلق كما نعلم إيجاد من عدم. والجعل يأتي لشيء مخلوق ويوجه إلى غاية منه. ولذلك قال الحق :﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ والظلمة أمر عدمي، والنور أمر إيجابي، والنور يبدد الظلمة. إذن فالأصل هو وجود الظلمة التي تختلف في ألوانها، مثال ذلك : ظلمة الكهف، وظلمة البحر، وظلمة البر، ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ( ٤٠ ) ﴾( من الآية ٤٠ سورة النور ).
إنها يده يعرف اتجاهها ولكنه لا يكاد يراها. إذن فالحق يخصص الحمد هنا لخلق السماوات والأرض لأنها ظرف كل الكائنات. وقال العلماء : لا تأخذ الظلمة على أنها الظلمة المادية التي لا ترى فيها الأشياء لا غير، ولا تأخذ النور على أنه النور الحسي الذي ترى به الأشياء فقط، ولكن لنأخذ الظلمات والنور على الأمر المعنوي والأمر الحسي كذلك – وسبحانه – جعل الظلمات في هذه الآية جمعا وجعل النور مفردا، لأن الظلمات تتعدد أسبابها لكن النور ليس له إلا سبب واحد.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾( من الآية ١٥٣ سورة الأنعام ).
والسبل هي جمع، وسبيل الله مفرد لأنه واحد. كأن سبل الشيطان متعددة، وسبل الناس كذلك متعددة حسب أهوائهم، لكن سبيل الله واحد ؛ لذلك يجعل الهداية نورا والضلال ظلمات.
﴿ وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ ونقول :- ولله المثل الأعلى – إنك أيها الإنسان عندما يفيض الله عليك ويجعل من بين يديك ما تعديه من جميل إلى غيرك فأنت تقول : أنا صنعت لفلان كذا وكذا ثم ينكر من بعد ذلك. كأن ( ثم ) تأتي هنا للاستبعاد. إن ( ثم ) تأتي للعطف مثل حرف ( الفاء ). ولكن الفاء تكون للجمع بين شيئين ليست بينهما مسافة زمنية، مثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ثم أماته فأقبره ( ٢١ ) ﴾( سورة عبس ).
ومن يحب إنسانا ومات هذا الإنسان فهو يعجل بدفنه، وذلك حتى لا يرم ويتعفن أمامه. ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد الإقبار :﴿ ثم إذا شاء أنشره ( ٢٢ ) ﴾( سورة عبس ).
كأن فترة زمنية قد تطول حتى تقوم القيامة فينشر الحق خلقه. وقد يكون البعد بعد رتبة أو منزلة، ولذلك يأتي الحق ب ( ثم ) هنا كفاصلة بين خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وبين الذين كفروا بربهم، ﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ إنهم الذين يساوون الله بغيره. ونستطيع أن نجعل ( يعدلون ) من متعلقات كفرهم.... أي أنه بسبب كفرهم يسوون الله بغيره. أو يكون المراد أنهم يعدلون أي يميلون عن الإله الحق إلى غير الإله، أو يجعلون لله شركاء. وهو قول ينطبق على الملحدين أو المشركين بالله. لقد أوجد سبحانه السماوات والأرض من عدم وليس لأحد أن يجترئ ليقول لله : كيف خلقت السماوات والأرض ؟ لأنه سبحانه يقول في آية أخرى :
﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( ٥١ ) ﴾( سورة الكهف ).
وأوجد سبحانه السماوات والأرض من عدم، فالسماء والأرض ظرف للكون وتم خلقهما قبل الإنسان وقبل سائر الخلق، ولم يشهد خلقهم أحد من خلقه، فلا يصح أن يسأل أحد عن كيفية الخلق، بل عليه أن يأخذ خبرة الخلق من خالقهما وهو الله، وقد أتى بعض الناس وقالوا : إن الأرض انفصلت عن الشمس ثم بردت، وهذا مجرد ظنون ولا تثبيت ؛ لأن أحدا منهم لم يرى خلق السماوات والأرض. وهؤلاء هم أهل الظنون الذين يدخلون في قوله تعالى :
﴿ وما كنت متخذ المضلين عضدا ﴾( من الآية ٥١ سورة الكهف ).
لقد قال القرآن ذلك من قبل أن يأتي هؤلاء. وكأنه سبحانه يعطينا التنبؤ بمجيء هؤلاء المضلين قبل أن يوجدوا، فهم لم يشهدوا أمر الخلق، بل طرأوا – مثلنا جميعا – على السماوات والأرض، كان من الواجب ألا يخوضوا في أمر لم يعرفوه ولم يشاهدوه. وكذلك قولهم عن خلق الإنسان كقرد وهم لم يكونوا مع الله لحظة خلق الكون والإنسان، ولا كانوا شركاء له، ولذلك يعلمنا الحق الأدب معه فيقول سبحانه :
﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( ٣٦ ) ﴾ ( سورة الإسراء )
﴿ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ( ٢ ) ﴾. هو سبحانه يأتي لنا بأمر الخلق فأوضح أنه خلقنا من طين، بعد أن تكلم عن أمر خلق السماوات والأرض، وهو – سبحانه – قد أخبرنا من قبل ذلك أنه خلقنا من تراب وحمأ مسنون ومن صلصال كالفخار، وهي متكاملات لا متقابلات، وكذلك أوضح الحق أنه خلق كل شيء من ماء، فاختلط الماء بالتراب فصار طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا كالفخار وكلها حلقات متكاملة. ونحن لم نشهد الخلق ولكنا نتلقى أمر الخلق عنه – سبحانه – ونعلم أن الطين مادة للزرع والخصوبة.
وعندما قام العلماء بتحليل الطين وجدوه يحتوي على العديد من العناصر، وأكبر كمية من هذه العناصر هي الأوكسجين، ثم الكربون، ثم الهيدروجين، ثم الفلور، ثم الكلور، ثم الصوديوم، ثم المغنسيوم، ثم البوتاسيوم، ثم الحديد، ثم السيلوز، ثم المنجنيز وغيرها.
والعناصر في هذا الكون أكثر من مائة، ولكنها لا تدخل كلها في تركيب الإنسان، إنما تدخل في تركيب ما ينفع الإنسان من بناء وزينة وغير ذلك. مصداقا لقوله الحق سبحانه وتعالى :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾( من الآية ٥٣ سورة فصلت ).
لقد قام أهل الكفر من العلماء بهذا التحليل وذكروا تلك النتائج التي أخبرنا بها الرسول الكريم في الكتاب المعجز الباقي والمحفوظ بأمر الله كحجة مؤكدة. وصان الحق لنا هذه الحجة حتى يأتي عالم غير مؤمن ويتوصل إلى بعض من الحقائق موجودة في القرآن.
ولم يحضر أحد منا لحظة الخلق، ولكنا نشهد الموت وهو نقض للحياة، ونقض الشيء يكون على عكس بنائه. ونرى من يهدمون بناء يبدءون بهدم آخر ما تم بناؤه وتركيبه، فيخلعون الزجاج أولا وهو آخر ما تم تركيبه، ثم الأخشاب، ثم الأحجار، كذلك نقض الحياة بالموت. تخرج روح الإنسان أولا ثم بعد ذلك ييبس ويجف ليصير صلصالا كالفخار ثم حمأ مسنونا أي يصيبه النتن والعفن ثم يتبخر منه الماء فيصير ترابا. ولذلك نحن نصدق الذي خلقنا في أمر خلقنا ونصدقه في أمر السماوات والأرض، وعندما يقول قائل بغير ذلك، نقول له كما أخبر القرآن الكريم :
﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( ٥١ ) ﴾( سورة الكهف ).
ويخبرنا الحق هنا بقضية الرجل :﴿ ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ﴾ ولا أحد فينا يعلم أجله مهما عرض نفسه على الأطباء، والأجل الأول هو الأجل المحدد لكل منا، والأجل المسمى عنده هو زمن البرزخ ومن بعده نبعث من قبورنا، لذلك قال الحق سبحانه :
﴿ قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ( ١٨٧ ) ﴾( من الآية ١٨٧ سورة الأعراف )
وقد يعرف الإنسان مجيء مقدمات نهايته واقتراب موته بواسطة ما كشف الله عنه من أسراره بواسطة تقدم العلماء. فليس هذا من الغيب وفي بعض الحالات يصح هذا المريض ويشفى ويبرأ، ويقولون : قد حدثت معجزة. أما الأجل المسمى فلا نستطيع أن نعرفه، وحدد الحق سبحانه ذلك في خمس مسائل :
﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ( ٣٤ ) ﴾( من الآية ٣٤ سورة لقمان )
وقد تكلم الحق عن المكان ولم يتكلم عن الزمان :﴿ ثم قضى أجلا ﴾ أي قضى أجلا لكل واحد، ثم جعل أجلا لكل شيء مسمى. والآجال في الآحاد تتوارد إلى أن يأتي أجل الكل وهو يوم القيامة، ﴿ ثم أنتم تمترون ﴾ والدلائل التي أوردها الحق كفيلة بألا تجعل أحدا يشك، لكن هناك من يماري في ذلك بعد كل هذه المقدمات.
﴿ وهو الله في السماوات والأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ( ٣ ) ﴾.
والله هو علم على واجب الوجود، وهو الاسم الذي اختاره الله لنفسه شاملا لكل صفات الكمال، والصفات الأخرى نحن نسميها الأسماء الحسنى : مثل القادر، السميع، والبصير، والحي، والقيوم، والقهار، كلها صفات صارت أسماء لأنها مطلقة بالنسبة لله. وهذه الصفات حين تنصرف على إطلاقها فهي لله، ومن الجائز أن تضاف في نسبتها الحادثة إلى غير الله. أما اسم ( الله ) فلا يطلق إلا على الحق سبحانه وتعالى :
ويتحدى الله الكافرين به أن يسمي أحدهم أي شيء غيره ب ( الله ).
﴿ هل تعلم له سميا ﴾( من الآية ٦٥ سورة مريم )
وسمع الكافرون ذلك ولم يجرؤ أحدهم أن يسمي أي شيء باسم ( الله ). وهو لون من التحدي باق إلى قيام الساعة ولا يجرؤ أحد أن يقول عكسه أو أن يقبله فيسمي شيئا أو كائنا غير الله ب ( الله ).
ولا نعرف شيئا وجد بذاته أزلا وقبل أن يوجد الكون إلا الله، أما أتفه الأشياء في حياتنا والتي نعتبرها من غير الأساسيات فهي لا توجد بذاتها بل لا بد من صانع لها. فكوب الماء مثلا لا يؤدي ضرورة قصوى في الحياة ؛ لأن الإنسان يستطيع أن يشرب الماء بكفه أو بفمه مباشرة، هذا الكوب احتاج من الإنسان إلى علم وإمكانيات وقدرة وحكمة. وجاء العلم للإنسان بما وهبه الله للإنسان من قدرة بحث عن المادة التي في الكون، فنظر الإنسان إلى الرمل واكتشف وسيلة لصهر الرمال، واكتشف وسيلة لتنقية الزجاج بمواد كيماوية، واكتشف أسلوبا آليا لإنتاج هذه الأكواب.
لقد أخذت رحلة صناعة الكوب من الإنسان رحلات علمية وصناعية كبيرة، وهو ضروري كضرورة قصوى في الحياة، إنما هو من الترف، فما بالنا بالضروريات من الشمس، وقمر وهواء وماء ؟ وهذه الأشياء – إذن – لا بد لها من صانع وإذا كان صانع أتفه شيء في حياة الإنسانية يذهب إلى إدارة لتسجيل اختراعه ؛ ليستفيد منها، فما بالنا بالذي صنع كل شيء، ولم يصنعها ليستفيد منها ولكن ليستفيد خلقه منها.
إن البشرية تعرف من صنع المصباح وتاريخه، وأين ولد، وأين عاش، وأين تعلم. فما بالنا بالذي صنع الشمس والنجوم والأرض والإنسان ؟ ورحمنا الحق فدل على نفسه وأخبرنا أنه سبحانه الذي خلق. ولم يأت أحد ليعارضه سبحانه ويدعي صناعة الكون، ومادام لا يوجد شيء له أثر إلا بمؤثر، فلا بد لنا أن نعرف أنه سبحانه مادام قد قال : إنه هو الذي خلق وأبدع ولم تنشأ معارضة له فإن قوله هو الصدق. وإن كان هناك صانع للكون ولم يعلم أن الله قد أخبرنا أنه سبحانه الذي خلق الكون فذلك الصانع النائم التائه عما صنع لا يصلح أن يكون إلها. وإن كان قد علم أن الله أخبرنا أنه سبحانه خلق لنا الكون ولم يجرؤ هذا الصانع على أن يبلغنا بالحقيقة فهذا – الصانع المدعي – ليس له الحق في الألوهية.
أما الحق سبحانه، فقد أعلمنا وعلمنا بالدليل القطعي أنه الذي خلق الكون، ومادام الأمر كذلك فيجب أن نستمع له، والترجمة العملية لسماع الحق هي عبادته وطاعته فيما أمر وفيما نهى، بل إن عالم الملكوت الذي لا ترونه يعبد سبحانه. وكل شيء في الوجود مؤتمر بأمره ويسبح بحمده.
﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا( ٤٤ ) ﴾( سورة الإسراء ).
وتدل السماوات السبع والأرض وكل من فيهن من مخلوقات على دقة الصنعة وعلى ملكية الله ولها تنزيهه سبحانه وتقدسه بأنه لا شريك له، وكل شيء له وسيلة للتسبيح والتنزيه، ولكنا لا نرى ذلك ولا نفهمه ولا نفقهه. ويبلغنا الحق هنا أنه المعبود الموجود في كل الوجود. ﴿ وهو الله في السماوات والأرض يعلم سركم وجهركم ﴾ ومادام معبودا فينبغي أن يكون مطاعا في الأوامر والنواهي. ولكن بعضنا يطيع، وبعضنا يعصى. ولذلك رتب الحق على الطاعة جزاء : إما نعيما وإما عقابا. وهناك فارق بين وجود الشيء وإدراك الشيء، وإياك أن تخلط بين إدراك الوجود، والوجود، فالذي لا تدرك وجوده إياك أن تقول إنه غير موجود.
ومثال ذلك ما نراه على مر تاريخ البشرية. لقد ترك الخالق لخلقه في الوجود أسرارا يستنبطونها فتبرز لهم بالمنافع وكانت قبل أن يعرفها البشر ويقفوا عليها تؤدي مهمتها في الوجود، ومثال ذلك الجاذبية الأرضية ؛ لقد كانت موجودة قبل اكتشاف الإنسان لها وتؤدي عملها قبل أن يعرفها الإنسان، وجاء ذكرها في القرآن بشكل لا يثير بلبلة ساعة نزل القرآن :
﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ( ٤١ ) ﴾( سورة فاطر ).
أوجد الحق قوانين الجاذبية لتمارس السماوات والأرض أعمالهما ويحفظهما بقدرته من الزوال، وجعل من الجاذبية نظاما بديعا يحفظ الكون من الاختلال. وإذن فالجاذبية كانت موجودة، ولم يعرفها الإنسان إلا مؤخرا، هكذا نعرف أن هناك فارقا بين وجود الشيء وبين إدراك الشيء.
فإذا قيل لك :
﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ( ١٠٣ ) ﴾( سورة الأنعام ).
فأنت أيها المؤمن تصدق ذلك ؛ فذات الحق لا تبصرها العيون وهو يعلم كل ما خفي عنك ولا تدركه عيونك. وفي الكون أشياء قد لا ندركها على الرغم من أنه سبحانه وتعالى خلقها وعملت في خدمتك، وبعد أن أدركتها ظلت تعمل في خدمتك، فإن حدثك الحق بشيء لا تدركه فلا تقل : مادام هذا الشيء غير مدرك فهو غير موجود. وعلى سبيل المثال أنت لا تدرك الكهرباء، ولا الجاذبية، ولا قمة أسرار الحياة وهي الروح التي تعطيك سر الحياة، وتنفعل بها كل جوارحك، وإن خرجت الروح صرت جثة هامدة، إن أحدا لا يعرف مكان الروح ولا يدركها، ولا سمعها أحد أو شمها أو ذاقها أو لمسها. إن الروح موجودة في ذاتك ولا تدركها، هاأنتذا – إذن – لا تستطيع أن تدرك مخلوقا لله فكيف تدرك خالقك وهو الله ؟ إنك لو أدركته لما صار إلها ؛ لأنك إن أدركت شيئا فقد قدرت عليه جوارحك، ويصير مقدورا لعينك وليدك، والقادر المطلق لا ينقلب مقدورا أبدا، ومن عظمته أنه لا يدرك.
مثال آخر : الرؤيا التي تراها وتتحرك فيها. هل الرؤيا موجودة في جسمك ؟ أو ماذا ؟ والحلم وهو الصبر على غيرك بأن تتحمله وتعطف عليه وتضحك له، هذا الحلم يجعلك تنفعل. فهل تدرك أنت هذا الحلم ؟ إنه معنى من بعض المعاني في نفسك التي تحرك جوارحك ولا تدركها، مثله مثل الشجاعة التي تصول بها وتجول ولا تراها محيزة، ولا تعرف شكلها أو لونها أو طعمها، فالأعلى الذي يدير هذا الكون غير مدرك بالأبصار. والذي يتعب الناس أنهم يحاولون الجمع بين الإدراك والوجود، ولذلك نقول : ابحث أيها الإنسان في كونك ولسوف تجد فارقا بين الإدراك والوجود.
ونعلم أن اسم الله نفسه وهو لفظ ننطقه ونستدل به على أنه الخالق الأعلى وهو متحدى به. وأنت أيها الإنسان قد اخترعت – على سبيل المثال – التليفزيون وكان من قبل أن يوجد معدوما لا اسم له، وصار له اسم منذ أن أوجده الإنسان، صالحا لمهمة معينة، أما اسم الله فهو موجود وقديم من قبلك وأخبرك به الرسول، وهو سبحانه وتعالى له اسم في كل لغة من اللغات، ووجود هذا الاسم في كل اللغات بنطق هو دليل على أسبقية وجود الذات وهو الله. وبعد ذلك جاء الكفر، وعرفنا أن الكفر كان محاولة لستر الوجود الأول، وبذلك دلت كلمة الكفر على الإيمان. والذي يرهق الإنسان هو محاولته لحصر الموجود الأعلى في شكل طبقا لإمكانات وحدود البشر. ولا أحد يستطيع أن يحصر وجوده سبحانه في شكل معين ؛ لأن من عظمته أننا لا نقدر على تصوره، والإيمان به سبحانه يدل عليه وهو يقول عن نفسه ما شاء. وأحب أن تحفظوا هذا المثل وتضربوه لصغاركم :
لنفترض أن إنسانا يجلس مع أسرته في حجرة، ثم طرق الباب، وكل من يجلس في الحجرة يتيقن أن طارقا بالباب ولا يختلف أحد منهم في هذه المسألة. فيقول أحد الأبناء :( الطارق محمد ) ويقول الثاني :( إنه محمود ) ويقول الثالث :( لا، إنه إبراهيم ) فتقول الزوجة :( إن الطارق امرأة )، لكن أحد الأبناء يقول :( لا، إنه رجل ) فيقول الأب :( لعله شرطي جاء يسألني عن أمر ) ترد الزوجة :( توقع خيرا، إنك تصنع كل خير ولا بد أن يأتي لك كل طارق بخير. هنا اختلفت الأسرة لا في تعقل الطارق، ولكن في تصور الطارق. يقول الأب :( بدلا من الحيرة لنسأله من أنت ؟ )، فيجيب الطارق :( أنا فلان ).
وهكذا الكون، طرأ الإنسان عليه وتساءل من الذي خلقه. ذلك أن الإنسان جاءته الغفلة بعد أن عرف آدم ربه وبعد أن أشهد الحق ذرية آدم أنه ربهم. ثم أرسل الحق الرسل ليبلغوا الخلق منهجه واسمه وصفاته. وأراد سبحانه بذلك ألا يرهق خلقه، وأبلغ الناس من خلال الرسل أنه الخالق الأكرم.
وآفة الفلاسفة أنهم لم يكتفوا بتعقيل الإله، بل أرادوا أن يتصوروه، وهذا أمر غير ممكن. لذلك نقول : علينا أن نستمع إلى الحق يقول ما شاء عن نفسه ولا داعي للخلاف. وسبحانه وتعالى يقول :﴿ وهو الله في السماوات وفي الأرض ﴾ وإياك أيها المسلم أن تفهم أن السماء والأرض هنا ظرفية، لأن الظرفية وعاء وحيز، وإذا كنت لم تعلم مكان روحك في جسدك، فكيف تعلم مكان الله ؟ لقد قصد الله بذلك القول أنه معبود في السماوات ومعبود في الأرض.
ولنلحظ أن بعض آيات القرآن توقف الذهن عندها كي تظل الأذهان دائما مشغولة بكلمات الله، ولو جاء القرآن بكلمات يسهل على الفهم العادي إدراك معانيها لما تجددت معاني الكتاب العظيم في كل زمان، وكان الحق قد قصد ذلك حتى يثبت الناس في كل العصور من إيمانهم. وها هم أولاء بعض من الذين يحاولون الخوض في القرآن تساءلوا عن معاني قوله الحق :
﴿ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ( ٨٤ ) ﴾( سورة الزخرف )
تساءلوا عن معنى التكرار أنه إله في السماوات وإله في الأرض. وظن بعض السطحيين أنه قصد القول بأن هناك إلها في السماوات وإلها آخر في الأرض، ولم يفطنوا إلى أن المعنى المقصود هو : أنه إله يعبد في السماء ويعبد في الأرض، وهو صاحب الحكمة المطلقة في كل أفعاله وهو المحيط بكل كونه. وأن الحق إنما يريد بهذا القول أن يشغل الأذهان به.
ونقول أيضا لهؤلاء الذين لم يفهموا المعنى : هناك قاعدة في اللغة تحدد النكرة وتحدد المعرفة ؛ فعندما نقول :( جاءني الرجل ) فهذا الرجل يكون معروفا للقائل والسامع. ولكن عندما نقول :( جاءني رجل ) فهذا غير معروف للسامع وقد يكون معروفا للقائل. وإذا قلنا :( جاءني رجل وأكرمت رجلا ) فمعنى ذلك أن القائل يتحدث عن رجلين ؛ أحدهما جاء، والآخر كان موضع التكريم. أما إن قال القائل :( جاءني رجل فأكرمت الرجل ) فالحديث هنا عن رجل واحد. إذن فالنكرة إن أعيدت نكرة تكون مختلفة، والنكرة إن أعيدت معرفة تكون هي بعينها. وعندما قال الحق سبحانه :
﴿ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ﴾( من الآية ٨٤ سورة الزخرف )
تصور البعض أن ( إله ) نكرة، عندما أعيدت صارت غيرها، ولو كان الأمر كذلك لفسدت الدنيا. ولكن القاعدة الغالبة من العلماء عرفوا روح النص. وقال أهل العلم بالتوحيد : لا بد لنا أن نلفت إلى أنه سبحانه قال :﴿ وهو الذي ﴾، وكلمة ( الذي ) اسم موصول واحد يدلنا على أن الحق صلته بالس
وقد أتى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليبين لنا أن الذي خلق الخلق كله يخبرنا بمطلوبه ويفسر لنا الكون، ولكن الإنسان يعرض عن ذلك.
إن أول ( مطب ) يقع فيه الإنسان، أنه تأتيه الآيات التي تدل على لغز هذا الوجود من خالق الوجود، وكيفية تدبير الكون قبل وجود الإنسان، وكيفية جعل ما في الكون من قوت يقيم به حياته ويستبقي نوعه، وبرغم ذلك ينصرف عن سماع كل ذلك.
﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغروقون ( ٣٧ ) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( ٣٨ ) ﴾( سورة هود ).
فقد أوحى سبحانه إلى نوح البلاغ الحق وأمره أن يصنع الفلك تحت عنايته سبحانه وألا يخاطبه في شأن الكافرين الظالمين الذين لم يستجيبوا لدعوة الله. ويشرع نوح في إنشاء الفلك، ولكن الكافرين يستهزؤون به لجهلهم ولعدم الوثوق من الغرض والهدف. ويسخر نوح من كل من يسخر منه.
ومثال آخر وهو انتصار الإسلام بعد أن كان أهل الكفر قوة، ولكن المتكبر الطاغي منهم يأتي بعد صلفه وكبريائه صاغرا، ومنهم من قتل وأسر وذاق مرارة الذل النفسي. وقد كانوا من قبل يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومثال على ذلك الوليد بن المغيرة، وهو السيد في قومه، يأتي فيه قول الحق :
﴿ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ( ١٥ ) سنسمه على الخرطوم ( ١٦ ) ﴾( سورة القلم ).
وكان الوليد صاحب ثراء من المال ومنعة وقوة من البنين، وأعرض عن القرآن وسخر منه. فجعل الحق منه أمثولة للناس، وطبع على أنفه علامة لازمة افتضح بها، وكانت سبة له وعارا لا يفارقه كلما ذكر.
وقد نزل هذا القول في القرآن وقت ضعف المسلمين، ثم يأتي خبر ضربه على أنفه الذي هو محلى الأنفة والكبرياء والعنجهية، ثم تأتي بدر ليرى المسلمون تحقيق ذلك، إنه كلام إلهي متحدى به متعبد بتلاوته. هكذا نصدق كل قضية يأتي بها الله.
﴿ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( ٦ ) ﴾.
هذا ما شاهدته قريش في رحلات الشتاء والصيف. رأوا آثار عاد قوم هود وبقايا ثمود قوم صالح. وكانت إمكانات عاد وثمود أكبر من إمكانات قريش. إن قريشا لا سيادة لها إلا بسبب وجود الكعبة، ولو كان الحق ترك أبرهة يهدم الكعبة لما مكن لهم في الأرض. هاهي ذي حضارات قد سبقت وأبادها الحق سبحانه وتعالى، ويوضح القرآن ذلك :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( ٦ ) إرم ذات العماد ( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد ( ٨ ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( ٩ ) وفرعون ذي الأوتاد( ١٠ ) الذين طغوا في البلاد ( ١١ ) فأكثر فيها الفساد ( ١٢ ) فصب عليهم ربك سوط عذاب ( ١٣ ) ﴾( سورة الفجر ).
إنها حضارات كبيرة لها صيت وخبر في آذن الدنيا مثل حضارة الفراعنة. وكل ذلك الصولجان لا يحميه أحد من أمر الله. وزالت الحضارات وأصبحت أثرا بعد عين، وصدق عليها قول الحق :
﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ٤٠ ) ﴾( سورة العنكبوت ).
والحق يجازي كل كافر الجزاء الوافي، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبر قومه بما حدث لغيرهم من أقوام آخرين ﴿ أو لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ والقرن عادة هو الجيل الذي يحكمه زمن محدود أو حال محدود، فإن نظرنا إلى الزمن فالقرن مائة سنة كأقصى ما يمكن، والجيل الذي يعيش هذا القدر يرى حفيده وقد صار رجلا. نعلم أن نوحا عليه السلام عاش تسعمائة وخمسين سنة، ويقول سبحانه :
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ﴾( من الآية ١٤ سورة العنكبوت ).
وحياة نوح على طولها تسمى قرنا. إذن فالقرن هو الجيل يجمعه ضابط إما زمني وإما معنوي، والقرن الزمني مدته مائة سنة، أما القرن المعنوي فقد يكون عمر رسالة أو ملك.
ويخبر أهل الكفر بأنه قد قدر على غيرهم وأبادهم بعد أن مكن لهم في الأرض وذلك بألوان مختلفة من أنواع التمكين :﴿ وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾، وهذا الخبر يأتي من السماء بما حدث لقوم سابقين مثل قوم سبأ، فقد قال عنهم الحق في موضع آخر من القرآن الكريم :
﴿ لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ( ١٥ ) ﴾( سورة سبأ ).
ومسكن سبأ باليمن آية دالة على قدرة الله ؛ حديقتان وارفتان عن يمين وشمال ؛ ليأكل أهل سبأ من رزق الله ويشكروا نعمة الله. وكان لهم سد مأرب، ووهبهم الله القدرة لبنائه، فقطعوا من الجبال التي ليس لهم عمل فيها ليحجزوا ماء المطر الساقط من السماء، كل شيء إذن فعلوه وإنما فعلوه لأن الله قد أراده، وهم أعرضوا عن أمرين : عن الرزق الوفير الذي منحهم الله إياه وأرادوا أن يعتمدوا على أنفسهم كما فعل قارون حيث قال :( إنما أوتيته على علم عندي ). ظنوا أنهم قادرون على رزق أنفسهم وكذلك لم يشكروا الله، ولذلك أرسل الله عليهم سيل العرم، أي أنه عقاب من جنس العمل، وهكذا تكون عاقبة الإعراض والكفر بنعم الله. فقد سلط الله عليهم حيوانا من أضعف الحيوانات وأحقرها وهو الفأر فنقب السد فأغرق أموالهم ودفن بيوتهم.
ويخبر رسوله بكل هذه الأخبار ليلفت بها وينبه إليها قوما رأوا آثار حضارة عاد وثمود، والرؤية سيدة الأدلة، وطالبهم الرسول بها حتى يعرفوا عاقبة الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ولم يطلب الحق من رسوله إلا البلاغ فقط، أما إيمان القوم فليس مكلفا به صلى الله عليه وآله وسلم، إن هؤلاء قد خافوا من سيطرة ( لا إله إلا الله ) فهم الذين صنعوا من أنفسهم آلهة وتسلط بعضهم على بعض. فتخيل القوي أنه إله على الضعيف. وتخيل الغني أنه إله على الفقير، وتخيل العالم أنه إله على الجاهل، أما ( لا إله إلا الله ) فهي تساوي بين الناس جميعا، وهم يرفضون ذلك لأنهم يريدون السيادة : ومثال ذلك قولهم :
﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾( سورة الزخرف ).
فهم لم يجرؤوا على الطعن في القرآن، إنما طلبوا أن تكون السيادة لغني من أغنياء القريتين مكة أو طائف. وتناقض هذا القول مع عملهم وسلوكهم مع الرسول، فقط حفظوا كل نفيس حرصوا عليه عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولو كان الواحد منهم يرى شيئا أو مغمزا في أمانة رسول الله لما فعلوا ذلك. ولكن الواحد منهم بالرغم من التكذيب بمحمد لم يكن يأتمن إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالإنسان حينما تقع مصلحته أمام تكذيبه فهو يغلب مصلحته على تكذيبه.
ويبين الحق سبحانه أن إعراض هؤلاء، وتكذيب هؤلاء واستهزاء هؤلاء، لا يمت إلى حقيقة أمرك يا رسول الله، ولا إلى حقيقة القرآن في شيء، وإنما هو العناد، مثلهم مثل آل فرعون الذين جحدوا آيات الله على الرغم من أن أعماقهم رأت هذه الآيات بيقين لا تكذيب فيه.
﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( ١٤ ) ﴾( سورة النمل ).
فقد أنكر قوم فرعون رسالة موسى عليه السلام مع أنهم تأكدوا من صدقها، ولكنهم أنكروها بالاستنكار والعلو والظلم، فكانت عاقبتهم من أسوأ العواقب، وهذا هو حال المنكرين دائما لآيات الله.
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) ﴾.
هذا الكتاب – القرآن – لو نزل إلى هؤلاء المكذبين مكتوبا في ورق من المحس المشاهد فلمسوا بأيديهم لقالوا ما قاله كل مكذب، إنه سحر ظاهر. وقد طالب المكذبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ليقرأوه كشرط من ضمن شروط أخرى قال عنها الحق مصورا جحودهم :
﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) ﴾( سورة الإسراء ).
فبعد أن وضح لهم إعجاز القرآن حاولوا زورا، واقترحوا من الآيات ليؤمنوا، كأن يفجر لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ينبوعا في أرض مكة لا ينقطع ماؤه، أو يكون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بستان من نخيل وعنب. تتخلله الأنهار، أو أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تنزل السماء عليهم قطعا كعذاب شديد، أو أن يتجسد لهم الله والملائكة ليروهم رأى العين، أو أن يكون لرسول الله بيت من ذهب مزخرف، أو أن يصعد إلى السماء ويأتيهم بكتاب من الله يقرر صدق رسالته، ولكن الله برحمته واتساع حنانه ينزه ذاته أن يتحكم فيه أحد أو أن يشاركه في قدرته فيعلن لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله – سبحانه وتعالى - :
﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾( من الآية ٩٣ سورة الإسراء ).
لأن الذي يبعث الآيات هو رب العالمين، ولا أحد يجرؤ أن يفرض على الله آياته. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مستقبل لآيات الله لا مقترح للآيات، ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن من يقترح على الله آية ثم تأتي فيكذب بها يصيبه ويناله الهلاك، هذه سنة الله، ورسول الله يعلم أنه الخاتم ؛ لذلك لن يطلب أي آية من الله حتى لا ينزل عقاب الله من بعدها إن كذبوا بها. ويبلغ الحق رسوله عتو المتجبرين المنكرين واستكبارهم.
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) ﴾( سورة الأنعام ).
الحق يعلم أن قلوب بعض المنكرين قد صارت غفلا لا يدخلها الإيمان ولا يخرج منها الباطل – كما أراد هو لهم – فلو نزل إليهم كتابا من قرطاس ليكون في مجال رؤية العين ولمسوه بأيديهم فلن يؤمنوا. ويأتي أمر لمس الكتاب بالأيدي ؛ لأن اللمس هو الحاسة التي يشترك فيها الجميع حتى الأعمى منهم، وبرغم ذلك فسيكذبون قائلين :﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ ومثل هذا الرد لا ينبع عن عقل أو تدبر أو حكمة. ولا يتناسب مع القوم الذين عرفوا بالبلاغة والفصاحة، وبحسن القول والصياغة ؛ لأن السحر يغير من رؤية الناس للواقع، ومادام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متهما بالسحر منهم فلماذا لم يسحرهم هم، ولماذا استعصوا هم بالذات على السحر ؟ والمسحور ليس له عمل ولا إرادة مع الساحر، ولو كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساحر لصنع من السحر ما يجعلهم يؤمنون.
إن من العجيب وهم أبصر الناس بفن القول، وهم أهل النبوغ في الأداء، ويعرفون القول الفصل والرأي الصحيح ويميزون بين فنون القول : خطابة، وكتابة، ونثرا، وشعرا والقول المسجوع، والقول المرسل، من العجيب أنهم يقفون أمام معجزة القرآن مبهوتين لا يعرفون من أمرهم رشدا، فمرة يقولون : إنه سحر، ومرة يقولون : إنه كلام كهنة، وثالثة يقولون : إنه كلام مجنون.
والقرآن ليس بالسحر، لأنه يملك من البيان ما يملكون وفوق ما يملكون ويحسنون، ولا يفعل رسول الله معهم ما يجعلهم يؤمنون على الرغم منهم، وليس القرآن كذلك بكلام الكهنة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نشأ بينهم ويعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يتلقى علما من أحد، فضلا عن أن كلام الكهان له سمت خاص وسجع معروف، والقرآن ليس كذلك. ويعلمون أنه كلام رجل عاقل، فكلام المجنون لا ينسجم مع بعضه، وها هو ذا الحق يقول في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ وما أنت بنعمة ربك بمجنون( ٢ ) وإن لك لأجرا غير ممنون ( ٣ ) وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾( سورة القلم ).
وقد أعد الله رسوله ليستقبل النبوة بقوة العقل، لا بسفه الرأي، وله في بلاغ رسالة ربه ثواب لا مقطوع ولا ممنوع، وهو على الخلق العظيم. والخلق العظيم – كما نعلم – هو استقبال الأحداث بملكات متساوية وليست متعارضة ولا يملك ذلك إلا عاقل. وقد شهدوا هم بخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يأتي هذا الخلق العظيم من مجنون ؟ وكيف يصدر السلوك المتصف بالسلامة والصلاح والخير من مجنون ؟ كانت – إذن – كل اتهاماتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنبع من إصرارهم على الكفر، لا من واقع لمسوه، فكل ما قالوه في رسول الله هم أول الناس الذين شهدوا عكسه ولمسوا نقيضه.
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( ٨ ) ﴾ ما الملك ؟ الملك جنس جعله الله من الغيب، ونحن لا نؤمن به إلا لأن الله الذي آمنا به قال : إن له ملائكة مثلما قال : إن هناك جنا، والملائكة من الجنس الغيب، والجن مستور عنا. وهؤلاء المنكرون والجاحدون يطلبون نزول ملك حتى يؤمنوا. إذن فهم قد عرفوا هناك غيبا وأن فطرتهم الأولى تحمل أثرا من منطق السماء لكنهم ينكرون، وقولهم بالملك دليل على أن في أعماقهم رواسب من دين إبراهيم ودين إسماعيل، وبقيت تلك الآثار في النفوس لأنها مسألة لا تمس السيادة، ولو أنزل الحق لهم ملكا لما آمنوا أيضا، فهم مكذبون. ولا يريد الحق أن يطبق عليهم سنته بنزول الآية التي يطلبونها حتى لا ينزل بهم عقابه إن كفروا بها. فلو أنزل الحق عليهم ملكا كما يطلبون ثم كفروا لقضي الأمر وأهلكوا بدون إمهال. إذ لو تجلى لهم وظهر على طبيعته ما تحملته كياناتهم البشرية.
ولقد نزل الملك بآثاره الدامغة وهو غيب أنزله – سبحانه وتعالى – بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعل في رسول الله ما فعل، ولم يظهر من عمله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أثره فحسب. وها هو ذا رسول الله يشرح لنا ذلك لحظة مجيء الملك أول مرة في غار حراء : قال الملك : اقرأ.
( فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني، فقال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ). ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته يرجف فؤاده ودخل على زوجه السيدة خديجة بنت خويلد، فقال :( زملوني زملوني ). فزملوه حتى ذهب عنه الروع. وأخبرها الخبر وقال :( لقد خشيت على نفسي ) فقالت خديجة – رضي الله عنها – وهي تعدد صفات وخلق رسول الله العظيمة :( كلا والله لا يخزيك الله أبد ؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدود وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر )١.
هكذا كان الإيمان الأول من خديجة من فور أن عرفت خبر الوحي. ويطمئن الحق رسوله من بعد ذلك قائلا :
﴿ ألم نشرح لك صدرك ( ١ ) ووضعنا عنك وزرك ( ٢ ) الذي أنقض ظهرك ( ٣ ) ورفعنا لك ذكرك ( ٤ ) ﴾( سورة الشرح ).
وشرح الله صدر رسوله فصار هذا الصدر مهبط الأسرار والعلم وحط عن ظهر الرسول الكريم الأعباء والثقال، وارتبط اسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأصل الإيمان والعقيدة حتى صار اسم رسول الله مقرونا باسمه – جل شأنه – في الشهادة الأولى للإسلام ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ).
إذن كان هذا حال رسول الله حين تجلى له الملك لا بالحقيقة الملكية، ذلك أن هناك فارقا بين البنيان البشري والبنيان الملكي. فالبنيان البشري يستقبل الأشياء المادية التي تناسب تكوينه، فإن جاءت له طاقة أعلى منه فلا يمكنه أن يستقبلها إلا إذا أعد الله الملك وصوره بصورة تجعله قابلا للإرسال، وأعد الله الرسول ليكون قابلا للاستقبال. نعلم جميعا قصة موسى لما جاء لميقات ربه، وقال الله في وصف ذلك اللقاء :
﴿ لما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ( ١٤٣ ) ﴾( سورة الأعراف ).
والمانع لرؤية الله هو عدم قدرة الإنسان على الإحاطة البصرية بالله، فعندما تجلى الله للجبل المتماسك الصلب صار الجبل دكا، أي مفتتا وخر موسى عليه السلام مصعوقا من هول ما رأى، ولما أفاق تاب إلى الله وأعلن أنه أول المؤمنين به سبحانه. فإذا كان الإنسان قد صعق من تجلي الحق للجبل، فكيف يقدر على أن يتجلى الحق له ؟.
إننا نعلم أن كل تكوين له قدرة استقبال لما يناسبه من أشياء، وضربنا لذلك مثلا من دنيانا العملية – ولله المثل الأعلى دائما وهو منزه عن كل مثال – نجد الإنسان منا عندما يدخل الكهرباء إلى بيته لرغبة في الانتفاع بقانون النور والضوء لمدة أطول وبفوائد الكهرباء المتعددة، ولكنه عندما يريد أن ينام فهو يطلب الانتفاع بقانون الظلمة، فيطفئ المصابيح، ويضع مصباحا صغيرا لا يتحمل أن يأخذ الطاقة مباشرة من الكهرباء من مصدرها القوي ؛ لذلك يأتي الإنسان بمحول للطاقة فيستقبل المحول طاقة الكهرباء العالية من مصدرها ويخفضها بصورة تناسب المصباح الصغير. وهكذا نحتفظ بضوء ضعيف في الليل لنستفيد من قانون الظلمة لننام.
وقد امتن الحق علينا أنه خلق النور وخلق الظلام، وكل منهما له مهمة. فإذا كان خلق النور والضوء والكهرباء قد أتاح للإنسان بناء حضارة، فالظلام أتاح للإنسان أن يرتاح وتسكن نفسه فيقوم ممتلئا بالنشاط والحيوية. وإذا كنا نحتفظ في الليل ببصيص نور لا يزعج، فنحن نفعل ذلك حتى لا نحطم الأشياء أو نصطدم بها إذا ما قمنا في الليل لقضاء حاجة.
وكذلك الإنسان.... إنه لا يستطيع بضعفه أن يأخذ عن الله مباشرة.... ومن رحمة الحق بالخلق أن جعل بينه وبين الخلق وسائط، بتلقي الملك عن الله، والملك وسيط، والملك ينقل إلى الرسول المصطفى، والرسول المصطفى وسيط، ومن تغفيل أهل الكفر أنهم طالبوا بإنزال ملك رسول. ويرد الله عليهم في موضع آخر من القرآن الكريم :
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾[ سورة الإسراء ].
لقد طالبوا – جهلا – أن ينزل إليهم ملك رسول بالهدى، ويأمر الحق رسوله أن يرد عليهم بأنه لو كان بين البشر ملائكة... أي لو كان هناك ملائكة يمشون في الأرض لنزل إليهم الملك كرسول. ولما كان هذا غير حاصل، فقد أرسل الحق رسولا من البشر ؛ لأن المفروض أن يبلغ الرسول وأن يكون كذلك أسوة سلوكية للمنهج، بأن يطبق المنهج على نفسه، فلو نزل ملك كرسول وطبق المنهج على نفسه لقال له البشر : إنك ملك تقدر على ما لا نقدر عليه وأنت لا تصلح أسوة لنا ؛ لذلك كان لا بد أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم أنفسهم حتى يكون أسوة لهم وقدوة.
إن هذا هو ما يبطل الادعاء بألوهية عيسى عليه السلام أو بنوته لله ؛ لأن عيسى عليه السلام طالبهم أن يفعلوا مثله. وأراد الحق ببشرية الرسل أن يؤكد القدرة والأسوة في الرسل، ولذلك قال :﴿ ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ﴾ ؛ لأن البشر لا يستطيعون استقبال إشعاعات وإشراقات الملك لأنهم غير معدين لاستقبال تلك الإشعاعات والإشراقات. لذلك يقول الحق :
﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾.
﴿ ونبئهم عن ضيف إبراهيم ( ٥١ ) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ( ٥٢ ) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ( ٥٣ ) ﴾( سورة الحجر ).
لقد أنزل الله الضيف من الملائكة على إبراهيم عليه السلام فخاف منهم بعد أن قرب العجل ورآهم لا يأكلون إلى أن قالوا له ما يطمئنه من خبر ببشارة من الله، بأن يولد له الغلام إسحاق من زوجته ( سارة ) بعد أن رزقه الله من قبل إسماعيل من ( هاجر ). وكذلك أنزل الحق إلى مريم البتول ملكا وتمثل لها بشرا سويا لينبئها بحملها بعيسى عليه السلام. إذن فالملك يتجسد في صورة بشرية عندما يرسله الله في مهمة إلى البشر ؛ لأن الملك لا يأتي إلى البشر على حقيقته. ومن امتنان الله على رسوله أنه أعطى له فرصة ليرى جبريل على حقيقته مرة عند سدرة المنتهى، ومرة حين تجسد له على هيئة دحية الكلبي مرة في صفة رجل مسافر جاء يسأل الرسول عن الإسلام والإيمان، وحدثنا عنه عبد الله بن عمر قائلا :
( حدثني أبي عمر بن الخطاب قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه. قال : يا محمد، أخبرني عن الإسلام ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال : صدقت. قال : فعجبنا له يسأل ويصدقه. قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال : صدقت. قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال : فأخبرني عن أمارتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال : ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )١.
إذن، فنحن ببشريتنا لا نستطيع رؤية الملك إلا بعد أن يجسده الله بشرا. ولذلك قال الحق :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ﴾ إذن فاللبس موجود بدليل أن الله أرسل الملائكة في صورة بشر لإبراهيم عليه السلام ومريم ابنة عمران ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس بين قومه.
﴿ ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( ١٠ ) ﴾.
هنا يخبر الله رسوله أن أهل الكفر كثيرا ما سخروا من قبل بالرسل السابقين وأخزاهم الله بالعذاب الذي أنذر به أهل التكذيب للرسل، فالذين يسخرون بخبر السماء يحيطهم سبحانه بالعذاب جزاء لما كانوا يستهزئون.
﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( ١١ ) ﴾.
نعلم أن الحق لم يقل أبدا : سيروا على الأرض ؛ لأن الأرض ظرف يسير فيه الإنسان، والإنسان من ظروف في الأرض. وقد حدث هذا البلاغ من الله قبل أن نصل بالعلم إلى المعرفة أن الأرض كروية ومعلقة في الهواء، والهواء يحيط بها، وأن الهواء هو أقوات الإنسان بما فيه من أوكسجين وبما يغذي النبات من ثاني أوكسيد الكربون، ونعلم أن الإنسان يصير على الطعام لأسابيع ويصبر على الماء لأيام ولا يصبر على انقطاع الهواء عنه للحظات. ولذلك لا يملك الله الهواء لأحد أبدا، وهكذا عرفنا أن الهواء من جنس الأرض. وعندما يسير الإنسان فالهواء يحيطه، وعلى ذلك فهو يسير في الأرض. وهذا من الإعجاز الأدائي في القرآن ونقرأ قوله الحق :
﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾( من الآية ٣٦ سورة النحل )
وهنا في سورة الأنعام يقول الحق سبحانه :
﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( ١١ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ما الفرق بين الاثنين ؟ خصوصا ونحن نعلم أن الفاء من حروف العطف وكذلك ( ثم ) هي أيضا من حروف العطف وكلتاها حرف يفيد الترتيب، ولكن الفارق أن الفاء تعني الترتيب مع التعقيب أي من غير تراخ ومضى مدة.... مثل قولنا : جاء زيد فعمرو، أي أن عمرا جاء من فور مجيء زيد من غير مهلة. ولكن ( ثم ) تعني طول المسافة الزمنية الفاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، فعندما يقول الحق :
﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾( من الآية ٣٦ سورة النحل ).
فكأن النظر والتدبر هو المراد من السير وبذلك يكون سير الاعتبار.
ويقول الحق :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ يعني أن الإنسان قد يسير في الأرض للتجارة أو الزراعة أو لأي عمل، وعليه أن يتفكر في أثناء ذلك وأن يتأمل. إذن فهناك سير للاعتبار وسير للمصلحة. والسير للاعتبار يعني أن يأخذ الإنسان العبرة مباشرة، أما السير للمصلحة فهو أن يأخذ الإنسان العبرة ضمن المصلحة. وكان سير قريش بقوافلها إلى الشام واليمن يجعلها قادرة على أن ترى آثار المكذبين سواء من أهل ثمود أو قوم عاد أو غيرهم. وكان عليهم أن يأخذوا العبرة في أثناء سعيهم لتجارتهم.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( ١٢ ) ﴾.
كأن الحق يعلم رسوله السؤال والجواب ؛ حتى يتعلم الناس من خلال ذلك أن كل ملك لله ؛ لأنهم مهما بحثوا عن مالك للكون فلن يجدوا إلا الله، حتى المكذبين منهم قال الحق عنهم :
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ( ٦١ ) ﴾( سورة العنكبوت ).
وعلى الرغم من شركهم بالله لا يقدرون إلا على الإقرار بأن الله هو خالق كل شيء ؛ لأن الإنسان قد يغتر بما لذاته من اختيار، لكن عندما ينظر لما يقع على ذاته من اضطرار فهو يتعرف فورا على الإيمان. وقد يختار الإنسان أشياء لكن هناك أحداث تقع عليه لا اختيار له فيها وذلك لينبه الحق خلقه أنه فعال لما يريد وأنه يحكم هذا الكون وأن الاختيار ما كان إلا ليختبر الإنسان نفسه باتباع تكاليف الله.
والأحداث ثلاثة : حدث يقع عليك، وحدث يقع فيك، وحدث يقع منك. وما يقع عليك ليس لك فيه اختيار، وما يقع فيك لا اختيار لك فيه، ولا يبقى لك إلا ثلث الأحداث وهو ما يقع منك. وأنت محكوم في ذلك بقوسين لا اختيار لك فيهما : قوس الميلاد وقوس الموت، إذن فالأمر كله لله.
ويطمئن الحق خلقه قائلا :﴿ كتب على نفسه الرحمة ﴾ وهو قول ليطمئن به الحق عباده حتى لا يظن الناس أن الله يعاقبهم دون حساب ؛ لأنه الحليم ذو الفضل وهو القائل :
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾( من الآية ٥٨ سورة يونس ).
ويعفو سبحانه عن كثير، وباب رحمته وفضله مفتوح ويفسح التوبة لكل عاص. ومن فضل الله أنه جعل بعضا من الكفار يقفون في بداية الإسلام ضد المسلمين ثم يكونون من بعد ذلك سيوفا للإسلام، وسبحانه الرحيم الذي يجمعنا للحساب يوم القيامة الذي لا ريب فيه ولا شك، ونسير جميعا مدفوعين إلى ذلك اليوم ويأتي الكافر على رغم أنفه، والمؤمن يتيقن رحمة الله وفضله ويفرح بلقاء ربه.
والكافر – والعياذ بالله – قد خسر نفسه بعمله مصداقا لقوله الحق :﴿ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ﴾ وخسران النفس مترتب على عدم الإيمان ؛ لأننا لو نظرنا إلى الغايات وإلى الوسائل لوجدنا أن الوسيلة تأتي قبل الغاية، ولكن في التحضير العملي الغاية تتضح قبل الوسيلة ؛ فالذي يستذكر إنما يستحضر في ذهنه الغاية وهي النجاح، فيبذل الجهد لينجح ؛ لأننا نعلم أن كل شرط هو واقع بين أمرين، وبين جواب دافع، وجواب واقع ؛ فالنجاح دافع للمذاكرة، والمذاكرة تجعل النجاح واقعا، ويقول ابن الرومي :
ألا من يريني غايتي قبل مذهب | ومن أين والغايات بعد المذاهب ؟ |
﴿ وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ( ١٣ ) ﴾.
إن من عظمة الموجود الأعلى الواجب الوجود أنه يتكلم عن نفسه بضمير الغيب وهو سبحانه القائل في أول بعض الآيات :﴿ قل هو الله ﴾.
و( قل ) هي أمر، فكان الحق حين يقول :( هو ) فلا يمكن أن تطلق ( هو ) إلا على الله ولا تنصر ف إلا لله. ﴿ وله ما سكن في الليل والنهار ﴾ وكلمة ( سكن ) هي من مادة السين والكاف والنون، وتأتي لمعان متعددة ؛ فتكون من السكنى أي الاستيطان، وتكون من السكون الذي هو ضد الحركة. والمثال على الاستيطان هو قول الله لآدم.
﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾( من الآية ٣٥ سورة البقرة ).
إن الحق سبحانه يقول هنا :﴿ وله ما سكن في الليل والنهار ﴾ فكأن الليل والنهار ظرف، وكل الوجود مظروف فيه. وظرفية الليل والنهار تأتي على ظرفية المكان وهو الأرض. وكل مكان في الأرض يأتي عليه الليل والنهار. فإن أردنا الاستيطان في السكن فهي موجودة، وإن أردناها من السكون – هو ضد الحركة – فهي موجودة ؛ ذلك أن كل متحرك يؤول إلى ساكن، والإنسان سيد الحركة ثم يموت أو يسكن في الأرض. وهكذا نرى أن الجنس الأعم الذي يشملهما معا هو ( ما سكن ) ولذلك قال الحق :
﴿ وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم( ١٣ ) ﴾( سورة الأنعام ).
وحينما يقول :﴿ وله ما سكن في الليل والنهار ﴾، فهو يتكلم عن الزمان، واحتوائية الزمان للزمانيات، أي للأشياء التي تحدث في هذا الزمان. والإنسان كما نعلم حدث. وكل ما يطرأ عنه حدث، وقد أحدثه الحق الواجب الوجود.
ومادام الحدث قد وجد فلا بد له من زمان ولا بد له من مكان. أما مكان الحدث فهو السماء والأرض، وما بينهما. وأما زمان الحدث فهو الليل والنهار.
إذن فالحق قد تكلم عن خلق الزمان من بعد أن أعلن لنا أنه خالق المكان.
﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ﴾( من الآية ١٢ سورة الأنعام ).
وهكذا نعلم أن الزمان والمكان قد وجدا عندما شاء الله أن يحدث هذا الكون. ولا تقل أبدا أيها الإنسان : أين كان الله قبل أن يخلق الكون ؟ لأن ( أين ) هي بحث عن مكان، و( متى ) هي بحث عن زمان. و( أين ) و( متى ) إنما وجدتا بعد وجود الحدث في الكون. والكون هو ظرف قار أي شيء ثابت. والزمان هو ظرف غير قار، لأنه يكون مرة ماضيا، ومرة يكون حاضرا أو مستقبلا.
والحق سبحانه عندما قال :﴿ وله ما سكن في الليل والنهار ﴾ أي أن له الظرفين : القار وغير القار... أي له – سبحانه – الساكن وكذلك له ما يتحرك في الكون ؛ لأن كل متحرك يؤول أمره إلى سكون. أو أن قوله الحق :﴿ وله ما سكن في الليل والنهار ﴾ أي ما حل في الليل والنهار، أي له سبحانه ما حل في الليل والنهار متحركا كان أو ساكنا.
والحق يذيل هذه الآية بقوله :﴿ وهو السميع العليم ﴾ فالسمع متعلق بالمسموع أي الذي له حركة، والعلم متعلق بالمسموع والمنظور والمشموم وكل شيء من آلات الإدراك ؛ لذا جاء قوله – سبحانه - :﴿ وهو السميع العليم ﴾ ليشمل المتحرك والساكن، فسبحانه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء.
ونعلم أنه إذا أخبر الحق عن نفسه بصفة من صفات يوجد مثلها في البشر فنحن نأخذها في إطار ( ليس كمثله شيء ). فأنت أيها الإنسان لك سمع فيقال عنك : سميع. ولك علم فيقال : عليم. ولك بصر فيقال : مبصر. ولك قدرة فيقال : قادر. وقد تكون ذا مال وفير فيقال : غني. ولك وجود فيقال : موجود. وأنت حي فيقال : حي.
لكن أهذه الصفات التي فيك هي عين الصفات التي في الله ؟ لا ؛ لأن صفات الله إنما نأخذها في إطار ( ليس كمثله شيء ). نحن نشاهد ذلك في أنفسنا ؛ فالإنسان منا له حال حياة، وحال موت. وفي حال الحياة له حالتان : حالة يقظة، وحالة نوم. وفي حالة اليقظة نحن نرى بقانون البصر، ولهذا البصر حدود ؛ فهو محكوم بقانون الضوء، وكذلك السمع محكوم بقانون الصوت والموجة والذبذبة.
ومع ذلك فالإنسان ينام ويغمض عينيه ويرى رؤيا فيها ألوان حمراء وخضراء وغيرها، فبأي شيء أدركت الألوان وعينيك مغمضة ؟ إذن فمادام في البشر رؤيا بدون عين فلا تقل عن رؤيا الله لنا إن له عيونا مثل عيوننا، بل هو يرى في إطار ( ليس كمثله شيء ). إنه سبحانه وتعالى قيوم يحكم عباده في الزمان والمكان في حالة يقظتهم وفي حالة نومهم.
ومثال من حياتنا اليومية، نحن نجد الرجل وزوجه ينامان في فراش واحد، وقد يرى الرجل في المنام أنه يواجه أعداءه، وترى الزوجة نفسها محاطة بسعادة الأبناء والأحفاد، ويستيقظ كل منهما ليحكي ما رأى في أكثر من ساعة، على الرغم من أن مخ الإنسان لا يعمل في أثناء النوم إلا لسبع ثوان.
إذن، ففي النوم تلغى المعية وكذلك الزمن، والمكان. فإذا كانت تلك هي القوانين التي تحكم الإنسان، فعلينا أن نعرف أن خالق كل القوانين وهو الحق لا يمكن إدراك صفاته، وعلينا أن نأخذ في إطار :( ليس كمثله شيء ) :
﴿ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ( ١٤ ) ﴾.
والهمزة هنا في ( أغير ) يسمونها همزة الإنكار كقوله قائل : أتسب أباك ؟ إنها ليست استفهاما بقدر ما هي توبيخ ولوم. وكذلك :﴿ أغير الله أتخذ وليا ﴾. أي أن الحق يأمر رسوله أن يستنكر اتخاذ ولي غير الله.
إن اتخاذ الله كولي هو أمر ضروري ؛ لأن الإنسان تطرأ عليه أحداث تؤكد له أنه ضعيف وله أغيار، وساعة ضعف الإنسان لا بد أن يأوى إلى من هو أشد منه قوة ولا يتغير. إن الوالي – وهو الله – قوته لا يمكن أن تصير ضعفا، وغناه لا يمكن أن ينقلب فقرا، وعلمه لا يمكن أن يئول إلى جهل. إنه مغير ولا يتغير. لذلك فمن نعمة الله على خلقه أنه جعل من نفسه وليا لهم، فهو صاحب الأغيار.
والحق سبحانه وتعالى يعلم خلقه أن يكونوا أهل الحكمة ؛ يضعون الأمور في نصابها ويتوكلون عليه، فهو الحي الذي لا يموت. ونلحظ أن الحق هنا يأمر رسوله بالبلاغ عنه. وتتجلى هنا دقة الأداء القرآني فيأتي البلاغ كما نزل من الحق حرفيا.
ومثال ذلك قول الحق سبحانه :
﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾( سورة الإخلاص ).
ويبلغنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالنص القرآني كما نزل عليه، مبتدئا بكلمة ( قل ) ويبلغه الرسول لنا بأمانة البلاغ عن ربه. وهو هنا يقول :﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾. وهو الإله الذي جاءت كمالاته في الآيات السابقة ؛ الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور وله ما سكن في الليل والنهار، هذا الإله الحق هو الجدير بالعبادة.
ويريد الحق لرسوله أن يستخرج من الناس الإجابة، لا أن يقول هو : لا أتخذ وليا غير الله، وسبحانه يأمر رسوله أن يسألهم :﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾. وليكن السؤال مطروحا منك يا رسول الله تبليغا عن الله، وتعطي لهم الحرية في الإجابة، وسيكون الجواب كما تريد.
وعندما يسمع الإنسان مثل هذا السؤال لا بد أن يسأل نفسه ويدير عقله كي يجد جوابا. ولن يجد الإنسان جوابا سوى أن يقول : ليس لي ولي غير الله ؛ فالولي القريب الذي ينصر الإنسان في ضعفه، وإن استصرخه جاء لينقذه.
ولا يستصرخ الإنسان أحدا إلا إذا انتابه حادث جلل، فإذا ما جاء القوي ليغيث صاحب الصرخة فهو يطمئن إلى أن من جاءه سيعينه ويخلصه. واتخاذ الولي أمر فطري في الكون، والأمر المنكر أن يجعل الإنسان لنفسه وليا غير الله. ونحن – المؤمنين – يتخذ بعضنا بعضا أولياء في إطار الولاية لله مصداقا لقوله الحق :
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ( ٧١ ) ﴾( سورة التوبة ).
ويتبادل المؤمنون والمؤمنات المحبة والنصرة طبقا للتعاقد الإيماني بينهم وبين الحق سبحانه وتعالى، ويأمر بعضهم بعضا بأوامر المنهج، وينهى بعضهم بعضا عن المحظورات التي حرمها الله ويتوصلون مع الحق بإقامة الصلاة. ويؤدون حق الله في مالهم بالزكاة، ويطيعون الله ويمتثلون أوامر رسوله، وهم بذلك ينالون وعد الله الحق بالرحمة، وهو سبحانه القادر على رعايتهم، وهو حكيم في صيانتهم، عزيز لا يغلب أحد.
إذن فأنت تطلب الولي لحظة الضعف، ولحظة الشدة، ولا يوجد إنسان استوت له كل زوايا الحياة فيصير قويا لا يضعف أبدا، أو يصير غنيا لا يفتقر أبدا. ونعلم أن الإنسان من الأغيار، فلم نرى قويا ثبتت له قوته، ولا غنيا ثبت له ثراؤه، فالإنسان ابن الأغيار، وتأتي له حالاته فوق قدرته، لذلك فهو يسأل عمن يعينه ويساعده، والمؤمن يحب أيضا أن يكون قويا ليساعد غيره ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد وزع المواهب على خلقه في الكون ليضمن بقاء الولاية واستمراريتها، فأنت في احتياج إلى عمل إنسان آخر ؛ لأنك ضعيف في ناحية وغيرك قوي فيها، الطبيب يحتاج إلى المهندس، والمهندس يحتاج إلى الطبيب، والطبيب والمهندس يحتاجان إلى الفلاح، والفلاح يحتاج إلى عمل المهندس والطبيب، والطبيب والمهندس والفلاح يحتاجون إلى عمل المحامي.
هكذا وزع الله المواهب في الكون، ولم يجعل من إنسان مجمعا لكل المواهب. وذلك حتى يتساند المجتمع لا بالتفضل والتكرم بل بتساند الحاجة. فكل إنسان هو سيد في زاوية ما من زوايا الحياة، وبقية الزوايا يسودها غيره من البشر، ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ( ٣٢ ) ﴾( من الآية ٣٢ سورة الزخرف ).
هذا هو الإعلان من الله سبحانه وتعالى بأنه وزع المواهب بين البشر ليتساندوا ويسخر بعضهم بعضا في قضاء حوائج بعضهم بعضا لتنتظم أمور الحياة. وفي هذا التقسيم رحمة من الحق الخلق. فلو تساوى الناس في الذكاء، وصاروا كلهم من العباقرة، فمن هو الذي سيتولى أمور تنظيم الشوارع ؟ ومن الذي سيقوم بأعمال وصيانة المباني ورعاية وإطعام الحيوان والقيام على أمره ونحو ذلك من الأمور التي لا تنتظم الحياة إلا بها ؟
وكلنا يرى الرجل الذي ينزح آبار المجاري ويخرج في الصباح قائلا : يا فتاح يا عليم، يا رزاق يا كريم. ويطلب بئرا جديدا من المجاري لينزحه حتى يكسب قوت نفسه وعياله. وكل منا مضطر ومحتاج إلى غيره، وهذا هو معنى :
﴿ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾( من الآية ٣٢ سورة الزخرف )
إذن فاتخاذ الولي هو أمر فطري، والإيمان بالله يعطينا ذكاء اختيار الولي. فالإنسان المؤمن عليه أن يختار الولي الذي يجده عندما يحتاج إليه ؛ لذلك فعليه أن يختار ولاية الله، ولا يختار ولاية الأغيار، فيسخر الله للمؤمن حتى عدوه ليخدمه. لذلك يبلغنا الحق على لسان رسوله :( قل أغير الله أتخذ وليا ) والذين ينكرون علينا أن نتخذ الله وليا ويريدون أن نتخذ غيره يرون في أنفسهم المثل.. فقد يخيب رجاؤهم، فالإنسان منهم قد يتخذ إنسانا مثله وليا، وساعة يحتاج إليه يجده مريضا، أو غائبا أو تغير قلبه عليه، لكن المؤمن يختار الله وليه لأنه الذي لا يغيب ولا يتغير، ولا يضعف. ولا ينكر القرآن أن يتخذ الإنسان له وليا من البشر، ولكن الحق يدلنا على أنه الولي الحق، وأن المؤمن عليه أن يتخذ إخوته المؤمنين أولياء له ؛ لأنها ولاية من الله وفي الله.
وأنت أيها المسلمون حين تختار الحق سبحانه وتعالى وليا لك فهو الذي يحضر لك كل زوايا المواهب ويعدها ويهيئها لتكون في خدمتك ؛ لأنه سبحانه وتعالى ﴿ فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ﴾ وقد خلق والحق سبحانه السماوات والأرض على غير مثال. وسبحانه قد أبدع هذا الكون دون نموذج مسبق. وحين أراد سيدنا عيسى عليه السلام أن يثبت لقومه معجزته جاء بالطين وجعله كهيئة الطير، إذن فهناك مثال سبقه ووجده واتبعه. وعيسى إنسان من الخلق، أما خالق كل الخلق فقد خلق السماوات والأرض على غير مثال. وأنت أيها الإنسان قد لا تلتفت إلى مسألة خلق السماوات والأرض لأنك تراهما كل لحظة بصورة رتيبة، وقد تظن أنها مسألة سهلة، ولكن الحق سبحانه يقول :
﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٥٧ ) ﴾ ( سورة غافر ).
وهو سبحانه يقسم أن خلق السماوات والأرض مسألة أكبر وأدق من خلق الناس لكن أكثر الناس لا تعلم ذلك.
فسبحانه وتعالى يقول :
﴿ والسماء وبنيناها بأيد وإنا لموسعون ( ٤٧ ) ﴾( سورة الذاريات ).
وفي قوله ﴿ إنا لموسعون ﴾ إشارة على خلق هذا الكون المرئي وغير المرئي ؛ لأن هناك الكثير من الأجرام والمجموعات الشمسية، وما وراء ذلك من اتساع ذلك الكون ما لا يدركه العقل ولا يمكنه تحديده، وهذه السعة المذهلة هي من قدرة الله سبحانه وتعالى. ﴿ وإنا لموسعون ﴾.
ونجد الحق يستعمل كلمة :( فاطر ) مرة في شيء مصلح، وأخرى في شيء مفسد. والمثال للشيء المصلح هو ما يقوله الحق هنا :﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ أي أنه خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق وباقتدار محكم.
ويقول الحق سبحانه في موضع آخر :﴿ إذا السماء انفطرت ( ١ ) ﴾ ( سورة الانفطار ).
أي أن الحق يبينه هنا إلى يوم الهول الأعظم الذي تنشق فيه السماء وتساقط فيه الكواكب فلا يؤدي أي شيء منها مهمته ؛ لأن الله – سبحانه – سلبها ما كانت به صالحة.
ويقول أيضا :
﴿ الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ( ٣ ) ﴾( سورة الملك ).
فالحق لا يعجز عن شيء، وهو الخالق لسبع سماوات بإتقان بعضها فوق بعض، فلا يرى الناظر أي خلل في هذا الخلق، وليعد الإنسان النظر إلى السماء فلن يجد أي خلل من شقوق أو فروق.
و ( فطور ) هنا معناه الشقوق. إذن فالحق – بتمام قدرته – يعطي الشيء من الصفات ما يجعله صالحا لأداء ما خلق فلا يظن ظان أنه خرج عن قدرة خالقه – سبحانه – وخلق السماوات والأرض بتمام إبداع وإحكام، وهو القادر على أن يفطرهما ويجعلهما غير صالحتين في أي وقت شاء، ومثلهما الشمس تكور، والنجوم تطمس، والجبال تنسف.
وقال عالم من العلماء : ما فهمت كلمة ( فاطر ) إلا حين جاء أعربي، وقال : فلان ينازعني في بئر أنا فطرته. أي أن الأعرابي هو الذي بدأ حفر البئر. إذن فاطر السماوات والأرض... أي الذي خلقهما على غير مثال. وسبحانه وتعالى القائل :﴿ أو لم ير الذين كفروا امن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( ٣٠ ) ﴾( سورة الأنبياء ).
وهذا القول الحكيم لم يصل إلى فهمه من سبقونا، لكن إنسان هذا العصر الذي نعيشه فهمها بعد أن توصل العلماء إلى أن السماوات والأرض كانت كتلة واحدة وفصلهما الحق بإرادته. وجعل من الماء الحياة لكل كائن حي.
إذن هو سبحانه قادر على كل شيء، ولا يخرج شيء عن نطاق قدرته. وهو سبحانه قبل أن يمتن علينا بخلق الحيازة فهو يحذرنا أن يأخذنا الغرور بهذه الحياة، لذلك قال :
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ( ١ ) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ( ٢ ) }( سورة الملك ).
وكأنه ينبه الإنسان إلى أن يستقبل الحياة ؛ ليعرف أنه سبحانه أوجد ناقض الحياة وهو الموت، فإياك أن تخذ الحياة على أنها تعطيك القوة الحركة والإدراك والإرادة برتابة وأبدية ؛ لأن هناك ناقض الحياة وهو الموت.
ها هو ذا سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم :
﴿ أفرأيتم ما تمنون ( ٥٨ ) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ( ٥٩ ) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ( ٦٠ ) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ( ٦١ ) ﴾( سورة الواقعة ).
والإنسان لا يرى الحيوانات المنوية المقذوفة منه في رحم زوجه، ولا أحد يقدر على ذلك ويرعاه حتى يصير جنينا ثم بشرا، ولكن الحق هو المقدر والخالق، إنه القادر الذي أعطانا الحياة وقدر علينا الموت ولا غالب له، إنه يبدل صورنا حين يريد، ويخلق غيرنا وينشئنا في صور لا نعرفها، وهو الواهب للحياة، وهو الذي ينزعها بالموت.
ويقول لنا :
﴿ أفرأيتم ما تحرثون ( ٦٣ ) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( ٦٤ ) ﴾( سورة الواقعة ).
هنا ينبهنا جل وعلا إلى أن الزرع الذي نأكله، والثمار التي نجنيها من الأرض ليس لنا فيه
﴿ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ( ١٦ ) ﴾.
فكأن من لا يصرف عنه هذا العذاب هو من ينجذب إلى قوة العذاب ؛ لأن لنار جهنم شهيقا يجذب ويسحب إليه الذين قدر عليهم العذاب ويقول سبحانه :﴿ وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير ( ٦ ) إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور ( ٧ ) ﴾( سورة الملك ).
والذين يكفرون بالله لهم العذاب الذي يبدأ بسماع جهنم في أثناء فورانها. والشهيق كما تعلم هو قوة تجذب وتسحب الهواء إلى الأنف والصدر، فما بالنا بقوة شهيق جهنم وهي تسحب وتجذب الذين وقع عليهم الأمر بالعذاب ؟
وهذه النار نفسها ترد على سؤال الحق لها عندما تسمع قوله :
﴿ يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ( ٣٠ ) ﴾( سورة ق ).
إذن فقوة العذاب التي جعلها الله مهمة لجهنم هي التي تلح وتندفع ولطلب المزيد من عقاب الكافرين. وسبحانه خلق كل شيء ليؤدي مهمة، والنار مهمتها أن تمتثل لأمر الحق تبارك وتعالى عندما يأمرها بمباشرة مهمتها ؛ لذلك فهي تلح في طلب الذين سيتلقون العذاب، ولا تخرج النار أبدا عن أمر الله وقدره، فإن صرف الحق العذاب عن عبد من العباد فالنار تمتثل لذلك الأمر. ﴿ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ﴾ وسبحانه فعال لما يريد، وهو إن حاسبنا بالعدل فكل من سيمسه شيء من عذاب جهنم ؛ ولكن رحمة الله هي التي تجعل النار لا تمس المؤمنين ؛ لأنه سبحانه وتعالى يعفوا عن كثير ؛ ولأن للنار شهيقا، فهي تستنشق المكتوب عليهم العذاب، ونعلم أن الشهيق يتم بسرعة أكبر من الزفير. والشهيق في الحياة يكون للهواء.
والسبب ازدياد سرعة الشهيق عن الزفير أن الشهيق مهمة استدامة الحياة الأولى وهي إمداد الجسم بالهواء، والإنسان – كما نعلم – لا يصبر على الهواء إلا لأقل مدة ممكنة. ومن رحمة الله أنه لا يملك الهواء لأحد. وهذا الشهيق الذي يعطي الحياة في الأرض يوجد – أيضا – في الآخرة وهو منسوب إلى النار، إنها تشهق لتبتلع العصاة، وهي بذلك تؤدي مهمتها الموكولة لها. ونعرف أيضا أن النار تؤدي مهمتها بغيظ طبقا لما قاله الحق سبحانه :
﴿ تكاد تميز من الغيظ ﴾( من الآية ٨ سورة الملك ).
فهل تؤدي النار مهمتها وهي غير راضية عنها ؟ وهل تختلف النار عن كل كائنات الحق التي تؤدي مهمتها بسعادة وانسجام ؟ إن النار تميز من الغيظ لأن الكافر من هؤلاء لمن يعرف قيمة الإيمان، وللنار مشاعر مثل بقية المخلوقات. وللكون كله مشاعر ؛ فالكون – على سبيل المثال – قد فرح بميلاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فالأرض والسماء والنجوم والشجر وكل الكون فرحت بمقدم الرسول الكريم ؛ لأن كل هذه الكائنات مسخرة للإنسان وهي مسبحة لله وطائعة بطبيعتها، مثلما يأتي البشير ليهدي الإنسان إلى صراط مستقيم ليجعله طائعا، فهي تفرح بمقدام هذا البشير.
ونعرف أن المكان الذي يوجد به الإنسان، هذا المكان يفرح إن كان الإنسان فيه طائعا، وهذا المكان نفسه يحزن إن كان الإنسان عاصيا، ويضج المكان – أي مكان – بوجود أي عاص فيه. ونرى ذلك واضحا في قول الحق سبحانه وتعالى عن قوم فرعون :
﴿ كم تركوا من جنات وعيون ( ٢٥ ) وزروع ومقام كريم ( ٢٦ ) ونعمة كانوا فيها فاكهين ( ٢٧ ) كذلك وأورثناها قوما آخرين ( ٢٨ ) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ( ٢٩ ) ﴾( سورة الدخان ).
الأرض التي كان بها قوم فرعون كان لها مشاعر، والجنات والأنهار والعيون وكل النعم التي ينعم بها الإنسان لها مشعر وأحاسيس، وهي تغضب وتسخط وتضج بوجود الكافرين بنعمة الله فيها، ولذلك لا تبكي السماء الأرض على الخسف والتنكيل بهؤلاء العصاة الكافرين المشركين، بينما تبكي السماء والأرض إن فارقها مؤمن، ولنا في قول الإمام علي – كرم الله وجهه – إيضاح لهذا ؛ فقد قال : إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع في السماء، وموضع في الأرض. أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله الطيب، وأما موضعه في الأرض فهو موضع مصلاه.
وفي الحديث :( إذا مات أحدكم عرض عليه مقعد بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة )١.
إذن فموضع صعود عمل الإنسان يحزن ؛ لأن هناك فقدانا لعمل صالح يمر فيه، وموضع صلاة الإنسان يفقد سجود إنسان خشوعا لله، ولكل الكائنات المخلوقة لله مشاعر، وكل شيء في الكون يؤدي مهمته بقانون التسيير والتسخير لا قانون التخيير، الإنسان – فقط – هو الذي يحيا بقانون التخيير في بعض أحواله ؛ لأنه قادر على الطاعة، وقادر على المعصية. ولذلك فعندما نرى السجود لله في القرآن فإننا نسمع قول الحق :
﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ( ١٨ ) ﴾( سورة الحج ).
إذن فكل الكائنات تسجد له ماعدا كل أفراد الإنسان ؛ فكثير منه يسجد لله وكثير منه يحق عليه العذاب لأنه لا يطيع الحق. ومن يعص منهج الله غير مؤمن به يطرده الله من رحمته، ومن يهنه الله بذلك فليس له تكريم أبدا. وقد أجمع الكون على السجود لله، إلا الإنسان فمنه الصالح المنسجم بعمله مع خضوع الكون لله، ويفرح به الكون، ومنه من يغضب منه الكون لأنه يعصى الله.
إن اللغة العربية توضح لنا ذلك ؛ فالعرب يقولون : فلان نبت به الأرض من النبوة وهي الجفوة والبعد والإعراض.. أي أن الأرض تكره شخصا بعينه ؛ لأنه لا انسجام للأرض مع كائن عاص.
ويقول الحق عن الذين يصرف عنهم العذاب من فرط رحمته بعباده لأنهم أطاعوه وكانت معاصيهم تغلبهم في بعض الأحيان فيتوبون عنها :
﴿ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ( ١٦ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ونعلم أن هذا الفوز هو أرقى درجات الفوز ؛ ذلك أن الفوز درجات ؛ فالفوز الدنيا كالنجاح أو المال أو غير ذلك هو فوز معرض لأن يضيع. وهو عرضة لأن يترك الإنسان أو يتركه الإنسان، لكن فوز الآخرة هو الفوز الدائم الذي لا ينتهي.
وهذا هو الفارق بين نعم الدنيا ونعم الآخرة، والإنسان يتنعم في الدنيا على قدر تصوره للنعيم، فنجد الريفي – مثلا – يتصور النعيم أن تكون له مصطبة أمام داره يجلس عليها، وعدد من القلل التي تمتلئ بالماء النقي، فإذا ما انتقل هذا الريفي إلى المدينة فهو يتصور النعيم في منزل متسع فيه أثاث فاخر وأدوات كهربائية من ثلاجة وغير ذلك، إذن فإمكانات النعيم مختلفة على حسب تصور الإنسان، أما نعيم الآخرة فهو نعيم لا يفوته الإنسان ولا يفوت الإنسان ؛ لأنه نعيم من صنع الخالق الواسع العطاء... إن الجنة فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولذلك فالفوز بنعيم الآخرة هو الفوز المبين.
والحق سبحانه وتعالى هو المحيط بكل شيء علما واقتدرا :
﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ( ١٧ ) ﴾.
ويلفت الحق أصحاب النعم عندما يرون إنسان من حولهم وقد فقد نعمة ما، فساعة تسير في الشارع وترى إنسانا فقد ساقه فأنت تقول :( الحمد لله ) لأنك سليم الساقين. كأنك لا تدرك نعمة الله في بعض منك إلا إن رأيتها مفقودة في سواك. وهكذا نعلم أن من الآلام والآفات منبهات للنعم. وأيضا قد يصيب منغصات الحياة الإنسان ليعلم أنه لم يأخذ نعم الله كلها فيقول العبد لحظتها : يا مفرج الكروب يا رب، ولذلك تجد الإنسان يقول :( يا رب ) حينما تأتيه آفة في نفسه ويفزع إلى الله. وقد قالها الله عن الإنسان :
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعلمون ( ١٢ ) ﴾( سورة يونس ).
فالإنسان عندما يحس ضعفه إذا ما أصابه مكروه لا يمل دعاء الله، سواء أكان الإنسان مضطجعا أم قاعدا أم قائما، وعندما يكشف الحق عنه الضر قد ينصرف عن جانب الله، ويستأنف عصيان الله كأنه لم يدع الله إلى كشف الضر، وهذا هو سلوك المسرفين على أنفسهم بعصيان الله. والنفس أو الشيطان تزين للعاصي بعد انكشاف الضر أن يغوص أكثر وأكثر في آبار المعاصي وحمأة الرذيلة.
قد ينسب الإنسان كشف الضر لغير الله، فينسب انكشاف الضر إلى مهارة الطبيب الذي لجأ إليه، ناسيا أن مهارة الطبيب هي من نعم الله. أو ينسب أسباب خروجه من كربه إلى ما آتاه الله من علم أو مال، ناسيا أن الله هو واهب كل شيء، كما فعل قارون الذي ظن أن ماله قد جاءه من تعبه وكده وعمله ومهارته، ناسيا أن الحق هو مسبب كل الأسباب، ضرا أو نفعا، فسبحانه هو الذي يسبب الضر كما يسبب النفع.
ويلفت الضر الإنسان إلى نعم الحق سبحانه وتعالى في هذه الدنيا. وإذا ما رضي الإنسان وصبر فإن الله يرفع عنه الضر ؛ لأن الضر لا يستمر على الإنسان إلا إذا قابله بالسخط وعدم الرضا بقدر الله. ولا يرفع الحق قضاء في الخلق إلا أن يرضى خلق الله بما أنزل الله، والذي لا يقبل المصائب هو من تستمر معه المصائب، أما الذي يريد أن يرفع الله عنه القضاء فليقبل القضاء.
إن الحق سبحانه يعطينا نماذج على مثل هذا الأمر ؛ فها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يتلقى الأمر بذبح ابنه الوحيد، ويأتيه هذا الأمر بشكل قد يراه غير المؤمن بقضاء الله شديد القسوة، فقد كان على إبراهيم أن يذبح ابنه بنفسه، وهذا ارتقاء في الابتلاء. ولم يلتمس إبراهيم خليل الرحمن عذرا ليهرب من ابتلاء الله له، ولم يقل : إنها مجرد رؤيا وليست وحيا ولكنها حق، وقد جاءه الأمر بأهون تكليف وهو الرؤيا، وبأشق تكليف وهو ذبح الابن، ونرى عظمة النبوة في استقبال أوامر الحق. ويلهمه الله أن يشرك ابنه إسماعيل في استقبال الثواب بالرضا بالقضاء :
﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ١٠٢ ) ﴾( سورة الصافات ).
لقد بلغ إسماعيل عمر السعي في مطالب الحياة مع أبيه حين جاء الأمر في المنام لإبراهيم بأن يذبح ابنه، وامتلأ قلب إسماعيل بالرضا بقضاء الله ولم يشغل بالحق على أبيه. ولم يقاوم، ولم يدخل في معركة، بل قال :
﴿ يا أبت افعل ما تؤمر ﴾( من الآية ١٠٢ سورة الصافات ).
ولقد أخذ الاثنان أمر الله بقبول رضا ؛ لذلك يقول الحق عنهما معا :
﴿ فلما أسلما وتله للجبين ( ١٠٣ ) وناديناه أن يا إبراهيم ( ١٠٤ ) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ( ١٠٥ ) إن هذا لهو البلاء المبين ( ١٠٦ ) وفديناه بذبح عظيم ( ١٠٧ ) ﴾( سورة الصافات ).
لقد اشترك الاثنان في قبول قضاء الله، وأسلم كل منهما للأمر ؛ أسلم إبراهيم كفاعل، وأسلم إسماعيل كمنفعل، وعلم الله صدقهما في استقبال أمر الله، وهنا نادى الحق إبراهيم عليه السلام : لقد استجبت أنت وإسماعيل إلى القضاء، وحسبكما هذا الامتثال، لذلك يجيء إليك وإلى ابنك اللطف، وذلك برفع البلاء. وجاء الفداء بذبح عظيم القدر، لأنه ذبح جاء بأمر الله. ولم يكتف الحق بذبك ولكن بشر إبراهيم بميلاد ابن آخر :
﴿ وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين ( ١١٢ ) ﴾( سورة الصافات ).
لقد رفع الله عن إبراهيم القدر وأعطاه الخير وهو ولد آخر. إذن فنحن البشر نطيل على أنفسنا أمد القضاء بعدما قبولنا له : لكن لو سقط على الإنسان أمر بدون أن يكون له سبب فيه واستقبله الإنسان من مجريه وهو ربه بمقام الرضا، فإن الحق سبحانه وتعالى يرفع عنه القضاء. فإذا رأيت إنسانا طال أمد القضاء فاعلم أنه فاقد الرضا.
ونلحظ أن الحق هنا يقول :﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ﴾ الله سبحانه وتعالى يعلم أن أي عبد لا يتحمل أن يضره الحق ؛ فقوة الحق لا متناهية ولذلك يكون المس بالضر، وكذلك بالخير ؛ فالإنسان في الدنيا لا ينال كل الخير، إنما ينال مس الخير ؛ فكل الخير مدخر له في الآخرة. ونعلم أن خير الدنيا إما أن يزول عن الإنسان أو يزول عنه، أما كل الخير فهو في الآخرة.
ومهما ارتقى الإنسان في الابتكار والاختراع فلن يصل إلى كل الخير الذي يوجد في الآخرة، ذلك أن خبر الدنيا يحتاج إلى تحضير وجهد من البشر، أما الخير في الآخرة فهو على قدر المعطي الأعظم وهو الله سبحانه وتعالى. إذن فكل خير الدنيا هو مجرد مس خير ؛ لأن الخير الذي يناسب جمال كمال الله لا يزول ولا يحول ولا يتغير، وهو مدخر للآخرة. ولا كاشف لضر إلا الله ؛ فالمريض لا يشفى بمجرد الذهاب إلى الطبيب، لكن الطبيب يعالج بالمهارة الموهوبة له من الله، والذي يشفي هو الله.
﴿ وإذا مرضت فهو يشفين ( ٨٠ ) ﴾( سورة الشعراء ).
لأن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الداء، وخلق الدواء، وجعل الأطباء مجرد جسور من الداء إلى الدواء ثم إلى الشفاء، والله يوجد الأسباب ليسر ويفرح بها عباده، فيجعل المواهب كأسباب، وإلا فالأمر في الحقيقة بيده – سبحانه وتعالى – قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد : الهرم )١.
ونحن نرى أن الطبيب المتميز يعلن دائما أن الشفاء جاء معه، ولا به. ويعترف أن الله أكرمه بأن جعل الشفاء يأتي على ميعاد من علاجه. إذن فالحق هو كاشف الضر، وهو القدير على أن يمنحك ويمسك بالخير. وقدرته لا حدود لها.
﴿ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ( ١٨ ) ﴾.
وقد رتب سبحانه وتعالى الكون والخلق بأسباب ومسببات. وكل شيء موجود هو واسطة بين شيء وشيء، فالأرض واسطة لاستقبال النبات، والإنسان واسطة بين أبيه وابنه، ولنفهم جميعا أن الحق، فوق عباده، إنه غالب بقدرته، يدير الكون بحكمة وإحاطة علم، وهو خبير بكل ما خفي وعليم بكل ما ظهر. وهو القائل :
﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( ٦٥ ) ﴾( سورة الأنعام ).
سبحانه وتعالى له مطلق القدرة على أن يرسل العذاب من السماء أو من بطن الأرض، أو أن يجعل بين العباد العداء متناحرين ليدفع بعضهم بعضا حتى لا تفسد الأرض ﴿ ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾.
فإياك أن تظن أيها الإنسان أن الحق حين يملك بعض الخلق أسبابا أنهم مالكو الأسباب فعلا، لا، إن الحق سبحانه أراد بذلك ترتيب الأعمال في الكون. ولذلك ساعة نروى واحدا يظلم في الكون فإننا نجد ظالما آخر هو الذي يؤدب الظالم الأول. ولا يؤدب الحق الشرير على يد رجل طيبّ، إنما يؤدبه عن طريق شرير مثله :
﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ( ١٢٩ ) ﴾( سورة الأنعام ).
لأنه سبحانه وتعالى يجل المظلوم من أهل التقوى أن يكون له دور في تأديب الظالم، إنما ينتقم الله من الظالم بظالم مثله أو قوي منه. وهذا ما نراه على مدار التاريخ القريب والبعيد، فحين يتمكن العبد الصالح من الذين أساءوا إليه يقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل مكة حيث قال :( يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل بكم ؟ قالوا : خير، أخ كريم وابن أخ كريم، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء )١.
أما إذا أراد الله انتقام من شرير فهو يرسل عليه شريرا مثله يدق عنقه، أو يجدع أنفه، أو يذله حتى لا ينتشر ويستشري الفساد ؛ فسبحانه القاهر فوق عباده، وهو قهر بحكمة وبعلم وليس قهر استعلاء وقهر جبروت وسيطرة. وحتى نوضح ذلك قد يجري الله على أحد عباده قدرا بأن ينكسر ذراع ولده فيسوق الرجل ولده إلى طبيب غير مجرب ليقيم جبيرة لذراع الابن، وتلتئم العظام على ضوء هذه الجبيرة في غير مكانها، فيذهب الرجل بابنه إلى طبيب ماهر فيكسر يد الطفل مرة أخرى ليعيد وضع العظام في مكانها الصحيح.
إن هذا الكسر كان لحكمة وهي استواء العظام ووضعها الوضع السليم. ولا يغيظ عبد من العباد الخالق أبدا، ولكن الحق ينتصف للمغيظ. نعلم أن الإنسان مخير بين الإيمان والكفر، فإن كفر وعصى فليس له في الآخرة إلا العذاب، إلا أن الله يجرى عليه قدر المرض فلا يستطيع أن يتمرد عليه ؛ لأنه سبحانه قاهر فوق عباده بدليل أنه متحكم في أشياء لا خيار للعباد فيها. ومادام الإنسان منا محكوما بقوسين ولا رأي له في ميلاده أو موته فلماذا – إذن – التمرد بالعصيان على أوامر الله ؟ ولنعلم أن الحق هو القاهر فوق عباده بقهر الحكمة وسبحانه يضع لكل أمر المجال الذي يناسبه وهو خبير بمواطن الداءات، ويعالج عباده منها على وفق ما يراه.
﴿ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ( ١٩ ) ﴾.
لقد اختلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع القوم المناوئين له. والاختلاف يتطلب حكما وبينة. والشهود هم إحدى البينات، فما بالنا والشاهد هو الله ؟ ! إنه الشاهد والحكم والمنفذ. وشهادة الله لا تحايل فيها، وحكمه لا ظلم فيه، وإرادته لا تظلم عبدا مثقال ذرة، ولا شهادة – إذن – أكبر شهادة الحق لرسوله بأنه رسول من الله. ولو شاء الحق لجعلكم كلكم مؤمنين، لكنه أراد للإنسان الاختيار. وحنان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على البشر هو الذي جعله يتمنى إيمانهم، ولكن الحق يقول لرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾( سورة الشعراء ).
أي أن الحق يأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفق على نفسه وألا يقتلها بالحزن عليهم لعنادهم وعدم إيمانهم. ولو أراد الحق لجعلهم جميعا مؤمنين بآية منه ؛ فمهمة الرسول هي البلاغ فقط. ولو شاء الحق لقهر الخلق جميعا على الإيمان به كما سخر الكون ليخدم الإنسان وليسبح الكون بحمد الله. لكنه سبحانه ترك للخلق الاختيار حتى يأتي إيمانهم مثبتا صفة المحبوبية لله ؛ لأن إيمان المختار هو الذي يثبت تلك المحبوبية. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو نذير وبشير بهذا القرآن المنزل عليه بالوحي.
والنذارة تأتي هنا لأن المجال مجال شهادة ؛ لأن الشهادة إنما تكون على خلاف، فهو صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الإيمان، والمناوئون له يدعون إلى الكفر وإلى الشرك، وشهادة الله أكبر من كل شهادة أخر. لذلك يقرر الحق هنا بأن الرسول نذير بالقرآن. وهذا الخطاب موجه لتبليغ المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولمن وصله بعد ذلك أي شيء من القرآن، فكأنه قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصله البلاغ عنه. فقد قال – سبحانه – :( من بلغ ) أي لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من البشر جميعا.
ويوجه الحق على لسان رسوله سؤالا استنكاريا للمناوئين فيقول :﴿ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ﴾. إنه سؤال من سائل يثق أن من يسمع سؤاله لا بد أن ينفي وجود آلهة أخرى غير الله. إنه سؤال يستنبط الإقرار من سامعه. والمثال على هذا ما عرضه الحق على رسوله من أمر قد حدث في عام ميلاده فيقول :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( ١ ) ﴾( سورة الفيل ).
ونعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ما حدث في عام الفيل ؛ لأنه عام ميلاده، ولكن حين يخبره الله بذلك فمعنى هذا أنه بلاغ عن الله، والبلاغ عن الله يجعل الخبر القادم منه فوق الرؤية وأوثق وآكد منها. وهنا يأتي السؤال الاستنكاري : أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى }. وعندما أعجزهم هذا السؤال في بعض مراحل الدعوة قال بعضهم :
﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾( من الآية ٣ سورة الزمر ).
وكأنهم أخيرا يعترفون أن المتقرب إليه هو الله، ولكن الحق يحسم أمر الشرك فيقول على لسان رسول :﴿ قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ﴾ فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يشهد بأي آلهة غير الله، وألقى إليهم السؤال الاستنكاري لعلهم يديرون رءوسهم ليهتدوا إلى صحيح الإجابة التي يوجزها الحق في قوله للرسول :﴿ قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون ﴾.
إن الكلام هنا موجه إلى فئة من المناوئين لرسول الله من عبدة الأوثان، وهم بعض من الكافرين برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والبعض الآخر هم بعض من أهل الكتاب، هؤلاء الذين تغافلوا عن الكتب المنزلة إليهم، وغابت عنهم الخمائر الإيمانية التي كانت ترد العاصي عن معصيته، فانتشر الفساد في الكون. لذلك أرسل الحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لأن العاصي لم يجد من يرده، واختفت من المجتمع في ذلك الوقت النفس اللوامة، وسادت فيه النفس الأمارة بالسوء.
إن الحق سبحانه لم يترك أمر الرسول غائبا عن البشر، فقد كان الرسول في كل أمة ينبئ ويخبر عن الرسول الذي يليه حتى يستعد الناس لاستقبال النذير والبشير، ولذلك كانت كل الرسالات تتنبأ بالرسل القادمين حتى لا يظنوا أن مدعيا اقتحم عليهم قداسة دينهم، ولأن الإسلام جاء دينا عاما، فلم يأت الخبر فقط بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السابقة، ولكن جاءت أوصافه وسماته أيضا واضحة وبينه فيها.
إن الذين قرأوا هذه الأوصاف لو أخرجوا أنفسهم عن سلطتهم الزمنية لآمنوا على الفور برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ كما فعل ( عبد الله بن سلام ) رضي الله عنه حين قال : لقد عرفته حين رأيته وعرفته كابني، ومعرفتي لمحمد أشد. ونسى هؤلاء أنهم هم الذين نصروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أن يدروا ؛ فقد كانوا يستفتحون به على الأوس والخزرج، وقالوا للأوس والخزرج : قرب مجيء نبي منكم سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. وأسرع الأوس والخزرج للإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلين : لعل هذا هو النبي الذي توعدتنا به يهود، هيا نسبق إليه.
ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( ٢٠ ) ﴾.
إذن فرسول الله معلوم مقدما من أهل الكتاب كمعرفتهم لأبنائهم، ولكن بعضا منهم فضل السلطة الزمنية على الإيمان برسول الله فخسروا أنفسهم ؛ لأن الخسارة – كما نعرف – هي ضياع لرأس المال أو نقصانه. وهم خسروا أنفسهم لأن تلك النفوس كان يجب أن تحرص على مصلحة الأرواح التي جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاحها. إنهم بذلك قد منعوا الخير عن أنفسهم بتفضيل سلطان الدنيا الزائل على الإيمان بالله، وفي ذلك خيبة كبرى.
الله يعلمنا أن الإيمان إنما هو كسب للنفس، فإياك أيها المؤمن أن تظن أن قولك :( لا إله إلا الله ) هو سند لعرش الله. لا، إنها سند لك أنت ؛ لأنه لا إله إلا الله هو خلق الكون والخلق بصفات الكمال والقدرة والعلم والحكمة، واعتراف. الخلق بألوهية الله وحده لا تزيد من كمال الله ولكنها تفيد العباد الذين آمنوا فيحسنون استقبال الأمر بعمارة الكون، لتسير حركة الحياة في ضوء منهج الله فينسجموا مع الكون كله المسبح لله.
وحين يقول الحق :
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( ٢٠ ) ﴾( سورة الأنعام ).
فهو يخبر أهل مكة أن الصيحة الإيمانية التي صاح بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آذانهم لم تكن مفاجئة للكون، ولكنها صيحة بشر بها على لسان كل رسول، وإذا كان أهل مكة قد بعدت صلتهم بالرسل والأنبياء وكانوا على فترة من الرسل، فهم بجوارهم لأهل كتاب في المدينة يعلمون هذه الحقيقة التي جاء بها رسلهم مؤكدين للعهد الذي أخذه الله عليهم ؛ لأننا نعلم أن الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق واستعمرهم في الأرض أرادهم موهوبين من قدرته سبحانه قدرة، ومن غناه سبحانه غنى، ومن علمه الكامل علما، ومن حكمته المطلقة حكمة، ومن رحمته الكاملة رحمة، ومن قاهرية الله قهرا ؛ لأن الكون لا يمكن أن يستقيم إلا إن وجدت فيه هذه المتكاملات وإن كانت متناقضة ؛ لأن لكل صفة مجالها الذي تعمل فيه.
وأضرت هذا المثل – ولله المثل الأعلى – نجد الإنسان منا حين يرحم ولده دائما يفسد الولد وإن لم يقس عليه مرة فأبوته ناقصة، إذن، فلا يمكن أن يكون المهيمن على الخلق رحيما فقط، وإنما يجب أن يكون قاهرا أيضا ؛ لأن الموقف قد يتطلب القهر. ولا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يطبع خلقه على خلق واحد، ولكنه سبحانه يريد أن يجعلهم ينفعلون للموقف المختلفة ؛ فالموقف الذي يتطلب رحمة، يكونون فيه رحماء، والموقف الذي يتطلب قسوة وشدة يكونون فيه قساة، ولذلك يقول الحق في المؤمنين :
﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ﴾( من الآية ٢٩ سورة الفتح ).
إن الحق يحدثنا عن خلق المؤمنين. إنه سبحانه لم يطبعهم على الشدة ؛ لأن المواقف قد تتطلب رحمة، ولكن الشدة مطلوبة لموجهة أهل الباطل. ولم يطبعهم الحق على اللين، لكن اللين مطلوب فيما بينهم ؛ لأن كلا منهم يرجو رحمة الله وفضله ؛ ففي الموقف الذي يتطلب رحمة ؛ هم رحماء. وفي الموقف الذي يتطلب شدة هم أشداء، ولذلك يقول الحق سبحانه أيضا عن المؤمنين :
﴿ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ﴾( من الآية ٥٤ سورة المائدة )
ولم يجعل الحق المؤمن ذليلا على إطلاقه، ولا عزيزا على إطلاقه، ولكنه جعله ذليلا على أخيه المؤمن، لين الجانب رحب الأخلاق. وجعله عزيزا على الكافرين المتأبين على الله.
إذن، فسبحانه يريد من خلقه أن يكونوا على خلق الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عمار بن ياسر رضي الله عنه :( حسن الخلق خلق الله الأعظم )١ وروي :( تخلقوا بأخلاق الله ).
إن لله سبحانه وتعالى قدرة حكيمة، فخذوا أيها المؤمنون قدرته واستعملوها بحكمة، ولله علم فحاولوا أن تكونوا عالمين، ولله رحمة فحاولوا أن تكونوا رحماء، والله جبار فإذا تطلب الموقف منكم أن تكونوا جبارين فافعلوا، لأن سياسة الأرض وسياسة المجتمع قد لا تصلح إلا بهذا.
وما دام الحق قد أراد من الخلق أن يعمروا هذا الكون فلا بد أن يضمن لهم منهجا سليما يرتكز على ( افعل ) ولا ( تفعل )، فإن نحن أخذنا منهج الله فنحن نأخذ ما يمكن أن نسميه بالعرف الحاضر :( قانون الصيانة ) فلنفعل ما قال الله افعلوا، ولنترك ما قال الله في شأنه لا تفعلوا حتى تؤدي الآلة الإنسانية مهمتها كما يريد الله لها أن تكون.
إن الفساد إنما ينشأ من أنك أيها الإنسان تنقل الأعمال من نطاق ( افعل ) إلى نطاق ( لا تفعل )، والأعمال التي يجعلها الله في نطاق ( لا تفعل ) تجعلها أنت في نطاق ( افعل ). فإن طلب الله أن نقيم الصلاة ب ( افعل ) فكيف نجعلها في نطاق ( لا تفعل ) بعد الصلاة ؟، وإن طلب الله منا ألا نشرب الخمر فكيف نشربها إذن ؟.
إن الخلل الإيماني الذي يحدث في الكون إنما ينشأ من نقل متعلقات ( افعل ) إلى ( لا تفعل )، ومن نقل متعلقات ( لا تفعل ) إلى ( افعل )، أما ما لم يرد فيه ( افعل ) و ( لا فعل ) فقد ترك الله لاختيارك إباحة أن تفعله أو لا تفعله، لأن الكون لا يفسد بشيء منها.
وإذا نظرت إلى منهج الله في ( افعل ) و ( لا تفعل ) فأنت تجد أن الحق سبحانه لم يقض على حريتك ولم يقض على اختيارك، إنما ضبطك ضبطا محكما فيما ينشأ فيه فساد الكون، أما الذي لا ينشأ منه فساد فإن شئت فافعله وإن شئت فاتركه. وزود الحق كل البشر بهذا المنهج من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. وأخذ سبحانه على نفسه الوعد بعدم تعذيب أمة لم يبعث لها رسولا، ولذلك توالى الموكب الرسالي. لماذا ؟ لأن الغفلة تتمكن من الإنسان ؛ فقد يتناسى الإنسان مرة الشيء الذي يحد حركته ويتكرر التناسي إلى أن يصير نسيانا، فيشاء الحق أن يرسل رسولا لكل فترة لينبه إلى قانون صيانة الإنسان، إلى أن جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمن الله أمة محمد أن تكون هي المبلغة بمنهج الله إلى أن تقوم الساعة. ولذلك أخذ سبحانه من النبيين ميثاقا للبلاغ عن رسالة النبي الخاتم :
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرا قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( ٨١ ) ﴾( سورة آل عمران ).
إذن فقد أخذ الله العهد على كل نبي أن يبلغ قومه أن يؤمنوا برسالة الرسول الذي توافق دعوته دعوتهم، وأخذ الحق الإقرار من كل نبي على ذلك، وشهد الأنبياء على أنفسهم وشهد الله عليهم، وبلغوا ذلك إلى أقوامهم. إذن فنصرة النبي الخاتم موجودة في كل رسالة سابقة على الإسلام، وكان على كل رسول أن يعطي إيضاحا بذلك العهد لقومه، وأن يأخذ عليهم العهد بنصرة الرسول القادم إليهم، ويبلغهم أن من تمام الإيمان أن يؤيدوا ذلك الرسول عن هم عاصروه.
ويخصص الحق هنا أهل الكتاب الذين نزلت إليهم التوراة والإنجيل وهما أصحاب الديانتين العظمتين اللتين سبقتا الإسلام :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ أي أنهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة به، وبالإخبار عنه، وبالنعت لشكله وصورته، فإذا كان كفار قريش على فترة من الرسل فليسألوا أهل الكتاب. وقد سمع الأوس والخزرج من أهل الكتاب أن هناك نبيا قادما سيؤمنون به ويتبعونه ويقتلونه به العرب قتل عاد وإرم. وإذن فالصيحة الإيمانية على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مفاجئة للكون، وإن كتمها الذين كفروا من أهل الكتاب، هؤلاء الذين جاء فيهم قول الحق سبحانه :
﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنت الله على الكافرين ( ٨٩ ) ﴾( سورة البقرة ).
لقد انتابت الآفة التي تنكر هذا البلاغ عن الله بعضا من أهل الكتاب، فقد أخذوا، وهم المبلغون عن الله، والسلطة الزمنية وأوردوا فيها الحظ والجاه والنعيم، فمنهم القضاة وإليهم يلجأ الناس لمعرفة الحكم في الدماء، وكذلك يأخذون الصدقات. وألفوا حياة السيادة والنعيم. وها هي ذي دعوة جديدة جاءت لتسلب منهم هذه السيادة، وبالرغم من أنهم كانوا المبشرين بها من قبل، إلا أن الدعوة عندما جاءت تزلزلت بها سلطتهم الزمنية، ولذلك بدءوا العداء.
إذن فالآفة هي أخذ سلطة زمنية من باطن سلطة الله ثم يدعى أنها سلطة الله. وعندما ننظر إلى التاريخ الدياني في العالم نجد أن السلطة الزمنية في الأديان التي سبقت الإسلام هي التي أرهقت الكون ؛ لأن الحق سبحانه حينما خلق الكون طمر فيه أسرارا تعمل في خدمة الإنسان وإن لم يدر بها الإنسان. وطموحات الإنسان العلمية هي التي تجعله يهدي إلى هذه الأسرار ويكشف القوانين التي تعمل بها ؛ مثال ذلك قانون الجاذبية، وقانون السالب والموجب، كل هذه القوانين موجودة في الكون، تماما كما خلق الله الأرض كروية وكما جعل الشمس هي مصدر الحرارة والدفء والنور والإشراق.
ويأخذ العلماء من تلك المقدمات ليصلوا إلى اكتشاف قوانين هذه الأجرام وقوانين هذا الكون. وحين يصل العالم الذكي إلى اكتشاف قانون ما فإنه يقول : لقد اكتشفت كذا، وهذا تعبير فطري دقيق، ولا يقول أبدا : لقد ابتكرت كذا ؛ لأنه يعلم أن ما اكتشفه كان موجودا في الكون ولكن لا يعرفه. وعدم معرفة الإنسان بقانون موجود في الكون لا يمنع الفائدة من الوصول إلى الإنسان، إن كانت المعرفة بالقانون تزيد من إمكان الإفادة منه.
فالإنسان يتمتع بوجود الشمس قبل معرفة ما بها من طاقة، ولكن عندما تخصص العلماء في دراسة الشمس عرفوا أن الإنسان يمكن أن يستفيد بهذا الطاقة أكثر من فائدته التقليدية بها، ولذلك صارت هناك بعض المدن تنير شوارعها بالطاقة الشمسية، وصارت هناك بعض المباني تدفئ حجرتها بالطاقة الشمسية وتسخن المياه أيضا بهذه الطاقة. ولم يمنع الاكتشاف أن يستفيد الأمي أو البدوي في الصحراء من نور الشمس. وكذلك الكهرباء، والأدوات الكهربائية والمنزلية التي يمكن للجاهل الاستفادة منها، مثل استفادة الخبير بها، صحيح أن الأمي لا يعرف كيف تدور المصانع التي تنتج أجهزة التليفزيون ولكنه يستفيد برؤية التلفيزيون. والتليفزيون ليس إلا ترجمة مادية لمجموعة من القوانين العلمية اكتشفها الإنسان ووضعها موضع التطبيق لصناعة هذه الآلة التي يستفيد بها الإنسان.
ولكل سر ميلاد تماما كميلاد الإنسان. وإذا جاء ميعاد ميلاد السر ولم يكن هناك من يبحث عنه، فسبحانه يكشفه لأي بشر بالمصادفة، وكثيرا ما نسمع أن عالما كان يبحث في مجال ما ولكنه اكتشف سرا غير الذي كان يبحث عنه. ولذلك يقول الحق في آية الكرسي :
﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾( من الآية ٢٥٥ سورة البقرة )
فأنت أيها الإنسان لا تحيط علما بأسرار الكون إلا إذا أذن الله، وهناك
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآيتيه إنه لا يفلح الظالمون ( ٢١ ) ﴾.
إنهم افتروا على الله الكذب عندما فعلوا ذلك : نسوا حظا مما ذكروا به، وكتموا بعضا من الكتب المنزلة إليهم، وحرفوا الآيات المنزلة إليهم، وجاءوا بأقوال من عندهم ونسبوها إلى الله. ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عنهم :
﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( ٧٩ ) ﴾( سورة البقرة ).
إن الحق يتوعدهم بالعذاب لأنهم باعوا الدين لقاء ثمن قليل في الدنيا، وادعوا على الله الكذب فنسبوا إليه ما لم ينزله، ولذلك فالويل كل الويل لهم ؛ لأنهم انحطوا إلى أخس دركات الظلم وكذبوا الكذب المتعمد في كلية ملزمة وهي الإيمان بالله وبالكتب المنزلة والرسل.
والافتراء هو الكذب المتعمد بغرض نسبة شيء إلى الله لم يقله، وهم قد فعلوا ذلك، ولهذا لا يفلح الظالمون سواء ظلموا الناس بأخذ أموالهم أو الإساءة إليهم، أو ظلموا أنفسهم بالشرك بالله وهو أعظم الظلم ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾.
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( ٢٢ ) ﴾.
الحق سبحانه يذكرنا بيوم الحشر، ويوم يسأل الله الذين أشركوا وكذبوا وافتروا الكذب على الله : أين الذين عبدتموهم وأشركتموهم معي ؟ إن الله لن يترك الناس سدى، بل كل عمل يفعله الإنسان في الدنيا محصى عليه وسيسأل عنه يوم القيامة. سيسأل الله المشركين عن الذين عبدوهم من دون الله كذبا : أين هؤلاء الآلهة التي أشركها الكافرون في العبادة مع الله ؟ ولماذا لا يتقدمون لإنقاذ عبيدهم من العذاب، الذي يصليه الله لهم ؟ ! ويقرع سبحانه المشركين، ويحشرهم مع ما عبدوهم من دون الله من الأصنام والأوثان وفي ذلك قمة الإهانة لهم ولتلك الآلهة.
﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( ٢٣ ) ﴾.
ونعرف أن الفتنة هي الاختبار. وللفتنة وسائل متعددة ؛ فأنت تختبر الشيء لتعرف الرديء من الجيد، والحقيقي من المزيف، ونحن نختبر الذهب ونفتنه على النار وكذلك الفضة. وهكذا نرى أن الفتنة في ذاتها غير مذمومة، لكن المذموم والممدوح هو النتيجة التي نحصل عليها من الفتنة ؛ فالامتحانات التي نضعها لأبنائنا هي فتنة، ومن ينجح في هذا الامتحان يفرح ومن يرسب يحزن. إذن فالنتيجة هي التي يفرح بها الإنسان أو التي يحزن من أجلها الإنسان، وبذلك تكون الفتنة أمرا مطلوبا فيمن له اختيار. وأحيانا تطلق الفتنة على الشيء الذي يستولي على الإنسان بباطل.
إن الحق يحشر المشركين مع آلهتهم التي أشركوا بها ويسألهم عن هذه الآلهة فيقولون :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾. وهم في ظاهر الأمر يدافعون عن أنفسهم، وفي باطن الأمر يعرفون الحقيقة الكاملة وهي أن الملك كله لله، ففي اليوم الآخر لا شركاء لله ؛ ذلك أنه لا اختيار للإنسان في اليوم الآخر. ولكن عندما كان للإنسان اختيار في الدنيا فقد كان أمامه أن يؤمن أو يكفر. وإيمان الدنيا الناتج عن الاختيار هو الذي يقام عليه حساب اليوم الآخر، أما الإيمان الاضطرار في اليوم الآخر فلا جزاء عليه إلا جهنم لمن كفر أو شرك بالله في الدنيا. ولو أراد الله لنا جميعا إيمان الاضطرار في الدنيا لأرغمنا على طاعته مثلما فعل مع الملائكة ومع سائر خلقه.
لقد قهر الحق سبحانه كل أجناس الوجود ما عدا الإنسان، وكان القهر للأجناس لإثبات القدرة، ولكن التكريم للإنسان جاء بالاختيار ليذهب إلى الله بالمحبة.
والمشركون بالله يفاجئهم الحق يوم القيامة بأنه لا إله إلا هو، ويحاولون الكذب لمحاولة الإفلات من العقوبة فيقولون :﴿ ما كنا مشركين ﴾. وهم قد كذبوا بالله في الحياة فعلا ويريدون الكذب على الله في اليوم الآخر قولا، ولكن الله عليم بخفايا الصدور وما كان من السلوك في الحياة الدنيا، ويوضح لهم في الآخرة أعمالهم ويعاقبهم العقاب الأليم.
وحين يسألهم الحق :﴿ أين شركاؤكم ﴾ ؟ ففي هذا القول استفهام من الله، والاستفهام من العليم لا يقصد منه العلم، وإنما يقصد به الإقرار من المسئول. وفي حياتنا اليومية يمكننا أن نرى السؤال من التلميذ لأستاذه ؛ ليعلم التلميذ ما يجهل. ونرى السؤال يرد مرة بعد أخرى من الأستاذ لتلميذه لا ليعلم ما لم يعلم، ولكن ليقرر التلميذ بما يعلمه وما تعلمه من أستاذه. فإذا سأل الحق خلقه سؤالا، أيسألهم سبحانه ليعلم ؟ حاشى لله أن يكون الأمر كذلك. وإنما يسأل الحق عباده ليكون سؤال إقرار. والإقرار هنا فيه تبكيت أيضا ؛ لأنه سؤال لا جواب له، فمعاذ الله أن يوجد له شركاء. وعندما يقول الحق لهم :﴿ أين شركاؤكم ﴾ ؟ فمعنى ذلك هو الاستبعاد أن يوجد له سبحانه شركاء. وبذلك يوبخهم ويبكتهم الحق على أنهم أشركوا بالله مالا وجود له.
لقد أشركوا بالله في الدنيا لمجرد التخلص من موجبات الإيمان. وها هم أولاء في المشهد العظيم يعرفون قد كذبهم في الدنيا، فلا ملك لأحد إلا الله، ولا معبود سواه، فينطقون بما يشهدون :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾.
ولقائل أن يقول : ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن الله يقول في الحق مثل هؤلاء :
﴿ ويل يومئذ للمكذبين ( ٣٤ ) هذا يوم لا ينطقون ( ٣٥ ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( ٣٦ ) ﴾( سورة المرسلات ).
إنهم في يوم الهول الأكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا، وهم لا ينطقون بأي قول ينفعهم، ولا يأذن لهم الحق بأن يقدموا أعذارا أو اعتذارا. ونقول لمن يظن أن المكذبين لا ينطقون : إنهم بالفعل لا ينطقون قولا يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم، وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة، بل إن بعضا من هؤلاء المكذبين بالله واليوم الآخر يكون قد صنع شيئا استفادت به البشرية أو تطورت به حياة الناس، فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه، إن هؤلاء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم، ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الآخر لأنهم أشركوا بالله. ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات، ولذلك يقول الحق :
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( ٣٩ ) ﴾( سورة النور ).
وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو الشهرة، ولكنها أعمال لا تفيد في الآخرة. وأعمالهم كمثل البريق اللامع الذي يحدث نتيجة سقوط أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء، فيظنه العطشان ماء، وما إن يقترب منه حتى يجده غير نافع له، كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها لا تساوي شيئا يوم القيامة. والمشرك من هؤلاء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة. ولا يجد إلا الواحد الأحد القهار أمامه، لذلك يقول كل واحد منهم :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾. إن المشرك من هؤلاء ينكر شركه. وهذا الإنكار لون من الكذب.
إن المشركين يكذبون، ويقول سبحانه عنهم :
﴿ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ( ١٨ ) ﴾( سورة المجادلة ).
وحين يبعثهم الحق يوم القيامة يقسمون له أنهم كانوا مؤمنين كما كانوا يقسمون في الدنيا، لكن الله يصفهم بالكذب، لقد كان بإمكانهم أن يدلسوا على البشر بالحلف الكاذب في الدنيا، ولكن ماذا عن الله الذي لا يمكن أن يدلس عليه أحد.
وهكذا نرى أن فتنة هؤلاء هي فتنة كبرى :
﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( ٢٣ ) ﴾( سورة الأنعام )
﴿ انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢٤ ) ﴾.
ويلفت الحق نظر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بدقة إلى عملية سوف تحدث يوم القيامة، وساعة يخبر الله بأمر فلنصدق أنه صار واقعا وكأننا نراه أمامنا حقيقة لا جدال فيها. وسبحانه يقرر أنهم كذبوا على أنفسهم. ونعرف أن كل الأفعال تتجرد من زمانيتها حين تنسب إلى الله سبحانه وتعالى، فليس عند الله فعل ماض أو حاضر أو مستقبل.
والمثال على ذلك قوله الحق :
﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ( ١ ) ﴾( سورة النحل )
وليس لقائل أن يقول : كيف يقول الحق إن أمره قد أتى وذلك فعل ماض، ثم ينهى العباد عن استعجاله، والإنسان لا يتعجل إلا شيئا لم يحدث، ليس لقائل أن يقول ذلك، لأن المتكلم هو القوة الأعلى ولا شيء يعوق الحق أن يفعل ما يريد. أما نحن العباد فلا نجرؤ أن تقول على فعل سوف نفعله غدا إننا فعلناه، ذلك أن غدا قد لا يأتي أبدا، أو قد يأتي الغد ولا نستطيع أن نفعل شيئا مما وعدنا به، أو قد تتغير بنا الأسباب. وعلى فرض أن كل الظروف قد صارت ميسرة فأي قوة للعبد منا أن يفعل شيئا دون أن يشاء الله ؟. ونحن – المؤمنين – نعرف ذلك وعلينا أن نقول كما علمنا الله :
﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك إذا ( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله ﴾( من الآية ٢٣ وجزء من الآية ٢٤ سورة الكهف ).
وهكذا يضمن الإنسان منا أنه قد خرج من دائرة الكذب. وحينما يقول الله لرسوله :( انظر ) ويكون ذلك على أمر يأت زمان النظر فيه ؛ فرسول الله يصدق ربه وكأنه قد رأى هذا الأمر. إن الحق يصف هؤلاء الناس بأنهم :﴿ كذبوا على أنفسهم ﴾ أي أن كذبهم الذي سوف يحدث يوم القيامة هو أمر واقع بالفعل. وقد يكذب الإنسان لصالحه في الدنيا. لكن الكذب أمام الله يكون على حساب الإنسان لا له.
ويتابع الحق :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ ومعنى هذا أنهم يبحثون في اليوم الآخر عن الشركاء ولكنهم لا يقدرون على تحديد هؤلاء الشركاء لأنهم قالوا أمام الله :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ وغياب عنهم أمام الله هو ما يوضحه ويبينه قول الله :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ ف ( ضل ) هنا معناها ( غاب ) ألم يقولوا من قبل :
﴿ وقالوا أ إذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون ( ١٠ ) ﴾( سورة السجدة ).
أنهم كمنكرين للبعث يتساءلون باندهاش : أ إذا غابوا في الأرض واختلطوا بعناصرهم يمكن أن يبعثهم ربهم من جديد ؟ فهم لا يصدقون أن الذي أنشأهم أول مرة على أن يعيدهم مرة أخر. ونعرف أن كلمة ( ضل ) لها معان متعددة.
ولكن معناها هنا ( غاب )، وحين يسألهم الله : أين شركاؤكم ؟، ينكرون كذبا أنهم أشركوا، لقد ضل عنهم – أي غاب عنهم – هؤلاء الشركاء. والإنسان يعبد الإله الذي ينفعه يوم الحشر، وعندما يغيب الآلهة عن يوم الحشر فهذا ما يبرز ضلال تلك الآلهة وغيابها وقت الحاجة إليها، ولا يبقى إلا وجه الله الذي يحاسب من أشركوا به.
و( ضل ) يقابلها ( اهتدى )، و( ضل ) أي لم يذهب إلى السبيل الموصلة للغاية، و ( اهتدى ) أي ذهب إلى سبيل الموصلة إلى الغاية. ومن لا يعرف السبيل الموصلة إلى الغاية، يكون قد ضل أيضا ولكن هناك من يضل وهو يعلم السبيل الموصلة إلى الغاية وهذا هو الكفر. وعندما يتكلم الحق عن الذين كفروا يصفهم بأنهم ضلوا ضلالا بعيدا ؛ لأن الطريق إلى الهداية كان أمامهم ولم يسلكوه، وهذا هو ضلال القمة. وقد يكون الإنسان مؤمنا لكن مقومات الإيمان ضعيفة في نفسه فيعصى ربه.
ويقول الحق عن مثل هذا الإنسان :
﴿ ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ﴾( من الآية ٣٦ سورة الأحزاب )
إنه ضلال دون ضلال وكفر دون كفر القمة. لكن ماذا عن الذي يضل لأنه لا يعرف طريق الهدى ؟ إن ذلك هو ما يظهر لنا من قصة سيدنا موسى عليه السلام، فحين قال الحق لموسى وهارون عليهما السلام :
﴿ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ( ١٦ ) أن أرسل معنا بني إسرائيل ( ١٧ ) ﴾( سورة الشعراء )
أصدر الحق الأمر إلى موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون ليرسل معهما بني إسرائيل، فماذا عن موقف فرعون ؟. ماذا قال فرعون ؟.
﴿ قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ( ١٨ ) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ( ١٩ ) ﴾( سورة الشعراء ).
هنا يريد فرعون أن يمتن على موسى عليه السلام، ويذكره بأنه رباه في قصره إلى أن كبر ومع ذلك لم يراع موسى ذلك وقتل رجلا من قوم فرعون، وكان ذلك في نظر فرعون لونا من الجحود بنعمته، وها هو ذا يعتدي مرة أخرى على ألوهية فرعون بدعوته للإيمان بالإله الحق الذي لا يتخيله الفرعون، ويلتقط موسى الخطأ الجوهري في سلوكه في ذلك الوقت. إن الخطأ لم يكن الكفر بفرعون، ولكن الخطأ كان هو القتل فيقول :
﴿ قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ( ٢٠ ) ﴾( سور الشعراء )
وهكذا نعرف أن موسى لحظة قتله رجلا من عدوه لم يكن عنده طريق الهدى، بل كان ضلاله حاصلا من عدم معرفته أن هناك طريقا آخر إلى الهدى. ها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يخاطب رسول صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ ووجدك ضالا فهدى ( ٧ ) ﴾( سورة الضحى ) : أي لم يكن عندك يا رسول الله طريق واضح على الهدى قبل الرسالة، فليس معنى الضلال هنا الانحراف، ولكن معناه أنه قبل نزول الوحي لم يكن يعرف أي طريق يسلك. وقد يكون الضلال نسيانا، وما دام الإنسان قد نسى الحقيقة فهو ضال، والمثال قول الحق :
﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ﴾( من الآية ٢٨٢ سورة البقرة )
هنا يقرر الحق أن شهادة المرأة تحتاج إلى ضمان وذلك بتأكيدها بشهادة امرأة أخرى ؛ لأن المرأة بحكم تكوينها لا تستطيع أن تضع أنفها في كل تفاصيل ما تراه، بل هي تسمع سمعا سطحيا، ولذلك لا تكتمل الصورة عندها، وعندما تجتمع مع شهادة المرأة شهادة امرأة أخرى، فكل منهما تذكر الأخرى بتفاصيل قد تكون في منطقة النسيان ؛ لأن نفسية المرأة وطبيعة تكوينها مبنية على الصيانة والتحرز من أن توجد في مجتمع فيه شقاق.
وعندما يصف الحق هؤلاء المشركين في يوم القيامة فهو يقول :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون ويدعون أنهم شركاء لله، والمشركون هم المؤاخذون والمحاسبون على اتخاذ الشركاء، فقد يكون بعضهم قد اتخذ شريكا لله لا ذنب له في تلك المسألة، كاتخاذ بعضهم عيسى عليه السلام شريكا لله. وعيسى منزه عن أن يشرك بالله أو يشرك نفسه في الألوهية. والحق قد قال :
﴿ وإذا قال يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ( ١١٦ ) ﴾( سورة المائدة )
بل الأصنام نفسها التي اتخذها المشركون أربابا تقول : عبدونا ونطحن أعبد لله من القائمين بالأسحار.
إذن فالخطأ يكون ممن أشركوا بالله لا من الأحجار العابدة لله المسبحة له لأنها مسخرة وميسرة لما خلقت له. لقد تخيل أحد الشعراء حوارا دار بين غار ثور وغار حراء، ويقول غار ثور :
كم حسدنا حراء حين ثوى الرو | ح أمينا يغزوك بالأنوار |
فحراء وثور صارا سواء *** بهما أشفع لدولة الأحجار
عبدونا ونحن أعبد لله *** من القائمين بالأسحار
تخذوا صمتنا علينا دليلا *** فغدونا لهم وقود النار
قد تجنوا جهلا كما قد تجن *** وه على ابن مريم والحواري
للمغالي جزاؤه والمغالى *** فيه تنجيه رحمة الغفار
إذن، فها هي ذي الحجارة تقول : إنها بريئة من الشرك وهي أعبد لله من القائمين بالأسحار، وصمت الحجارة الظاهر اتخذه البعض دليلا على أن الحجارة رضيت بأن يعبدوها، لكن الحجارة تصير هي أحجار جهنم المعدة لمن كفر بالله، وكان التجني من العباد على الأحجار مثل التجني على عيسى ابن مريم. الذين غالوا في عبادة الأحجار أو البشر لهم عقاب، أما الأحجار والبشر الذين لا ذنب لهم في ذلك فهم طامعون في مغفرة الله ورحمته.
إذن فالضلال هنا يكون ضلال الذين اتخذوا شريكا لله. ولكن الشريك المتخذ لا يقال له : ضل إلا على معنى أنه غاب عنهم في يوم كان أملهم أن يكون معهم ليحميهم من عذاب الله.
﴿ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ( ٢٥ ) ﴾.
إن من هؤلاء من يستمع إلى القرآن لا بهدف التفهم والهداية، ولكن بهدف تلمس أي سبيل للطعن في القرآن، فكأن قلوبهم مغلقة عن القدرة على الفهم وحسن الاستنباط وصولا إلى الهداية، وهم يجادلون بهدف تأكيد كفرهم لا بنية صافية لاستبانة آفاق آيات الحق والوصول إلى الطريق القويم.
ونعلم أن السورة كلها جاءت لتواجه قضية الأصنام والوثنية والشرك بالله، ونعلم أن المعجزة التي جاءت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي القرآن، وهو معجزة كلامية، تختلف عن المعجزات المرئية التي شاهدها المعاصرون لموسى عليه السلام :
كشق البحر بالعصا أو رؤية العصا وهي تصير حية تلقف كل ما ألقاه السحرة، أو معجزة عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص، فهذه كلها معجزات مرئية ومحددة بوقت، أما المعجزة رسول الله فهي معجزة مسموعة ودائمة.
إن السمع هو أول أدوات الإدراك للنفس البشرية، إنه أول آلة إدراك تنبه الإنسان، إنه آلة الإدراك الوحيدة التي تستصحب وقت النوم وتؤدى مهمتها ؛ لن تصميمها يضم إمكانات مواصلة مهمتها وقت النوم. ونعلم أن الحق حينما أراد أن يقيم أهل الكهف مدة ثلاثمائة وتسع سنين ضرب على آذانهم حتى يكون نومهم سباتا عميقا، فهم في كهف في جبل، والجبل في الصحارى تهب عليها الرياح والزوابع والأعاصير، فلو أن آذانهم على طبيعتها لما استراحوا في النوم الذي أراده الله لهم، ولذلك ضرب الله على آذانهم وقال سبحانه :
﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ( ١١ ) ﴾( سورة الكهف ).
ومعجزة رسول الله – إذن – جاءت سمعية وأيضا يمكن قراءتها. وحين يتلقى الإنسان بلاغا فهو يتلقاه بسمعه، ويستطيع من بعد ذلك أن يقرأ هذا البلاغ ويتفقه فيه، ولا أحد يعرف القراءة إلا إذا سمع أصوات الحروف أولا ثم رآها من بعد ذلك، لقد تميزت معجزته صلى الله عليه وآله وسلم بسيد الأدلة في وسائل الإدراك الإنساني، وهو السمع، والحق يقول :﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾.
إن هناك فارقا بين ( يسمع ) و ( يستمع )، فالذي يسمع هو الذي يسمع عرضا، أما الذي ( يستمع ) فهو الذي يسمع عمدا. والسامع دون عمد ليس له خيارا ألا يسمع، إلا إذا سد أذنيه. أم الذي يستمع فهو الذي يقصد السمع. وهم كانوا يستمعون للقرآن لا بغرض اكتشاف آفاق الهداية ولكن بغرض الإصرار على الكفر وذلك بقصد تصيد المطاعن على القرآن.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ﴾ و ( الأكنة ) جمع ( كنان ) وهي الغطاء أو الغلاف. ويتابع الحق :﴿ وفي آذانهم وقرا ﴾ أي جعلنا في آذانهم صمما، كأنهم باختيارهم الكفر قد منعهم الله أن يفهموا القرآن، ونعلم أن جميع المعاصرين لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم قد سمعوا لرسول الله ومنهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر. ونعرف أن لكل فعل مستقبلا. ويمكن للمستقبل أن يؤمن وبذلك يكون الفعل قد أتى ثمرته، وقد يكون المستقبل مصرا على موقفه السابق فلا يؤمن، وهنا يكون الفعل لم يؤت ثمرته، والفاعل واحد، لكن القابل مختلف. وكان بعض الكافرين يسمعون القرآن ثم يخرجون دون إيمان :
﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوائهم ( ١٦ ) ﴾( سورة محمد ).
إنهم ككفار يستمعون للقرآن، ثم ينصرفون ليقولوا في استهزاء للمؤمنين الذين علموا وآمنوا : أي كلام هذا الذي يقوله محمد ؟ هؤلاء المستهزئون هم الذين ختم الله على قلوبهم بالكفر، وانصرفوا عن الهداية إلى الضلال. والمتكلم بكلام الله هو رسول الله مبلغا عن الله، والسامع مختلف ؛ فهناك سامع مؤمن يتأثر بما يسمع، وهناك سامع كافر لا تستطيع أذنه أن تنقل الوعي والإدراك بما سمع. ولكن القرآن للذين آمنوا هذى وشفاء، أما الذين لا يؤمنون به فآذانهم تصم عن الفهم وأعماقهم بلا بصيرة فلذلك لا يفهمون عن الله، وتجد نفس المؤمن تستشرف لأن تعلم ماذا في القرآن. أما الذي يريد أن يكون جبارا في الأرض فهو لا يريد أن يلزم نفسه بالمنهج.
وحتى نعرف الفارق بين هذين اللونين من البشر، نجد المؤمن ينظر إلى الكون ويتأمله فيدرك أن له صانعا حكيما، أما الكافر فبصيرته في عماء عن رؤية ذلك. وحين يستمع المؤمن إلى بلاغ من خالق الكون فهو يرهق السمع، أما الكافر فهو ينصرف عن ذلك.
وكان صناديد قريش أمثال أبي جهل وأبي سفيان، والنضر بن الحارث، والوليد ابن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وحرب بن أمية، كل هؤلاء من صناديد قريش يجتمعون ويسأل الواحد منهم النضر قائلا : يا نضر ما حكاية الكلام الذي يقوله محمد ؟
وكان النضر رواية للقصص التي يجمعها من أنحاء البلاد، فهو قد سافر إلى بلاد فارس والروم وجاب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، فقال والله ما أدرى ما يقول محمد إلا أنه يقول أساطير الأولين.
ويتجادل النضر وأبو سفيان وأبو جهل رسول الله، وهذا الجدال دليل عدم فهم لما جاء من آيات القرآن. ولم يجعل الله الوقر على آذانهم قهرا عنهم، بل بسبب كفرهم أولا، فطبع الله على قلوبهم بكفرهم، واستقر مرض الكفر في قلوبهم وفضلوه على الإيمان فزادهم الله مرضا، وقال فيهم الحق سبحانه :
﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾( من والآية ٢٥ سورة الأنعام ).
والأساطير هي جمع أسطورة، والأسطورة شيء يسطر ليتحدث به من العجائب والأحداث الوهمية. وكأن الحق سبحانه وتعالى يكشفهم أمام أنفسهم وهم يحاولون أن يجدوا ثغرة في القرآن فلا يجدون. وقال الله عنهم قولا فصلا :
﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾( سورة الزخرف ).
فهم يعلمون عظمة القرآن فكيف يقولون إنه أساطير الأولين ؟ لقد كانوا من المعجبين بعظمة أسلوب القرآن الكريم فهم أمة بلاغة، ولكنهم يعلمون مطلوبات القرآن صعبة على أنفسهم. كما أنهم أرادوا أن يظلوا في السيادة والجبروت والقهر للغير، والقرآن إنما جاء ليساوي بين البشر جميعا أمام الحق الواحد الأحد.
لقد جاءت حوادث قسرية بإرادة الله لتكون سببا للإيمان، مثلما حدث مع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عندما علم أن أخته قد أسلمت فذهب إليها وضربها حتى أسال منها الدم. وإسالة الدم حركت فيه عاطفة الأخوة فأزالت صلف العناد، فأراد أن يقرأ الصحيفة التي بها بعض من آيات القرآن، وتلفى الأمر من أخته بأن يتطهر فتطهر وجلس يستمع، وبزوال صلفه وعناده وبتطهره صار ذهنه مستعدا لفهم ما جاء بالقرآن، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلن إيمانه بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبرسالته الخاتمة.
﴿ وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ( ٢٦ ) ﴾.
والكافر من هؤلاء إنما ينأى عن مطلوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يريد أن يهتدي، ويمعن في طغيانه فينهى غيره عن الإيمان، فكأنه ارتكب جريمتين : جريمة كفره، وجريمة نهي غيره عن الإيمان.
ولقد كانت قريش على ثقة من أن الذي يسمع القرآن يهتدي به، لذلك أوصى بعضهم بعضا ألا يسمعوا القرآن، وإن سمعوه فعليهم أن يحرفوا فيه أو أن يصنعوا ضجيجا يحول بين السامع للقرآن وتدبره.
{ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( ٢٦ )( سورة فصلت ).
إنهم واثقون من أن القرآن يقهرهم بالحجة ويفحمهم بالبينات، وأنهم لو استمعوا إليه لوجدوا فيه حلاوة وطلاوة تستل من قلوبهم الجحود والنكران. وكأنهم بذلك يشهدون أن للقرآن أثرا في الفطرة الطبيعية للإنسان، وهم أصحاب الملكة في البلاغة العربية. ومع ذلك ظل الكافرون على عنادهم بالرغم من عشقهم للأسلوب والبيان والأداء. ولم يكتفوا بضلال أنفسهم، بل أرادوا إضلال غيرهم، فكأنهم يحملون بذلك أوزارهم وأوزار من يضلونهم، ولم يؤثر ذلك على مجرى الدعوة ولا على البلاغ الإيماني من محمد عليه الصلاة والسلام ؛ ذلك أن الحق ينصره على الرغم من كل هذا ؛ فهو سبحانه وتعالى القائل :
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾( سورة الصافات ).
وحين يقول الحق سبحانه :
﴿ وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ( ٢٦ ) ﴾( سورة الأنعام ).
نعرف أن المقصود بذلك القول هم المعارضون لدعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عارضوها لأنها ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو، وجبروت، واستخدام للضعفاء. وذلك ما جعلهم يقفون من الدعوة موقف النكران لها والكفران بها.
وماداموا قد وقفوا من الدعوة هذا الموقف، فلم يكن من حظهم الإيمان، ولأنهم نأوا وبعدوا عن رسول الله صلة وخسروا، أما غيرهم فلو ينأ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل إنه أوى إلى الله فآواه الله.
عن هؤلاء الجاحدين المنكرين لدعوة رسول الله وقفوا أمام دعوته وصدوا الناس عنها ونهوهم عن إتباعها ؛ لأن هذه الدعوة ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو وجبروت استخدام الضعفاء وتسخيرهم في خدمتهم وبسط سلطانهم عليهم. هذا – أولا – هو الذي دفعهم إلى منع غيرهم ونهيهم عن اتباع الإسلام، ثم هم – ثانيا – ينأون ويبتعدون عن اتباع الرسول، - إذن – فمن مصلحتهم – أولا – أن ينهوا غيرهم قبل أن ينأوا هم ؛ لأنه لو آمن الناس برسول الله وبقوا هم وحدهم على الكفر أيستفيدون من هذه العملية ؟ لا يستفيدون – إذن – فحرصهم – أولا – كان على ألا يؤمن أحد برسول الله لتبقى لهم سلطتهم.
وجاء الأداء القرآني معبرا عن أدق تفاصيل هذه الحالة فقال :﴿ هم ينهون وينأون عنه ﴾ فالبداية كانت نهي الآخرين عن الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك ابتعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصار حظهم أن يظلوا على كفرهم فكان الخسران من نصيبهم، بينما آمن غيرهم من الناس.
وهكذا نرى أن الأداء القرآني جاء معبرا دائما عن الحالة النفسية أصدق تعبير، فقول الحق :﴿ وهم ينهون عنه ﴾ قول منطقي يعبر عن موقف المعارضين لرسول الله أما قوله الحق :﴿ وينأون عنه ﴾ فهذا تصوير لما فعلوه في أنفسهم بعد أن منعوا غيرهم من اتباع الدعوة المحمدية والرسالة الخاتمة. فهم بذلك ارتكبوا ذنبين : الأول : إضلال الغير، والثاني : ضلال نفوسهم. وبذلك ينطبق عليهم قول الحق سبحانه :
﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم ﴾( من الآية٢٥ سورة النحل ).
ولا يقولن أحد : إن هذه الآية تناقض قول الحق سبحانه :
﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾( من الآية ١٥ سورة الإسراء )
ذلك لأن الوزرين : وزرهم، ووزر إضلالهم لغيرهم من فعلهم.
ويتابع الحق :﴿ إن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ ونرى أن الذي يقف أمام دعوة الحق والخير لينكرها ويبطلها ويعارضها ويحاربها إنما يقصد من ذلك خير نفسه وكسب الدنيا وأخذها لجانبه، ولكنهم أيضا لن يصلوا إلى ذلك، لماذا ؟.
لن الله غالب على أمره :
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾( سورة الصافات )
والحق سبحانه وتعالى لا يهزم جنده أبدا، ولا بد أن يهلك أعداء دعوته بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله فهم في الحقيقة هم الذين يهلكون أنفسهم بأنفسهم. وسيظل أمر الدعوة الإيمانية الإسلامية في صعود. وسيرون أرض الكفر تنتقص حولهم يوما بعد يوم. ولذلك يقول الحق في آية أخرى :
﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ﴾( من الآية ٤١ سورة الرعد )
أي أن أرض الكفر تنقص وتنقص والله يحكم لا معقب لحكمه، لذلك يشرح القرآن في آخر ترتيبه النزولي هذه القضية شرحا وافيا. ويعلمنا أن نقطع كل علاقة لنا مع الكافرين، فيقول سبحانه :
﴿ قل يا أيها الكافرون ( ١ ) لا أعبد ما تعبدون ( ٢ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٣ ) ولا أنا عابد ما عبدتم( ٤ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٥ ) ﴾ ( سورة الكافرون )
وهكذا نرى أن قطع العلاقات أمر مطلوب بين فريقين : فريق يرى أنه على حق، وفريق ثان أنه على باطل، وقد يكون قطع العلاقات أمرا موقوتا. وقد تضغط الظروف والأحداث إلى أن نعيد العلاقات الدنيوية ثانية، ولكن قطع العلاقات لا بد أن يكون مؤيدا في شأن العقيدة ولا مداهنة في هذا، ولذلك قالها الحق مرتين :
﴿ لا أعبد ما تعبدون ( ٢ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٣ ) ولا أنا عابد ما عبدتم( ٤ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٥ ) ﴾ ( سورة الكافرون ).
فالمؤمن يرى الحاضر والمستقبل. ويعلم استحالة أن يعبد ما يعبده الكافرون، واستحالة أن يعبد الكافرون ما يعبد.
وقد يقول قائل : إن القرآن في ترتيبه النزولي لا بد ألا يتعارض مع واقعه، ولكننا نرى في قوله تعالى :﴿ لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ وكررها مرتين، إنه بذلك يكون قد أغلق الباب أمام الكافرين فلا يؤمنون مع أن بعضهم قد دخل في دين الله. نقول : نعم إنه لا يتعارض ؛ لأن الحق لم يغلق الباب أمام الكافرين الذين أراد الله أن يؤمنوا، بدليل أنه قال جل علا :
﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ( ١ ) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ( ٢ ) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ( ٣ ) ﴾( سورة النصر ).
إذن فالمسألة لن تحمد عند ذلك ؛ فمعسكر الإيمان سيتوسع، وسيواجه معسكر الكافرين وسيدخل الناس في دين الله أفواجا. ولكن هناك من قضى الله عليهم ألا يؤمنوا ليظلوا على كفرهم ويدخلوا النار، فقال سبحانه من بعد ذلك :
﴿ تبت يد أبي لهب وتب ( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب ( ٢ ) سيصلى نارا ذات لهب ( ٣ ) وامرأته حمالة الحطب ( ٤ ) في جيدها حبل من مسد ( ٥ ) ﴾( سورة المسد )
إذن فأبو لهب ومن على شاكلته سيدخل النار ولن يدخل في دين الله أبدا. ويجيء قول الحق :
﴿ وأريت الناس يدخلون في دين الله أفواجا( ٢ ) ﴾ ( سورة النصر )
هذا القول يفتح باب الأمل، ونرى دخول عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل إلى الإسلام. ومجيء سورة المسد من بعد سورة النصر في الترتيب المصحفي كما أراد الله، يعلمنا أن هناك أناسا لن يدخلوا الجنة لأنهم مثل أبي لهب وزوجه.
وتأتي من بعدها سورة الإخلاص :
﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) الله الصمد ( ٢ ) لم يلد ولم يولد ( ٣ ) ولم يكن له كفوا أحد ( ٤ ) ﴾( سورة الإخلاص ).
إنه لا إله مع الله ينقض ما حكم به الله، ولن يعقب أحد على حكم الله. إذن فمن كفر وأشرك بالله يكون من الذين خسروا أنفسهم وأهلكوها وما يشعرون.
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( ٢٧ ) ﴾.
عندما ننظر إلى قول الحق :﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار ﴾، هنا لا نجد جوابا، مثل ما تجده في قولك : لو رأيت فلانا لرحبت به أو لو رأيت فلانا لعاقبته. إن في كل من هاتين الجملتين جوابا، لكن في هذا القول الكريم لا نجد جوابا، وهذا من عظمة الأداء القرآني ؛ فهناك أحداث لا تقوى العبارات على أدائها، ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى مذاهبه التي يراها.
وفي حياتنا نجد مجرما في بلد من البلاد يستشري فساده وإجرامه في سكانها تقتيلا وتعذيبا وسرقة واعتداءات، ولا أحد يقدر عليه أبدا، ثم يمكن الله لرجال الأمن أن يقبضوا عليه، فنرى هذا القاتل المفسد يتحول من بعد الجبروت إلى جبان رعديد يكاد يقبل يد الشرطي حتى لا يضع القيود في يديه. ويرى إنسان ذلك المشهد فيصفه للآخرين قائلا : آه لو رأيتم لحظة قبضت الشرطة على هذا المجرم، وهذه العبارة تؤدي كل معاني الذلة التي يتخيلها السامع، إذن فحذف الجواب دائما تربيب لفائدة الجواب، ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب. لأن المشاهد لو شاء لحكى ما حدث بالتفصيل لحظة القبض على المجرم وبذلك يكون قد حدد الذلة والمهانة في إطار ما رأى هو، ويحجب بذلك تخيل وتصور السامعين.
أما اكتفاء المشاهد بقوله : آه لو رأيتم لحظة قبض الشرطي على هذا المجرم.. فهذا القول يعمم ما يرى حتى يتصور كل سامع من صور الإذلال ما يناسب قدرة خياله على التصور. وهكذا أراد القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق ( لو ) بلا جواب حين قال :
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( ٢٧ ) ﴾( سورة الأنعام ).
وقد أراد البعض أن يتصيد لأساليب القرآن، منهم من قال : كيف يقولون إن القرآن عالي البيان، فصيح الأسلوب، معجزة الأداء، وهو يقول ما يقول عن شجرة الزقوم ؟
إن القرآن الكريم يقول عن هذه الشجرة :
﴿ أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم ( ٦٢ ) إنا جعلناها فتنة للظالمين ( ٦٣ ) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ( ٦٤ ) طلعها كأنه رءوس الشياطين ( ٦٥ ) ﴾( سورة الصافات ).
إن كل شجرة تحتاج إلى ماء وهواء، وفيها حياة تظهر باخضرار الأوراق، فكيف تخرج هذه الشجرة من النار، أليس في ذلك شذوذ ؟ ثم تتمادى الصورة... صورة الشجرة، فيصف الحق ثمارها بقول الحق :
﴿ طلعها كأنه رءوس الشياطين ( ٦٥ ) فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ( ٦٦ ) ﴾( سورة الصافات ).
نحن لم نر شجرة الزقوم، ولم نرى رأس الشيطان. ويسخر الذين يتصيدون للقرآن في أقوالهم : بما أن أحدا من البشر لم يشهد رأس الشيطان، وكذلك شجرة الزقوم، فكيف يشبه الله المجهول بمجهول ؟ وتساءلوا بطنطنة : ماذا يستفيد السامع من تشبيه مجهول بمجهول ؟ ونقول ردا عليهم : إن غباء قلوبهم وفقدان طبعكم لملكة اللغة العربية هو الذي يجعلهم لا تفهمون ما في هذا القول من بلاغة.
وحين نقرب المثل نقول : هب أن إنسان أقام مسابقة بين رسامي ( الكاريكاتير ) في العالم ليرسم كل منهم صورة الشيطان، ويوم تحديد الفائز ستوجد أكثر من صورة للشيطان، وستفوز أكثر الصور بشاعة، ذلك أن الفوز هنا ليس في الجمال، ولكن الفوز هنا في مهارة تصوير القبح. وهكذا تتعدد أمامنا صورة القبح، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وقد أراد إطلاق الخيال لتصور شجرة الزقوم، وكذلك تصور رأس الشيطان ؟ أراد الحق بهذا الأسلوب البليغ إشاعة الفائدة من إظهار بشاعة صورة الشجرة التي يأكل منها أهل الكفر.
وكذلك هنا قوله الحق :﴿ ولو ترى وقفوا على النار ﴾ والذي يحدث لهؤلاء الوقوف على النار لا يأتي خبره هنا، بل يكتفي الحق بأن يعبر لنا عن أننا نراهم في مثل هذا الموقف ؛ لأن اليوم الآخر هو يوم الجزاء ؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار. والجنة – كما نعلم من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ونعلم أن رؤية العين محدودة، ورقعة السمع أكثر اتساعا، ذلك أن الأذن تسمع ما تراه أنت وما رآه غيرك، لكن عينيك لا تريان إلا ما رأيته أنت بمفردك، ولا يكتفي الحق بذلك بل يخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن في الجنة ما لا يخطر على قلب بشر، أي أن في الجنة أشياء لا تستطيع اللغة أن تعبر عنها ؛ لأن اللغة تعبر عن متصورات الناس في الأشياء. والمعنى يوجد أولا ثم يوجد اللفظ المعبر عنه.
وهكذا نعلم أن ما في الجنة من نعيم لا توجد ألفاظ تؤدي كل ما تحمله للمؤمن من معان، وكذلك نعلم أيضا أن في النار عذابا لم توضع له ألفاظ لتعبر عنه. ولو أن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار ﴾ لرأينا أمرا مفزعا مخيفا مذلا إلى آخر تلك الألفاظ الدالة على عمق العذاب لما أعطى ذلك الأثر نفسه الذي جاء به حذف الجواب.
وعندما نقرأ ( وقفوا ) نعرف أن فيه بناء وكيانا موجودا، وأن هناك من أوقفهم على النار، وهم كانوا مكذبين في الدنيا بالنار، ثم وجدوا أنفسهم يوم القيامة ضمن من وقفهم الله على النار ليروا العذاب الذي ينتظرهم، ويطلعوا على النار اطلاع الواقف على الشيء، كذلك يوقفهم الحق على النار التي أنكروها في الدنيا ؛ فقد جاءهم الخبر في الدنيا، فمن صدق وعلم أن من أخبره صادق، فذلك علم يقين، وإن تجاوز الإنسان مرحلة العلم ورأى صورة محسة للخبر، فهذا عين يقين. والمؤمن بإخبار ربه وصل إلى الأشياء بعلم اليقين من الله، لأنه يصدق ربه، ولذلك فالإمام علي – كرم الله وجهه – يقول :( لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا ) ؛ لأنه مصدق بلاغي به.
لكن ماذا عن المكذبين ؟ إن الإنسان يرى علم اليقين في اليوم الآخر وهو عين يقين، ويشترك في ذلك المؤمن والكافر. ولكن الكافر يرى النار عين اليقين ويدخلها ليحترق بها وهذا هو ( حق اليقين ).
هكذا نعلم أن النار ( عين اليقين ) يراها المؤمن والكافر، والنار ك ( حق اليقين ) يعاينها ويعذب بها الكافر فقط، أما المؤمن في الجنة فيحس ( حق اليقين ) لأنه يعيش ويسعد بنعيمها. ويصور سبحانه ذلك في قوله :
﴿ كلا لو تعلمون علم اليقين ( ٥ ) لترون الجحيم ( ٦ ) ثم لترون عين اليقين ( ٧ ) ﴾( سورة التكاثر ).
وجاء حق اليقين في قوله تعالى :
﴿ فأما إن كان من المقربين ( ٨٨ ) فروح وريحان وجنات نعيم ( ٨٩ ) وأما إن كان من أصحاب اليمين ( ٩٠ ) فسلام لك من أصحاب اليمين ( ٩١ ) وأما إن كان من المكذبين الضالين ( ٩٢ ) فنزل من حميم ( ٩٣ ) وتصلية جحيم ( ٩٤ ) إن هذا لهو حق اليقين ( ٩٥ ) ﴾ ( سورة الواقعة )
وماذا يصنعون وهم المكذبون عندما يرون النار عين اليقين ؟ لابد أنهم يخافون أن يعانوا منها عندما تصبح حق اليقين، لذلك يقولون :
﴿ يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ﴾( من الآية ٢٧ سورة الأنعام )
إنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا الإيمان. والتمني في بعض صوره هو طلب المستحيل غير ممكن للإشعار بأن طالبه يحب أن يكون، كقوله القائل :
ألا ليت الشباب يعود يوما | فأخبره بما فعل المشيب |
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها *** عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
وهم قالوا :﴿ يا ليتنا نرد ﴾ فإن كانوا قالوا هذا تمنيا فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضا وعدا بعدم التكذيب بآيات الله، فهل هم قادرون على ذلك ؟ لا ؛ لأن القرآن الكريم قد قال في الآية التالية :﴿ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( ٢٨ ) ﴾.
( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) }( سورة الإسراء )
فإذا كنا في الدنيا نسجل الأحداث بالصوت والصورة فما بالنا بتسجيل الحق لنا ؟ ويرى الإنسان مكره يوم القيامة بالصوت والصورة، وكل فعل فعله سيره بطريقة لا يمكن معها أن ينكره، وكأن الحق يوضح لكل عبد : أنا لن أحاسبك بل سأترك لك أن تحاسب نفسك. ويفاجأ الإنسان أن جوارحه تنطق لتشهد عليه : الأيدي تنطق بما فعل، واللسان ينطق بما قال، والقدم تحكي إلى أين ذهب بها صاحبها، فهذا الجوارح التي كانت تنفعل لمراد صاحبها في الدنيا، يختلف موقفها في الآخرة ولا تنفد في اليوم الآخرة مراد الإنسان بل مراد من أعطى الإنسان المراد.
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر )
مثال ذلك – ولله المثل الأعلى – نجد السرية أو الكتيبة المقاتلة لها قائد يحكم الجنود، فإن أعطاهم أوامر خاطئة فهم ينفذونها، وبعد انتهاء المعركة يسألهم القائد الأعلى، فيقولون سلسلة الأوامر الخاطئة التي أصدرها قائدهم المباشر.
فإياك أن تظن أيها الإنسان أن أبعاضك مؤتمرة بقدرتك عليها دائما، إن سيطرتك عليها أمر منحك الله إياه، ويسلبه منك متى شاء في الدنيا. ويأتي يوم القيامة لتنتهي سيطرتك على الأبعاض. وأنت ترى في الدنيا بعضا من صور الأبعاض لتتذكر قدرة الواهب الأعلى ؛ فأنت ترى من لا يرى، وترى من فقد السيطرة على جارحة أو أكثر من جوارحه، وذلك تنبيه من الله على أن سيطرة الإنسان على الجوارح إنما هي أمر موهوب من الله. وقول الحق سبحانه عن الكافرين :﴿ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ﴾ يفضح تدليسهم في الحياة الدنيا، ثم يجيب الله على تمنيهم السابق الملء بالذلة والمسكنة، التمني بالعودة على الدنيا، فيقول سبحانه :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه وإنهم لكاذبون ﴾.
فهم كاذبون في الوعد بأن يؤمنوا لو عادوا إلى الدنيا، يوضح قول الحق سبحانه :
﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ( ٢٩ ) ﴾.
إننا نجد أن تجريم المخالف للخير والجمال إصلاح الكون هو أمر فطري وضروري للإنسان، فهم يجرمون أفعال السوء بعد أن تعضهم الأحداث ولا يلتفتون إلى أن المنهج السماوي جاء بالثواب والعقاب على كل فعل يحمي كرامة الإنسان. ويوم القيامة يقفون في صغار وفي اضطرار ليروا ما فعلوا :
﴿ بل بد لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( ٢٨ ) ﴾( سورة الأنعام ).
فهم لو ردوا إلى الدنيا بما كان لهم فيها من اختيار فسيفعلون مثلما فعلوا، ولم يقولوا مثل هذا القول في اليوم الآخر إلا أنهم مقهورون. وكانوا من قبل يقولون :
﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ( ٢٩ ) ﴾( سورة الأنعام )
ففي دنياهم كانوا لا يؤمنون إلا بحياة واحدة هي الدنيا. ولم يلتفتوا إلى أن الإنسان يحيا في الدنيا على قدر قوته، وويل للضعيف من القوي. والقوي إنما يخاف من قانون يعاقبه، أو يخاف من إله سيعاقبه على الذنب مهما أخفاه، ولذلك نجد القاضي المؤمن يقول دائما : لئن عميتم على قضاء الأرض، فلا تعموا على قضاء السماء.
ومن غباء أهل الكفر أنهم يسمون الحياة على الأرض ( الحياة الدنيا ) وهي في حقيقتها دنيا، وماداموا قد حكموا وعرفوا أنها ( دنيا ) فلا بد أن يقابلها حياة عليا. إن كل ذلك يحدث لهم عندما يقفون على النار، والنار جند من جنود الجبار، فما بالك بهم حين يقفون أمام خالق النار ورب العالمين ؟
﴿ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( ٣٠ ﴾.
هم – إذن – قد خافوا وارتبكوا وطلبوا العودة للحياة الدنيا ؛ لأن ما شاهدوه هول كبير، فما بالك إذا وقفوا على الله ؟ إنه موقف مرعب. وإذا كان الحق قد حذف من قبل الجواب عندما أوقفهم على النار ؛ فالأولى هنا أن يحذف الجواب، حتى يترك للخيال أن يذهب مذاهب شتى.. إنه ارتقاء في الهول.
وهكذا نرى التبكيت لهم في قول الحق لهم :﴿ أليس هذا بالحق ﴾ ؟ إنهم يفاجئون بوجود إله يقول لهم بعد أن يشهدوا البعث ويقفوا على النار :﴿ أليس هذا الحق ﴾ ؟ وسبحانه وتعالى لا يستفهم منهم لكنه يقرر، وقد شاء أن يكون الإقرار منهم، فيقولون :( بلى ) لأن الأمر لا يحتاج – إذن – إلى مكابرة. ( وبلى ) حرف يجعل النفي إثباتا.
ويطرح الحق هذه المسألة بالنفي حتى لا يظن ظان أن هناك تلقينا للجواب. ويصدر حكم الحق :﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ وهكذا يذوقون العذاب الذي كانوا به يكذبون. وذوق العذاب ليس من صفة القهر والجبروت، لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، لكن بسبب أنهم قادموا ما يوجب أن يعذبوا عليه :
﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ( ٣١ ) ﴾.
إن كل رأس مال يحتاج إلى عمل يزيده، لكن أن يكون العمل قد أضاع المال، فهذا يعني الخسارة مرتين : مرة لأن رأس المال لم يبق عند حده بل إنه قد فني وذهب وضاع، وثانية لن هناك جهدا من الإنسان قد ضاع وأضاع معه رأس المال.
إذن فقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ؛ لأنهم باعوا الآجل الطويل العمر بالعاجل القصير العمر. وكل إنسان منا يريد أن يثمر عمله ويحاول أن يعطي قليلا ليأخذ كثيرا.
وعلى سبيل المثال نجد الفلاح يقتطع مقدار كيلتين من أرادب القمح التي في مخزنه ليبذرها في الأرض بعد أن تحرث. وهذا يعني النقص القليل في المخزن هذا الفلاح، ولكنه نقص لزيادة قادمة ؛ فعندما وضع البذور في الأرض المحروثة نجد الحق سبحانه وتعالى ينبتها له أضعافا مضاعفة. والفلاح بذلك يبيع العاجل القليل من أجل أن يأخذ الآجل الكبير.
وهذه أصول حركة العاقل الذي يزن خطواته، فإن أراد أن يريد الثمار من حركته، فعليه أن يبذل الجهد. أما إن كانت الحركة لا تأتي له إلا بالقليل فلن يتحرك. ولأن العاقل لا يحب الخسارة نجده يوازن دائما ويقارن بين ما يبذله من جهد والعائد الذي سيأتي إليه. أما الذين كفروا بلقاء الله فهم قد خسروا أنفسهم، لأنهم لم يوازنوا بين حياتين : حياة مظنونة، وحياة متيقنة ؛ لأن مدة حياتنا الدنيا مظنونة غير متيقنة.
إننا لا نعرف كم سنحيى فيها ؛ فمتوسط عمر الإنسان على الأرض هو سبعون عاما على سبيل المثال، ولكن أحدا لا يعرف كم عمره في الدنيا بالضبط، وله أجل محدود. إنه فان وذاهب وميت، ولكن حياة الآخرة متيقنة لا أجل لها، إنها دائمة، ونعلم أن نعيم الدنيا بالنسبة للإنسان هو على قدر الأسباب الموجودة لديه، أما نعيم الآخرة فهو على قدر طلاقة قدرة المسبب وهو الله، وعلى هذه تكون خسارة الذين كفروا كبيرة وفادحة ودامية ؛ لأنهم لم يتاجروا مع الله.
﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ﴾( من الآية ٣١ سورة الأنعام ).
ونعلم أن ( حتى ) هي جسر بين أمرين ؛ فالأمر الذي نريد أن نصل إليه هو غاية، كقول إنسان ما :( سرت حتى وصلت المنزل )، والمنزل هنا هو غاية السير.
والذين كفروا، كان كفرهم وتكذيبهم موصلا إلى الخسران، فمجيء الساعة بغتة ليس هو نهاية المطاف، ولكنه وصول إلى أول الخسران ؛ لن خسرانهم لا ينتهي من فور مجيء الساعة، ولكنه يبدأ لحظة مفاجأة الساعة لهم : فهم يفاجئون بوقوع ما كانوا يكذبون به. ويعلمون جيدا أن ما صنعوه في الدنيا لا يستوجب إلا العذاب.
وهنا تبدأ الحسرة التي لا يقدرون كتمانها، ولذلك يقولون :﴿ يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ﴾... أي على تفريطنا وإسرافنا في أمرنا ذلك في أثناء وجودنا في الدنيا. وبذلك نعرف أن عدم التفريط في الدنيا والأخذ بالأسباب فيها أمر غير مذموم، لكن التفريط في أثناء الحياة الدنيا هو الأمر المذموم ؛ لأنه إضاعة للوقت وإفساد في الأرض.
إنني أقول ذلك حتى لا يفهم أحد أن الاستمتاع في الدنيا أمر مذموم في حد ذاته، وحتى لا يفهم أحد أن الآخرة هي موضوع الدين ؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين أيضا، والجزاء في الآخرة إنما يكون على ألوان السلوك المختلفة في الدنيا ؛ فمن يحسن السلوك في الدنيا ينال ثواب الآخرة ومن يسئ ينال عقاب الآخرة. ولذلك لا يصح على الإطلاق أن نقارن الدين بالدنيا.
إن علينا أن نعلم خطأ الذين يقولون :( دين ودنيا ) فالدين ليس مقابلا للدنيا. بل الدنيا هي موضوع الدين. أقول ذلك ردا على من يظنون أن سبب ارتقاء بعض البلاد في زماننا هو أن أصحابها أهملوا الدين وفتنوا بما في الدنيا من لذة ومتعة فعملوا على بناء الحضارات.
نقول : إن الإقبال على الدين بروح من الفهم هو الذي يبني الحضارات ويثاب المصلح في الدنيا يوم الجزاء، لنا أن نعرف أن مقابل للدنيا هو الآخرة، والدين يشملهما معا ؛ يشمل الدنيا موضوعا، والآخرة جزاء. الذين يفتنون بالدنيا ولا يؤمنون بالآخرة هو الذين يقولون يوم القيامة :﴿ يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴾. والأوزار المعنوية في الدنيا – وهي الذنوب – ستتجسم بحسيات وذلك حتى تكون الفضيحة علنية ؛ فمن سرق غنمة يبعث يوم القيامة وهو يحملها على ظهره، ومن سرق بقرة يبعث يوم القيامة وهو يحملها على كتفه وهي تخور، وكذلك من سرق طنا من حديد عمارة سيبعث يوم القيامة وهو يحمله على ظهره، وكذلك يفضحه الله يوم القيامة.
وهكذا يكون موقف أهل النار ؛ لذلك يقول الحق :﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ ونعلم أنهم لا يحملون أوزار فقط بل يحملون من أوزار الذين اتخذهم قدوة له ؛ فهذا وزر الإضلال ويعرفون – جميعا – أن حمل الوزر يتجسد في الإحساس بعبئه ؛ فقد قادتهم هذه الأوزار إلى الجحيم، ونعلم أن نتيجة كل عمل هي الهدف منه، فمن عمل صالحا سيجد صلاح عمله، ومن أساء فسيجد عمله السيء.
إننا نرى الأمثلة العملية لذلك في حياتنا اليومية ؛ فهذا شقيقان يعملان بالزراعة، وكل منهما يملك فدانين من الأرض مثلا : الأول منهما يقوم مع طلوع الفجر ليعتني بأرضه ويحرثها ويحملها إليها السباخ ويعتني بمواقيت الري ويسعى إلى يوم الحصاد بجد واهتمام. والآخر يسهر الليل أمام شاشة التليفزيون، ولا يقوم من النوم إلا في منتصف النهار، ولا يخدم أرضه إلا بأقل القليل من جهد. ثم يأتي يوم الحصاد فينال الأول ناتج تعبه من محصول وفير، وينال الآخر محصولا قليلا بالإضافة إلى الحسرة التي يتجرعها بسبب إهماله وكسله. إذن فالعاقل هو من يدرس ما تعطيه حركته في الحياة. ويختار نوعية الحركة في الحياة بما يتضمن له سعادة الدنيا والآخرة، واطمئنان النفس في الدنيا والآخرة.
إن من ينام ولا يذهب إلى عمله هو إنسان يحب نفسه، ومن قام في بكرة الفجر إلى عمله يحب نفسه أيضا، ولكن هناك فارقا بين حب أحمق عقباه الندم، وحب أعمق لمعنى الحياة وعقباه الجزاء الوافر.
﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( ٣٢ ) ﴾.
هكذا تكون الحياة بالنسبة لمن يقف عند وصفها على أساس أنها ( الحياة الدنيا ) إنها لا تزيد على كونها لهوا ولعبا. واللعب – كما نعلم – هو مزاولة حدث ونقضه في آن واحد، المثال على ذلك الطفل على شاطئ البحر قد يقيم بيتا من الرمال ثم يهدمه ؛ إنه لم يقم ببناء بيت من الرمال إلا ليهدمه. واللعب عملية يقصد بها قتل وقت في عمل قد ينقض، فالبناء والنقض في هذه الحالة لعب ولا يشغل اللعب الإنسان عن الواجب. أما اللهو قتل في عمل قد ينقض ويشغل الإنسان عن الواجب أيضا.
والطفل الصغير – على سبيل المثال – يتلقى من والديه بعض ليقضي وقته معها وقد يخربها ويهدمها وقد يعيد بناءها. ولعب الطفل هو لهو في الوقت نفسه ؛ لأن الطفل غير مكلف بواجب. وما إن يدخل إلى المدرسة وتصير لديه بعض من المسئوليات نجد الأسرة تعلمه أن يفرق بين وقت أداء مسئولياته ووقت اللعب ؛ لأنه إن لعب في وقت أداء المسئوليات صار لعبه لهوا ؛ لأنه شغله عن أداء مسئولية مطلوبة منه.
وكذلك الحياة الدنيا مجردة من منهج الذي خلقها وخلق الإنسان فيها هي لهو ولعب، وأما إن أخذ الإنسان الحياة بمواصفاتها من خلقها فهي حياة منتجة للخير في الدنيا وفي الآخرة. والذي خلق الحياة الدنيا جعلها بالنسبة لنا مزرعة للآخرة. والمؤمن – إذن – له حياتان : حياة صلاح في الدنيا، وحياة نعيم في الآخرة ؛ لأنه يعيش الحياة الدنيا على مراد من خلقه.
ومن العجيب أن من خلقنا لم يكلفنا إلا بعد أن يصل الإنسان منا إلى البلوغ، أي أن يكون الإنسان صالحا لإنجاب إنسان مثله إن تزوج. ويأتي التكليف متناسبا مع النضج وعند تمام العقل. وسمح الحق لنا أن نلعب في سنوات ما قبل النضج، ولكن لا بد أن يكون مثل هذا اللعب تحت إشراف من الكبار حتى يمكن للعب أن يتحول إلى دربة تفيدنا في مجالات الحياة، ويجعلنا نعرف كيف وصلنا في العصر الحديث إلى درجة من التقدم في صناعة اللعب التي يتعلم منها الطفل، ويمكن أن يقوم بتفكيكها وإعادة تركيبها، وحتى الكبار نجدهم في زماننا يتعلمون قيادة السيارات في حجرات مغلقة وأمامهم شاشة تليفزيون، وكأنهم في طريق حقيقي وفي شارع مزدحم بالسيارات، ومن يتقن هذا التدريب العملي يخرج إلى قيادة السيارة. وهكذا نجد أن التدريب مفيد للإنسان، يعلم الصغار اللعب الذي ينفعهم عندما يكبرون، وكذلك يفيد التدريب الكبار أيضا.
وعندما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نعلم أبناءنا ركوب الخيل والسباحة والرماية، وكانت الخيل – في زمن الرسالة – هي إحدى الأسلحة المهمة ليركبها الداعون إلى الله المجاهدون في سبيله. وحين طلب منا أن نعلم الأبناء السباحة فهذا بناء للجسم والقوة يفيد الشاب ويعلمه مواجهة الصعاب، وحين طلب منا أن نعلم الأبناء الرماية فذلك لأن تحديد الهدف ماديا أو معنويا معرفة الوصول إليه أمر مطلوب من كل شاب. وكل هذه ألعاب ولكنها ليست لهوا، إنها ألعاب ممتعة ويمكن أن تستمر مع الإنسان بعد أن يكلف. قال عليه الصلاة والسلام :( علموا أبناءكم السباحة والرماية )١ فماذا عن ألعاب عصرنا وزماننا ؟
إننا نجد أن لعبة كرة القدم قد أخذت اهتمام الرجال والنساء والكبار والصغار، وهي لعبة لا تعلم أحد شيئا، لأنها لعبة لذات اللعب، هي لعبة تعتدي على الوقت معظم الناس، وأخذت تلك اللعبة كل قوانين الأمور الجادة. فهي تبدأ في زمان محدد، ويذهب المشاهدون إليها قبل موعد بساعتين، وتجند لها الدولة من قوات الأمن أعداد كافية للمحافظة على نظام مع أنها من اللهو ولا فائدة منها للمشاهد.
وقد تمنع وتحول وتعطل البعض عن عمله والبعض الآخر عن صلاته. يحدث كل ذلك بينما نجد أن بعضا من ميادين الجد بلا قانون.
وأقول ذلك حتى يفيق الناس ويعرفوا أن هذه اللعبة لن تفيدهم في شيء ما. وأقول هذا الرأي وأطلب من كل رب أسرة يحكم السيطرة على أهله، وينصحهم بهدوء ووعي حتى ينتبه كل فرد في الأسرة إلى مسئولياته ولنعرف أنها لون من اللهو، وتأخذ الكثير من وقت العمل وواجبات ومسئوليات الحياة، حتى لا نشكو ونتعب من قلة الإنتاج.
إن على الدولة أن تلتفت إلى مثل هذه المسائل، ولنأخذ كل أمر بقدره، فلا يصح أن ننقل الجد إلى قوانين اللعب، ولكن ليكن للجد قانونه، وللعب وقته وألا ننقل اللعب إلى دائرة اللهو ؛ لأن معنى اللهو هو أن ننصرف إلى عمل لا هدف له ولا فائدة منه. وإن نظرنا إلى الحياة مجردة من منهج الله فهي لعب ولهو.
ونلتفت هنا إلى دقة الحق حين جاء باللعب أولا ثم باللهو من بعد ذلك، ثم يقول :﴿ وللدار الآخرة ﴾ وفي لفت واضح إلى أن الإنسان حين ينعزل عن منهج الحق في الحياة تفاجئه الأحداث بالانتقال المفاجئ إلى جد واضح ؛ لذلك فلنأخذ الحياة في ضوء منهج الله ؛ لأنه سبحانه حين أبلغنا أنه خلق الإنسان من طين، وصوره ونفخ فيه من روحه فقد أعطاه الحق بذلك حياة أولى، يشترك فيها المؤمن والكافر، والطائع العاصي وكل إنسان له حس وحركة وفكر وإرادة. وأرسل الله الرسل بالمنهج من أجل أن تسير الحياة إلى الغاية منها وهي الحياة الثانية وهي الدار الآخرة فإنها الحياة الكاملة الباقية، ونسمع قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾( من الآية ٢٤ سورة الأنفال )
إن الحق سبحانه وتعالى يقدم لنا حياة عالية دائمة تخلف الحياة التي تنتهي. والذي يتوقف عن أخذ منهج الله في حياته يكفي بمثل ما يأخذ الحيوان من الحياة وهي النفخ في الروح، لكن الذي يأخذ بمنهج الله يأخذ الحياة العالية... حياة الخير والجمال والإصلاح والإحسان. ونعلم أن الجمال في الحياة هو الجمال الذي لا يورث قبحا. والخير الحقيقي هو الذي يعمم خير الله على العباد، فلا يأخذ الإنسان الخير لنفسه ويترك شروره للآخرين ؛ لذلك أقول : لا تأخذ أيها المسلم الخير لنفسك على حساب الشر للآخرين ؛ لأنك لا تحب أن يحقق الآخرون الخير على حسابك، والذي يحب أن ينطلق بشروره في الناس فليستقبل الشر من غيره. ومن يجب أن يأخذ الخير من الناس فليعطيهم من خيره حتى يبقى الوجود جميلا. إذن فالحياة بدون منهج الله تكون قبيحة ؛ لأن القوى يعيث فيها فسادا بقوته وينزوي الضعيف إلى الإحساس بالذلة والضياع.
لكن الحق سبحانه أراد الحياة للمؤمنين في ضوء منهجه، وعندما يطبقون تكاليفه ب ( افعل ) و ( لا تفعل ) فهم يصونون الحياة من الفساد حسب أوامر الخالق الأعلى للحياة، فهو سبحانه الذي أوجدنا ووضع لنا قوانين صيانة الحياة. وحين منع مؤمنا واحدا من الشر، فهو قد منع وحرم على كل إنسان مؤمن من أن يصنع شرا لأخيه، وبذلك حمى الإنسان من الشر. وإنما خص الله المؤمنين بالنداء والدعاء ؛ لأنهم أهل الاستجابة والطاعة ؛ أما ما عداهم من أهل الكفر والشرك فقد تأبوا على الله وعصوه ولم يؤمنوا به. وحين يأمر الله المؤمن بالخير، فهو يأمر المؤمنين جميعا بأن يصنعوا الخير لهم ولغيرهم. وبذلك يكسبون حياة مطمئنة ؛ لذلك يقول سبحانه :﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾.
فالذي لا يستجيبوا لله ولرسوله حين يدعوهم لما يحييهم يظلون في الحياة الدنيا غارقين في اللهو واللعب، إنهم كالموتى. وحتى نعرف أن الحق سبحانه أراد لنا – نحن المؤمنين – الحياة العالية ؛ إنه – سبحانه – قد سمى المنهج الذي يرسم لنا الأوامر والنواهي بالروح :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ﴾. سمى الحق سبحانه وتعالى بهذا الملك الذي نزل بالوحي :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) ﴾( سورة الشعراء ).
إذن فالحياة التي تعطي الإنسان الحس والحركة هي الحياة الأولى التي يلعب ويلهو من خلالها، وليست هي الحياة المرادة لله ؛ لأن الحياة المرادة لله هي الحياة الإيمانية ولذلك سماها الحق سبحانه الحيوان أي الحياة الكاملة وسمى المنهج روحا.
﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( ٣٢ ) ﴾( سورة الأنعام ).
إن مجرد التعقل يعطي الإنسان الخير، والتعقل هو محاولة فهم نواميس الكون من الأسباب والمسببات، ونحن نرى نور الشمس يعم النهار ويشيع الضوء والدفء، وغياب الشمس وظهور القمر يحقق صفاء السكون ويهدي الناس في ظلمات البر والبحر، وجريان الماء يروي الإنسان والزرع، وحركة الرياح تحرك السحب وتقود السفن وتساعد في حركة الملاحة في الجو والبحر وتلقح النبات، وكل ذلك أسباب أرادها الله حتى يتحقق التوازن في الكون. والإنسان يأخذ حظه من الحياة بالأسباب التي يعمل فيها ولا يأخذ الإنسان من أسباب غيره.
صحيح أن هناك أناسا يعيشون بلا أسباب ويأخذون تعب غيرهم، ولكن عليهم أن يحذروا الله، فإياك أيها المسلم أن تبني لحمك ولحم أولادك من استغلالك لغيرك ؛ ذلك أن أغيار الحياة ستمر عليك وقد تصير قوتك إلى ضعف، وتأمين الإنسان لضعفه إنما يكون بإخراج الزكاة للضعيف، ومساعدته ومعاونته في كل ما يحتاج إليه، ونجد غير المؤمنين وقد أخذوا فكرة التأمين من الزكاة، فأنت تدفع للفقير زكاتك لتؤمن نفسك كمؤمن، وهم أخذوا هذه الفكرة ليحولوها إلى تأمين على الحياة، ولذلك تدخل في قدر الله.
لكن الحق أراد بالزكاة أن يطمئن المجتمع كله لا أن يطمئن من يؤمن على نفسه فقط. ونعلم أن الذي يخيف الإنسان ويجعله يكدس المال ويجمعه ويكنزه هو الخوف من الضعف، لكن لو أعطى الغني بعض من المال للفقير لأشاع الاطمئنان في نفسه ونفوس الضعفاء.
والذي يجعل الناس وتلهث في الحياة للادخار لأبنائها هو عدم اقتناعهم بالتكافل الاجتماعي الذي شرعه الإسلام. وهم يرون اليتيم وهو يضيع في المجتمع، لكن لو آمن الناس في المجتمع بالتكافل الاجتماعي لوجد كل يتيم أبوة المجتمع كله له.
والإنسان الذي يلهث وراء كسب من أجل أن يؤمن مستقبل أولاده قد يحول أولاده إلى يتامى لأنه مشغول عن تربيتهم، ولذلك يقول أمير الشعراء شوقي رحمة الله عليه :
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أبا مشغولا
إن على المجتمع أن يأخذ قضية الخير من قول الحق سبحانه :﴿ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾. فكما أحيا الحق الأجسام بالروح التي نفخها في القالب الطيني فصار لها حس وحركة، فهو قد أنزل المنهج أيضا روحا من عنده لترتقي به روح الحس والحركة، حتى لا يصير الإنسان كالأنعام أو أضل سبيلا :
﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( ٣٢ ) ﴾( سورة الأنعام ).
والدار الآخرة خير ؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي منتهية، لكن الحياة الآخرة خلود أبدا، ونعيما في الدنيا نأخذه بالأسباب، ولكن نعيم الآخرة نأخذه على قدر سعة ورحابة قدرة الله. وآفة الدنيا حتى بالنسبة لأهل النعيم والقوة والثراء هي الخوف من الفقر أو الموت، لكن في الآخرة لا يفوت أهل الجنة النعيم ولا يفوتون النعيم.
﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبون ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( ٣٣ ) ﴾.
لقد شرح الحق حال الكفار وموقفهم في الآخرة حين يقفون على النار، ويقفون أمام الله، ومن بعد ذلك يوجه الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي تقع عليه مشقة البلاغ من الله لهؤلاء الكفار، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حزينا لأن قومه لا يذوقون حلاوة الإيمان، وهو الرسول الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( ١٢٨ ) ﴾( سورة التوبة ).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على أن يكون كل الناس مؤمنين، ويتألم لمقاومة بعض الناس دعوة الإيمان، إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصا على الكافر ليؤمن على الرغم من أن مهمة الرسول هي البلاغ فقط، ولو شاء الحق أن يجعل الناس كلهم لأنزل عليهم آية تجعلهم جميعا مؤمنين :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾( سورة الشعراء ).
لكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد خضوع أعناق، وإنما يريد خضوع قلوب. إنه – سبحانه – يريد أن يأتي الناس طواعية واختيار ليثبتوا الحب للخالق ؛ لذلك يقول الحق لرسول صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ ساعة نسمع :( قد ) فلنعرف أن ما يأتي بعدها هو أمر محقق، ويأتي ذلك إذا دخلت على الفعل الماضي فهي في هذه الحالة تأتي لتسبق أمرا تحقق، ومرة تأتي للتقليل أو للتكثير إذا دخلت على فعل مضارع الذي يدل على الحال أو الاستقبال، فإذا كان العامل والمعمول بينهما ارتباط سبب.. فهذا للتكثير، وإذا كان ظاهرا أمر غير مرتبط ارتباط واضحا.. فهذا للتقليل. والمثال على الارتباط الذي يدل على التكثير هو قول قائل قد ينجح المجد ؛ لأن المجد والنجاح مرتبطان ارتباط سببية، ولكن قد يكون هناك حادث مفاجئ لأحد المجدين فلا يستطيع النجاح، كأن يمرض يوم الامتحان، ولكن احتمال الصحة أكثر من احتمال المرض فكانت للتكثير.
والمثال على مجيء ( قد ) للتقليل هو قول قائل : قد ينح الكسول، أي أن الكسول قد ينجح بالمصادفة وبدون أسباب منطقية، كأن يقرأ عددا من الدروس ليلة الامتحان فيأتي فيها الامتحان فينجح، إذن ف ( قد ) إذا دخلت على الماضي تكون للتحقيق، وإن دخلت على المضارع فهي للتكثير إن كانت منطقية الأسباب، وهي للتقليل إن كانت غير منطقية الأسباب. ولكن كلنا يعلم أن علم الله هو علم أزلي، ولا قوة ولا أمر يخرجان عن معلوم الله. إذن ف ( قد ) هنا للتحقيق وهي داخلة على الفعل المضارع، فالحق أراد أن يبلغنا أنه علم أزلا بما حدث وجاء ب ( قد ) لنستحضر صورة الفعل :
﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾. والحزن هو خروج النفس من سياق انبساطها ؛ فالإنسان يكون غاية في الاستقامة والسرور عندما يكون كل جهاز من أجهزته يؤدي مهمته، فإن حدث شيء يخل بعمل أحد الأجهزة فذلك يورث الحزن. أو يكون الحزن انفعالا لمجيء وحصول أمر غير مطلوب للنفس.
لقد كان مطلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤمن كل الذين استمعوا إلى البلاغ عنه، لكن بعض قاوم الإيمان، والبعض اتهم الرسول بالسحر أو الجنون أو قول الشعر، وها هو ذا الحق يسلي رسول فيقول :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ أي إنك يا محمد لا بد لك أن تعلم أن أقوالهم هذه ليست متعلقة بك ؛ لأنك – بإجماع الآراء عندهم – أنت الصادق الأمين. وهم إنما يكذبون بآياتي التي أرسلتها معك إليهم ؛ لأن ماضيك معهم هو الصدق والأمانة، بدليل أن الكافر منهم كان لا يأمن أحدا على شيء من أمواله ونفائسه إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والإنسان لا يغش نفسه فيما يخصه. فكأن الله يريد أن يتحمل عن رسوله ؛ لأن من يوجه إهانة للرسول إنما يوجهها للمرسل له هو الله جلت قدرته.
ولذلك يقول الحق :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ وسبحانه يبين لنا أن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصا أشد ما يكون الحرص على أن تستجيب أمته لداعي الحق، حتى يتأكد لدى المؤمنين قول الحق سبحانه وتعالى في رسوله :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( ١٢٨ ) ﴾( سورة التوبة ).
ولا معنى للحرص إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب ألا يفلت أحد من قومه عن منهجه وعن دينه. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل أمر الدين اختياريا حتى يعلم من يجيء له طواعية ويقدر ألا يجيء، ومن لا يجيء وهو قادر أن يجيء.
إن الحق سبحانه وتعالى له سنن كونية في الكون يجريها على كل الخلق. قد يتساءل قائل : وما الذي يجعل الحق سبحانه وتعالى يترك للكفر به مجالا في دنياه ؟ ولماذا يجعل الحق سبحانه وتعالى للشر مجالا في دنياه ألا يحكمها بهندسة حكيمة ؟ ونقول : لو لم يوجد للشر مضار تفزع الناس لما عرفوا للحق حلاوة. إذن فوجود الشر، ووجود الكفر، وآثار الكفر في الناس جبروتا وقهرا واستذلالا ينادي في الناس أنه لا بد من الإيمان، وأنه لا بد من وجود الخير. فلو لم يكن للشر مكان في الكون فما الذي يلفت الناس إلى الخير ؟ ولذلك تجد أن هبات الإيمان عند المؤمنين لا تأخذ فتوتها إلا حين تجد قوما من خصوم الإيمان يهيجون المؤمنين ويؤذونهم ويستفزونهم. أما إذا صارت الدنيا إلى رتابة فربما فتر أمر الإسلام في نفوس المسلمين. ولذلك نجد المؤمنين بالله في غيرة دائمة ؛ لأن هناك من يكفر بالله. فيقول لرسوله :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ﴾ وكأنه سبحانه يبلغنا أنه أراد كونه ليكون فيه المؤمن والكافر.
لذلك إن تساءلت – أيها المسلم – كيف يكون في الأرض كافرون ؟ فلك أن تعلم أنهم من خلق الله أرادهم الحق أن يختار الكفر فلم يختار الكفر قهرا عنه – سبحانه – وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحزن لأن هناك أناسا لم يؤمنوا، فيسليه الحق سبحانه وتعالى، بأنه يعلم أنه يحزنه الذي يقولون من الكفر ومن اتهامات لرسول الله. ألم يقولوا إنه ساحر ؟ ألم يقولوا إنه مجنون ؟ ألم يقولوا أنه كاذب ؟ ألم يقولوا إنه كاهن ؟ ألم يقولوا إنه شاعر ؟ وسبحانه وتعالى يعلم ما قالوا ويعلم أن هذه الأقوال تحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويريد الحق أن يرفع ويدفع هذا الحزن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيبلغه أنهم لا يكذبونك يا رسول الله، فأنت تعرف منزلتك عندهم وهي منزلة الصادق الأمين، ولا يجرؤوا أحد على تكذيبك ولكن يجحدون بآيات الله. وهل هناك تسلية أكثر من ذلك ؟ لا يمكن أن توجد تسلية أكثر من ذلك.
ونعلم أنه ما قاله أهل الشرك عن رسول الله هو قول مردود، فهم أمة البلاغة والفصاحة والبيان، فكيف يقولون إن القرآن شعر وهم أصحاب الدراية بالأساليب مرسلها، ومسجوعها، ونظمها، ونثرها ؟.
أمن المعقول أن يلتبس عليهم أسلوب القرآن بالشعر ؟ من المؤكد أن هذا غير ممكن، ولقد قالوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنه ساحر، فكيف السحر الذي آمنوا به ولم يسحر الباقين ؟ ولو كان سحر لسحرهم أيضا، وبقاءهم على الكفر ينقض هذا. وقالوا كاذب، فهم بقولهم هذا يكذبون أنفسهم لأنهم يعرفون عنه أنه الصادق الأمين، وها هو ذا الحوار بين الأخنس بن شريق وأبي جهل.
قال الأخنس : يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال أبو جهل : ماذا سمعت ! وهنا نسمع قول الغيرة الحسد والبغض، نسمع عن تلك الأمور البعيدة عن موضوع الرسالة النورانية المحمدية فيقول أبو جهل : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذا ! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه. إذن هي مسألة غيرة غاضبة على مناصب وسلطة زمنية، لذلك يرد الله عليهم قائلا :
﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون ( ٣٢ ) ﴾( من الآية ٣٢ سورة الزخرف ).
ها هو ذا الحق يسلي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويقوله له :
﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( ٣٣ ) ﴾( سورة الأنعام ).
إنهم ظالمون، لأن الظلم نقل حق إلى غير مستحقه. وأبشع أنواع الظلم هو الشرك ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو المستحق وحده للعبادة، والظلم الأخف وطأة هو أن ينقل الإنسان حقا مكتسبا أو موهوبا إلى غير صاحبه وهذا ظلم موجود بين الناس. وقد نقل المشركون حق الذات الإلهية إلى غير مستحقها من أوثان وأصنام، أما المؤمنون فهم الذين اعترفوا بحق الذات الإلهية في العبادة.
وهناك نوع آخر من الظلم أريد أن أتحدث عنه، وهو أن يظلم الإنسان اسمه، كأن يكون والده قد سماه ( مهديا ) ولكنه يملأ الدنيا فسادا بإيذاء نفسه بإيذاء الآخرين. نقول لمثل هذا الإنسان : إن الواجب يقتضي منك أن تحترم أمل والدك فيك، فلا تظلم اسمك ( مهديا ) ولتكن هناك عدالة بين الاسم والمسمى وذلك بأن يكون سلوكك متوافقا مع الاسم الذي سماك به أبوك.
أما إن كان أبوه قد سماه ( مهديا ) ولم يلقنه أي شيء من تعاليم الهدى والدين، ثم خرج الشاب إلى الدنيا ليملأها بالشقاء لنفسه ولغيره ثم اهتدى من بعد ذلك فهذا شاب استطاع أن يتعلم الهداية فصار اسمه على مسماه.
وقد كنا في الثلاثينيات من هذا القرن نسمع التحذيرات ونحن نزور القاهرة :
( إياكم أن تطئوا بأقدامكم شارع عما الدين لأن كل الموبقات في هذا الشارع ). وتعجبت أن يكون اسم الشارع ( عماد الدين ) ويكون مكانا للموبقات فقلت في ذلك :
وأقبح الظلم بعد الشرك منزلة
أن يظلم اسما مسمى ضده جبلا
فشارع كعماد الدين تسمية
لكنه لعناد الدين قد جعلا
وفي الحياة كثير من حالات الأسماء يظلمها أصحابها. ولكن أكبر وأقبح درجات الظلم هو الشرك بالله ﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ والجحد هو إباء اللسان وترفعه وعدم رضاه بأن ينطق بكلمة الحق، فلو أن المشركين خلوا إلى أنفسهم واستعرضوا مسائل محمد ومسائل الرسالة لوجدوا أن قلوبهم مقتنعة بأنه صادق وأنه رسول وأن المنهج إنما جاء للهداية. لكن ألسنتهم غير قادرة على الاعتراف بذلك.
ولذلك يأمر المنهج الإيماني أن على الواحد منا إن أراد أن يناقش قضية أهي حق أم باطل فلا يصح أن نناقش في حشد من الناس، ولكن فلنناقشها أولا في نفوسنا لنتبين الحق فيها من الضلال، ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ﴾( من الآية ٤٦ سورة سبأ ).
كأن الحق يهدينا إلى كيفية التمييز، فإما أن نناقش أنفسنا، وإما أن يتناقش اثنان حتى يمكن أن يقتنع أحدهما برأي الآخر دون أن يشهد ثالث هزيمته فيكابر ويجادل. وقد نصح الحق بذلك هؤلاء الذين اتهموا رسول الله أن به – والعياذ بالله – مسا من الجنون ؛ فالجنون هو أن تحدث الأفعال بلا مقومات وبدون تدبر أو نظر في آثارها وتكون خالية من حكمة فا
﴿ لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ( ٣٤ ) ﴾.
فإذا كان الرسل الذين سبقوك قد كذبوا وصبروا على ذلك، وهم رسل لقومهم أو لأمة خاصة، ولزمان خاص، فماذا عنك يا خاتم الرسل وأنت للناس كافة وللأزمان عامة ؟ إن عليك أن تتحمل هذا ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد اختارك لهذه المهمة وهو العليم أنك أهل لها. والحق كفيل بنصر رسله فلا يتأتى أن يترك الشر أو الباطل ليغلب الرسل، وما دام سبحانه وتعالى قد بعث الرسول فلا بد أن ينصره.
فهو القائل :
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾( سورة الصافات ).
وما دامت قد سبقت كلمة الله للرسل فلا بد مبدل لكلمات الله، ولا أحد بقادر على أن يعدل في المبادئ التي وضعها الله بقوله سبحانه وتعالى :
﴿ ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ( ٣٤ ) ﴾( من الآية ٣٤ سورة الأنعام ).
وقد قص الحق سبحانه على رسوله قصص المرسلين، ولم يكتف بالقول لرسوله أن الرسل السابقين عليه قد كذبتهم أقوامهم، ولكن أورد الحق لرسوله ما حدث لكل رسول ممن جاء ذكرهم بالقرآن الكريم وماذا حدث للرسول – أي رسول – من ثبات أمام الأعداء، ثم بين أن كلمة الحق قد انتصرت دائما. وقد روى الحق بعضا من قصص الرسل فقال :
﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾( من الآية ٧٨ سورة غافر ).
﴿ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ( ٣٥ ) ﴾.
إنك يا محمد رسول من عند الله، ومعك منهج هو معجزات الدالة على صدق ما جئت به، فإن كبر عليك إعراضهم وعظم عليك أن يتولوا ويعرضوا عنك فإن استطعت أن تصنع لنفسك نفقا في الأرض لتأتيهم بآية أو أن تبني سلما لتصعد به إلى السماء طلبا لهذه الآية فافعل، ولكنك لن تستطيع ذلك لأن ذلك فوق حدود قدرتك وسيلقى المشركون والمنافقون العذاب لأنك جئت يا رسول الله تبدد من صولجان سلطتهم الزمنية وتقيم العدل الإيماني. ولذلك حاولوا السخرية منك وإيذاءك.
وقد طلب الكافرون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل إلى الأرض ليفجر لهم منها ينبوعا، وطلبوا إليه أن يصعد إلى السماء وأن يجعلها تسقط عليهم كسفا وقطعا لتهلكهم. وهذه أشياء لم تكن في مكة واستطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك يقول له الحق سبحانه وتعالى ما يقفل عليه أبواب الحزن ويقضى على أسباب الأسى والأسف عنده بسبب إعراضهم، وأن يعرف أن السخرية والمقاومة هي مسألة طبيعية بالنسبة لكل رسول من الرسل، وأنت يا رسول الله أولى بهذا لأن مهمتك أضخم من كل الرسل. ونلحظ أن الحق سبحانه يحذف هنا جواب ( إن ) فهو يقول :
﴿ فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما فتأتيهم بآية ﴾( من الآية ٣٥ سورة الأنعام )
ولم يقل الحق : فافعل ذلك، كأن المسألة هي تهدئة للرسول ؛ لأن الجواب في مثل هذه الحالة معلوم ؛ فالرسول لا يجبر أحدا على الإيمان. وإعراض هؤلاء القوم أمر مقصود لواجب الوجود حتى يختبرهم ولو أراد قهرهم لفعل، فلا أحد يتأبى على الله، فالكون كله مطيع لله، الشمس، والقمر، والنجوم، والهواء، والماء، والجبال، والأرض، وكل ما في الكون لله بما في ذلك الحيوان المسخر لخدمة الإنسان. لكنه – سبحانه – أعطى الاختيار للإنسان ليأتي إلى الله محبا.
ونعلم أن الحق قد ترك بعضا من المسخرات غير مذللة ليثبت للإنسان إنه لم يذلل الأشياء بحيلته، ولكنه – جل شأنه – هو الذي خلقها وذللها له ؛ لذلك نرى الجمل الضخم يجره طفل صغير، ونرى أي رجل مهما تكن قوته يأخذ الحذر والاحتياط من ثعبان صغير.
﴿ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ( ٧١ ) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ( ٧٢ ) ﴾( سورة يس ).
ولو لم يذللها الله فلن يستطيع أحد أن يقترب منها. وأضرب هذا المثل دائما، عندما قال قائل : لماذا خلق الله الذباب ؟ فقال رجل من أهل الإشراق : ليذل به الجبابرة ؛ فسلطانهم لا يمتد إلى هذه الحشرات. لقد أعطى الحق الإنسان عزة السيادة، وعلمه أيضا أن يتواضع للخالق.
ويبلغ الحق سبحانه وتعالى رسوله :
﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ﴾( من الآية ٣٥ سور الأنعام )
أي أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين. وقد يقول قائل : كيف يخاطب الله رسوله فيقول له :﴿ فلا تكونن من الجاهلين ﴾ ؟ ونقول : إن الحق حين يقول لرسوله ذلك فهو يقولها لا من مظنة أن يفعلها الرسول ؛ فالرسول معصوم من الجهل، ولكن هو قول فيه تنزيه للرسول عن أن يكون في مثل هذا الصنف من الجاهلين.
﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ( ٣٦ ) ﴾.
و ( يستجيب ) معناها أنهم يطيعون أمر الآمر ونهي الناهي. وهناك فارق بين ( الاستجابة ) و ( الإجابة ) ؛ ف ( الاستجابة ) هي : أن يجيبك من طلبت منه إلى ما طلبت ويحققه لك، و ( الإجابة ) هي : أن يجيبك من سألت ولو بالرفض لما تقول، وقد يكون الجواب ضد مطلوب ما سألت. ويقول الحق :﴿ إنما يستجيب الذين يسمعون ﴾ أي أن الذين يستجيبون لنداء الحق هم الذين يسمعون بآذانهم وقلوبهم مصدقة ؛ لأن هناك فارقا بين سماع ظاهره سماع وباطنه انصراف، وبين سماع ظاهره طاعة وباطنه محبة لهذه الطاعة. نعلم أن استقبال المسموع شيء، وانفعال الإنسان بالمسموع شيء آخر.
وعندما يتحد حسن الاستماع مع انفعال الحب لتنفيذ ما سمعه الإنسان فهذا ما يطلبه الإيمان. والمؤمنون هم الذين يستمعون لكلمات الله بانفعال الحب، وهم يختلفون عن هؤلاء الذين يسمعون الكلام من أذن ويخرجونه من أذن الأخرى، ويتركون الكلمات بلا تطبيق، ولا يبقى في النفس الواعية من آثار الكلام شيء.
وهكذا نرى أن الله قد صنع وخلق في الإنسان من الحواس ما تهديه وترشده إلى الإيمان أو إلى الكفر، فالأذن عند المؤمن تسمع، والقلب يصدق، والعقل يمحص ويؤمن. أما الكافر فأذنه تسمع وقلبه يعارض، وعقله يبحث في أسباب الكفر رغبة فيه وسعيا إليه، ولذلك لا تؤدي الحواس مهامها بانسجام، وكان الذين يسمعون ولا يستجيبون هم من الموتى. فالأمر – إذن - ليس مقصورا على السمع بل المطلوب أن يكون هناك سماع انفعال بالمسموع وانصياع له، ولا تظن أن الله يعجز عن أن يجعل الذي لا يسمع سماع طاعة يهتدي ويستقيم، فلا شيء ولا كائن يتأبى على الله ؛ لأنه سبحانه يحي الموتى.
وما دام هو سبحانه يحيى الموتى فهو لا يطلب إيمانا جبريا. إنما يطلب إيمان الاختيار والاقتناع، وهو سبحانه لو شاء لأنزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم خاضعين، وسبحانه يطلب قلوبا لا قوالب. إذن فالذين يستجيبون لداعي الإيمان هم الأحياء حقا، أما الذين لا يستجيبون فهم في حكم الأموات، وهم من بعد موتهم وانتهاء حياتهم سيبعثهم الله ليسألهم عن أفعالهم في حياة الدنيا. وعندما يرجعون إلى الله سوف يجدون الحساب. ونعلم أن المرجع أخيرا ودائما إلى الله. ومن يرجع إلى الله وعمله طيب يتعجل الجزاء الطيب ويتشوق ويتشوف إليه، أما من يرجعه الله قهرا فهو يخشى الجزاء الأليم.
﴿ وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ٣٧ ) ﴾.
إن الله سبحانه يوضح لنا مواصلتهم للجدل، وطلبهم لآية ما. والآية هي الأمر العجيب الذي يبعثه الله على يد نبي ليثبت صدقه في تبلغيه عن الله. وكأنهم لا يريدون أن يعترفوا أن القرآن آيات بينات على الرغم من اعترافهم بعظمة القرآن، فقد قالوا :
﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾( سورة الزخرف ).
ولكنهم لم يعترفوا بالقرآن كآية معجزة ؛ لأنهم عرفوا أن الرسل السابقين قد نزل كل منهم بآية معجزة منفصلة عن المنهج الذي جاء به، فموسى عليه السلام معجزته العصا، ويده التي أخرجها من جيبه فكانت بيضاء من غير سوء، وشق البحر، ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام كانت معجزته التكلم في المهد بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وجاء بالإنجيل مكملا بالروحانيات تلك الماديات التي ملأت نفس اليهود. وبعد أن قالوا عن رسول الله إنه يفتري الكذب تحداهم الحق أن يأتوا بمثل القرآن ثم نزل بهم إلى أن يأتوا بعشر سور من مثله ثم إلى أن يأتوا بمثل سورة واحدة من أقصر سوره. إذن، فالافتراء وارد عليكم أيضا، فكما أن محمدا افترى فيمكن أن تفتروا أنتم كذلك فيما نبغتم وتفوقتم فيه من أساليب البلاغة. إن القرآن قد تحداهم ومادام قد تحداهم فإنه معجزة ؛ لأن الأصل في المعجزة التحدي، ويتحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن فلا يستطيعون، إنه يتحداهم في أمر اللغة، وهم سادة اللغة وهم النابغون فيها.
جاء القرآن ليتحداهم في مجال نبوغهم، ولكن بعضا من العرب طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة حسية كونية يرونها. وأعماهم الحمق عن معرفة أن المعرفة الحسية موقوتة التأثير، من يراها يقول إنها معجزة، ومن لم يرها قد يصدق وقد يكذب. ونحن – المسلمين – لا نصدق المعجزات الحسية إلا لأن القرآن أوردها ؛ ولأن القرآن قد جاء للناس كافة ؛ لذلك لم يكن من المعقول أن يكون المنهج الخاتم منفصلا عن معجزة النبي الذي جاء به.
جاء القرآن – إذن – معجزة لرسول الله وهو آية معنوية دائمة أبدا بما فيه من أحكام ونظم، وآيات كونية وقضايا علمية، وإذا كان الخلق يختلفون في اللغات فما تضمنه القرآن من المعجزات لن تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة. وكل يوم نستنبط من آيات الله معجزات جديدة تخرس كل مكذب، لأنها معجزات كونية، ومن العجيب أن بعض الذين يستنبطونها ليسوا من المسلمين، ولا هم من المؤمنين بالقرآن.
ولكن بعضا من المشركين لم يكتف بالقرآن على أنه آية ومعجزة دالة على صدق الرسول، وطالبوا بمعجزة حسية. فهل كان ذلك الطلب للآية حقيقيا يرجون من ورائه معرفة الحق والإيمان به أو كان مجرد سبب يختلفون وراءه حتى لا يؤمنوا ؟ إن كان طلب الآية هو أمر حقيقيا نابعا من قلوبهم فإننا نأخذ بأيديهم ونرشدهم ونهديهم ونقول لهم : إن الرسل التي جاءت بمعجزات غير كتاب المنهج كانوا رسلا إلى أمم مخصوصة وفي زمان محدود، فجاءت معهم آيات كونية ترى مرة واحدة وتنتهي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء لعموم الزمان، ولعموم المكان، ولذلك لا تصلح أن تكون آيته ومعجزته حسية ؛ حتى لا تنحصر في الزمان والمكان المحددين، وشاء الحق أن تكون معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي المنهج الدائم. وكنز القرآن أظهر وكشف من الآيات الكونية ما تحقق من علم ورآه البشر، وما سيظل يكتشفه البشر إلى أن تقوم الساعة. ولذلك قال الحق :
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾( من الآية ٥٣ سورة فصلت )
أي أن البشر سيريهم الله وسيكشف لهم من آياته حتى يظهر ويستبين لهم وجه الحق، وإن كنتم تقترحون آية لمجرد التمحك والتلكؤ في إعلان الإيمان، فلتعلموا أن أقواما غيركم اقترحت الآيات وأنزل الحق هذه الآيات ومع ذلك كفروا :
﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾( من الآية ٥٩ سورة الإسراء ).
مثلما طلب قوم صالح الناقة، فجاءهم بالناقة، فكذبوا بتلك الآية وعقروا الناقة :﴿ فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ﴾. إذن فمسألة طلب الآيات قد سبقت في أمم سابقة، وسبحانه قادر على إنزال الآيات، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون. وسيقولون مثلما قال الذين تكلم فيهم الحق سبحانه :
﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾( من الآية ٥٩ سورة الإسراء )
ولقد أنزل الحق سبحانه القرآن على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه آيات كثيرة عظمت وجلت عن أن تحصى وتحصر، ولو أنهم اقترحوا آية وحققها الله لهم ولم يؤمنوا لكان حقا على الله أن يبيدهم جميعا. ولقد أعطى الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعدا بألا يهلكهم وهو صلى الله عليه وآله وسلم فيهم :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾.
إذن فعدم استجابة الله لإنزال آية لهم نوع من الحرص عليهم، ذلك أن منهم من سيؤمن، ومنهم من سيكون من نسله مؤمنون يحملون المنهج ويقومون به إلى أن تقوم الساعة لأنهم أتباع وحملة الرسالة الخاتمة.
﴿ وما من دابة في الأرض ولا طير يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ﴾. ٣٨
إنه سبحانه يوضح لنا : أنا أعطى الآيات التي أعلم أن الفطرة السليمة تستقبلها كآية وتؤمن بها. وأنزلت لكم القرآن لتؤمنوا بالرسول الذي يحمله منهجا يصلح حياتكم. وقد جعلتكم سادة للكون ؛ تخدمكم كل الكائنات، لأنكم بنو آدم. وكان الأجدر بكم أن تنتبهوا إلى أن الحيوان في خدمتكم، والنبات في خدمة الحيوان وخدمة الإنسان، وكل كائنات الوجود تصب جهدها المسخر لخدمتكم. فإذا كنت قد جئت للأجناس كلها وجعلتها دونكم وأعطيتها ما يصلحها ويقيمها ووضعت لها نظاما، وأعطيتها من الغرائز ما يكفي لصلاح أمرها حتى تؤدي مهمتها معكم على صورة تريحكم فإذا كان هذا هو شأننا وعملنا مع من يخدمكم فكيف يكون الحال معكم ؟ إنني أنزلت المنهج الذي يصلح حياة من استخلفته سيدا في الأرض.
﴿ وما من دابة في الأرض ولا طير يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ﴾( ٣٨سورة الأنعام ).
وكل الدواب دون الإنسان أعطاها الإله الإيمان بالفطرة، وهداها إلى الرزق بالغريزة. وميز الإنسان فوق كل الكائنات بالعقل، ولكن الإنسان يستخدم عقله مرة استخداما سليما صحيحا فيصل إلى الإيمان، ويستخدمه مرة استخداما سيئا فيضل عن الإيمان. كان على الإنسان أن يعلم أنه تعلم محاكاة ما دونه من الكائنات ؛ فقابيل تعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه. ومصمم الطائرات تعلم صناعة الطيران من دراسة الطيور. إذن كان يجب أن يتعلم الإنسان أن له خالقا جعل له من الأجناس ما تخدمه ليطور من حياته ومن رعاية كرامته بعد الموت. والمثال ما قالته نملة لبقية النمل :
﴿ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ﴾( من الآية ١٨ سورة النمل )
إن النمل أمة لها حرس، قالت حارسة منهم هذا القول تحذيرا لبقية النمل.
والله سبحانه يقول :
﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾( من الآية ٤٤ سورة الإسراء )
إذن فكل أمة من تلك الأمم الكثيرة التي خلقها الله في الكون تسبح بحمده، ولكن لا يفهم أحد لغات تلك الأمم. وأعلمنا الله أنه علم سيدنا سليمان لغات كل الأقوام وكل الأمم المخلوقة لله، ولذلك عندما سمع سيدنا سليمان ما قالته النملة : تبسم ( ضاحكا من قولها ).
وهكذا علمنا أن الله أعطى أذن سليمان عليه السلام ما جعلها تمتلك حاسية التقاط الذبذبة الصادرة من صوت النملة وتفهم ما تعطيه وتؤديه تلك الذبذبة، لذلك تبسم سليمان عليه السلام من قولها ؛ لأن الله علمه منطق تلك الكائنات. ولو علمنا الله منطق هذه الكائنات لفقهنا تسبيحهم لله، ونحن لا نفقه تسبيحهم لأننا لم نتعلم لغتهم. ومثال ذلك – ولله المثل الأعلى – قد يسافر إنسان عربي إلى بلاد تتحدث الإنجليزية وهو يجهل تلك اللغة، فلا يفهم مما يقال شيئا. إذن لو علمك الله منطق الطير، ومنطق الجماد، ومنطق النبات ؛ لعلمت لغاتهم.
ألم يقل الحق سبحانه وتعالى :
﴿ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ﴾( من الآية ٧٩ سورة الأنبياء ).
إن الجماد – الجبال – تسبح مع داود. وكذلك الطير ؛ فها هو ذا الهدهد قد عرف قضية التوحيد، وحز في نفسه أنه رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله :
﴿ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم ﴾( من الآية ٢٤ سورة النمل ).
إذن فالهدهد قد عرف قضية التوحيد، وعرف أن للشيطان مداخل على الكائن الحي، وعرف أن السجود إنما يكون لله سبحانه وتعالى :
﴿ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء من السماوات والأرض ﴾( من الآية ٢٥ سورة النمل ).
إذن كل الكائنات هي أمم أمثالها. قد يقول قائل : لكن هناك كائنات ليست في السماء ولا في الأرض، مثل الأسماك التي في البحار ؟ نقول : إن الماء ثلاثة أرباع الأرض والسمك يسبح في جزء من الماء الذي هو جزء من الأرض. فهو يسبح في جزء من الأرض، فسبحانه الذي خلق الدواب في الأرض، وخلق الطيور. وخلق الأدنى من هذه الأمم وهداها إلى مصلحتها ومصدر حياتها :﴿ الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ﴾.
ونرى العلماء يحاولون الآن اكتشاف لغة الأسماك، اكتشاف كل أسرار مملكة النحل ونظامها، كيف تصير أعشاش النمل مخازن في الصيف لقوت الشتاء. ودرسوا سلوك النمل مع حبة القمح، وكيف تخلع النملة خلايا الإنبات من بذرة القمح، لأن خلايا الإنبات إن دخلت مع حبة القمح إلى مخزن غذاء النمل قد تنبت وتدمر حجر النمل. وهكذا نرى صدق الحق الأعلى.
﴿ الذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) ﴾( سورة الأعلى ).
وقرون الاستشعار في النملة تثير العلماء ؛ لأن النملة الواحدة ترى على سبيل المثال قطعة السكر، فلا تقربها ولكنها تذهب لاستدعاء جيش من النمل قادر على تحريك قطعة السكر. ووجد العلماء أن وزن الشيء الذي يتغذى به النمل إن زاد على قدرة نملة، فهي تستدعي أعدادا من النمل ليؤدوا المهمة.
وتساءل العلماء : من أين للنمل إذن هذه القدرة على تحديد الكتلة والحجم والوزن ؟ إن تحديد العدد الذي يحمل حجما محددا يثير الغرابة والعجب، فكيف يمكن أن نتصور أن النمل يفرق بين شيئين يتحد حجمهما ويختلف وزنهما ككتلة من حديد وأخرى تماثلها في الحجم من الأسفنج ؟ إن النمل يستدعي لكتلة الحديد أضعاف ما يستدعيه لحمل كتلة الأسفنج مع اتحادهما في الحجم ؛ إنها من قدرة الحق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.
ثم إنك تلتفت إلى الحيوان فتجد الذكر والأنثى، وتجد أن الجمال كله في ذكور الحيوان، بينما لا يكون الأمر كذلك في إناث الحيوان، والكثرة الغالبة هي من الإناث والقلة من الذكور، ولا يقرب الذكر أنثاه إلا في موسم معين، وإلى أن يأتي موسم التلقيح تنصرف الأنثى إلى إعداد العش وتهيئته لما عساه أن يوجد من نتاج، وهذه العملية لحكمة عالية ربما تكون لبقاء نوع الحيوان حين يعين الإنسان في إعمار الأرض.
وفي عالم الطير نجد الطيور تبني العش بفن جميل لاستقبال الفرخ الذي خرج من البيض وتفرش له العش بأنعم الأشياء، إنها تفعل ذلك بإتقان جيد وبصورة ربما يعجز البشر أن يعمل مثلها. ثم نجد في دنيا الحيوان والطير أن الكائن ما إن يبلغ القدرة على الاعتماد على نفسه فلا تعرف الأم ابنها من ابن غيرها. إذن فكل المخلوقات أمم أمثالها أرزاقا وآجالا، وأعمالا، فصدق الله إذ يقول :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾.
وقد يكون المراد من الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، ولكننا نقول : إنه القرآن، وكل شيء موجود ومذكور أو مطمور في القرآن الكريم. وذكر القرآن، أن هذه الأمم تعرف التوحيد، أنهم يسبحون لله، والعمل المعاصر يكتشف في كل دقيقة حقائق هذا الكون المنظم. ونجد العقل يهدينا إلى أن نوجد أشياء لصالح حياتنا، ولكن عندما نتبع الهوى فإننا نفسد هذا الكون. إن الله – سبحانه – جعل للخادم من دواب الأرض نطاقا للعمل والرزق والأجل بحكم الغريزة، وكذلك جعل للطير، ولكل الكائنات :
ويقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته الكريمة :
﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ﴾( من الآية ٣٨ سورة الأنعام )
إذن كل شيء يحشر يوم القيامة. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه :( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء١ من الشاة القرناء )٢.
أي أن الحق سبحانه يقتص من الشاة ذات القرون التي نطحت الشاة التي بلا قرون ويعوضها عن الألم الذي أصابها. وبعد أن يأخذ كل كائن من غير الإنس والجن حقه يصير إلى تراب. أما الذين يسمعون ولا يستجيبون فهم المكذبون بالآيات، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى :
﴿ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( ٣٩ ) ﴾.
٢ رواه مسلم والترمذي وأحمد بن حنبل..
إن البشر ينشئون في بيئات مختلفة اللغة ولا يتكلمون إلا باللغة التي نشئوا في بيئتها ؛ لأن اللغة ليست دما ولا جنسا. بل اللغة سماع. وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. ولا يقرأ الإنسان إلا إذا سمع وعرف ارتباط ما يسمع بما يرى ؛ لذلك نعرف أن السمع هو المنفذ الأول للإدراك، ولهذا كان الصمم قبل البكم.
ولكن هل الإدراك مرتبط بالصمم والبكم فقط ؟ لا، إن الإنسان يسمع أولا، ثم يرى، ثم يتذوق، ثم يشم، ثم يلمس، ثم تأتي له المعلومات العقلية. والمثال على ذلك أن كل إنسان يعرف أن النار محرقة، وهو لم يعرف هذا إلا لأنه وجدها قد لمست كائنا وأحرقته. ومثال آخر : يتفق الناس على أن صوت العندليب جميل، وهذا الاتفاق جاء من سماع الناس لصوت العندليب. إذن فالمعلومات العقلية تأتي نتيجة للمعلومات الحسية.
﴿ صم وبكم في الظلمات ﴾ إنهم بلا قدرة أيضا على إبصار الهداية من أي ناحية ؛ صم لا يسمعون لكلمة الحق، وبكم لا ينطقون، وفي ظلمات لا يهتدون إلى إدراكات الأشياء ولا إلى الإيمان. كل ذلك مردود إلى المشيئة :﴿ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ﴾ لكن هل اقتحمت المشيئة على الناس وقهرتهم ؟ لا ؛ لأن الحق قال :﴿ إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ﴾( من الآية ٢٨ سورة غافر ). وقال سبحانه أيضا :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ إذن، فبتقديمهم الظلم، والفسق، والكفر، وقد فعلوا ذلك اختيارا فصار المرض واستقر في قلوبهم وزادهم الله مرضا، وهو سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك به، فمن أشرك مع الله شيئا فهو له.
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ( ٤٠ ) ﴾.
و ( أرأيتكم ) مكونة من استفهام وفعل، ومن ضمير وهو لفظ التاء المفتوح للمخاطب كقولك :( أرأيت فلانا ) وكأنك تقول له :( إن كنت قد رأيته فأخبرني عنه )، وعندما تقول للمخاطب ذلك فأنت تستفهم منه عن شيء رآه وأبصره وبعد ذلك تأتي بكاف الخطاب، فكأنك تقول له : أخبرني عنك، فيكون المعنى أخبروني عن أنفسكم، وهكذا تكون :﴿ أرأيتكم ﴾ معناها : أخبروني عن حالكم إخبار من يرى. فالأمر إذن لرسول الله ليسأل المشركين أن يخبروه ماذا يفعلون عندما يصيبهم الضر أو أي شيء فوق الأسباب، هل هم يدعون اللات والعزى ؟
لا، إنهم لا يستطيعون وقت الخطر الداهم أن يكذبوا على أنفسهم، إنما ينادون الله الذي لا يعلنون الإيمان به. ولو كانوا صادقين مع كفرهم لما نادوا الله، بل كان يجب أن ينادوا آلهتهم ؛ لكنهم في لحظة الخطر يقولون :( يا رب ) كأنهم يعرفون أنه لا منقذ لهم إلا هو سبحانه. وهكذا ينكشف أمامهم كذب كفرهم وشركهم بالله. ولا أحد يغش نفسه، حتى الدجال الذي يدعي ممارسته شفاء الناس، إن أصابه مرض نجده يلجأ إلى طبيب متخصص متعلم. فلا أحد يغش نفسه، وساعة يمس الخطر ذات الإنسان نجد الحقيقة تنبع من الإنسان نفسه.
ويسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من يدعونه لحظة الخطر ؟ إنهم يدعون الله. وكأنهم لا يثقون في آلهتهم :
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ﴾( من الآية ١٢ سورة يونس )
لكن ماذا يحدث عندما يعود للقلب غلظته ؟.
﴿ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾( من الآية ١٢ سورة يونس )
لماذا إذن يطلب من الله النجدة وقت الخطر، ولا يتبع التكليف ؟ يأتي الأمر إلى الرسول ليسألهم من تدعون لحظة الخطر ؟ ويأتي الجواب أيضا من الحق سبحانه وتعالى :
﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ( ٤١ ) ﴾.
﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( ٤٢ ) ﴾.
لفقد أرسل الحق لأمم سابقة رسلا بالآيات والمنهج، فكذبتهم أقوامهم، فأخذهم الله بالشدائد والأحداث التي تضر إما في النفس، وإما في المال، بالمرض، بالفقر، لعلهم يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى.
إذن فالحق حين يمس الإنسان بالبأساء أي بالشدائد أو الضراء، أي بالشيء الذي يضر ويؤذي، إنما يريد من الإنسان أن يختبر نفسه، فإن كان مؤمنا بغير الله فليذهب إلى من آمن به، ولن يرفع عنه تلك البأساء أو ذلك الضر إلا عندما يعود إلى الله. وعندما يتضرع إلى الله قد لا يقبل الله منه مثل هذا التضرع ويقول سبحانه :
فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ( ٤٣ ) }.
﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( ١٤ ) ﴾( سورة المطففين ).
أي صارت قلوبهم مغلقة ومغطاة بعد أنم طبع الله وختم عليها فلا تقبل الخير ولا تميل إليه، فلا يؤمنون.
﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( ٤٤ ) ﴾.
إنهم عندما نسوا ما جاءهم من تذكير الحق لهم بالمنهج والتوحيد من خلال الرسل إنه – سبحانه – يصيبهم بالعذاب الذي يفاجئهم به فيقعون في حيرة تأخذ عليهم ألبابهم وتشتت قلوبهم وتقطع رجاءهم.
والرسل إنما تأتي لتذكر ؛ لأن الإيمان موجود بالفطرة. ولكن الغفلة هي التي تخفي الإيمان. والإنسان يحيا في كون ملئ بالنعم ولا دخل لأحد بها، ولا يد لأحد فيها، ولم يدعها أحد لنفسه، كان يجب على هذا الإنسان أن يعيش دائما في رحاب الحمد لله، مولى هذه النعمة.
والتذكير من الحق لعباده يكون بالنعم أو الرسل الذين يأتون بالرسالات المتوالية. وهب أن إنسانا قد غفل عن نعمة الله في الطعام، ثم جاءت لحظة الجوع، فجلس يشتهي الطعام فمنحه الله ذلك الطعام فكيف ينسى لحظة الشبع من وهب له هذا الطعام.
﴿ فلما نسوا ما ذكروا به ﴾ إما أن يكون هو الإخبار بواسطة الرسل الذين يذكرون الناس بأن المنعم هو الله، وأن الله أنزل المنهج ليصلح الكون به، وإما أن يكون بواسطة النعم التي تمر على الإنسان في كل لحظة من اللحظات ؛ لأنها تنبه الإنسان إلى أن هناك من أعطاها. مثال ذلك ساعة يستر الإنسان عورته وجسده بلباس جميل، ألا يتساءل عن الذي وهب الصانع تلك الموهبة التي صمم بها الزي. إذن كيف يأخذ الإنسان النعمة ولا يتذكر المنعم ؟ إن الله سبحانه لا يحرمهم من النعم ساعة أن تركوا شكرها، بل يفتح عليهم أبواب كل شيء، أي يعطيهم من النعم أكثر وأكثر، فيترفون ويعيشون في ألوان من حياة العز والصحة والسعة والجاه والسيطرة والمكانة. ثم ما الذي يحدث ؟ ﴿ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾.
وقلنا من قبل هذا المثل الريفي : لا يقع أحد من فوق الحصير. ولكن الحق يعلي الكافر المشرك في بعض الأحيان ثم يأخذه بغتة فيقع ليكون الألم عظيما. فإن رأيت إنسانا أسرف على نفسه ووسع الحق عليه في نظام الحياة. إياك أن تفتن وتقول : آه إن الكافر الظالم يركب أفخر السيارات ويعيش في أبهى القصور، لا تقل ذلك لأنك سترى نهاية هذا الظالم البشعة.
وانظر إلى دقة التعبير في قول الحق تبارك وتعالى :﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ لقد فتح عليهم... أي سلط عليهم، لا فتح لهم. ويقول الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن الكريم :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾.
وهكذا نعرف أن الفتح لك غير الفتح عليك، لأن الفتح على أحد يعني الاستدراج إلى إذلال قسري سوف يحدث له. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾( من الآية ٤٤ سورة الأنعام )
إن القبض يأتي لحظة الفرح. وكثير ما نرى مثل هذه الأحداث في الحياة، نلتفت إلى كارثة تحدث للعريس أو العروس في يوم الزفاف. ويصدق قول الشاعر :
مشت الحادثات في غرف الحمراء
مشى النعي في دار عرس
وهذا يشرح القول الكريم :
﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ﴾( من الآية ٤٤ سورة الأنعام ).
وعندما ندقق في كلمة :﴿ بما أوتوا ﴾ فإننا نجد أن ما حصلوا عليه من نعمة إنما جاءهم كتمهيد إلهي ييسر هذه المسائل، ثم يأخذهم الحق بغتة، أي أن الحادث الضار يأتي بدون مقدمات ؛ لأن مجيء المقدمات قد يجعل الإنسان يتيقظ ويحتاط أو يتوقع ذلك. ونعرف أن الحق يقول في موقع آخر من القرآن الكريم :
﴿ قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ﴾( من الآية ٤٧ سورة الأنعام ).
أي أن العذاب قد يأتي مرة بغتة، وقد يأتي مرة أخرى جهرا. والعذاب يأتي بغتة عقابا، ويأتي جهرة حتى لا يقولن أحد : لولا أن مجيء العذاب بغتة لكان قد احتاط لذلك الأمر. ويأتيهم العذاب وهم مبلسون أي يائسون لا منجي ولا منقذ ولا خلاص لهم.
﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ( ٤٥ ) ﴾.
ومادام هؤلاء القوم قد نسوا ما ذكروا به، وفتح الله عليهم أبواب كل شيء ثم فرحوا بما أوتوا وأخذهم الحق بغتة، كل ذلك يلفتنا إلى أنه يجب علينا أن نحمد الله لأنه يربي الخلق بالنقمة والنعمة ويطهر الكون من المفسدين، وقطع دابر المفسدين مصيبة لهؤلاء المفسدين، ونعمة من نعم الله على المؤمنين. وقد يتساءل البعض : كيف يأتي القرآن بالنقم وكأنها نعم ؟
ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ( ٣٣ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٣٤ ) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( ٣٥ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٣٦ ) ﴾( سورة الرحمان ).
إنها نقم يتحدث عنها الحق كإرسال الشواظ من نار ونحاس، وهي نقم بالنسبة للكافرين وعليهم، وهي نعم للمؤمنين. ونعلم أن التهويل في أمر العذاب يجعل الناس ترتدع، وهذا الوعيد نعمة من الله. وحين يتجلى الحق بنعمه على خلقه ويقطع دابر الظالمين، يقول المؤمنون الحمد لله :
﴿ وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ( ٤٥ ) ﴾( سورة الأنعام )
﴿ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ( ٤٦ ) ﴾.
هنا يأمر الحق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستنطقهم : ماذا يفعلون إن سلب الله السمع وغطى قلوبهم بما يجعلها لا تدرك شيئا، وسلب منهم نعمة البصر، هل هناك إله آخر يستطيع أن يرد لهم ما سلبه الحق سبحانه منهم ؟ لقد أخذوا نعمة الله واستعملوها لمحادة الله وعداوته، أخذوا السمع ولكنهم صموا عن سماع الهدى، وأخذوا الأبصار ولكنهم عموا عن رؤية آيات الله. ومنحوا القلوب ولكنهم أغلقوها في وجه قضايا الخير. فماذا يفعلون إن أخذ الله منهم هذه النعم ؟ هل هناك إله آخر يلجأون إليه ليستردوا ما أخذه الله منهم ؟.
وترى في الحياة أن الحق قد حرم بعضا من خلقه من نعم أدامها على خلق آخرين. إن في ذلك وسيلة إيضاح في الكون. وإياك أن تظن أيها الإنسان أن الحق حين سلب إنسانا نعمة، أنه يكره هذا الإنسان، إنه سبحانه أراد أن يذكر الناس بأن هناك منعما أعلى يجب أن يؤمنوا به. فإن أخذ الحق هذه النعم من أي كافر فماذا سيفعل ؟ إنه لن يستطيع شيئا مع فعل الله.
وها هو ذا النبي يوضح لهم بالبراهين الواضحة، ولكنهم مع ذلك يعرضون عن التدبر والتفكر والإيمان ﴿ ثم هم يصدفون ﴾.
والمؤمن حين يرى إنسانا من أصحاب العاهات فهو يشكر الله على نعمه، إن الحق – سبحانه – بواسع رحمته يعطي صاحب العاهة تفوقا في مجال آخر. ولنذكر قول الشاعر :
عميت جنينا والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للقلب رافدا
لعلم إذا ما ضيع الناس حصلا
إننا قد نرى أعمى يقود ببصيرته المبصرين إلى الهداية. ونرى أصم كبيتهوفن – على سبيل المثال – قد فتن الناس بموسيقاه وهو أصم. وهكذا نجد من أصيب بعاهة فإن الله يعوضه بجود وفضل منه في نواح ومجالات أخرى من حياته. ولا يوجد إله آخر يمكن أن يعوض كافرا ابتلاه الله ؛ لأن الله هو الواحد الأحد :﴿ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ﴾، أي انظر يا محمد وتعجب كيف نبين لهم الآيات ونصرفها من أسلوب إلى أسلوب ما بين حجج عقلية وتوجيه إلى آيات كونية وترغيب وترهيب وتنبيه وتذكير ومع ذلك فإن هؤلاء الكافرون لا يتفكرون ولا يتدبرون، بل إنهم يعرضون ويتولون عن الحق بعد بيانه وظهوره.
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ( ٤٧ ) ﴾.
ونلحظ أن ( تاء الضمير ) في هذه الآية قد فتحت، بينما الآية السابقة لها جاءت فيها ( تاء الضمير ) مضمومة، حيث يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ قل أرأيتم إن أخد الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ( ٣٦ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ونلحظ أيضا أن الآية التي نحن بصددها الآن تأتي فيها كاف الخطاب :( أرأيتكم ) بينما الآية السابقة لها لا تحمل كاف الخطاب ( أرأيتم ) ونعرف أن كل لفظة من هذه الألفاظ قد جاءت لتؤدي معنى لا يؤدى بغيرها، وإن تشابهت الأساليب، فقوله :( أرأيتكم ) يشمل ويضم ضمير المخاطب وهو التاء المفتوحة ويشمل أيضا كاف الخطاب والجمع بين علامتي الخطاب ( التاء ) و ( الكاف ) يدل على أن ذلك تنبيه على شيء ما عليه من مزيد. إنه تنبيه إلى أن هلاكهم سيكون هلاك استئصال وإبادة، ومرة يقول الحق :( أرأيتم ) أي أخبروني أنتم وأعلموني إعلاما يؤكد لي صدق القضية، ويأتي الاستفهام هنا من مادة ( أرى ) و ( رأى ).
إن السبب في ذلك أنك حين تستفهم عن شيء إما أن يكون المستفهم منه قد حضر حدوث الشيء، وإما أن يكون المستفهم منه لم يحضر حدوث الشيء. فإن كان قد حضر حدوث الشيء فإنك تقول له : أرأيت ما حدث لفلان وفلان ؟ فيقول لك : نعم رأيت كذا وكذا وكذا. وإن كان المستفهم منه لم يعلم بالأمر ولم يره فهو يجيب بالنفي، وهذا ما يحدث بين البشر، لكن حين يكون الاستفهام من الله، ويكون الحادث المستفهم عنه قد حدث من قبل وجود المستفهم منه، فالإيمان يقتضي أن يجيب المستفهم منه عن هذا الحادث ب ( نعم ).
ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( ١ ) ﴾( سورة الفيل ).
وهذا الخطاب من الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم عما حدث لأصحاب الفيل في عام ولادته صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن الحدث موضع رؤية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولقائل أن يقول : كيف يخاطب الله رسوله باستفهام عن حادث لم يره ؟ ونقول : إن الحق بهذا الاستفهام يوضح لرسوله : اسمع مني، وسماعك مني فوق رؤية عينيك للحدث، فإذا ما قلت لك :( ألم تر ) فمعناها : اعلم علما يقينا، وهذا العلم اليقيني يجب أن تثق في صدقه كأنك رأيته رؤية العين وفوق ذلك أيضا فإن عينيك قد تخدعك أو تكذب عليك، ولكن حين يخبرك ربك لا يخدعك ولا يكذب عليك أبدا.
إذن فالحق يريد أن يخرج هذه الأساليب مخرج اليقين. وأضرب هذا المثل – ولله المثل الأعلى- فحين يحاول إنسان قد أحسنت إليه كثيرا أن يجحد إحسانك، فأنت لا تقول له : أنا أحسنت إليك، ولكنك تقول له : أرأيت ما فعلته معك يوم كذا، ويوم كذا ؟ وهنا يبدوا كلامك كاستفهام منك، لأنك واثق أنه حين يدير رأسه في الجواب فلن يجد إلا ما يؤيد منطقك من وقوفك إلى جانبه، وإحسانك إليه، ولن يجد إلا أن يقول لك : نعم رأيت أنك وقفت بجانبي في كل المواقف التي تذكرها. وفي مثل هذا القول إلزام لا من موقع المتكلم، ولكن من واقع المخاطب.
وبعد أن تكلم الحق عن تعنت الكافرين أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم اكتفائهم بالآيات التي أنزلها الله مؤيدة لصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تماديهم في اقتراح آيات من عندهم، وقد اقترحوها في شيء من الصفاقة والسماجة، فقالوا :
﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ( ٩٠ ) أو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أو تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أو تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أو يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أو تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) ﴾( سورة الإسراء ).
وكلها أسئلة مليئة بالتعنت، والحق سبحانه وتعالى هو الذي اختار القرآن معجزة ومنهجا لرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ويعلم سبحانه صدق رسوله في البلاغ عنه، ولكل ذلك يبين الحق لرسوله أن يبلغ هؤلاء الكافرين أنه سبحانه وتعالى لن يعود عليه أي نفع أو ضر نتيجة إيمانهم به سبحانه، لكن النفع بالإيمان يكون للعباد ويعود خيره إليهم ؛ لأنه سبحانه وتعالى له صفات الكمال كلها قبل أن يخلق الخلق. إنها له أزلا وأبدا.
فبصفات الكمال – علما وقدرة ؛ وحكمة ؛ وإرادة – خلق الخلق جميعا. فإياكم أيها الناس أن تفهموا أن إيمانكم بالله يزيده صفة من صفات الجلال أو الجمال، وإنما الإيمان عائد إليكم أنتم، فإذا كان منكم متكبرون ومتعنتون، فالحق سبحانه لا يترك من تكبر وتعنت ليقف أمام منهجه الذي يحكم حركة الحياة في الأرض، ولكنه سبحانه يأخذ أهل التكبر والتعنت أخذ عزيز مقتدر. واستقرئوا أيها الناس ما حدث لمن كذبوا رسل الله، وماذا صنع الله بهم ؟ إنه بقدرته سبحانه وتعالى يستطيع أن يصنع معكم ما صنعه معهم. وإذا ما استقرأتم قصص الرسل مع المكذبين لله وجدتم العذاب قد جاء للقوم بغتة، فها هو ذا الحق يقول عن قوم عاد :
﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( ١٥ ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ ( ١٦ ) ﴾( سورة فصلت ).
لقد تكبر قوم عاد على سيدنا هود عليه السلام والذين آمنوا معه، وظنوا أنهم أقوى الأقوياء، وغفلوا عن قدرة الخالق الأعلى وهو القوي الأعظم وأنكروا آيات الله، فماذا كان مصيرهم ؟. فاجأهم الحق بإرسال ريح ذات صوت شديد في أيام كلها شؤم ليذيقهم عذاب الهوان والخزي والذل في هذه الدنيا، ويقسم الحق بأن عذاب الآخرة أشد خزيا ؛ لأنهم في هذا اليوم لا يجدون ناصرا لهم لأنهم كفروا بالذي ينصف وينصر وهو الحق جلت قدرته.
وماذا عن قوم ثمود ؟ لقد بين لهم الحق طريق الهداية. لكنهم اختاروا الضلال واستحبوا لأنفسهم الكفر على الإيمان، وكذبوا نبي الله صالحا عليه السلام وعقروا الناقة، فنزلت عليهم الصاعقة لتحرقهم بمهانة بسبب ما فعلوه من تكذيب لرسولهم :
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ١٧ ) ﴾( سورة فصلت ).
وماذا فعل الحق بأصحاب الفيل ؟ لقد جاء قوم أبرهة لهدم الكعبة، فاستقبلتهم الطير الأبابيل.. أي التي جاءت في جماعات كثيرة متتابعة بعضها في إثر بعض بحجارة من طين متحجر محرق قد كتب وسجل عليهم أن يعذبوا به :
﴿ ألم يجعل كيدهم في تضليل ( ٢ ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل ( ٣ ) ترميهم بحجارة من سجيل ( ٤ ) فجعلهم كعصف مأكول ( ٥ ) ﴾( سورة الفيل ).
وكل حدث من تلك الأحداث أجراه الله بغتة. ومعنى البغتة أن يفاجئ الخطب القوم بدون مقدمات علم به. وهناك أيضا من الأحداث الجسام أنزلها الله بالكافرين جهرة، فهاهم أولاء قوم فرعون يغرقهم الله علنا. وكذلك قارون أهلكه الله جهرة :
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ٧٦ ) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ٧٧ ) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ولا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( ٧٨ ) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( ٧٩ ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ( ٨٠ ) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ( ٨١ ) ﴾( سورة القصص ).
لقد أخذ قارون نعمة الله ونسبها إلى نفسه، وصار مفتونا بما امتلك، وغرق في الغرور، فماذا فعل الله به ؟ خسف الله به جهرة وأمام أعين الذين تمنوا مكانه. إذن فمن الممكن أن يأتي عذاب الله بغتة للكافرين به أو يأتيهم بالعذاب جهرة. وما السبب في التلوين بين ( بغتة ) و ( جهرة ) ؟ البغتة تثبت لمن يعبد غير الله أنه مخدوع في عبادته لغير الله، لأنه لو كان يعبد إلها حقا لما قبل هذا الإله أن يعذب أتباعه من حيث لا يشعر. إذن فالبغتة تثبت عجز المعبودين من أصنام وغيرها، فقد عجزت تلك الأصنام أن تحتاط للعابدين لها. وقد يقول قائل منهم : لقد جاءنا العذاب فجأة، لكن لو جاء لنا مواجهة لكنا قادرين على مواجهته والوقوف أمامه.
فيأتي الله أيضا بالعذاب جهرة فلا يستطيعون مواجهته فتنقطع حجتهم، وعلى الرغم من ذلك تموت في قلوب هؤلاء المعاندين القدرة على إبصارهم ضرورة الإيمان. ويعامل سبحانه خصوم رسولنا – صلى الله عليه وآله وسلم – مثل هذه المعاملة، فعندما عانده القوم جاءهم الله سبحانه بأمور معجزة لعلهم يتفكرون.
فهاهم أولاء قد اتفقوا على قتله قبل الهجرة، ويقفون على باب بيته، ويخرجه الحق من بينهم وهم لا يبصرون، ولا يفلحون في التآمر على رسول الله، ولا ينجح لهم تبييت ضد رسول الله، ويكون مكر الله فوق كل مكر يريد به أعداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إيذاءه به. وهم قد ذهبوا إلى الجن ليسحروا له، لكن لا هذا السحر قد نفع، ولا ذاك التبييت أتى بنتيجة. وكانت تكرمة الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فوق كل شيء. ويقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ( ٤٧ ) ﴾ ( سورة الأنعام ).
ويكون تذييل الآية – أيضا – على هيئة استفهام، والاستفهام هنا – كما علمنا من قبل – إنما جاء ليؤكد المعنى، وليكون الإقرار من أفواه من يتلقون هذا الاستفهام وعن يقين منهم، وليكون الاعتراف منهم إجابة بالإقرار، والإقرار – كما نعلم – هو سيد الأدلة.
وهب أن صاعقة نزلت أو خسفا حدث فيه عذاب، فكيف ينجي الله المؤمنين من هذا العذاب أو ذلك الخسف ؟.
إن الهلاك فقط يكون للقوم الظالمين ؛ لأن ا
ونعرف أن البشارة هي الإخبار بما يسر قبل أن يقع. والسبب في البشارة هو تهيئة السامع لها ليبادر إلى ما يجعل البشارة واقعا بأن يمتثل إلى المنهج القادر من الإله الخالق. ونعرف أن الإنذار هو الإخبار بما يسوء قبل أن يقع ليحترز السامع أن يقع في المحاذير التي حرمها الله.
والبشارة – كما نعلم – تلهب في الراغب في الفعل والمحب له أن يفعل العمل الطيب، والإنذار يحذر ويخوف من يرغب في العمل السيئ ليزدجر ويرتدع. إذن فمهمة الرسل هي البشارة والإنذار، فلا تخرجوا بهم أيها الناس إلى مرتبة أخرى أو منزلة ليست لهم فتطلبوا منهم آيات أو أشياء ؛ لأن الآيات والأشياء كلها من تصريف الحق تبارك وتعالى، ومن سوء الأدب أن نخطئ الله في الآيات التي أرسلها مع الرسل ونطلب آيات أخرى. إنكم بهذا تستدركون على الله.
ويبين الحق لنا حدود مهمة الرسل فيقول :
﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾( من الآية ٤٨ سورة الأنعام )
هذا هو عمل الرسل، فماذا عن عمل الذين يستمعون للرسل ؟ إن الحق يقول :
﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾( من الآية ٤٨ سورة الأنعام ).
فالمطلوب – إذن – من الذين يستمعون إلى الرسل أن يقبلوا على اختيار الإيمان، وأن يستمعوا إلى جوهر المنهج وأن يطبقوه. فمن آمن منهم وأصلح فلا خوف عليه لأنه قد ضمن الفوز العظيم، ولا يصيبه أو يناله حزن، لأن ناتج عمله كله يلقاه في كتابه يوم القيامة. والإيمان هو اطمئنان القلب إلى قضية عقدية لا تطفو إلى الذهن لتناقش من جديد. ولذلك نسمي الإيمان عقيدة، أي شيئا انعقد عقدا لا ينحل أبدا.
إن على المؤمن بربه أن يستحضر الأدلة والآيات التي تجعل إيمانه بربه إيمانا قويا معقودا ؛ وهذا من عمل القلب. ويعرف المؤمن أن عمل القلب لا يكفي كتعبير عن الإيمان ؛ لأن الكائن الحي ليس قلبا فقط، ولكنه قلب وجوارح وأجهزة متعددة، وكل ما في الكائن الحي المؤمن يجب أن ينقاد إلى منهج ربه فلا بد من التعبير عن الإيمان بأن يصلح الإنسان كل عمل فيؤديه بجوارحه أداء صحيحا سليما.
إنني أقول ذلك حتى يسمع الذي يقول : إن قلبي مؤمن وسليم. لا، فليست المسألة في الإيمان هكذا، صحيح أنك آمنت بقلبك ولكن لماذا عطلت كل جوارحك على أداء مطلوب الإيمان ؟ لماذا لا تعطي عقلك فرصة ليتدبر ويفكر ويخطط ويتذكر، لماذا لا تعطي العين الفرصة لتعتبر وتستفيد من معطيات ما ترى ؟ وكذلك اليد، واللسان، والأذن، والقدم، وكل الجوارح.
والإصلاح هو عمل الجوارح، فيفكر الإنسان بعقله في الفكرة التي تنفع الناس، ويسمع القول فيتبع أحسنه، ويصلح بيديه كل ما يقوم به من أعماله. ويعلم المؤمن أنه حين أقبل على الكون وجده محكما غاية الإحكام، ويرى الإنسان الأشياء١ التي لا دخل له في هذا الكون وهي على أعلى درجات الصلاحية الراقية، فالمطر ينزل في موسمه، والرياح تهب في موسمها ومساراتها، وحركة الشمس تنتظم مع حركة الأرض، وكل عمل في النواميس العليا هو على الصلاح المطلق.
إن الفساد يأتي مما للإنسان دخل فيه، فالهواء يفسد من بناء المنازل المتقاربة، وعدم وجود مساحات من الخضرة الكافية، ويفسد الهواء أيضا بالآلات التي تعمل ولها من السموم ما تخرجه وتدفعه من أثر عملية احتراق الوقود. عندما صنع الإنسان الآلات نظر إلى هواه في الراحة، وغابت عنه أشياء كان يجب أن يحتاط لها، ومثال ذلك :( عادم ) السيارات الذي يزيد من تلوث البيئة، ورغم اكتشاف بعض من الوسائل التي يمكن أن تمنع هذا التلوث. إلا أن البعض يتراخى في الأخذ بها.
ونحن حين نأخذ بقية الحضارة ونركب السيارات فلماذا ننسى القاعدة التي تقوم عليها الحضارة وهي الدراسة العلمية الدقيقة لنصنع الآلات ونأخذ
من الآلات ما يفيد الناس، فنعمل على الأخذ بأسباب تنقية البيئة من التلوث ونمنع الأذى عن حياة الناس. فالعادم الذي من صناعتنا – مثل عادم السيارات والآلات – يفسد علينا الهواء فتفسد الرئة في الإنسان.
إن علينا أن نعرف أن مسئولية الإيمان أن ننظر إلى الشيء الذي نصنعه وكمية الضر الناتجة عنه، وكل إنسان يحيا في مدينة مزدحمة إنما يضار بآثار عادم السيارات على الرغم من أنه ليس في مقدور كل الإنسان أن يشتري سيارة ليركبها، فكيف يرتضي راكب السيارة لنفسه ألا يصلح من تلك الآلات التي تسهل له حياته ويصيب بعادمها الضر لنفسه ولغيره من الناس ؟ لذلك فعلى المسلم ألا يأخذ الحضارة من مظهرها وشكلها بل على المجتمع المسلم أن يعمل على الأخذ بأسباب الحضارة من قواعدها الأصلية، وأن يدرس كيفية تجنب الأضرار حتى لا نقع في دائرة الأخسرين أعمالا، هؤلاء الذين قال فيهم الحق سبحانه :
﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( ١٠٣ ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( ١٠٤ ) ﴾( سورة الكهف ).
ولنا أن نأخذ المثل الأعلى دائما من الكون الذي خلقه الله لنصونه، إن عادم وأثر ناتج أي شيء مخلوق لله يفيد الإنسان ويفيد الكون حتى فضلات الحيوان ينتفع بها في تسميد الأرض وزيادة خصوبتها. وهكذا نعرف معنى :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
فالإيمان عمل القلب، والإصلاح عمل الجوارح، ولذلك يجب أن نصلح في الكون بما يزيد من صلاحه. ولنعلم أن الكون لم يكن ناقصا وأننا بعملنا نستكمل ما فيه من نقص. ليس الأمر كذلك، ولكننا أردنا أن نترف في الحياة، ومادمنا نريد الترف فلنزد من عمل العقل المخلوق لله في المواد والعناصر التي أمامنا وهي المخلوقة لله. وأن نتفاعل معها بالطاقة والجوارح المخلوقة لله، ما دمنا نريد أن نتنعم نعيما فوق ضروريات الحياة.
ومثال ذلك أننا قديما وفي أوائل عهد البشرية بالحياة، كان الإنسان عندما يعاني من العطش، ويشرب من النهر، وبعد ذلك وجد الإنسان أنه لا يسعد بالارتواء عندما يمد يده ليأخذ غرفة من ماء النهر، فصنع إناء من فخار ليشرب منه الماء، ثم صنع إناء من الصاج، ثم صنع إناء من البلور، فهل هذه الأشياء أثرت في ضرورة الحياة أو هي ترف الحياة ؟
إنها من ترف الحياة. فإن أردت أن تترف حياتك فلتعمل عقلك المخلوق لله في العناصر المخلوقة لله، بالطاقة والجوارح المخلوقة لله، وبذلك يهبك الله من الخواطر ما تستكشف به آيات العلم في الكون. ومثال ذلك : أن أهل الريف قديما كانوا يعتمدون على نسائهم ليملأن الجرار من الآبار أو الترع ثم تقوم سيدة البيت بترويق المياه. وعندما ارتقينا قليلا، كان هناك من الرجال من يعمل في مهنة السقاية، ويمر بالقرب المملوءة بالماء على البيوت. عندما قام أهل العلم بالاستنباط والاعتبار اكتشفوا قانون الاستطراق، فرفعوا المياه إلى خزان عال، وامتدت من الخزان ( مواسير ) وأنابيب مختلفة الأقطار والأحجام، وصار الماء موجودا في كل منزل، هذا ما فعله الناس الذين استخدموا العقول المخلوقة لله.
وكان الناس من قبل ذلك يكتفون بالضروري من كميات المياه، فالأسرة كانت تكتفي بملء قربة أو قربتين من الماء، ولكن بعد أن صارت المياه في كل منزل، أساء الكثير من الناس استخدام المياه، فأهدروا كميات تزيد عن حاجتهم، وتمثل ضغطا على ( مواسير ) الصرف الصحي، فتنفجر ويشكو الناس من طفح المجاري.
إن على المسلم أن يرعى حق الله في استخدامه لكل شيء، فالماء الذي يهدره الإنسان قد يحتاج إليه إنسان آخر، وعندما نتوقف عن إهداره، نمنع الضرر عن أنفسنا وعن غيرنا من طفح ( مواسير ) الصرف الصحي. وليحسب كل منا – على سبيل المثال – كم يستهلك من مياه في أثناء الوضوء. إن الإنسان منا يفتح الصنبور ويغسل يديه ثلاثا ويتمضمض ثلاثا، ويستنشق ثلاثا، ويغسل وجهه ثلاثا، ويغسل ذراعيه ثلاثا، ويمسح برأسه، ويغسل أقدامه. ويترك الإنسان الصنبور مفتوحا طوال تلك المدة فيهدر كميات من المياه، ولو فكر في حسن استخدام المياه التي تنزل من الصنبور لما اشتكى غيره من قلة المياه. فلماذا لا يفكر المسلم في أن يأخذ قدرا من المياه يكفي الوضوء ويحسن استخدام الماء ؟ وكان الإنسان يتوضأ قديما من إناء به نصف لتر من الماء، فلماذا لا نحسن استخدام ما استخلفنا الله فيه ؟
على الإنسان منا أن يعلم أن الإيمان كما يقتضي أو يوجب ويفرض الصلاة ليصلح الإنسان من نفسه، يقتضي – أيضا – إصلاح السلوك فلا نبذر أو نهدر فيما نملك من إمكانات، وأن ندرس كيفية الارتقاء بالصلاح، فلا نتخلص من متاعب شيء لنقع في متاعب ناتجة من سوء تصرفنا في الشيء السابق، بل علينا أن ندرس كل أمر دراسة محكمة حتى لا يدخل الإنسان منا في مناقضة قوله الحق :
﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( ٣٦ ) ﴾( سورة الإسراء ).
أي عليك أن تعرف أيها المسلم أنك مسئول عن السمع والبصر والقلب وستسأل عن ذلك يوم القيامة، لذلك لا يصح أن تتوانى عن الأخذ بأحسن العلم ليحسن قولك وفعلك. وبذلك لا يكون هناك خوف عليك في الدنيا أو الآخرة، لأنك آمنت وأصلحت، وأيضا لا حزن يمسك في الدنيا ولا في الآخرة :﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
إنك بذلك تصون نفسك في الآخرة وفي الدنيا أيضا ؛ لأنك تسير في الحياة بإيمان وتصلح في الدنيا متبعا قوانين الله. وإن رأيت أيها المسلم متعبة في الكون فاعلم أن حكما من أحكام الله قد عطل، إن رأيت فقيرا جائعا أو عريانا فاعلم أن حقا من حقوقه قد أكله أو جحده غيره ؛ لأن الذي خلق الكون، خلق ما يعطيه الغني من فائض عنه للفقير ليسد عوزه، لكن الغني قبض يده عن حق الله ؛ وأيضا جاء قوم يتسولون بغير حاجة للتسول، والفساد هنا إنما يأتي من ناحيتين : ناحية إنسان استمرأ أن يبني جسمه من عرق غيره، أو من إنسان آخر غني لا يؤدي حق الله في ماله، بذلك يعاني المجتمع من المتاعب.
﴿ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ( ٤٩ ) ﴾.
والذين كذبوا بآيات الله هم إما من كذب الرسول في الآيات الدالة على صدقه وهو المبلغ عن الله، وهؤلاء دخلوا في دائرة الكفر. وإما هم الذين كذبوا بآيات المنهج، فلم يستخدموا المنهج على أصوله وانحرفوا على الصراط المستقيم والطريق السوي. وهؤلاء وهؤلاء قد فسقوا، أي خرجوا عن الطاعة، ونعلم أن كلمة ( الفسق ) مأخوذة من خروج ( الرطبة ) عن قشرتها عندما يصير حجمها أصغر بما كانت عليه لاكتمال نضجها. والذي يفسق عن منهج الله هو الذي يقع في الخسران ؛ لأن منهج الله هدفه صيانة الإنسان المخلوق لله ب ( افعل كذا ) و ( لا تفعل كذا ).
إن الإنسان يفسق عندما لا يفعل ما أمره الله أن يفعله، أو يفعل ما نهاه الله عن أن يفعله. ونجد الإنسان منا يخاف على جهاز التسجيل أو جهاز التليفزيون من أن يفسد فيتبع القواعد المرعية لاستخدامه. فلا يمد – مثلا – جهازا من الأجهزة الكهربائية بنوعية من الطاقة غير التي يحددها الصانع، فإن قال لصانع : استخدام كهرباء مقدارها مائتان وعشرين فولتا حتى لا تفسد الآلة فالإنسان ينصاع لما قاله الصانع، فما بالنا بالإنسان، إن الله – جلت قدرته – خلق الإنسان ووضع له قوانين صيانته. إذن فمن يفسد في قوانين صيانة نفسه يمسه العذاب، وكلمة يمسهم العذاب تعطي وتوحي بأن العقوبة تعشق أن تقع على المجرم، كأن العذاب سعى إليه ليناله ويمسه وها هو ذا قول الحق عن النار :
﴿ تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ( ٨ ) ﴾( سورة الملك ).
وهو سبحانه القائل عن النار :
﴿ يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ( ٣٠ ) ﴾( سورة ق ).
إذن فالعقوبة نفسها حريصة على أن تنفذ إلى من أساء. ولذلك يلح العذاب في أن يمس الذين فسقوا. ويأتي الحق هنا بكلمة ( المس ) لحكمة، ذلك أن عقوبة الله لا تقارب البشر.
فالإنسان يعاقب إنسانا بمقياس قدرته وقوته، وليس لأحد من الخلق أن يتمثل قدرة الله في العذاب، ولذلك يكفي المس فقط، لأن التعذيب يختلف باختلاف قدرة المعذب، فلو نسبنا التعذيب إلى قدرة الله لكان العذاب رهيبا لا طاقة لأحد عليه.
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون( ٥٠ ) ﴾.
و ( قل ) – كما نعلم – هي أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والرسول يبلغ ما أمر به الله، وكان يكفي أن يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : لا أقول لكم عندي خزائن الله. لكنها دقة البلاغ عن الله، إن القرآن توقيفي بمعنى أن كل كلمة فيه نزلت من الله كما هي وبلغها الوحي الأمين لسيدنا رسول الله، وبلغها لنا صلى الله عليه وآله وسلم كما هي، ويدل ذلك على أن أحدا لا يملك التصرف حتى في اللفظ، بل لابد من أمانة النقل المطلقة.
وأبلغنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الحق قد أرسله هاديا ومبشرا ونذيرا بآية دالة على صدق البلاغ عنه وهي القرآن. وكان يجيب على من يستقبل هذا البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يستقبله بحق فلا يطلب منه إلا ما يتمشى مع الوصف الذي ادعاه صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه. فليس من حق أحد أن يطلب من الرسول آيات غير التي أنزلها الله ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع إلا أنه مبلغ عن الله، فيجب أن تكون المقابلة له في إطار هذا الادعاء.
وقد تجاوز الكافرون ذلك عندما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آيات أخرى، كتفجير بعض الأرض ينابيع مياه، أو أن يكون له بيت من زخرف، ولذلك يوضح له الحق سبحانه أن يبلغهم أنه لا يملك مع الله خزائن السماوات والأرض، فكيف تطلبون بيوتا وقصورا، وكيف تطلبون معرفة الغيب حتى تقبلوا على النافع وتتجنبوا الضار ؟. ألا يكفيكم المنهج الإلهي الذي يهديكم إلى صناعة كل نافع لكم ويجنبكم كل أمر ضار بكم ؟ ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل لهم إنه يعلم الغيب. وهو بشهادتهم هم يقولون عنه ما جاء بالقرآن الكريم :
﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ( ٧ ) أو يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أو تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا ( ٨ ) ﴾( سورة الفرقان ).
لقد سخروا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطالبوا أن تكون له آيات أخرى، وتساءلوا كيف يمكن أن يزعم أنه رسول وهو يأكل الطعام كما يأكلون، ويغشى الأسواق لكسب العيش كما يفعل البشر، ولو كان رسولا لكفاه الله مشقة كسب العيش، ولأنزل إليه ملكا يساعده في البلاغ عن الله، أو يلقي إليه من السماء بكنز ينفق منه، أو تكون له حديقة غناء يأكل من ثمارها.
هذا ما قاله كبار المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وأرادوا أن يصدوا الناس عن الإيمان بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرة يتهمونه بأنه مسحور، ومرة بأنه مجنون، وثالثة بأنه يهذي، ورابعة بأنه كذاب، وخامسة بأنه يتلقى القرآن من أعاجم، ويدحض الحق كل هذه الأكاذيب وكل تلك الافتراءات التي ضلوا بها وأضلوا بها سواهم. إنه صلى الله عليه وآله وسلم من الرسل :
﴿ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( ٢٠ ) ﴾( سورة الفرقان ).
إن الرسل من قبلك يا رسول الله كانت تأكل الطعام، وتكسب العيش من العمل ويترددون على الأسواق، فإذا كان المشركون يعيبون عليك ذلك ويحاولون إضلال الناس بكل الأساليب، فأنت ومن معك يا رسول الله من المؤمنين سيكتب الله لكم النصر ويجزي كلا بما عمل. ثم إن الآيات التي يطلبها المشركون من رسول الله كانت كلها تعنتا ؛ فهو لم يقل لهم : إنه ملك. لقد قال لهم : إنه رسول مبلغ عن الله، وكل ما يؤديه هو صدق الأداء عن الله، فكيف يطلبون منه أشياء لا تتعلق إلا بملكية الله لخزائن الأرض ؟ وكيف يطلبون منه أن يعلمهم الغيب ؟ وكيف ينتقدون أنه رسول وبشر يأكل ويتزوج ويمشي في الأسواق ؟
إن كل تلك الأقوال دليل التعنت ؛ لأنهم قد طلبوا أشياء تخرج عن مجال ما ادعاه رسول الله لنفسه من أنه رسول مبلغ عن الله ؛ إنهم طلبوا الخير النافع والينابيع التي تجري، والجنات والقصور، وأشياء كلها ليست في مقدور رسول مبلغ عن الله ؛ لأن الذي يهبها هو سبحانه وتعالى :
وكلمة ( خزائن ) هذه مفردها ( خزانة ) وهي الشيء الذي يكنز فيه كل نفيس ليخرج منه وقت الحاجة. لا تقل : خزانة إلا لشيء جعلته ظرفا لشيء نفيس تخاف عليه من أن تخرجه في غير أوان وزمان إخراجه. وخزائن الأرض كلها يملكها الله، فهو سبحانه وتعالى القائل :
﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ( ١٩ ) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ( ٢٠ ) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( ٢١ ) ﴾( سورة الحجر ).
إذن فالحق جاء بالقضية الكلية، وهي أن أسرار الله ونفائسه في الكون هي بيد الله في خزائنه، وهو سبحانه يجليها ويظهرها ويكشفها لوقتها. كيف ؟ إن الحق سبحانه وتعالى تكلم عن بدء الخلق، وتكلم عن خلق السماوات والأرض، وتكلم عن هذا الموضوع كلاما مجملا تفسره الآيات الأخرى. فالحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٩ ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ( ١٠ ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ( ١١ ) ﴾( سورة فصلت ).
يأمر الحق رسوله أن يبلغ هؤلاء المشركين كيف يكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين وكيف يجعلون له شركاء وهو الخالق للأرض التي هي مناط الحركة لابن آدم. لقد خلق فيها سبحانه ما يقيت ابن آدم وتقوم به حياته إلى أن تقوم الساعة. والقوت – كما نعلم – هو الذي يبقي للإنسان حياته وإن أراد الترف فلا بد له من الطموح في الحياة. وهو سبحانه جعل في الأرض رواسي – أي جبالا – وبارك في الأرض وفي الرواسي. ثم جاء بتقدير الأقوات بعد ذكر الرواسي وهي الجبال، فكأن الجبال في حقيقة أمرها هي مخازن القوت. وقد يقول قائل : كيف ذلك ؟
ونقول : إن الواقع قد أثبت هذه الحقيقة ؛ فأنت إن نظرت إلى الأنهار التي تجري، لوجدتها تتكون من الماء الذي تساقط من الأمطار على الجبال، فالمياه المكونة من ذرات صغيرة دقيقة تنزل على هذه الجبال لتفتتها، وكأن المياه هي ( المبرد ) الذي يزيل من سطح الجبال هذه الرمال المليئة بالعناصر الغذائية للأرض، وهو ما نسميه نحن ( الغرين )، والغرين – كما نعلم – هو ما ينزل مع المياه من سطوح الجبال إلى مجرى النهر، باندفاع المياه في مجرى النهر تنتقل المادة الخصبة إلى الأرض، وتتكون تلك الطبقة الخصبة التي تتغذى منها النباتات. لو شاء الحق سبحانه وتعالى لجعل سطح الأرض كله مستويا، وفيه الخصوبة التي تنبت النبات.
لكن حكمته سبحانه شاءت أن تصنع للنبات غذاءه بهذه الطريقة. فأنت إذا ما نظرت إلى النبات وجدته يختلف من نوع إلى نوع في أسلوب امتصاصه للعناصر الغذائية اللازمة له، فهناك نوع من النبات يمتص غذاءه من عمق نصف المتر، ونوع ثان يأخذ غذاءه من عمق المتر، وهكذا. وإن لم نأت للأرض المزروعة بسماد أو مخصبات أو غرين، فإن الأرض تضعف ؛ لأن الحق يريد لعملية الزراعة أن تستمر وتمتد وتتوالى، فجعل الجبال مكونة بشكل صلب، وتمر على الجبال عوامل التعرية من حرارة وبرودة وتشققات ثم ينزل عليها المطر فيذيب من سطوح الجبال بعضا من تلك المواد الغذائية للازمة للأرض، تنتقل هذه المواد الغذائية عبر المياه إلى الأرض، وبهذا يتوالى الإمداد بالخصب من الجبال إلى الأرض. وهكذا نجد أن الجبال في حقيقتها هي مخازن لخيرات الله.
وهل مقومات الحياة زرع فقط ؟ لا ؛ لأنك إن نظرت إلى نموذج مصغر للكرة الأرضية، ستجده يشبه البطيخة الكبيرة، وإن جئت لتقطع مثلثا من محيط القشرة إلى مركز البطيخة، وجعلت هذا المثلث يشبه الهرم، ثم أخذت منها مثلثا آخر من أي ناحية سواء أكان من ناحية الأرض الخصبة، أم من البحار أم من الجبال أم من الوديان، أم من الصحاري، ثم نظرت من بعد كل ذلك إلى الخير المطمور في كل جزء من هذه الأجزاء لوجدته مساويا للجزء الآخر، لماذا ؟ لأن الحياة لا تعتمد على ألوان محصورة من القوت، ولكنها تحتاج في عمارتها إلى أدوات ومواد الحضارة من حديد وبترول ومنجنيز وغير ذلك من كنوز الأرض التي تقوم عليها الحضارة.
إننا نجد هذه الخيرات مكنوزة إما في الجبال وإما في الصحاري. ولكن كل خير من هذه الخيرات له ميعاد، وله ميلاد، وأنت لو قست ووزنت الخيرات الموجودة في أي مثلث هرمي من الأرض من مركزها إلى محيطها، وقارنتها بوزن قياس الخيرات الموجودة في مثلث هرمي آخر مساو له من الكرة الأرضية نفسها، لوجدت الخيرات متساوية في كل من المثلثين. ولكن لكل لون من هذه الخيرات ميلاد وميعاد.
﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( ٢١ ) ﴾( سورة الحجر )
فما يقال له شيء، فإن له خزانة عند ا الله ينزل منها سبحانه بقدر. ونرى ذلك من قمة الوجود، وهو العقل، إن العقل شيء، وله خزائن عند الله، فما كان موجودا من أفكار من عشرة قرون لدى البشرية جميعا لا يقاس بكمية الأفكار التي يمتلكها العقل الجمعي للعالم الآن، ذلك أن كل جيل قد استفاد مقدمات من أفكار الجيل السابق له ليصل إلى نتاج جديد. إذن فهناك خزائن للأفكار وللخواطر. وكذلك كل شيء في الوجود له عند الله خزائن لا ينزل منها إلا بقدر معلوم :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ﴾.
وساعة يريد أن يظهر ميلاد سر ما، فهو سبحانه يهيئ الأسباب لذلك. وعلى سبيل المثال – ولله المثل الأعلى – كنا قديما نقطع الأخشاب من الأشجار لنصنع منها وقودا، وكنا بعد أن نقطع الأخشاب نخشى عليها من الفساد، لذلك وضع الحق بعضا من إلهاماته للعقل البشري حتى يستطيع تحويل الخشب إلى فحم ليضمن الإنسان صيانة الخشب، وليضمن وجود مصدر للطاقة هو الفحم النباتي. ومن بعد ذلك اكتشف الإنسان الفحم الحجري. ومن بعد ذلك اكتشفنا البترول، كل ذلك من خيرات الطاقة كان مكنوزا في الأرض، ولم يكتشفه الإنسان إلا بعد أن أعطاهم الله الاستعداد لاستقبال هذا الخير، وسيظل عطاء الله قائما إلى أن تقوم الساعة. فمع الفحم دخلنا عصر البخار، ثم دخلنا عصر الكهرباء، ثم دخلنا عصر الذرة.
وكل هذه الأشياء كان لكل منها ميلاد، ولكل منها مكان في خزائن الله، وعندما ينزل الله أي خاطر من خواطر على عبد من عباده فإن العبد يأخذ بالأسباب ويكتشف ميلاد السر المكنوز. وكل ل
﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ( ٥١ ) ﴾.
أي اذر بالوحي – الذي تتبعه- هؤلاء الذين يخشون يوم اللقاء مع الله. والإنذار – كما نعلم – هو إعلام بشيء مخيف قبل وقوعه لنتفادى أن يقع. وما المراد بهؤلاء الذين يطلب الحق من رسوله إنذارهم بالوحي ؟ في أول الإسلام كان إقبال بعض المؤمنين على العمل الإيماني ضعيفا، ومادام في قلوبهم إيمان، ويخشون لقاء الله فالوحي إنذار لهم بضرورة العمل الإيماني الجاد. كما يجوز أن يكون الإنذار بالوحي لأهل الكتاب ؛ لأنهم يعرفون أن هناك يوما آخر سيلقون فيه الله. وقد يكون الإنذار لإنسان يؤمن بالبعث ولكنه يشك في الأنبياء وشفاعتهم، فهذا الصنف قد يحمله التخويف والإنذار إلى أن يعيد النظر في قضية الإيمان ويتقبل النبأ الصادق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولنا أن نأخذ الإنذار بالوحي على أي وجه من الوجوه السابقة. ولكن هل يخاف المؤمن أن يحشر إلى الله ؟ لا. إن المؤمن إنما يخاف أن يحشر مجردا من الولي والناصر. إذ في الحقيقة ليس هناك أحد يحمي وينصر من الله، ولا شفيع يخلص من عذاب الله إلا بإذنه ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ وهذا ما يعتقده المؤمنون.
وقد حدد الحق ذلك في قوله :
﴿ ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ﴾( من الآية ٥١ سورة الأنعام )
إنهم هم المؤمنون الذين آمنوا بالله، وبرسوله ولكنهم قصروا في بعض المطلوبات والتكاليف التي ينطوي عليها قوله الحق :﴿ فمن آمن وأصلح ﴾. هؤلاء المؤمنون عندما يجيئهم الإنذار فهم قد يصلحون من أمورهم خوفا من الحشر بدون ولي ولا شفيع. المؤمن – إذن – له أمل أن يكون يوم الحشر في ولاية الله ورحمته، وهؤلاء هم من قال عنهم الحق :
﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ( ١٠٢ ) ﴾( سورة التوبة ).
إن كانت الآية الكريمة تتناول وتشمل غيرهم من أهل الكتاب وتشمل وتضم أيضا الذين يؤمنون بالبعث ولكنهم لم يتبعوا أنبياء :
﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( ٥٢ ) ﴾.
نعرف أن الحق سبحانه وتعالى خلق الإنسان واستعمره في الأرض، وجعله طارئا على هذا الوجود الذي أودع الله له فيه كل ما يلزمه من مقومات حياته وإسعاده.
وأراد الحق من البشر أن يكون فيهم استطراق عبودي بحيث لا يوجد متعال على مستضعف، ولا يوجد طاغ على مظلوم، حتى تستقيم حركة الحياة استقامة يعطي فيها كل فرد على قدر ما هيئ له من مواهب. فإذا ما اختل ميزان الاستطراق البشري ردهم الحق سبحانه وتعالى إلى دليل لا يمكن أن يطرأ عليه شك، والدليل هو أنكم أيها البشر تساويتم في أصل الوجود من تراب، وتساويتم في العودة إلى التراب، وتتساوون في موقفكم يوم القيامة للحساب، فلماذا تختلفون في بقية أموركم ؟ إن التساوي يجب أن يوجد. وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على أنت تهتدي الأمة وكان يكلف نفسه فوق ما يكلفه به ربه، فيعاتبه ربه لأنه كان يشق على نفسه حرصا على إيمان قومه.
وقد يظن بعض الناس أن عتاب الله لنبيه لتقصير، ونرد على هؤلاء : ليفهم الإنسان منكم هذا اللون من العتاب على وجهه الحقيقي، فهناك فرق بين عتاب لمصلحة المعاتب، وعتاب للومه وتوبيخه ؛ لأن المعاتب خالف وعصى، ونضرب هذا المثل – ولله المثل الأعلى – أنت في يومك العادي إن نظرت إلى ابنك فوجدته يلعب ولا يذهب إلى المدرسة ولا يستذكر دروسه، فأنت تعاتبه وتؤنبه لأنه خالف المطلوب منه، ولكنك إن وجدت ابنك يضع كل طاقته ويصرف ويقضي أوقات راحته في المذاكرة، فأنت تطلب منه ألا يكلف نفسه كل هذا العناء، وتخطف منه الكتاب وتقول له : اذهب لتستريح. أنت في هذه الحالة تلومه لمصلحته هو، فكأن اللوم والعتاب له لا عليه. إذن. قد حل هذا الإشكال الذي يقولون فيه : إن الله كثيرا ما عاتب رسوله، ونوضح أن الحق قد عاتب الرسول له لا عليه ؛ لأن الرسول وجد طريق الإيمان برسالته يسير سيرا سهلا بين الضعفاء، ولكنه شغل نفسه وأجهدها رجاء أن يتذوق المستكبرون المتجبرون حلاوة الإيمان، وجاء في ذلك قول الحق :
﴿ عبس وتولى ( ١ ) أن جاءه الأعمى ( ٢ ) وما يدريك لعله يزكى ( ٣ ) أو يذكر فتنفعه الذكرى ( ٤ ) أما من استغنى ( ٥ ) فأنت له تصدى ( ٦ ) وما عليك ألا يزكى ( ٧ ) ﴾( سورة عبس )
إذن فالعتاب هنا لصالح من ؟ إنه عتاب لصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحين يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ( ١ ) ﴾ ( سورة التحريم ).
إن الآية تشير إلى أمر أغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفس البشرية من أمور حللها الله. والعتاب هنا أيضا لصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولشدة حرصه صلى الله عليه وآله وسلم على هداية القوم أجمعين، كان يحب أن يعامل الطغاة بشيء من اللين ليتألف قلوبهم. ولكن الطغاة لا يريدون أن يتساووا مع المستضعفين، فقد مر الملأ من قريش ووجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خباب بن الأرث وصهيبا وبلالا وعمارا وسليمان الفارسي وهم من المستضعفين، فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك.
وكأنهم يقولون له : إنك قد اكتفيت بهؤلاء الضعفاء وتركتنا نحن الأقوياء ولن نجلس معك إلا أن تبعد هؤلاء عنك لنجلس، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببديهية الإيمان إلا أن قال : ما أنا بطارد المؤمنين. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أن هناك من أمثالهم من قالوا لغيره من الأنبياء مثل قولهم. فقد قال قوم نوح عليه السلام له ما حكاه القرآن الكريم :
﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ( ٢٧ ) ﴾( سورة هود ).
وحاول بعض من أهل الكفر أن يعرضوا موقفا وسطا على رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فقالوا : إذا نحن جئنا فأقمهم من عندك لنجلس معك فإذا قمنا من عندك فاجعلهم يجلسون. ووجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الرأي حلا وسطا يمكن أن يقرب بين وجهات النظر، واستشار صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال عمر : لو فعلت حتى ننظر ما الذي يريدون. وطالب أهل الكفر من أثرياء قريش أن يكتب لهم رسول الله كتابا بذلك، وجيء بالدواة والأقلام، وقبل الكتابة نزل قول الله :
﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( ٥٢ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ورمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصحيفة التي جئ بها ليكتبوا عليها كلاما يفصل بين جلوس سادة قريش إلى مجلس رسول الله وجلوس الضعفاء أتباع رسول الله. والنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إنما مال إلى ذلك من الكتابة طمعا في إسلام هؤلاء المشركين وإسلام قومهم بإسلامهم رحمة بهم وشفقة عليهم، ورأى – صلى الله عليه وآله وسلم – أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا ولا ينقص لهم قدرا فمال إليه فأنزل الله الآية ونهاه عما هم به من الطرد، لا لأنه – صلى الله عليه وآله وسلم – قد أوقع ذلك وطردهم وأبعدهم، ثم دعا بعد ذلك بالضعفاء فأتوه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك يجلس مع المستضعفين، وإن أحب – صلى الله عليه وآله وسلم – أن يقوم من المجلس قام، ولكن الله أراده أن يكرم هؤلاء القوم المستضعفين بعد أن نهاه عن طردهم، وأن يكرمهم سبحانه بما أهيجوا فيه، وجاء أمر إلهي آخر بألا يقوم رسول الله من مجلسه مع المستضعفين حتى يقوموا هم، فقال الحق تبارك وتعالى :
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاوةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا( ٢٨ ) ﴾( سورة الكهف ).
وعندما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وآله وسلم :( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم )١.
وبهذا القول الكريم أراد الحق سبحانه وتعالى إكرام الضعفاء والمستضعفين. ويقول سلمان الفارسي وخباب بن الأرت فينا نزلت، فكان – رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون بهم ﴾ فترك القيام عنا إلى أن نقوم فكنا نعرف ذلك ونعجله القيام. أي أنهم هم الذين كانوا يقومون أولا من مجلس رسول الله، فقول الحق :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ﴾ هذا هو قول الله – سبحانه – أمر به رسول الله ومأمور به كذلك كل إنسان من بعد رسول الله، وفي هذا قمة التكريم للدائمين على ذكر الله من المستضعفين ؛ لأنهم أهل محبة الإيمان وهم الذين سبقوا إليه.
وها هو ذا أحد خلفاء المسلمين وقد جاءه صناديد العرب الذين أسلموا، واستأذنوا في الدخول إليه، فلم يأذن لهم حتى أذن لضعفاء المسلمين. فورم أنف كل واحد من هؤلاء الصناديد وقالوا :
أيأذن لهؤلاء ويتركنا نحن ؟ لقد صرنا مسلمين. فقال قائل منهم يفهم ويفقه أمر الدين : أكلكم ورم أنفه أن يؤذن لهؤلاء قبلكم، لقد دعوا فأجابوا، ودعيتم فتباطأتم، فكيف بكم إذا دعوا إلى دخول الجنة وأبطئ دخولكم.
إن هؤلاء الضعفاء يريدون بالطاعة وجه الله، وكلمة ( وجه الله ) تدل على أن الإيمان قد أشرب في قلوبهم، وأنهم جاءوا إلى الإيمان فرارا بدينهم من ظلم الظالمين وطغيان الطغاة الذين كانوا يريدونهم على الكفر والضلال. إنهم قد حلا لهم الإيمان، وحلا لهم وجه الله، حلا لهم أن يؤجل لهم كل الثواب إلى الآخرة.
وحين نسمع قول الحق :﴿ يريدون وجهه ﴾ فهذا وصف لله بأنه – جل شأنه – له وجه، ونطبق في هذه الحالة ما نطبقه إذا سمعنا وصفا لله، إننا نأخذ الوصف في إطار قوله الحق :﴿ ليس كمثله شيء ﴾.
ويطلق الوجه ويراد به الذات، لأن الوجه هو السمة المميزة للذوات. فأنت إن قابلت أناسا قد غطوا وجوههم واستغشوا ثيابهم وستروا بها رءوسهم فلن تستطيع التمييز بينهم.
ويقال : فلان قابل وجوه القوم. أي التقى بالكبار في القوم. والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾، ويقول الحق سبحانه :﴿ ما عليك من حسابهم من شيء ﴾ وفي هذا القول حرص على كرامة المستضعفين ؛ فقد يقول قائل :
لقد استجار هؤلاء الضعفاء بالدين حتى يفروا من ظلم الظالمين وليس حبا في الدين، فيوضح الحق : ليس هذا عملك، وليس لك إلا أن تأخذ ظاهر أعمالهم وأن تكل سرائرهم إلى الله.
﴿ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ﴾( من الآية ٥٢ سور الأنعام ).
وكأن الحق يوضح لرسوله : لو كان عليك من حسابهم شيء لجاز لك أن تطردهم، ولكن أنت يا رسول الله تعلم أن كل واحد مجزي بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقد أنزل الله عليك القول الحق :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾. إذن فلكل إنسان كتابه. قد سطر وسجل فيه عمله ويجازى بمقتضى هذا.
﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ( ٥٣ ) ﴾.
نحن هنا أمام ( بعضين ) : بعض قد استعلى أن يجتمع ببعض آخر مستضعف عند رسول أرسله الله. ويمتحن الله البعض بالفتنة، والفتنة هي الاختبار. إن بعضا من الناس يظن أن الفتنة أمر مذموم، لا، إن الفتنة لا تذم لذاتها، وإنما تذم لما تؤول إليه. فالاختبار – إذن – لا يذم لذاته، وإنما يذم لما يؤول إليه. وتأتي الفتنة ليرى صدق اليقين الإيماني، وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( ٢ ) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ( ٣ ) ﴾( سورة العنكبوت )
إن الحق سبحانه يختبر مدى صدق الإنسان حين يعلن الإيمان، إنه – سبحانه – يختبرهم بالمحن والنعم، وقد اختبر الحق الأمم السابقة بالتكاليف والنعم والمحن ويظهر ويبرز إلى الوجود ما سبق أن علمه سبحانه أزلا، ويميز أهل الصدق في الإيمان عن الكاذبين في الإيمان، فمن صبر على الاختبار والفتنة فقد ثبت صدقه ويقينه، ومن لم يصبر فقد دل بعمله هذا على أنه كان يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضي، وإن أصابه شر وفتنه انقلب على وجهه ونكص على عقبيه فخسر الدنيا والآخرة.
إذن فالفتنة مجرد اختبار. والوجود الذي نراه مبني كله على المفارقات، وعلى هذه المفارقات نشأت حركة الحياة. ويجب الإيمان بقدر الله في خلقه، فهذا طويل، وذاك قصير، هذا أبيض، وذاك أسود، وهذا مبصر وذلك أعمى، هذا غني، وذلك فقير، هذا صحيح، وذلك سقيم، وذلك ليكون كل نقيض فتنة للآخر.
فالمريض – على سبيل المثال – فتنة للصحيح، والصحيح فتنة للمريض، ويستقبل المريض قدر الله في نفسه ولا ينظر بحقد أو غيظ للصحيح، ولكن له أن ينظر هل يستعلي الصحيح عليه ويستذله، أو يقدم له مساعدة ؟ والفقير فتنة للغني، وهو ينظر إلى الغني ليعرف أيحقره، أيجرحه، أيستغله ؟ والغني فتنة للفقير، يتساءل الغني أينظر إليه الفقير نظرة الحاسد. أم الراضي عن عطاء الله لغيره. وهكذا تكون الفتن.
إن من البشر من هو موهوب هبة ما، وهناك من سلب الله منه هذه الهبة، وهذا العطاء وذلك السلب كلاهما فتنة ؛ لنؤمن بأن خالق الوجود نثر المواهب على الخلق ولم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب ؛ حتى يحتاج كل إنسان إلى مواهب غيره، وليقوم التعاون بين الناس، وينشأ الارتباط الاجتماعي.
وعندما يخلق الله الإنسان بعاهة من العاهات فهو سبحانه يعوضه بموهبة ما. هكذا نرى أن العالم كله قد فتن الله بعضه ببعض، وكذلك كانت الجماعة المؤمنة فتنة للجماعة الكافرة، وكانت الجماعة الكافرة فتنة لرسول الله، ورسول الله فتنة لهم فساعة يرى رسول الله الكفار وهم يجترئون عليه يقولون :
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ٣١ ) ﴾( سورة الزخرف )
يعرف أن هؤلاء القوم يستكثرون عليه أن ينزل عليه هذا القرآن العظيم، وفي هذا القول فتنة واختبار لرسول الله، وهو يصبر على ذلك ويمضي إلى إتمام البلاغ عن الله ولا يلتفت إلى ما يقولون، بل يأخذ هذا دليلا على قوة المعجزة الدالة على صدق رسالته.
والجماعة التي استكبرت وطلبت طرد المستضعفين هم فتنة للمستضعفين، والمستضعفين فتنه لهم، فلو أن الإيمان قد اختمر في نفوس المستكبرين لما استكبروا أن يسبقهم الضعفاء إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن فكلنا يفتن بعضنا بعضا. وكل إنسان عندما يرى موهوبا بموهبة لا توجد لديه فليعلم أنها فتنة له وعليه أن يقبلها ويرضى بها في غيره. وما عبد الله بشيء خيرا من أن يحترم خلق الله قدر الله في بعضهم بعضا، ولذلك يختبرنا الحق جميعا، فإن كنت مؤمنا بالله فاحترم قدر الله في خلق الله حتى يجعل الله غيرك من الناس يحترمون قدر الله فيك.
والحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ( ٥٣ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ووجه الفتنة هنا أن قوما طلبوا طرد المستضعفين وقالوا كما حكى الله عنهم :﴿ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ﴾ ؟ كأنهم تساءلوا عن المركز الاجتماعي للمستضعفين من المؤمنين، ويأتيهم الرد من الله :﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾. فسبحانه هو العليم أزلا بالبشر، ولا يقترح عليه أحد ما يقرره. وقد سبق للذين كفروا أن قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾.
وجاءهم الرد من الحق سبحانه وتعالى فقال :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾( من الآية ٣٢ سورة الزخرف ).
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لم يضع مفاتيح الرسالة في أيدي المشركين أو غيرهم، ليوزعوا هم الأمور ويقوموا بتدبير الأمر. بل هو سبحانه وتعالى الذي يوزع المواهب في البشر رزقا منه ليعتمد كل إنسان على الآخرين في مواهبهم التي يعجز عنها، ويعتمد عليها الآخرون في موهبته التي يعجزون عنها. ومسألة النبوة هي اصطفاء إلهي يكبر ويسموا على كل مقامات الدنيا. ويدل السياق إذن على أن بعضا من كبار العرب طلبوا أن يطرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضا من المستضعفين، فأراد الله أن يطمئن المستضعفين بشيء عجل لهم به في الدنيا وإن كان قد جعله لبقية المؤمنين في الآخرة. لذلك يقول الحق :
﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾.
﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ( ٨٢ ) ﴾( سورة الإسراء ).
ما الفارق إذن بين الشفاء والرحمة ؟ والرحمة : لا يبتلي الله الإنسان بمرض، إنها الوقاية، أما الشفاء فهو أن يزيل الحق أي مرض أصاب الإنسان. وهذا هو البرء بعد العلاج.
إذن ففي القرآن شفاء ورحمة، أي وقاية وعلاج. والذي يلتزم بمنهج القرآن لا تصيبه الداءات الاجتماعية والنفسية، والذي تغفل نفسه وتشرد منه يصاب بالداء الاجتماعي والنفسي، فإن عاد إلى منهج القرآن فهو يشفى من أي داء. وحين يأمر سبحانه رسوله أن يقول لهؤلاء الذين أهيجوا بطلب طردهم على الرغم من إيمانهم برسالة رسول الله :﴿ سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ فهذا يعنى أن ما حدث لهم في هذا الأمر هو آخر ابتلاءاتهم، وقد أخذوا بهذه الإهاجة سلاما دائما، ومادام الله قد كتب على نفسه الرحمة فكأنه وقاهم مما يصيب به غيرهم.
وإذا سمعت قول الله :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ فالكتابة تدل على التسجيل، ولا أحد يوجب على الله شيئا لأنه خالق الكون، وله في الكون طلاقة المشيئة، فلا أحد يكتب عليه شيئا ليلزمه به، ولكنه سبحانه هو الذي أوجب على نفسه الرحمة. ونأخذ كلمة ( نفسه ) في إطار ( ليس كمثله شيء )، ذلك أن النفس عند البشر هي الجسم والدم والحركة والحياة، ولكن ماذا عندما تأتي كلمة ( النفس ) منسوبة إلى الله ؟ المراد – إذن – هو الذات الإلهية. وإن لم تأخذ مراد الكلمة بهذا المعنى فأنت تدخل إلى مخالفات كثيرة وقانا الله وإياك شرورها.
وأؤكد هذا المعنى ليستقر في ذهن كل مؤمن، أن النفس بالنسبة للكائن الحي غيرها بالنسبة لله، ولا بد أن نأخذ أي شيء منسوب إلى الله في إطار ( ليس كمثله شيء ) ؛ لأن النفس بالنسبة للكائن الحي عبارة عن امتزاج الروح بالمادة، والمادة مكونة من أبعاض. وإن لم تأخذ المراد من نفس الله على ضوء ( ليس كمثله شيء )، فأنت – والعياذ بالله – تنفي عن الحق ( الأحادية ).
ونعرف أن للحق سبحانه وتعالى ( وصفين ) يتحدان في المادة وفي الحروف : الأول هو ( واحد ). والآخر هو ( أحد ). والسطحيون في الفهم يظنون أن ( واحد ) معناها ( أحد ). ونقول : لا، إن ( واحد ) لها مدلول، و ( أحد ) لها مدلول آخر. فعندما نقول :( إن الله واحد ) أي لا يوجد فرد ثان من نوعه فليس له مثيل ولا شبيه ولا نظير. وعندما نقول :( إن الله أحد ) أي أنه لا يتكون من أبعاض يحتاج بعضها إلى البعض الآخر لتكوين الكل ؛ لأن الشيء قد يكو واحدا وليس أحدا. ولذلك نؤكد الفارق بين :( واحد ) و ( أحد )، وحتى يعرفه كل مؤمن جيد فهو – سبحانه – واحد لا يوجد فرد ثان يشاركه في وحدانيته، فهو واحد لا شريك له، وهو أحد جل وعلا أي ليس له أبعاض يحتاج بعضها إلى بعض. وسبق أن أوضحنا أن هناك شيئا اسمه :( كل ) وشيئا آخر اسمه :( كلي ). والكل هو المكون من أجزاء، كل جزء منها لا يؤدي الحقيقة، وإنما لا يؤدي الكل إلا بضميمة الأجزاء بعضها إلى بعض.
ومثال ذلك الكرسي : إنه مكون من خشب ومسامير وغراء، فلا يقال للخشب كرسي، ولا يقال للمسامير كرسي، ولا يقال للغراء كرسي. ولكن يقال للشيء المصنوع من كل هذه الأشياء على هيئة محددة : إنه كرسي. إذن ف ( الكل ) له أجزاء تجتمع لتكونه. والكلي يمكن أن تطلق على الإنسان، ولكن في الجنس البشري هناك أفراد كثيرون له.
وعلى ذلك فالحق سبحانه وتعالى ليس ( كلا ) أي لا أجزاء له لأنه أحد، وليس ( كليا ) لأنه لا شيء مثله ؛ فسبحانه وتعالى واحد أحد. ولهذا نفهم جميعا أن كل شيء منسوب إلى الله ينبغي أن يكون في إطار ( ليس كمثله شيء ).
ونحن لا نفهم مراد كلمة ( النفس ) بالنسبة لله كما نفهمها بالنسبة للبشر ؛ لذلك فنفس الله ليست كنفس البشر ؛ لأن الله غني لا يحتاج إلى غيره، وهو – سبحانه – ليس مكونا من أجزاء، فهو سبحانه له كل الكمال والجلال في وحدانيته وأحديته وفي سائر صفاته وأفعاله. وحين يقول سبحانه :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾. قد يتساءل إنسان : وما مدلول الرحمة ؟
وتأتي الإجابة في قوله الحق :﴿ إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ﴾. والحق حينما أنزل منهجا من السماء فالمنهج يضم نصوصا للتحريم كنصوص عقاب الزاني أو اللص، وغير ذلك، ولا يمكن أن تأتي عقوبة إلا إذا جاءت بعد تحريم، مثال ذلك الرشوة والنميمة وكل مخالفة للمنهج، فلا عقاب إلا بجريمة، ولا جريمة إلا بنص. والحق الذي خلق الخلق يعلم أن بعضا من خلقه يكون من ضعاف النفوس، وقد تغلب إنسانا نفسه فيرتكب ذنبا أو معصية، والمثال على ذلك قوله الحق :
﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ( ٣٨ ) ﴾( سورة المائدة ).
هذا هو عقاب السارق والسارقة.
وكذلك يقول الحق عن الزاني والزانية :
﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( ٢ ) ﴾( سورة النور ).
ما معنى إنزال مثل هذه النصوص ؟ معنى إنزال هذه النصوص أن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن الإنسان قد يضعف في بعض مطلوبات الدين فيقع في معصية، ولا بد أن يوجد عقاب عليها. واحترام الحق بذلك تكوين الإنسان عندما منحه الاختيار، فوضع الثواب والعقاب. وكما وضع الحق النص على الجرائم وعقوبتها فهو سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة لخلقه، حتى لا يكون الذي عصى الله مرة واحدة فاقدا للأمل، حتى لا يشقى المجتمع بهؤلاء العصاة. وشرع الحق التوبة للخلق ليرحمهم من شرور من ارتكبوا المعاصي، وليرحم أيضا أصحاب المعاصي ما داموا قد تابوا عنها. وقد يرحم الله بعض خلقه من المعاصي فيحفظهم منها.
وهو الحق القائل :
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ﴾( من الآية ١١٨ سورة التوبة )
سبحانه – إذن – يهدي إلى التوبة ويعفو، وهو عظيم الرحمة بالعباد التوابين.
ومن ظواهر رحمة الله سبحانه :
﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( ٥٤ ) ﴾( من الآية ٥٤ سورة الأنعام ).
والسوء هو الأمر المنهي عنه من الله. هل هناك من يعمل السوء بجهالة ؟ بعضنا يفهم الجهالة فهما سطحيا على أساس أنها ( عدم العلم ) ؛ لا. إن الذي لا يعلم هو الأمي الخالي الذهن، والجهالة غير الجهل، فالجهل هو أن يعلم الإنسان حكما ضد الواقع، كأن يكون مؤمنا بعقيدة تخالف الواقع. ومعالجة الجهل تقتضي أن ننزع منه هذه العقيدة التي هي ضد الواقع ثم نقنعه بالعقيدة المطابقة للواقع.
والذي يسبب المتاعب للناس هم الجهلة ؛ لأن الجاهل يعتقد في قضية ويؤمن بها وهي تخالف الواقع. وعندما جاء العلماء عند هذا القول الحكيم :﴿ من عمل منكم سوءا بجهالة ﴾. قالوا : عن الجهالة هي السفه والطيش، والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل. والسفه ألا يقدر الإنسان قيمة ما يفوته من ثواب وما يلحقه من عقابه. وقد يكون الإنسان مؤمنا، لكنه يرتكب السوء لأنه لم يستحضر الثواب والعقاب ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة دون التمعن في نتائج ذلك مستقبلا، ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء.
ويمكن أن نفهم أيضا الجهالة على أنها ارتكاب الأمر السيئ دون أن يتبيت له الإنسان أو يخطط، وذلك كأن يخطط إنسان السفر إلى باريس لتحصيل العلم، وعندما وصل إلى هناك جاءت له امرأة في غرفته في الفندق وهي في كامل فتنتها وزينتها، وألحت عليه لارتكاب الفحشاء، فلم يقدر على نفسه. هذا فعل للسوء بجهالة ؛ لأنه لم يخطط لذلك السوء، وهو يندم من بعد ذلك، ولا يحكي عن ذلك الفعل بفخر أبدا.
هناك فارق – إذن – بين هذا الإنسان وإنسان آخر بحث في عناوين بيوت اللذة في باريس قبل أن يسافر إليها، إنه بذلك يخطط لفعل المنكر وارتكاب الفحشاء. ويصر على السوء، ويتفاخر به ولا يندم على ما فعل ؛ هذا الصنف من البشر لا يغفر له الله إن استمر على هذا الحال حتى شارف الموت أو أدركه الموت، ولذلك يقول الحق :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ( ١٧ ) ﴾( النساء ).
لأن الحق سبحانه إنما يقبل توبة من ارتكب الذنب في حالة الحماقة والطيش، ويقبلون على التوبة فورا، هؤلاء يقبل الحق توبتهم، أما الذين لا يندمون على فعل السوء فيقول الحق عنهم :
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ( ١٨ ) ﴾( سورة النساء ).
إن الذين لا يقبلون على التوبة من فور ارتكاب الذنب وينتظر الإنسان منهم مجيء الموت ليتوب قبله أي وهو في حالة الغرغرة – وهي تردد الروح في الحلق عند الموت – هؤلاء لا تقبل لهم توبة، وكذلك الذين يموتون على الكفر – والعياذ بالله – وقد أعد الله لكليهما عذابا أليما.
والحق سبحانه قد وضح لنا قبل ذلك فقال :
﴿ أنه من عمل منكم سوءا بجاهلة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ﴾( من الآية ٥٤ سورة الأنعام ).
إذن فالتوبة يجب أن يتبعها إصلاح وصلاح ؛ ذلك أن الحسنات يذهبن السيئات، والحق سبحانه غفور لا يعاقب على ذنب تاب عنه العبد، ورحيم لأنه يثيب على الفعل الحسن، بل إنه يثيب الإنسان الذي يكرر ندمه على فعل سيء ويكتب له عن ذلك حسنة. بل إنه – بسعة رحمته – يبدل سيئاته حسنات.
﴿ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ( ٥٥ ) ﴾.
وساعة تسمع قوله الحق :﴿ كذلك نفصل الآيات ﴾ فاعلم أن هناك تفصيلا سيلي ذلك يشابه تفصيلا سبق. والآيات السابقة قد فصل الله فيها أمورا كثيرة ؛ فصل لنا حجة وصحة وحدانية الله سبحانه، وفصل لنا صحة النبوة، وفصل لنا صحة القضاء والقدر. ومن بعد ذلك كله يعطينا الحق المقاييس التي تقرر الحقائق التي ينكرها أهل الباطل ؛ فيفصل لنا في العقائد، ويفصل لنا في حركة الحياة والحركة العبادية التي نؤدي بها تكاليف الإيمان. وكما فصل لنا سبحانه صحة الوحدانية وصحة النبوة، وصحة القضاء والقدر، يفصل لنا الآيات التي تقرر الحقائق :
﴿ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ( ٥٥ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ونقرأ ( سبيل ) في بعض القراءات مرفوعة، أي أن سبيل المجرمين يظهر ويستبين ويتضح، وتقرأ في بعض القراءات منصوبة، أي أنك يا محمد تستبين أنت السبيل الذي سيسلكه المجرمون.
وكلمة ( سبيل ) وردت في القرآن مؤنثة مثل قوله الحق :
{ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا )( من الآية ٤٥ سورة الأعراف )
ووردت أيضا في بعض الآيات مذكرة :
﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ﴾( من الآية ١٤٦ سورة الأعراف )
ويريد الحق بذلك أن يعلمنا أن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين قد استقبلته قبائل من العرب، بعضها لها السيادة كقبيلة قريش لأنها تسكن مكة، والكعبة في مكة وكل القبائل تحج إلى الكعبة.
ويريد أن ينهى سبحانه هذه السيادة، ولذلك جاء القرآن ببعض الألفاظ التي تنطقها القبائل الأخرى، ومثال ذلك كلمة ( سبيل ) التي تؤنث في لغة ( الحجاز )، وجاء به مرة كمذكر ؛ كما تنطقها ( تميم ). ولم يأت الحق بكل ألفاظ القرآن مطابقة لأسلوب قريش، حتى لا تظن قريش أن سيادتها التي كانت لها في الجاهلية قد انسحبت إلى الإسلام، فقد جاء القرآن الكريم للجميع. ﴿ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ﴾. أي أن الله سيعامل كل إنسان على مقتضى ما عنده من اليقين الإيماني.
والمعاندون لهم المعاملة التي تناسبهم، وكذلك المصر على الذنوب، والمقدم على المعاصي، وهي تختلف عن معاملة المؤمن. ولكنها في إطار العدل الإلهي. إذن فلكل المعاملة التي تناسب موقعه من الإيمان.
والمقابلون للمجرمين هم المؤمنون. فإذا استبنت سبيل المجرمين، أو إذا استبان لك سبيل المجرمين ألا تعرف المقابل وهو سبيل المؤمنين ؟.
وحين يذكر الحق شيئا مقابلا بشيء فهو يأتي بحكم شيء ثم يدع الحكم الآخر لفهم السامع، فإذا كان الحق قد بين سبيل المجرمين لعنا وطردا، فسبيل المؤمنين يختلف عن ذلك، إنه الرحمة والتكريم. ومثال على ذلك – ولله المثل الأعلى – أنت تقول للتلميذ الذي يواظب على دروسه ويذاكر في وقت فراغه من المدرسة : إن سبيلك هو النجاح. ومن يسمع قولك هذا يعرف أن الذي لا يواظب على دروسه ولا يذاكر في وقت فراغه من المدرسة تكون عاقبة أمره الرسوب والخيبة.
وهكذا يترك الحق لفطنة السامع لكلامه أن يأتي بالمقابل ويعرف أحكام هذا المقابل : فإذا كان الحق قد قال :﴿ لتستبين سبيل المجرمين ﴾ فهذا إشارة أيضا لسبيل المؤمنين من رحمة وتكريم. ونعلم أن القرآن قد جاء على أبلغ الأساليب. وهي أساليب تقتضي أن تعرف معطى كل لفظ وكل حرف حتى نفهم مقتضيات المقامات والحالات التي نطابق كل مقام. ومثال على ذلك قول الحق سبحانه :
﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ﴾( من الآية ١٣ سورة آل عمران ).
لقد ترك الحق لفطنة السامع لهذه الآية أن يعرف أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان، وأن الفئة التي تقاتل في سبيل الله هي الفئة المؤمنة، وترك لنا الحق أن المشهد العظيم يعرفون قدر كذبهم في الدنيا، فلا ملك لأحد إلا الله، ولا معبود سواه، فينطقون بما يشهدون :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾.
ولقائل أن يقول : ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن الله يقول الحق مثل هؤلاء :
﴿ ويل يومئذ للمكذبين ( ٣٤ ) هذا يوم لا ينطقون ( ٣٥ ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( ٣٦ ) ﴾( سورة المرسلات ).
إنهم في يوم الهول الأكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا، وهم لا ينطقون بأي قول ينفعهم، ولا يأذن لهم الحق بأن يقدموا أعذارا أو اعتذارا. ونقول لمن يظن أن المكذبين لا ينطقون : إنهم بالفعل لا ينطقون قولا يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم، وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة، بل إن بعضا من هؤلاء المكذبين بالله واليوم الآخر يكون قد صنع شيئا استفادت به البشرية أو تطورت به حياة الناس، فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه، إن هؤلاء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم، ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الآخر لأنهم أشركوا بالله. ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا اختراعات، ولذلك يقول الحق :
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءهم لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( ٣٩ ) ﴾( سورة النور ).
وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو الشهرة، ولكنها أعمال لا تفيد في الآخرة. وأعمالهم كمثل البريق اللامع الذي يحدث نتيجة سقوط أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء، فيظنه العطشان ماء، وما إن يقترب منه حتى يجده غير نافع له، كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها لا تساوي شيئا يوم القيامة. والمشرك من هؤلاء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة. ولا يجد إلا الواحد الأحد القهار أمامه، لذلك يقول كل واحد منهم :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾. إن المشرك من هؤلاء ينكر شركه. وهذا الإنكار لون من الكذب.
مشخص يميزه عن الجنس الآخر إما بارتفاع ترق وإما بنزول تدن. وقمة أجناس الوجود هو الإنسان الذي كرمه الحق بالحس والحركة والتفكير. ويلي الإنسان مرتبة جنس الحيوان الذي له الحس والحركة دون التفكير. ويلي جنس الحيوان مرتبة النبات، وهو الذي له النمو دون الحركة والتفكير.
وعندما تسلب من النبات غريزة النمو يصير جمادا. إذن ترتيب الأجناس من الأعلى إلى الأدنى هو كالتالي : الإنسان ثم الحيوان، ثم النبات ثم الجماد. وكل جنس من هذه الأجناس له خصائصه، ويأخذ الجنس الأعلى خاصية زائدة.
وأدنى الأجناس هو الجماد الذي يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان والإنسان. الحيوان يخدم الإنسان، وهكذا نجد أن أعلى الأجناس وهو الإنسان بينما أدنها هو الجماد. فكيف يأخذ أعلى الأجناس وهو الإنسان ربا له من أدنى الأجناس وهو الجماد ؟
إن تحكيم الفطرة في ذلك الأمر ينتهي إلى حكم واضح هو سخف هذا اللون من التفكير. وفطرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل البعثة هدته إلى رفض ذلك، وجاءت البعثة لتجعل من إلف عادة رسول الله وفطرته أمر عبادة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل من اتبعه.
إذن فمسألة عبادة المشركين للأصنام لا تنبع من هدى ولكنها خضوع إلى هوى ؛ لأن الهدى هو الطريق الموصل للغاية المعتبرة، والهوى هو خواطر النفس التي تحقق شهوة. ولهذا نرى بعضا من الذين يريدون إضلال البشر قد خرجوا بمذاهب ليست من الدين في شيء، مثل القادنانية والبهائية والبابية، وغير ذلك من تلك المذاهب هؤلاء الناس يدعون التدين، وعلى الرغم من ذلك يقدمون التنازلات في أمور تمس الأخلاق، ورأينا مثل ذلك في بعض من القضايا التي نظرتها المحاكم أخيرا، كالذي يدعى التدين ويقبل كل امرأة، ولا ينظم العلاقة بين الناس بقواعد الدين، ولكن يطلق الغرائز حسب الهوى، وذهب إليه أناس لهم حظ كبير ومرتبة من التعليم، وقد أوهموا أنفسهم بخديعة كبرى، وظنوا أنهم أخذوا بالتدين، بينما هم يأخذون حظ الهوى المناقض للدين.
﴿ قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ﴾( من الآية ٥٦ سورة الأنعام )
أي أنك يا رسول الله عليك بإبلاغ هؤلاء المشركين أنك لا تتبع أهواءهم التي تقود إلى الضلالة ؛ لأن من يتبع مثل تلك الأهواء ينحرف عن الحق، ولا يكون من المهتدين.
﴿ قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ( ٥٧ ) ﴾.
هنا يبلغ الحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن تركه لعبادة الأصنام وإن كان أمرا قد اهتدى إليه صلى الله عليه وآله وسلم بفطرته السليمة، فإنه قد صارت الآن من بعد البعثة عبادة ؛ لأن اصطفاء الحق له جعله يتبين هذى الله بالشريعة الواضحة في ( افعل ) ولا ( تفعل ) ؛ فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الأسوة الحسنة للناس، ويؤدي كل فعل حسب ما شرع الله، ويتبعه المؤمنون برسالته.
ومثال على ذلك من حياتنا المعاصرة : لقد نزل القرآن بتحريم الخمر، والمؤمنون لا يشربون الخمر لأن الحق نهى عن ارتكاب هذا الفعل. ونجد الأطباء الآن في كل بلدان العالم يحرمون شرب الخمر لأنها تعتدي على كل أجهزة الإنسان : الكبد، والمخ، والجهاز العصبي، والجهاز الهضمي. ونجد ( أفلاما ) تظهر أثر كأس الخمر على صحة الإنسان. وقد يرى إنسان غير مؤمن مثل هذا ( الفيلم ) فيمتنع عن الخمر امتناع ابتغاء المصلحة لا ابتغاء التدين. ولكن علينا – نحن المسلمين – أن نقبل على مثل هذا الامتناع لأنه من الإيمان.
ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ( ٣٣ ) ﴾
( سورة فصلت )
هكذا نعرف أنه لا أحد أحسن قولا ممن يمتثل إلى أوامر الحق لأنه مقر بوحدانية الحق سبحانه، ويعمل كل عمل صالح ويقر بأن هذا العمل هو تطبيق لشريعة الله :
﴿ قل إني على بينة من ربي ﴾ القول يدلنا أننا دون بينة من الله لا نعرف المنهج، ولكن ببينة من الله نعلم أنه إله واحد أنزل منهجا ( افعل ) و ( لا تفعل ). وجاء الحق هنا بكلمة ( ربي ) حتى نعرف أنه الخالق الذي يتولى تربيتنا جميعا. ومادام سبحانه وتعالى قد خلقنا، وتولى تربيتنا فلا بد أن نمتثل لمنهجه. وقد أنزل الإله تكليفا لأنه معبود، وهو في وقت نفسه الرب الذي خلق ورزق، ولذلك نمتثل لمنهجه، أما المكذبون فماذا عنهم ؟
﴿ وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ( ٥٧ ) ﴾( من الآية ٥٧ سورة الأنعام ).
فالذين كذبوا بالله اتخذوا من دونه أندادا، ولم يمتثلوا لمنهجه، بل تمادى بعضهم في الكفر وقالوا ما واره الحق عنهم :
﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ٣٢ ) ﴾( سورة الأنفال ).
وعندما نناقش ما قالوا، نجد أنهم قالوا :( اللهم )، وهذا اعتراف منهم بإله يتوجهون إليه. وما داموا قد اعترفوا بالإله فلماذا ينصرفون عن الامتثال لمنهجه وعبادته ؟. هم يفعلون ذلك لأنهم نموذج للصلف والمكابرة المتمثل في قولهم :﴿ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾.
ألم يكن من الأجدر بهم أن يعملوا العقل بالتدبر ويقولوا : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.
ونجد أيضا أنهم لم يردوا على رسول الله فلم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عند محمد بل قالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ﴾. إنهم يردون أمر الله ويطلبون العذاب، وتلك قمة المكابرة، والتمادي في الكفر وذلك بطلبهم تعجيل العذاب، ولذلك يقول لهم رسول الله :﴿ وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به ﴾.
والاستعجال هو طلب الإسراع في الأمر، وهو مأخوذ من ( العجلة ) وهي السرعة إلى الغاية، أي طلب الحدث قبل زمنه. وماداموا قد استعجلوا العذاب فلا بد أن يأتيهم هذا العذاب، ولكن في الميعاد الذي يقرره الحق ؛ لأن لكل حدث من أحداث الكون ميلادا حدده الحق سبحانه :
﴿ ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ﴾( من الآية ٥٧ سورة الأنعام ).
إن الحكم لله وحده، فإن شاء أن ينزل عذابا ويعجل به في الدنيا كما أنزل على بعض الأقوام من قبل فلا راد له، وإن شاء أن يؤخر العذاب إلى أجل أو إلى الآخر فلا معقب عليه.
ومن حكمة الحق أن يظل بقاء المخالفين للمنهج الإيماني تأييد للمنهج الإيماني. ويجب أن نفهم أن الشر الذي يحدث في الكون لا يقع بعيدا عن إرادة الله أو على الرغم من إرادة الله، فقد خلق الحق الإنسان وأعطاه الاختيار، وهو سبحانه الذي سمح للإنسان أن يصدر منه ما يختاره سواء أكان خيرا أم شرا. إذن فلا شيء يحدث في الكون قهرا عنه ؛ لأنه سبحانه الذي أوجد الاختيار. ولو أراد الحق ألا يقدر أحد على شر لما فعل أحد شرا. ولكنك أيها المؤمن إن نظرت إلى حقيقة اليقين في فلسفته لوجدت أن بقاء الشر وبقاء الكفر من أسباب تأييد اليقين الإيماني.
كيف ؟ لأننا لو عشنا في عالم لا يوجد به شر لما كان هناك ضحايا، ولو لم يوجد هناك ضحايا لما كان هناك حث على الخير وحض ودفع إليه. ولذلك تجد روح الإيمان تقوى حين يهاج الإسلام من أي عدو من أعدائه، وتجد الإسلام قد استيقظ في نفوس الناس، فلو لم يوجد في الكون آثار ضارة للشر، لما اتجه الناس للخير. وكذلك الكفر من أسباب اليقين الإيماني. فعندما يطغى أصحاب الكفر في الأرض فسادا واستبدادا، نجد الناس تتدرع باليقين وتتحصن بالإيمان لأنه يعصم الإنسان من شرور الإنسان كثيرة. إذن فوجود الشر والكفر هو خدمة لليقين الإيماني.
﴿ إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ﴾( من الآية ٥٧ سورة الأنعام ).
نعم إن الحكم لله لأنه سبحانه يفصل بين المواقف دون هوى لأنه لا ينتفع بشيء مما يفعل، فقد أوجد الحق هذا الكون وهو في غنى عنه ؛ لن لله سبحانه وتعالى كل صفات الكمال ولم يضف له خلق الكون صفة زائدة، وقد خلق سبحانه الكون لمصلحة خلقه فقط. ويبلغنا الرسول :
﴿ قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين ( ٥٨ ) ﴾.
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( ٨ ) ﴾( سورة هود ).
وحكمة الله – إذن هي التي اقتضت تأجيل العذاب إلى وقت يحدده الله. وفي هذا ما يجعل بعض من الكافرين يجترئون على الله ويوغلون في الكفر ويقولون : ما الذي يمنع عنا العذاب ؟
إنهم يقولون ذلك استهزاء وسخرية، ولا يعلمون أن العذاب آت حتما ولا خلاص لهم منه، لأن الله صادق في وعده ووعيده وسيأتيهم العذاب لأنهم استهزءوا وسخروا فلا مناص لهم عنه ولا مهرب لهم منه.
وفي موقع آخر يقول الحق :
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ( ٥٣ ) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( ٥٤ ) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ( ٥٥ ) ﴾( سورة العنكبوت ).
وهكذا نرى تحدي الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأتيهم بالعذاب، لكنه تحد مردود عليه بأن الحق هو الذي يقرر ميلاد كل أمر ولسوف يأتيهم العذاب فجأة، وهو واقع لا محالة وإن جهنم ستحيط بهم، وسيغمرهم العذاب من أعلاهم ومن أسفلهم، ويسمعون صوت الملك الموكل بعذابهم : ذوقوا عذابا أنكرتموه وهو جزاء أعمالكم.
﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( ٥٩ ) ﴾.
و ( مفاتيح ) هي إما جمع لمفتح أو جمع لمفتح. و( المفتح ) وهو آلة الفتح، ومثلها مثل ( مبرد ) أي آلة البرد. آلة الفتح هي المفتاح. و ( مفتح ) وهو الشيء الذي يقع عليه الفتح مثل الخزانة، ونعلم أن بعض الأسماء تأتي على وزن ( مفعل ) أو ( مفعال ). فإذا أخذنا ( مفاتح ) على أساس أنها جمع لمفتح، فمعنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يملك المفاتيح التي تفتح على الغيب. وإن أخدنا ( مفاتح ) على أساس أنها جمع ( مفتح ) أي خزانة فمعنى ذلك أن الحق عنده خزائن الغيب. وكلا الأمرين لا زمان له. والخزائن لا يوضع فيها إلا كلا نفيس وهو مخزون لأوانه ولكل خزانة مفتاح. يقول الحق عن قارون :
﴿ إن قرون كان من قوم موسى فبغى عليهم وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة ﴾( من الآية ٧٦ سورة القصص ).
هكذا نعلم أنه لا يوجد مخزون إلا وهو كنز. وعند الحق مفاتيح الغيب، والغيب هو ما غاب عنك، وهو نوعان : أمر غاب عنك ومعلوم لغيرك ؛ وهو غيب غير مطلق ولكنه غيب إضافي.
ومثال ذلك، عندما يقوم نشال بسرقة حافظة نقودك وأنت في طريق، أنت لا تعرف أين نقودك، ولكن اللص يعرف تماما مكان ما سرق منك. وهكذا ترى أنه يوجد فارق بين غيب عنك، ولكنه ليس غيبا عن غيرك.
ولكن هناك ما يغيب عنك وعن غيرك، ولهذا الغيب مقدمات إن أخذ الإنسان بها فهو يصل إلى معرفة هذا الغيب، وهذا ما نراه في الاكتشافات العلمية التي تولد أسرارها بأخذ العلماء بالأسباب التي وضعها الله في الكون، وهو لون من الغيب الإضافي. وهناك لون ثالث من الغيب هو الغيب المطلق، وهو الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، مثل ميعاد اليوم الآخر، وغير ذلك من الغيب الذي يحتفظ الله به لنفسه.
ولذلك نقول : إنه لا يوجد أبدا في هذه الدنيا عالم غيب إلا الله. وعنده سبحانه مفاتح الغيب، هذا الغيب الذي لا نحس به حسا مشهودا بالمدركات، أو كان غيبا بالمقدمات أي أنه ليس له أسباب يمكن لأحد أن يأخذ بها.
ويقول الحق :
﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( ٥٩ ) ﴾( سورة الأنعام ).
الحق سبحانه وتعالى – إيناسا لخلقه – حينما يأتي لهم بأمر غير محس لهم، فإنه يوضح ذلك بالمحس. وعالم المشهد المحس إما مسموع وإما مرئي وإما متذوق وإما ملموس. وهناك عالم الغيب، فقد يصطفي الله بعضا من خلقه ليلقي إليهم هبات من فيضه وعطائه توضح بعض الأمور، ومثال ذلك العبد الصالح الذي سار معه موسى عليه السلام وقال :
﴿ وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا ﴾( من الآية ٨٢ سورة الكهف ).
ومثل هذه الهبة تأتي لتثبيت لصاحبها أنه على علاقة بربه، ولا يعطي الحق سبحانه هذه الهبات لتصبح عملا ملازما للإنسان، وجزاء من طبيعته وبحيث نذهب إليه في كل أمر فبخبرنا بما ينبغي علينا أن نقوم به. إن الأمر ليس كذلك بل هي مجرد هبات صفائية، يمنحها - سبحانه – وينزعها ويمنعها ؛ فسبحانه عنده مفاتيح كل الغيب، ويأتي لنا بالعالم المحسوس :﴿ ويعلم ما في البر والبحر ﴾. وأتى الحق بالبر أولا قبل البحر، والبر محس لكل الناس بما فيه من جمادات ونباتات وأشجار وحيوانات وأناس وبلاد وطرق. وهناك من البلاد ما لا تطل على بحار أبدا، ولذلك جاء الحق بالبر أولا، ثم جاء بالبحر الذي يمكن أن يشاهد، ولكن عالم البحر أخفى من عالم البر. وعوالم البحر تأخذ من مسطح الكرة الأرضية مساحات كبيرة للغاية وكل يوم نكتشف في عالم البحار جديدا.
ومن بعد ذلك يردنا الحق إلى البر مرة أخرى فيقول :
﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾( من الآية ٥٩ سورة الأنعام )
إلى هذه الدرجة يوضح لنا الحق علمه الأزلي ؛ فسبحانه يعلم كل ما يتعلق بورقة شجرة بعد أن تؤدي مهمتها من التمثيل الكلورفيلي وتغذية الشجرة وإنضاج الثمار ثم سقوطها على الأرض. والسقوط كما نعرف هو هبوط شيء مادي إلى أسفل، وفسره العلماء من بعد ذلك بالجاذبية الأرضية.
وعندما تسقط الورقة من الشجرة تكون خفيفة الوزن، والحق سبحانه وتعالى هو المتصرف في الأجواء التي تحيط بمجال هبوطها، وحركة الريح التي تحركها. ولماذا جاء الحق بمسألة الورقة هذه ؟ جاء لنا الحق بمثل هذا المثل لنعلم أنه عندما ذيل الحق سبحانه الآية السابقة بقوله :
﴿ والله أعلم بالظالمين ﴾( من الآية ٥٩ سورة الأنعام )
إن هذا التذييل قد احتاج إلى أن يشرحه لنا الحق بأن يعلم أوقات تحركات كل ورقة من آية شجرة، وهذا يدل على كمال الإحاطة والعلم، فضلا على أن الأمور لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، فكيف بالأمور التي يترتب عليها الثواب والعقاب ؟ لا بد أنه سبحانه وتعالى يعلمها ويفصل فيها.
﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ﴾( من الآية ٥٩ سورة الأنعام )
إنه سبحانه أيضا يعلم بالحبة التي تختفي في باطن الأرض وأحوالها.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾ ( من الآية ٥٩ سورة الأنعام )
أي أنه جلت قدرته يعلم أمر كل كائن في هذا العالم ؛ لأن كل كائن في هذه الدنيا إما رطب وإما يابس، وسبحانه لا يعلم ذلك فقط ولكن كل ذلك معلوم له مكتوب أيضا. ويشرف على حركة تلك الكائنات الملائكة المدبرات أمرا، وحين تجد الملائكة أن حركة الكون تسير بنظام محكم دقيق على وفق ما في الكتاب، فإنها لا تفتر عن تسبيح الله ليلا أو نهارا :
﴿ وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ( ١٩ ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( ٢٠ ) ﴾( سورة الأنبياء )
وللحق ملك السماوات والأرض، ومن حقه وحده أن يعبد، ولا تتكبر الملائكة عن عبادته والخضوع له ولا يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه. وأنت أيها العبد تكون في بعض الأمور مقهورا ولك في بعض الأمور اختيار، وهو سبحانه عالم بما ستختار.
﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ( ٦٠ ) ﴾.
نعلم جميعا أن النوم ليس عملية اختيارية، وفي بعض الأحيان نرى من يسلط الله عليه الهموم فلا يعرف النوم طريقا إلى جفونه. ونعلم أن النوم عملية قسرية يخلقها الله في الإنسان لتردعه عن الحركة بعد أن يستنفد كل قدرته على التحرك. والنوم لون من الردع الذاتي.
ولماذا جعل الحق النوم كالوفاة ؟.
يعرف البعض أن الوفاة في معناها هي فصل الروح عن الجسد. وكأن الحق يقول لنا : إياكم أن تظنوا أن وجود الروح في الجسد هو الذي يعطي للإنسان الحياة والحركة والتصرف، لا، إنني سأحتفظ بالروح في الجسد ولا أقدره على التصرف الاختياري، ذلك حتى لا تفتتنوا في الروح ؛ لأن هناك أجهزة لا دخل لاختيارك فيها مثل نبض القلب والتنفس ؛ وغير ذلك من حركات أجهزة الجسم. وضرب لنا الحق المثل بأهل الكهف الذين أنامهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا :
﴿ ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ( ٢٥ ) ﴾( سورة الكهف ).
والنوم – إذن – نعمة من الله جعلها في التكوين الذاتي، ولذلك إذا أردت أن تنام فليس ذلك بمقدورك ولكنه بمقدور الحق. إنه يقال عن النوم : ضيف إن طلبته عنتك – أي أتعبك – وإن طلبك أراحك. ويأتي النوم للمتعب حتى ولو نام على حصى، وقد لا يأتي النوم لمن يتهيأ له ولو كان على فراش من حرير.
والحق سبحانه يقول :
﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( ٢٣ ) ﴾( سورة الروم )
النوم – إذن – آية كاملة بمفردها، ولا يأتي النوم بالليل فقط، ولكن يأتي بالنهار أيضا ؛ لأن هناك أعمالا تتطلبها حركة الوجود ويقوم بها أناس في أثناء الليل ؛ لذلك ينامون بالنهار.
ويتوفانا سبحانه بالليل ويعلم ما جرحنا في أثناء النهار، ثم يرسلنا إلى أجل يعلمه هو سبحانه، ثم يبعثنا في يوم القيامة لينبئنا بكل أعمالنا. وسمى الحق النوم وفاة، وسمى الاستيقاظ بعثا ؛ لأن الإنسان في مثل هذه الأحوال لا يملك حركته الاختيارية. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما وقف ليعلن بعثته بعد ثلاث سنوات من الدعوة سرا :
﴿ إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ إنكم لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا ).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفا ذات يوم فقال :( يا صباحاه ) فاجتمعت إليه قريش قالوا : مالك ؟ قال أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسكم أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى، قال :﴿ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله سبحانه :﴿ تبت يد أبي لهب ﴾١.
والحق سبحانه إما أن يشل الجوارح ويعطلها ويمنعها من الحركة، أو يأخذ الروح من الجسد، فعندما يشل الجوارح ويمنعها ينام الإنسان، عندما يأخذ الروح ويمسكها يحدث الموت. ولذلك يجب أن نفهم أن للنوم قانونا، ولليقظة قانونا، وللموت قانونا، ولكل قانون قواعده، فلا قانون اليقظة كقانون النوم، ولا قانون النوم كقانون الموت، ولا قانون البعث كقانون الموت. فهناك يقظة، نوم، وموت وبعث، ومن الخطأ أن نأخذ قانون حالة ما لنطبقه على الحالة الأخرى.
إن الحق يضرب لنا المثل الواضح فينا : فالإنسان منا له حالة من اليقظة تسيطر الروح فيها على حركته الاختيارية، وعندما ينام تعجز الروح عن الحركة الاختيارية وتبقى الحركات الاضطرارية. فعندما ينام الإنسان قد ير بعضا من الرؤى والأحلام يقابل فلانا ويراه مرتديا زيا معينا بألوان معينة، فبأي شيء أدرك الألوان وعيونه مغمضة ؟، إذن فهناك وسائل إدراك غير العين. وكذلك الزمن يأخذ حظه في أثناء اليقظة، لكن في أثناء النوم يرى الإنسان حلما في سبع ثوان ويحكيه في نصف ساعة. وقد ينام اثنان في فراش واحد، أحدهما يحلم بأنه التقى بالأحباب والأصحاب ويأكل ويشرب ويسعد ويأنس، والآخر يحلم بأنه التقى بأعدائه وعنى منهم ومن عراكه معهم، إذن فالزمن اختلف وكذلك المعية. وهكذا اختلف قانون النوم عن قانون اليقظة. وكذلك يختلف قانون الموت عن قانون الحياة :
﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ( ٦٠ ) ﴾( سورة الأنعام ).
والجارحة كما قلنا هي التي تعمل ليكسب الإنسان. إذن فقد جاء لنا الحق بكل حالات اليقظة والنوم والموت والبعث. ولكن حالة قانونها، ونحن نعرف قانون اليقظة وقانون النوم لأننا نتعرض لهما، فإذا قيل لنا : إن هناك قانونا للموت فنحن نقيس ذلك على ترقي القوانين من اليقظة إلى النوم، وعندما يقال لنا : إن هناك بعثا فنحن نصدق أيضا.
﴿ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ( ٦١ ) ﴾.
والقاهر هو المتحكم بقدرة فائقة محيطة مستوعبة. ولقائل أن يقول : ما دام الحق هو القاهر فكيف يكفر الكافر وكيف يعصى العاصي ؟ ونقول : إن الكافر يكفر بما خلق الله فيه من اختيار وكذلك تكون معصية العاصي. ولكن الحق أوجد في الإنسان اضطراريات وقهريات تدلنا على أنه سبحانه فعال لما يريد. ولا أحد من المتمردين على المنهج الله يجرؤ أن يسحب هذا التمرد على ما يجريه الله عليه من مرض أو موت.
والمتمرد أو الكافر إنما من باطن الاختيار الذي خلقه الله فيه، والله هو الحاكم للميلاد والموت ولا شيء للإنسان فيهما، وكذلك هو سبحانه له تصريف أمور الغني والفقر، ولا يجرؤ متمرد على أن يتمرد على المصائب التي تحدث له وإن تمرد على منهج الله ؛ لأن التمرد هو من باطن خلق الله للاختيار الذي أودعه في الإنسان.
﴿ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ( ٦١ ) ﴾( سورة الأنعام )
وحين يتكلم الحق سبحانه عن ذاته ونفسه، قد يتكلم بضمير المتكلم، فيقول :
﴿ إنني أنا الله ﴾( من الآية ١٤ سورة طه )
وقد يقول سبحانه :
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) }( سورة الحجر ).
ومرة يتكلم عن ذاته بما نسميه نحن ضمير الغيبة مثل قوله هنا :
﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾( من الآية ٦١ سورة الأنعام ).
لأن الضمير المتكلم معه دليله، إن المتكلم يقول : أنا، ويخاطبك فيقول : أنت لكن الذي يتكلم بضمير الغيبة لا بد أن يعود الضمير على مرجع لهذا الضمير. حين يتكلم الحق عن ذاته بما يسمى لدينا ضمير الغيبة فإنه – سبحانه – يريد أن يبين لنا أنه في أجلى مجال المشاهدة والحضور ؛ فكأنه إذا قال ( هو ) لا تنصرف إلا إلى ذاته العليا ؛ فكأنه لا يوجد مرجع ضمير إلا هو، ولذلك يقول :
﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾( سورة الإخلاص ).
وسبحانه يقول :( هو ) قبل أن يذكر المرجع، هو ( الله ) ؛ مع أن الأصل في المرجع أن يتقدم، ولكنه يقول :
﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾( سورة الإخلاص ).
فكأنه إذا أطلق هذا الضمير فلا ينصرف إلا إلى ذاته، وحين يتكلم بضمير التكلم نراه يتكلم عن ذاته بضمير الإفراد فيقول :
﴿ إنني أنا الله ﴾( من الآية ١٤ سورة طه )
ويقول مرة أخرى :
﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾( سورة الحجر )
لماذا ؟. إنه سبحانه إن تكلم عن فعل من أفعاله نجد أن كل فعل من أفعاله يتطلب صفات الكمال كلها فيه، لأنه يتطلب علما بما يتكلم به، ويتطلب قدرة لإبرازه، ويتطلب حكمة، ويتطلب صفات كثيرة، فإذا قال سبحانه :
﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾( سورة الحجر )
فالتنزيل فعل، والفعل يقتضي صفات متعددة. فلا بد أن يأتي بضمير التعظيم وهو الجمع ؛ لأن كل صفات الكمال متجلية في التنزيل. ولكن إن تكلم عن الذات في التوحيد لا يأتي بضمير الجمع أبدا ؛ لأنه يريد أن تنفى عن ذاته أنه متعدد ؛ لأنه هو الواحد الذي لا شريك له، فحين يتكلم عن الذات يقول : إنني أنا الله....................... ( ١٤ ) }( سورة طه )
وحين يتكلم عن الذكر يقول :
﴿ إنا نحن نزلنا الذكر...................... ( ٩ ) ﴾( سورة الحجر )
ففي مجال التعظيم والتنزيل الذي يتطلب تجلي كثير من صفاته – جل شأنه – يأتي بضمير الجمع، وفي التوحيد والتفرد ونفي الشريك يأتي ضمير الإفراد.
هنا يقول سبحانه :
﴿ وهو القاهر فوق عباده.................... ( ٦١ ) ﴾( سورة الأنعام )
وكلمة ( قاهر ) إذا سمعتها تتطلب مقهورا. وما دام هناك قاهر ومقهور ففي ذلك ميزانان بين مجالين. ومادام هو قاهر ففي أي مجال وبأية طريقة سيكون الطرق الثاني مقهورا له ؟ إننا نعلم أن كل شيء في الكون مقهورا له، فقد قهر العدم فأوجد، وقهر الوجود فأعدم. وقهر الغنى فأفقر، وقهر الفقر فأغنى. وقهر الصحة فأمرض، وقهر المرض فأصح.
إذن فكل شيء في الوجود مقهور لله حتى الروح التي جعلها مصدر الحس والحركة للإنسان يقهرها سبحانه. فإذا جاء إنسان وقتل إنسان آخر بأن ضربه على المكان الذي لا توجد عند عدمه وفقده حياة بأن أذهب صلاحيته للبقاء تنسحب الروح. وهذا يوضح لنا أن الروح في الجسم هي المسيطرة، لكن من ينقض البنية التي تسكنها الروح يذهب الروح ويخرجها من الجسم ومرة يقهر المادة بالروح فيأخذ الروح من غير آفة ومن غير أية إصابة ويتحول الجسم إلى رمة. إذن فسبحانه يقهر الروح، ويقهر المادة، ولا توجد متقابلات في الوجود عالية ومتأبية ومتمردة عليه – سبحانه - :
﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾( من الآية ٦١ سورة الأنعام )
والقاهر هو المتحكم بقدرة شاملة على المقهور، وانظر أي تقابل في الحياة تجده مدينا وخاضعا لصفة القهر. ﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ وكلمة ( فوق ) تقتضي مكانية. ولكن المكانية تحديد، ومادام القهر يتطلب قدرة فهل يعني ذلك أن القادر لا بد أن يكون في مكان أعلى ؟ لأننا نجد – على سبيل المثال ولله المثل الأعلى – من يضع قنبلة تحت العمارة العالية ويقهر من فيها. إذن فالقهر لا يقتضي الفوقية المكانية، إذن فالفوقية المرادة هي فوقية الاستعلاء، ونحن عندما تكلمنا عن الحق سبحانه وتعالى أوضحنا أن نلتزم بإطار ( ليس كمثله شيء ) فهو ذات لا ككل الذوات. وصفاته ليست ككل الصفات، وكذلك نأتي ونقول في فعله، وعلى سبيل المثال نجد خلق الله يحتاجون إلى زمن ويحتاجون إلى علاج، وكل جزئية من الفعل تحتاج إلى جزئية من الزمن، لكن هو سبحانه إذا فعل أيحتاج فعله إلى زمن ؟ لا، لأنه لا يفعل بعلاج، ولا يجلس ليباشر العملية، إنما يفعل سبحانه ب ( كن )، إذن القهر في قوله :﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ هو قهر الاستعلاء.
ولذلك يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( ينزل ربنا إلى السمار الدنيا كل ليلة لآخر رمضان ).
ففي أية ليلة ينزل فيها الله ؟ ليلتك أم ليلة المقابل لك ؟ أم الليلة التي تشرق الشمس فيها في مكان، وتغيب عن مكان آخر ؟ إذن، فكل واحد من المليون من الثانية ينشأ ليل وينشأ نهار، وهكذا نعلم أن الله معك ومع غيرك، باسطا لك ولغيرك يده.
﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾( من الآية ٦٤ سورة المائدة )
لذلك لا نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها )١. لا تفهم ذلك بتخصيص ليل معين أو نهار معين ؛ لأن يده مبسوطة في كل زمن وفي كل مكان وليس كمثله شيء.
﴿ وهو القاهر عباده ﴾. وعباده من مادة العين والباء والدال، ومفردها ( عبد )، وجمعها يكون مرة ( عبيدا ) وأخرى ( عبادا ). و ( العباد ) هم المقهورون لله فيما لا اختيار لهم فيه، وهم أيضا المنقادون لحكم الله فيما لهم فيه اختيار ؛ لأن الإنسان مقهور في بعض الأمور ولا تصرف له فيها : لا تصرف له في نفسه، ولا تصرف له في نبضات قلبه، ولا تصرف له في الحركة المعدة، ولا تصرف له في حركة الأمعاء، ولا تصرف له في حركة الحالبين، ولا تصرف له في حركة الكلية، وكلها مسائل تشمل المؤمن و الكافر، والكل مقهور فيها.
إن من رحمة الله أننا مقهورون فيها ولا رأي لنا ؛ لأنه لو كان لنا رأي في مثل هذه الأمور لكان لنا أن نسأل : كيف ننظم عملية تنفسيا في أثناء النوم ؟ إذن فمن رحمة الله أمن منع عنا الاختيار في بعض الأمور التي تمس حياتنا. ومن رحمة الله أن كلا منا مقهور فيها، فمن يستطيع أن يقول لمعدته : أهضمي الطعام ؟ ومن يستطيع أن يأمر الكلي بالعمل ؟ ! !.
إذن فكل أمر مقهور فيه الإنسان، هو فيه منقاد لله ولا اختيار له. أما الأمر الذي لك فيه اختيار فهو مناط التكليف. ولذلك لا يقول لك المنهج :( افعل ) إلا أنت صالح ألا تفعل، ولا يقول لك ( لا تفعل ) إلا وأنت صالح أن تفعل.
إذن الأمور الاختيارية هي التي وردت فيها ( افعل ) و ( لا تفعل ). وهي الأمور التي فيها التكليف. ومن يطع ربنا في منهج التكليف يصبح وكأنه مقهور للحكم، ويكون ممن يسميهم الله ( عبادا )، فكأنهم تنازلوا عن اختيارهم في الأحكام التكليفية، وقالوا : يا رب لن نفعل إلا ما يريده منهجك. وكل منهم ينفذ حكم الله فيما له فيه اختيار ألا ينفذه. أما العبيد فهم من يتمردون على التكليف، فالمؤمنون بالله هم عباده. ولذلك يقول الحق :
﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميع..... ( ٥٣ ) ﴾( سورة الزمر )
ويوضح سبحانه سمات هؤلاء العباد فيقول :
﴿ وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( ٦٣ ) ﴾( سورة الفرقان ).
هؤلاء هم العباد الذين تنازلوا عن اختيارهم في الفعل، وقبلوا أن يكونوا مأمورين ومطيعين لله فيما كلف به، وهم في الأمور التي لا اختيار لهم فيها يكونون مثل بقية الكائنات، فكل الخلق والكون عبيد الله، فيما لا اختيار لهم فيه أما المؤمنون به فهم عباد الله. ولكن آية واحد في القرآن وهي التي تثير بعض الجدل في مثل هذا الموضوع. ساعة يقول الحق سبحانه وتعالى عما يحدث في الآخرة :
﴿ أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء..................... ( ١٧ ) ﴾( سورة الفرقان )
وكأن ( عبادي ) هنا أطلقت على الضالين، ويقول : نعم ؛ لأن الكل في الآخرة عباد ؛ إذ لا اختيار لأحد هناك. لكن في الدنيا فالمؤمنون فقط هم العباد، والكافرون عبيد لأنهم متمردون في الاختيارات.
﴿ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ﴾( من الآية ٦١ سورة الأنعام )
ومع مجيء معنى القهر يرسل الحق حفظة، إذا كان القهر يعني الغلبة والتملك والسيطرة والقدرة، فهو قهار على عباده وأيضا يرسل حفظة.
ويقول في موقع آخر :
﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه ﴾( من الآية ١١ سورة الرعد )
وهكذا يكون قهر الله لنا، لمصلحتنا نحن ؛ لأن الضعيف حين يقهره جبار، ويمكنه أن يقول : الله هو القهار الأعلى، وفي هذا تذكير للقوي نسبيا أن هناك قهارا فوق كل الكائنات، فالله قهار فوق الجميع، وبذلك يرتدع القوي عن قهره، فيمتنع عن الذنب، وتمتنع عنه العقوبة، وفي ذلك رحمة له.
﴿ ويرسل عليكم حفظة ﴾( من الآية ٦١ سورة الأنعام )
وجاء معنى ( الحفظة ) في القرآن في قوله الحق :
﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( ١٨ ) ﴾( سورة ق )
فكل لفظ رقيب عتيد، حفظة أي ملائكة يحفظون ويحصون أعمالكم ويسجلونها وهم الكرام الكاتبون، وكلما تقدم العلم أعطانا فهما للمعاني الغيبة، وإن كانت المعاني الغيبية التي نستقبلها عن الله دليلنا فيها السماع، ففيه رقيب وعتيد يكتبان فقط، هكذا قال ربنا فآمنا بما قال وانتهت المسألة، وهذا هو المطلوب.
ولذلك قال الحق :
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾( من الآية ٣ سورة البقرة )
لأن الإيمان لو كان بالمشهد فما الفرق – إذن – بين الناس ؟ إن الإيمان في كماله وقمته هو الإيمان بالغيب، فإذا قال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( ١٨ ) ﴾( سورة ق )
فهذا خبر عن الملائكة الذين يكتبون الحسنات، ويكتبون السيئات. وحين ننظر إلى البشر، نجدهم يتفاوتون ويرتفع بعض منهم على بعض في صفات وقدرات
﴿ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ( ٦٢ ) ﴾.
وكلمة ( ردوا ) تفيد أن كان لهم التقاء به أولا، وبعد ذلك سوف يرجعون، كيف ؟ لقد كانوا منه إيجادا ثم ردوا إليه حسابا ثوابا وعقابا ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل :
﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم..................... ( ٥٥ ) ﴾( سورة طه ).
﴿ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾ وكلمة ( مولى ) تعني أنه هو الذي يليك، ولا يليك إلا من هو قريب منك. وهذا القريب قد يكون منجدا لك إن حدث لك ما يفزعك وهو الذي يعين، وهكذا أخذت كلمة ( مولى ) معنى القريب، والناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك، وقد يوجد لك مولى في الدنيا وهو من الأغيار. ومن الجائز أن يتغير فقلبه عليك، ومن الجائز أن تنالك الأحداث التي هي فوق قدرته وطاقته، ومن الجائز أن يكون لك مولى تنشد وتطلبه لنصرتك فيرفض ؛ لأن خصمك له بهذا المولى ولاء أقوى وأشد فيقف بجانب خصمك وقد يوهمك أنه معك لكن ليس معك.
لكن هناك في الآخرة مولى حق واحد ﴿ وردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾ وتطلق كلمة ( مولى ) على السيد حين يعتق عبده. وحين يعتقنا ربنا من النار أليس في ذلك أعظم ولاية ؟ إنه المولى الحق، فلا توجد قوة أعلى منه وهو لا يتغير ؛ لأن الأغيار من طبيعة الخلق.
وحين يطلب منك الحق أن تعمل عقلك لأنك حين تعتمد على واحد ينفعك في أمورك فأنت تتوكل عليه، وتطلب مساعدته، وهنا يأمرك الحق بأن تتوكل على الحي الذي لا يموت، ولا تتكل على واحد من الأغيار فقد يصبح الصباح فتجده قد خلا بك وتخلى عنك. أما إذا كان مولاك هو الحق فلن يخذلك.
﴿ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم ﴾. ولماذا جاء بكلمة ( الحكم ) هنا ؟ ؛ لأننا في دنيا الأغيار قد يسند سبحانه بعض الأحكام إلى بعض خلقه ؛ فهذا يحكم، وذلك يتصرف، وآخر يصدر قرارا بالتعيينات، وكلها أحكام، أما في الآخرة فالحق يقول :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر ).
وأنت في الدنيا تملك، ويكون رزق ابنك – على سبيل المثال – من يدك، وتملك أن تصدر قرارا بترقية من هو أقل منك، وتملك أن تخيط الثواب لغيرك إن كانت تلك مهنتك، ففي الدنيا كل منا يملك بعضا من أسباب الآخر. لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر ).
وساعة تسمع ﴿ ألا له الحكم ﴾ ف ( ألا ) في اللغة أداة تنبيه لما يأتي بعدها، ولماذا تأتي أداة التنبيه هنا ؟ لأن الحكم القادم بعدها حكم مهم. والكلام – كما نعرف – واسطة بين متكلم ومستمع ؛ لأن المتكلم ينقل أفكاره وخواطره ومطلوباته إلى السامع. وهو قبل أن يتكلم يدير الأمر في رأسه : أيتكلم أم لا ؟ لكن السامع يفاجأ بكلام المتكلم، والمتكلم قبل أن ينقل خواطره توجد في خياله نسبة ذهنية، أي أنه يعايش مشروع الكلام ويتدبره قبل أن يتكلم، أما السامع فهو يفاجأ، وعندما تريد أن تقول أمر مهما فأنت تحاول أن تضمن انتباه السامع حتى لا تلفت منه أية جزئية من كلامك، فتقول :( ألا ) لتشد انتباه السامع تماما. والحق هنا يقول :( ألا ) ليأخذ انتباه السامع، ويأتي بعدها قوله :( له الحكم ).
إذن : ساعة تسمع ( ألا ) فاعرف أن فيها تنبيها لأمر قادر ﴿ ألا له الحكم ﴾.
والحكم : هو الفصل بين أمرين، ويختلف الفصل بين أمرين باختلاف الحاكم ؛ فإن كان الحاكم له هوى فالحكم ويميل، لكن الفصل بين الأمرين يجب أن يكون بلا هوى، فالحكم بالميزان يقتضي أن تكون له كفة هنا وكفة تقابلها، وساعة ما نضبط الميزان نحاول أن نوازن الكفتين لنفصل بين مسألتين ملتحمتين، ومادمنا نريد التساوي فنحن نسمي ذلك : الإنصاف، أي أن نقف في النصف دون ميل أو حيف.
﴿ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ﴾ وساعة يسمع إنسان ﴿ ألا له الحكم ﴾ فالواحد منا يعلم أنه سبحانه يحكم بين الخلق بداية من آدم إلى أن تنتهي الدنيا، وكل واحد منا تتشابك مسائله مع غيره، ومادام لله الحكم فليس لغيره معه حكم، ويحكم بين الخلق جميعا وفعله لا يحتاج إلى زمن، ونتذكر هنا الإمام عليا – كرم الله وجهه – حين قالوا له : كيف يحاسب ربنا الناس جميعا في وقت واحد، وبمقدار حلب شاة كما قال بعضهم ؟ فقال الإمام علي :( كما يرزقهم في وقت واحد يحاسبهم في وقت واحد )، وهذه مسألة سهلة ليس فيها أدنى صعوبة أبدا. وقديما عندما كانوا ينيرون الطرقات كانوا يشعلون المسارج : هنا مسرجة، وهناك مسرجة وعلى البعد مسرجة ثالثة، وكان الوقاد يمشي ليشعل المسارج.... الخ، وارتقى العقل البشري المخلوق لله واستطاع أن ينير الطرقات بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية وفي وقت واحد.
﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ( ٦٣ ) ﴾.
المتعب للخلق أن تأتي الظلمة وتكون في مهمة النور، وأن يأتي النور في مهمة الظلمة، فكل من الظلمات والنور دور ومهمة في الحياة. ولذلك قلنا في أول السورة حين تكلم الحق سبحانه وتعالى قائلا :
﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور.......... ( ١ ) ﴾( سورة الأنعام ).
لقد ظن البعض أن المفترض أن يقول سبحانه : وجعل النور والظلمات، ولكن لنتلمس القول الحق، ولنعترف أن مهمة الظلمة تتساوى مع مهمة النور، وعلى الإنسان أن يعي مهمة الظلمة، وكلنا يعرف مهمة النور الذي يعينا على السعي على أمور حياتنا، ويتطلب السعي طاقة، ولا يمكن أن تأتي الطاقة إلا بعد سكون وهدوء واطمئنان وراحة ؛ لذلك فالراحة تحتاج إلى ظلمة لينام الإنسان ويستريح، إذن فالظلمة نعمة من نعم الله، والذي يتعب الإنسان أن يغير ويبدل فيجعل النور مكان الظلمة، ويجعل الظلمة مكان النور، وهذا خروج عن مهمة كل متقابلين. وحين ينشئ الحق المقابلات لا ينشئها على أنها تتضاد، أو على أنها تتعاند، ولكنه – سبحانه – يريد متكاملا يعين متكاملا، فلا شيء يهدم شيئا مقابلا له، بل كل متكامل يساعد الآخر. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :
﴿ والليل إذا يغشى ( ١ ) والنهار إذا تجلى ( ٢ ) ﴾( سورة الليل )
وقد جاء سبحانه بالليل أولا، والنهار ثانيا، ولكل منهما مهمة، ولا يمكن أن تؤدي مهمة النهار على حقيقتها إلا إن جاءت مهمة الليل فأديت على حقيقتها. وهات إنسانا لم يأخذ من الليل الراحة والسكون والهدوء، وعانى من قرص ولسع الناموس أو البراغيث، أو من ضجيج وخلافه، ولم ينم، ثم في الصبح تجده نصف نائم، نصف مراهق، غير قادر على التركيز أو كما يقول ( مذهول ).
إذن فمن أجل حركة الضوء لا بد أن توجد الظلمة.
﴿ والليل إذا يغشى ( ١ ) والنهار إذا تجلى ( ٢ ) ﴾( سورة الليل ).
الليل والنهار – إذن – نعمتان، وكل نعمة تساوي الأخرى، وإياك أن تقول هذا ضد تلك، أو أنها جاءت لتعاندها، لا. لقد جاءت كل منهما لتساند الأخرى.
وفي سورة الليل يتابع الحق :
﴿ وما خلق الذكر والأنثى ( ٣ ) ﴾( سورة الليل ).
لقد جاء سبحانه أيضا بمتقابلين، وإياك أن تظن أنهما متعاندان فقد جعلهما الله متكاملين لتنجح الحياة. وإن تعاندا تفسد الحياة. ومادام الليل له مهمة والنهار له مهمة، إذن فالذكر له مهمة، والأنثى لها مهمة. وإن خلطت المهمتين ينتج الفساد.
﴿ والليل إذا يغشى ( ١ ) والنهار إذا تجلى ( ٢ ) وما خلق الذكر والأنثى ( ٣ ) إن سعيكم لشتى( ٤ ) ﴾( سورة الليل )
ويقول الحق هنا :
﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ( ٦٣ ) ﴾( سورة الأنعام )
والظلمة – إذن – هي عدم النور. ولم يقل الحق إن طلب النجاة يكون من ظلمة واحدة، وإنما طلب النجاة من ظلمات متعددة، وهي ظلمات متراكمة ؛ لأن الظلمة إذا ما غشيت بظلمة ثانية، ثم بظلمة ثالثة، حينئذ تصير ظلمات مركبة بعضها فوق بعض.
والحق سبحانه قال :﴿ ظلمات البر والبحر ﴾، وحتى نعرف أهي ظلمات حسية أم ظلمات معنوية لا بد لنا أن نعرف الظلمة في معناها الحسي، وإنها ما يؤدي إلى عدم الاهتداء إلى الحركة المنجية، إذن فكل أمر يؤدي إلى عدم الاهتداء – حسيا أو معنويا – هو ظلمة ؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يسير في أموره بغير اهتداء، والأحداث والكوارث التي يصعب على الناس أن يعرفوا طريق النجاة منها تعتبر ظلمة، سواء أكانت ظلمة حسية أم معنوية.
والحق سبحانه وتعالى يقرب لنا المعنويات بالأمور الحسية ؛ والمراد بالظلمات هنا هي الأحداث والكوارث والنوازل التي تضيق أسباب البشر عن النجاة منها. والإنسان حريص دائما على نفع نفسه، وتظهر التناقضات في أفعال إنسان عن أفعال إنسان آخر لاختلاف كل منهما في تقييم وتقدير النفعية. والمثال على ذلك واضح ونضربه دائما هو : مثال التلميذ الذي يذهب صباحا مبكرا إلى مدرسته، وينتبه إلى أساتذته، ويعود إلى منزله ليؤدي واجبه، ويخرج من لذيذ الكسل ليجد لذة في العمل، إنه بذلك يحب نفسه ويريد النفع لها. أما التلميذ الذي ينام ويوقظه أهله فلا يستيقظ، إذا أيقظوه فهو يخرج من البيت ليتسكع في الطريق، مثل هذا التلميذ يحب نفسه حبا أحمق لأنه يريد اللذة العاجلة التي تعقبها سلسلة من الآلام الآجلة. إنه ينتظر مستقبلا لا كرامة له فيه عكس التلميذ المجد الذي يتبوأ المكانة اللائقة به.
والمثال الواضح أيضا في الريف هو الفلاح الذي يقضي وقته على المقهى ويسهر الليل أمام التليفزيون ويترك الأرض بلا حرث ولا ري ولا تسميد، ولا يمكن أن تنتج الأرض التي يفلحها محصولها مساويا لأرض الفلاح الذي يأخذ بأسباب الله فيحرث الأرض وينتظم في ريها في المواعيد المحددة، ويضع السماد المقرر لها ؛ لأن الذي أخذ بأسباب الله وتعب وبذل جهدا لا بد أن يعطيه الحق الرزق الوفير. أما الذي يكسل عن أداء عمله فقد أحب نفسه حبا أحمق قصير الأجل، وأما الذي أخذ بأسباب الله وأقبل على عمله بحب وتقدير فقد أحب نفسه حبا أعمق، فيه نفع له ولغيره.
إن كل حركة يصنعها الإنسان في الحياة إنما يريد بها نفع نفسه، ولكن هناك اختلاف في تقدير النفعية بين إنسان وآخر، والعاقل من يرى النفعية الآجلة المجدية ويعمل لها، وها هو ذا المتنبي الشاعر العربي يقول :
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
حب الشجاع لنفسه – إذن – جعله طموحا إلى الحياة الخالدة كشهيد في سبيل الله، وحب الجبان لنفسه جعله أسير الخوف على الحياة الفانية. فإذا ما صدم الإنسان بأحداث ونوازل وكوارث نرى نفعيته وهي تحركه إلى البحث عن أسباب للنجاة، ويعتمد على أسبابه أو أسباب من هو قريب منه، أما إذا عزت أسباب البشر. وكان غافلا عن الله، فإن الأحداث والمصائب والكوارث تعيده وتذكره بخالقه فيقول :( يا رب )، وبذلك لا يبيع نفسه رخيصا. لكن إن خدع مثل هذا الإنسان نفسه من البداية وأعرض عن الله وتمرد على ربه ووجد نفسه أمام الكوارث فهو يسلم أمره لله في وقت الشدة، فإن انجاب وانكشف عنه الضر عاد إلى الكفر وتمرده. ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( ٦٧ ) ﴾( سورة الإسراء ).
ونجد الذين يقابلون الأهواء وتنتهي أسبابهم لا يكذبون على أنفسهم. بل يتجهون فطريا إلى الحق القادر على الأخذ بأيديهم. فلحظة أن تضطرب سفينة وتحيطها عواصف الموج والرياح، وتختل آلاتها لا تجد إلا كلمة : يا رب، يا رب. يا رب. على ألسنة كل ركابها بداية من ( القبطان ) والقائد إلى أصغر راكب بها، وتجد من يتمتم بآيات القرآن توسلا إلى الله للنجاة. وكذلك لحظة أن تضطرب طائرة في الجو، ولا يعرف قائدها طريقا للنجاة لا يقفز إلى أذهان الركاب وطاقم الطائرة إلا نداء التضرع إلى الله.
ولهذا يقول لنا الحق سبحانه :﴿ ضل من تدعون إلا إياه ﴾ ودعوة الإنسان ربه ومولاه هي الوسيلة الأولى من وسائل اليقين، ونعلم أن أحداث الحياة تترواح ما بين أمرين ؛ أمر يبسط ويسعد الإنسان، وأمر يقبض ويقيض على الإنسان ويشقى به، فأما الذي يبسط ويسعد فهو إدراك الجمال، والنعمة والراحة، والسعادة، والإحساس بالرضا. وأما الذي يضيق على الإنسان ويشقيه فهو يريد أن يلفت منه وينجو.
ولنا العبرة الكاملة من الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، فالإنسان بفطرته إن رأى ما يسعده، لا يجد تعبيرا أقوى من أن يقول :( الله ). وهي صيحة التقدير والتقديس لله الذي أعطاه موهبة إتقان العمل. وتتجلى العبرة الكاملة أيضا عندما يدهم الإنسان الخطر فيقول بفطرته :( يا رب ). إذن فلا ملجأ إلا إلى الله.
﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ﴾ ؟ ويتضمن السؤال الحقيقة التي لا بد أن يقررها السامع لهذا السؤال وهي : إن الله هو المنجي من ظلمات البر والبحر. وحين يأمر الحق رسوله أن يقول هذا التساؤل للكافرين فهو سبحانه عليم بأن إجابة الفطرة هي التي ستغلب على ألسنة الكافرين ويعترفون به سبحانه وحده بأنه هو المنجي من ظلمات البر والبحر. والكون – كما نعلم – إما بر وإما بحر. ولقائل أن يقول : ولكن هناك كوارث جديدة في عصرنا هي كوارث الجو ؟
ونقول : يجب أن تفهم أن كل جو يأخذ حكم مكانه. فجو البر من البر، وجو البحر من البحر، ومثال ذلك ما نراه عند الصلاة في المسجد الحرام ؛ فنحن نرى المصلين يؤدون الصلاة حول الكعبة أو في الدور والطابق الأول أو الثاني أو الثالث من المباني المقامة كمسجد حول الكعبة. ونلحظ أن ارتفاع الكعبة لا يريد على ارتفاع دور واحد من أدوار المباني التي حولها. والمصلون يتجهون في صلواتهم في تلك الأدوار إلى جو الكعبة، ذلك أن جو المكانة المقدس هو مقدس أيضا، وجو الحرم من الحرم.
ومثال هو السعي بين الصفا والمروة ؛ فالمسلم يسعى بين الصفا والمروة في الدور الأرضي، وهناك الآن دور ثان أقيم للسعي. وهكذا نرى أن جو المسعى مسعى أيضا. وقديما كان محرما على الطائرات أن تطير في جو مكة أو المدينة. حدث ذلك أيام أن كان الطيارون من غير المسلمين، وذلك حتى لا يطير غير المسلم في الجو المقدس. أما الآن فقد صار مسموحا للطيارين المسلمين أن يقودوا طائراتهم في أجواء مكة والمدينة المنورة.
فالجو له حكم المكان سواء أكان المكان برا أم بحرا.
﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية ﴾ إن الدعاء بالفطرة يتجه إلى الله، والدعاء هو طلب لشيء. والطلب يقتضي طالبا، ومطلوبا، ومطلوبا منه. والطالب هو من يدعو. والمطلوب منه هو من ندعوه ونسأله. والمطلوب هو الشيء الذي نتضرع بالدعاء رجاء أن يحدث. والطلب لون من الأمر، لكن إذا ما جاء الطلب من الأدنى إلى الأعلى فلا تقل إنه أمر، بل هو دعاء.
وفي اللغة عندما نسأل الطالب أن يقدم بإعراب ( رب اغفر لي )، نجد الذي استذكر دروسه دون تفقه يقول :( اغفر فعل أمر )، أما الطالب المتفقه في فهم دينه مع إجادة لدراسته فيقول بأدب الإيمان : اغفر هي فعل دعاء ؛ لأن الطلب إن صدر من الأدنى إلى الأعلى فهو دعاء، وإن صدر من المساوي للمساوي فهو التماس، وإن صدر من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر.
وحين ننظر إلى الحالة النفسية لمن تحيطه الكوارث والأحداث والنوازل وتضغط عليه الظروف ولا يجد من ينقذه، هل مثل هذا الإنسان يأمر أو يدعو إنه يدعو بطبيعة الحال، ويدعو بتذلل وامتثال وخضوع، وهذا معنى الدعاء...... إنه السؤال بتضرع وخضوع. والتضرع يقتضي قولا، ويقتضي فعلا ويكون التضرع بالوجدانيات والسلوكيات.
ويخطئ من يظن أن هناك تضرعا بالقول دون أن يربط ذلك بفعل. فعندما تكون في موقع قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن تتفضل عليه بشيء، فهذا منه تضرع بالقول. لكن عندما تكون في موقع قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن يفعل لك أمرا، فهذا تضرع بالقول والفعل. وفي لحظة الخطر يدعو الإنسان ربه ولا يمكن أن يكون وفي قلبه ذ
﴿ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ( ٦٤ ) ﴾.
إن الحق ينجيهم من الظلمات المادية في البر والبحر، وسبحانه بعلمه الأزلي يعلم أنهم بعد النجاة سيعودون إلى ما نهاهم عنه من شرك به ؛ لأن الإنسان بطبيعته عندما يجد حياته مكتفية بما يملكه قد يقع فيما قاله الحق تبارك وتعالى :
﴿ كلا إن الإنسان ليطغى ( ٦ ) أن رآه استغنى ( ٧ ) ﴾( سورة العلق ).
والإنسان قد يتجاوز حدوده ويتكبر على من حوله، بل وعلى ربه إن رأى نفسه صاحب ثراء، ولا يعصم الإنسان من مثل هذا الموقف إلا الإيمان بالله ؛ لأن الإنسان بدون منهج الله يسبح في بحر الغرور والتكبر، ولكن من يحيى في ضوء منهج الله فهو يعرف كيف يرعى الله في كل إمكانات أو ثراء يمنحه له الله، وينشر معونته ليستظل بها المحتاج غير الواجد. ولذلك نجد أن كلمة ( الإنسان ) إذا أطلقت تقترن بالخسارة.
﴿ والعصر ( ١ ) إن الإنسان لفي خسر ( ٢ ) ﴾( سورة العصر )
أي أن الإنسان على إطلاقه في خسر. ولكن الحق يستثني من ؟.
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتوصوا بالصبر ( ٣ ) ﴾( سورة العصر )
إذن فالإنسان المعزول عن المنهج الله هو الذي يحيا في خسران، ولكن من يعيش في رحاب المنهج هو الذي لا يخسر أبدا. والإنسان حين يعيش دون منهج يصدر ويحدث منه ما رواه الحق سبحانه :
﴿ فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ( ٤٩ ) ﴾( سورة الزمر ).
لأن الإنسان يعيش دون منهج يدعو الله إن أصابه الضر، فإذا ما أنجاه الله ادعى أن النجاة إنما كانت بأسباب امتلكها هو، وإذا ما أعطاه الله نعمة من النعم زاد في الادعاء وزعم أن هذه النعمة مصدرها علم من عنده هو ولا ينسب ذلك إلى الموجد الحقيقي وهو الله، إنه نسى أن كل نعمة هي مجرد اختبار من الله.
﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( ٦٥ ) ﴾.
وكلمة ( قادر ) تعني تمام التمكن وأنه لا قدرة ولا حيلة لأحد حيال قدرة الله ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يملي للقوم الظالمين ويمد لهم الأمر ثم يأخذهم بغتة بالعذاب، وقد يأتي العذاب من فوقهم كما جاء لقوم أبرهة الذين أردوا هدم الكعبة، فسلط عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، جعلتهم كعصف مأكول، وهناك من أخذهم الحق بالصيحة، وهناك من أهلكهم بريح صرصر عاتية، وكل ذلك عذاب جاء من فوق تلك الأقوام.
أما قارون فقد خسف الله به وبداره الأرض، وكذلك قوم فرعون أغرقتهم المياه، وهذه هي التحية. فالعذاب قد يأتي من فوق أو من تحت الأرجل حسيا، وقد يأتي أيضا من فوقية أو تحتية معنوية، ومثال ذلك العذاب الذي يسلطه الله على الطغاة الكبار المستبدين، وقد يأتي العذاب من الفئات الفقيرة التي تعيش أسفل السلم الاجتماعي.
﴿ أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾( من الآية ٦٥ سورة الأنعام ).
والمقصود بلبس الأمر أي خلطه بصورة لا يتبينها الرائي. و( شيعا ) هي جمع ( شيعة ). والشيعة هم : المتعاونون على أمر ولو كان باطلا، ويجمعهم عليه كلمة واحدة وحركة واحدة وغاية واحدة. والمقصود بقول الحق :﴿ أو يلبسكم شيعا ﴾ أي أن كل جماعة منكم تتفرق ويكون لكل منهم أمير، وتختلط الأمور بين الاختلافات المذهبية التي تختفي وراء الأهواء، وبذلك يذيق الله الناس بأس بعضهم بعضا.
ولماذا كل ذلك ؟ لأن الناس مادامت قد انفرطت عن منهج الله نجد الحق يترك بعضهم لبعض ويتولى كل قوم إذاقة غيرهم العذاب. ولكن أغير ذلك في ملك الله ونواميسه الثابتة من شيء ؟ أبدا، فالسماء هي السماء، والأرض بعناصرها هي الأرض، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، والنجوم هي النجوم، والمطر هو المطر.
إن الذي يحدث فقط هو أن يذيق الله الناس بعضهم بأس بعض، ويصير كل بعض من الناس ظالما للبعض الآخر. وعندما نرى الناس تشكو، نعلم أن الناس كلها مذنبة، ومادام الكل قد أذنب وخرج عن منهج الله فلا بد أن يسلط الحق بعضنا على بعض حتى يعرف الجميع أنهم قد انفلتوا عن منهج الله لذلك يلقون المتاعب، ولن يرتاحوا إلا إذا عادوا إلى أحضان منهج الله ؛ لأن منهج الله يمنع أن يتكبر إنسان مؤمن على أخيه المؤمن. والكل يسجد لإله واحد. ولهذا وضع الحق لنا العبادات الجماعية حتى يرى الضعيف في سلطان الدنيا القوي في السلطان وهو يشترك معه في السجود للإله الواحد.
مثال ذلك ما نراه من طواف الناس حول الكعبة في ملابس الإحرام، إن من بين الذين يطوفون قوما من وجهاء الناس وأصحاب الرتب العالية والمنازل الرفيعة، ومن بين هؤلاء أيضا نجد الذين لا يحتلون إلا المكانة الضئيلة. ويرى الضعيف نفسه مساويا لمن في المركز الاجتماعي القوي. الكل يقف أمام ربه وهو ذليل ويمسك بأستار الكعبة باكيا. ويريد سبحانه بذلك استطراق العبودية، ويذل الإنسان المؤمن أمام الله وأمام الناس حتى ينمحي الغرور بين المؤمنين ويكون الناس جميعا أمام الله وفي بيته على سواء.
﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( ٦٥ ) ﴾( سورة الأنعام )
وها نحن أولاء نرى كيف أن الحق يلبس الناس شيعا، وإننا نرى المنسوبين إلى الإسلام يذبح بعضهم بعضا لسنوات طويلة. وإذا كان هؤلاء وأولئك طائفتين مؤمنتين تتقاتلان فأين الطائفة الثالثة التي تفصل بين الطائفتين مصداقا لقول الحق :
﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فاقتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) ﴾( سورة الحجرات ).
ها هو ذا الدم المنسوب إلى الإسلام يسيل، ويزداد عدد الضحايا، ومن العجيب أن الآخرين يقفون موقف المتفرج، أو يمدون كل طائفة بأدوات الدمار. وذلك يدل على أن المسألة طامة وعامة.
والقاعدة التي قلناها من قبل لا تتغير، القاعدة أنه لا يوجد صراع بين حقين ؛ لأنه لا يوجد في الأمر الواحد إلا حق واحد. ولا يطول أبدا الصراع بين الحق والباطل ؛ لأن الباطل زهوق وزائل. ولكن الصراع إنما يطول بين باطلين ؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر بأن ينصره الله.
ومثال آخر كنا في بلد كلبنان – إبان الحرب الأهلية – وكان الصراع الدائر هناك يكاد يوضح لنا أن كل فرد صار طائفة بمفرده، وكل إنسان منهم له هواه، وكل إنسان يذيق غيره العذاب ويذوق من غيره العذاب.
﴿ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ﴾( من الآية ٦٥ سور الأنعام )
وينوع سبحانه الحجج والبراهين يأتي لهم بالأحداث والنوازل حتى يتبين للجميع أنه لا راحة أبدا في الانفلات عن منهج الله حتى يفقهوا. والفقه هو الشدة الفهم. والمقصود أن نأخذ ونتفهم العظة من كل الآيات التي يجريها الحق أمامنا عسانا نرجع إلى مراد الله.
﴿ وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ( ٦٦ ) ﴾.
ما الذي كذب به القوم ؟ المقصود هو القرآن أو المنهج عامة ؛ لأن المنهج الإيماني يشمل القرآن ويشمل ما آتى به الرسول عليه الصلاة والسلام. فالقرآن معجزة مشتملة على الأصول. وجاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالسنة ليبين ويشرع. لذلك نرد على هؤلاء الذين يطلبون كل حكم من الأحكام من القرآن ونقول :
إن القرآن جاء معجزة تتكلم عن أصول العقيدة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالتشريعات التي تكمل المنهج، ومثال ذلك عدد الصلوات في فرض من الفروض الخمسة عدد ركعات كل فرض من فروض الصلوات الخمس. إن القرآن لم يذكرها، ولكن أوضحها لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو القائل حديث شريف :( صلوا كما رأيتموني أصلي )١.
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم مفوض بالتشريع بنص القرآن الكريم :
﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾( من الآية ٧ سورة الحشر ).
ونحن نصلي كما صلى الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونزكي بنصاب الزكاة الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحج إلى بيت الله الحرام كما حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أنزل سبحانه القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من طبق القرآن والسنة.
﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ﴾( من الآية٤٤ سورة النحل )
أي أن هناك من الأمور العقدية التي أنزلها الحق مجملة في القرآن وفصلها للمؤمنين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتكليف من الحق. وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجبة بنص القرآن وهي ضمن طاعة الحق سبحانه وتعالى، فالحق يقول مرة :
﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾( من الآية ٣٢ سورة آل عمران )
وهنا طاعة الرسول غير مكررة إنها ضمن طاعة الله.
ويقول سبحانه مرة أخرى :
﴿ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾( من الآية ٥٤ سورة النور )
أي أن هناك أمرا بإطاعة الله وأمر بإطاعة الرسول.
ومرة ثالثة يقول سبحانه :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾.
وكل ذلك حتى نستوعب الأحكام التي التقت السنة فيها بكتاب الله.
وحين قال الحق :
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾( من الآية ٥٩ سورة النساء ).
فهو سبحانه لم يأت بطاعة مستقلة لأولي الأمر ولكنه جعلها طاعة من باطن طاعتين هما : طاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ونعود إلى معنى الآية التي نحن بصددها :
﴿ وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ( ٦٦ ) ﴾( سورة الأنعام )
إذن فالذي كذب بوجود الله وكذب بالقرآن هو مكذب للمنهج أيضا. فالمكذب به هنا هو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وفي حياتنا اليومية تحدث واقعة ما ويأتي أكثر من شاهد عيان لها فلا نجدهم يختلفون في رواية الواقعة لأنهم يستوحون واقعا، لكن إن كان بعض من الشهود لم يروا الواقعة التي يشهدون عليها تجدهم مضطربين في الأقوال. ولذلك نجد وكيل النيابة يحاول استنباط كل الوقائع من أفواه الشهود ؛ لأن الحق قد يختفي قليلا وراء بعض من الضباب لكن لا يدوم اختفاؤه طويلا بلا يظهر جليا ناصعا.
والحق يضرب لنا المثل فيقول سبحانه :
﴿ أنزل من السماء ماءا فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ( ١٧ ) ﴾( سورة الرعد ).
الماء – إذن – ينزل بأمر الله من السماء فتستمر به حياة النبات والحيوان والإنسان، ويأخذ كل واد على قدر حاجته. وعندما ينزل السيل فهو يصحب معه بعضا من الشوائب التي تطفوا على المياه، ومثل تلك الشوائب يطفوا – أيضا – عندما يصهر الذهب أو أي معدن ويسمى الخبث. هكذا يطفو الباطل كالزبد ويذهب جفاء مطروحا ومرميا به بعيدا أو ينزل على جوانبه، أما الحق الذي ينفع الناس فهو يبقى في الأرض. وتكذيب القوم للحق من الله وللقرآن وللمنهج الإيماني هو البهتان، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس بوكيل على المكذبين ولا يلزمهم أن يصدقوا، فالوكيل هو الله الحق الذي يعاقب كل مكذب له، ومهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي البلاغ.
﴿ وكذب به قومك ﴾، وكلمة ( قومك ) هذه هي تقريع فظيع لهم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء منهم، وعرفوه صادقا أمينا مدة أربعين عاما قبل الرسالة، وما جربوا عليه كذب............... ، ومقتضى مكثه معهم هذا التاريخ الطويل كان يفرض عليهم أن يتساءلوا من فور بلاغهم بالرسالة : أنه لم يكذب علينا قد ونحن من الخلق، أيكذب على الخالق ؟ ولكن الهوى أعمى بصيرتهم، ولذلك يقول الحق عن هذا البلاغ :
﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( ١٦ ) ﴾( سورة يونس ).
أي قل لهم يا محمد : لو أراد الله ألا ينزل قرآنا علي من لدنه وألا أبلغكم وأعلمكم به ما أنزله وما تلوته عليكم، ولكنه أنزله وأرسلني به إليكم. وعندما يتمن الله على الذين أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو يقول سبحانه :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ( ١٢٨ ) ﴾( سورة التوبة ).
وبرغم تكبر وعناد وتكذيب المشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإنه عندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة ترك عليا بمكة ليسلم للناس أماناتهم. فهل هناك حمق أكثر من حمق هؤلاء الذين كذبوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أيكون أمينا معهم ولا يكون أمينا مع ربه ؟.
﴿ لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ( ٦٧ ) ﴾.
والنبأ هو الخبر المهم، فليس كل خبر نبأ، ذلك أن هناك المثير من الأخبار التافهة التي يتساوى فيها العلم الذي لا ينفع بالجهل الذي لا يضر. ومثال على الخبر المهم هو قوله الحق :
﴿ عم يتساءلون ( ١ ) عن النبأ العظيم ( ٢ ) الذي هم فيه مختلفون ( ٣ ) ﴾( سورة النبأ ).
إذن فلكل نبأ مستقر، والمستقر هو ما طلب القرار فيه، والنبأ مظروف والمستقر مظروف فيه. والمظروفية تنقسم قسمين : مظروفية زمان، ومظروفية مكان. أي أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل حدث زمانا ومكانا يقع فيهما الخبر. وسوف يعلم الإنسان مستقر كل خبر عندما يأذن الحق بميلاد هذا المستقر الذي يعلن فيه الخبر.
النبأ – إذن – هو الخبر العظيم المدهش، ولا أعظم من تجلي السماء على الأرض بمنهج جديد ينقذها مما هي فيه من ضلال، وهو منهج عام لكل زمان ولكل مكان. أذن هو نبأ عظيم ؛ لأنه يخلص دنيا الناس من جبابرة الأرض، ويلفت كل الناس إلى منهج يخرجهم جميعا من أهوائهم. فلا أضر بالمجتمع من أن يتبع كل إنسان هواه ؛ لأن هوى كل نفس يخدم شهواتها، والشهوات متضاربة، فإذا حكم كل إنسان هواه فلن تجد الأرض قضية متفقا عليها. ولذلك تكفل الحق سبحانه وتعالى للإنسان بمسألة تنظيم المنهج وهو الأمر الذي تختلف فيه الأهواء. وأما الأمر الذي تلتقى فيه الأهواء وهو استنباط ما في الأرض من كنوز واستكشاف ما في الكون من أسرار فقد تركه للإنسان ليستنبطه بالعقل الذي خلقه الله، من الكون الذي خلقه الله، وليسعد الإنسان بتلك الأسرار التي يستكشفها في الكون.
ويؤكد لنا واقع الحياة هذه القضية، ونجد طموح العقل البشري عندما فكر في مادة الكون استنبط منها الأسرار وأنجز الكثير من الاكتشافات العلمية. ولم تختلف الدول والمعسكرات في تلك المجالات، بل التقت كل الأهواء عند هذه الاكتشافات، فلا توجد – كما قلنا – كهرباء روسية وأخرى أمريكية، ولا نجد ( كيمياء انجليزية ) وأخرى ( فرنسية )، لذلك تجد الأنظمة السياسية والاجتماعية على اختلافها تلتقي في مجالات العلم وتتفق ولا تختلف حتى إن بعضها قد يسرق من البعض الآخر ما توصل إليه. ونجد في علام المادة والمعمل والتجربة اختلافات بين نظام سياسي ونظام آخر، بل تلتقي الأهواء عند القوانين المكتشفة والمأخوذة من مادة الكون، وهو الأمر الذي تركه الله للناس ليكونوا أحرارا فيه، يفكرون، وينظرون، ويتأملون، ويبتكرون، ويصلون إلى أسرار في الكون تخفف عنهم تبعات الحياة، وتؤدي لهم غايات السعادة في الوجود بأقل مجهود.
ولكننا نجد الصراع العنيف على الجانب الآخر – جانب المبادئ والمنهج – وهو صراع لا يهدأ أبدا ؛ لأنه صراع الأهواء فيها لم تحكمه تجربة مادية، وهم يختلفون خلافات عميقة، الرأسمالية تختلف عن الاشتراكية، وتتنوع الخلافات بين كافة المذاهب التي أنتجتها الأهواء : الشيوعية، والوجودية، والاشتراكية، الرأسمالية، وكل هذه المسائل لم تحكمها تجربة أو معمل لذلك كان الخلاف. ومن المؤسف أن البشر قد استغلوا ما اتفقوا فيه من ابتكارات علمية في فرض النظم التي اختلفوا عليها.
وقد أوضح الحق سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر ؛ إنه جل وعلا قد ترك عقول البشرية حرة في كل ما يخضع للتجربة، ولكنه نظم حياة الإنسان على الأرض في ضوء المنهج الإيماني ؛ لأن الإسلام جاء في أثر ديانة حاول القائمون على أمرها من الكهنة أن يفرضوا سيطرة الكهنوت على العقل البشري في أسرار الكون.
والمثال على ذلك واضح تماما في التاريخ البشري، ففي العصر الذي تأخرت فيه أوروبا وسمى ( عصر الظلمات ) كان المسلمون في الشرق بإتباعهم لمنهج الله يعيشون. في عصر النور ؛ لأن الإسلام علمهم مجال استعمال العقل وقدراته على استنباط أسرار الله في الكون، وجاء سبحانه بهذا الدين وهو النبأ العظيم ليوضح لنا في مسيرة هذا الدين كل عبرة، وكأنه يقول لنا :
إن هذا الدين قد بدأ ضعيفا والذين آمنوا به قلة مستضعفين لا يستطيعون حماية أنفسهم بل تلمسوا الحماية وطلبوها عند ملك غريب في الحبشة، وعلى الرغم من ذلك انتصروا لأنهم أخذوا بهذا الدين.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم مقاله ربه :
﴿ لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ( ٦٧ ) ﴾( سورة الأنعام )
ومعنى ( مستقر ) أي ميلاد يستقر فيه. أي لا تتعجلوا الأحداث، ولا تجهضوها ؛ فإن شاء الله سيكون لهذا الدين انتشار، وهذا الانتشار له ميلاد في زمان وميلاد في مكان، أما زمانه فإلى أن تقوم الساعة، وأما مكانه فالأرض كلها ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء رسولا للناس كافة، وخاتما للنبيين والمرسلين.
ويؤيد الحق سبحانه قضية ﴿ لكل نبإ مستقر ﴾ بأن يشهد الواقع من الحقائق ما يؤكد ذلك. ومثل ما حدث في زمن القريب المعاصر لميلاد الدعوة الإسلامية فحينما جاء الإسلام آمن به قلة مستضعفة، ولما نزل قوله سبحانه :
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ( ٤٥ ) ﴾( سورة القمر )
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أي جمع هذا الذي سيهزم ويولون الدبر ونحن لا نستطيع حماية أنفسنا ؟ فلما جاء يوم بدر ورأى مصارع القوم كما قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلاغا عن الله قال عمر بن الخطاب : صدق الله، لقد هزم الجمع وولوا الدبر. ونجد كل قضية قرآنية محفوظة ومسجلة في السطور، يحفظها الله حتى لا يكون للناس على الله حجة ؛ لأنه سبحانه القائل :
﴿ لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ( ٦٧ ) ﴾[ سورة الأنعام ].
فلو لم يكن الواقع يؤيد أن لكل نبأ مستقرا، ولكن حدث ميلادا زمانا ومكانا، فماذا يظن الناس الذين يستقبلون القرآن ؟ لذلك أتى الحق بكل قضية قرآنية ومعها دليلها، وأعطى الحق بعضا من الحقائق الموثقة بالأحداث زمانا ومكانا ليتأكد قوله الحق :
﴿ لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ( ٦٧ ) ﴾[ سورة الأنعام ].
وقد علمت الدنيا وانتصر الإسلام. لقد شاء الحق أن يربي حامل الدعوة الأول – عليه الصلاة والسلام – يعلم معه صاحبته رضوان الله عليهم، يعلمهم منطقا ليسايروا به أحداث الكون.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى كان ينزل الرسل بالأديان على فترات، وعندما يعم الفساد في الأرض ينزل الحق منهجه على رسول ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل في كل نفس بشرية تعادلا ذاتيا، فإذا اشتهى الإنسان شهوة يحرمها الدين، وقضى الإنسان هذه الشهوة، وهدأت شرة وحدة المعصية في نفسه، فالإنسان يؤنب نفسه ويوبخها. ولكن النفس قد تستمرئ الشهوات، وينعدم الوازع الذي يردع الإنسان.
وإذا انعدم الوازع في فرد فلن ينعدم في المجتمع، ونجد من الناس من يحمل المجتمع على المعروف، ويوجه صاحب النفس التي استمرأت المعصية إلى التوبة والخير. أما إذا عم الفساد في الفرد وفي المجتمع فماذا يكون الموقف ؟.
لابد أن تتدخل السماء برسول جديد، ومنهج جديد. ويأتي الرسول الجديد ومعه المنهج اللازم لإصلاح الكون. ولا يتبع الرسول الجديد إلا المستضعفون القلة، وأهل البصيرة من أهل القوة حتى لا يظن ظان أن الضعفاء لاذوا بالدين ومالوا إليه بسبب ضعفهم. ويحذر الحق المؤمنين وكأنه يقول : إنكم تواجهون باطلا عض الناس وأرهقهم وأعنتهم، وحين يعض الباطل المجتمعات فالذي ينتفع من ذلك هم أهل الباطل، والذي يشقى بذلك هم أهل الحق، فلكل فساد طبقة منتفعة به. وحين توجد الطبقة المنتفعة بالفساد. وحين توجد كلمة الحق فإن المنتفعين بالفساد ينظرون إلى نفوذهم الذي سينحسر حتما عندما تسود كلمة الحق.
وحين ينتصر الحق لابد أن يزول الفساد ومعه كل نفوذ أهل المفاسد. ولذلك يقف المنتفعون من الفساد ضد الدين الجديد ليحافظوا على مكانتهم في المجتمع. ويقول الحق تهذيبا للمؤمنين، وتأديبا لغير المؤمنين :
﴿ إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ( ٦٧ ) ﴾.
وبهذا القول يوضح الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم : اعلم أن ما جئت به سيخاض فيه، ويقال مرة إنه سحر، ومرة إنه شعر، وثالثة إنه كهانة، ورابعة يتهمونك بالكذب، ولا يقول ذلك إلا المنتفعون بفساد الكون، فإذا ما جاء مصلح فسيجعلونه عدوا لهم. لذلك لا بد أن تحافظ على أمرين.... الأمر الأول : أن الذين اتبعوك – وهم ضعاف – قد لا يستطيعون مواجهة القوة الظالمة ؛ لذلك لا تحملهم ما لا طاقة لهم به ولكن تريث ؛ فإن لكل نبأ مستقرا، والأمر الثاني : أنك إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وبين لهم الجفوة فلا تقبل عليهم، ولا توادهم، ولا تستمع إليهم، ولا يسمع إليهم أصحابك، لماذا ؟ لأنهم يخوضون في آيات الله. ولكن أيستمر هذا الإعراض عنهم طوال الوقت ؟، لا، فالإعراض عنهم إنما يكون في أثناء خوضهم وتكذيبهم لآيات الله، أما في غير ذلك من الأوقات فاعلم أن آذانهم في حاجة إلى سماع صيحة من الحق، لذلك انتهز فرصة عدم خوضهم في دينك وفيك، ولقنهم ما تبشر به، ولقنهم كذلك ما تنذر به ؛ لأنك إن تركتهم على ضلالهم فإن قضية الإيمان تصير بعيدة عنهم، وأنت مهمتك البلاغ، والله يريد الخير لكل خلقه.
وكلمة ( الخوض ) هذه تشعرنا بمعنى في منتهى الدقة ؛ لأن الخوض في أصله هو الدخول في الماء الكثير. والماء الكثير ساتر لما تحت قدمي الذي يخوض فيه، ومادام قد ستر ما تحت قدميه فهو لا يدري إلى أي موقع تقع قدماه، وربما وقعتا في هوة، لكن الذي يسير في غير ماء فالطريق واضح أمامه، يضع قدمه حيث يرى فيها ثباتا واستقرارا وعدم إيذاء. وأخذوا من ذلك المعنى وصف الكلام بالباطل، لأنه خوض بدون اهتداء. ولذلك يقول الحق :
﴿ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾( من الآية ٩١ سورة الأنعام )، ولماذا وصف فعلهم هذا بأنه لعب ؟.
ذلك لأن اللعب هو شغل النفس بشيء غير مطلوب وكان في قالب الجد. ولكن إذا كان هذا الشيء يؤدي إلى نبوغ في مجال من مجالات الحياة فنحن ندرب أبناءنا عليه في فترة ما قبل البلوغ. مثال ذلك تدريب الأبناء على السباحة والرماية وركوب الخيل. وما إن يبلغ الإنسان فترة البلوغ حتى تصير له مهمة في الحياة، ويصبح عليه أن يتحمل المسئولية، فلا يضيع وقته في اللعب أو فيما يلهيه عن أداء الواجب.
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾( من الآية ٦٧ سورة الأنعام ).
والنفس البشرية لها أغيار. وهذه الأغيار قد تنسيها بعض التوجهات. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعود من ربه بعدم النسيان.
﴿ سنقرئك فلا تنسى ( ٦ ) ﴾( سورة الأعلى )
فإذا كان هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف نفهم قول الحق هنا :
﴿ وإما ينسيك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾( من الآية ٦٨ سورة الأنعام )
إننا نفهم هذا القول على أساس أنه تعليم لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحينما ينزل أمر من السماء فرسول الله أولى الناس بتطبيقه، فإذا كان الرسول يخاطب :﴿ وإما ينسيك الشيطان ﴾ فإذا ما نسى إنسان لغفلة من الغفلات، فليأخذ علاج الله للنسيان، وهو ألا يقعد مع هؤلاء القوم الذين يخوضون في آيات الله في أثناء خوضهم، ولكن عليه أن يتركهم ويعرض عنهم. إذن فالحق سبحانه وتعالى احترم خلقه ؛ لأنه وهو العليم بهم، خلق لكل إنسان ملكة حافظة، وملكة ذاكرة، وملكة مخيلة، وكل ملكة من هذه الملكات تؤدي مهمة : فالملكة الحافظة تحفظ المعلومات، والذاكرة تأتي بالمعلومات المحفوظة القديمة لتجعلها في بؤرة الشعور. ولو لم يكن هناك نسيان لما استطاعت فكرة أن تدخل في ذهن الإنسان ؛ لأن العقل لا ينشغل إلا بقضية واحدة في بؤرة الشعور. وحتى تدخل قضية أخرى في بؤرة الشعور، لا بد أن تتزحزح القضية الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور.
لذلك لابد من نسيان خاطر ما ليحل محله خاطر آخر. ولو ظل الإنسان ذاكرا لقضية من القضايا في نفسه لصار من المحال أن تدخل قضية جديدة أخرى. ولهذا خلق الله النسيان، أي انتقال قضية ما من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور. والإنسان منا يتذكر شيئا حدث من عشرين عاما، ثم يمر هذا الحادث بالخاطر فجأة، ويتساءل الإنسان، كيف ؟ ويعرف الإنسان أن هذا الحادث كان محفوظا ومصونا في دوائر شعورية بعيدة. ولذلك نجد الإنسان عندما يريد استعادة معنى من المعاني فهو يترك لنفسه فرصة لاستعادة هذا الخاطر أو ذلك المعنى، ولذلك يسمون هذه المسألة ( تذكر ).
﴿ وإما ينسيك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾( من الآية ٦٨ سورة الأنعام )
ولماذا ينسب الحق النسيان للشيطان ؟، لأن حقائق الحق في دينه هي الصدق، ولا يصح أن تغيب أبدا عن بال المؤمن، وهي لا تغيب عن بال المؤمن إلا بعمل الشيطان، فالشيطان يزين الأمر الذي يحبه الإنسان ويشغله عن أمر آخر، فإذا ما نزغ الشيطان لينسى الإنسان، وتذكر الإنسان أن هذا من نزغ الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ولا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
وأنت حين تفعل ذلك وتنفر من هؤلاء القوم الظالمين فأنت تلفتهم إلى أن ما عندك من يقين إيماني هو أعز عندك مما في مجالسهم من حديث وما يكون لديهم من نفع. وبذلك تنتفع أنت بهذه التذكرة وهم أيضا يلتفتون إلى أهمية الإيمان وأفضليته عند المؤمن على ما عداه.
﴿ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ( ٦٩ ) ﴾.
أي أنك إذا كنت معهم وخاضوا في الحديث فقمت من مجلسهم أو نسيت وقعدت ثم تذكرت فقمت، فأنت تلفتهم إلى أن ما أقامك من مجلسهم هو شيء أكثر أهمية من هذا المجلس، إنه احترام تكليف الله فيما أمرك به ونهاك عنه، وليس عليكم ولا على الذين يتقون الله من أوزار هؤلاء الظالمين من شيء، وليس عليكم من حسابهم من شيء، ومجرد قيامكم من مجلسهم هو تذكرة لهم لعلهم يتفكرون في منطق الحق ويخشون الله ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتى يكونوا في وقاية من عذاب الله وسخطه.
﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ( ٧٠ ) ﴾.
قلنا – من – قبل - : إن اللعب هو الاشتغال بما يفيد لقتل الوقت. وعرفنا أن اللعب مجاله قبل التكليف أي قبل سن البلوغ. وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو ؛ لأنك لهيت عن أمر واجب عليك، فاللهو – إذن – هو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة.
وقوله الحق :﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ هو تصوير لا يوجد أبرع منه ؛ لأنهم من أصحاب العقول التي تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة ؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأنا من أن تكون غاية، ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الآخرة.
وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها، وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات، وغاية وجود الناس على الأرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق، فمن انحرف عن ذلك فله عقابه يوم الغاية الكبرى، وهو يوم الحساب.
إننا نعلم أن غاية الإنسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمرا طويلا، ولا أن ينال المناصب، ولا أن يحصل على الثراء، ولا أن ينال القوة، فكل ذلك من الأغيار، والأغيار تختلف من إنسان إلى آخر.
وما نختلف فيه نحن البشر غاية لوجودنا، والغاية للوجود الإنساني لابد أن تكون واحدة. وأن نتفق فيها جميعا، هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت. ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب الغاية منه. ولذلك فالمؤمن الحق يرى استقبال البشر لقضية الموت استقبالا أحمق، فعندما يموت شاب في العشرين نجد من يقول :( إنه لم يستمتع بشبابه ) والمؤمن الحق يرد على مثل هذا القول متسائلا : أين تريد أن يستمتع بشبابه ؟. ويجيب أصحاب الفهم السطحي : لقد مات قبل أن يستمتع بشبابه في هذه الدنيا.
ويقول المؤمن الحق : هل هذه الدنيا هي الغاية ؟. إنها ليست الغاية، بل الغاية هي الحياة الأخرى. ومن مات قبل التكليف فقد أنقذه الله من الحساب وأوطنه الجنة يتلقى نعيمها الدائم. فلماذا – إذن – هذه المبالغة في الحزن على أي ميت ؟. والذي يقترب من الغاية يحب هذه الغاية. وهب أن إنسانا غايته أن يذهب إلى الإسكندرية، والوسيلة إليها قد تكون حصانا أو عربة أو طائرة، فكل شيء يقربه من الغاية يكون هو الأفضل.
فإذا كان الله يريد أن يأخذ بعضا من خلقه وهم في بطون أمهاتهم، فهذا إرادته، والذي ذهب من بطن الأم إلى القبر قرب من الغاية، وخلص من المراحل التي كانت تحمل في طياتها الفتنة. ودخل الجنة.
وهب أن الوليد عاش إلى عمر المائة وصار شيخا ومر بكل اختبارات الفتنة واستقام على المنهج، فإلى أين مصيره ؟ إنه إلى الجنة.
إذن فعلينا أن نستقبل كل قدر لله بحب : قدر الميلاد أو قدر الخروج من الدنيا، ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ( ١ ) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾( سورة الملك ).
إنه سبحانه لم يقل إنه خلق الحياة والموت، لا، بل قال :﴿ خلق الموت والحياة ﴾ وذلك حتى يستقبل كل منا الحياة، ويسبقها في الذهن ما ينقض هذه الحياة وهو الموت. إذا فهذه هي الغاية التي يتفق فيها كل الجنس البشري، أما ما عداها فهي أغيار نختلف فيها.
لذلك لا تقل إن الغاية من ابنك أن ينجح في القبول للإعدادية ثم يحصل على الشهادة الإعدادية، ثم يحصل على الثانوية العامة، ثم يحصل على ليسانس الكلية أو بكالوريوس التخرج أو درجة الماجستير أو درجة الدكتوراه، ثم يصير صاحب شأن في الحياة، لا تقل ذلك، لأن كل ذلك ليس غاية في الحياة، لأن الغاية هي ما لا يوجد بعدها بعد، ولكن علينا أن نقوم بإعمار الأرض كما أمرنا الله ولكن لا نجعلها هي الغاية.
ولذلك قال الحق سبحانه :
﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( ٢٠ ) ﴾( سورة الحديد ).
هذه هي الحياة الدنيا، ولذلك يجب أن يحيا دائما على ضوء ما ينجينا من العذاب وهو ذكر الله، إن الحق سبحانه يقول :
﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ﴾( من الآية ٧٠ سورة الأنعام ).
والذكر هنا مقصود به التذكير بالقرآن وهو المنهج النازل من السماء وطبقه رسول الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الذكر أيضا، أو الذكر هنا مقصود به العذاب الذي ينتظر من يخالف المنهج، وقوله الحق :﴿ وذكر به ﴾، يدل على أن منطق الفطرة يقتضي أننا نعرف أن الحق لا يمكن أن يعامل المتقين في الدنيا كما يعامل المنحرفين. ومثال ذلك الإنسان الذي يخوض في أعراض الناس ويظلمهم لا يتصور أبدا أن يلقى من الحق – سبحانه – المعاملة التي يعامل بها الإنسان الملتزم بمنهج الإيمان ؛ فالفطرة تقول لنا : إن الحق يجازي كل إنسان بعمله، سواء أكان الجزاء في الدنيا أم في الآخرة. ومن المأثور عن بعض العرب أنه قال : لن يموت ظلوم حتى ينتقم منه الله. ومن بعد ذلك مات رجل ظلوم ولم ير فيه الناس انتقام السماء، فقال الرجل العربي :
والله إن وراء هذه الدار دارا يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ﴾ والبسل معناه : المنع، والمنع له صورتان : الأولى منع حركة حياة حي.......... أي أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه، والثانية : منع من أصل الحياة........ أي أن تهلكه وتزهق روحه، ﴿ تبسل نفس بما كسبت ﴾ أي : تمنع نفس بما كسبت، والمنع إما بالهلاك أو بالحبس حبسا يديم عليها العذاب. والحبس – في أعراف البشر – هو وضع إنسان في مكان لكفه عن ظلم غيره، أي أننا نمنع شرور إنسان عن المجتمع بوضعه في الحبس.
عندما جاء الإسلام لم يحبس فردا إنما حبس المجتمع عن فرد، وهذا عقاب أكبر وأشد ؛ فقد ترك الإسلام المجرم حرا في المجتمع ولكنه حبس المجتمع عنه ؛ فالمجرم يمشي فلا يجد من يكلمه أو يضحك له أو يفرح معه أو يشاركه حزنه.
وحدث ذلك عندما حبس المؤمنون أنفسهم عن ثلاثة تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله حتى أن إنسانا منهم جاء ليقرب امرأته فرفضت. وحاول ثان أن يسلم على ابن عمه فما رد عليه السلام فجلس يبكي. وقاطع كل الناس هؤلاء الثلاثة، وهذه هي عظمة الإسلام، لقد سجن المجتمع عن المجرم فتعذب المجرم بقطيعة المجتمع له.
﴿ ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ﴾ أي : ذكر بالقرآن أو بالمنهج أو بعاقبة مخالفة الإنسان للمنهج. والعقاب إما حبس وإما هلاك، وذلك بسبب ما تكسب النفس. والكسب في اللغة معناه زيادة على رأس المال. وللكلمة اشتقاق ثان وهو ( اكتسب ). ومرة تأتي الكلمتان في المعنى واحد، فالكسب يحدث دون افتعال ودون تعب أو مشقة، أما الاكتساب فهو يحدث بافتعال وبمعالجة وعنت ؛ لأن الذي يصنع المحرم يأخذ أكثر من قدرة ذاته، فيكون قد اكتسب. أما الذي يأخذ الأمر المشروع له فهو قد كسب. ولكن بعض الناس تأخذ ما اكتسبوه باحتيال ومكر ويظنون أنه كسب وهذا هو الشر ؛ لأنه يأخذ غير المشروع له ويحلله لنفسه، ويعتبره كسبا لا اكتسابا.
ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾( من الآية ٢٨٦ سورة البقرة ).
إن ( لها ) أي لصالح النفس ؛ لأنها أخذت ما هو حق لها. و ( عليها ) أي ضد النفس ؛ لأنها افتعلت في أخذ ما ليس حقا لها. ومثال ذلك : نظرة الرجل إلى زوجته، إنها نظرة طيبة إلى حلال طيب. لكن نظرة الرجل إلى امرأة غريبة قد تحتوي من افتعال الكثير ؛ فهو يتلصص ليراها، ولا يرغب في أن يراه أحد وهو يختلس النظر إليها، وهذه كلها انفعالات مفتعلة.
ومثال آخر : سيدة البيت عندما تدخل إلى مطبخها فتتناول شيئا لتأكله، إنها تأكل من حلال مال زوجها، أما الخادمة فعندما تريد أن تأخذ قطعة من اللحم من المطبخ دون علم أهل البيت فهي تتلصص، وتحاول معرفة عدد قطع اللحم، وقد تتساءل بينها وبين نفسها : ألم تقم ربة البيت بحصر عدد قطع اللحم ؟ ولذلك فهي تأخذ من كل قطعة لحم قطعة صغيرة. وهذا افتعال يتعب الجوارح ؛ لأن مثل هذه الأمور تتعب ملكات الإنسان، إنه يحاول أن يرضي ملكة واحدة فيتعب كل ملكاته الأخرى.
﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ﴾( من الآية ٧٠ سورة الأنعام ).
إذن فهذه النفس التي تحبس وتسلم نفسها إلى الهلكة والعذاب بسوء كسبها ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يقبل منها عدل. وهذه مراحل متعددة تبدأ بقوله الحق :﴿ ليس لها من دون الله ولي ﴾ والولي هو الذي ينصرك إن كنت في مأزق.
ومأزق الآخرة كبير، فماذا عن الإنسان الذي ليس له ولاية ؟ إنه العذاب الحق.
والمرحلة الثانية :﴿ ولا شفيع ﴾ أي ليس له من يشفع عند من يملك النصرة وهو الله ؛ فالذي يحبك إن لم ينصرك بذاته فإنه قد يشفع لك عند من يستطيع أن ينصرك. وهذا أيضا لا يوجد لمن لم يتذكر ويتعظ ولم يتبع المنهج الإيماني.
والمرحلة الثالثة :﴿ وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ﴾ أي أنه لا تقبل منه فدية. فهذه المنافذ الثلاثة قد سدت ولا سبيل للنجاة لهؤلاء الذين قال فيهم الحق :﴿ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ﴾ أي أهلكوا أو حبسوا في الجحيم حبسا لا فكاك منه، وليس هذا فقط ولكن الحق يقول أيضا :﴿ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ﴾.
إن كلمة ( شراب ) إذا سمعناها فإننا نفهم منها الري. ولكن الحق هنا يتبع كلمة ( شراب ) بتحديد مصدر هذا الشراب، إنه ( من حميم ) ليحدث ما يسمى ( انبساط ) و( انقباض ) ؛ فالشيء الذي يسر الإنسان تنبسط له النفس. والشيء الذي يحزن الإنسان تنقبض له النفس. ولو أن الأمر المحزن جاء بداية في هذا القول الكريم لانقبضت النفس في المسار الطبيعي، لكن الحق شاء أن يأتي أولا بكلمة من يسمعها تسر نفسه وهي ( شراب ) ثم تبعها بما يقبض النفس ( من حميم ) ليكون الألم ألمين : ألم زوال السرور، وألم مجيء الحزن.
ويصور القرآن في موضع آخر هذه الصورة فيقول :
﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه.......... ( ٢٩ ) ﴾( سورة الكهف )
وتنبسط النفس حين تسمع الجزء الأول وهو :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا ﴾ ولكنها تنقبض فور سماعها ﴿ بماء كالمهل يشوي الوجوه ﴾.
وصورة أخرى عندما يقول الحق :
﴿ ............. فبشرهم بعذاب أليم ( ٣٤ ) ﴾( سورة التوبة ).
وتنبسط النفس – كما علمنا – حينما تسمع خبر البشارة ؛ لأن البشارة تأتي للأمر المفرح، وتنقبض عندما تعلم أن البشارة هي بالعذاب الأليم. إذن فقد جاء الحق بالانبساط، وجاء بالانقباض. وهذه سنة من سنن الله في التأديب. ومثال على ذلك : عندما يرتكب إنسان مظالم كثيرة، وتفاقم واستفحل شره ويريد الله أن ينتقم منه، إنه سبحانه لا ينتقم منه وهو على حاله الطبيعي، إنما يرفع الحق – سبحانه – هذا الظالم إلى درجات عالية ثم يخسف به الأرض.
ولذلك يقول الحق :
{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوا
﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ( ٧١ ) ﴾.
هذه الآية تبدأ بسؤال عن عبادة الأصنام أو غيرها، ما الذي صنعته تلك الأصنام أو غيرها لمن عبدها ؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها ؟. وهذا أول منطق في بطلان ألوهية غير الله، فمن عبد الشمس مثلا ماذا أعطته الشمس ؟ ومن كفر بها كيف عاقبته الشمس ؟. إنها تشرق لمن عبدها ولمن لم يعبدها. والصنم الذي عبدوه، ماذا صنع لهم ؟ لا شيء. وهذا الصنم لم ينزل عقابا على من لم يعبده، بل إن الذي انتفع هو من لم يعبد الأصنام ؛ لأنه أعمل فكره ليبحث عن خالق لهذا الكون.
وهكذا نجد النفع والضر إنما يأتيان من الإله الحق :﴿ ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ﴾ والإنسان دائما حين يسير فهو يقطع خطوة إلى الأمام فيقصر المسافة أمامه، أما من يرد على عقبه فهو من يرجع هذه الخطوة التي خطاها.
وهذا حديث المؤمنين الذين يرفضون أن يعودوا إلى عبادة غير الله لأنهم آمنوا وساروا في طريق الهدى، وليس من المنطق أن يرتدوا على أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين.
﴿ كالذي استهوته الشياطين في الأرض ﴾ كلمة ( شيطان ) مقصود بها عاصي الجن. والجن جنس مقابل للإنس، ومادام في الإنس طائعون وعاصون فكذلك في الجن طائعون وعاصون.
والحق قال :
﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ( ١ ) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( ٢ ) ﴾( سورة الجن ).
إذن فمن الجن من هو مؤمن. ومن الجن من هو عاص. والعاصي من الجن يسمى شيطانا. وإياك أن تنكر أيها المسلم وجود الشيطان لأنك لا تراه، لأن الشيطان من المخلوقات التي ذكرها الله من عالم الغيب، وحجة وجودها هو تصديقك لمن قال عنها، وهناك فرق منطقي وفلسفي بين وجود الشيء وبين إدراك وجود الشيء. والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يوحدوا ويربطوا بين وجود شيء وإدراكه. وهنا فارق بين أن يوجد أو يدرك ؛ ذلك أن هناك ما يكون موجودا ولكنه لا يدرك.
﴿ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ﴾( من الآية ٧١ سورة الأنعام ).
جاء هذا التصور في صورة استفهام. إن الحق طلب من رسوله أن يقوله، فكأن الصورة : أن قوما هداهم الله إلى الحق فدعوا إلى أن يعبدوا غير الله ويدعوا مالا ينفع ولا يضر، فيردوا على أعقابهم، أي بعد الهداية، وهذه هي صورة الحيرة والتردد ؛ لأنهم كانوا على هدى، ثم دعوا إلى أن يعبدوا من دون الله مالا ينفع ولا يضر. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة لهذه الحيرة، ولهذا التردد، فقال :﴿ كالذي استهوته الشياطين ﴾.
و ( استهوته ) من مادة ( استفعل ) وتأتي دائما للطلب ؛ كقولنا ( استفهم ). أي طلب الفهم، و ( استخرج ). أي طلب الإخراج للشيء، ( فاستهوته ) طلبت هويه. أي جعلته يتقبل ما تريد واستولت عليه دون أن يكون لديه أي دليل أو حجة على صحة ما تدعوه إليه بأن صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء، وترد مادة ( الهاء والواو والياء ) لمعان، إن مدت ؛ فهي الهواء الذي نتنفسه، وما به أصل الحياة، وإن قصرت ؛ فإنها هي الهوى وهو ميل النفس إلى شيء، أو تكون هويا أي سقوطا.
إذن فالمادة تأتي إما للهواء إن كانت ممدودة، وإن كانت بالقصر فهي من الهوى أو من الهوي ؛ كأن تقول :( هوى، يهوي، هويا ) أي سقط من علو إلى أسفل، وهوى، ويهوي، هوى. أي أحب، وهكذا نعرف أن ( استهوته ) أي طلبت هويه أو هواه أي ميل نفسه إلى اتباع الهوى، وحين تستهوي الشياطين الإنسان فهي تريد أن تجتذبه إلى ناحية هواه، وتوقظ الهوى في النفس، وبذلك تدعوه ليهوى. والحق يقول :
﴿ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾( سورة الحج ).
وحين يخر عبد من السماء، إما أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وحين تأتي إلى الهوى والهوي فاعلم أن الهوى يجذبك إلى ما يضرك، ولذلك لا تسلم منه إلا أن يكون هواك تبعا لما جاء به الحق، ولكن إن اتبعت هواك فلا بد أن يؤدي بك إلى الهوي :
﴿ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ﴾( من الآية ٧١ سورة الأنعام ).
وما هي الحيرة ؟ هي التردد بين أمر ومقابله. وعرفنا من قبل أن الحيرة في هذه الآية جاءت لمن اهتدى وسار خطوة للمنهج ثم رد على أعقابه ورجع، ولكن له أصحاب يدعونه إلى الهدى، فهو بين شيطان يستهويه، وأصحاب يدعونه للمنهج ؛ لذلك يكون حيران : بين هاوية ونجاة، والشيء الذي يهوى لا استقرار له، وحين نرى – على سبيل المثال – حجرا يهوى للأرض نجده يدور، ولا اتجاه له. وهذه صورة معبرة، ويأتي له القول الفصل :﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾( من الآية ٧١ سورة الأنعام ).
فمن يتبع إذن ؟ إنه يتبع الذين يدعونه إلى منهج الحق سبحانه وتعالى ؛ لأن الهدى هو المنهج والطريق الموصل للغاية، والصنعة لا تضع غاية لنفسها، بل الذي يضع الغاية هو من صنعها، وسبق أن قلت : إن التلفيزيون لا يقول لنا غايته، ولا يعرف كيف يصون نفسه، بل يضع ذلك من صنعه، وكذلك الإنسان عليه أن يأخذ غايته ممن خلقه، والذي يفسد الدنيا أن الله خلق، لكن الناس أرادوا أن يضعوا لأنفسهم قانون الصيانة، لذلك نقول : إن علينا أن نأخذ قانون الصيانة ممن خلقنا، وهدى الله هو هدى الحق.
وجاءت ( الهدى ) هنا لتعطينا يقينا إيمانيا في إله واحد، وحين توجد عقيدتنا في إله واحد، لا تختلف أهواؤنا أبدا ؛ لأنه هو الذي يضع لنا القانون، وساعة يضع لنا القانون ويكون كل منا خاضعا لقانونه، لا يذل أحد منا لأحد آخر ؛ فأنا وأنت عبيد لإله واحد، ولا غضاضة عليك ولا غضاضة علي. وحين يريد البشر أن يسير الناس على أفكارهم فإن صاحب الفكر يريد أن يذل الآخرين له ويأخذهم على منهجه وعلى مبدئه، وهو في الحقيقة ليس أفضل منهم، ولذلك تجد الهداية الحقة حين نخضع جميعا لإله واحد، ويتساند المجتمع ويتعاضد ولا يتعاند، ويتوجه الهوى إلى محبة منهج الله.
﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ﴾( من الآية ٧١ سورة المؤمنون }
ولهذا جاء الدين ؛ لأن الشرع لا يقرر شيئا ضد الإنسان.
ونذكر جميعا قصة ملكة سبأ وسيدنا سليمان عليه السلام حينما قالت :﴿ وأسلمت مع سليمان ﴾. ولم تقل : أسلمت لسليمان بل أسلمت مع سليمان لله، فلا غضاضة أن تكون قد أسلمت فهي ليست تابعة لسليمان، بل تابعة لرب سليمان، إذن حين يأتي التشريع من أعلى، لا غضاضة لأحد في أن يؤمن، ولا يظن واحد أنه تبع لآخر بل كلنا عبيد الله. وحين نكون جميعا عبيدا لواحد نكون جميعا سادة.
ويتمثل الهدى في الإيمان بإله واحد، ونأخذ هذا الإيمان بأدلتنا العقلية. إننا ندخل عليه من باب العقل، ونسلم أمرنا له ؛ لأنه هو أعلم بما يصلحنا.
﴿ وأمرنا لنسلم لرب العالمين ﴾( من الآية ٧١ سورة الأنعام )
هنا تجد الأمر بثلاثة أشياء : نسلم لرب العالمين، ونقيم الصلاة، ونتقيه سبحانه، لماذا ؟ ؛ لأن كل الأعمال الشرعية التي تصدر من الجوارح لا بد أن تكون من ينابيع عقدية في القلب.
وكيف نسلم لرب العالمين ؟. أي نفعل ما يريد وننتهي عما ينهى عنه، ثم نقيم الصلاة وهو أمر إيجابي، ونتقي الله أي نتقي الأشياء المحرمة وهو أمر سلبي، وهكذا نجد أن الهدى يتضمن إيمانا عقديا برب نسلم زمامنا له، لتأتي حركتنا في الوجود طبقا لما رسم لنا في ضوء ( افعل )، و ( لا تفعل )، وحركتنا في الوجود إما فعل وإما ترك. والفعل أن نقوم بسيد الأفعال وهو الصلاة، والترك أن نتقي المحارم، وهذا كله إنما يصدر من الينبوع العقدي الذي يمثله قوله :﴿ لنسلم لرب العالمين ﴾.
والحق سبحانه وتعالى حينما يأمر بفعل أو ينهى عن شيء فهو يعلم أنك صالح للفعل وللترك، فإذا قال لك : افعل كذا، فأنت صالح ألا تفعل، وإذا قال :( لا تفعل كذا ) فأنت صالح أن تفعل، ولو كنت لا تصلح لأن تفعل لا يقول لك : افعل لأنك مخلوق على هيئة تستطيع أن تفعل وتستطيع ألا تفعل، وهذا هو الاختيار المخلوق في الإنسان، أما بقية الكون كله فليس عنده هذا الاختيار.
مثال ذلك : الشمس، إنها ليست حرة أن تشرق أولا تشرق، الهواء ليس حرا يهب أو لا يهب، والأرض في عناصرها ليست حرة في أن تكتمها أو لا تكتمها، لكن الإنسان مميز بقدرته على أن يختار بين البدائل، لذلك لا بد أن يكون صالحا للأمرين والخطأ إنما يأتي من أن تنقل مجال ( افعل ) في ( لا تفعل ) أو مجال ( لا تفعل ) في ( افعل ) والمؤمن يأخذ منطقية ( افعل ) في مجال ( الفعل )، ومنطقية ( لا تفعل ) في مجال الترك.
وحين تنظر إلى الإنسان تجد أن التكليف الإلهي يناسب التكوين البشري. وأنت تشترك مع الجماد في أشياء ومع النبات في أشياء، ومع الحيوان في أشياء، وتتفوق على الكل بقدرة الاختيار التي منحك الله إياها.
و لتوضيح هذا الأمر أقول : لنفترض أن واحدا أخذك إلى مكان مرتفع ثم تركك في الجو عندئذ تسقط على الأرض، وهكذا تجد أن قانون الجماد ينطبق عليك، فليس لك إرادة أن تقول :( لا أريد أن أقع ) وهكذا نرى الجمادية فيك، وانظر إلى ( النمو ) الذي لا تتحكم فيه ولا تقدر أن تقول :( سأنمو اليوم بزيادة في الطول قدرها نصف الملليمتر ) بل أنت لا تعرف كيف تنمو، وأنت لا تعرف كيف ينبض قلبك، ولا سر الحركات الدودية للأمعاء، ولا حركة المعدة، أو عمل الكبد، أو حركة التنفس التي بها تقوم الحياة، وكل ذلك أمور قهرية، ومن رحمة الله بنا أنها قهرية، فلو كانت اختيارية لتحكم فيها غيرك.
إذن من رحمته بنا سبحانه أن جعلنا مقهورين في هذه المسائل، ومسخرين فيها، وبعد ذلك خلق لنا الاختيار في التكليف، افعل، ولا تفعل، والتكليف من الله سبحانه وتعالى في الأفعال التي تقع من الإنسان لا في الأفعال التي تقع على الإنسان ؛ لأن الأفعال التي تقع من الإنسان هي التي فيها اختيار ويبحثها العقل أولا، لينفذها الإنسان بعد ذلك. ولذلك لا يكلف ربنا إلا العاقل الناضج ؛ لأنه لا توجد قوة تقهره على غير ما يختار. أما المجنون فليس عليه تكليف ؛ لأنه لم يدر المسألة في رأسه قبل أن يفعل، وكذلك من لم ينضج ؛ لأنه لم يصل إلى قوة الفهم الكامل، وكذلك المقهور على فعل بقوة إنسان أو سلطان أقوى منه.
وهكذا نعلم أن التكليف لا يلزم الإنسان في تلك الحالات حيث لا يوجد عقل أو يكون العقل غير ناضج، أو أن يوجد قهر.
ويتابع الحق :﴿ وهو الذي إليه تحشرون ﴾ ولو أن المسألة – مسألة الإيمان – مجرد مظهر لا جوهر لما ترتب عليها نتيجة، ولكن لننتبه إلى أن هناك غاية. وأضرب هذا المثل – ولله المثل الأعلى – نجد التلميذ مثلا إن حضر الدرس أو لم يحضر، استمع إلى المدرس أولا، ذاكر أو لم يذاكر، ألا يظهر كل ذلك في شهادة نهاية العام ؟.
إذن فالحساب قائم على كل فعل ؛ لأنك تتمتع أيها الإنسان بخاصية الاختيار، أي أنك صالح لتفعل أو ألا تفعل، ولذلك يرشدك الإيمان إلى العمل الصالح ؛ لأن هناك غاية ؛ إنك ستصير إلى من يحاسبك على أنك نقلت ( افعل ) في مجال ( لا تفعل )، أو ( لا تفعل ) في مجال ( افعل ). فإن كنت لا تأخذ أمور الإيمان لصلاحية حياتك فخذها خوفا من الجزاء والحساب.
﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير( ٧٣ ) ﴾.
والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وما دام الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير فلننظر إلى خلق السماء والأرض، يقول سبحانه :
﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ﴾( من الآية ٤١ من سورة فاطر )
وحين ننظر إلى الأفق نجد السماء من غير عمد، هذه مسألة عجيبة، ولذلك يقول سبحانه :
﴿ بغير عمد ترونها ﴾( من الآية ٢ من سورة الرعد ).
وهنا يقول الحق :﴿ خلق السماوات والأرض ﴾وذلك حتى نعرف أن خلق السماوات والأرض ليست عملية سهلة وهو سبحانه القادر ؛ إنه خلقك أنت بخلق عجيب، وأعجب منه خلق السماوات والأرض، فهو القائل :
﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾( من الآية ٥٧ من سورة غافر )
وحين ينظر الإنسان في تكوينه يجد أشياء عجيبة، ويتحقق من قول الله :
﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( ٢١ ) ﴾( سورة الذاريات )
وحين تتأمل السماء والأرض تجد دقة الخلق، فكأنه سبحانه قد جعل نفسك مقياسا، إنك ستعلم أحوالها تباعا وأنك ستهدى مع الأيام، إلى سر جديد في هذه النفس، هذا السر لم يعرفه الأولون، لكنك حين تتقدم في البحث العلمي وآلات السبر وآلات الاختبار تتعرف وتكتشف هذا الجديد.
مثال ذلك ما يسمى بالاستطراق، كلنا رأينا الأواني المستطرقة التي نضع فيها سائلا ينفذ في أنابيب متعرجة وأخرى مستقيمة، فيرتفع السائل فيها بمستوى واحد وهو ما نسميه بظاهرة الاستطراق، وهناك استطراق مائي، ويوجد أيضا استطراق حراري، ويتمثل الاستطراق الحراري حين نأتي بمدفأة في الشتاء ونجلس في الغرفة ونشعر بالحرارة التي تشع من المدفأة، وأنت تجد نفسك محتفظا بدرجة حرارتك العادية وهي سبع وثلاثون درجة. ومن العجيب أنها تتساوى في البشر جميعا حتى في القطب الشمالي والقطب الجنوبي ! ! فلماذا لم تستطرق درجة حرارتك مع الجو ؟ ولماذا لم يأخذ الجو البارد من حرارتك لتتساوى درجات الحرارة ؟.
إن ذلك يثبت أن لك ذاتية تجعلك وحدة مستقلة عن الكون الذي تحيى فيه، وتظل درجة حرارتك عند خط الاستواء ٣٧ درجة، وفي القطبين ٣٧ درجة، هذا عجيب، والأعجب من ذلك أن أجزاء جسمك المختلفة تختلف فيها درجة الحرارة، فلو أن درجة حرارة العين ٣٧ درجة لانصهرت ؛ لذلك نجد أن درجة حرارة العين تسع درجات فقط، وهناك الكبد الذي تبلغ درجة حرارته أربعين درجة، وكل أعضاء جسمك وهي مجموعة في شكل واحد ومع ذلك لا تستطرق فيها درجة الحرارة.
لذلك قال الحق :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ﴾
ومثال آخر من عملية التنفس، فحين تدخل ذرة من غبار في مجرى النفس نجد السعال قد هاجم الإنسان ليطرد هذه الذرة وتجد أنك قد سعلت قسرا إلى أن تطرد هذه الذرة، فهل أنت قد سعلت بقرار منك ؟ لا، بل هو عمل لا إرادي خاضع لنظام دقيق لا يمكن أن يصممه إلا خالق له مطلق الحكمة، وعلى سبيل المثال نجد الكبد محوطا بتغليفات متتابعة ليحتفظ بحرارته التي تبلغ أربعين درجة ؛ لأنه لا يؤدي مهمته إلا عند هذه الدرجة. وكذلك نجد أن الأذن هي أول عضو يشعر بالبرودة ؛ لأن درجة حرارتها قليلة، وهكذا أراد الصانع الأعلى. كما جاء في قوله تعالى :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ﴾( من الآية ٧٣ سورة الأنعام )
لقد خلق الحق السماوات والأرض بقوانين ثابتة لا تتغير إلا بمشيئته، فهو القائل :
﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ( ٤٠ ) ﴾( سورة يس ).
فيا من تريد النظام دليلا على حكمة الخالق الموجد خذها في النظام الأعلى. ويا من تريد الشذوذ دليلا على سيطرة الحق فوق الميكانيكية، خذها في الأفراد ؛ لأنه لو حصل شذوذ في الكون الأعلى لفسدت السماوات والأرض، لكن عندما يوجد أعمى واحد من ألف إنسان، فلا يحدث خلل في الكون، ولذلك نجد الشذوذ إنما يأتي فيما فيه عوض، والنظام يأتي فيما في تركه فساد. كما يقول سبحانه :
﴿ يوم يقول كن فيكون قوله الحق ﴾( من الآية ٧٣ سورة الأنعام )
وبذلك نرى الإيجاد الأول بالحق، وأيضا حين يهدم سبحانه السماء والأرض وينهي الدنيا ويزيلها، فتمور السماء، والكواكب تنتثر وتتساقط ؛ فإن ذلك يحدث أيضا بالحق، فليس الخلق والإيجاد وحده دليلا على عظمة الخالق بل إنهاء الخلق وإفناؤه وإزالته أيضا دليل عظمة ؛ لأنه سبحانه قال في البدء :( كن ) فكان الكون، وفي النهاية يقول :( كن ) فيكون إنهاء الخلق ليعطي للمحسن جزاء إحسانه، ويحاسب المسيء ؛ لأن المحسن قد يشقى بإحسانه طول عمره، ولا بد له من ثواب، والمسيء لن يأخذ راحته بل يأخذ عقابا. فمن الخير والعظمة أن تنتهي الحياة ليأتي يوم الحساب لينال كل جزاءه.
إذن فخلق السماوات والأرض حق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق، فالحق في الإيجاد والحق في الإعدام، إنه حاصل في بدء الخلق، وفي نهايته.
﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ﴾( من الآية ٧٣ سورة الأنعام )وهل كان الملك يوما لغير الله ؟.
في هذا المقام علينا أن ننتبه إلى أن فيه ملكا، ويقال لصاحبه مالك، وفيه ملك ويقال لصاحبه ملك. والملك ما تملكه ؛ فقد تملك جلبابك الذي ترتديه. أما الملك فهو أن تملك من يملك، فهذا اسمه ملك، وربنا سبحانه وتعالى في دنيا الأسباب جعل لكل واحد منا ملكا، وجعل لبعض علينا ملكا فبقوا ملوكا، لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا، لذلك يقول الحق :
﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ من سورة غافر )
وفي الدنيا قد تملك مثلا أن توظفني عندك وتعطيني أجرا. وقد تملك أنك تطبخ لي طعامي أو تعطيني طعاما، أو تملك أنك تخيط جلبابي، لكن في الآخرة لا يملك أحد لأحد سببا، لأننا نحيا في الدنيا بالأسباب التي منحنا الله إياها. وفي الآخرة بالمسبب وحده دون أسباب.
﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور ﴾ ولو سلسلتها قبل أن ينفخ في الصور تجد الملك أيضا لله ولكن بوسائط ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل الأرض أرض معاش، وهناك الآخر إنها أرض معاد، لذلك قال :
﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض ﴾( من الآية ٤٨ من سورة إبراهيم )
والأرض التي نحيا عليها مخلوقة لنستعمرها، ونحرث جزءا منها لنزرعه، ونبني بيوتا على جزء آخر، وهكذا تكون المسألة كلها أسبابا يتوافق بعضها مع بعض ؛ فأنا لا أستطيع أن أحرث إلا بمحراث، وكذلك من يرغب في استخراج عنصر الحديد من الأرض يقيم منجما، ومن يرغب في استخراج البترول يأتي بالآلات التي تستكشف أماكنه، ولا أحد يستطيع أن يملك كل أسباب حياته بل توجد في يده زاوية واحدة، وباقي الزوايا في أيدي بقية الخلق.
وحين تسلسل الأسباب التي نحيا بها سنرجع للحق سبحانه وتعالى، فحين تنتهي يد المخلوق وأسبابه تضيق به فإن يد الخالق جلت قدرته مبسوطة إليه دائما، وإياك أن تغرك الأسباب ولكن سلسل الأسباب إلى أن تنتهي إلى الله.
ولو سلسلت كل ظاهرة من ظواهر الكون لوصلت إلى منطق الحق ؛ فالطفل الصغير يرقب ظاهرة في البيت، هي زر في الحائط، عندما يضغطون عليه بأصبع واحدة يضيء المصباح، فيقلدهم، وحين يراه أخوه الذي يدرس الإعدادية يقول له :
لا تصدق أن الضوء يأتي من هذا الزر بل هناك سلك قادم من خارج المنزل يربط بين صندوق الكهرباء والمنازل، وحين يسمعهما من هو أعلى منهما علما يشرح لهما أن الكهرباء الموجودة داخل هذا الصندوق قادمة من المولد الكبير الذي في موقع ما من المدينة، وقد صنعته المعامل والعقول حتى ينتهي الشرح فيصل إلى فكرة التيار المكهرب المستخلص من شلالات الأنهار مثلا.
إذن فكل ظاهرة تراها أمامك وراءها حلقات غيبية لو سلسلتها لوصلت إلى الحق سبحانه وتعالى، وسبحانه قد احترم دنيانا وجعلنا نفهم أن بعضنا له ملك، ولكن نقول لكل ملك : إن هذا الملك ليس بذاتك ؛ لأنه لو كان بذاتك لما سلبك أحد هذا الملك أبدا. وسبحانه القائل :
﴿ قل اللهم مالك الملك ﴾( من الآية ٢٦ من سورة آل عمران )
إذن فليس هناك من له الملك بذاته إلا الله.
والحق يقول هنا :
﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ﴾( من الآية ٧٣ سورة الأنعام ).
ينفخ في الصور تفيد الإيذان بمقدم أمر ما، فبعد النفخة الأولى يموت من كان حيا، وبعد النفخة الثانية يصحو الموتى ويقومون.
وكلمة ﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ تشرح لنا أنه سبحانه ما دام عالم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم المشهود. وهذا تعبير دقيق، وإنه يعلم الغيب ويعلم الشهادة وعلمه يترتب عليه جزاء لا عن تحكم، لكن عن حكمة.
ويذيل الحق الآية بقوله سبحانه :﴿ وهو الحكيم الخبير ﴾ والحكيم هو الذي يضع كل أمر في مكانه، والخبير هو من يعلم كل شيء بإحاطة تامة، وسبحانه ليس بحاجة إلى أن يظلم أحدا ؛ لأن من يظلم إنما يريد أن ينتفع بالشيء الموجود لدى المظلوم، وربنا لا ينتفع بحاجة من هذه، بل ينفعنا جميعا، ولذلك إذا نظرت إلى الإيمان تجده كله عزة، وأنت تجد الناس تكره كلمة ( عبودية )، وتقوم حروب من أجل تحرير البشر من عبودية البشر، أما عبودية بشر للحق فأمرها مختلف ؛ لأن العبودية للبشر، نجد فيها أن السيد يأخذ خير عبده، ولكن العبودية لله نجد فيها أن العبد يأخذ خير سيده، وهكذا تكون العبودية لله عزة، أما العبودية للبشر فهي ذلة.
ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى قد امتن على نبيه بصفة العبودية فقال :
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ﴾( من الآية ١ سورة الإسراء ).
فقد أخلص صلى الله عليه وآله وسلم العبودية لله، فأخذ من فيوضات الحق بما يناسب عبوديته.
والحق سبحانه يوضح لكل عبد : نم ملء جفنيك ؛ فأنا لا تأخذني سنة ولا نوم، وأنا قيوم، وإن احتجت مني إلى شيء ما فادعني وسأمد لك يد العون بما يناسبك، فهل في هذه العبودية لله شيء غير العزة ؟ !
﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( ٧٤ ) ﴾.
والحق سبحانه وتعالى يعطي له صلى الله عليه وآله وسلم ما يسليه ويصبره على مشقات الدعوة ؛ لأن الدعوة للإسلام في أوله أرهقت رسول الله وأصحاب رسول الله، فيريد سبحانه أن يعطيهم مثلا حدثت للرسل، وهنا يأتي الحق بخبر عن أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم :
﴿ وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ﴾ ( من الآية ٧٤ سورة الأنعام )
وساعة أن تسمع ( إذ ) فافهم أن ( إذ ) ظرف، أي واذكر جيدا الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه آزر ﴿ تتخذ أصناما آلهة ﴾ ؟ وما دمت تذكر هذه، ففي التذكرة تسلية لك عما يصيبك في أمر الدعوة. هنا وقف العلماء وقفة طويلة، وتساءل بعضهم : هل آزر هو أبو إبراهيم، أو أن والده هو تارخ ؟
وقلت من قبل : إن الأبوة تمثل ما هو أصل للفرد ؛ فالأب، والجد، وجد الجد أب، وأطلقت الأبوة على المساوي للأب، مثل العم. وجاء مثل هذا في القرآن حين قال الحق سبحانه :
﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك ﴾( من الآية ١٣٣ سورة البقرة ).
وآباء هنا جمع، وإذا ما عددنا هؤلاء الآباء نجدهم : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، والكلام من يعقوب، وأبوه إسحاق، وإسحاق بن إبراهيم، وبرغم ذلك جاء سيدنا إسماعيل وسط هؤلاء الآباء، فكأنك إن وزعتها قلت :( إبراهيم أب، ويبقى اثنان : هما إسماعيل وإسحاق. وإسماعيل هو أخ لإسحاق، كأن القرآن نطق بأن العم يطلق عليه أب ).
وأقول ذلك لأصفي مسألة وقع فيها اللغط الكثير ؛ فالبعض من العلماء قال : هل كان آزر أبا لإبراهيم ؛ والحديث الشريف يقول :
( خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء )١.
فكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنه من سلسلة نسب موحد لا يمكن أن يكون للشرك فيه مجال، آزر كان مشركا، وما دام الحق يقول في آية أخرى :﴿ إنما المشركون نجس ﴾. فلو أن آزر الوالد الحقيقي لإبراهيم لكان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذريته. وأرى أنه عمه ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات )، وهو قول يدل على أن نسبه الشريف مطهر من الشرك من جهة الآباء ومن جهة الأمهات، إذن فلا يصح أن نعتقد أن أبا إبراهيم هو آزر ؛ لأنه كان على هذا الوضع مشركا، لكن كيف تفسر قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ﴾ ؟.
نقول : إننا نأخذ اللغة، ونأخذ استعمالات القرآن في معنى الأبوة. والقرآن صريح في أن الأبوة كما تطلق على الوالد الحقيقي الذي ينحدر الولد من صلبه تطلق كذلك على أخي الوالد أو عمه. والدليل على ذلك أن القرآن الذي قال :﴿ لأبيه آزر ﴾ هو بعينه القرآن الذي قال :
﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك ﴾( من الآية ١٣٣ سورة البقرة ).
إذن آباء هي جمع أب، وأقل الجمع ثلاثة : إبراهيم إذن وكذلك العم إسماعيل يطلق على كل منهما أب، وأيضا إسحاق وهو والد يعقوب، وهؤلاء هم الآباء المذكورون في هذه الآية.
هنا نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب إنما هي أبوة عمومة ؛ لأن يعقوب بن إسحاق، وإسحاق أخو إسماعيل. إذن فقد أطلق الأب وأريد به العم، ويدلنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك حينما أخذ عمه العباس أسيرا فقال : ردوا على أبي ؛ وأراد عمه العباس.
وبعد ذلك نأتي لنقول : إننا حين نطلق كلمة الأب في أعرفنا نعلم أن اللغة التي نتكلمها لغة منقولة بالسماع، مركوزة في آذاننا، ينطق بها لساننا، والعامية وإن كانت تحرف الفصيح إلا أن أصولها منقولة عن أسلافنا وآبائنا، وهم حين يريدون الأب الحقيقي يقولون له أب ولا يأتون باسمه الشخصي ؛ فإذا جاء لك إنسان وقال لك : أبوك موجود ؟. ولم ينطق باسم الوالد فهو يقصد والدك فعلا. لكن افرض أن لك عما، فيقول لك السائل : أبوك محمد موجود ؟
لقد جاء هنا بتحديد الاسم العلم حتى ينصرف الذهن إلى السؤال عن العم ؛ لأنه لو أراد الأب الحقيقي لما ذكر اسمه واكتفى بالسؤال عنه بالأبوة فقط، إذن فلو قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ إذ قال إبراهيم لأبيه ﴾. ولم يحدد العلم لقلنا إن آزر هو والد إبراهيم وليس عمه وبذلك يكون هو جد رسولنا، لكن القرآن حدد الاسم وقال :﴿ لأبيه آزر ﴾ أي ميز اسم الشخص ليخرج الأب الحقيقي من كلمة أب، وبذلك تنتهي الخلافية في هذه المسألة.
ولماذا يطلب الحق سبحانه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر ﴿ إذ قال إبراهيم لأبيه ﴾ ؟ لأن رسول الله جاء على فترة من الرسل وجاء في الأزمة التي واجهت الدعوة أول مواجهة وهي أمة العرب وعلى رأسها قريش، وهو صلى الله عليه وآله وسلم إن كان قد جاء على فترة من الرسل، إلا أن إبراهيم يعيش في عقائد هؤلاء القوم ؛ لأن كل أمور إبراهيم النسكية كانت في هذا المكان، فمثلا همه بذبح ابنه وفداء السماء لابنه كانا في هذا المكان، ورفعه للكعبة كان في هذا المكان، والكعبة هي مركز السيادة لقريش، ولولا الكعبة لكانت قريش كسائر القبائل.
لقد أراد الحق أن يوضح لقريش أن السيادة التي أخذتموها على العرب كافة جاءت لكم بسبب الكعبة وهذا البيت، فلو لم يوجد هذا البيت وهذه الكعبة، لكنتم قبيلة من القبائل، لا مهابة لكم ولا سلطان، ولا جاه، ولكنكم تعلمون أن تجارتكم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب، ولا يتعرض لها أحد بسوء أبدا ؛ لأن الذين يتعرضون لكم سواء منهم من كان في الشمال أو في الجنوب سيأتون في يوم ما إلى الكعبة هذه ليؤدوا مناسك الحج وستتمكنون منهم في أثناء وجودهم في البيت.
ولذلك قلنا حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( ١ ) ألم يجعل كيدهم في تضليل ( ٢ ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل ( ٣ ) ترميهم بحجارة من سجيل ( ٤ ) فجعلهم كعصف مأكول ( ٥ ) ﴾( سورة الفيل ).
إن الحق أتبعها بالقول :
﴿ لإيلاف قريش ( ١ ) إيلافيهم رحلة الشتاء والصيف ( ٢ً ) ﴾( سورة قريش ).
إذن لو أن البيت تعرض للهدم من أبرهة الحبشي لسقطت مهابة قريش، وقد نصرهم الله لتظل لقريش رحلة الشتاء والصيف، ولذلك قال :
﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ( ٣ ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾
إن رب هذا البيت هو الذي أعزهم وحماهم بوجود هذا البيت الذي رفعه إبراهيم.
إذن فالقوم وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أن لهم صلة عقدية بإبراهيم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يدخل إلى قلوبهم بالحنان الذي يعرفونه لإبراهيم الذي هو سبب هذا العز وسبب هذا الجاه والسيادة وأيضا لأن المواجهة العقدية إنما جاءت أولا لعبادة الأصنام، والمسألة في سيدنا إبراهيم كانت كذلك في عبادة الأصنام، فهناك – إذن – ارتباطات متعددة فأتى الحق هنا بقصة سيدنا إبراهيم ليرقق بها قلب هؤلاء.
﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ﴾والأصنام هي شيء من الحجارة يصنع على مثال حي، أما الوثن فهو قطعة من حجر خام لم يشكل أو يعالج أو يصنع كانوا يقدسونه، وهكذا نعرف الفارق بين الصنم والوثن، وكيف دخلت فكرة الأصنام على عقول الناس ؟ ومن أين جاءت ؟.
نعلم أن الناس لهم أسباب مباشرة في الحياة، فالإنسان حين يتطلب الضوء يرى الشمس قد أشرقت، وفي الليل يرى القمر قد طلع، ويرى الجبال تعطي له الصلابة والقوة، ويقيم فيها بيوتا.
إذن ففيه أشياء يرى الإنسان فيها السببية الظاهرة، فيعتقد أنها الفاعلة. وحين يرى هذه الأشياء ويظن أنها الفاعلة يظن أن لها قداسة سواء أكانت الشمس أم القمر. إذن فقبل أن توجد أصنام وجدت كواكب وكانوا يعبدونها. بدليل أن الحق يقول :
﴿ أتتخذ أصناما آلهة....................... ( ٧٤ ) ﴾( سورة الأنعام ).
وبعد ذلك يأتي في النقاش ولا يأتي بسيرة الأصنام :
﴿ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا................... ( ٧٦ ) ﴾( سورة الأنعام ).
إذن فقد كانت هناك علاقة بين الأصنام وبين الكواكب، والأصل فيها أن الإنسان حينما يرى شيئا ينفعه، ينسب إليه كل نفع يحصل عليه ويرى له قوة يحترمها فيه، ولم ينتبه الإنسان إلى أن خالق هذه الأشياء غيب، فعبد الشيء الظاهر له، وعندما وجد الإنسان أن الكواكب تأفل وتغيب قال بعض الناس : لنقيم أصناما تذكرنا بها، وصار هناك صنم يمثل الشمس، وصنم يمثل القمر، وآخر يمثل النجم الفلاني، أي أن الأصنام إنما جعلت لتذكر بالأصل من الكواكب، ولذلك أقول دائما : يجب على الناس ألا تغفل عن المسبب لأنه سبحانه – هو وراء الأسباب، وكلما ارتقى العقل يسلسل الأسباب، إلى أن تنتهي إلى مسبب ليس وراءه سبب، وإذا انتهت يد المخلوق وعجزت في الأسباب تبدأ يد الخالق ؛ فالذين يفتنون بالأسباب هم الذين ينظرون إليها على أنها الفاعلة بذاتها.
ولذلك حينما أغفلت وسترت قضية الدين في أذهان الناس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم وما ينفعهم، فتوجهوا بالعبادة له، وكانوا قبل الرسالة يحجون إلى الكعبة ويحبون الكعبة، وحين يغتربون في كثير من الرحلات يأخذون قطعة من حجر من نوعية أحجار الكعبة في الرحلة الطويلة، وحين يراها أحد من هؤلاء يطمئن، ولكن بطول الزمن انفردت هذه الأشياء بتقديس خاص يعزلها عن الأسباب.
وهكذا عرفنا أن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن كانت له عند العرب هذه المكانة، وكذلك عند أهل الكتاب حتى أنهم ادعوا انتسابه لهم فبعضهم قال : إن إبراهيم يهوديا، وقال الآخرون : إنه كان نصرانيا، وجاء القرآن وهو يوجه كفار قريش، وكذلك أهل الكتاب فيأتي الله بقصة سيدنا إبراهيم ليعطينا قضية العقائد ويوضحها توضيحا يؤنسهم بمن له في نفوسهم ذكر.
﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( ٧٤ ) ﴾( من الآية ٧٤ سورة الأنعام ).
والضلال أن تريد غاية فتضل الطريق إليها، وكان الناس عندهم غاية في ذلك الزمان أن يقدسوا، ويقدروا من ينعم عليهم بالنعم. إلا أنهم أخطأوا الطريق ووقفوا عند السبب، ولم يذكروا ولم يدركوا ما وراء السبب، ومن هنا جاء الضلال المبين. فكان من طبيعة الإنسان أنه يتقدم بالولاء وبالخضوع وبالشكر لمن يرى نعمة منه عليه، ولكنهم ضلوا الطريق ؛ لأنهم ساروا في النعمة في حلقات الأسباب، ولم يصلوا بالأسباب إلى المسبب. وهذا ضلال مبين لأنه فتنة خلق في خلق ؛ فالإنسان الأول الذي جاء وأقبل على عالم مخلوق له، وأقبل على أرض وأقبل على شمس، وأقبل على قمر، وأقبل على نجوم، وأقبل على سحاب يمطر له الماء، وأقبل على جبال تمده بالأقوات كان من الواجب عليه أن يلتفت لهذه المسألة ؛ لأنه لم يصنعها ولا ادعى أحد أنه صنعها، أما كان من الواجب أن يفكر تفكيرا يسيرا فيمن خلق له هذه الأشياء ؟ !
إن أتفه الأشياء تحتاج إلى صانع، مثال ذلك الكوب الذي نشرب فيه الماء لا يكون كوبا أمام أي واحد فينا إلا بعد أن انتقل وتقلب في مراحل متعددة ممن اكتشف المادة وممن صهرها كيماويا وممن أنفق عليها إلى أن وصل إلى الكوب، وكذلك المصباح، إن نظرنا إلى الأجهزة التي خلفه وأسهمت في إيجاده لوجدناها
﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين( ٧٥ ) ﴾.
أي كما اهتدى إبراهيم إلى أن عبادة الأصنام ضلال مبين فسيريه الله ملكوت السماوات والأرض ما دام قد اهتدى إلى أن هناك إلها حقا، فالإله الحق يبين له أسرار الكون :
والملكوت صيغة المبالغة في الملك، مثلها مثل ( رحموت ). وهي صيغة مبالغة من الرحمة، والملكوت تعطينا فهم الحقائق غير المشهودة، فالذي يمشي وراء الأسباب المشهودة له يأخذ الملك ؛ لأن ما يشهده ويحسه هو أمامه، والملكوت هو ما يغيب عنه، إذن ففيه ( ملك )، وفيه ( ملكوت )، الملك هو ما تشاهده أمامك، والملكوت هو ما وراء هذا الملك.
والمثال هو ما قاله سيدنا إبراهيم حينما تكلم على الشركاء لله قال سبحانه :﴿ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ( ٧٧ ) الذي خلقني فهو يهدين ( ٧٨ ) والذي هو يطعمني ويسقين ( ٧٩ ) وإذا مرضت فهو يشفين ( ٨٠ ) والذي يميتني ثم يحيين ( ٨١ ) ﴾ ( سورة الشعراء )
ولنلحظ هنا أن الأساليب مختلفة، فهو يقول :﴿ الذي خلقني ﴾ ولم يقل :( الذي هو خلقني )، ثم قال ﴿ فهو يهدين ﴾ لأن أحدا لم يدع أبدا خلق الإنسان، وهي قضية مسلمة لله ولا تحتاج إلى تأكيد، أما هداية الناس فهناك من يدعي أنه يهدي الناس. وما يدعى من البشر يؤكد ب ( هو ). وما لا يدعى من البشر كالخلق والإماتة والإحياء لا يؤتى فيه بكلمة هو.
ويتابع سيدنا إبراهيم :﴿ والذي هو يطعمني ويسقين ﴾ وهنا قفز سيدنا إبراهيم من كل الأسباب والحلقات الظاهرية إلى الحقيقة، وعرف الغيب ﴿ وإذا مرضت فهو يشفين ﴾ وهو بذلك يميز بين الوسيلة للشفاء وهم الأطباء المعالجون والشافي الأعظم وهو الله – تبارك وتعالى – لأن الناس قد تفتن بالأسباب وتقول : إن الطبيب هو من يشفي، ولذلك ينتقل سيدنا إبراهيم من ظواهر الأسباب إلى بواطن الأمور، وينتقل من ظواهر الملك إلى باطن الملكوت حتى نعرف أن الطبيب يعالج ولكنه لا يشفي، بدليل أننا كثيرا ما رأينا من يذهب للطبيب ويعطيه الطبيب حقنة فيموت المريض، وبذلك يصير الطبيب في مثل هذا الموقف من وسائل الموت.
سبحان من يرث الطبيب وطبه يرى المريض مصارع الآسين إذن، ﴿ فهو يشفين ﴾ أي أن الشفاء من الله والعلاج من الطبيب.
وبذلك جاء سيدنا إبراهيم بالأشياء التي يمكن أن يفتن الإنسان في أسبابها وأكدها ب ( هو ).
وحين ننظر إلى إبراهيم عليه السلام في قصة العقيدة نجده قد أخذ سلطانا كبيرا يعترف به جميع الأنبياء ؛ لأن ربنا قال فيه :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾
وكذلك قال سبحانه :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ﴾
( من الآية ١٢٤ سورة البقرة ).
أي إنك يا إبراهيم مأمون أن تكون إماما للناس، وببشرية إبراهيم وبظاهر الملك. سأل الله أن تكون الإمامة في ذريته، قال :﴿ ومن ذريتي ﴾أي اجعل من ذريتي أئمة، فيقول الحق :
﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾( من الآية ١٢٤ من سورة البقرة ).
لأن مسألة الإمامة ليست وراثة دم، ولا يأخذها إلا من يستحقها. وقلنا : إن سيدنا إبراهيم جاء بهاجر وابنه إسماعيل منها وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم، ويقول القرآن على لسانه :
﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( ٣٧ ) ﴾( سورة إبراهيم )
أي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام وعي مسألة تعليم الحق له لأسرار الملكوت، وظل في ذهن سيدنا إبراهيم، أن الحق سبحانه – لا يعطي الإمامة من ظلم ثم أوضح له أنه يجب أن تفرق بين خلافة النبوة، وعطاء الربوبية في الطعام. ويتمثل ذلك في دعاء سيدنا إبراهيم :
﴿ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾( من الآية ١٢٦ من سورة البقرة )
فكأن إبراهيم حين طلب الرزق من الثمرات لمن آمن بالله واليوم الآخر لم يفرق في دعائه بين عهد النبوة والإمامة، ومطلوبات الحياة، فيقول له الحق :﴿ ومن كفر......... ﴾.
أي أنه سبحانه سيرزق بالطعام من آمن ومن كفر ؛ لأن الطعام ومقومات الحياة من عطاءات الربوبية، أما المناهج فهي من عطاءات الألوهية، والله سبحانه وتعالى رب لجميع الناس ؛ لأنه هو الذي استدعاهم جميعا : المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وما دام هو الذي استدعاهم إلى الوجود فهو لا يمنعهم الرزق.
﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين( ٧٥ ) ﴾( سورة الأنعام )
وكل من يسير على قدم إبراهيم عليه السلام يرتبط ويتعلق بذات الحق سبحانه وتعالى، وفيه فرق بين الارتباط والتعلق بالذات، والارتباط والتعلق بالصفات ؛ والذي يعبد الله لأنه رزاق، ولأنه مغن هو من يرتبط بالصفات. أما من يرتبط بالله لأنه إله فقط وإن أفقره فهو من يرتبط بالذات، وحين صفى سيدنا إبراهيم نفسه من كل العقائد السابقة أوضح له الحق : أنت مأمون على أسرار كوني، وأعطاه الحق الكثير كما يعطي لكل من يخلص في الارتباط بخالقه يعطيه ربنا عطاءات من أسرار كونه.
ويضرب الحق سبحانه لنا كثيرا من المثل في القرآن فيقول :
﴿ واتقوا الله ويعلمكم الله ﴾( من الآية ٢٨٢ من سورة البقرة )
أي أنك ما دمت مأمونا على ما عرفت من أحكام الحق لحركة حياتك وتنفذه فإن الحق يعتبرك أمينا على أسراره، ويعطيك المزيد من الزيادة.
ومعنى ( تتقي ) أي أن تلتحم بمنهج الحق، وإذا التحمت بالمنهج الحق كنت في الفيوضات الدائمة التي لا تنقضي من الحق ؛ لأن الذي في معيته لا بد أن يخلع الحق عليه من واردات وعطاءات صفاته ما يجلي صلته بربه ويطمئنه عليه، ومثال ذلك ما حدث في ( قصة الهجرة )، تجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيدنا أبا بكر في الغار، ويقول أبو بكر لرسول الله : لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، وهذه قضية كونية مؤكدة، ويرد عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما ينقله من القضية الكونية الظاهرة الواضحة إلى عالم الملكوت الخالص، ويقول :( يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثها )١.
أي أنه يقول له : اطمئن، لن يرانا أحد ؛ لأننا في معية الله، وسبحانه لا تدركه الأبصار. وحين يكون الضعيف في معية القوي فقانون القوي هو الذي يتغلب، فلا يصبح الضعيف ضعيفا، فحين يكون هناك ولد بين الأطفال الذين في مثل سنه يضطهدونه ويؤلمونه ويؤذونه. ثم يرونه في يد أبيه لا يجرؤ أحد منهم أن يأتي إلى ناحيته، والناس لا يقدر بعضهم على بعض إلا إذا انفلتوا من معية الله، ومن في معية الله لا يجترئ عليه أحد أبدا. ولذلك يرسل لنا ربنا قضايا الملك وقضايا الملكوت، ويمثلها في رسول من أولي العزم من الرسل مع عبد صالح آتاه الله شيئا من علمه وفيضه لأنه اتقاه.
يقول الحق سبحانه :
﴿ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ( ٦٥ ) ﴾( سورة الكهف )
إن هذا العبد قد أخذ منهج الرسول الذي جاء به واتبعه، فأداه حق الأداء فاتصل بالحق من لدنه علما. وحين ننظر في هذه القضية نتعجب لأننا نجد سيدنا موسى – ينظر في عالم الملك بينما ينظر من آتاه الله من لدنه رحمة ومن عنده علما ينظر من عالم الملكوت، وموسى معذور لأنه ينظر في دائرة الأسباب، والعبد الصالح معذور هو الآخر لأنه ينظر في دائرة ثانية ؛ ولذلك سيقول العبد الصالح :﴿ وما فعلته عن أمري ﴾أي أن المسألة ليست من ذاته، بل هو مأمور بها. وحين ننظر إلى تقدير موقف كل منهما للآخر نجد العبد الصالح يقول :﴿ إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾. أي أن العبد الصالح يعذر موسى، ويضيف :
﴿ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ( ٦٨ ) ﴾( سورة الكهف )
فيقول القرآن على لسان موسى :
﴿ قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ( ٦٩ ) ﴾( سورة الكهف )
فها هو ذا الرسول الذي جاء ليبلغ المنهج يطيع عبدا صالحا طبق المنهج من رسول سابق ونفذه كما يحب الله، والتحم بالمنهج، وجاء لنا ربنا بهذه القصة مع رسول من أولي العزم. ويتلقى موسى عليه السلام الأمر من العبد الصالح :
﴿ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ( ٧٠ ) ﴾( سورة الكهف )
لماذا ؟ لأن العبد الصالح يعلم أن موسى سيتكلم عن عالم الملك، وهو يتكلم من عالم الملكوت.
وحين ركبا السفينة، وخرقها العبد الصالح، والخرق إفساد ظاهري في عالم الملك. يوضح سيدنا موسى للعبد الصالح أن هذا الفعل إخلال بالقانون، وكيف يعتدي على السفينة بالإفساد ؟ فيرد العبد الصالح : ألم أقول إنك لن تستطيع معي صبرا، وليست لك طاقة على مثل هذه المسائل، فيتذكر موسى، ثم تأتي حكاية الغلام، وحكاية الجدار.
وحين ندقق النظر في هذه الأمور نجد علم الملكوت يصحح الأمور الشاذة في عالم الملك ؛ فخرق السفينة إفساد ظاهري لكن إذا علم موسى أن هناك ملكا يأخذ السفن السليمة الصالحة ويستولي عليها غضبا وهذه السفينة لمساكين يعملون في البحر، ويريد العبد الصالح أن يحافظ لهم على السفينة فيخرقها حتى لا يأخذها المغتصب ؛ وحين يقارن الملك المغتصب بين سفينة سليمة وسفينة مخروقة. فلن يأخذ السفينة غير السليمة، ويمكن لأصحابها إصلاحها.
إذن لو علم موسى بهذه المسألة، ألا يجوز أن يكون موسى هو الذي كان يقوم بخرق السفينة ؟ إنه كان سيخرقها، إذن لو علم صاحب نظرية الملك ما في نظرية الملكوت من أسرار، لفعل هو الفعل نفسه. وحين نأتي لقتل الغلام، لا بد من التساؤل : وما ذنب الغلام ؟ فيفسر العبد الصالح الأمر :
﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا( ٨٠ ) ﴾( سورة الكهف ).
والأبوان قد يدللان هذا الابن، ويطعمانه من مال حرام، ويكون فتنة لهما، فقتل الغلام ليظلا على الإيمان، وعجل ربنا بالولد إلى الجنة مباشرة.
وفي مسألة الجدار تجد الخلاف بين رؤية عالم الملك، ورؤية عالم الملكوت. ففي ظاهر الأمر أنهما حين أتيا أهل القرية طلبا للطعام، وطلب الطعام شهادة صدق على ضرورة، لأنه ليس طلبا للنقود، فقد يطلب أحد النقود ليدخرها، لكن من يقول :( أعطني رغيفا لآكل ) فهذه آية صدق الضرورة في طلب الطعام. ولكن أهل القرية أبوا أن يضيفوهما، إذن هم لئام لا كرام. ويرى العبد الصالح جدارا يريد أن ينقض، آيلا للسقوط فأقامه، وغضب سيدنا موسى، سبب غضبه أنه والعبد الصالح استطعما هؤلاء فلم يطعموهما، فكيف تبني جدارا لهم ؟ ! وكان يصح أن تأخذ عليه أجرا، وغضب سيدنا موسى سببه ظاهر، لكن العبد الصالح يشرح المسألة :
لقد أقام الجدار لأن أهل القرية لئام ولم يعطونا طعاما، ولو وقع الجدار وظهر الكنز تحته أمام لئام بهذا الشكل لسرقوه من أصحابه، وهم أطفال، وقد بناه العبد الصالح بهندسة إيمانية ألهمه الله بها بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار. أي أنه بناء موقوت، مثلما نضبط المنبه على وقت محدد، كذلك الجدار بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار ويأخذان الكنز.
وهذا يوضح لنا الخلاف بين عالم الملك، وبين عالم الملكوت ؛ فعالم الملكوت هو الذي يغيب عنا وراء الأسباب. وكثير من الناس يقف عند الأسباب، ولا ينتقل من الأسباب إلى السبب المباشر، إلى أن ينتهي إلى مسبب ليس بعده سبب.
﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ( ٧٥ ) ﴾( سورة الأنعام )فهل تيقن أ
﴿ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( ٧٦ ) ﴾.
و ( جن ) تفيد الستر والتغطية، ومنها ( الجنون ) أي ستر العقل، و ( جن الليل ) أي أظلم وستر عنك، فلا ترى غيرك ولا غيرك يراك. و ( الجنة ) كذلك لأن فيها الأشجار والأشياء التي تستر من يمشي فيها، إذن المادة كلها تفيد الستر.
وكلمة ( كوكب ) تفيد أنه يأخذ ضوءه من غيره، ونفهم من الآية أن إبراهيم كان في ظلمة ثم طلع الكوكب فرآه، ثم غاب الكوكب أي انتقل من بزوغ وطلوع إلى أفول، وقديما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، فجاء لهم إبراهيم من جنس ما يعبدون، وقال :﴿ لا أحب الآفلين ﴾.
﴿ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( ٧٧ ) ﴾.
وهنا قال إبراهيم عليه السلام : هذا ربي، ووقف العلماء هنا وتساءلوا : كيف يقول إبراهيم هذا ربي، وهي جملة خبرية من إبراهيم، كيف يجري إبراهيم على نفسه لفظ الشرك، وأراد العلماء أن يخلصوا إبراهيم من المسألة. ونقول لهؤلاء العلماء : جزاكم الله خير، وكان يجب أن تؤخذ هذه المسألة من باب قصير جدا ؛ لأن الذي قال : إن إبراهيم قال : هذا ربي، هو الذي قال في إبراهيم :
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾( من الآية ١٢٤ سورة البقرة ).
إذن فقوله ﴿ هذا ربي ﴾ لا تخدش في وفائه الإيماني، ولابد أن لها وجها. ونعلم أن القوم كانوا يعبدون الكواكب، ويريد إبراهيم أن يلفتهم إلى فساد هذه العقيدة، فلو أن إبراهيم من أول الأمر قال لهم : يا كذابون، يا أهل الضلال، وظل يوجه لهم السباب لما اهتموا به ولا سمعوا له. لكن إبراهيم استخدام ما يسمى في الجدل ب ( مجاراة الخصم ) ؛ ليستميل آذانهم ويأخذ قلوبهم معه، وليعلموا أنه غير متحامل عليهم من أول الأمر، فيأخذ بأيديهم معه.
مثال ذلك في حياتنا، تجد رجلا له ابنة وجاء لها خطيب، وهذا الخطيب قصير جدا، بينما البنت – ما شاء الله – طويلة، حين جاء الخطيب ليراها وتراه تقول لأمها : هذا خطيبي ؟ ! وهذا القول يعني أنها تنكر أن يكون هذا القصير عنها هو خطيبها، وحين قال إبراهيم :﴿ هذا ربي ﴾ معناه إنكار أن يكون مثل هذا الكوكب أو ذلك القمر أو تلك الشمس هي الرب.
ونلاحظ أنه يحدد لهم مصير من يعبد تلك الكواكب، فقال :﴿ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾، وفي هذا معرفة بمن على هدى أو على ضلال، ويكون قوله :﴿ هذا ربي ﴾ لونا من التهكم ؛ لأنهم قالوا بما جاء به القرآن على لسانهم :﴿ أهذا الذي يذكر آلهتكم ﴾.
فكأنه قال : سلمنا جدلا أنه ربكم، لكنه يأفل ويغيب عنكم، وقوله :﴿ لا أحب الآفلين ﴾ يعني أنه غير متعصب ضدهم.
وكذلك حين يقول الحق :
﴿ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( ٧٨ ) ﴾.
﴿ ولكن من شرح بالكفر صدرا ﴾( من الآية ١٠٦ سورة النحل )وقد جاءت بعد قوله سبحانه :
﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾( من الآية ١٠٦ سورة النحل ).
فإذا كان الله قد أباح إجراء كلمة الكفر على لسان المؤمن المطمئن لينجي حياته وهو فرد، أفلا يصح لإبراهيم أن يقول لهم :﴿ هذا ربي ﴾ بما تحتمل من أساليب حتى ينجي أمة بأسرها من أن تعبد الأصنام ؟.
إذن فقول إبراهيم ﴿ هذا ربي ﴾ يؤخذ على محملين : ألم يقل الله سبحانه وتعالى بنفسه عن نفسه :
﴿ ويوم يناديهم أين شركائي ﴾( من الآية ٤٧ من سورة فصلت )
وسبحانه يعلم أنه لا شركاء له، ولكن الشركاء هم من زعم المشركين.
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان ينادي في بعض القوم :( يا إله الآلهة ) لأنه يعلم أن قوما قد ألهوا ظواهر طبيعة في الكون لما يرون من الخير فيها، فأراد أن ينبههم إلى أن هناك إلها حقا.
ويوضح القرآن عدم جدوى الشرك حين يقول :
﴿ إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ﴾( من الآية ٩١ سورة المؤمنون )
ويقول سبحانه :
﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) ﴾( سورة الإسراء )
والحق سبحانه وتعالى يقول للكافر الذي كان يعتز بجاهه في دنياه :
﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ( ٤٩ ) ﴾( سورة الدخان )
فهل هذا القول اعتراف بأن الكافر عزيز كريم أو هو قول تهكمي ؟. إنه تهكم ؛ لأن الكافر لو كان عزيزا كريما عند نفسه لما كفر ولما استقر في الجحيم.
وكان المنطق في اللغة أن يقول : فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ؛ لأن الشمس مؤنثة، ولكنه قال :﴿ هذا ربي ﴾ كما في القمر وفي غيره من الكواكب، فجعل الأمر على سياق أو حالة واحدة، هو بهذا القول يريد أن ينزه كلمة الربي تنزيها مطلقا عن أن تلحق بها علامة التأنيث، لأن علامة التأنيث فرع التذكير، وأيضا لأن الشمس ليست مؤنثا حقيقيا، بل هي مؤنث مجازي، ولذلك يفطن العلماء إلى هذه المسألة فيقولون : إنك إذا أعطيت واحدا صفة العلم، وقلت : فلان عالم، أما إذا صار علمه ملكة عنده فنقول :( فلان عليم ) ؛ ولذلك يقول الحق :
﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾( من الآية ٧٦ من سورة يوسف )
وإذا كان العالم متمكنا من علمه بشكل غير مسبوق نقول عنه :( علام ). والحق سبحانه يصف نفسه فيقول :
﴿ علام الغيوب ﴾( من الآية ١١٦ من سورة المائدة )
ولم يقل العلماء في وصف الله علامة، وإن كان هذا الوصف أبلغ احترازا من أن تلحق علامة التأنيث صفة من صفات الله – عز وجل -.
وحين تأفل الشمس يقول سيدنا إبراهيم :
﴿ فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ﴾( من الآية ٧٨ سورة الأنعام )
وجاء الأمر صريحا لأنه سبق المسألة بالترقيات الجدلية التي قالها، حين يسمعها أي عاقل فلا بد أن يعلن اتفاقه في هذا الأمر، ولذلك قال :( إني بريء مما تشركون ). ولأنه كإنسان مؤمن لن يغش نفسه، وبالتالي لن يغش قومه، وهذا ما ينبه العقل حين يعطيه الله هبة الهداية.
والبراءة من الشرك تخلية عن المفسد، والتخلية تعني أن تنفك أو تنقطع عن العمل المفسد، وبعد ذلك تدخل في العمل المصلح... العمل الإيجابي.
﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( ٧٩ ) ﴾.
والسماوات والأرض هما المظهر الأول للكون الذي طرأ عليه الإنسان ؛ لأن الكون طرأ عليه الإنسان – الخليفة في الأرض – ووجد كل الخيرات والمسخرات، ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى : إياكم أن تقولوا إني خلقتكم فقط، بل خلقت لكم الكون.
﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾( من الآية ٥٧ من سورة غافر )
ويقدم سيدنا إبراهيم برهانه لقومه، إنه يعبد الله وحده الذي خلق السماوات والأرض، رافضا كل فساد في الكون، ويتمثل هذا في قومه ﴿ حنيفا ﴾، و ( الحنف ) في اللغة هو ميل في القدمين، ونجد القدم مقوسة إلى الخارج. وهذا يعني أنه لا يسير على طريق الفساد الموجود في الكون ؛ لأن السماء تتدخل بالرسالات حين يطم الفساد في الأرض، وحين يأتي الرسول مائلا عن الفساد فهو يسير معتدلا ؛ لأن الميل عن الفساد اعتدال واستقامة.
﴿ وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ( ٨٠ ) ﴾.
وحاجه أي حاججه بإدغام الجيمين في بعضهما. أي أن كل طرف يقول حجة والطرف الآخر يرد عليه بالحجة، فإذا كنت في نقاش وكل واحد يدلى بحجته، فهذا اسمه الحجاج، أو الجدل المبطل، أي أنك تبطل كلامه وهو يبطل كلامك.
﴿ وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ﴾( من الآية ٨٠ سورة الأنعام )
وإذا كان إبراهيم قد جادلهم بمجاراة أفكارهم وأثبت بطلانها، فكيف يجادلونه إذن ؟. كأن الغرض من الحجاج صرف إبراهيم عن دينه الحنيف الذي ارتآه في قوله سبحانه :
﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( ٧٩ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ويرد عليهم :﴿ أتحاجوني في الله وقد هدان ﴾( من الآية ٨٠ سورة الأنعام ).
أي أن مسألة الإيمان قد حسمت. فقد آمن إبراهيم بالله ويعلن للقوم :( ولا أخاف ما تشركون به إلا ان يشاء ربي شيئا ) وهذا القول يدل على أنهم قد هددوه ؛ لأن كلمة ( الخوف ) جاءت ونفاها عن نفسه. ويعلنها إبراهيم قوية :( ولا أخاف ما تشركون به ) أي لا أخاف من الكواكب التي تأفل سواء أكانت نجما أم قمرا أم شمسا أم تلك الأصنام التي تعبدونها فليس لها نفع ولا ضر، والضر والنفع هما من صنع الله فقط.
ولذلك تتجلى الدقة في الأداء العقدي فيقول الحق على لسان إبراهيم عليه السلام :
﴿ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ﴾( من الآية ٨٠ سورة الأنعام ).
فإن شاء الحق أن ينزل على عبد كوكبا يصعقه أو يحرفه فهذا موضع آخر لا دخل لمن يعبد الكواكب به، ولا دخل للكواكب فيه أيضا ؛ لأن النافع والضار هو الله، فحين يشاء الله الضر، ويأتي الضر، وحين يشاء النفع يأتي النفع.
﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾( من الآية ٨٠ سورة الأنعام )
أي اذكروا جيدا، وافرقوا بين فعل يقع من فاعل، وفعل يقع من آلة فاعلها غير تلك الآلة، فحين يشاء الله أن يوقع على إنسان كوكبا، أو صخرة فليست الصخرة هي التي صنعت وقوعها، ولا الكوكب هو الذي أسقط نفسه، إنما الفاعل هو الله :
﴿ وسع ربي كل شيء علما أفلا يتذكرون ﴾( من الآية ٨٠ سورة الأنعام )
وقوله ﴿ أفلا تتذكرون ﴾ يدل على أن قضايا العقائد مأخوذة بالفطرة، وإقبال النفس على الشهوات هو ما يطمس آثار هذه الفطرة، فليس المطلوب منك أيها الإنسان إنشاء فكرة عقدية بل المطلوب منك أن تتذكر فقط، والتذكر أمر فطري طبيعي ؛ لأن الإنسان الخليفة في الأرض هو الذي تناسل من آدم إلى أن وصل إلينا ؛ فقد جاء آدم إلى الأرض ومعه منهج سماوي ينظم به حركة الحياة، ولقن آدم المنهج لأولاده، وكذلك فعل أبناء آدم مع أولادهم، ولكن المناهج تنطمس ؛ لأن المناهج تتدخل في أهواء الناس وتثنيهم عن شهواتهم وتصدهم عن المفاسد فيعرضون عنها أو يتجاهلونها، إذن فهي عرضة أن تنسى، والرسالات إنما تذكر بالمنهج الأصلي الذي أخذناه عن الحق سبحانه وتعالى، لذلك يعلنها إبراهيم.
﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ( ٨١ ) ﴾.
﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾( من الآية ٢٤ سورة سبأ )
وهذا منتهى الحيدة في الجدل، فلم يصرح بأن منهجهم هو الضلال وأن منهجه هو الصواب المستقيم ثقة منه أنهم حين يستعرضون منهجه ويستعرضون منهجهم سيحكمون بأنه صلى الله عليه وآله وسلم على هدى وأنهم على ضلال. وهذا هو الجدل الارتقائي. مثلما يعلم الحق رسوله ليقول لخصومه :
﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( ٢٥ ) ﴾( سورة سبأ )
هل يفعل الرسول جرائم ؟ حاشا لله أن يفعل ذلك فهو المعصوم.
وكأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم : اسألوا عني إن كنت أجرمت ؛ ولم يقل لهم وصفا لأعمالهم :( ولا نسأل عما تجرمون ) بل قال :( ولا نسأل عما تعملون ). فلم يأت بمسألة الإجرام بالنسبة لهم ؛ وجاء بها بالنسبة له، لأنه واثق أنهم إن أعادوا دراسة القضية فكريا وعقديا وعاطفيا فسينتهون إلى الإيمان بمنهجه. وهذا منتهى اللطف في الجدل.
ويتجلى اللطف في الجدل في قوله الحق :
﴿ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ﴾( من الآية ٨١ سورة الأنعام )
والعلم هو أن تأخذ قضية تعتقدها ولها واقع وتستطيع أن تدلل عليها، وإن اختل شرط فيها فهذا خروج عن العلم، ومثال ذلك ألفاظ اللغة ؛ كل لفظ وضع لمعنى، وساعة تسمع اللفظ وأنت تعرف اللغة تفهم المعنى ؛ فحين أقول : الشمس. تتصور أنت الشمس في ذهنك، وكذلك الأرض والماء والجبل. فأنت عرفت مدلول هذه الألفاظ بدون أن تكون هناك نسبة. ونعلم أن هناك فرقا بين معنى اللفظ مفردا، وما يعطيه ويفيده اللفظ إذا جاء في نسبة.
فإذا جاء اللفظ في نسبة فلابد أن توجد قضية، فإذا قلنا الشمس محجوبة بالغيم فهذه قضية، أو قلنا : الشمس تغيب فهذه قضية أخرى وهنا نسبنا شيئا لشيء، ولكننا قبل أن نأتي بالقضايا النسبية لابد أن يكون للفظ معنى في ذاته، وهذه اسمها معاني اللغة، وتضم من خلالها لفظا إلى لفظ فتنشأ نسبة أو قضية شريطة أن نعرف معنى مفرداتها، وبعد ذلك نعرف النسب، وهي ما تقول عنه : مبتدأ وخبر، موضوع ومحمول، ومسند ومسند إليه، فعل وفاعل أي أمر منسوب إلى أمر.
والعلم – كما قلنا – هو قضية واقعية، تعتقدها وتستطيع أن تدلل عليها. وإن اختل أمر من هذا لا يكون علما، فإن كنت تعتقد في قضية إلا أنها غير واقعية، فهذا كذب. وعندما أقول : إن هناك من يعتقدون أن الأرض كروية فهل الواقع كذلك أولا ؟ وإن كنت تعتقد شيئا وهو واقع، ولم تستطع أن تدلل عليه فهذا تقليد، وإن لم يكن الشيء متيقنا وقد تساوى فيه الطرفان فهذا هو الشك. وإن كان هناك طرف راجح عن طرف آخر فهو الظن. والطرف المرجوح هو ما يسمى بالوهم. وكل قضايا نسبية لا تخرج عن هذه.
وقول إبراهيم :( إن كنتم تعلمون ) أي تتيقنون من قضية نسبية واقعة معتقدة تستطيعون أن تدللوا عليها.
﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ( ٨٢ ) ﴾.
حينما سمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية أشفقوا على أنفسهم ؛ لأنهم استعرضوا حركة أعمالهم فوجدوها لا تخلو من ظلم، وخافوا أن يكونوا من غير الداخلين في ( أولئك لهم الأمن ). وشق عليهم ذلك، فرفعوا أمرهم إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأوضح لهم صلى الله عليه وآله وسلم مطمئنا : إن ذلك الظلم هو الذي قال الله فيه :
﴿ إن الشرك لظلم عظيم ( ١٣ ) ﴾( سورة لقمان )
والآية تدل بمعطياتها على أن ذلك الظلم هو المتعلق بالإيمان لا بالعمل ؛ لأننا نعلم أن التقاء الإنسان بربه مشروط أولا بعقيدة القمة، وهي أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن تشهد أن محمد رسول الله ؛ ومعناها : لا معبود بحق إلا الله، أو لا أمر لأحد في خلق الله إلا لله، ولا فعل لأحد من خلق الله إلا من الله، ولا استمدادا لأحد قدرة وعلما وحكمة وقبضا وبسطا إلا من الله، تلك هي دائرة الإيمان العقدية.
ويقول الحق :﴿ ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ فكأن هذه المسألة هي منطقة الظلم، أما العمل فسبحانه فصل لنا بين إيمان ينفجر عنه العمل وعمل تنفجر عنه الطاقات فقال سبحانه :
﴿ والعصر ( ١ ) إن الإنسان لفي خسر ( ٢ ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات........... ( ٣ ) ﴾( سورة العصر ).
والعطف في قوله :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ يقتضي المغايرة، فالإيمان شيء وعمل الصالحات شيء آخر، إذن فالإيمان عمل ينبوعي في القلب، ولكن العمل ناشئ عن الالتزام الذي شرعه الإيمان فيه، وعلى المؤمن أن ينتبه إلى أن الله واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، لا ند له ولا شريك معه، فإن وجدت صفة مثلها فيك فاعلم أن الصفة في الله في دائرة ( ليس كمثله شيء ). فلا قدرة كقدرته، ولا ذات كذاته، ولا فعل كفعله، فإن اختل شيء من ذلك في اليقين فهذا ظلم واقع في الإيمان.
فمثلا : أنت تقبل على الأشياء بالطاقات المخلوقة لك من الحق سبحانه وتعالى، وقبل أن تفعل أي فعل لابد أن يمر على بالك نسبة ذهنية، قبل أن تكون نسبة قولية أو فعلية. هذا هو العمل المنوط بك والمطلوب منك، أما العمل الذي لا يمر ببالك فلست مسئولا عنه، مثال ذلك : هب أنك سائر في الطريق، ثم وجدت حفرة تكاد تسقط فيها، فهناك أمر غريزي لحفظ الإنسان فيبعد رجله، وهو لا يستطيع في هذه المسألة أن يمرر بباله. وتلك أعمال نسميها الأعمال الاضطرارية أو الغريزية أو القسرية. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع )١( حديث شريف ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( كل أمر ذي بال فيه بالحمد لله أقطع )٢( حديث شريف ).
و ( ذي بال ) أي كل أمر تفعله بعد أن يمر ببالك أن تفعله يجب أن تذكر فيه اسم الله. ويغفل أناس كثيرون عن هذه المسألة فنقول لهم : منطقيا لابد أن تضعوا هذا الأمر في بالكم لأن الفعل الذي لا يمر ببالك هو فعل أعطى الله غريزتك – بدون أمر – أن تفعله. ومثال ذلك إذا أكل الإنسان ثم نزل شيء في قصبته الهوائية غير الهواء ؛ نجده يسعل بلا شعور حتى يخرج هذا الشيء، لأنها قسرية. أما الأمر ذو البال فهو الذي تمر ببالك نسبته الذهنية ثم يمر بالفعل، إن كان قولا تقوله، وإن كان فعلا تفعله ؛ فمطلوب منك فيه ابتداء أن تسمي الله، لأن الحق سبحانه وتعالى يطلب منا ألا تشغلنا الأسباب عن المسبب لها.
فأنت مثلا حين تزرع الأرض وتحرثها، ثم تضع البذرة وتغطيها، ثم ترويها وبعد ذلك ينبت الزرع. ألك في ذلك شيء ؟ إنه ليس لك إلا تجميع فعل ؛ فالبذرة مخلوقة لله، والتربة التي وضعت فيها البذرة مخلوقة لله، والعناصر الموجودة في الأرض لتغذي النبات مخلوقة لله، والخاصية الموجودة في البذرة لتمتص شيئا ينمي جذيرها ثم تنفلق الحبة، كل هذه أسباب ليس لك فيها شيء أبدا. ولكن الله احترام فعلك فقط فقال سبحانه :
﴿ أفرأيتم ما تحرثون ( ٦٣ ) ﴾( سورة الواقعة )
ثم قال سبحانه :﴿ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( ٦٤ ) ﴾( سورة الواقعة )
ومن مخصصات الإيمان أنك حين تقبل على أي شيء ذي بال ألا تنسى من سخر لك هذا، فليس في قدرتك أن تفعل لنفسك وبنفسك أي شيء إلا بإرادة الله، وإذا ما فعلت ذلك وتذكرت من سخر لك هذا تكون قد نسبت الأمر كله له سبحانه.
ونحن في قوانيننا الوضعية ساعة يجلس القاضي ليحكم بين الناس حكما وهناك سلطة تنفذ هذا الحكم فهو يقول :( باسم الشعب ) أو ( باسم القانون )، إذن الشعب أو القانون هو الذي أعطاه الصلاحية لأن يحكم هذا الحكم، فما هي القدرة التي جعلتك تحكم على الأشياء أن تنفعل لك ؟ لابد أن تقول إذن : باسم الله الذي سخر لي هذا، فإذا أقبلت على عمل بغير ذلك، تكون مفتاتا ومختلقا ومدعيا أمرا لا تستطيعه ؛ لأنه ليس في سلطتك ولا في قدرتك أن تسخر الكائنات لك.
إن الحق سبحانه وتعالى هو الذي سخر لك الكائنات، فعليك أن تذكر اسم الحق لتنفعل لك تلك الكائنات، ومن يغفل عن ذلك فقد لبس وخلط إيمانه بظلم. وإذا ما رأيت ثمرة من ثمارك إياك أن تقول كما قال قارون :( أوتيته على علم عندي ) بل اذكر وقل :﴿ ما شاء الله ﴾ ؛ لأنك إن قلت :( أوتيته على علم ) فالحق قد قال في شأن قارون :
﴿ فخسفنا به وبداره الأرض ﴾( من الآية ٨١ من سورة القصص )أين ذهب علم قارون الذي جاء به ؟.
إذن فكل أمر من الأمور يجب أن تنسبه لله، فإن اختل شيء فيك من هذه المسألة فاعلم أنك لبست وخلطت إيمانك بظلم، والحق سبحانه وتعالى يطلب منا ذلك حتى تكون النعمة مباركة إقبالا عليها أو انتفاعا بها، ولا ينشأ من العمل الذي تعمله مبتدئا ب ﴿ بسم الله ﴾ إلا ما يعينك على طاعته، ويعينك على بر، ويعينك على خير، ولا تصرفه إلا في عافية.
وبعد ذلك يؤهلك مجموع هذه الأشياء في كل حركاتك وأعمالك إلى أن تأخذ أمنا آخر أجمع وأتم وأكمل من أمن الدنيا ؛ إنك تأخذ أمن الآخرة بأن تدخل الجنة.
إذن ﴿ أولئك لهم الأمن ﴾ أي الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، والحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل دائما بمنهجه ؛ لأن إمدادات الله سبحانه وتعالى مستمرة، ورحماته وتجلياته لا تنقطع عن خلقه أبدا ؛ لأنه قيوم أي إنه بطلاقة قدرته وشمول قيوميته يقوم سبحانه باقتدار وحكمة على كل أسباب مخلوقاته، فكن دائما في صحبة القيوم ؛ ليتجلى عليك بصفات حفظه، وصفات قدرته، وصفات علمه، وصفات حكمته. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال :( يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف٣ نعليك بين يدي في الجنة. قال : ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهارا إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي )٤.
ويقول – صلى الله عليه وآله وسلم - :( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهة كل خطيئة نظر إليه بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب )٥.
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل بمنهجه اتصالا وثيقا ؛ ليعطينا، لا ليأخذ منا ؛ لأن الفرق بين عبودية البشر للبشر والعبودية الخالصة لله أن البشر يأخذ خير عبده، ولكن عبوديتنا لله تعطينا خيره من خزائن لا تنفد، نأخذ منه كلما ازددنا له عبودية، إذن الحق دائما يريد أن يصلنا به.
﴿ أولئك لهم الأمن ﴾ الأمن في الدنيا، والأمن بمجموع ما كان في الدنيا مع الأمن في الآخرة.
ولقائل أن يقول : هناك أناس لا يسمون باسم الله، ولا يخطر الله على بالهم، ويتحركون في طاقات الأرض ومادتها، وينعمون بها ويسعدون، وقد يسعدون بابتكارات سواهم. ونقول : نعم هذا صحيح ؛ لأن فيه فرقا بين عطاء الفعل، والبركة في عطاء الفعل. إذا زرع الكافر فالأرض تعطي له، وإذا قام بأي عمل يأخذ نتيجته، لكنه لا يأخذ البركة في العطاء.
وما هي البركة في العطاء ؟ البركة في العطاء أن يكون ما أخذته من هذا العطاء لا يعينك على معصية، بل دائما يعينك على طاعة. ونحن نرى كثيرا من الناس يصدق عليهم قول سبحانه :﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ﴾ فإياك أن تغالط وتقول : إنهم لا يقولون :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ ومع ذلك فهم قد أخذوا طيبات الحياة الدنيا، إنك حين تنظر إليهم تجد كل مرتقيات حضارتهم، وطموحات بحوثهم واكتشافاتهم تتجه دائما إلى الشر، لم يأت لهم ابتكار إلا استعملوا في الشر إلى أن يأذن الله فيشغلهم عن أشيائهم بما يصب عليهم من العذاب والنكبات ولهم في الآخرة العقاب على شركهم وكفرهم.
إذن ﴿ أولئك لهم الأمن ﴾ أي إن هؤلاء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم الأمن في جزئيات أعمالهم والأمن المجتمع من جزيئات أعمالهم يعطي لهم الأمن في الجنة. ﴿ وهم مهتدون ﴾ والهداية هي الطريق الذي يوصل إلى الغاية. ولا يقال لك إنك موقف في الحركة إلا إذا أدت بك هذه الحركة إلى غاية مرسومة في ذهنك من نجاح بعد المذاكرة والاجتهاد. ولا مخلوق ولا مصنوع يحدد غايته، فاترك لله تحديد مهمتك، فسبحانه هو الذي خلقك، وفي عرف البشر، لا توجد صنعة تحدد مهمتها أبدا، بل إن هو الذي يحدد لها الغاية منها ؛ فالغاية توجد أولا قبل الصنعة، ومادامت الغاية موجودة قبل الصنعة فمن الذي يشقى بالتجارب إذن ؟
في الابتكارات العلمية المعملية المادية التي تنشأ من التفاعل مع المادة نجد أن الذي يشقى بالتجربة أولا هو العالم، وأنت لا تعلم التجربة إلا بعد ما تظهر نتائجها الطبية، والمسائل النظرية التي تتعب العالم يأتي التعب منها لأنها ليست مربوطة أولا بالماديات المقننة وبمعرفة الغاية، ولا بمعرفة الوسيلة لهذه الغاية. فمن المهتدي إذن ؟
إن المهتدي هو من يعرف الغاية التي يسعى إليها، والوسيلة التي تؤهله إلى هذه الغاية. وإذا حدث له عطب في ملكات نفسه، يستعين في إصلاح العطب ويلجأ إلى من صنع هذه الملكات، وهو الله سبحانه، كما يرد الإنسان الآلة التي تتعطل لصانعها. ونجد كثيرا من الشعراء يسرحون في خيالهم فيقول الواحد منهم :
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
ومن أين للغايات بعد المذاهب ؟
ونقول له : من خلقك أوضح لك الغاية.
٢ رواه ابن ماجه والبيهقي في السنن عن أبي هريرة..
٣ الدف بالفاء: صوت النعل وحركته على الأرض..
٤ متفق عليه واللفظ للبخاري..
٥ رواه مسلم..
﴿ وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ( ٨٣ ) ﴾.
والحجة هي البرهان القائم لإثبات القضية المطلوب إثباتها. وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد منا حين نحاجج أن تكون لنا غاية في الحجاج، ونحن نعلم أن الغاية في الحجاج إن تعدت موضوع الحجاج نفيا أو إثبات فهي تهريج، وينحصر الأمر في أنك تريد الانتصار على خصمك وأن يحاول خصمك الانتصار عليك، لكن عليك إذا ما دخلت الحجاج أن تجعل الغاية الأصلية هي الأساس، كما يقولون تحديد وبيان محل النزاع ؛ لأن الحق لابد أن يكون أعز منك ومن خصمك عندك، ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى يوضح : إياكم أن تتناظروا في قضية تناظرا جماهيريا، لماذا ؟ لأن الصوت الجماهيري يلبس فيه الحق مع الباطل، والله سبحانه وتعالى يريد من كل صوت أن يكون محسوبا على صاحبه، مثال ذلك عندما يقوم تظاهر كبير ويهتف فيه بسقوط أحد لا يتعرف أحد على من بدأ الهتاف.
والذي جعل العرب يخسرون أنهم حين استقبلوا الدعوة كانوا يعتقدون اجتماعات جماهيرية، ينقدون فيها أقوال رسول الله فتاهت منهم القدرة على الحكم الموضوعي.
ولذلك يقول ربنا :
﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ﴾( من الآية ٤٦ سورة سبأ ).
أي أن تجتمعوا وفي وجهتكم الله، ومن عنده قوة فليناقش بالحجة أقوال رسول الله موضوعا، وتاريخا، ومنطقا. ولا يمكن أن يجتمع اثنان ليبحثا مسألة وفي بالهما الله فقط – إلا وينتهيان فيها إلى رأي موحد. ولذلك جاء التفاوض السري في العصر الحديث مستمدا من تلك القاعدة الإيمانية.
﴿ وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ( ٨٣ ) ﴾( سورة الأنعام ).
وأول قوم إبراهيم أبوه آزر، إنه حاجهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل، وبعد ذلك انتصر بالحجة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان، وهو النمروذ حين أراد أن يناظره في قوة الإحياء والإماتة.
ويريد الحق أن نتعلم من حكمة سيدنا إبراهيم، إنك إذا رأيت خصمك يدخل فيما لا يمكن أن تنتهي فيه الجدل فانقله إلى المستوى الذي لا يستطيع منه خلاصا ولا فكاكا، فلا يغلبك ؛ فالملك النمروذ قال له :
﴿ أنا أحي وأميت ﴾( من الآية ٢٥٨ من سورة البقرة )
وكان باستطاعة سيدنا إبراهيم أن يقول : أنت لا تميت بل تقتل، والقتل غير الموت ؛ لأنك تنقض البنية، لكنه لم يرد أن يطيل الجدل، وأراد أن يكون الجدل مقتضبا، ويسقطه على الحجة ويلزمه بها من أقصر طريق، فقال الله :
﴿ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ﴾( من الآية ١٥٨ سورة البقرة ).
فماذا كانت نتيجة الجدل ؟ يقول الله سبحانه :
﴿ فبهت الذي كفر ﴾( من الآية ١٥٨ سورة البقرة )
وكل هذه حجج يوضحها قول الله سبحانه :
﴿ وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ( ٨٣ ) ﴾( سورة الأنعام ).
لقد أعطى الله سبحانه إبراهيم الحجة على قومه، أي كانت له عليهم درجات وسمو وارتفاع ؛ لأن إقامة الحجة على الغير انتصار، والانتصار رفع لدرجة موضوعك، ورفع أيضا لموضوع عملك. وسبحانه لا يشاء إلا عن حكمة، ولا يشاء إلا عن علم ؛ لأنه إن أطلقنا المشيئة لواحد من البشر فقد يفعل الفعل بدون حكمة وبدون علم، أما الحق فينبئنا بأن مشيئته هي عن حكمة وعلم لصالح الخلق ؛ لأن مشيئته مبنية لا على هوى، ولا على نفع من أحد، فالله سبحانه له كل صفات الكمال والجلال والجمال قبل أن يخلق الخلق.
إن خلق الخلق وإيمانهم لا يزيد في ملك الله، وإن عصوا لا ينقص من ملك الله شي، ولكن الحكمة قد تفوت عن بعض الخلق فلا يهتدون إليها، وسبحانه حين يجري أمرا على خلقه ثم يقبلونه وإن لم يعلموا علته يريهم جل وعلا الحكمة في الفعل الذي كان غير مقبول لهم ؛ لأنه سبحانه خلق الخلق ويعلم أزلا أن للخلق أهواء ومرادات، ولو أعطى كل مخلوق مراده لأعطاه على حساب غيره، والحق سبحانه عادل فلا ينفع واحدا ويتعب الآخر.
والحق بحكمته يعلم ما يصلح أمر خلقه، فلا يستجيب لدعوة حمقاء من عبد، فسبحانه يعلم أنه ليس في صالح العبد أن يلبي له هذا الطلب. ولذلك يقول الحق :
﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ( ١١ ) ﴾( سورة الإسراء )
إن العبد يقول : يا رب اصنع لي كذا، يسر لي هذا الأمر، وهو خير في عرفه، وقد يكون هو الشر، لأن الإنسان عجول. لذلك يقول سبحانه :
﴿ سأريكم آياتي فلا تستعجلون ﴾( من الآية ٣٧ من سورة الأنبياء )
إن الحق جل وعلا يضبط مرادات الخلق ؛ فالصالح يجريه عليهم.
﴿ نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ﴾ وكلمة ﴿ رب ﴾ حينما ترد لابد أن نفهم منها معنى الخلق والتربية، وساعة تأتي كلمة ( الألوهية ) فلنعلم أنها للتكيف ؛ لأن الله هو المعبود المطاع إن أمر أو نهي، ولكن الرب هو من خلق وربي، وتعهد، وأعطاك مقومات حياتك. إذن عطاء الربوبية شيء. وعطاء الألوهية شيء آخر، وعطاء الربوبية يأخذه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي ؛ لأن الله هو الذي استدعاهم للوجود، وجعل الكون مسخرا لهم، لكن عطاء الألوهية يتمثل في ( افعل كذا ) و ( لا تفعل كذا )، وهذا يدخل في منطقة الاختيار. فالذي يكفر بالله ويحسن الأخذ بالأسباب يأخذ نتائجها، ومن يؤمن بالله ولا يحسن الأخذ بالأسباب لا يأخذ النتائج ؛ لأن الاستنباط في الكون من عطاء الربوبية.
﴿ ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ( ٨٤ ) ﴾.
إننا نعرف أن إسحاق هو الابن الثاني لسيدنا إبراهيم بعد إسماعيل، ويعقوب ابن إسحاق، وساعة ترى الهبة افهم أنها ليست هي الحق، فالهبة شيء، و( الحق ) شيء آخر. الهبة. إعطاء معط لمن لا يستحق ؛ لأنك حين تعطي إنسانا ما يستحقه فليس ذلك هبة بل حقا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح : إياكم أن تعتقدوا أن أحدا من خلقي له حق عندي إلا ما أجعله أنا حقا له، ولكن كل شيء هبة مني. والقمة الأولى في الهبات والعطايا هي قمة السيادة الأولى في الكون للإنسان، ثم التكاثر من نوعية الذكر والأنثى، حيث الذرية من البنين والبنات. يقول سبحانه :
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( ٤٩ ) ﴾( سورة الشورى )
فهبة الأولاد لا تأتي من مجرد أنه خلق الرجل والمرأة، وأن اللقاء بينهما يوجد الأولاد بل يقول سبحانه :
﴿ أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ﴾( من الآية ٥٠ من سورة الشورى )
فلو أن المسألة مجرد إجراء ميكانيكي لجاء الأولاد، لكن الأمر ليس كذلك ؛ فمن يفهم في الملكوت تطمئن نفسه أن ذلك حاصل عن حكمة حكيم يعرف أنها هبة من الله، حتى العقم هو هبة أيضا ؛ فالذي يستقبله من الله على أنه هبة ويرضاه، ولم ينظر إلى أبناء الغير بحقد أو بحسد سيجعل الله كل من تراه أبناء لك بدون تعب في حمل أو ولادة، وبدون عناية ورعاية منك طول عمرك. ومن يرض بهبة الله من الإناث سيجد أنهن رزق من الله ويبعث له من الذكور من يتزوج والإناث ويكونون أطوع له من أبنائه ؛ لأنه يرضى. إذن لابد أن تأخذ الهبة في العطاء، والهبة في المنع.
والحق يوضح : أنا وهبت لإبراهيم إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، والإنسان منا يعرف أن الإنسان بواقع أقضية الكون ميت لا محالة، وحين يكبر الإنسان يرغب في ولد يصل اسمه في الحياة وكأنه ضمن ذلك، فإن جاء حفيد يكون الجد قد ضمن نفسه جيلا آخر. ولكن لنعرف قول الحق :
﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( ٤٦ ) ﴾( سورة الكهف ).
وبقاء الذكر في الدنيا لا لزوم له إن كان الله يحط من قدر الإنسان في الآخرة ! !
ونلحظ أن الحق قال في موقع آخر :
﴿ فهب لي من لدنك وليا ( ٥ ) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ( ٦ ) ﴾( من الآية ٥ والآية ٦ سورة مريم ).
وامتن الله على إبراهيم لا بإسحاق فقط بل بيعقوب أيضا، وفوق ذلك قال :﴿ كلا هدينا ﴾ أي أنهما كانا من أهل الهداية. ﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ أي أن الهداية لا تبدأ بإسحاق ويعقوب، بل بنوح من قبل. ﴿ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ﴾.
﴿ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( ٨٥ ) ﴾.
ولم يأت الحق بالثمانية عشر نبيا متتابعين بل قسمهم بحكمة، فيقول :
﴿ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ( ٨٦ ) ﴾.
﴿ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( ٨٥ ) ﴾.
ولم يأت الحق بالثمانية عشر نبيا متتابعين بل قسمهم بحكمة، فيقول :
﴿ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ( ٨٦ ) ﴾.
ولا يقتصر الأمر على هؤلاء بل يقول سبحانه :
﴿ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ( ٨٧ ) ﴾.
في تلك حجتنا منهم ثمانية | من بعد عشر ويبقى سبعة وهم |
ذو الكفل آدم بالمختار وقد ختموا
والحق سبحانه وتعالى لم يجعل من الأنبياء ملوكا إلا اثنين : داود وسليمان حتى يعطينا فكرة أن الله إذا أراد أن يقهر خلقا على شيء لا يقدر عليه أحد يبعث ملكا رسولا ؛ لأن الملك لا يقدر عليه عبد لأن القدرة معه، والمجتمع آنذاك كان في حاجة إلى ملك يدير أمره ويضبط شأنه، وسبحانه لا يريد الإيمان بالقوة والخوف والرهبوت إنما يريده بالاختيار، ولذلك جعل أغلب الأنبياء ليسوا ملوكا.
وفي الحديث :( أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا )١ فاختار أن يكون عبدا رسولا ؛ لأن الملك يأتي بسلطانه وبماله، وقد يطغى.
وأراد الحق أن يكون سليمان وداود من الأنبياء وهما ملكان، وتتمثل فيهما القدرة وسعة الملك والسلطة. أما أيوب فقد أخذ زاوية أخرى من الزوايا وهي الابتلاء والصبر مع النبوة، وكل نبي فيه قدر مشترك من النبوة، وفيه تميز شخصي. وكذلك يوسف أخذ الابتلاء أولا، ثم أخذ الملك والسلطان في النهاية. وموسى وهارون أخذا شهرة الاتباع، ونكاد لا نعرف من الأديان إلا اليهودية والنصرانية، أما زكريا ويحيى وعيسى وإلياس فقد أخذوا ملكة الزهد.
وأما إسماعيل واليسع ويونس ولوطا فقد أخذوا ما زخرت به حياتهم من عظيم الفعال وكريم الخصال والسلوك القويم والقدوة الطيبة وباقي لهم الذكر الحسن.
إذن فهناك زوايا متعددة للأنبياء.
وعندما وقف العلماء عند ( عيسى ) هل يدخل في ذريتهم، وجدوا من يستنبط ويقول : من ذريتهم من ناحية الأم.
وإنما أمهات القوم أوعية | مستحدثات وللأحساب آباء |
قال له الإمام الباقر رضي الله عنه : كأنك لم تقرأ القرآن.
قال له : وأي شيء في القرآن.
قال اقرأ :﴿ من ذريته............. ﴾ إلى أن تقرأ :﴿ وعيسى ﴾، فعيسى من ذرية نوح، من أب أم من أم ؟.
قال له : من أم. فقال له : نحن كذلك من ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ( ٨٨ ) ﴾.
( ذلك ) إشارة إلى شيء تقدم، والمقصود به الهدى الذي هدينا به القوم، وهو هدى الله. ونجد كلمة ( هدى ) تدل على الغاية المرسوم لها طريق قصير يوصل إليها، وربنا هو الذي خلق، وهو الذي يضع الغاية، ويضع ويوضح ويبين الطريق إلى الغاية، حين يضاف الهدى إلى الله فهو دلالة على المنبع والمصدر أي هدى من الله. وكلمة ( هدى ) مرة تضاف إلى الواهب وهو الحق، وتضاف إلى الواهب وهو الحق، وتضاف إلى الأنبياء.
ويقول الحق :﴿ فبهداهم اقتده ﴾وذلك إشارة إلى المنهج الذي أنزله الله على الرسل.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يهدي الناس جميعا بدلالتهم على الخير، والذي يقبل على هذه الدلالة احتراما لإيمانه يعينه الله، ويزيده هدى، وسبحانه يريد أن يثبت للإنسان أنه جعله مختارا، فإن اخترت أي شيء فأنت لم تختره غصبا عن ربنا، إنما اخترته بمن خلقك مختارا. ولا يوجد فعل في الكون يحدث على غير مراد الله، ولو أراد الله الناس جميعا مهديين لما استطاع واحد أن يعصى، إنما أراد الله الناس جميع مهديين لما استطاع واحد أن يعصى، وإنما أرادهم مختارين، وكل فعل يفعله أي واحد منهم، فهو مراد من الله لكنه قد يكون مرادا غير محبوب، لذلك قال العلماء : إن هناك مرادا كونا، ومرادا شرعا. ومادام الشيء في ملك الله فهو مراد الله، والمراد الشرعي هو المأمور به، وما يختلف عن ذلك فهو مراد كوني، جاء من باب أنه خلقك مختارا.
ومثال ذلك – ولله المثل الأعلى – أنت تعطي ابنك جنيها، والجنيه قوة شرائية. فأخذ الجنيه ونزل السوق وهو حر ليتصرف فيه : وتقول له : اسمع. أن اشتريت به مصحفا أو كتابا جميلا أو بعضا منن الحلوى وأكلتها أنت وإخوتك فسأكون مسرورا منك وسأكافئك مكافأة طيبة، وإن اشتريت ( كوتشينة ) أو صرفت الجنيه فيما لا أرضى عنه فسوف أغضب منك ولن أعطيك نقودا.
أنت بهذا القول أعطيت ابنك الحرية. وساعة ينزل السوق ويشتري ( كوتشينة ) فهو لم يفعل ذلك قهرا عنك لأنك أنت الذي أعطيته الاختيار، لكنك قلت له : إنك تطلب منه أن يحسن الاختيار، وسبحانه وتعالى قد جعل الإنسان مختارا، فإن اختار الهداية أجزل له العطاء، وإن اختار الضلال عاقبة عليه.
بالنسبة للأنبياء جاءت لهم الهداية من الله دلالة لهم وأقبلوا على مرادات الحق فأعطاهم هداية أخرى ؛ وذلك بأن يعشقهم في العمل ويحبب إليهم فعل الخير، وبعد ذلك يوضح سبحانه : إياكم أن تظنوا أن هناك من يفلت مني ؛ لأنهم لو أشركوا لأحبطت أعمالهم.
إذن فالحق لم يخلق الخلق مرغمين على عمل الطاعة بل خلقهم مختارين في التكاليف، حتى ينالوا لذة اختيار منهج الله ولو أشركوا لحبط عملهم و﴿ لو ﴾ حرف امتناع لامتناع، وهذا دليل على أنهم لم يشركوا ولذلك لم يحبط عملهم، و ( الحبط ) هو الإبطال للعمل.
والكتاب هو المنهج، والحكم وهو ما أعطاه الله لبعضهم من السيطرة والغلبة، والنبوة ؛ أي أنه جعلهم نماذج سلوكية للبشر.
﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ وسبحانه وتعالى أعطانا نماذج من المهديين في الرسل، والأنبياء ؛ وفيمن اجتباهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ؛ فهؤلاء القوم الذين جئت لتأخذ بيدهم من الظلمات إلى النور، فإن امتنع بعض الناس عن الهداية فسيوكل الله قوما آخرين ليحملوا المناهج ليكونوا عنصر الخير الباقي إلى أن تقوم الساعة.
ومن القوم ؟ قال بعضهم المشار إليه هم قريش، والمقصود من قوله :﴿ فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ هم أهل المدينة أي الأنصار. أو المقصود من النص الكريم كل ممتنع وكافر وكذلك كل مقبل على الله وطائع له أي إن تكفر بها طائفة يوكل الله من يقوم بها ويدفع عنها ويحميها ؛ لأن الله لا ينزل قضية الخير في الخلق وبعد ذلك يطمسها بل لابد أن يبقيها كحجة على الخلق.
﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ﴾ وهذا يدل على أن أهل الخير دائما وكلاء عن الله ؛ لأن الذي يمد يده بالمعونة لضعيف من خلق الله ؛ هذا الضعيف قد استدعاه الله إلى الوجود، ومن يمد يده بالمعونة فقد جعل من نفسه وكيلا لربنا ؛ لأنه يقوم بالمطلوب له – سبحانه – وجعل من نفسه سببا له ؛ لأن الله رب الجميع، ومربي الجميع، وراعي الجميع، ورزاق الجميع. وليثق من يقوم بالخير ويجعل من نفسه وكيلا عن الله في أن يشيع الخير في خلق الله، ليثق أن الله سيكرمه أضعاف أضعاف ما أعطى.
﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ( ٩٠ ) ﴾.
و ( هدى الله ) هنا أيضا هو هداية دلالة، وهداية معونة ؛ بدليل أنه قال :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ والخطاب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن ( أولاء ) أي المشار إليهم هم المتقدمون، و ( الكاف ) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ وحين نقرأ هذا القول الكريم نقول ﴿ اقتد ﴾ ولا نقول ﴿ اقتده ﴾ ولا تنطبق الهاء إلا في الوقف ويسمونها ( هاء السكت )، لكن إذا جاءت في الوصل لا ينطبق بها، وكل واحد من هؤلاء الرسل السابق ذكرهم له خصلة تميز بها، وفيه قدر مشترك بين الجميع وهو إخلاص العبودية لله والإيمان بالله وأنه واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، وكلهم مشتركون في هذه الأصول، وتميز كل منهم بخصلة في الخير ؛ فسيدنا سليمان وداود أخذا القدرة والسلطان والملك، وأيوب أخذ القدرة في الصبر على البلاء، ويوسف أخذ القدرة في الصبر والتفوق في الحكم، وسيدنا يونس أخذ القدرة كضارع إلى الله وهو في بطن الحوت، وإسماعيل كان صادق الوعد.
والمطلوب إذن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون مقتديا بهم جميعا، أي أن يكون كسليمان وكداود وكإسحاق وكيعقوب وكأيوب وكيوسف وكيونس. وأن يأخذ خصلة التميز من كل واحد فيهم وأن يشترك معهم في القضية العامة وهي التوحيد لله. وبذلك يجتمع كل التميز الذي في جميع الأنبياء في سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرا من ربه فلابد أن نعتقد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد نفذ الأمر، وما دام أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد اجتمعت فيه مزايا الأنبياء فحق له أن يكون خاتم النبيين والمرسلين.
﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ﴾( من الآية ٩٠ سورة الأنعام )
ولماذا يطلب الأجر ؟ أنت لا تطلب أجرا ممن فعلت أمامه أو له عملا إلا إذا كان العمل الذي فعلته يعطيه منفعة تستحق أن تعطي وتمنح عليه أجرا، فكأن ما يؤديه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمة كان يستحق عليه أجرا، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ عن ربه : قل لهم : إنك نزلت عن هذا الأجر.
وقارنوا بين من يقدم لأي واحد منكم منفعة قد لا تأخذ من وقته نصف ساعة في جزئية من جزئيات الحياة، ومن يقوم بعمل ينفعكم في مدى يتعدى الدنيا إلى أن يصل إلى الآخرة ثم يقول : أنا لا أريد منكم أجرا.
وعدم طلب الأجر حصل من كل الرسل إلا رسولين اثنين ؛ فلم يرد في القرآن أن قالاها، وإذا ما جئت لسورة الشعراء مثلا تجد أن الحق تكلم عن موسى، وتكلم عن إبراهيم، ثم تكلم بعد ذلك عن بقية الرسل ولم تأت كلمة الأجر في قصة إبراهيم وكذلك في قصة موسى عليهما السلام لكن جاء ذكر الأجر في غيرهما، ويقول سبحانه :
﴿ إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ( ١٠٦ ) إني لكم رسول أمين ( ١٠٧ ) فاتقوا الله وأطيعون ( ١٠٨ ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( ١٠٩ ) ﴾( سورة الشعراء )
وقال جل شأنه :
﴿ إذ قال لهم شعيب ألا تتقون ( ١٧٧ ) إني لكم رسول أمين ( ١٧٨ ) فاتقوا الله وأطيعون ( ١٧٩ ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري على رب العالمين ( ١٨٠ ) ﴾( سورة الشعراء )
وعندما تستقرئ سورة الشعراء تجد الأنبياء كلهم، وتجد مع قول كل منهم ﴿ وما أسألكم عليه من أجر ﴾، إلا سيدنا موسى، وسيدنا إبراهيم، لماذا ؟ ونقول : إن من ينزل عن الأجر، هو من يقدم لهم منفعة.
وفي موسى عليه السلام نجد أنه قد وجهت وقدمت وسيقت له المنفعة من فرعون الذي قام بتربيته، كأنه قد أخذ الأجر مقدما، لذلك لم يقل موسى لفرعون ( لا أسألك أجرا، لأن القرآن جاء بقول فرعون :
﴿ قال ألم نربك فينا وليدا ﴾( من الآية ١٨ سورة الشعراء ).
وكذلك لم تأت مسألة الأجر في قصة سيدنا إبراهيم لأنه خاطب أباه آزر، ولم يكن من المقبول أن يقول له :( لا أسألك أجرا ). هكذا انطمست مسألة الأجر في قصة سيدنا إبراهيم وقصة سيدنا موسى، وبقيت فيما عداهما، مما يدل على أن القرآن موضوع بأدق تفاصيله بحكمة ؛ لأن من يتكلم هو ربنا. ويمتاز سيدنا رسول الله أيضا ويقول :( لا أسألكم أجرا ) إلا آية واحدة استثنى فيها هذا النفي :
﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾( من الآية ٢٣ سورة الشورى ).
والمودة هي فعل الخير الناشئ عن محبة قلب، أما فعل الخير الذي لا ينبع من محبة في القلب فهو فعل معروف ؛ لأن المعروف يضعه الإنسان مع من يحب ومن لا يحب. لذلك قال ربنا :
﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾( من الآية ١٥ سورة لقمان ).
المعروف – إذن – هو عمل امتداده خير سطحي. والرسول حين يطلب المودة في القربى فهل هي قرباه صلى الله عليه وآله وسلم أو المودة في قرباكم ؟ هي القربى على إطلاقها. وهي القربى أيضا للمتكلم وهو الرسول الذي يبلغ عن الله.
وإن صنفت على أنها ( إلا المودة في القربى ) أي القربى للمتكلم وهو سيدنا رسول الله لما استطعنا أن نوفيه أجرا. أم حين يتحمل كل واحد منا مجالا من الخير والمعروف في قومه، هنا تتلاحم دوائر الخير في الناس جميعا.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ إن هو إلا ذكرى للعالمين ﴾ وهي ما تعطينا اجتماع الدوائر ويصير كل واحد مهتما بأقاربه ويتنازع الناس ويتنافسون في مودة القربى، وكل منهم يحرص على أن يوسع دائرة القربى. هنا يعم الخير ويدوم الود
﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( ٩١ ) ﴾.
الكلام عن الذين رفضوا وتأبوا عن الإيمان بالله. فيأتي الأمر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن يوضح لهم بأنهم لم يطيعوا الله حق قدره، ومعنى القدر معرفة المقدار، وحق قدره سبحانه لا نقدر عليه نحن البشر، ولذلك نقدره على قدر طاقتنا أو على قدر ما طلب منا، وكما قال رسول الله :( سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )١.
والإنسان منا حين يثني على واحد فهذا دليل أنه قد قيم قدره بقيمة الثناء، وحين نقيم قدر الله فعلينا أن نعرف أن صفات الكمال كلها فيه وهي لا تتناهى ولا يمكن أن تحصى. ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى أنه تحمل عنا صيغة الثناء عليه : كي لا يوقعنا في حرج، فليس لبشر منن قدرة أن يحيط بجمال الله أو بجلاله حتى يثني عليه بما يستحقه، وإن أحاط عبد بذلك – ولن يحيط – فمن أين له العبارة التي تؤدي هذا الثناء ؟ ولا يوجد بليغ أو أديب يستطيع أن ينمق العبارات التي تكفي لتقدير هذا الثناء على الله، فأوضح لنا الحق من خلال رسوله : أنا حملت عنكم هذه المسألة حتى تكونوا كلكم سواسية، قال رسول الله :( سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ).
وفي كلمة ( الحمد لله ) وحدها يتساوى الناس جميعا. ومن رحمته سبحانه أن سوى بين الناس في معرفة صيغة الثناء عليه. ويأتي الحق هنا بالزاوية التي نفى فيها أنهم ما قدروا الله حق قدره. لماذا يا رب لم يقدروك حتى قدرك ؟ وتأتي الإجابة :
﴿ إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾( من الآية ٩١ سورة الأنعام ).
أي أنهم أنكروا أن يكون الله قد اختار من بعض خلقه من يجعلهم أهلا لتلقي منهجه لإبلاغه إلى خلقه. ويأتي الرد من الحق لرسوله ردا عليهم :
﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ﴾( من الآية ٩١ سورة الأنعام ).
إذن لابد أن يكون القائلون هذا يؤمنون بأن موسى نزل عليه كتاب لتكون الحجة في موضعها. وكفار مكة كانوا غير مؤمنين بأي رسول، لكنهم يعلمون أن هناك من هم من أهل الكتاب، بدليل أنهم قالوا :
﴿ لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ﴾( من الآية ١٥٧ سورة الأنعام )
ونقول : لو دققت النظر في السورة فقد ينطبق الأمر على واحد مخصوص من الذين غلبتهم الحجة. وفي تاريخ السيرة نجد واحدا من الأحبار كان دائب الخوض في الاسلام، وكان اسمه ( مالك بن الصيف ) فلقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والحبر هو عالم اليهود والمفترض فيه أن يكون من الزهاد فيهم منقطعا للعلم إلا أنه كان سمينا على الرغم من أن من عادة المنقطعين للعبادة وإلى العلم أنهم لا يأخذون من الزاد إلا ما يقيت، ويقيم الأود لأنه قد جاء في التوراة :( إن الله يبغض الحبر السمين ).
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن مالك بن الصيف – وهو من أحبار اليهود – يخوض كثيرا في الإسلام قال له : أفي توراتكم ( إن الله يبغض الحبر السمين ) فبهت الرجل، وقال :( ما أنزل الله على بشر من شيء ) يعني ما أنزل الله على بشر من شيء من الذي أنت تقوله، وهكذا نعلم أن مثل هذا القول قد يأتي من أهل الكتاب، وحين قال مالك هذه القولة قام عليه رجال من اليهود وقالوا له : كيف تقول :( ما أنزل الله على بشر من شيء ) فقال لهم : أغضبني محمد، فرددت على الغضب بباطل.
وهنا قال من سمعه من اليهود : إذن أنت لا تصلح أن تكون حبرا لأنك فضحتنا وعزلوه، وجاءوا بكعب بن الأشراف وولوه مكانه.
﴿ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾( من الآية ٩١ سورة الأنعام ).
الكتاب إذن هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى وهو التوراة وقد جعلوه قراطيس، أو جعلوه أوراقا منفصلة يظهرون منها ما يريدون، ويخفون منها ما لا يريدون مثلما فعلوا في مسألة الرجم كعقاب للزنا. إذن فقد سبق لهم كتمان ما أنزل الله عليهم، وبين الحق ذلك في آيات متعددة :
﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾( من الآية ١٤ سورة المائدة ).
والذي لم ينسوه كتموا بعضه وأظهروا بعضه، والذي لم يكتموه حرفوه ولووا به ألسنتهم، إذن فهناك نسيان، وكتمان، وتحريف. وليتهم اقتصروا على هذا ووقفوا عنده بل جاءوا بأشياء من عندهم وقالوا هي من عند الله :
﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ﴾( من الآية ٧٩ سورة البقرة ).
ويتابع الحق سبحانه :
﴿ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾( من الآية ٩١ سورة الأنعام ).
فإن كان الكلام في كفار مكة فقد جاءهم القرآن بما لم يعلموا لا هم ولا آباؤهم ؛ لأن الإسلام جاء على فترة من الرسل. وإن كان في أهل الكتاب فهو قول صدق ؛ لأنهم لما كتموا أشياء فضح القرآن ما كتموه وما حرفوه. وجاء القرآن فعدل لهم ؛ فكأنهم علموا الحق، لينسخوا به الباطل الذي غيروه وحرفوه، وقوله الحق :﴿ قل الله ﴾ أي أن الذي أنزل الكتاب هو الله.
وساعة يأتي الحق سبحانه وتعالى بصيغة الاستفهام نعلم أن الاستفهام الحقيقي بالنسبة لله محال، لأنه يعلم كل شيء، وإنما يجيء باستفهام يقال له :( الاستفهام الإنكاري ) أو ( الاستفهام التقريري ) وهو يأتي بهذه الصيغة لأنه يريد جوابا فيه الإقرار من المعاندين، فإن لم يقولوا واحتاروا أو خجلوا أن يقولوا فقل أنت لهم يا محمد :
﴿ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾( من الآية ٩١ سورة الأنعام )
و ( الخوض ) هو الدخول في الماء الكثير، الذي لا تستبين العين فيه موضع القدم، وربما نزل في هوة، ثم استعمل واستعير للخوض في الباطل.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ﴾ أي أن هذا لعب منهم ولن يستطيع الصمود أمام الدعوة، فالدعوة سائرة في طريقها، ولن يتمكنوا منها أبدا، فكل الذي يصنعونه هو خوض في باطل ولعب لا جدوى منه ولا صلة له بالجد. ولكن هل معنى هذا أن يتركهم محمد ؟ لا، لأنه حين يجد آذانا منهم ينبههم ويذكرهم، ثم بعد أن ينفخ الأمر للإسلام، فالذي يقيم في الجزيرة العرب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف ؛ لأن المعجزة جاءت مباشرة بقرآن يعلم الكل إعجازه، وسبحانه قد أنزل التوراة من قبل وأنزل القرآن مباركا.
﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون( ٩٢ ) ﴾.
وكلمة ( أنزلنا ) الأصل فيها نون وزاي ولام، وتستعمل بالنسبة للقرآن استعمالات متعددة ؛ فمرة يقول سبحانه :
﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ( ١ ) ﴾( سورة القدر )
مرة يقول عز وجل :
﴿ ونزلناه تنزيلا ﴾( من الآية ١٠٦ سورة الإسراء )
ومرة يسند النزول للقرآن :
﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ﴾( من الآية ١٠٥ سورة الإسراء )
ومرة يسنده إلى من جاء به :
﴿ نزل به الروح الأمين ( ٩٣ ) ﴾( سورة الشعراء ).
هذه إذن تعابير متعددة، وما دواعي هذا الاشتقاق ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ ليباشر القرآن مهمته في الوجود الجديد، وكان ينزل كل نجم من النجوم حسب الأحداث. و ( أنزل ) هنا للتعدية أي نقل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ليباشر مهمته، ولذلك يقول سبحانه :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾.
ونعلم أن القرآن نزل في ليلة القدر وفي غير ليلة القدر، ولكنه نزل في ليلة القدر جميعه إلى سماء الدنيا، ثم نزل منجما ومفصلا في بقية أيام الثلاث والعشرين سنة التي عاشها صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الوحي، فإذا ما أراد أنه أنزله من اللوح المحفوظ يأتي ب ( همزة التعدية ) وإذا أراد النزول والموالاة يقول :( نزل ) لأن فيها التتابع، وإذا نسبه لمن نزل به يأتي ب ( نزل ) لأن القرآن لم ينزل وحده بل نزل به الروح الأمين، إذن فكلها ملتقية في أن القرآن نزل أو أنزل، أو نزل. وكلم ( نزل ) تعطينا لمحة، وهو أنه جاء من الأعلى، ويستقبله الأدنى. وساعة يطلب الحق منا أن ننصت لإنزال حكم يقول لنا عز وجل :
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾( من الآية ١٥١ سورة الأنعام )
ومعنى ( تعالوا ) أي ارتفعوا ؛ لأننا نعيش على الأرض، وإياكم أن تشرع الأرض لكم ؛ لأن تشريع الأرض إذا لم يكن في ضوء منهج الله فهو حضيض. والله يريد تشريعا عاليا، ولابد لكم من أن تتلقوا من السماء أحكامكم ؛ حتى لا تتيهوا ولا تضلوا في باطل تشريعات لا تدور في إطار منهج الله.
والحق يقول هنا :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ﴾ وهو قول يصدق على القرآن فقط برغم أن كل الكتب السماوية السابقة كانت كتب منهج، وكانت المعجزة منفصلة عن المنهج ؛ فمعجزة موسى عليه السلام – كما نعرف – هي العصا، ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تميز بأن معجزته عين منهجه، لأن كل دين من الأديان السابقة كان لزمن محدود، في مكان محدود. وجاء صلى الله عليه وآله وسلم بالدين الجامع المانع، لذلك جاءت المعجزة هي المنهج، فلو أن معجزته صلى الله عليه وآله وسلم كانت من جنس معجزات السابقين ؛ أي كانت كونية مرئية لانتهت. ونحن لم نصدق معجزات الأنبياء السابقين إلا لأن القرآن قالها وصارت خبرا، كل منها تليق بالزمن المحدود والمكان المحدود. لكن الإسلام جاء ليعم كل الأزمنة وكل الأمكنة، ولذلك لزم أن تكون المعجزة مستصحبة للمنهج ؛ حتى يستطيع من يأتي بعد عصر النبوة إلى قيام الساعة أن يقول : محمد رسول الله تلك معجزته.
والقرآن مبارك، ونحن في أعرافنا حين نتكلم بالعامية نأتي بالكلمة التي هي من نفح ونضح الاستعمالات الفصيحة التي سمعناها، فنجد من يقول :( والله هذا الأكل فيه بركة ؛ فهو مصنوع لاثنين وأكل منه أربعة وفاض وزاد ). إذن، ( البركة ) أن يعطي الشيء أكبر من حجمه المنظور.
وبركة القرآن غالبة ومهيمنة، ولو قاس كل إنسان حجم القرآن بحجم الكتب الأخرى لوجد حجم القرآن أقل، ومع ذلك فيه من الخير والبر والبركات والتشريعات والمعجزات والأسرار ما تضيق به الكتب، ونجد من يؤلف ويفسر في أجزاء متعددة، ومع ذلك ما استطاع واحد أن يصل إلى حقيقة المراد من الله ؛ لأن القرآن لو جاء وأفرغ عطاءه في القرن الذي عاش فيه الرسول فقل لي بالله : كيف تستقبله القرون الأخرى ؟ ! إنه يكون استقبالا خاليا من العناية به لأنه سيكون كلاما مكررا.
إذن فقد بين فيه كل شيء ومنه أخذ كل إنسان وزمان قدر ذهنه، ولو أن القرآن يراد تفسيره لما فسره أحد غير من انفعل له نزولا عليه وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيستطيع واحد بعد ذلك أن يقول شيئا في التفسير ؟ ! إذن لو فسر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لجمده لأنه لا يجرؤ أحد أن يأتي بتفسير بعد الرسول.
وقد علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن عطاءات القرآن لا تتناهى، لذلك لم يفسره. بل أوضح بما تطيقه العقول المعاصرة حتى لا ينصرفوا عنه. ولو كان القرآن قال : إن الأرض كرة وتدور حول الشمس، أكان يصدقه أحد ؟ إن هناك حتى الآن من ينكر ذلك. ونجد القرآن يشير ويلمح إليها إلماحا خفيفا إلى أن تتسع العقول لها. فيقول الحق :
﴿ يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ﴾( من الآية ٥ سورة الزمر )
ومادام الليل يأتي وراء النهار، والنهار يأتي وراء الليل في شبه كرة ؛ فالذي يأتي عليه الليل والنهار شكل الكرة. فكأن كلا من الليل والنهار دائر وراء الآخر حول كرة، إذن فالحق يعطي اللمحة بميزان حتى تتسع العقول للفهم. ويقول القرآن :
﴿ قل لله المشرق والمغرب ﴾( من الآية ١٤٢ سورة البقرة )
وهذا قول واضح ؛ لأن كل واحد منا يعرف المشرق والمغرب. لكن حين يقول الحق :
﴿ رب المشرقين ورب المغربين ( ١٧ ) ﴾( سورة الرحمن ).
أكان يفهمها المعاصر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ نعم، لأنه ساعة ما يقول : إن الشمس أشرقت من المكان الفلاني، وغابت عن مكان آخر، فساعة شروقها عندك تغرب عندي، وساعة تغرب عندك تشرق عندي، وهكذا يصير كل مشرق معه مغرب، إذن فقد صدق قول الله ﴿ رب المشرقين ورب المغربين ﴾.
ونعلم أن الشمس لها مشرق كل يوم، ومن زار في الصعيد المعبد الذي توجد به ٣٦٥ طاقة – فتحة – وتطلع الشمس في كل يوم من طاقة معينة ولا تطلع من الطاقات الأخرى يتأكد من أن الشمس لها في كل يوم مشرق. إذن هناك مشارق ومغارب، وصدق الله قائل : رب المشارق والمغارب.
إن القرآن يخاطبنا بأسلوب يحتمله العقل المعاصر، وإذا ما جد جديد نجد الأمر مكنوزا في القرآن، نجد تأويلا جديدا لا ينسخ التأويل الآخر ولكنه يرتقي به.
إذن فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يشأ أن يفسر القرآن التفسير الكامل ؛ لأنه كان لابد أن يفسره بما تطيقه العقول المعاصرة له، وإن فسره بما تطيقه العقول المعاصرة له فمعنى ذلك أنه لن يعطي العقول التي تأتي بعد غذاء من القرآن ؛ لذلك ترك صلى الله عليه وآله وسلم القرآن دون تفسير إلا في النزر اليسير. وتجد ذلك في آيات الكون، أما في الأحكام فالأمر محدد.
لكن في الأشياء التي يتجدد فيها العلم فقد تركها. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام عن القرآن :( لا تنقضي عجائبه ) وكأنه يلفتنا إلى أن عجائبه لا تنقضي ولا تنتهي، وكل يوم يعطي عجائب جديدة. إذن فالقرآن مبارك بحكم ما هو مكنوز فيه إلى قيام الساعة. وأنت تلتفت إلى الناس فتجدهم يتعبون في اكتشاف أسرار الكون، وتجد القرآن قد مس ما يبحثون عنه مسا خفيفا.
﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾( من الآية ٩٢ سورة الأنعام ).
وساعة تقول :( بين يدي الشيء ) أي الشيء الذي يسبق، والكتب السابقة هي التي نزلت بين يدي القرآن أي قبله، والمقصود بها الكتب المعروفة المشهورة وهي التوراة والإنجيل إذ هما الكتابان الباقيان إلى الآن.
والقرآن يصدق الذي بين يديه ولا يعني ذلك تصديق المحرف بل تصديق ( الأصيل ). ولذلك نجد عبد الله بن سلام وغيره حينما جاءوا للإسلام اعترفوا بذلك، ويقول عبد الله بن سلام وغيره حينما جاءوا للإسلام اعترفوا بذلك، ويقول عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : انشرح صدري للإسلام، ولكني أعلم أن اليهود قوم بهت – أي أنهم مكابرون – فأنا أريد أن تسألهم عني قبل أن أسلم، فقال رسول الله لهم : ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا : حبرنا وابن حبرنا وشيخنا ورئيسنا....... الخ.
فقال الرجل : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. هنا بدأوا في كيل السباب لسيدنا عبد الله بن سلام فقال : ألم أقل لك يا رسول الله إنهم قوم بهت ؟.
وقوله الحق :﴿ مصدق الذي بين يديه ﴾ أي أنك إذا ما أردت أن تعرف صدق هذه القضية فهات ما لا حاجة لهم فيه إلى تكذيبه، وستجد القرآن قد جاء موافقا له. مثال ذلك حين جاء القرآن بالرجم. هم حاولوا أن يخففوا حكم الرجم ؛ لأن امرأة زنت وأرادوا أن يجاملوها. فرفعوا أمرها للنبي وقال بعضهم لبعض : إن حكم بعدم الرجم فهذا خير لنا ولها، ومن العجيب أنهم غير مؤمنين بمحمد بينما يريدون الحكم منه، فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام : هاتوا الكتاب، ويأتون بالصحف الموجودة عندهم، فوجدوا آية الرجم ؛ إذن فالقرآن مصدق الذي بين يديه من غير المكتوم، ولا المحرف، ولا المؤول.
وإذا ما نظرت على القضايا التي يلتفتون إليها، ولكنها تمر أمامهم خاطفة، تجد أنت هذه القضايا وسيلة يريد الله بها أن يكشف الفساد والكذب والتجبر، حتى لا يطمس أهل الباطل معالم الحق. مثل هذه القضايا تحتاج إلى المحقق اللبق. ونجده سبحانه جاء في التوراة بمثل للأمة المحمدية، ويكرر هذا المثل في القرآن حين يقول سبحانه :
﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾( من الآية ٢٩ سورة الفتح )
وحين ننظر إلى كلمة ( أشداء )، وكلمة ( رحماء )، نجد في ظاهر الأمر تناقضا في الطباع، أما المدقق المحقق فيعلم من هذا القول أن الإسلام لا يطبع المسلم على لون واحد ؛ لأنه يريد منه كل الألوان، فلو خلقه شديدا لفقدته مواطن الرحمة، ولو فطره وخلقه رحيما لفقدته مواطن الشدة. والإسلام يطلب من المسلم الالتزام بالقيم الروحية والمادية لتحرس كل منهما الأخرى ؛ لأن المسلمين لو راحوا للمادة فقط لصارت حضارتهم شراسة، ولو راحوا للقيم لما استطاعوا أن يقيموا حضارة تبقى وتدوم، والحق يريد حضارة تجمع بين الاثنين ؛ الروح والمادة، لذلك يجمع الإسلام بين الاثنين ؛ الروح والمادة ؛ لأن اليهود في فهمهم لها افتقدت الروح، والنصرانية في فهمهم لها غرقت في الروحانيات وافتقدت المادة، وجاء القرآن مصدقا لما بين يديه، هكذا جاءت الآية بالبلاغ عن أهل الكتاب.
ويتابع البلاغ لأهل قريش قاطني مكة فيقول :﴿ ولتنذر أم القرى ﴾، ونعرف أن أم القرى تعني مكة، وقد حاول البعض أن يتخذ من هذه الآية حجة ليقول : إن القرآن قد نزل لجماعة العرب فقط، ولهؤلاء نقول : أنتم لم تحسنوا الفهم لمعطيات اللفظ، ولنسأل : ما الحول أولا ؟ الحول هو المحيط الذي حول النقطة، أي نقطة وكل نقطة، وحول كل نقطة قطر وقد يكون القطر ٢٠ كيلومترا، وقد يكون مائة كيلومتر، وكلما بعدت المساحة فهي حول هذه النقطة، إذن فكلمة الحول تشمل كل ما حوله، وحول كل مكان يشمل كل مكان.
ولماذا سميت أم القرى ؟ ؛ إما لأن ( هاجر ) لما نزل
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ( ٩٣ ) ﴾.
ساعة يأتي الحق بأسلوب استفهامي فليس الهدف أن يستفهم. إنه سبحانه – لا يريد أن يأتي الخبر من عنده، وهو يقدر أن يقول : الذي يفتري ظالم، لكنه هنا يأتي بالاستفهام الذي يؤكد أنه لا يوجد أظلم من الذي يفتري على الله كذبا، ويعرض الله القضية على المؤمنين وكأنه يسأل ليعرض كل مؤمن القضية على ذهنه ويستنبط الجواب. إن الذي يفتري على زميله والمثيل له كذبا نوقع به العقاب، فما بالك بمن يفتري على الله ؟ وحين تسمع أنت هذا الكلام :﴿ من أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾. وتستعرض الأمر فلا تجد أظلم منه، وهكذا يستخرج الله الحكم من فم المقابل.
وكيف يفتري إنسان الكذب على الله ؟ كأن يبلغ الناس ويدعي ويقول : أنا نبي وهو ليس كذلك. هنا تكون الفردية على الله، وإياك أن تظن أنه يكذب على الناس، لا، إنه يكذب على الله ؛ لأنه أبلغ أن الله قد بعثه وهو لم يبعثه.
و( الافتراء ) : كذب معتمد مقصود، وينطبق ذلك على النبوات التي ادعيت ؛ من مثل مسيلمة الكذاب، سجاح، طليحة الأسدي، الأسود العنسي ؛ كل هؤلاء ادعوا النبوة، ومع ذلك لم يسألهم أحد عن معجزة الدالة على نبوتهم ؛ لأن كل واحد منهم عندما أعلن نبوته جاء بما يخفف عن الناس أحكام الدين.
فواحد قال : أنا أخفف الصلاة، والزكاة لا داعي لها. لذلك تبعهم كل من أراد أن يتخفف من أوامر الدين ونواهيه، هما نفسه بأنه متدين، دون أن يلتزم بالتزامات التدين، وهذا هو السبب في أن أصحاب النبوات الكاذبة، والادعاءات الباطلة يجدون لهم أنصارا من المنافقين ؛ فالواحد من هؤلاء الأتباع قد يكون مثقفا ثم يصدق نبيا دجالا، وتسأل التابع للدجال وتقول له : أسألت مدعي النبوة هذا ما معجزتك ؟ - وهذا أول شرط في النبوة – ولم نجد أحدا سأل هذا السؤال قط، لماذا ؟.
لأن التدين فطرة في النفس، لكن الذي يصعب التدين هو الالتزامات التي يفرضها التدين، وعندما يرى التابع الضعيف النفس أن هناك من يريحه من الالتزامات الدينية، ويفهمه أنه على دين، ويقلل الالتزامات عليه، لذلك يتبعه ضعاف النفوس، وتصبح المسألة فوضى.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه ﴾( من الآية ٩٣ سورة الأنعام ).
هناك من ادعى وقال : أنا نبي، وقال : سأنزل مثل هذا القرآن، فماذا قال هذا المدعي وهو ( النضير بن الحارث ) يقول – في أمة أذنها أذن بلاغية، تتأثر بموسيقى اللفظ- :( والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا ) ! ! ولماذا لم يأت بالمسألة من أولها ويقول : والزارعات زرعا والحارثات حرثا ) ثم يقول من ادعى أنه أوحى إليه :( والعاجنات عجنا والخابزات خبزا )، وكان عليه أن يتبعها أيضا :( والأكلات أكلا والهاضمات هضما ).
وطبعا كان هذا الكلام لونا من هراء فارغا ؛ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذبا لمعان لها قيمتها في الخبر، ولذلك نزل القول الحق :﴿ أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ﴾، وقد جاء واحد هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي وكان أخا لسيدنا عثمان من الرضاعة وكان كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقعد في حضرة النبي. فنزلت الآية :
﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( ١٢ ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( ١٣ ) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأنها خلقا آخر ﴾( سورة المؤمنون ).
وانبهر بالأطوار التي خلق فيها الحق الإنسان فقال :﴿ تبارك الله أحسن الخالقين ﴾. فقال له رسول الله : اكتبها فقد نزلت. واغتر الرجل وقال : إن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه ؛ وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال، فأهدر رسول الله دمه، وقال لصحابته : من رآه فليقتله. وفي عام الفتح جاء به عثمان رضي الله عنه، وقال : يا رسول الله، اعف عن عبد الله. فسكت رسول الله. قال عثمان رضي الله عنه : اعف عنه. فسكت رسول الله. وكررها ثالثا : اعف عنه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم.
وكان لسيدنا عثمان منزلة خاصة عند رسول الله، وأشار الرسول لسيدنا عثمان ابن عفان، فأخذ الرجل وانصرف، فلما انصرف قال الرسول لصحابته : ألم أقل لكم من رآه فليقله ؟ قال سيدنا عباد بن بشر : يا رسول الله لقد جعلت إليك بصري – أي وجهت عيني لك – لتشير علي بقتله، فقال رسول الله لعباد بن بشر :( ما ينبغي لرسول أن تكون له خائنة الأعين ) وأسلم ابن أبي سرج وحسن إسلامه.
ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، وما هي عقوبات هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب، ويحاولون التغرير بالناس مدعين أن الله أنزل عليهم وحيا ؟
يقول الحق سبحانه :
﴿ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ﴾( من الآية ٩٣ سورة الأنعام ).
وساعة تسمع ( لو ) هذه تعرف أنها شرطية، وأنت تقول – مثلا – لو جاءني فلان لأكرمته. وحين نقرأ القرآن نجد كثيرا من ( لو ) ليس جواب، لماذا ؟ لأن الإتيان بالجواب يعني حصر الجواب في دائرة منطوقة، فإن أردت الجواب الذي لا يمكن للفظ أن يحصر فأنت تتركه للسامع مثلما تجد شابا يلعب دور الفتوة في الحارة ويتعب سكانها، ثم وقع في أيدي الشرطة وأخذوه ليعاقبوه، فيقول واحد ممن رأوه من قبل وهو يرهق أهل الحارة : آه لو رأيتم الولد الفتوة وهو في يد الشرطة !
أين جواب الشرط هنا ؟ إنه لا يأتي ؛ لأنه يتسع لأمر عجيب يضيق الأسلوب عن أدائه.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا :﴿ ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت ﴾ لم يقل لي : ماذا ترى ؟ لأنك سترى عجبا لا يؤديه اللفظ. و( الغمرات ) هي الشدة التي لا يستطيع الإنسان منها فكاكا ولا تخلصا.
ويتابع الحق :﴿ والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ﴾ فهل هم ملائكة الموت الذين يقبضون الروح ؟ أو الكلام في ملائكة العذاب ؟ إنها تشمل النوعين : ملائكة قبض الروح وملائكة العذاب.
﴿ والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ﴾ كأن ملائكة قبض الروح تقول لهم : إن كنتم متأبين على الله في كثير من الأحكام لقد تأبيتم على الله إيمانا، وتأبيتم على الله أحكاما، وتأبيتم على الله في تصديق الرسول، فها هو ذا الحق قد أمرنا أن نقبض أرواحكم، فهل أنتم قادرون على التمرد على مرادات الحق ؟ إن كنتم كذلك فليظهر كل منكم مهارته في التأبي على قبض روحه، أو أن الملائكة يبالغون في النكاية بهم كأن نقول لواحد : اخنق نفسك وأخرج روحك بيدك أو : أخرجوا أنفسكم من العذاب الذي يحيق بكم.
و ( عذاب الهون ) هو العذاب المؤلم وفيه ذلة. وأساليب العذاب في القرآن متعددة، فيقول مرة :( من العذاب المهين ) أو وأعد لهم ( عذابا مهينا ) أو لهم ( عذاب أليم ) فمرة يكون العذاب مؤلما لكن لا ذلة فيه، ومرة يكون العذاب مؤلما وفيه ذلة. وكما أن النعمة فيها تعظيم فالنقمة فيها ذلة. وأضرب هذا المثل – ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه منزه عن أي تشبيه - : قد نجد حاكما يعتقل إنسانا ويأمر بأن يجلس المعتقل في قصر، فخم له حديقة، لكن حين يأتيه الطعام، يقول له الحارس : خذ تسمم، وفي ذلك إهانة كبيرة.
ولماذا يذيقهم الحق العذاب المهين ؟ تأتي الإجابة من الله :﴿ بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ﴾. وكأن يقول واحد : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء. وهم أيضا يستكبرون على الآيات التي يؤمن بها العقل الطبيعي، ويقول الحق :
﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾( من الآية ١٤ سورة النمل ).
﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ( ٩٤ ) ﴾.
وقوله الحق :﴿ ولقد جئتمونا فرادى ﴾ أي أن كلا منكم يأتي إلى الله فردا عما كان له في دنياه من مال أو ولد أو أتباع، جاء كل منهم لله وليس معه الأصنام التي أدعى أنها شركاء لله، واتخذهم شفعاء له. و( فرادى ) جمع ( فردان ) أو ( فريد ) مثل ( سكارى ) جمع ( سكران ) و( أساري ) جمع ( أسير )، إنهم يأتون إلى الله زمرا وجماعات، ولكن كل منهم جاء منفردا عما كان له في الدنيا من مال وأهل وولد وأتباع، بدليل أنه قال :﴿ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ﴾.
و ( خوله ) أي جعل له خدما من الأتباع ومن المريدين، ومن المقدر والمضيق عليهم في الرزق ومن العائشين في نعمته، جاء كل منهم منفردا عما له في الدنيا كما خلقكم الله أول مرة، أي كما دخلتم في الدنيا !
﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ﴾( من الآية ٩٤ سورة الأنعام ).
وقوله الحق :﴿ جئتمونا ﴾ أي كأن الإنسان الذي أذنب يكاد يقدم نفسه للعذاب معترفا أنه يستحق هذا العذاب إقرارا منه بالذنب، فكأن الإنسان يبلغ منه الحزن على ما فعله والتوبيخ لنفسه التي انصرفت عن الحق فيقول لنفسه : أنت تستحقين العذاب.
﴿ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم ﴾( من الآية ٩٤ سورة الأنعام ).
( البين ) هو ما يفصل أو ما يصل. فعندما نجد اثنين قاعدين وبينهما ( بين ) فهذا البين فاصل وواصل. فإن اعتبرته واصلا، أقول : تقطع هذا، أي وقع التقطع بينكما، وانفصمت الروابط بينكم وتشتت جمعكم، وإن كان البين فاصلا فقد وصلوا أنفسهم بالأصنام.
وماذا كانت صلة هؤلاء بالأصنام التي يشركونها في العبادة ؟ كانوا يقدمون لها القرابين، وغير ذلك. وهذه الأصنام وكل من جعلوه شريكا مع الله سيفر منهم يوم القيامة. وهكذا يتحقق قوله الحق :﴿ لقد تقطع بينكم ﴾.
ويواصل سبحانه :﴿ وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾، و( ضل ) أي تاه وغاب، ما كنتم عنهم فلا تجدونهم مصداقا لقوله الحق :
﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾( من الآية ١٦٦ سورة البقرة ).
﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون( ٩٥ ) ﴾.
بعد ما تكلم الحق عن التوحيد والنبوات، ومن كانوا يعاكسون ويعارضون ويناوئون تلك النبوات ويكذبونها وقالوا فيها الإفك أراد الله أن يلفت خلقه إلى ما أعده لهم استبقاء لحياتهم، وكيف سخر لهم كل الكون بما فيه... جمادا ونباتا وحيوانا، وكأنه سبحانه يوضح : إن كنت لا ترى أن الخالق يستحق عبادتك فانظر إلى ما أنعم عليك به من النعم، مادام العبد المخلوق له كل نعم الخالق الأعلى فلماذا لا يسمع كلمته سبحانه ؟ أيها المخلوق أنت تتربى على مائدة الرحمن وهو خالقك فانظر وتأمل واعرف.
﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ وساعة تسمع لفظ الجلالة : أي علم واجب الوجود وهو الله، فعليك أن تأخذ لفظ الجلالة بكل ما يدل عليه من صفات الجلال وصفات الجمال ما عرفته وما لم تعرفه ؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله وهو قيوم عليه، وهذا الخلق وتلك القيومية فعل يقتضي صفات متعددة تقتضي قدرة، وحكمة، وعلما واسعا ورحمة، وبسطا وقبضا وغير ذلك، وبدلا من أن يأتي لك بصفات القدرة، وصفات الجمال ويذكرها ويعددها لك يقول سبحانه عن نفسه :( الله ) ؛ لأنه الاسم الجامع لكل صفاته. ونحن نقول في بدء كل عمل : بسم الله، وفي ذلك إيجاز لما يحتاج إليه أي عمل، لأن أي عمل يحتاج إلى قدرة، فتقول : باسم القادر، ويحتاج إلى علم فتقول :( باسم العليم ) ويحتاج إلى حكمة فتقول :( باسم الحكيم ) ويحتاج عزة فتقول :( باسم العزيز ) وقد يحتاج إلى قهر عدوك لأنك قد تدخل معه في حرب فتقول :( باسم القاهر ) إذن كل عملا يحتاج إلى حشد من صفات الكمال والجلال يخدم الفعل، فبدلا من أن نقول باسم القادر وباسم العليم وباسم القابض، يوفر عليك سبحانه كل ذلك فتقول : بسم الله ؛ لأن اسم الجلالة وهو ( الله ) هو الجامع لكل صفات الكمال.
﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾، فالق أي شاقق، جاعل الحب والنوى كل منهما فلقتين. ( والحب ) ما لا نواة له مثل الشعير والقمح والأرز. وهناك ما له نوى مثل البلح والخوخ، وتجد في قلب النواة شيئا آخر. وهناك نوع آخر له بذور مثل البطيخ، وفي بذرة تجد فيها شيئا، فيوضح لك الحق سبحانه وتعالى : إن عظمتي تتجلى في أنني أخلق الحب وأخلق النوى، وهناك حبوب مفلوقة جاهزة، مثل حبة الفول مثلا وحبة العدس.
وأنت إذا ما نظرت إلى هذه العملية وجدت شيئا عجبا ! !
فحين تأتي لنواة البلح أو حبة الشعير، وتضعها في الأرض في بيئة استخراجها، وبقليل من الرطوبة، تجد الفلقتين قد خرج منهما نبتة تكاد النواة أن تنفلق ليخرج منوها الزبان الضعيف بين الفلقتين ويتكون ما يسمى بالجذير. وهكذا تجد سر الحياة يأتي من الفلقتين، إن نزعت هذا الجذير تنتهي الحياة. ولذلك وجدنا من يتعجب حين اقتحم أعشاش النمل ووجد في العش قطعا صغيرة مفتتة بيضاء بجانب العش، واكتشفوا أن هذه هي زبانات الحب الذي يدخله النمل للعش، فلو أن النمل أدخل الحبوب كاملة فقد تأتي لفحة من رطوبة فتكبر هذه الحبة، وتنمو وتصير شجرة تفتك بالعش، فمن الذي هدى النمل إلى أن تفعل هكذا ؟ إنه الله. ونجد النمل يفلق حبة نبات ( الكزبرة ) إلى أربع قطع لأنه لو قطعها إلى اثنتين قد تنبت، من الذي علمه ؟ إنه سبحانه :
﴿ الذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) ﴾( سورة الأعلى ).
والعجيب أنك حين ترى النبتة الضعيفة ساعة أن تخرج إلى الحياة وهي التي ستكون من بعد ذلك جذرا إنها هشة وضعيفة إن أمسكتها بيدك تسحقها، لكنها تخترق قلب الأرض الصلبة التي لو ضربتها بسكين لانكسرت السكين، لكن الجذير الضعيف يدخل في قلب الصخر والأرض، فأي قوة أعطته ذلك ؟ أي قوة تخرق له الأرض ؟ وهل الجذير هو الذي خرق الأرض أو خرقت له ؟ لقد خرق الحق الأرض للبذرة لتستخرج منها غذاء للزرع، إنها قدرة الحق سبحانه ﴿ فالق الحب ﴾ الذي ادخر في فلقتين اثنتين قوتا للنبات إذا مسته رطوبة تتغذى عليها الزريعة إلى أن تربي الجذور، ويستمد النبات غذاءه من الفلقتين إلى أن يثبت ويتمكن في الأرض ثم تتحول الفلقتان إلى ورقتين خضراوين.
ويتابع الحق سبحانه :﴿ يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ﴾ وحين تأمل العلماء هذا القول وأردوا أن يوضحوا لنا ما الحي ؟ وما الميت ؟ فات الجميع أن يعرفوا ما هي الحياة ؟ الحياة هي قيام الموجود بما يؤدي به مهمته، فحياة الإنسان فيها حركة وحس وجرى، ثم هناك حياة ثانية في الحيوان، وحياة ثالثة في النبات، وحياة ذات طابع مختلف في الجماد. مثلما علمونا في المدارس حين كان المدرس يمسك بقضيب ممغنط ليجذب برادة الحديد، حتى الحديد الصلب فيه لون معين من حياة. وكلنا رأينا في المدارس الأنبوبة الزجاجية التي وضعوا فيها برادة الحديد وكيف تتأثر بقضيب المغناطيس. وتعتدل وتصير في مستوى واحد، وهكذا نعرف أن الحياة هي الطاقة الموجودة في كل كائن ليؤدي مهمته حتى الأحجار تختلف فيها أشكال الحياة، فهناك حجر يأخذ شكل الرخام، وآخر يأخذ شكل المرمر، وكل لون من الأحجار له شكل من أشكال الحياة.
ونقرأ في القرآن :
﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾( من الآية ٤٢ سورة الأنفال )
وجاء الحق بمقابل الهلاك وهو الحياة ؛ فالهلاك ضد الحياة والحياة ضد الهلاك، ويقول سبحانه في آية أخرى :
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾( من الآية ٨٨ سورة القصص )
إذن ما دام كل شيء هالكا، فكل شيء فيه حياة، والخطأ أن تظن أن كل حياة تتشابه في الحس والحركة مع الإنسان، لا، إن الحياة في كل شيء بحسبه، إلى أن تقوم القيامة، فكل شيء حي له حياة تناسبه، وحين نسمع :
﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾( من الآية ٤٤ سورة الإسراء )
نقول : نعم كل من يسبح بحمده يقول قولا، وإياك أن تقول إنه تسبيح دلالة ؛ لأن بعضهم يقول : إن هذا تسبيح دلالة على الخالق، ونقول : لو أن الذي يقصده الله تسبيح دلالة على خالق لما قال :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾.
إذن : فلا أحد منا يفهم لغة التسبيح، وعرفنا من قبل حين سمع سليمان عليه السلام قول النملة وتبسم لها ضاحكا، كذلك ما سمعه من الهدهد، وكذلك تسخير الجبال لتسبح مع داود عليه السلام.
﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ( ٩٥ ) ﴾( سورة الأنعام )
إن كل كلمة لها دلالتها ومعناها. فكلمة العلم تدلنا على إحاطة علمه بكل شيء في الوجود، وكلمة الحكمة تدلنا على أن كل شيء منه يصدر عن حكمة. وكلمة الرزاق تدلنا على أن كل مرزوق في الوجود إنما أخذ من فيضه وخيره، وهكذا إلى ما لا نهاية لكماله من صفات ذاته. وكلمة ( الله ) تدل على كل صفات الجلال والجمال والكمال، فإذا قال :( الله ) فهذا الاسم : يشمل القادر، العالم، الحكيم، القدير، وكل صفات الحق ما علمت منها وما لم تعلم، مادامت ذاته سبحانه وتعالى متصفة بكل صفات الكمال، فالواجب أن يكون كل فعل يصدر عن ذاته المتصفة بالكمال له مطلق القدرة والجمال والكمال.
إذن فحين يقول الحق ذلك فإنما يلفتنا إلى أن كل شيء كائن في الوجود إنما هو من خلق الله، وأن له حياة تناسب مهمته ؛ فالإنسان له حياة تناسب مهمته. والحيوان له حياة تناسب مهمته. والنبات له حياة تناسب مهمته. والجماد له حياة تناسب مهمته. وإذا نظرت إلى الأشياء كلها بهذا المعنى وجدت أن كل موجود فيه حياة، ولكن الحياة الكاملة بكل مقوماته وجدت في الأعلى من المخلوقات وهو الإنسان، والله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان الحياة حسا وحركة، ثم أعطاه حياة أخرى هي التي تصعد حياة وتجعل لحياته قيمة ؛ لأن حياتنا التي نعيشها إنما يتمتع بها المؤمن والكافر، وقصارى ما فيها أن تعطيها الحس والحركة قدر عمرنا في الحياة، ولكن حياة الإيمان بما يبعثه الله لنا من منهج على يد الرسول. تعطينا حياة أوسع، وأخلد، وأرغد، وهذه هي الحياة الحقة، ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾( من الآية ٦٤ سورة العنكبوت )
وهذه هي الحياة الحقيقية وقول الحق :﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾ هو المقدمة الأولى للحياة، ثم تكلم عن الحياة وأنه يخرج حيا من ميت، وهو هنا قد خاطبنا على مقدار أوليات علمنا بالأشياء ؛ فالشيء إذا لم يكن له حس وحركة نعتبره ميتا لكن لو نظرت إلى الحقيقة لوجدت كل شيء في الوجود له حياة. ومصداق ذلك قوله جلت قدرته :﴿ وكل شيء هالك إلا وجهه ﴾.
وما دام كل شيء هالكا فكل شيء قبل أن يهلك كان فيه حياة.
والله سبحانه لقائل :
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ( ٢٦ ) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ( ٢٧ ) ﴾( آل عمران ).
ولماذا جاء في هذه الآية ب ( تخرج ) وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قوله :﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ ؟ إن الذين بحثوا هذا البحث نظروا سطحية في المقابلة الجزئية في الآية، هي :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ وقال :﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ ونسوا أنه سبحانه قال : إنه يخرج الحي من الميت ؛ لبيان أن الله فالق الحب والنوى ليخرج الحي من الميت أي أن الله فلق وشق الحب والنوى لأجل أن يخرج الحي من الميت.
ثم قال :﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾ هو مقابل لفالق فلا تأخذها مقابلة للجزئية في الآية ؛ ولأن الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث ؛ فالحق سبحانه وتعالى له صفة في ذاته، وصفة في متعلقات هذه الذات ؛ فهو سبحانه وتعالى رازق، قبل أن يكون له مخلوق يرزقه. هو رزاق، وبعد ما خلق من يرزقه هو رازق، لأنه هو الخالق، والخالق صفة للذات وإن لم يوجد المتعلق، وهو سبحانه المحيي قبل أن يوجد من يحييه ؛ لأن صفته في ذاته أن يحيي، ومميت قبل أن يميت من يريد أن يميته ؛ لأن الصفة موجودة في ذاته.
سبحانه فالق الحب والنوى أي قبل أن يوجد الحب والنوى الذي يفلقه، ومخرج الحي من الميت هو صفة ثابتة في ذاته قبل أن يوجد متعلقها. وله صفة – أيضا – بعد أن يوجد المتعلق، فإن أراد الصفة قبل أن يوجد المتعلق جاء بالاسم :( فالق ومخرج ). وإن كان يريد الصفة بعد أن توجد، يقول :( يخرج )، ( يخرج ).
ويذيل الحق الآية :﴿ ذلكم الله فأنى تؤفكون ﴾( من الآية ٩٥ سورة الأنعام ).
و( ذا ) اسم إشارة لما تقدم، وهو سبحانه فالق الحب والنوى ومن يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي وهو الله. والكاف في قوله :( ذلكم ) لمن يخاطبهم وهو نحن، أما اللام من ( ذلكم ) فهي للبعد والميم للجمع. فحين يريد الحق أن يخاطب رسوله، يقول :
﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾( من الآية ٢ سورة البقرة )
ولكنه يخاطبنا فيقول :( ذلكم ) إشارة إلى قول الحق سبحانه وتعالى : الله، وفالق، ومخرج، والخطاب لجمهرة المخاطبين بالقرآن. فإذا كان الله بهذه الصفات فكيف ينصرفون عن الإيمان به وتوحيده ؟ وذكر لنا أول مقوم من مقومات الحياة وهو النبات وهو ما نأكله، فإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الحب وخلق النوى ليخرج الحي من الميت وهو مخرج الميت من الحي فهو أولى بأن
﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ( ٩٦ ) ﴾.
وسبحانه يأتي بآية أخرى من الآيات المعجزة كما جاء بالآية الأولى في أنه هو الذي خلق لنا ما يقيم حياتنا.
﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ﴾. ومعنى ( فالق ) أي جعل الشيء شقين، وهما نعمتان متقابلتان لا تكفى واحدة عن الأخرى ؛ إذ لا بد أن يوجد إصباح أن يوجد الليل سكنا ؛ لأن الإصباح هو زمان وضوح الأشياء أمام رؤية العين ؛ لأننا نعلم أن الظلمة تجعل الإنسان يضطرب مع الأشياء، فإن كنت أقوى من هذه الأشياء حطمتها، وإن كانت أقوى منك حطمتك. إن السير في الظلمات التي لا يوجد فيها نور يهدي الإنسان إلى مرائيه قد يؤدي إلى خسارة الأشياء.
إننا في الصباح نعمل ونسعى في الأرض، ونملأ الدنيا حركة. فإذا ما أصابنا الكد والتعب والنصب من الحركة فالمنطق الطبيعي للكائن الحي أن يستريح ويهدأ ويسكن لا بحركته فقط ولكن بسكون كل شيء حوله ؛ لأنك إن كنت ساكنا ويأتي لك ضوء فهو يؤثر في تكوينك، ولذلك يقولون الآن : إن ( الأشعة ) التي يكتشفون بها الأسرار ما في داخل جسد الإنسان تترك آثارا.
إذن فالإشعاع الصادر من الشمس يمنعه عنك الله ليلا حتى يسترح الجسم من كل شيء، من كل حركة ناشئة فيه، ومن حركة وافدة عليه، وهكذا تكون نعمة سكون الليل وظلمته مثل نعمة الصباح، كلاهما تتمم الأخرى، ولذلك قلنا : إن الحق سبحانه وتعالى في أول السورة قدم الظلمات على النور :
﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾( من الآية ١ سورة الأنعام )
لأنك لا تستطيع أن تنتفع بحركتك في النور إلا إذا كنت نشيطا ومرتاحا أثناء الليل. فإن لم ترتح كنت مرهقا ولن تستطيع العمل بدقة في حركة النهار. إذن فالظلمة مقصودة في الوجود. ولذلك فالحضارة الراقية هي التي تنظم حياة الإنسان ليعمل نهارا ويستريح ليلا، حتى لا يستأنف عمله في الصباح مكدودا. ومن يزور ريف مصر هذه الأيام يفاجأ بأن أهل الريف قد سهروا طوال الليل مع أجهزة الترفيه، ويقومن إلى العمل في الصباح وهو مكدودون مرهقون.
ونقول : لنأخذ الحضارة من قمتها، ولا نأخذ الحضارة من أسفلها ؛ فحين تذهب إلى أوروبا تجد الناس تخلد وتسكن ليلا، ومن يسير في الشارع لا يسمع صوتا ولا يجد من يخرج من بيته، ولا تسمع صوت ميكروفون الشارع ؛ حتى ينال كل إنسان قسطه من الهدوء، ويختلف الأمر في بلادنا : فالشوارع تمتلئ بالضجيج، والمريض لا يستطيع أن يرتاح، ومن يذاكر لا يجد الهدوء اللازم، ومن يتعبد تخرجه الضوضاء من جو العبادة، ونجد من يصف ذلك أنه نقلة حضارة ! !
ونقول : لتأخذ كل نعمة من نعم الله على قدر معطياتها في الوجود النافع لك، وحين يأتي الليل عليك أن تطفئ المصباح حتى تهجع ولا تتشاغب فيك جزئياتك وتكوينك.
وسبحانه يقول :﴿ فالق الإصباح ﴾. و( فالق ) – كما قلنا – تعني شاقق، فهل الإصباح ينفلق ؟ وبماذا ؟ ونقول : إن ( فالق ) هي اسم فاعل مثلما نقول :( قاتل الضربة ) أي أن الضربة من يده قاتلة.
و﴿ فالق الإصباح ﴾ معناها أن الصباح ينفلق عن الظلمة ؛ لأن الظلمة متراكمة وحين يأتي الإصباح فكأنه فلق الظلمة وشقها ليخرج النور، وتعني ﴿ فالق الإصباح ﴾ أيضا أن الفلق واقع على الإصباح فيأتي من بعده الظلام، وهذه من دقة الأداء البياني في القرآن ؛ لأن الذي يتكلم إله.
وامرؤ القيس قال :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
والصبح والإصباح معناهما واحد.
هل الصبح من طلوع الشمس ؟ أو الصبح من ظهور الضوء قبل أن تشرق الشمس ؟ يأتي الإصباح أولا وهو النور الهادئ، ونجد أطباء العيون بعد إجراء جراحة ما لإنسان في عينيه يقومون بفك الأربطة التي تساعد الجرح على الالتئام، يفكونها بالتدريج حتى لا يخطف الضوء البصر فورا، ومن رحمة الله أن الخلق فترة الصبح بضوئها الهادئ قبل أن تطلع الشمس بضوئها كله دفعة واحدة. فكأن الصبح جاء ليفلق ظلمة الليل فلقا هادئا، ثم جاءت الشمس ففلقت الصبح.
إذن الإصباح فالق مرة لأنه شق الظلمة وفلقها ومفلوق مرة أخرى ؛ لأن الظلمة جاءت بعده. إذن فاسم الفاعل قد أدى مهمتين... المهمة الأولى : فالق الإصباح. أي دخل بضوء الشمس. وإن قلنا : إصباحه فالق، أي ظلمة الليل الأولى انفلقت. إذن فالإصباح فالق مرة، ومفلوق مرة أخرى. وسبحانه حين يقول :﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ﴾ يريد أن يعطي شقين اثنين ؛ لأنه هو في ذاته فالق الإصباح. فيأتي بالاسم ليعطي لها صفة الثبوت، ثم جاء ب ﴿ وجعل الليل سكنا ﴾ صفة الحدوث بعد وجود المتعلق. فإذا أراد الصفة اللازمة له قبل أن يوجد المتعلق يأتي الاسم. إن أراد الصفة بعد أن وجد المتعلق يأتي الفعل.
ولذلك نجد القرآن الكريم يصور الثبات في قوله الحق :
﴿ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ﴾( من الآية ١٨ سورة الكهف ).
الكلب هنا على هذه الصورة الثابتة، وحين يريد القرآن أن يأتي بالصفة التي تتغير، يأتي بالفعل :
﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ﴾( من الآية ٦٣ سورة الحج ).
وكان القياس أن يقول : فأصبحت الأرض مخضرة ؛ لأنه قال :( أنزل ) لكنه يأتي بالتجدد الذي يحدث ﴿ فتصبح الأرض مخضرة ﴾.
ويتابع الحق :﴿ والشمس والقمر حسبانا ﴾ ونحن نعرف الشمس والقمر وجاء بعد ذلك بكلمة ( حسبانا )، على وزن فعلان، وهذا ما يدل عادة على المبالغة مثلما تقول : فلان والعياذ بالله كفر كفرانا. ومثلما تدعو : غفر الله لك غفرانا. فحين تحب أن تبالغ تأتي بصيغة فعلان. وجاء القرآن بكلمة ﴿ حسبان ﴾ في موضعين اثنين فيما يتصل بالشمس والقمر جاء بها هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ﴿ والشمس والقمر حسبانا ﴾، وفي سورة الرحمن يقول الحق سبحانه :
﴿ والشمس والقمر بحسبان ( ٥ ) ﴾( سورة الرحمان ).
وما الفرق بين التعبيرين ؟ ﴿ حسبان ﴾ هنا تعني ان تحسب الأشياء، فنحن نحسب السنة بدورة الشمس ب ٣٦٥ يوما وربع اليوم وهي تمر بالبروج فيها خلال هذه المدة، والقمر يبدأ بروجه كل شهر في ثمانية وعشرين يوما وبعض اليوم، ونحن نحسب بالشمس اليوم، ونحسب بها والعام، ولكنا نحسب الشهر بالقمر، وأنت لا تقدر أن تحسب الشهر بالشمس، بل تحسب الشهر بالقمر لأنه يظهر صغيرا ثم يكبر ويكبر ويكبر. ولذلك يثبت رمضان عندنا بالقمر لا بالشمس. واليوم نثبته بالشمس.
وهكذا عرفنا أن الشمس والقمر يقومان ويعملان في حسابنا للأيام والشهور، والاثنان حسبان : الشمس لها حساب، والقمر له حساب وإذا ما نظرت إلى كلمة ( حسبان ) تفهم أن الشمس والقمر، كليهما مخلوق ليحسب به شيء آخر ؛ لأنهما خلقتا بحسبان، أي أنهما قد أريد بهما الحساب الدقيق، لأن الشمس مخلوقة بحساب، كذلك القمر.
وتعالى إلى الساعة التي نستعملها، ألا يوجد بها عقرب للساعات، وآخر للدقائق، وثالث للثواني ؟. هذا أقل ما قدرنا عليه، وإن كان من الممكن أننا نقسم الثانية إلى ألأجزاء مثلما علمنا في المساحات ؛ فهناك المتر، والسنتيمتر، والملليمتر، ثم بعد ذلك قلنا الميكروملليمتر. إذن، كلما نرتقي في التقدم العلمي نحسب الحساب الأدق. ولم تكن الشمس والقمر حسابا لنا نحسب بهما الأشياء إلا إذا كانت مخلوقة بحساب.
إنك حين تنظر إلى ساعتك تدرك قفزة عقرب الثواني ولكنك لا تدرك حركة عقرب الدقائق، وكذلك لا تدرك حركة عقرب الساعات، وكل من العقارب الثلاثة يدور ( بزمبلك ) وترس معين. إن اختلت الحركة في زمبلك أو ترس، ينعكس هذا الخلل على بقية العقارب، والثانية محسوبة على الدقيقة، والدقيقة محسوبة على الساعة.
وهكذا فإن لم تكن الساعة مصنوعة بهذا الحساب الدقيق فهي لن تعمل جيدا. هكذا لا نعتبر الساعة معيارا الحساب أزماننا إلا لأنها في ذاتها خلقت بحساب. والحق سبحانه يقول :﴿ الشمس والقمر بحسبان ﴾ أي لنحسب بهما لأنهما مخلوقتان بحسبان. أي بحساب دقيق، ولماذا لم يقل الحق سبحانه وجاء بحسبان هنا، وحسبان في آية سورة الرحمان ؟ ذلك لأن الأمر يقتضي مبالغة في الدقة، فهذا ليس مجرد حساب، لكنه حسبان.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ ذلك تقرير العزيز العليم ﴾، كلمة ( العزيز ) تفيد الغلبة والقهر فلا يستطيع أحد أن يعلو عليه ؛ فهذه الأجرام التي تراها أقوى منك ولا تتداولها يدك، إنها تؤدي لك مهمة بدون أن تقرب منها ؛ فأنت لا تقترب من الشمس لتضبطها، مثلما تفعل في الساعة التي اخترعها إنسان مثلك والشمس لها قوة قد أمدها الله خالقها بها ولاشيء في صنعته ولا في خلقه يتأبى عليه. فهذا هو تقدير العزيز عليها. وهو سبحانه يعطينا حيثيات الثقة في كونها حسبانا لنحسب عليها. فهو جل وعلا خالقها بتقدير عزيز لا يغلب، وهو عزيز يعلم علما مطلقا لانهاية له ولا حدود.
﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ( ٩٧ ) ﴾.
وبعد أن أوضح سبحانه أنه قد خلق الشمس والقمر بحسبان لتكون حسابا بتقدير منه، وهو العزيز العليم، إنه – سبحانه – يصف لنا مهمة النجوم فقال :﴿ لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾، والنجوم هي الأجرام اللامعة التي نراها في السماء لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر ؛ ومن رحمته بنا وعلمه أن بعض خلقه ستضطرهم حركة الحياة إلى الضرب في الأرض ؛ والسير ليلا في الأرض أو البحر مثل من يحرسون ويشيعون الأمن في الدنيا ولا يمكن أن يناموا بالليل. بل لا بد أن يسهروا لحراستنا، كل ذلك أراده الله بتقدير عزيز حكيم عليم، ولذلك ترك لنا النجوم ليهتدي بها هؤلاء الذين يسهرون أو يضربون في الأرض أو يمشون في البحر بسفنهم، وهم يحتاجون إلى ضوء قليل ليهديهم، ولذلك كان العرب يهتدون بالنجوم ؛ يقول الواحد منهم للآخر : اجعل النجم الفلاني أمام عينيك، وسر فوق الحي الفلاني. واجعل النجم الفلاني عن يسارك وامش تجد كذا، أو اجعل النجم الفلاني خلفك وامش تجد كذا.
إذن لو طمت الظلمة لمنعت الحركة بالليل، وهي حركة قد يضطر إليها الكائن الحي، فجعل الحق النجوم هداية لمن تجبرهم الحياة على الحركة في الليل.
وعلى ذلك فالنجوم ليست فقط للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر ؛ لأنه لو كان القصد منها أن نهتدي بها ظلمات البر والبحر، لكانت كلها متساوية في الأحجام، لكنا نرى نجما كبيرا، وآخر صغيرا، قد يكون النجم الصغير أكبر من الواقع من النجم الكبير لكنه يبعد عنا بمسافة أكبر، وعلى ذلك لا تقتصر الحكمة من النجوم على الهداية بها في الحركة الإنسان بر وبحرا، فليست هذه هي كل الحكمة، هذه هي الحكمة التي يدركها العقل الفطري أولا ؛ لذلك يأتي الحق في أمر النجوم بقول كريم آخر ليوضح لنا ألا تحصر الحكمة في الهداية بها ليلا وبرا وبحرا فيقول :﴿ وعلامات بالنجم هو يهتدون ﴾ فلم يقل – سبحانه – يهتدون في ظلمات البر والبحر. إذن – النجوم – لها مهمة أخرى، إنه جلت قدرته يقول :
﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم ( ٧٥ ) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( ٧٦ ) ﴾( سورة الواقعة )
وكل يتقدم العلم يبين لنا الحق أشياء كثيرة، فها هو ذا المذنب الذي يقولون عنه الكثير، وها هي ذي نجوم جديدة تكتشف تأكيدا لقول الحق :
﴿ والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون ( ٤٧ ) ﴾( سورة الذاريات ).
أي أنه سبحانه قد خلق عالما كبيرا. وأنت أيها الإنسان قد أخذت منه على قدر إدراكاتك وامتداداتك في النظر الطبيعي الذي لا تستخدم فيه آلة إبصار، وأخذت منه بالنظر المعان الذي تستخدم فيه التليسكوب والميكروسكوب، وغير ذلك من أقمار صناعية. لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ﴾ وبعض العلماء يقول : إن كل إنسان يوجد في الوجود له نجم، وترتبط حياته بهذا النجم، وحين يأفل النجم يأفل قرينه على الأرض، وهناك نجوم لامعة ندرك خفقانها، ونجوم أخرى غير لامعة وبعيدة عنا، ويقال إنها تخص أناسا لا يدري بهم أحد لقلة تأثيرهم بأعمالهم في الحياة. ويتقدم العلم كل يوم ويربط لنا أشياء بأشياء وكأن الحق يوضح : إنني خلقت لكم الأشياء مما قدرتم بعقولكم أن تصلوا إلى شيء من الحكمة فيها، ولكن لا تقولوا هذه منتهى الحكمة، بل وراءها حكم أعلى، فسبحانه هو الحكيم القادر، إنك قد تدرك جانبا يسيرا من حكم الله، ولكن عليك أن تعلم أن كمال الله غير متناه، ولا يزال في ملك الله ما لا نستطيع إدراك حكمته إلى أن ينهي الله الأرض ومن عليها.
ويقول الحق سبحانه في تذييل الآية :﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ﴾ والآية هي الشيء العجيب، وتطلق على آيات كونية :
﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ﴾( من الآية ٣٧ سورة فصلت )
وتطلق كلمة ( آية ) على الطائفة من القرآن التي لها فاصلة. إذن هناك آيات قرآنية، وآيات كونية، والآيات الكونية تعتبر مفسرة للآيات القرآنية ؛ فتفصيل الآيات في الكون ما نراه من تعددها أشكالا وألوانا وحكما وغايات. وتفصيل الآيات في القرآن هو ما ينبهنا إليه الحق في قرآنه وليلفت النظر إلى أن ذلك التفصيل في آيات الكون وذلك الخلق العجيب الحكيم الذي لا يمكن أن يكون إلا لإله قادر حكيم يستحق أن يكون إلها موحدا، ويستحق أن يكون إلها معبودا.
﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ( ٩٨ ) ﴾.
وقد تكلم سبحانه لنا – أولا – عن الآيات المحيطة بنا والتي بها قوام حياتنا من فلق الحب والنوى، وبعد ذلك تكلم عن الشمس والقمر، ثم تكلم عن النجوم، كل هذه آيات حولنا، ثم يتكلم عن شيء في ذواتنا ليكون الدليل أقوى، إنه – سبحانه – يأتي لك بالدليل في ذاتك وفي نفسك ؛ لأن هذا الدليل لا يحتاج منك إلى أن تمد عينيك إلى ما حولك، بل الدليل في ذاتك ونفسك، يقول سبحانك :
﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( ٢١ ) ﴾( سورة الذاريات ).
أي يكفي أن تجعل من نفسك عالما، هذا العالم موجود فيه كل ما يثبت قدرة الحق، وأحقيته بأن يكون إلها واحدا، وإلها معبودا.
﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ﴾ ينطبق على هذا القول أنه إخبار من الله، وأنه – أيضا – استقراء في الوجود، الذي نسميه التنازل للماضي ؛ لأنك لو نظرت إلى عدد العالم في هذا القرن، ثم نظرت إلى عدد العالم في القرن الذي مضى تجده نصف هذا العدد، وإذا نظرت إليه في القرن الذي قبله، تجده ربع تعداد السكان الحاليين. وكلما توغلت في الزمن الماضي وتذهب فيه وتبعد، يقل العدد ويتناهى إلى أن نصل إلى ( نفس واحدة )، وهذا ما ذكره الله لنا، ولقائل أن يقول : كيف تكون نفسا واحدة وهو القائل.
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾( سورة الذاريات )
ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى خلق النفس الواحدة، وأوضح أيضا أنه خلق من النفس الواحدة زوجها، ثم بدأ التكاثر. إذن فالاستقراء الإحصائي في الزمن الماضي يدل على صدق القضية. وكذلك كل شيء متكاثر في الوجود من نبات ومن حيوان. تجدها تواصل التكاثر وإن رجعت بالإحصاء إلى الماضي تجد أن الأعداد تقل وتقل إلى أن تنتهي إلى أصل منه التكاثر إنه يحتاج إلى اثنين :
﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها ﴾( من الآية ٣٦ سورة يس )
ولماذا جاء الحق هنا بقوله :﴿ من نفس واحدة ﴾ ولم يقل زوجين ؟ أوضح العلماء أن ذلك دليل على الالتحام الشديد ؛ لأننا حين نكون من نفس واحدة فكلما – كل خلق – فيها أبعاض من النفس الواحدة، وقلنا من قبل : إننا لو أتينا بسنتيمتر مكعب من مادة ملونة حمراء مثلا ثم وضعناها في قارورة، ثم رججنا القارورة نجد أن السنتيمتر المكعب من المادة الحمراء قد ساح في القارورة وصار في كل قطرة من القارورة جزء من المادة الملونة، وهب أننا أخذنا القارورة ووضعناها في برميل، ثم رججنا البرميل جيدا سنجد أيضا أن في كل قطرة من البرميل جزءا من المادة الملونة، فإذا أخذنا البراميل ورميناه في البحر فستنساب المادة الملونة ليصير في كل قطرة من البحر ذرة متناهية من المادة الملونة.
إذن مادام آدم هو الأصل، ومادمنا ناشئين من آدم، ومادام الحق قد أخذ حواء من آدم الحي فصارت حية، إذن فحياتها موصولة بآدم وفيها من آدم، وخرج من آدم وحواء أولاد فيهم جزء حي، وبذلك يردنا الحق سبحانه إلى أصل واحد ؛ ليثير ويحرك فينا أصول الترحم والتواد. والتعاطف.
ويقول سبحانه :﴿ فمستقر ومستودع ﴾ والمستقر له معان متعددة يشرحنا الحق سبحانه وتعالى في قرآنه. وفي قصة عرش بلقيس نجد سيدنا سليمان يقول :
﴿ أيكم يأتيني بعرشها ﴾( من الآية ٣٨ سورة النمل )
وأجاب على سيدنا سليمان عفريت من الجن، وكذلك أجاب من عنده علم من الكتاب. ويقول الحق سبحانه :
﴿ فلما رآه مستقرا عنده ﴾( من الآية ٤٠ سورة النمل )
مستقر هنا إذن تعني حاضرا ؛ لأن العرش لم يكن موجودا بالمجلس بل أحضر إليه. وفي مسألة الرؤية التي شاءها الحق لسيدنا موسى عليه السلام :
﴿ قال رب أرني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾( من الآية ١٤٣ سورة الأعراف )
ونعلم أن الجبل كان له استقرار قبل الكلام، إذن ف ( استقر ) تأتي بمعنى حضر، وتأتي مرة أخر بمعنى ثبت.
والحق يقول :
﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾( من الآية ٢٤ سورة الأعراف )
وذلك بلاغ عن مدة وجودنا في الدنيا، وكذلك يقول الحق :
﴿ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ﴾( من الآية ٢٤ سورة الفرقان )
إذن فالجنة أيضا مستقر، وكذلك النار مستقر للكافرين، ويقول عنها الحق :
﴿ إنها ساءت مستقرا ومقاما( ٦٦ ) ﴾( سورة الفرقان )
إذن فمستقر تأتي بمعنى حاضر، أو ثابت، أو كتعبير عن مدة وزمن الحياة في الدنيا، والجنة أيضا مستقر، وكذلك النار. ولذلك اختلف العلماء ونظر كل واحد منهم إلى معنى، منهم من يقول :( مستقر ) في الأصلاب ثم استودعنا الحق في الأرحام. ومنهم من رأى أن ( يستقر ) مقصود به البقاء في الدنيا ثم نستودع في القبور.
ونقول : إن الاستقرار أساسه ( قرار ) حضور أو ثبات، وكل شيء بحسبه، وفيه استقرار يتلوه استقرار يتلوه استقرار إلى أن يوجد الاستقرار الأخير، وهو ما يطمع في المؤمنون.
وهذا هو الاستقرار الذي ليس من بعده حركة، أما الاستقرار الأول في الحياة فقد يكون فيه تغير من حال إلى حال، لقد كنا مستقرين في الأصلاب، ثم بعد ذلك استودعنا الحق في الأرحام، وكنا مستقرين في الدنيا ثم استودعنا. في القبور. حتى نستقر في الآخر. إن كل عالم من العلماء أخذ معنى من هذه المعاني. والشاعر يقول :
وما المال والأهلون إلا ودائع
ولابد يوما أن ترد الودائع
ونلحظ أن هناك كلمة ( مستقر ) وكلمة ( مستودع )، و( مستودع ) هو شيء أوقع غيره عليه أن يودع. لكن ( مستقر ) دليل على أن المسألة ليست خاضعة لإرادة الإنسان. فكل واحد منا ( مستقر ) به.
ويقول الحق :﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ﴾ والتفصيل يعني أنه جاء بالآيات مرة مفصلة ومرة مجملة ؛ لأن الأفهام مختلفة، وظروف الاستقبال للمعاني مختلفة، فتفصيل الآيات أريد به أن يصادف كل تفصيل حالة من حالات النفس البشرية ؛ لذلك لم يترك الحق لأحد مجالا في ألا يفقه، ولم يترك لأحد مجالا في ألا يتعلم، ونلحظ أ ن تذييل الآيتين المتتابعتين مختلف ؛ فهناك يقول سبحانه :
﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ﴾( من الآية ٩٧ سورة الأنعام )
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ﴾( من الآية ٩٨ سورة الأنعام )
و( الفقه ) هو أن تفهم، أي أن يكون عندك ملكة فهم تفهم بها ما يقال لك علما، فالفهم أول مرحلة والعلم مرحلة تالية.
وأراد الحق بالتفصيل الأول في قوله :﴿ لقوم يعلمون ﴾ الدعوة للنظر في آيات خارجة عن ذات الإنسان، هنا أي في قوله سبحانه :﴿ لقوم يفقهون ﴾ لفت للنظر والتدبر في آيات داخلة في ذات الإنسان.
﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ( ٩٩ ) ﴾.
كان السياق يقتضي أن يقول سبحانه : أنزل من السماء ماء ( فأخرج ).
لكنه هنا قال :( فأخرجنا ) ؛ لأن كل شيء لا يوجد لله فيه شبهة شريك ؛ فهو من علمه فقط، ولا يقولن أحد إنه أنزل المطر وأخرج النبات لأن الأرض أرض الله المخلوقة له والبذور خلقها الله، والإنسان يفكر بعقل خلقه الله وبالطاقة المخلوقة له. وأنت حين تنسب الحاجات كلها إلى صانعها الأول، فهو إذن الذي فعل، لكنه احترم تعبك، وهو يوضح لك : حين قال :( فأخرجنا ) أي أنا وأسبابي التي منحتها لك، أنا خلقت الأسباب، والأسباب عملت معك. فإذا نظرت إلى مسبب الأسباب فهو الفاعل لكل شيء. وإن نظرت إلى ظاهرية التجمع والحركة فالأسباب التي باشرها الإنسان موجودة ؛ لذلك يقول :﴿ فأخرجنا ﴾.
وسبحانه جل وعلا قد يتكلم في بعض المواقف فيثبت للإنسان عملا لأنه قام بأسباب الله الممنوحة له، ولكنه ينفي عنه عملا آخر ليس له فيه دخل بأي صورة من الصور ؛ مثل قوله الحق :
﴿ أفرأيتم ما تحرثون ( ٦٣ ) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( ٦٤ ) ﴾( سورة الواقعة ).
سبحانه هنا ينسب لنا الحرث لأننا قمنا به ولكن بأسباب منه – سبحانه – فهو الذي أنزل لنا الحديد الذي صنعنا منه المحراث وهدانا إلى تشكيله بعد أن ألا لنا بالنار التي خلقها لنا، وبالطاقة التي أعطانا إياها، أما الزراعة فليس لأحد منا فيها عمل ولذلك يقول سبحانه :
﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ( ٦٥ ) ﴾( من الآية ٦٥ سورة الواقعة ).
هنا – سبحانه – أتى باللام في قوله تعالى :﴿ لجعلناه ﴾ للتأكيد ؛ لأن الإنسان له في هذا الأمر عمل، إنه حرث وتعهد ما زرعه بالري والكد حتى نما وأثمر، لكن قد تصيبه آفة تقضي عليه، فالأسباب وإن كانت قد عملت إلا أنها لا تضمن الانتفاع بثمرة الزرع، ذلك لأن الأسباب لا تتمرد، ولا تتأبى على الله ولا تخرج عليه، إنها تؤدي ما يريده منها الله، وقد يعطلها سبحانه. أما في قوله تعالى :﴿ أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا ﴾، إنه سبحانه لم يقل لجعلناه، لأنه ليس لأحد فيه عمل لذلك لم يؤكده باللام.
ويقول سبحانه :
﴿ أفرأيتم النار التي تورون ( ٧١ ) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ( ٧٢ ) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ( ٧٣ ) ﴾( سورة الواقعة ).
إن كل شيء يذكره الحق يذكر معه أيضا ما ينقضه، ذلك حتى لا يفتن الإنسان بوجود الأشياء، وعليه أن يستقبل الأشياء مع إمكان إعدامها. وإذا ما كان الإنسان هو الذي يحرث فالحق بطلاقة قدرته قد جعل النبات حطاما، ومن قبل قال عن مقومات الحياة :
﴿ أفرأيتم ما تمنون ( ٥٨ ) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ( ٥٩ ) ﴾( سورة الواقعة ).
ثم جاء سبحانه بما ينقضه فقال :﴿ نحن قدرنا بينكم الموت ﴾. أما عن النار فلم يقل – سبحانه – إنه يقضي عليها ويخمدها ويطفئها، إنه – جل شأنه – أبقاها ليعلمنا ويذكرنا بنار الآخرة ﴿ نحن جعلناه تذكرة ﴾ أي لا بد أن نتركها أمامكم حتى لا يغيب عنكم العذاب الأخروي ﴿ ومتاعا للمقوين ﴾ أي ونتركها – دون نقض لها وذلك لأمر آخر هو المنفعة في الدنيا للذين ينزلون أماكن خالية قفراء أو للذين خلت بطونهم وأوعيتهم ومزاودهم من الطعام لأن النار تنفعهم وتساعدهم على إعداد طعامهم استبقاء لحياتهم :
﴿ فأخرجنا به نبات كل شيء ﴾( من الآية ٩٩ سورة الأنعام )
والشيء هو ما يخبر عنه ؛ الهباءة شيء، والذرة شيء وكل حاجة اسمها شيء، ومعنى نبات كل شيء : أن كل حاجة مثل النبات تماما. رأينا الحجارة التي يقول عنها العلماء هذه جرانيت، وتلك رخام وتلك مرمر، ولو نظرت إلى أصلها وجدتها أعمارا للحجارة، طال عمر حجر ما فصارا فحما، وطال عمر آخر فصار جرانيتا، وهكذا. كل حاجة لها حياة لتثبت لنا القضية الأولى، وهي :
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾( من الآية ٨٨ سورة القصص ).
أو نبات كل شيء ترون فيه نموا وحياة، والعقل الفطري يأخذها هكذا لكن العقل المستوعب يأخذ منها قضايا كثيرة، ويتغلغل في الكون ويجد الآية سابحة معه وهو سابح معها.
ويتابع سبحانه :﴿ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ﴾ وإذا قلت كلمة ( خضر ) فقد تعني اللون المعروف لنا وهو الأخضر، لكن ( خضر ) فيها وصف زائد قليلا عن أخضر ؛ لأن ( أخضر ) يخبر عن لون فقط، واللون متعلقه العين، لكن ( خضر ) يعطي اللون، ويعطي الغضاضة ونعرفها ( بالجس ). وحين تلمسه تجد النعومة.
إذن ( خضر ) فيها أشياء كثيرة، ( لون ) متعلق العين، و( غضاضة ) نعرفها بالجس وفيها نعومة نعرفها باللمس. وهذا اللون الأخضر يكون داكنا جدا أي أن خضرته شديدة حتى إنها تضرب إلى السواد ؛ لذلك نسمع من يقول :( سواد العراق ) أي الأرض الخصبة التي في العراق، ويسمونها سواد العراق لأنها خضراء خضرة شديدة ولذلك تكون مائلة إلى السواد، ويقول الحق سبحانه :
﴿ ومن دونهما جنتان ( ٦٢ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٦٣ ) مدهامتان ( ٦٤ ) ﴾( سورة الرحمان ).
و ( مدهامة ) أي مثل دهمة الليل ؛ كأنها من شدة خضرتها صارت كدهمة الليل. ويتابع الحق ﴿ خضرا نخرج منه حبا متراكما ﴾ والحب هو ما ليس له نواه مثل حبة الشعير وحبة القمح وحبة العدس وحبة اللوبيا. و( متراكبا ) تعني أنه حب مرصوص متساند.
﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾ والنخل عند العرب له مكانة عالية لأنه يعطي لهم الغذاء الدائم فيذكرهم به ﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية ﴾.
و( الطلع ) هو أول شيء يبدو من ثمر النخل، وهو ما نسميه في الريف ( الكوز الأخضر ) وهو في الذكر من النخل الذي يسمى ( الفحل ) ويوجد أيضا في الأنثى، وأول ما يبدو من ثمر النخل يسمى الطلع، ثم ينشق الطلع ويخرج منه القنو أو العزق أو العرجون، وهو الجزء الذي توجد فيه الشماريخ التي يتعلق بها البلح.
والطلع إذن هو الثمرة الأولى للنخلة قبل أن تنشق ويطلع منها القنوان وهو ( السباطة ) كما نسميها في الريف.
﴿ قنوان دانية ﴾ ويصفها الحق بأنها دانية لأنك حين تنظر طلع النخل أول ما يطلع تجده ينشق ويحمي نفسه بشوك الجريد حتى لا تأكله الحشرات ثم يثقل وينحني ويكاد ينزل على الأرض فيكون دانيا قريبا، فإن كانت هناك ( سباطة ) شاذة تجد من يجنيها يدخل يده بين الشوك ليصل إليها. وسبحانه يترك لنا فلتات لنعرف نعمة الله في أنه جعلها تتدلى لأنها لو كانت كلها دانية. قد لا يلتفت إليها، لذلك يترك واحدة بين الشوك ليتعب الإنسان حتى يحصل عليها لتعرف أنه سبحانه قد دنى لك الباقي وهذه نعمة من الله.
ويطلق الطلع مرة على الأكمام و( الكم ) هو ما توجد في قلبه الثمار ؛ ومرة يطلق على الثمر نفسه :
﴿ والنخل باسقات لها طلع نضيد ( ١٠ ) ﴾( سورة ق ).
وأنت ترى البلح نازلا من ( الشماريخ )، وكل شمروخ به عدد من البلح، ثم ترى ( الشمروخ ) متصلا بالأم، وفي ذلك ترى عظمة الهندسة العجيبة في ترتيب الثمار. وكل شيء محسوب في هذا الأمر بهندسة عجيبة وعندما ننظر إلى ما تعلمناه في حياتنا حين نصمم شبكة توصيل المياه وشبكة الصرف الصحي، وإن شبكة المياه التي تعطينا الماء الذي نستخدمه، وشبكة الصرف الصحي التي تأخذ الزائد من المياه والفضلات. عندما تنظر إلى هذه الشبكة أو تلك تجد هندسة كل منها دقيقة ؛ لأن أي غفلة في التصميم تسبب المتاعب. فحين تريد توصيل المياه إلى حارة ؛ فأنت تستخدم ماسورة قطرها كذا بوصة، وفي الحارة هناك عطفات فتحضر لكل عطفة ماسورة أقل قطرا من الأولى، ثم ماسورة أقل للبيوت، وماسورة أقل بكثير لكل شقة، لقد قام المهندسون بحساب دقيق لهذه المسائل.
فإذا كانت هذه هي هندسة البشر، فما بالنا بهندسة الخالق ؟ أنت تجد العزق : وهو حامل الرطب يأخذ من النخلة، وكل نخلة فيها كذا ( سباطة ) وفي كل ( سباطة ) هناك ( الشماريخ )، ثم هناك البلح وكل بلحة تأخذ شعرة لغذائها. وهكذا نجد كل شيء محسوبا بدقة بالغة. إنها هندسة كونية عجيبة مصنوعة بقول الحق : كن، وصدق الله قائل :
﴿ والذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) ﴾( سورة الأعلى ).
﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء ﴾ وكلمة ﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء ﴾ لم نكن نعرف ما وراءها، كنا نعرف فقط أن السماء هي كل ما علاك فأظللك، والماء يأتي من السحاب، وكلنا نرى السماء تمطر. وكلنا نعرف التعبير الفطري الذي يقول : غامت السماء، ثم أمطرت، وهناك من قال : تضحك الأرض من بكاء السماء لأنها تستقبل الماء الذي يروي ما بها من بذور. لكن ما وراء عملية الإنزال هذه ؟
إن هناك عملية أخرى تحدث في الكون دون شعور منا، عرفناها فقط حين تقدم العلم وحين قمنا بتقطير المياه، فأحضرنا موقدا ووضعنا فوقه قارورة ماء، وحين وصل إلى نقطة الغليان خرج البخار، وسار البخار في الأنابيب ومرت الأنابيب في أوساط باردة فتكثفت المياه ونزلت ماء مقطرا، ومثل ذلك يحدث في المطر، وانظر كم يكلفنا كوب واحد من الماء المقطر الذي نشتريه من الصيدلية ؟ وقارن ذلك بالسماء التي تنزل بماء منهمر، ولا ندرى كيف صنع. ولذلك يقول الحق :
﴿ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ( ٦٩ ) ﴾( سورة الواقعة )
هكذا ينزل الماء من السماء، ولم نكن نعرف كيف يحدث ذلك وسبحانه يقول هنا :
﴿ ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ﴾( من الآية ٩٩ سورة الأنعام )
وحين يقول سبحانه ﴿ متشبها وغير متشابه ﴾ نصدق، مثال حبة الخوخ، هناك حبة من نوع نسميه ( الخوخ السلطاني )، حين تمسك بالثمرة الواحدة تنفلق لتخرج البذرة نظيفة، وحبة أخرى نفلقها نحن فتجد البذرة فيها بعض لحم الفاكهة ونجد فيها أيضا بعضا من الألياف. وهذه لها لون والأخرى لها لون، هذه لها طعم وتلك لها طعم مختلف.
﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾( من الآية ٤ سورة الرعد )
هذا ليعرف الإنسان أن طلاقة القدرة تحقق ما يريد الخالق، وبعد ذلك تلتفت فتجد الفضائل، فهذا برتقال منه بسرة، ومنه برتقال بلدي. وبرتقال بدمه ثم اليوسفي. ولذلك سنجد في الجنة ما يحدثنا عنه سبحانه فيقول :
﴿ كلما رزقوا منها ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ﴾( من الآية ٢٥ سورة البقرة ).
وحين يأكل منه ساكن الجنة يكتشف أن لفاكهة الجنة طعما مختلفا. ومن طلاقة القدرة أنه بعد التحليلات التي قام بها العلماء المعمليون – جزاهم الله عنا خيرا – ل ( حبة العنب ) وجدوا أن القشرة التي تغلفها لها طبيعة ( البارد ) و ( اليابس )، واللحم لحبة العنب طبيعته مختلفة ( حار رطب ) ثم البذرة ( بارد يابس )، وهذه ثلاث طبائع في الحبة الواحدة، وهذا شيء عجيب التكوين. وكذلك ( الأترجة ) وهي فاكهة كالنارنج تجد القشرة ( حارة يابسة )، واللحم فيها ( بارد رطب )، والسائل الذي في اللحم ( بارد يابس ) والبذرة ( حار يابس )، طبائع أربعة في الشيء الواحد، كيف ؟ وبأية قدرة ؟.
إن العلماء قد تعبوا حتى عرفوا تكوينها ليظهروا لنا المسألة، وتلتفت لتجد ثمرة تأكل ظاهرها، وباطنه
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ( ١٠٠ ) ﴾.
ومادة الجن هي ( الجيم ) و ( النون ) وكلها تدل على الستر والتغطية والتغليف، ومنها الجنون، لأن العقل في هذه الحالة يكون مستورا، ونحن لا نرى الجن، فهم مستورون، والملائكة كذلك، والمادة كلها مادة ( الجيم ) و ( النون ) تدل على اللف والتغطية.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ و ( الجن ) هو الخفي من كل شيء، والجن – كما تعلمون – هم خلق من خلق الله فسبحانه خلق الإنس وخلق الجن، خلق الجن مستورا حتى لا نعتقد أن خلق الله لحي كائن، يجب أن يتمثل في هذا القالب المادي، بل سبحانه يخلق ما شاء كما شاء، فيخلق أشياء مستورة لا ترى، ولها حياة، ولها تناسل، ويخلق أشياء مستورة، ولا تناسل لها : كل ذلك بطلاقة قدرة الحق سبحانه، ليقرب لنا هذه القضية ؛ لأن عقولنا قد تقف في بعض الأشياء التي لا تدرك ولا ترى ؛ لأننا لا نعلم وجودا لشيء إلا إذا أحسسناه.
إن الحق سبحانه يوضح ذلك : فإياك أن تظن أنك تستطيع أن تدرك كل ما خلقه الله، فليس حسك هو الوسيلة الوحيدة للإدراك لأن حسك له قوانين تضبطه، فأنت ترى، ولكنك ترى بقانون، بحيث إذا بعد المرئي عنك امتدادا فوق امتداد بصرك فلا تراه وكذلك أذنك تسمع، فإن بعد الصوت أو مصدر الصوت عنك بحيث لا تصل الدبدبة إليك، فلا تسمع، كذلك عقلك، قد تفهم أشياء ولا تفهم أشياء أخرى، ثم ضرب لنا في وجودنا المادي أمثالا تقرب لنا ذلك الخلق الخفي من الجن ومن الملائكة.
لقد وجدنا العقل البشري قد هداه الله الذي قدر فهدى، إلى أن يكتشف شيئا اسمه ( الميكروب ) و ( الميكروب ) كائن حي دقيق جدا بحيث إن البصر العادي لا يدركه، ولكنه كان موجودا، وفعل الأفاعيل في الناس ودخل في أجسامهم دون أن يشعروا كيف دخل وعمل فيهم وفي صحتهم ما عمل من الهلاك والموت مثل أمراض الطاعون والكوليرا وغيرها، ومع ذلك فالميكروب كان موجودا ومن جنس وجودنا، أي هو مادة وله حياة وله فعل، وله نفوذ في الهيكل الذي يدركه وهو الإنسان.
وهكذا رأينا أن شيئا خفيا لا يدرك ويهدد إنسانا ضخما يدرك، فهل معنى اكتشاف الميكروب أننا أوجدناه ؟ لا، إن وجود الميكروب شيء، وإدراك وجود شيء آخر، وإذا حللنا ( الميكروب ) نجد أنه مادة الإنسان ولكنه دقيق جدا حتى إن العين المجرد لا تراه، فلما اكتشف المجهر وكبرناه عرفناه، وهذا الكائن الحي إن كنت لا تراه، فعدم رؤيتك له سابقا لا تعني أنه غير موجود، بل هو موجود ولكنك لم تدركه، ثم اكتشفت – أيها الإنسان – آلة جعلتك تدركه، ولنعرف أن وجود شيء لا يعني أنك من الضروري أن تدركه، فإذا قال الله لك : لي ملائكة من خلقي، ولي جن من خلقي، ولكنكم لا ترونهم وهم يرونكم، نقول : صدقت يا ربي، لأن شيئا من جنس مادتنا كان موجودا ولا نراه ثم بعد ذلك رأيناه.
إذن فالأشياء التي نكتشفها الآن هي دليل على صدق البلاغ القرآني بما أخبر به من الأمور الغيبية، الجن مستور، والمادة كلها – كما بينا – تدل على الستر فالجنون غياب العقل، وجن الليل، أي ستر وغطى، والجنة لأن فيها أشجارا وغير ذلك بحيث لا يظهر الذي يسير فيها فتكون ساترة لمن يدخلها.
إذن المادة كلها تدل على الستر، وهل الذي نتعجب منه أنهم جعلوا الجن شركاء، أو أن التعجيب ليس من جعل الجن شركاء بل من اتخاذ مبدأ الشركاء، سواء أكان جنا أم غير جن، إن التعجيب هنا من المبدأ نفسه، فنحن لا نعترض فقط على أن الجن شركاء، بل نحن نعترض على المبدأ نفسه، أن يكون لله شريك من جن أو من ملائكة أو من غير ذلك، ولهذا قدم المجعول – وهو شريك – على المجعول منه – وهو الجن – مع أن العادة أن يقدم المجعول منه على المجعول، فتقول جعلت الطين إبريقا أي : أن الطين كان موجودا، وأخذت منه الذي لم يكن موجودا وهو الإبريق.
ثم هل كان الشركاء موجودين وطرأ الجن عليهم ؟ أو كان الجن موجودا وطرأ الشركاء عليهم ؟ في هذه الحالة كان يجب القول : وجعلوا الجن لله شركاء، إذن فالعجيبة ليس في أن يكون الجن شركاء، العجيبة في المبدأ نفسه، وكيف ترد فكرة الشركاء على أذهانهم سواء أكان الشركاء من الجن أم من غير ذلك، ولهذا قال سبحانه :﴿ وجعلوا لله شركاء ﴾ وساعة تسمعها تقول : أعوذ بالله ( جعلوا لله شركاء ) ! ! ولا يهمك من هم الشركاء ؛ لأن مطلق مجيء شريك لله هو الأمر العجيب، سواء كان من الجن أم من الملائكة وكيف جعلوا الجن شركاء ؟ ألم يقل الحق في كتابه إن إبراهيم قال :
﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا ( ٤٤ ) ﴾( سورة مريم ).
وما هي العبادة ؟ العبادة هي أن يطيع العابد المعبود فيما يأمره به، وما داموا يطيعون الشياطين في وسوستهم فكأنهم عبدوهم، ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ( ٤٠ ) ﴾( الآية ٤٠ سورة سبأ ).
فقالت الملائكة :﴿ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ( ٤١ ) ﴾( سورة سبأ ).
وكيف كانوا يعبدون الجن ؟ إنهم كانوا يطيعونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه ؛ لأن العبادة هي الطاعة، وأنت أيها العابد لا تقترح العبادة بل تنظر فيما طلب منك أن تتقرب به إلى المعبود، إذن ( افعل ولا تفعل ) هي الأصل.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ ولماذا جاءوا لله بشركاء ؟ لماذا لم يعبدوهم وحدهم ويستبعدوا لله من العبادة ؟ لأن وجود شريك دليل على الاعتراف بالله أيضا فلماذا جعلوا له شركاء ؟ لماذا لم يلحدوا وينكروا ويكفروا بالله وتنتهي المسألة ؟ لا. لم يفعلوا ذلك ؛ لأنهم رأوا أن الشركاء ليس لهم مطلوبات تعبدية وحين عبدوها – مثلا – لم تقل لهم ( افعلوا ) و ( لا تفعلوا ) وليس هناك منهج لإتباعه، لكن أحداثا فوق أسبابهم ولا يستطيعون لها دفعا قد تحدث فلمن يجأرون ؟ أللآلهة التي يعتقدون كذبها وبهتانها وأنها لا تنفع ولا تضر ؟ لذلك احتفظوا باعترافهم بالله ليلجأوا إليه فيما لا يقدرون على دفعه لا هم ولا من اتخذوهم شركاء، ولذلك يقول الحق :
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾( من الآية ١٢ سورة يونس )
كأنه يريد عبادة الله للمصلحة فقط.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾. ومن العجيب – إذن – أنهم جعلوا لله شركاء، مع أن الله هو الذي خلق العابد والمعبود، والتعجيب من أمرين اثنين : أن يجعلوا شركاء لله من الجن أو من الملائكة، والعجيبة الأخرى أنه ﴿ خلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ﴾ وما معنى خرقوا له ؟ معناه أنهم اختلقوا ؛ لأن الخرق إيجاد فجوة في الشيء المستوي على قانون السلامة، ولذلك قال في السفينة :﴿ أخرقتها لتغرق أهلها ﴾( من الآية ٧١ سورة الكهف )
وخرقوا له. أي عملوا خرقا في الشيء السليم الذي تأبى الفطرة أن يكون.
﴿ وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات ﴾( من الآية ١٠٠ سورة الأنعام ).
أما القسم الذي ادعى أن لله البنين فهم أهل الكتاب ؛ إنهم قالوا ذلك :
﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾( من الآية ٣٠ سورة التوبة )
أما من جعلوا لله البنات، فهم بعض العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله.
﴿ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ﴾( من الآية ٤٠ سورة الإسراء )
وقال سبحانه :
﴿ أصطفى البنات على البنين ( ١٥٣ ) ما لكم كيف تحكمون ( ١٥٤ ) ﴾( سورة الصافات )
وسبحانه القائل :
﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ( ٢١ ) تلك إذا قسمة ضيزى ( ٢٢ ) ﴾( سورة النجم )
وهناك من العرب من جعل بين الله وبين الجن صلة نسب مصداقا لقول الحق :
﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ﴾( من الآية ١٥٨ سورة الصافات )
لقد افتروا على الحق وادعوا أن اتصالا تم بين الله والجنة فخلقت وولدت الملائكة.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ( ١٠٠ ) ﴾( سورة الأنعام )
ولماذا يقول الحق :﴿ بغير علم ﴾ لأن العلم يؤدي إلى النقيض، فالعلم قضية استقرائية معتقدة واقعة يقام عليها الدليل، وهذا شيء لا واقع له، ولا يمكن أن يوجد عليه دليل لذلك فهو قول بغير علم بل هو بجهل. هي إذن جهالة بأن يصدقوا في حاجة وأنها واقعة وهي ليست واقعة، ولا يقام عليها دليل لأنها غير موجودة، ولو استقام الدليل عندهم بفطرتهم المستقبلة لأدلة البيان وأدلة الكون لتبرأوا مما اعتقدوا، ولرفضوا أن يتخذوا لله شركاء.
وقد عرض الحق قضية طرأت على الأفكار المشوشة وقالوا :( شركاء ) فقال :( سبحانه )، أي تنزيها له عن الشرك في الذات وفي الصفات، وفي الأفعال ؛ لأن ذاته ليست ككل الذوات، وأفعاله ليست ككل الأفعال، وصفاته ليست ككل الصفات، ولذلك تأتي ( سبحانه ) في كل أمر يناقض نواميس الكون الموجودة. وخذ كل أمر يتعلق بالإله الحق في إطار ( سبحانه ). ولذلك حينما جاء الإسراء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به في ليلة واحدة وكان ذلك أمرا عجيبا، أمرنا الحق أن نتقبلها في إطار قوله الحق :
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ( ١ ) ﴾( الآية ١ سورة الإسراء ).
إن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يقل : أنا سريت من مكة إلى بيت المقدس، إنما قال :( أسري بي )، ومادام قد أسري به فالقانون في الإسراء هو قانون الحق سبحانه. فخذها في إطار سبحانه، وهو القائل :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ﴾( من الآية ٣٦ سورة يس )، ثم يأتي بما هو أوسع من إدراك فيقول :﴿ ومما لا يعلمون ﴾( من الآية ٣٦ سورة يس ).
كأننا سوف نعلم فيما بعد أشياء فيها زوجية، وقد أزاح الكشف العلمي في القرن العشرين بعضا من ذلك، فعرفنا الموجب والسالب في الكهرباء والالكترونات، وقوله :﴿ ومما لا يعلمون ﴾ يفسح المجال لقضايا الكون التي تحدث بنشاطات العقول المكتشفة.
﴿ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ( ١٠٠ ) ﴾( سورة الأنعام )
ف ( سبحانه ) تنزيها له وتقديسا عن أن يقاس بالكائن الموجود. تعالى اسمه، وتعالت صفاته وأفعاله ( عما يصفون ) بأوصاف لا تليق بذاته.
﴿ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ( ١٠١ ) ﴾.
الحق سبحانه وتعالى قال في آيات أخرى.
﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾( من الآية ٥٧ سورة غافر ).
فإن كنت ترى في نفسك عجائب كثيرة، وكل يوم يعطيك العلم التشريحي أو علم وظائف الأعضاء سرا جديدا فلا تتعجب من هذا الأمر ؛ لأن السماء والأرض إيجاد من عدم، سبحانه هنا يقول :( بديع ) أي أنه – سبحانه – خلقهما على غير مثال سابق، فمن الناس من يصنع أشياء على ضوء خبرات أو نماذج سابقة، لكن الحق سبحانه بديع السماوات والأرض، وقد عرفنا بالعلم أن الأرض التي نعيش عليها وهي كوكب تابع من توابع الشمس، وقديما كانوا يقولون عن توابع الشمس إنها سبعة، ولذلك خدع كثير من العلماء والمفكرين وقالوا : إن السبعة التوابع هي السماوات، فأراد الحق أن يبطل هذه المسألة بعد أن قالوا سبعة، فقد اكتشف العلماء تابعا ثامنا للشمس، ثم اكتشفوا التاسع، ثم صارت التوابع عشرة، ثم زاد الأمر إلى توابع لا نعرفها. وأين هذه المجموعة الشمسية من السماوات ؟ وكلها مجرد زينة للسماء الدنيا، وعندما اكتشف المجهر والآلات التي تقرب البعيد رأينا ( الطريق اللبني ) أو ( سكة التبانة ) ووجدناها مجرة وفيها مجموعة شمسية لا حصر لها، وجدنا مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية. هذه مجرة واحدة، وعندنا ملايين المجرات، ونجد عالما في الفلك يقول : لو امتلكنا آلات جديدة فسنكتشف مجرات جديدة.
ولنسمع قول الله :
﴿ والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ( ٤٧ ) ﴾( سورة الذاريات )
إذن يجب أن نأخذ خلق السماوات والأرض في مرتبة أهم من مسألة خلق الناس.
﴿ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ( ١٠١ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ومادام سبحانه بديع السماوات والأرض، وهو بقدرته الذاتية الفائقة خلق السماوات والأرض الأكبر من خلق الناس، إذن فإن أراد ولدا لطرأ عليه هذا الابن بالميلاد، ولا يمكن أن يسمى ولدا إلا إذا ولد، وسبحانه منزه عن ذلك، ثم لماذا يريد ولدا، وصفات الكمال لن تزيد بالولد، ولم يكن الكون ناقصا قبل ادعاء البعض أن للحق سبحانه ولدا. إن الكون مخلوق بذات الحق سبحانه وتعالى، والناس تحتاج إلى الولد لامتداد الذكرى، وسبحانه لا يموت ؛ مصدقا لقوله :
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾( من الآية ٨٨ سورة القصص ).
والبشر يحتاجون إلى الإنجاب ليعاونهم أولادهم، وسبحانه هو القوي الذي خلق وهو حي لا يموت ؛ لذلك فلا معنى لأن يدعى عليه ذلك وما كان يصح أن تناقش هذه المسألة عقلا، ولكن الله – لطفا بخلقه – وضح وبين مثل هذه القضايا.
ويقول جل وعلا :﴿ ولم تكن له صاحبة ﴾. ماذا يريد الحق من الصاحبة ؟ إنه لا يريد شيئا، فلماذا هذه اللجاجة في أمر الألوهية ؟. فلا الولد ولا الصاحبة يزيدان له قدرة تخلق، ولا حكمة ترتب، ولا علما يدبر، ولا أي شيء، ومجرد هذا اللون من التصور عبث، فإذا كان الشركاء ممتنعين، والقصد من الشركاء أن يعاونوه في الملك ؛ إله يأخذ ملك السماء، وإله آخر يأخذ ملك الأرض. وإله للظلمة، وإله للنور. مثلما قال الإغريق القدامى حين نصبوا إلها للشر. وإلها للخير، وغير ذلك. والحق واحد أحد ليس له شركاء يعاونوه فما المقصود بالولد والصاحبة ؟
أعوذ بالله ! ألا يمتنع ويرتدع هؤلاء من مثل هذا القول :
﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ فسبحانه هو الخالق للكون والعالم بكل ما فيه ولا يحتاج إلى معاونة من أحد.
﴿ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ( ١٠٢ ) ﴾.
انظر التقديم بكلمة رب، قبل ( لا إله إلا هو ) كلمة ( رب ) هذه هي حيثية ( لا إله إلا هو ) ؛ لأن إلها تعني معبودا، ومعبودا يعني مطاعا، ومطاعا يعني له أوامر ونواه، ولماذا لأي سبب ؟. السبب أنه الرب المتولي الإيجاد والتربية. ومن الواجب والمعقول أن نسمع كلامه ؛ لأنه هو الرب والخالق وهو الذي يرزق، بدليل أننا حين نسأل أهل الكفر في غفلة شهواتهم : من خلق السماوات والأرض ؟ تنطق فطرتهم ويقولون :
الله هو الذي خلق السماوات والأرض. أما إن كان السؤال موجها في محاجاة مسبقة فأنت تجد المكر والكذب.
وحين تريد أن تنزع منهم قضية صدق وتضع وتبطل قضية كذب فلتأخذهم على غفلة ودون تحضير فيقولون إن الذي خلق هو الله.
ورأينا الآلات التي صمموها ليكتشفوا الكذب، وليروا العملية العقلية التي تجهد الكذاب، أما صاحب الحق فلا يجهد ؛ لأن صاحب الحق يستقرئ واقعا ينطق به ولا يصيبه الجهد، لكن الذي يكذب يجهد نفسه ويتردد بين أمور ويضطرب ولا يدري بأيها يأخذ ويجيب بإجابات متناقضة في الشيء الواحد.
﴿ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ( ١٠٢ ) ﴾( سورة الأنعام ).
ومادام هو خالق لكل شيء وهو الباقي فهو الأحق بالعبادة ؛ لأن العبادة – كما قلنا – معناها طاعة الأمر وطاعة النهي – ما دام سبحانه الذي خلق فهو الذي يضع قانون الصيانة للإنسان والكون، وإن خالفت المنهج يفسد الكون والإنسان، وإذا فسد الكون أو الإنسان فأنت تلجأ إلى منهج الخالق لتعيد لكل منهما صلاحيته ؛ لذلك هو الأولى بالعبادة. ﴿ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو ﴾.
وهذه شهادة شهد بها لذاته قبل أن يخلق كل شيء، وقبل أن يخلق الملائكة، وشهدت بها ملائكته، وشهد بها أولو العلم.
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾( من الآية ١٨سورة آل عمران ).
إذن فالله شهد بألوهيته من البداية، ومن أسمائه ( مؤمن ) ونحن مؤمنون بالله، وربنا المؤمن بأنه إله واحد، وهذا الإيمان منه أنه إله واحد، يخاطب كل شيء يريده وهو يعلم أن أي شيء لا يقدر أن يخالفه، إنه يخاطبه بقوله :( كن فيكون ) ولأنه إله واحد يعلم أن أحدا أو شيئا لم يخالفه، لذلك يباشر ملكه وهو العلم بأن الغير خاضع لأمره ولا يمكن أن يتخلف عن مراداته، أو نقول :( مؤمن ) لما خلق ولمن خلق، أي منحهم الأمن والأمان فهو سبحانه القائل :
﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾( سورة قريش ).
لقد أوضح الحق سبحانه لنا : أنتم خلقي فإن أخذتم منهجي أطعمكم من جوع وآمنكم من الخوف. ﴿ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء ﴾.
إذن فالمنطق يفرض علينا عبادته سبحانه، والأمر المنسجم مع المقدمة، أن لا رب، ولا إله إلا هو، إنه خالق كل شيء، لذلك تكون عبادته ضرورة، ويتمثل ذلك أن تطيعه فيما أمر، وفيما نهى.
﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾( من الآية ١٠٢ سورة الأنعام ).
وهذه دقة الأداء البياني في القرآن، فنحن في أعرافنا نقول : فلان وكيل لفلان أي يقوم لصالحه بالأمور التي يريدها، سبحانه ليس وكيلا لك، بل هو وكيل عليك ؛ لأن الوكيل لك ينفذ أوامرك، لكن هو وكيل عليك، مثل الوصي على القاصر وهو وكيل عليه، ويقول للقاصر : افعل كذا فيفعل، سبحانه وكيل علينا، ولذلك نحن نطلب منه وهو الذي يستجيب لدعائنا بالخير، فلان ينفذ رغباتنا الطائشة، ونجد الأحمق من يقول : لقد دعوت الله ولم يستجب لي، ونقول : إنك تفهم الاستجابة أنها تؤدي لك مطلوبك، وسبحانه أعلم بما يناسبك لأنه وكيل عليك ويعدل من تصرفاتك، وساعة تطلب حاجة، إن كان فيها خير يعطيها لك، وإن كنت تظن أنها خير، لكنها ستأتي بالشر لا يعطيها لك.
وعلى من يدعو ألا يتعجل الإجابة. قال صلى الله عليه وآله وسلم :( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول : قد دعوت فلم يستجب لي )١.
﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾ أي سواء أكان هذا الشيء مختارا أم غير مختار ؛ لأن المختار قد يختار شرا، ولأن الله وكيل عليه يقول له : لا، وغير المكلف ولا اختيار له، مقهور لإرادة الله مثل النار، فهي مأمورة أن تحرق، لكنه أمرها ألا تحرق سيدنا إبراهيم وتبقيه سليما.
وتأتي الآية التالية لتؤكد دواعي عظمته سبحانه فيقول :
﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير( ١٠٣ ) ﴾.
أي لا فائدة ؛ لأن البحر أمامنا، إن تقدمنا نغرق، وإن تأخرنا أهلكونا وقتلونا. إذن ( مدرك ) يعني محاطا به. فإذا أحاطت الأبصار بالله انقلب البصر قادرا، وصار الله مقدورا عليه. والقادر بذاته – كما قلنا – لا ينقلب مقدورا لخلقه أبدا.
﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ( ١٠٣ ) ﴾( سورة الأنعام )
وكل ما عدا الله محتاج إلى الله لبقاء كينونته، وكينونته سبحانه ليست عند أحد ؛ لذلك ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ لأنه إن قدر على الأبصار كلها فهو قادر بذاته، والباقي مقدور له ؛ لأنه مخلوق له، ومادام مخلوقا له يكون مقدورا عليه ولم يطرأ على المخلوقين شيء جديد يجعلهم قادرين بذواتهم ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾.
وقد وقف العلماء وقفة كبيرة واختلفوا : هل الإنسان يرى ربه أو لا يراه سواء في الدنيا أم في الآخرة ؟ بعضهم قال : لا أحد يرى الله بنص الآية :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ ونقول : لكن هناك آيات في القرآن تقول :
﴿ وجوه يومئذ ناضرة ( ٢٢ ) إلى ربها ناظرة ( ٢٣ ) ﴾( سورة الواقعة )
و ( ناظرة ) تضمن الرؤية وتفيدها، وأيضا فالله يعاقب من كفر به بأن يحتجب عنه، لأنه القائل :
﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( ١٥ ) ﴾( سورة المطففين )
فالكافرون محجوبون عن رؤية الله عقابا لهم. ولو اشتركنا معهم وحجبنا كما حجبوا فما ميزتنا كمؤمنين ؟، إذن فالعلماء لم ينتبهوا إلى أن هناك فرقا بين الأداء القرآني وما يقولون ؟ وحين يحتج عالم منهم بأن رؤية الله غير ممكنة لأن ربنا سبحانه قال لموسى.
﴿ لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾( من الآية ١٤٣ سورة الأعراف ).
فلماذا لم يلتفت هذا العالم إلى قول الحق :
﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ﴾( من الآية ١٤٣ سورة الأعراف )
إذن فالله يتجلى لبعض خلقه، أما أن يراه الخلق في الدنيا فلا ؛ لأن تكويننا غير مؤهل لأن يرى الحق، بدليل أن الأصلب والأقوى منا وهو الجبل حينما تجلى ربه عليه اندك. فلما اندك الجبل خر موسى صعقا، فإذا كان موسى قد خر صعقا لرؤية المتجلى عليه وهو الجبل فكيف لو رآه ؟ ! إذن فهو غير معد له.
لقد اختلف العلماء عند هذه الآية، وتجلى خلافهم إلى أبعد حد ؛ فمنهم مجيز للرؤية، ومنهم منكر لها، وأرى أن خلافهم في غير محل نزاع ؛ لأنهم تكلموا عن الرؤية، والكلام هنا عن نفي الإدراك، والإدراك إحاطة، والرؤية تكون إجمالا، إنما الإحاطة ليست ممكنة، وعلى تقدير أن الرؤية والإدراك متحدان في المفهوم نقول : لماذا يكون الخلاف في أمر الآخرة ؟ لو أن الخلاف في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلاما جميلا، ولكن الخلاف جعلتموه في الآخرة.
إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم الله على المؤمنين، وهي زيادة في الحسنى عليهم، وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول – أيضا – لماذا : لا تقولون إن الإدراك سيوجد في الآخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا ؟ لأننا في هذه الدنيا معدون إعداد أسباب – وفي الآخرة سنكون معدين إعدادا لغير أسباب.
أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب، وحين تريد أن تأكل الشيء الفلاني، تقول لأهل البيت : اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده، إنما هناك في الآخرة بمجرد أن يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك، وهذا قانون جديد لا ارتباط له بقانون الدنيا، فلماذا لا يكون في تكويننا في الآخرة أيضا قانون يمكن به. أن نرى الله وفي إطار ليس كمثله شيء ؟
إن في الآخرة قضايا يتفق الجميع على أنها تخالف قوانين الدنيا ونواميس العالم المعاصر لنا الآن في الأكل والشراب، والتخلص من الفضلات، لكن في الآخرة سنأكل ونشرب ولكن لن توجد فضلات ؛ لأنك أنت الآن تطهي وتهضم، وفي الهضم أنت تأخذ بعض الطعام ويبقى منه فضلات لا بد أن تخرج، لكن الطهي والهضم في الآخرة ب ( كن ) وليس له فضلات، إنه طعام بقدرة القادر، في الجنة كل ما تريده ستناله دون أن ينفذ، وفي الدنيا أي شيء يؤخذ منه ينقصن أما في الآخرة فلا شيء ينقص لأن له مددا من القيومية.
ويعقب الحق سبحانه وتعالى بعد القضيتين :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ﴾ فيقول :﴿ وهو اللطيف الخبير ﴾ ولطيف تناسب ﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ و هو ( خبير ) يناسب ﴿ وهو يدرك الأبصار ﴾ وليطف لها معنى خاص، فالشيء اللطيف يستعمل في دقيق التكوين – ولله المثل الأعلى – إن الميكروب لم نعرفه إلا مؤخرا لأنه بلغ من اللطف والدقة بحيث لا تدركه العين، لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه، وإن دق الميكروب عن ذلك فلن نراه، قد اكتشفنا ( الفيروس ) ونحاول معرفة المزيد عن خصائصه، إذن كلما دق الشيء يلطف ولا يمكن أن نراه، فالشيء إذا لطف شرف وعلا ونقول – ولله المثل الأعلى - : فلان لطيف المعشر، والحق سبحانه لطيف في ذاته ويلطف بعباده.
إنك ساعة ما تسمع ( لاطف ) فهذا اسم فاعل، مثلها مثل ( أكل )، وحين نقول :( لطيف ) فهي مبالغة في اللطف ؛ لأنه لاطف بكل إنسان وكل كائن وهذا يحتاج إلى مبالغة، ولذلك نقول : رحيم، وهي صيغة مبالغة ؛ لأنه يسبغ رحمته على عباده، وأول مظهر من مظاهر اللطف، هو تدبير أمورهم الدقيقة تدبيرا يحقق مصالحهم في وجودهم. إننا حين ندير كوب ماء لكل إنسان ندبر الكثير فما بالنا بتدبير اللطيف بعباده ؟.
لقد خلق لنا الأرض ثلاثة أرباعها ماء، والربع يابس، لأنه جل وعلا يريد أن يوسع رقعة الماء لأن المياه كلما اتسعت رقعتها، كان البخر فيها أسهل وأكثر، لكن لو كانت المياه عميقة ومساحتها قليلة فالبخر يكون على مستوى السطح فقط، وهنا لا يأتي السحاب بما يكفي الخلق من الماء. لقد وسع الله سبحانه رقعة الماء كي يتبخر الماء ثم ينعقد كسحب في السماء، ويصادف منطقة باردة لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها، وتشرب أنعامنا، ونسقي الزرع، وكل ذلك من لطف التدبير.
ومن مظاهر اللطف في الحق نجد أمورا لا تصوف، ولذلك كل واحد من العلماء انفعل لزاوية من زوايا لطف الله على خلقه..... فواحد قال : هو ( سبوغ النعم ) وقال الثاني :( دقة التدبير ) وقال الثالث : إن من مظاهر لطف الحق أنه يستقل كثير النعم على خلقه، فالنعم التي منحها خلقه قليلة لأن خزائنه – سبحانه – ملأى وعطاياه لا تنفذ ولا يعتريها نقص، ولذلك قال سبحانه :
﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾( من الآية ٧ سورة إبراهيم )
أي أن نعمه الكثيرة على عباده قليلة، وفي المقابل : يستكثر قليل الطاعة من خلقه أي يعتبرها – تفضلا منه – كثيرة ؛ لأنه هو الذي يجزي الحسنة بعشر أمثالها.
إذن فمظاهر اللطف لا حصر لها، وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه، فهو اللطيف الذي إذا ناديته لباك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك، وإذا أعرضت عنه دعاك فهو القائل :( يا بن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيك أهرول )١ وكلها مظاهر لطف. وهو المنادي :( توبوا إلى الله ) والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو القائل :( لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة )٢ وإذا قربت من الله هداك.
ويأتي عالم آخر ممن انفعلوا بصفات اللطف، فيقول : الذي يجازيك إن وفيت، ويعفو عنك إن قصرت، وعالم آخر يضيف إلى معاني اللطف فيقول : من افتخر به أعزه، ومن افتقر إليه أغناه، وعالم ينفعل انفعالا آخر بمظاهر اللطف فيقول : من عطاؤه خير، ومنعه ذخيرة...... أي أنه لو منع عبده شيئا فإنه يدخره له في الآخرة، كل هذه مظاهر للطف، وهذا مناسب لقوله الحق :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ إن لطفه سبحانه يتغلغل فيما لا نستطيع أن ندركه، وحين تحلل أنت أي أمر قد لا تصل إلى فهم النعمة، إن وصلت فأنت لا تقدر أن تؤدي الحمد على تلك النعمة.
وقوله الحق :﴿ وهو يدرك الأبصار ﴾ مناسب لكلمة ( خبير )، ونحن في حياتنا نسمع كلمة ( خبير ) فعندما نقابل أي مشكلة من المشكلات نجد من يقول : نريد أن نسمع رأي الخبير فيها، وفي القضاء نجد القاضي يستدعي خبيرا ليكتب تقريرا في أمر يحتاج إلى من هو متخصص فيه وعليم به، إذن فالخبير في مجال ما هو الذي يعرف تفاصيل الأمر، فما بالنا بالخبير الأعلى الذي لا يستعصي عليه شيء في ملكه، وهو الذي يدرك الأبصار، فقوله :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ يناسبها قوله :( لطيف ) تماما كما أن ﴿ وهو يدرك الأبصار ﴾ يناسبها ( خبير )، وهذا ما يسمونه في اللغة ( لف ونشر ) وهو أن يأتي بأمرين أو ثلاثة ثم يأتي بما يقابلها، مثال ذلك قوله الحق :
﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار ﴾( من الآية ٧٣ سورة القصص )
فمن مظاهر رحمته بنا سبحانه أن جعل لنا الليل والنهار، ثم قال :
﴿ لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ﴾( من الآية ٧٣ سورة القصص )
ولنسكن في الليل، ونبتغي فضله في النهار، هذا اسمه – كما قلنا – ( لف ونشر ).
٢ رواه البخاري ومسلم عن أنس..
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ( ١٠٤ ) ﴾.
وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة للمعنويات والإشراقات التي تأتي في القلوب كالبصر بالنسبة للعين، و ( الكون ) يعطيكم أدلة الإبصار، والقرآن يعطيكم أدلة البصائر، فكما أن الله هدى الإنسان فحذره ونهاه عن المعاصي ومنحه النور الذي يجلي له الأشياء فيسير على هدى فلا يرتطم ولا يصطدم، كذلك جعل المعنويات نورا، والنور الأول في البصر يأخذه الكافر والمؤمن، وكلنا شركاء فيه مثله مثل الرزق، لكن النور الثاني في البصائر يأخذه المؤمن فقط، ولذلك يقول ربنا :
﴿ ليخرجكم من الظلمات إلى النور ﴾( من الآية ٩ سورة الحديد ).
وهو نور الهداية في بصائر المعنويات، فيوضح : أنا خلقتكم خلقا ووضعت لكم قوانين لصيانتكم. فقانون الصيانة في ماديات الدنيا للمؤمن والكافر، وقانون الصيانة في معنويات الحياة خاصة بالمؤمن.
وهو القائل :
﴿ من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾( من الآية ٤٠ سورة النور )
ونعلم أن البصائر من المعنويات والمجيء للأمر الحسي ؛ كقولنا :( جاء زيد ) أو ( جاء عمرو ) ولك أن تتصور البصائر وهي تأتي، قال الحق :
﴿ قد جاءكم من الله نور ﴾( من الآية ١٥ سورة المائدة )
إنه سبحانه قد أعطانا نورا صحيحا واضحا وهو يأتي إلينا بمشيئته.
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم ﴾ أي أنها بلغت من تكوينها أنها أصبحت كأنها أشياء محسة تجيء، ولا يصح أن تقولوا إنها لم تصلكم لأنها تجيء من الرب الذي خلقنا بقدرته وأمدنا في كل شيء بقيوميته، ومن لوازم الربوبية أن يعطي ما يهدي، وقد حكم الله أن البصائر جاءتنا، وحكم بأن رسوله قد بلغ ؛ فسبحانه أعطى لرسوله، والرسول ناولنا، فالحق قد شرع ورسوله قد بلغ وبقي أن تؤدوا ولا عذر لكم من المشرع الأعلى الذي خلق وهو الرب. ولا من المبلغ المعصوم وهو الرسول.
ويقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ﴾( من الآية ١٠٤ سورة الأنعام )
ولله المثل الأعلى، نجد الولد يدخل البيت فيجد أمه ويقول لها : ماذا أعددت لنا من طعام ؟ فتقول : لاشيء. فيقول الابن : لقد بعث أبي اللحم والأرز والخضار، فكأنه يقول لها : أين عملك يا أمي ؟
وربنا سبحانه يوضح : أنا خلقتكم، وعملت لكم قانون صيانة، وأرسلت لكم رسولا تعرفون عنه أنه صادق في بلاغه، وأدى هذه الرسالة، لذلك فالباقي من المسألة عندكم أنتم، وكل واحد عليه أن يؤدي ما عليه من عمل، إن أبصر فلنفسه، وإن عمى فعليها. فإياكم أن تفهموا أني كلفتكم بما يعود علي في ذاتي، ولا ما يزيد من سلطاني شيئا ؛ لأن خيرها لكم أنتم، ولا آمن على التشريع ممن لا يفيد من التشريع ؛ لأن من يستفيد منه قد يشرع لمصلحته، أما الحق فهو مأمون على التشريع لأنه غير منتفع به :
يقول سبحانه :
﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ﴾( من الآية ١٠٤ سورة الأنعام ).
ولأن الرسول عليه البلاغ فقط والحق حفظه وعصمه من الكفر وهو يبلغكم المنهج، وقد خلق الله كل إنسان مختارا وهو بهذا الاختيار يدخل نفسه في الحكم، أو يخرج نفسه من الحكم، وسبحانه لم يبعث الرسول جبارا بل بعثه رحيما ؛ لذلك يقول الله في حق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ والحفيظ من أسماء الله، وهو الحفيظ لأنه شرع وليحفظ الخلق ويريد أن يجعلهم على مثال حسن واع. والرسول هو المبلغ والحق يقول :
﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾( من الآية ٤٥ سورة ق ).
إذن فكل واحد حر يدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم. وقد حارب الرسول ليحمي الاختيار بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد بعضا من سكانه قد ظلوا على كفرهم ولم يرغمهم أحد على الإيمان.
﴿ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون( ١٠٥ ) ﴾ ﴿ كذلك نصرف ﴾.
أي أنه يأتي لنا بالحال بعد الحال ويكرر ويعيد، وتأتي الحادثة من الحوادث وينزل فيه تشريع، ويرقق قلوبهم، ويأتي بنماذج من الرسل، ومواقف أممهم منهم حتى نصادف في كل حال قلبا مستقبلا لأنه إن قال مرة واحدة وسكت وكان هناك أناس قلوبهم منصرفة فعندما يكرر الأحداث وينزل فيها من التشريع والمواعظ فقد ترق قلوبهم للإيمان وتستوعب القلوب الهداية.
﴿ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ﴾ ما معنى :﴿ وليقولوا درست ﴾ ؟ إننا نعلم أن السماء تتدخل حين يطم الفساد، لكن إن وجد في ذات الإنسانية نفس لوامة فهي مناعة للنفس ووقاية لها، فإن فعل الإنسان ذنبا تلومه نفسه فيرجع، وإن اختفت النفس اللوامة وصارت النفس أمارة بالسوء، امتنع في المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمعنى ذلك أن الفساد قد طم. وهنا تتدخل السماء وتأتي ببيان جديد ومعجزة جديدة.
إن الفساد لا يتأتي إلا من وجود طبقات تطحن في طبقات، والذين يطحنون بالفساد هم من يستقبلون المنهج بشوق، لكن الطاحن المستفيد من الفساد هو الذي يعارض المنهج، ولذلك فإن كل جماعة حاربت الرسل هم من الطاحنين للناس، لكن المطحونين إنما يريدون من ينقذهم.
إذن فكل صاحب دعوة سماوية جعل الله له عدوا من المجرمين ؛ لأن السماء لم تتدخل إلا حين صار الإجرام لا مقاوم له. وهكذا يجعل الله لكل نبي ورسول عدوا من المجرمين، وهذا العدو يفتن به الناس، ويميل له ضعاف العقائد. والحق يصرف الآيات حالا بعد حال حتى لا يثبت مع الداعي الحق إلا المؤمنون الصادقون.
ولذلك تجد أن الإسلام قد جاء وغربل الأمور ؛ فمثلا تأتي حادثة الإسراء فمن كان إيمانه مهتزا ينكر الإسراء، وذلك من أجل أن يذهب الزبد ويبقى من يحمل الدعوة بمنهج الحق. أما من كان إيمانه ضعيفا أو كان يعبد الله على حرف فالإسلام لا يرغبه.
﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ﴾( من الآية ٤٧ سورة التوبة )
إذن فالحق سبحانه وتعالى قد صرف الآيات لينصرف المطحونين، وحينما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قالوا درست وادعوا أنه كان قاعدا في الجبل، وتعلم من أعجمي. لذلك نجد الحق يقول :
﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ﴾( من الآية ١٠٣ سورة النحل )
ويأتي الرد من الحق :
﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾( من الآية ١٠٣ سورة النحل )
إن سيدنا عمر رضي الله عنه حينما كان في الطواف جاء عند الحجر الأسود وقال :( والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك ما قبلتك )١.
فعل سيدنا عمر ذلك حتى يعلمنا إذا ما جاء بعض الناس وقال : ما سبب علة تقبيل الحجر الأسود ؟ فيكون الجواب حاضرا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك وهذا تشريع.
﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ( ١٠٦ ) ﴾.
وساعة يتكلم متكلم لمخاطب بأمر هو فيه وقائم عليه ومؤد له فلابد أن نفهم حقيقة المراد، مثلما يقول الحق سبحانه :
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا ﴾( من الآية ١٣٦ سورة النساء ).
وبأي شيء نادى الله خلقه المؤمنين هنا ؟ لقد قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾، فكيف يقول :( آمنوا ). لقد ناداهم لأنهم آمنوا إيمانا استوجب خطابهم بالتكليف، والإنسان ابن أغيار. فيوضح أن الإيمان الذي استقبلتم به التكليف من خطابي داوموا أيضا عليه، وجاء الأمر هنا بدوامه، أي كما آمنتم إيمانا جعلكم أهلا للتكليف في مخاطبتكم وقلت لكم يا أيها الذين آمنوا : الزموا هذا وداوموا على إيمانكم. وقوله الحق :﴿ اتبع ما أوحي إليك ﴾ هو قول لرسول متبع، إذن فهو يحمل الأمر بالمداومة على الاتباع، ولا يحزنك ما يقولون يا محمد ؛ لأنك مؤيد من ربك ويتولى الدفاع عنك ويلقنك الحجة.
﴿ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( ٣٣ ) ﴾( سورة الفرقان ).
ويقول الحق بعد ذلك موجها حديثه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ﴾.
ونعلم أن الوحي هو إعلام بخفاء، وكل وحي هو إعلام بخفاء وقد أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصور شتى، ولكن كل ما يتصل ويختص بالقرآن كان بواسطة جبريل : وقوله الحق :﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ﴾.
أي أنه لا يوجد إله إلا هو سبحانه، ولا يمكن أن تغير أنت المنهج النازل إليك منه، وعليك أن تعرض عن المشركين، فلا تجالسهم، ولا تخالطهم، ولا تودهم. إنه إعراض الفطنة والإرشاد والبلاغ.
﴿ ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ( ١٠٧ ) ﴾.
الحق سبحانه وتعالى يعطينا قضية لا بد أن نستصحبها في تاريخنا الإيماني، والقضية هي : أن أي كافر لم يكفر قهرا عن الله، وإنما كفر لأن الله أرخى له الزمام بالاختيار أي خلقه مختارا، ولذلك فالكافر إنما يفعل كل فعل بما آتاه الله من الاختيار لا غصبا عن ربنا أو قهرا، بدليل أن الكون الذي نحيا فيه مقهور بالأمر، لا يمكن أن يختار إلا مراد الله منه، وكل ما في الكون يسير إلى مراد الله.
إذن فمن لم يكفر قهرا عن الله ؛ لأن طبيعة الاختيار ممنوحة من الله. وحين اختص الله الإنسان بالاختيار وضع المنهج الذي يرتب عليه الثواب والعقاب. ولذلك نزل التكليف ب ( افعل ) و ( لا تفعل ). وسبحانه إن أراد قهرا فقد قهر كل الأجناس في الكون ؛ قهرها بطول العمر، وأنها تؤدي مهمتها كما أراد الله منها، إنه قهر الشمس، وقهر القمر، وقهر النجوم، وقهر الماء، وكل حاجة في الكون مقهورة له حتى الملائكة خلقهم.
﴿ ولا يعصون الله ما أمرهم ﴾( من الآية ٦ سورة التحريم ).
إذن صفة القهر أخذت متعلقها كاملا. ولكن أيريد الله من خلقه أن يكونوا مقهورين على ما يريد ؟ لا، بل يريد سبحانه أن يكونوا فاعلين لما يحبه، وإن كانوا مختارين أن يفعلوا ما لا يحبه، كأن خلق القهر في الأجناس كان لإثبات طلاقة القدرة، وأنه لا يمكن لمخلوق أن يشذ عن مراد الله منه. وبقي الاختيار في الإنسان ليدل على أن أناسا من خلقه سبحانه يذهبون إليه جل وعلا وهم قادرون ألا يذهبوا إليه، وهذه تثبت صفة المحبة.
وحين يختار المختار الطاعة، وهو قادر ألا يطيع، ويختار الإيمان وهو قادر أن يكفر فقد جاء إلى الله محبة لا قهرا، ولذلك يقول ربنا لرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾( سورة الشعراء ).
أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا على عدم إيمان قومك بما جئت به من عند ربك، أتريد يا محمد أن أقهرهم ؟ أتريد أعناقا أو قلوبا ؟ إنك يا محمد تعلم أن منهجك النازل إليك من ربك يريد قلوبا، والقلوب تأتي بالاختيار. فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهرا عليهم.
ولذلك إذا خدش الاختيار بفقد أي عنصر من عناصره يزول التكليف. بدليل أنه لا تكليف على فاقد العقل ؛ لأن آلة الاختيار عندنا هي العقل. وكذلك لا تكليف لمن لم ينضج بل يتركه الحق إلى أن ينضج. ويصير قادرا على إنجاب مثله وأن يصل إلى التكوين الكيماوي السليم. ويمنع عنه الإكراه بأي قوة أعلى منه تقهره على أن يفعل شيئا على غير مراده، وهنا يأتي التكليف.
إذن فالتكليف يحتاج إلى أمور ثلاثة : وجود عقل، لذلك فلا تكليف لمجنون، وعقل رشيد ناضج، فقبل البلوغ لا تكليف ولا إكراه حتى يسلم الاختيار، لماذا ؟ تأتي الإجابة من الحق سبحانه :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة ﴾( سورة الأنفال )
ويقول الحق سبحانه :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ( ١٠٨ ) ﴾.
وإن كان بعض الشعراء يلحون على هذه المسألة. فيقولون :
خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي *** واجن الثمار وخل العود للنار
إذن فالبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر ضروري، وهو امتداد لشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه بلغ صلى الله عليه وآله وسلم عن الحق مراده من الخلق. وبقى أن يشهد الناس الذين اتبعوا هذا الرسول أنهم بلغوا إلى الناس ما جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
﴿ كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾( من الآية ١٤٣ سورة البقرة ).
إذن فكما أن الرسول سيشهد بأنه بلغنا، فمن صميم المنهج أن يشهد أتباعه أنهم بلغوا الناس، فإن حدث تقصير في البلاغ إلى الناس، فستكون المسئولية على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يؤد أمانة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الناس أجمعين. ومنهج الدعوة منهج صعب ؛ لأن الدعوة إلى الله تتطلب أن يأخذ الداعي يد الذين ينحرفون عن منهج السماء اتباعا لشهوات الأرض، وشهوات الأرض جذابة دائما للخلق ؛ لأنها تحقق العاجل من متع النفس. واتباع منهج الدين – كما يقولون – يحقق نفعا آجلا. وفي هذا القول ظلم للدين، لأن الدين قبل أن يحقق للناس متعة آجلة، فهو يحقق – أيضا – متعة عاجلة ؛ لأن الناس إن تمسكوا بمنهج الله في ( افعل ولا تفعل ) يعيشون حياة طيبة لا حقد فيها، ولا استغلال، ولا ضغن ولا حسد ولا سيطرة، ولا جبروت، فيصبح الناس جميعا في أمان.
إذن فلا تقولوا إن الدين ثمرته في الآخرة بل قولوا ليست مهمة الدين هي الآخرة فحسب بل مهمة الدين هي الدنيا أيضا، والآخرة إنما هي ثواب على النجاح في هذه المهمة ؛ لأن الله إنما يجازي في الآخرة من أحسن العمل في الدنيا. ومن اتبع منهج الله كما قال الله :﴿ فلنحيينه حياة طيبة ﴾ ومن أعرض عن منهج الله فإن له معيشة ضنكا. ويحدث ذلك قبل الآخرة، ثم يأتي يوم القيامة ليتلقى العقاب من الله :
﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾( سورة طه ).
فإذا كان الدين يأخذ بالناس من شهواتهم الهابطة إلى منهج الله العالي، فتكون مهمة الداعي شاقة على النفس، ولذلك قالوا : إن الناصح بالخير يجب أن يكون لبقا ؛ لأنه يريد أن يخلع الناس مما أحبوا وألفوا من الشر ؛ لذلك يجب على الداعي ألا يجمع عليهم إخراجهم مما ألفوا بأسلوب يكرهونه بل لابد أن يثير جنانهم ورغبتهم في اتباع المنهج، ولذلك جاءت هذه الآية :
﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ( ١٠٨ ) ﴾( سورة الأنعام )
لقد قال الحكماء : النصح ثقيل فلا ترسله جبلا ولا تجعله جدلا، والحقائق مرة، فاستعيروا لها خفة البيان. والخفة في النصح تؤلف قلب المنصوح، وحسبك منه أن تخلعه عما ألف وأحب. إلى ما لم يتعود، فلا يكون خلعه مما ألف بأسلوب عنيف. ولذلك يعلمنا الحق هذه القضية حين ندعو الخصوم إلى الإيمان به، وهؤلاء الخصوم يتخذون من دون الله أندادا ؛ أي جعلوا الله ومعه شركاء.
إنهم إذن أرادوا المتعة العاجلة بالابتعاد عن المنهج، ثم احتفظوا بالله مع الشركاء ؛ لأنه قد تأتي لهم ظروف عصيبة، لا تقدر أسباب الأرض على دفعها، ومن مصلحتهم أن يكون لهم إله قادر على أن ينجيهم مما هم فيه. فهم لا يكذبون أنفسهم. والحق سبحانه هو القائل في مثل هؤلاء إن أصروا على الشرك :
﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ( ٩٨ ) ﴾( سورة الأنبياء )
حصب جهنم إذن هم المشركون ومعهم الأصنام التي كانوا يعبدونها وستكون وقودا للنار التي يعذبون بها. وبعض من الناس السطحيين يظن أن هذا عذاب للأحجار، لا، بل هي غيرة ونقمة وغضب من الأحجار على خروج المشركين عن منهج الله في توحيد الله. فتقول الأحجار : لقد كنتم مفتونين بي ولذلك سأكون أنا أداة إحراقكم. إننا نجد المفتونين في الآلهة من البشر أو الآلهة من الأشجار أو الآلهة من الكواكب أو الآلهة من الأحجار يصيبهم الله بالعذاب، والأحجار التي عبدوها تقول كما قال بعضهم فيها شعرا :
عبدونا ونحن أعبد ل *** له من القائمين في الأسحار
واتخذوا صمتنا علينا دليلا *** وغدونا لهم وقود النار
للمغالي جزاؤه والمغالي فيه *** تنجيه رحمة الغفار
ولذلك يأتي الأمر بألا نسب ما يعبده الذين أشركوا بالله ؛ لأن الأصنام لا ذنب لها، والواقع كان يقتضي أن تتلطفوا بالأحجار فهي لا ذنب لها في المفتونين بها. والحق سبحانه وتعالى يعلمنا ويوضح لنا ألا نظلم المتخذ إلها ؛ لأنه معذور، والسب هو ذكر القبيح، والشتم، والذم، والهجاء، إنك إن سببت وقبحت ما عبدوه من دون الله فإن العابد لها بغباوته سيسب إلهك فتكون أنت قد سببت إلها باطلا، وهم سبوا الإله الحق، وبذلك نكسب شيئا ؛ فانتبهوا.
ويحذرنا القرآن من الوقوع في ذلك في قول الله تبارك وتعالى :
﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾( من الآية ١٠٨ سورة الأنعام ).
وهم سيفعلون ذلك عدوا وعدوانا وطغيانا بغير علم بقيمة الحق وقدسيته سبحانه وتعالى ؛ لذلك يجب أن نصون الألسنة عن سب آلهتهم حتى لا نجرئ الألسنة التي لا تؤمن بالله على سب الله.
إن الحق سبحانه يريد أن يعلمنا اللطف في منهج الدعوة ؛ لأنك تريد أن تحنن قلوبهم لتستميلهم إلى الايمان ولن يكون ذلك إلا بالأسلوب الطيب.
صحيح أن المؤمنين معذورون في حماسهم حين يدخلون في مناقشة مع المشركين ولكن ليتذكر المؤمن القيمة النهائية وهي الخير للدعوة. وليسأل الله أن يرزقه الصبر على المشركين، ويعلمنا الحق كيف نسير في منهج الدعوة، وعلى سبيل المثال نجد سيدنا نوحا عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وظل يدعو ويتحنن في الدعوة، إلى أن قالوا له في آخر المطاف : أنت تفتري هذا الكلام من عندك، فعلمه الله سبحانه وتعالى أن يقول :
﴿ قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا برئ مما تجرمون ﴾( من الآية ٣٥ سورة هود ).
ويقول الحق سبحانه معلما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ قل من يرزقكم من السماوات والأرض ﴾( من الآية ٢٤ سورة سبأ ).
أي من الذي يعطيكم قوام الحياة ؟ وأنت حين تسألهم سؤالا يناقض ما هو عليه. فيتلجلجون، فيسعف الله رسوله فيوضح سبحانه ويأمره أن يقول لهم :﴿ قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾( من الآية ٢٤ سورة سبأ ).
و ( إنا ) أي رسول الله ومن معه. ( أو إياكم ) المقصود بها الكافرون بالله، ولم يقل لهم أنا وحدي على هدى وأنتم على ضلال، بل قال : منهجنا ومنهجكم لا يتفقان، ولا بد أن يكون هناك منهج على هدى ومنهج على ضلال، ولن أقول من هو الذي على هدى، ومن هو الذي على ضلال ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم واثق من أنهم لو أداروا المسألة على عقولهم وعلى بصائرهم : فلن يجدوا جوابا إلا أن رسول الله على الهدى وأنهم على الضلال. فتركهم هم ليقولوها.
ولنتأمل أيضا قول الحق سبحانه :
﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( ٢٥ ) ﴾( سورة سبأ )
لم يقل الحق إنهم هم الذين يجرمون، بل جعل الجرم – إن صح على المؤمنين، وجعل العمل – وإن فسد – مع الكافرين. وعلى الأقل كانت المساواة تقتضى ولا نسأل عما تجرمون ولكنه لم يقل ذلك. وهذا هو الأدب العالي واللطف ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد ألا يترك الرسول لغرائزهم مكانا للإباء عليه، وألا يجدوا وسيلة لينفروا من الدعوة. ولهذا يعلمنا هذا الأسلوب فيقول :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾( من الآية ١٠٨ سورة الأنعام ).
وبذلك نحقق لطف الجدل. ويقول سبحانه :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ﴾( من الآية ١٩٤ سورة الأعراف ).
وإن كنتم تريدون كشف حقيقة تلك الأصنام فهي أيضا مخلوقة لله وهي تعبده، واسألوهم ولن يجيبوا، وهم لا أرجل لهم يمشون عليها، ولا لهم أيد يبطشون بها، ولا لهم أعين يبصرون بها، ولا لهم آذان يسمعون بها، وفوق ذلك :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾( من الآية ٧٣ سورة الحج ).
وهل هناك ما هو أقل من الذباب في عرفكم ؟ نعم، يقول الحق :﴿ إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ﴾( من الآية ٧٣ سورة الحج ).
فإن جاءت ذبابة وحطت على ما تأكل، أتستطيع أن تسترجع منها شيئا ؟ لن تستطيع، وإن كنت جبارا وفتوة فامسك الذبابة وخذ منها الطعام الذي أخذته، لن تستطيع، ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ضعف الطالب والمطلوب ﴾( من الآية ٧٣ سورة الحج ).
وهذا هو الجدل الذي يجعل المجادل يخجل من نفسه، لكن إذا ثرت في وجهه وتعصبت فأنت تجعل له عذرا في الحفيظة عليك والغضب منك والهجوم عليك، وفي الانصراف عن منهج الله، ونسأل الله أن يعطينا طول البال وسعة الحلم والأناه على الجدل اللطيف.
﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾( من الآية ١٠٨سورة الأنعام ).
وحين يعلمنا الحق الجدل اللطيف للدعوة فهذا تزيين للدعوة، والدعوة في ذاتها جميلة، لذلك لا بد أن يكون عرضها جميلا.
والمثال في حياتنا : أنت تذهب إلى التاجر وعنده بضاعة قد تكون متميزة جدا لكنه لا يرتبها و لا يحسن عرضها ؛ لذلك قد تنفر منه وتذهب إلى تاجر آخر قد تكون بضاعته أقل جودة، لكنه يحسن عرضها، هذا هو التزيين أي تصعيد الحسن، ولذلك سمي الحلي وما تتجمل به المرأة زينة والمرأة قد تمتلك أنوثة جميلة، وهي مع جمالها تقوم بتزيين نفسها بالحلي، وبالجواهر والملبس الراقي، وكان العربي حين يمتدح امرأة بقمة جمالية يقول : هذه غانية، أي استغنت بجمالها عن أن تتزين ؛ لأن ما سوف تداريه بالعقد أجمل من العقد.
والتزيين إذن جمال العرض للاستمالة والانجذاب، ونحن حين نزين أمرا فإننا نعطيه وقارا وحسنا ونزيده جمالا :﴿ كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾ والأمة : هي الجماعة التي لها انتماء يجمع أفرادها، مثل أمة العرب.... أي أن المنتمين إليها هم العرب والأمة الإنجليزية أي أن المنتمين إليها إنجليز، أما أمة الإسلام فيدخل فيها العرب، والع
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ( ١٠٩ ) ﴾.
و ﴿ أقسموا بالله ﴾، هنا قسم : ومقسم به، ومقسم، ومقسم عليه..... فالمقسم به هو الله : والمقسم هم الجماعة المخالفون لرسول الله، لماذا يقسمون ؟ لقد أقسموا حين أخذهم الجدل بمنطق الحق فغلبهم...... هم أقسموا بالله وقد دعاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبادته، و ﴿ جهد أيمانهم ﴾ تعرف منها الجهد وهو المشقة أي أنهم بالغوا في القسم مبالغة تجدهم ليبينوا لمن يقسمون لهم أنهم حريصون على أن يبروا بالقسم، فأفرغوا جهدهم ومشقتهم في القسم، وهذا معناه أنهم أعلنوا أنهم يقسمون قسما محبوبا لهم، والمحبوب لهم أكثر أن ينفذوا هذا القسم، وهذا يدل في ظاهره على إخلاصهم في القسم.
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن ﴾( من الآية ١٠٩ سورة الأنعام )
ألم يأت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بآية واضحة ؟ لقد جاءهم بأعظم آية وهي القرآن، وعدم عرفانهم بذلك هو أول مصيبة منهم، ألم يقل لكم : إني رسول بعد أن أعلن الآية وهي نزول القرآن وأنتم تعرفون أنه صادق في التبليغ عن الله...... وكان ذلك هو قمة المماحكة منهم، وساروا على ذلك حين اقترحوا هم الآيات على الله، ألم يقولوا :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٩٢ ) ﴾( سورة الإسراء ).
وأراد الحق بذلك أن يبين لنا أن القسم الذي أقسموه هو قسم مدخول فقد قالوا :﴿ كما زعمت علينا ﴾ والزعم – كما نعلم – مطية الكذب وهذا أول خلل في القسم.
ويقول الحق :﴿ إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ﴾( من الآية ٩ سورة سبأ ).
هم إذن غير مؤمنين بالآية الأصلية وهي القرآن، فيتحدونه في أنه ينزل بالوحي، فيحذرنا الحق أن نصدق زعمهم، فهو القائل :
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) ﴾( سورة الأنعام ).
وحتى إن نزلت الآية فلن يصدقوا، فالحق هو القائل :
﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( ١٤ ) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ( ١٥ ) ﴾( سورة الحجر )
ولو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سحركم...... فلماذا لم يسحرهم ليؤمنوا بالله ؟
وهكذا نرى أن الحق قد ذكر لنا في كتابه أن كل ما يقولونه في هذه المسألة هو مروق وهروب من الاستجابة للدعوة ؛ لأنه لا توجد آية أعظم من الآية التي نزلت عليهم وهي القرآن، وكل الآيات التي اقترحوها لا تسمو على هذه الآية ؛ لأنهم أمة نحو وصرف وبلاغة وبيان وأدب، فجاء لهم بالمعجزة التي تفوقوا فيها. وهم لم يتفوقوا في الأشياء التي ذكروها واقترحوها. إننا نأتي لهم بمعجزة من جنس ما تفوقوا فيه ؛ لأن المعجزات دائما تأتي على هذا الأساس ؛ فكل قوم تفوقوا في مجال يأتي الله لهم بشيء يتفوق عليهم في مجال تفوقهم ليثبت صدق الرسول في البلاغ عنه.
ولقد قلنا : إن المعجزات تأتي خرقا لنواميس الكون الثابتة لأن نواميس الكون لها قوانين عرفها البشر، وأصبحت متواترة أمامهم ؛ فإذا ما جاء أمر يخرق الناموس السائد المعترف به بينهم يلتفتون متسائلين كيف خرق الناموس وذلك ليعرف كل واحد منهم أن الذي خلق الناموس هو الذي خرق الناموس ؛ لكي يثبت صدق هذا البلاغ عنه. وقد جاءتكم المعجزة من جنس ما نبغتم فيه، والذي يدل على ذلك أنهم لا يتكلمون في المعجزة بل في المنهج وفي شخص من جاء بالمنهج، تجدهم يقولون :
﴿ لولا أنزل عليه ملك ﴾( من الآية ٨ سورة الأنعام )
فيوضح القرآن أن الملك بطبيعة تكوينه لا يرى منكم ؛ هو يراكم وأنتم لا ترونه، وإذا أرسلنا ملكا فكيف تعرفونه ؟ إذن سيتطلب إرسال ملك أن نخلع عليه وضع البشر، وأن ينزله الحق في صورة البشر، وإن نزل في صورة البشر فسيقولون : إنه ليس بشرا ولسنا ملزمين بما جاء به :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾( سورة الأنعام ).
وكان سيدنا جبريل - على سبيل المثال – ينزل إلى رسول الله أحيانا في صورة رجل قادم من السفر ويقعد مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يأت جبريل عليه السلام – إذن – بطبيعة تكوينه بل جاء بطبيعة البشر. هناك خلق آخر مثل الجن. ونحن لا نقدر أن نرى الجن، ولا نستطيع بقوانيننا وقوانين الجن أن نراه، لكن إن أراد الجن أن يرينا نفسه فهو يتشكل بشكل مادي يرى ؛ يتشكل بشكل حيوان، يتشكل بشكل قطة، يتشكل بشكل جمل، يتشكل بشكل رجل، وهكذا، ولو كانت هذه المسألة غير مقيدة بتقنين يحفظ توازن الأمر بين الجنسين – الإنس والجن – لتعب الناس ؛ لأنه ساعة يظهر جن للإنسان ويقف أمامه ثم يختفي يسود الرعب بين البشر على الرغم من أن الجن تخاف من الإنسان أكثر مما نخاف نحن منهم ؛ لأن الجن يعرف أن قانونه يسمح له أن يتشكل بشكل إنس أو أي شكل مادي، وحينئذ يحكمه قانون الإنس وإن التقى بشخص معه مسدس – مثلا – فقد يضربه بالرصاص ويقتله، ولذلك يخاف الجن أن يظهر للإنسان مدة طويلة، إنما يظهر كومضة البرق ويختفي ؛ لأنه يخاف كما قلنا – من الإنسان. إذن فالتوازن موجود بين الجن والإنس. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فذعته، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أوكلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان :﴿ رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ﴾ فرده الله خاسئا، وفي رواية :( والله لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة )١.
هكذا نعلم أن القوم إذا اقترحوا آية، ثم جاء الله بالآية، فإن كذبوا بها أخذهم أخذ عزيز مقتدر ولا يؤجل ذلك للآخرة.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾
( من الآية ٣٣ سورة الأنفال )إذن فحتى الكفار به نالهم شيء من رحمته.
﴿ لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ( ١٠٩ ) ﴾( سورة الأنعام ).
هنا يبلغ الحق رسوله أن يقول لهم : أن لا آتي بالآيات من عندي ولا آتي بها بقانون قدرتي، لأن قانون قدرتي مساو لكم، ولست متفوقا عنكم غير أنه يوحى إلي وأبلغكم ما أرسلت به إليكم. إن الله هو الذي يناولني آيات القرآن، ولا يوجد خلق يقترح على الله الآية ؛ لأن ما سبق في الرسالات السابقة يؤكد أن الحق إذا ما ستجاب لآية طلبها الخلق ولم يؤمنوا فسبحانه يهلكهم ويستأصلهم أو يغرقهم أو يرسل عليهم ريحا صرصرا أو يخسف بهم الأرض، والحق هو القائل :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾( من الآية ٥٩ سورة الإسراء )، إذن فبعض أهل الرسالات السابقة اقترحوا الآيات وحققها الله لهم ثم كذبوا بها. إذن فالتكذيب هو الأصل عندهم.
والمفروض أن تأتي الآية كما يريدها الله لا أن يقترحها أحد عليه. ولذلك يأمر الحق رسوله أن يبلغهم :﴿ قل إنما الآيات عند الله ﴾ ثم يأتي خطاب جديد لأناس يختلفون عن المشركين هم المؤمنون، فيقول الحق لهم :﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ فكأنهم حينما قال أهل الشرك ذلك أراد المؤمنون أن يخففوا عنتهم مع رسول الله فقالوا له : يا رسول الله، اسأل الله أن ينزل لهم آية حتى نرتاح من لجاجتهم، فيتجه الله بالرد على من قرظ هذا السؤال موضحا : أنتم مؤمنون وظنكم حسن، وفكرتكم طيبة في أنكم تريدون أن تكسروا حدة العنت، لكن ما يشعركم : أي ما يعلمكم أن الآية التي اقترحوها إن جئت بها لا يؤمنون. فكأن المؤمنون أيدوا قول هؤلاء المشركين في طلب الآية منعا للجاج. ٢
والنص القرآني جاء بقوله الحق : " لا يؤمنون " وجاء العلماء عند هذه المسألة واختلفوا، وجزى الله الجميع خيرا ؛ لأنها أفهام تتصارع لتخدم الإيمان. ونسأل : ما الذي يجعل الأسلوب يجيء بهذا الشكل ؟ ونقول : إنها مقصودات الإله حتى نعيش في القرآن. لا أن نمر عليه المرور السريع. والأسلوب في قوله :﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ هو دليل على أنه ليس لكم علم. وقلنا : إن الشعور يحتاج إلى إدراك ومواجيد ونزوع، فعلى أي أساس بنيتم شعوركم هذا ؟ أنتم أخذتم ظاهر كلامهم، ولكن الحق يعلم ويحيط بما يخفون ويبطنون. وكأنه سبحانه يوضح أن طلب الآية إنما هو تمحيك. وأنتم لا تعلمون أن الله إن جاء لهم بالآية فلن يؤمنوا.
وبعض من المفسرين قال : إن ( لا ) زائدة ومنهم من كان أكثر تأدبا فقال :( لا ) صلة لأنهم خافوا أن يقولوا :( لا ) زائدة وقد يأخذ البعض بمثل هذا القول فيحذفها، لذلك أحسنوا الأدب، لأن الذي يتكلم هو الإله وليس في كلامه حرف زائد بحيث لو حذفته يصح الكلام، لا. إنك إذا حذفت شيئا فالكلام يفسد ولا يؤدي المراد منه ؛ لأن لله مرادات في كلامه، وهذه المرادات لابد أن يحققها أسلوبه. والمثال في حياتنا أن يقول لك واحد : " ما عندي مال " أو ما عندي من مال ؟ إن " من مال " هنا ابتدائية أي ما عندي من بداية ما يقال : إنه مال، أما من يقول : " ما عندي مال " أي ليس عنده ما يعتد به من المال الذي له خطر وقيمة، بل عنده قروش مما لا يقال له : مال. إن في جيبه القليل من القروش.
و " لا " في هذه الآية جاءت لأن الحق يريد أن يقول للمؤمنين : ما يعلمكم يا مؤمنون أنني إذا جئت لهم بالآية يؤمنون، فكأنه سبحانه ينكر على المؤمنين تأييد مطلب الكافرين. وقد تلطف الحق مع المؤمنين وكرم حسن ظنهم في التأييد لأنهم لا يؤيدون الطلب حبا في الكفار، بل حبا في النبي والمنهج، وكأن الحق يقول لهم : أنا أعذركم لأنكم تأخذون بظاهر جهد اليمين ﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ ومبالغتهم فيه. ولا أنكر عليكم تصديقكم لظاهر قولهم ؛ لأن هذا هو مدى علمكم، وما أدراكم أنني إذا جئت بالآية أنهم أيضا لن يعلنوا الإيمان. ولو كنتم تعلمون ما أعلم لعرفتم أنهم لن يؤمنوا. إذن حين جاء الأسلوب ب﴿ لا يؤمنون ﴾ ف﴿ لا ﴾ حقيقية وليست زائدة.
٢ راجع أصله وخرج أحاديثه الدكتور/ أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر..
وحين تقول : أنا أقلب السلعة فهذا يعني أنك تفحصها. والحق يبلغنا هنا : أنا قلبت قلوبهم على كل لون ولن آخذ بظاهر الفؤاد، بل بلطفي وعظيم خبرتي أعلم الباطن منهم فاطمئنوا إلى أن حكمي هو الحكم الحق الناتج من تقليب لطيف خبير.
وقد يكون هنا معنى آخر، أي أن يكون التقليب لونا من التغيير ؛ فمن الجائز أنهم حينما أقسموا بالله جهد أيمانهم كانوا في هذا الوقت قد اقتربوا من الإيمان ولكن قلوبهم لا تثبت على عقيدة. بل تتقلب دائما. وما دامت قلوبهم لا تثبت فأنى لنا بتصديقهم لحظة أن أقسموا بالله جهد أيمانهم على إعلان الإيمان إن جاءت آية ؟ وهل فيهم من يملك نفسه بعد مجيء الآية أيظل أمره كذلك أم يتغير ؟. لأن ربنا مقلب القلوب وما كنت تستحسنه أولا قد لا تستحسنه ثانيا. حين ﴿ نقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ﴾.
إن الإيمان يحتاج إلى استقبال آيات كونية بالبصر، وبعد أن تستقبل الآيات الدالة على عظمة الإله تؤمن به ويستقر الإيمان في فؤادك. وسبحانه يوضح لنا أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم، هل يبصرون باعتبار واقتناع ؟ أو هي رؤية سطحية لا فهم لهم فيها ولا قدرة منهم على الاستنباط ؟ وهل أفئدتهم قد استقرت على الإيمان أو أن أبصارهم قاصرة وقلوبهم قاصرة ؟
﴿ ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ١١٠ ﴾( سورة الأنعام ).
إذن فهم لا يؤمنون ويسيرون إلى ضلالهم. فإن جاءت آية فلن يؤمنوا، وفي هذا عذر للمؤمنين في أنهم يرجون ويأملون أن تنزل آية تجعل من أقسموا جهد الإيمان أن يؤمنوا.
لماذا ؟ لأن الحق قال :﴿ كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ﴾، أي أنهم لم يتغيروا و لذلك يصدر ضدهم الحكم ﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ والطغيان هو تجاوز الحد، وهم قد تجاوزا الحد هنا في استقبال الآيات، فقد جاءتهم آيات القرآن وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، وعجزوا عن أن يأتوا بعشر سور، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة، وكان يجب أن ألا يطغوا، وألا يتجاوزوا الحد في طلب الاقتناع بصدق الرسول.
﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ " والعمة " هو التردد والحيرة، وهم في طغيانهم يترددون، لأن فيهم فطرة تستيقظ، وكفر يلح ؛ يقولون لأنفسهم : أنؤمن أو لا نؤمن ؟ والفطرة التي تستيقظ فيهم تلمع كومضات البرق، وكان يجب ألا يترددوا : أو ﴿ ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم ﴾ في النار ؛ لأن البصر لم يؤد مهمته في الاعتبار، والقلب لم يؤد مهمته في الفقه عن الله، فيجازيهم الله من جنس ما عملوا بأن يقلب أبصارهم وقلوبهم في النار.
﴿ ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلا مّا كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله ولكنّ أكثرهم يجهلون ١١١ ﴾.
هنا يوسع الحق المسألة. فلم يقل : إنهم سوف يؤمنون، بل قال :﴿ ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة ﴾ مثلما اقترحوا، أو حتى لو كلمهم الموتى، كما قالوا من قبل :﴿ فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين٣٦ ﴾ [ سورة الدخان ].
ويأتي القول :﴿ وحشرنا عليهم كلّ شيء ﴾ و﴿ الحشر ﴾ يدل على سوق بضغط مثلما نضع بعضا من الكتب في صندوق من الورق المقوى ونضطر إلى أن نحشر كتابا لا مكان له، إذن : الحشر هو سوق فيه ضغط، وهنا يوضح الحق : لو أنني أحضرت لهم الآيات يزاحم بعضها بعضا وقدرتي صالحة أن آتي بالآيات التي طلبوها جميعا لوجدت قلوبهم مع هذا الحشر والحشد تضن بالإيمان.
﴿ وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلا ﴾. و " قبلا " هي جمع " قبيل "، مثل سرير وسرر.
﴿ وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلا ﴾. وهذا يعني أن الحق إن جاء لهم بكل ما طلبوا من آيات، وكأن كل آية تمثل قبيلة والآية الأخرى تمثل قبيلة ثانية، وهكذا. فلن يؤمنوا، أو ﴿ قبلا ﴾ تعني معاينة أنهم يرونها بأعينهم، لأن في كل شيء دبرا وقبلا ؛ والقبل هو الذي أمام عينيك، والدبر هو من خلفك. فإن حشرنا عليهم كل شيء مقابلا. ومعاينا لهم فلن يؤمنوا. وإن أخذتها على المعنى الأول أي أنه سبحانه إن حشد الآيات حشدا وصار المعطى أكثر من المطلوب فلن يؤمنوا. وإن أردت أن تجعلها مواجهة، أي أنهم لو رأوا بعيونهم مواجهة من أمامهم فلن يؤمنوا.
﴿ ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملآئكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلا مّا كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله.. ١١١ ﴾[ سورة الأنعام ].
وجاء الحق هنا بمشيئته لأن له طلاقة القدرة التي إن رغب أن يرغمهم على الإيمان فلن يستطيعوا رد ذلك، ولكن الإرغام على الإيمان لا يعطي الاختيار في التكليف ولذلك قال سبحانه :
﴿ لعلّك باخع نفسك ألّا يكونوا مؤمنين ٣ إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين ٤ ﴾﴿ سورة الشعراء ﴾
والله لا يريد أعناقا تخضع، وإنما يريد قلوبا تخشع. لذلك يذيل الحق الآية بقوله :﴿ ولكنّ أكثرهم يجهلون ﴾. والجهل يختلف عن عدم العلم، بل الجهل هو علم المخالف، أي أن هناك قضية والجاهل يعلم ما يخالفها، أما إن كان لا يعلم القضية فهذه أمية ويكفي أن نقولها حتى يفهمها فورا. لكن مع الجاهل هناك مسألتان : الأولى أن نزيل من إدراكه هذا الجهل الكاذب، والأخرى أن نضع في إدراكه القضية الصحيحة، وما دام أكثرهم يجهلون. فهذا يعين أنهم قد اتبعوا الضلال
﴿ وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ١١٢ ﴾ ؟.
﴿ وكذلك ﴾ إشارة من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسل والأنبياء ليعطي الأسوة للرسول بإخوانه السابقين له في موكب الرسالات، فلست بدعا يا محمد في أنك رسول يواجه بأعداء، فكل رسول من الرسل ووجه وقوبل بهؤلاء الأعداء.
وهل فَتّ أعداء الرسل في عضد من أرسل إليهم وأضعفوا قوتهم وأوهنوا عزائمهم وأثنوهم عن دعوتهم ؟ أو ظل الرسل أيضا صامدين ؟.. إنهم صمدوا وأيدهم الله ونصرهم وإذا كنت أنت خاتم الرسل، وسيد المرسلين، والمعقب على رسالات سبقتك ولا معقب على رسالتك فلابد أن يكون الأعداء الذين يواجهونك مناسبين للمهمة التي تؤديها. وإياك أن تظن أن المقصد في هذه العداوة أننا تركناهم أعداء لمجرد العداء، لا، بل نحن قد أردنا هذه العداوة لصالح الدعوة ؛ لأن الإنسان إذا ما كان في منهج خير وأهاجه الشر يتحمس لمزيد من الخير. ولذلك لا تجد الصحوات الإيمانية إلا حين يجد المؤمنون تحديا من خصومهم، هنا تجد الصحوة الإيمانية قد استيقظت لأن هناك خصوما يتحدونها، ولو لم يكن هناك خصوم لبقيت الصحوة فاترة. وهذا ما نراه حين يوجد من خصوم الإسلام من أي لون من ألوانهم من يتحدى أي قضية من قضايا الدين. في هذه الحالة نجد حتى غير الملتزم بمنهج الإسلام يغار على الدين. إذن فالعداوة لها فائدة، وإياك أن تظن أن في أي مظهر في الوجود يغلب الله على مراداته في كونه، والشر له رسالة لأنه لولا أن الشر موجود ويصاب الناس من أذاه لما تحمس الناس للخير، فالذي يجعلنا نتحمس للخير هو وجود الشر، وأوضحنا من قبل أن الباطل جندي من جنود الحق ؛ لأن الباطل حين يعض ويعربد في الناس يتساءل الناس متى يأتي الحق لينقذنا، وأنك ساعة ترى مريضا يتألم إياك أن تظن أن الألم قد جاءه دون سبب، بل الألم جندي من جند الشفاء. وكأن الألم يقول لمن يصيبه : يا إنسان تنبه أن عطبا في هذا المكان فسارع إلى علاجه. ولذلك نجد أعنف الأمراض وأشرسها وأخبثها، هي الأمراض التي تأتي بلا ألم يسبقها، ولا تظهر أعراضها إلا بعد أن يستعصى شفاؤها، وهكذا نرى أن الألم جندي من جنود العافية.
وحين يكون لك عدو في الحارة أو في البلدة وعيونه مركزة عليك فأنت تخاف أن تقع منك هَنة وعيب حتى لا يشنع عليك ؛ لذلك تسير على الصراط المستقيم لأنك لا تريد أن تنصره على نفسك.
والشاعر القديم، الذي أعجبه الشعر فشطره. يقول لك :
عداي لهم فضل عليّ ومنة *** فعندي لهم شكر على نفعهم ليا
فهم كدواء والشفاء بمرّه *** فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
همُ بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها *** فأصبحت ممّا دنس العرض خاليا
وهم أججوا جهدي ولكن ببغضهم *** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
لذلك لا بد أن تنظر إلى كل شيء بحكمة إيجاد الحكيم له فقد شاء الحق أن يوجد الأعداء للدعوة الإسلامية حتى تنتصر وتقوى.
﴿ وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ١١٢ ﴾( سورة الأنعام ).
وجعل الحق سبحانه وتعالى الأعداء للأنبياء، مهيجين ومثيرين للنبي ولأتباعه ؛ لأن الأمر إذا حصلت فيه معارضة من مخالف أججت في نفس المقابل قوة حتى لا يهزم أمامه ولا يغلب أمام منطقه. ولذلك قال الحق :﴿ وكذلك جعلنا ﴾ أي أنهم لم يتطوعوا بالعداوة إنما هو تسخير للعداوة ﴿ جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا ﴾.
كيف يجعل الله لكل نبي عدوا ؟ إنه يفعل ذلك بما أودع في الناس من الاختيار، وما داموا مختارين فالذي اختار الهدى يكون نصيرا للنبي، والذي اختار الضلال يكون عدوا للنبي.
إذن فهم لم يكونوا أعداء بطبيعتهم، وإنما بما أودع الله فيهم من الاختيار.
وإذا كان الله هو الذي أودع الاختيار فقد أراد أن يحقق مشيئته في قوله :
﴿ ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حي عن بيّنة.. ٤٢ ﴾[ سورة الأنفال ].
ولو شاء الله ألا يكون للنبوة أعداء لفعل ذلك، لأن له طلاقة القدرة، ولكن ذلك سيكون بالقهر، والله لا يريد قهرا للعقلاء، وإنما يريد أن يذهبوا إليه بمحض اختيارهم ؛ أي وهم قادرون على ألا يذهبوا. وكلمة " عدو " في ظاهرها أنها مفرد، ولكنها تطلق على الواحد، وتطلق على الاثنين، وتطلق على الجماعة، فتقول : " هذا عدو لي " ؛ " وهذه عدو لي " ؛ ولا تقل " عدوة "، وتقول : وهذان عدو لي، وهاتان عدو لي، وهؤلاء عدو لي، لأن كلمة " عدو " تطلق على الذكر والأنثى وتقال للمفرد وللمثنى، وللجمع.
اقرأوا قول الحق :
﴿ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين٧٧ ﴾[ سورة الشعراء ]
﴿ قال اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو.. ١٢٣ ﴾[ سورة طه ]
ولم يقل أعداء، إذن فكلمة " عدو " تطلق على المفرد والمفردة، والمثنى والمثناة، وعلى جمع المذكر ولجمع المؤنث. لكن بعض الذين يحبون أن يكونوا مستدركين على كلام الله. يقول الواحد منهم : كيف يقول : " فإنهم عدو لي " أو " اهبطوا بعضكم لبعض عدو " ؟ ! ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين.. ٢٢ ﴾[ سورة الأعراف ]
والشيطان عدو، وهو عدو. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.. ١٠٣ ﴾[ سورة آل عمران ].
ونقول له : أنت قد فاتك أن الذي يتكلم هو الرب الأعلى. والعداوة نوعان، فإذا تعدد العدو، وجمعته مصلحة واحدة في معاداة المعادي يكونون وحدة في العداوة فهم عدو واحد لاجتماعهم على سبب واحد في العداوة. لكن إذا تعددت أسباب العداوة فالأمر يختلف، فقد يكون لك عدو لأن مظهرك أحسن منه، وعدو آخر لأنك أذكى منه، وعدو ثالث لأنك أغنى منه. فلتعدد الأسباب صار كل واحد منهم عدوا برأسه وجمع على أعداء لتعدد سبب العداوة.
﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض.. ١١٢ ﴾[ سورة الأنعام ].
وشياطين الإنس والجن كما يقول النجاة بدل من عدو و " شياطين " جمع شيطان وهو اللعين المطرود، البغيض، سواء أكان من الإنس أم من الجن.
﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ والوحي كما نعرف هو إعلام بخفاء، ولماذا يوحي بعضهم إلى بعض لأن ؟ لأن غلبة الحق لا تجعلهم قادرين على أن يتجاهروا ؛ لذلك يتآمرون مع بعضهم البعض، لكن الناس المحقين في قضية يتحركون في علانية. ولا يستخفون من الناس.
﴿ يوحي بعضهم إلى بعض ﴾ ومن الذي يوحي ؟ ومن الذي يوحي إليه ؟ ليس لنا دخل بهذا الموضوع، إنما الوحي : هو إعلام بخفاء، إن كان إلهاما في النفس، أو إن كان بالإشارة أو بالدس، أو إن كان بالوسوسة، أو إن كان بواسطة رسول نحن لا نراه، كل ذلك أساليب الوحي الشامل للخير والشر.
وإذا كان الوحي من شياطين الجن فهل يوحون إلا بشرا ؟ نعم. وكذلك هناك شياطين من الإنس يوحون أيضا بشرّ. مصداقا لقوله الحق :﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ﴾ وزخرف القول، المقصود به أنهم يدخلون على المسائل بالتزيين، فيزينون للناس الشهوة، ولذلك سماها ربنا " وسوسة "، ونعلم أن المعاني حين يؤخذ لها ألفاظ تؤخذ من الأشياء الحسية، والوسوسة هي صوت الحلي، وقد اختار الله لما يفعله الشياطين من الإنس والجن للفظ الموحي بالمعنى المراد لأن وسوسة الحلي تغري بالنفاسة وعظم القيمة، والوسوسة طريقها هو الخفاء.
﴿ يوحي بعضهم إلى بعض ﴾ وهم شياطين من الإنس والجن، إنس يوحي لإنس بأن يزين له المعصية والشهوة، وكثيرا ما يقع ذلك.
وجني يوحي لجني ؛ لأن الجن مكلف أيضا. وكذلك يوحي الجن للإنس.
﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ﴾ الزخرف. هو الشيء لمزين ظاهره لكن باطنه فاسد، ولذلك قال عز وجل :
﴿ وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا.. ٣٥ ﴾[ سورة الزخرف ]
أي أمور مزخرفة ظاهرا، لكن ليس لها عمق أو عمر أو نفاسة.
﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا١١٢.. ﴾[ سورة الأنعام ]
وذلك ليغروهم ويخدعوهم ليفعلوا ويقترفوا المعصية، وإن لم يأتوا للمعصية بكلمات تزخرفها وتزينها فلن يستطيعوا أن يدخلوا بها على الناس ؛ لذلك يعرضون ويبدون محاسن المعصية في ظاهر الأمر، مثال ذلك أنك لا تجد من يقول للآخر :
اشرب الخمر لتصاب بتليف الكبد مثلا ! ! ولكن هناك من يقول : احتس الخمر ليذهب همك وتنشط نفسك ويكثر فرحك.
﴿ زخرف القول غرورا ﴾ أي ليغروكم، بإظهار فائدة موهومة فيه، ويسترون عن الناس مضرة هذا الشيء ومهالكه.
ويتابع سبحانه :﴿ ولو شاء ربّك ما فعلوه ﴾ إن الحق سبحانه وتعالى هو الذي أعطى خلقه اختيارا في أن يكونوا مؤمنين أو أن يكونوا كافرين، مهديين أو ضالين، في نور أو في ظلمة. ويأتي الوقت الذي يثيب فيه سبحانه أو يعاقب ؛ لذلك فهو جل شأنه لا يرغمهم على فعل ثم يعاقبهم عليه ؛ لأنه هو العدل. ولذلك نجد من يقول : لماذا العقاب ولا شيء في الكون يقع على غير مشيئة الله ؟ ونقول : نعم كل شيء من فعل الله ؛ لأن سبب الاختيار من الله. وسبحانه هو الذي خلق الاختيار.
فالكافر لا يقدر أن يؤمن إلا إن شاء الله، لكن المطلوب منه أن يؤمن لأن طبيعته صالحة للكفر وصالحة للإيمان.
إذن خلق الله الإنسان مختارا في أن يفعل أو لا يفعل في بعض الأمور، فالذي ينظر إلى أن كل فعل من الله أي ليس بطاقة من عبد، نقول له : صح رأيك. ومن يقول : إن هذا الأمر من العباد نقول له أيضا : صح موقفك ؛ لأن ربنا خلق الإنسان صالحا لأن يحصل منه كذا ويحصل منه كذا. فإن أردت الحقيقة تجد كل فعل يأتي من الله، فأنت على سبيل المثال لم تخلق القوة التي لليد لترتفع، ولا خلقت القوة للأصابع لتنقبض. وإذا أردت أن تقبض يدك. فما هي العضلات التي تنحرك لتفعل الانقباض ؟ أنت لا تعرف. إنك تقبض يدك بمجرد إرادة منك أن تقبضها، والذي خلق لك هذه القوة يأمرك ألا تستعملها في قهر الآخرين، ولكن عليك أن تستعملها فيما يفيد الناس. واليد صالحة للضرب وللعمل الطيب وأنت لم تخلق الطاقة التي في اليد، ولا خلقت الانفعال فيها لإرادتك.
﴿ ولو شاء ربّك ما فعلوه ﴾ أي لو شاء عدم فعله لفعل ؛ لأن له طلاقة القدرة فلا يقدر أحد أن يخرج عن مراده أبدا. ونحن نرى السماء والأرض وكل ما دون الإنسان مسخرا، ثم لماذا نأخذ أمثلة من السماء والأرض والنبات والجماد والحيوان ؟
خذ المثال من نفسك. أنت فيك أشياء ليست لك سيطرة عليها، ولا اختيار عليها، ألك اختيار أن تمرض ؟. لا.
ألك اختيار أن يقع عليك حجر وأنت تمشي ؟ لا.
ألك اختيار في أن يصيبك سائق سكران ؟ لا.
ألك اختيار في أن تموت أو لا تموت ؟ لا. لقد جعل الله فيك الأمرين الاثنين :
قهرك في أمور. والقهرية تثبت له سبحانه القدرة وطلاقتها، وجعلك مختارا في أشياء، والاختيار يثبت صحة التكليف.
ويتابع الحق مذيلا الآية :﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ لأن افتراءهم وكذبهم وزعمهم الباطل لن يغير من حقيقة الأمر شيئا، وهم يرون أن افتراءهم يعوق الدعوة، لا، فقد صار افتراؤهم وكيدهم وعداوتهم للنبي وقودا مهيجا للدعوة ؛ لأن يخلص الدعوة من الشوائب ويصهر المؤمنين بها ويخرج منهم خصال الشر ويملأهم بخصال الخير.
{ فأما الزبد
﴿ ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( ١١٣ ) ﴾. كأن من يؤمن بالآخرة لا يقرب منه الزخرف أبدا ولا يميل إليه. وإن زينت له معصية فإنه يتساءل : كم ستدوم لذة هذه المعصية ؟ دقيقتين، ساعة، شهرا ؛ وماذا أفعل يوم القيامة الذي يكون فيه الإنسان إما إلى دخول الجنة وإما إلى دخول النار. إذن فمن يؤمن بالآخرة لا تتقبل أذنه ولا فؤاده هذا الزخرف من القول، ولا يتقبله إلا من لا يؤمن بالآخرة، وهو لا يعرف إلا الدنيا، فيقول لنفسه : فلتتمتع في الدنيا فقط، ولذلك لو استحضر كل مؤمن العقوبة على المعصية ما فعلها، وهو لا يفعلها إلا حين يغفل عن العقوبة. وإذا كنا في هذه الدنيا نخاف من عقوبة بعضنا بعضا، وقدراتنا في العقوبة محدودة، فما بالنا بقدرة الرب القاهرة في العقوبة ؟ ! ولذلك نجد الذين يجعلون الآخرة على ذكر من أنفسهم وبالهم إذا عرضت لهم أي معصية، يقارنونها بالعقاب، فلا يقتربون منها. ﴿ ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مّقترفون ﴾.
والإصغاء هو ميل الأذن إلى المتكلم ؛ لأنك قد لا تسمع من يتكلم بغير إصغاء، وحين يسير الإنسان منا في الطريق فهو يسمع الكثير، لكن أذنه لا تتوقف عند كل ما يسمع، بل قد تقف الأذن عندما يظن الإنسان أنه كلام مهم. ولذلك يسمونه التسمّع لا السمع، وهذا هو الإصغاء. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : من تسمّع غانية أي امرأة تغني بخلاعة ولم يقل : " من سمع "، والإنسان منا قد يسير ويذهب إلى أي مكان والمذياع يذيع الأغاني، ويسمعها الإنسان، وآلة إدراك السمع منطقة وليست مفتوحة ؛ فهو لا يتصنت، وآلة إدراك الانطباقية أو الانفتاحية مثل العين ؛ فالعين لا ترى وهي مغمضة، إنها ترى وهي مفتوحة، والعين تغمض بالجفون أما الأذن فليس لها جفون يقول لها : لا تسمعي هذه، وهذه اسمعيها.
إذن فالسمع ليس للإنسان فيه اختيار، لكن التسمّع هو الذي له فيه اختيار.
﴿ ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مّقترفون ( ١١٣ ) ﴾[ سورة الأنعام ].
كأن فيه شيء ينبع طلب السمع فيه من الفؤاد، أي يوافق ما في الأعماق، وشيئا آخر يمر عليه الإنسان مر الكرام غير ملتفت إليه. والأفئدة هي القلوب، صحيح أن الآذان هي التي تصغي، لكن القلوب قد تتسمع ما يقال، وكأن النفس مستعدة لهذه العملية ؛ لأنها لا تؤمن بأن هناك آخرة وعندها استعداد لأن تأخذ لذة الدنيا دون التفات للآخرة. ولذلك ينقل الحق سبحانه الإصغاء من الأذن إلى الفؤاد وهذا إدراك.
﴿ ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة.. ( ١١٣ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة :
﴿ وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( ١١٣ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
وقد يصغي إنسان، ثم تتنبه نفسه اللوامة، ويمتنع عن الاستجابة. لكن هناك من يصغي ويرضي وجدانه ويستريح لما يسمع، ثم ينزع للعمل ليقترف الإثم.
وهذه ثلاث مراحل : الأولى هي :﴿ ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾. ثم المرحلة الثانية :﴿ وليرضوه ﴾، ثم المرحلة الأخيرة :﴿ وليقترفوا ﴾ أي يرتكبوا الإثم، وهذه المسألة حددت لنا المظاهر الشعورية التي درسها علماء النفس فالإدراك ؛ ﴿ لتصغى ﴾، والوجدان، ﴿ ليرضوه ﴾، والنزوع ؛ ﴿ ليقترفوا ﴾.
وقبل أن يولد علم النفس جاء القرآن بوصف الطبيعة البشرية بمراحلها المختلفة من إدراك ووجدان، ونزوع، والشرع لا يتدخل عند أي مظهر من مظاهر شعور المرء إلا عند النزوع إلا في حالة واحدة حيث لا يمكن فصل النزوع عن الوجدان وعن الإدراك ؛ لذلك يتدخل الشرع من أول الأمر، وهو ما يكون في عملية نظر الرجل إلى المرأة ؛ لأنك حين تنظر تجد في نفسك : تحبها وتعشقها تفتن بها، ومحرم عليك النزوع، فحين تتقدم ناحيتها يقول لك الشرع : لا. ولأن هذا أمر شاق على النفس البشرية، لا يمكن فصل هذه العمليات ؛ لأنه إن أدرك وجد، وإن وجد نزع، فأمر الحق بالامتناع من أول الأمر :
﴿ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم.. ( ٣٠ ) ﴾[ سورة النور ]
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ.. ( ٣١ ) ﴾[ سورة النور ]
إذن فقد منع الإدراك من بدايته ولم ينتظر حتى النزوع، لماذا ؟ لأن الإدراك الجمالي في كل شيء يختلف عن الإدراك الجمالي في المرأة. الإدراك الجمالي في المرأة يحدث عملية كيماوية في الجسم تسبب النزوع، ولا يمكن فصلها أبدا.
﴿ ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مّقترفون ﴾
فساعة ما نقول : " ما " ويأتي الإبهام فهذا دليل على أن هناك أمور كثيرة جدا.
ولذلك يقول الحق :
﴿ فغشيهم من اليمّ ما غشيهم ( ٧٨ ) ﴾[ سورة طه ]
أي أنه أمر لا يمكن أن تحدده الألفاظ، مثله مثل قوله :﴿ وليقترفوا ما هم مقترفون ﴾
أي أن كل واحد يقترف ويكتسب ويعمل ويرتكب ما يميل إليه ؛ فهناك من يغتاب أو يحسد أو يسرق وغير ذلك من شهوات النفس التي لا تحدد ؛ لذلك جاء لها باللفظ الذي يعطي العموم.
وما دامت المسألة في نبوة وإتباع نبوة، وفي أعداء شياطين من الإنس والجن ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا إذن فهذه معركة، وحتى يتم الفصل فيها لابد من حاكم يحكم. فأوضح الحق : يا محمد أنا أرسلتك، ولك أعداء وسيكيدون لك بكذا وكذا ويبذلون قصارى جهدهم في إيذائك ومن اتبعك، فإياك أن تبتغي حكما غيري ؛ لأني أنا المشرع وأنا من أحكم، وأنا الذي سوف أجازي.
لماذا ؟ لأن الخلاف على ما شرع الله، ولا يستقيم ولا يصح أن يأتي من يقول مراد المقنن كذا، أو المفسر الفرنسي قال كذا، والمفسر الإنجليزي قال كذا، لا، إن الذي يحكم هو من وضع القانون، ومراداته هو أعلم بها، والحق الواضح هو أعلم به، وسبحانه هو من يحكم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها )١.
أي إياك أن يقول واحد : إن النبي قد حكم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بظاهر الحجة، وقد يكون واحد من المختصمين قوي الحجة، والآخر لا يجيد التعبير عن نفسه.
إذن فالحكم هو الله لأنه هو الذي قنن، ومادام هو الذي قنن وهو الذي يحكم بينكم، فليطمئن كل إنسان يتخاصم مع غيره ؛ لأن القضية يفصل فيها أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّل مّن رّبّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين ( ١١٤ ) ﴾.
فسبحانه هو من يحكم وهو من قنن، وهو من يعلم القانون ويعلم من يتبع القانون، ومن يخالف القانون. وساعة تقول :﴿ أفغير الله أبتغي حكما ﴾. فهذا دليل على أنك واثق أن مجيئك لن يقول لك إلا : لا تبتغي حكما إلا الله، ولذلك يطرح المسألة في صيغة استفهام، ويقول صلى الله عليه وسلم : مبلغا عن ربه :﴿ وهو الّذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلا ﴾، ولم يقل رسول الله : وهو الذي أنزل عليّ الكتاب، بل قال مبلغا عن رب العزة :﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب ﴾ كأن العداوة ليست لمحمد وحده، لكنها العداوة لأمة الإيمان كلها، والحكم لأمة الإيمان كلها. ومع أن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، ولكن مهمته البلاغ إلى الناس والغاية منه للمؤمنين كلهم، وهكذا تكون العداوة للنبي عداوة للمؤمنين كلهم، ولذلك أنزل عليه الحق هذا التساؤل :﴿ أفغير الله أبتغي حكما ﴾ كما أنزل عليه من قبل القول الحق :
﴿ وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ ﴾( من الآية ١١٢ سورة الأنعام )
إذن فعدو النبي هو عدو للمؤمنين به والمتبعين له، لكن قمة العداوة تكون للنبي المرسل من الحق :
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّل من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين ﴾( من الآية ١١٤ سورة الأنعام ).
وكلمة ﴿ من ربّك بالحق ﴾ فيها إغراء للمؤمنين بأن كل الأمر يعود عليكم أنتم بالفائدة ؛ لأن غاية إنزال الكتاب لكم أنتم، والكتاب جاء بهذا المنهج لصالحكم ولن يزيد في صفات الله صفة، ولن يزيد في ملك الله ملكا. بل الغاية أنتم.
﴿ أفغير الله أبتغي حكما وهو الّذي أنزل إليكم الكتاب ﴾( من الآية ١١٤ سورة الأنعام )
وسبحانه لم ينزل الكتاب إلا بتفصيل لا تلتبس فيه مسألة بأخرى :
﴿ والّذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّل مّن رّبّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين ﴾( من الآية ١١٤ سورة الأنعام ).
والمقصود هنا بالذين آتيناهم الكتاب اليهود والنصارى ؛ لأنهم يعلمون صفاتك يا رسول الله ويعلمون نعتك ويعلمون الكثير من كتابك فكل ما يتعلق بك موجود عندهم لكن الآفة أنهم اعتنقوا دينين : دينا يعلن يبدونه ويظهرونه، ودينا يسّر به، فما يسّر به لا يعلنونه ويحرّمون السؤال فيه، ولا يقبلون فيه نقاشا، وعندما تصل إلى الحقيقة وتعرضها عليهم لا يقبلونها، وما الذي جعلهم يلتوون هكذا ؟ لأن لهم حالين اثنين : حال أيام أن كانوا يعاديهم من لا يؤمن بالسماء ومنهج السماء كعبدة الأوثان والمشركين. وقال فيه الحق :
﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا ﴾( من الآية ٨٩ سورة البقرة )
لقد كانوا من قبل أعداء للذين كفروا وأشركوا فكان همهم وشغلهم الشاغل أن ينتصروا على هؤلاء الكافرين، وقالوا :( أظل زمان نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم )
وحينما جاءهم ما عرفوا كفروا به لأنهم :﴿ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ﴾( من الآية ٩ سورة التوبة ).
وكان الثمن هو بقاء السلطة في أيديهم، وعندما تأتي النبوة تنتزع منهم السلطة، فليس في الإسلام سيطرة لرجال الدين ولا كهنوت. وكانوا يريدون أن تستمر سيادتهم، فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.
﴿ والّذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّل مّن رّبّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين ﴾( من الآية ١١٤ سورة الأنعام ).
وهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم يعلمون أن الذي يشيعونه هو باطل. إذن فهناك علم بينهم وبين نفوسهم ؛ وعلم آخر يقولونه للآخرين. وقوله الحق :﴿ فلا تكوننّ من الممترين ﴾ أي الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزّل من عند ربك بالحق. هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه إذا طلب المتكلم من المخاطب أمرا هو فيه فالمراد المداومة عليه والزيادة ؛ لأن هناك أمورا قد تزلزل الإيمان ؛ لذلك يأتي الأمر بالثبات، أو هو إهاجة له، أو هو تسلية للمؤمنين إذ قال لهم لا تمتروا ولا تشكوا.
﴿ وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا لاّ مبدّل لكلماته وهو السّميع العليم ( ١١٥ ) ﴾ :
وكلمة " تمت " تدل على أن المسألة لها بداية ولها خاتمة، فما المراد بالكلمة التي تمت ؟. أهي كلمة الله العليا بنصر الإسلام وانتهاء الأمر إليه ؟ أو هو تماما أمر الرسالة حيث قال الحق :
﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.. ( ٣ ) ﴾[ سورة المائدة ].
أو ﴿ كلمت ربّك ﴾ المقصود بها قرآنه ؟. ونرى أن معنى ﴿ تمت ﴾ استوعبت كل أقضية الحياة إلى أن تقوم الساعة، فليس لأحد أن يستدرك على ما جاء في كتاب الله حكما من الأحكام ؛ لأن الأحكام غطت كل الأقضية. ولفظ " كلمة " مفردة لكنها تعطي معنى الجمع. وأنت تسمع في الحياة اليومية من يقول : وألقى فلان كلمة طيبة قوبلت بالاستحسان والتصفيق. هو قال كلمات لكن التعبير عنها جاء ب " كلمة " إذن ﴿ تمّت كلمت ربّك ﴾ المقصود بها المنهج الذي يشمل كل الحياة، واقرأ قوله الحق :
﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. ( ٥ ) ﴾[ سورة الكهف ]
أهي كلمة أو كلمات ؟ أنها كلمة ولكن فيها كلمات. إذن لفظ " كلمة " تطلق ويراد بها اللفظ المفرد، وتطلق ويراد بها الكلام. والكلمة في الأصل لفظ مفرد، أي لا يكون معها لفظ آخر، ولكنها تدل على معنى، فإذا كان المعنى غير مستقل بالفهم ؛ ويحتاج إلى ضميمة شيء إليه لنفهمه فهذا حرف، وأنت تقول : " في " وهو لفظ يدل على الظرفية، إلا أنه غير مستقل بالفهم ؛ لأن الظرف يقتضي مظروفا ومظروفا فيه، فتقول : " الماء في الكوب " لتؤدي المعنى المستقل بالفهم. وكذلك ساعة تسمع كلمة " من " تفهم أن هناك ابتداء، وساعة تسمع كلمة " إلى " تعلم أن هناك انتهاء. وإن كان يدل على معنى في نفسه وهو غير مرتبط بزمن فهو الاسم. وإن كان الزمن جزءا منه فهو " الفعل ". أما " الكلام " فهو الألفاظ المفيدة.
وحين تسمع " سماء " تفهم المعنى، وكذلك حين تسمع كلمة " أرض " وهو معنى مستقل بالفهم. وحين تسمع كلمة " كتب " فهي تدل على معنى مستقل بالفهم، والزمن جزء من الفعل، فكتب تدل على الزمن الماضي و " يكتب " تدل على الحاضر و " سيكتب " تدل على الكتابة في المستقبل. إذن ف " الكلمة " لفظ يدل على معنى فإن كان غير مستقل بالفهم فهو حرف. و " الكلمة " قد يقصد بها الكلام.
وقوله الحق :﴿ تمت كلمة ربك ﴾ تعني الكثير. فإن أردت بها القرآن فالمقصود هو كلمة الله. وكلام الله نسميه " كلمة، لأن مدلوله كلمة واحدة. انتهت وليس فيها تضارب، هذا إن أردنا بها القرآن، ولتفهم أن القرآن قد استوعب كل شيء، وكل قضية في الوجود وأيضا لم ينس أو بدل فيه حرف ؛ بل بقي وسيبقى كما أنزل ؛ لأن الآفة في الكتب التي نزلت أنهم كتموا بعضها ونسوا بعضها، وحرفوا بعضها، وكان حفظها موكولا إلى المكلفين ومن طبيعة الأمر التكليفي أنه يطاع مرة، ويعصي مرة أخرى. وإن أطاعوا حافظوا على الكتب، وإن عصوا حرفوها بدليل قوله الحق :
﴿ إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور يحكم بها النّبيّون الّذين أسلموا للّذين هادوا والرّبّانيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله.. ٤٤ ﴾[ سورة المائدة ].
و﴿ استحفظوا ﴾ أي طلب منهم أن يحافظوا عليه، وهذا أمر تكليفي عرضة أن يطاع، وعرضة أن يعصى، لكن الأمر اختلف بالنسبة للقرآن فقد قال الحق :
﴿ إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون ( ٩ ) ﴾[ سورة الحجر ].
فسبحانه هو من يحافظ على القرآن، وليس للبشر لأن القرآن معجزة، والمعجزة لا يكون للمكلف عمل فيها أبدا.
إذن فقوله الحق : " تمت كلمة ربك " المقصود بها أن تطمئن على أن القرآن الذي بين يديك إلى أن تقوم الساعة هو هو لن تتغير فيه كلمة، بدليل أنك تتعجب في بعض نصوص القرآن، فتجد نصا مساويا لنص، ثم يختلف السياق، فيقول الحق :
﴿ كلا إنّه تذكرة ( ٥٤ ) فمن شاء ذكره ( ٥٥ ) ﴾[ سورة المدثر ]
ومرة أخرى يقول سبحانه :
﴿ كلا إنّها تذكرة ( ١١ ) فمن شاء ذكره ( ١٢ ) ﴾[ سورة عبس ]
ومرة أخرى يقول :
﴿ إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ( ١٩ ) ﴾[ سورة الإنسان ]
فهذا لون ونوع من التشابه من الآيات ليقول لنا الحق :
﴿ فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه ( ١٨ ) ﴾[ سورة القيامة ].
والحق يقول :
﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) الّذين هم في صلاتهم خاشعون ( ٢ ) والذين هم عن اللّغو معرضون ( ٣ ) والّذين هم للزّكاة فاعلون ( ٤ ) والّذين هم لفروجهم حافظون ( ٥ ) إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين ( ٦ ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ٧ ) والّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( ٨ ) والّذين هم على صلواتهم يحافظون ( ٩ ) ﴾[ سورة المؤمنون ].
وفي آية أخرى :
﴿ والّذين هم على صلاتهم يحافظون ( ٣٤ ) ﴾[ سورة المعارج ]
وكل ذلك يدلّك على أن كل كلمة وصلتك كما أنزلت، وبذلك تكون كلمة ربك قد تمت. أو قول الله : " وتمت كلمة ربك " ليدل على أن كلمة الله هي العليا، ولذلك تلاحظ أن " كلمة الله هي العليا " لم يجعلها الحق جعلا، وإنما جاءت ثبوتا، وسبحانه القائل :
﴿ وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى.. ( ٤٠ ) ﴾. [ سورة التوبة ]
هذا السياق الإعرابي حصل فيه كسر مقصود، والسياق في غير القرآن أن يقول : وجعل كلمة الله هي العليا، ولكنه سبحانه يقول :﴿ وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة الله هي العليا ﴾، وسبحانه أراد بذلك أن نفهم أن كلمة الله هي العليا دائما وليست جعلا. وهذا دليل على أن كلمته قد تمت.
ونلحظ أن قول الحق : " وتمت كلمة ربك " تأتي بعد " أفغير الله أبتغي حكما "، واستقرئ موكب الرسالات من لدن آدم، وانظر إلى حكم الله بين المبطلين والمحقين، وبين المهتدين والضالين : إنه الحق القائل :
﴿ فكلاّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ﴾[ من الآية ٤٠ سورة العنكبوت ]
والحاصب هو الريح التي تهب محملة بالحصى وكانت عقوبة لقوم عاد.
﴿ ومنهم من أخذته الصيحة ﴾ [ من الآية ٤٠ سورة العنكبوت ]وهم قوم ثمود، يسميها مرة الصيحة، وأخرى يسميها الطاغية :﴿ فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية ( ٥ ) ﴾( سورة الحاقة )
ومرة يخسف بهم الأرض مثلما فعل مع قارون :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض ﴾
وكذلك :﴿ ومنهم من أغرقنا ﴾.
وقد أغرق الله قوم فرعون وكذلك أغرق من قبلهم المكذبين لنوح. إذن كل قوم أخذوا حكم الله عليهم، لكنك يا محمد مختلف عنهم وكذلك أمة محمد التي أصبحت مأمونة على الوصية، وعلى المنهج، ولذلك قال الحق :
﴿ وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾[ من الآية ١٥ سورة الإسراء ]
وبعد أن بعث الحق رسوله صلى الله عليه وسلم قال :
﴿ وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ﴾[ من الآية ٣٣ سورة الأنفال ]
إذن " تمت كلمة ربك "، وهي الفصل النهائي :
﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنّهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإنّ جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾[ سورة الصافات ]
وأنتم المنصورون لأنكم منسوبون إلى منهج غالب، والنصر للمنهج الغالب يقتضي الإخلاص، فإن تنصروا المنهج بإتباعه ينصركم من أنزل المنهج، فهو القائل :
﴿ لأغلبنّ أنا ورسلي.. ( ٢١ ) ﴾[ سورة المجادلة ]
وما قاله كان الواقع وما جاء به الواقع كان مطابقا للكلام.
﴿ وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا.. ١١٥ ﴾[ سورة الأنعام ]
أي وافق الواقع الكوني ما قال الله به. وكيف كان الواقع صادقا وعادلا في آن واحد ؟ لنفرض أنك أحضرت مدرسا خصوصيا لولدك، وصادف أنه هو الذي يدرّس في المدرسة وهو الذي يدرّس لابنك ثم قلت له : أريد أن ينجح الولد في الامتحان. ووعد المدرس بذلك ثم جاء الامتحان ونجح الولد، فتكون كلمة المدرس قد صدقت. لكن هل هذا عدل ؟ قد يكون المدرس هو واضع الأسئلة ولّمح للولد بالأسئلة، ويكون النجاح حينئذ غير عادل ؛ لكن كلمة الله تجيء مطابقة لما قال، موقعها مطابق لما قال، وهي كذلك عدل ؛ لأنه سبحانه أوضح الثواب والعقاب :﴿ وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا ﴾. لأنه لا مبدل لكلمات الله، ولا يوجد إله آخر يعارضه فله سبحانه طلاقة القدرة.
أما بالنسبة للبشر فقد علّم الله عباده احتياط الصدق في كلامهم ؛ فأوصاهم :
﴿ ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غدا ( ٢٣ ) إلّا أن يشاء الله.. ٢٤ ﴾ [ سورة الكهف ]
لأن فعل ذلك إذا والإتيان به وإحداثه هو أمر يتعلق بالمستقبل الذي لا نتحكم فيه، فاحم نفسك وقل : " إن شاء الله "، فإن لم يحدث يمكنك أن تقول : لم يشأ ربنا حدوث ما وعدت به، وبذلك يحمي الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ويجعل نفسه صادقا فلا يتكلم إلاّ على وفق ما عنده من قوانين الفعل وعدم الفعل ؛ لأنه عندما تقول : " أفعل ذلك غدا ". ماذا ستفعل غدا وأنت لا تضمن نفسك وحياتك وظروفك ؟ ! لكن الله إذا قال : " سأفعل : فله طلاقة القدرة.
﴿ وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا لاّ مبدّل لكلماته وهو السّميع العليم ( ١١٥ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
وما دامت الكلمات ستتحقق والحكم سيصدر فهذا دليل على أنه سبحانه سميع لما قالوه في عداوتهم، وعليم بما دبروه من مكائدهم، وهو القائل من قبل :
﴿ وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم.. ١٢١ ﴾[ سورة الأنعام ]
أي ليعلموهم بخفاء، فإن كان كلامهم ظاهرا فهو مسموع، وإن كان بخفاء فهو معلوم.
﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإن هم إلاّ يخرصون ( ١١٦ ) ﴾ :
و " من في الأرض " المقصود بهم المكلفون ؛ لأنهم هم من يتميزون بالاختيار ولهم أوامر ونواه، فما دون الإنسان لا أمر له، و " أكثر " لا يقابلها بالضرورة كلمة " قليل " أو " أقل "، وما دام القول هو : " أكثر ". فقد يكون الباقون كثيرا أيضا، وأما كثير فإنها، تعطي له كميته في ذاته وليست منسوبة إلى غيره، ولذلك كنا نسمع من يقول : مكتوب على محطة مصر أو على " المطار " أو على " الميناء "، يا داخل مصر منك كثير، أي إن كنت رجلا طيبا فستجد مثلك الكثير، وإن كنت شريرا فستجد مثلك الكثير أيضا.
ويقول الحق :
﴿ ألم تر أنّ الله يسجد له من في السّماوات ومن في الأرض والشّمس والقمر والنّجوم والجبال والشّجر والدّوابّ وكثير من النّاس وكثير حقّ عليه العذاب.. ( ١٨ ) ﴾ [ سورة الحج ].
فكل الكائنات مقهورة مسخرة، وعند الناس انقسم الأمر ؛ لأن لهم اختيارا، فراح أناس للطاعة وذهب أناس للمعصية، فلم يقل الحق : والناس. بل قال " وكثير من الناس "، ولم يقل الحق : وقليل حق عليه العذاب، لكنه قال :﴿ وكثير حق عليه العذاب ﴾ فهؤلاء كثير وهؤلاء كثير، وإن نظرت إليهم في ذاتهم فهم كثير، والآخرون أيضا إذا نظرت إليهم تجدهم كثيرا. ولماذا يقول الحق :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله ﴾ ؟
" الطاعة " كما نعرف استجابة للأمر في " افعل "، والنهي في " لا تفعل " إذا قال الحق للإنسان افعل كذا ؛ فالإنسان صالح لأن يفعل وأن لا يفعل، وإن قال : " لا تفعل " فالإنسان صالح أن يفعل، وأن لا يفعل، وإن كان هنالك شيء لا تقدر عليه فلن يقول لك : افعله. والإنسان عادة حين يؤمر أو ينهى إنما يؤمر وينهى لمصلحته، فإن لم يوجد أمام مصلحة معارض من منهج إلهي فهذا من مصلحته أيضا ؛ لأن الله أجاز له حرية الفعل والترك. ويوضح الحق : من رحمتي أن جعلت لكم تشريعا ؛ لأننا لو تركنا الناس إلى أهوائهم فسيأمر كل واحد من الذين لهم السيطرة على الناس بما يوافق هواه، وسينهي كل واحد من الناس بما يخالف هواه ؛ لذلك نعصم هذا الأمر بالمنهج. حتى لا يتضارب الخلق ولا يتعاكس هواك مع هوى أخيك. ومن المصلحة أن يوجد مطاع واحد لا هوى له، ويوجد منهج يقول للجميع " افعلوا كذا " و " لا تفعلوا كذا " وبذلك يأتي الاستطراق لنفعهم جميعا. ولذلك يقول الحق :
﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل.. ( ١١٦ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
فهناك أناس مؤمنون وهم أصحاب الفطرة السليمة بطبيعتهم ؛ لأن الخير هو الفطرة في الإنسان، وقد جاء التشريع لينمي صاحب الفطرة السليمة فطرته أو يؤكدها له، ويعدّل في صاحب النزعة السيئة ليعود به إلى الفطرة الحسنة.
والذين يضلونك عن سبيل الله ماذا يتبعون ؟ يقول الحق :﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾.
كل واحد منهم يظن أن هذا الضلال ينفعه الآن، ويغيب عنه ما يجر عليه من الوبال فيما بعد ذلك.
و " الظن " كما نعلم هو إدراك الطرف الراجح ويقابله الوهم وهو إدراك الطرف المرجوح والظن هنا، هو ما يرجحه الهوى :
﴿ إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإن هم إلاّ يخرصون ( ١١٦ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
و " إن " كما نعلم تأتي مرة جازمة : إن تفعل كذا تجد كذا، وتأتي مرة نافية، مثل قوله الحق :
﴿ ما هنّ أمّهاتهم إن أمّهاتهم إلا اللائي ولدنهم.. ( ٢ ) ﴾ [ سورة المجادلة ]
أي : ما أمهاتهم ؛ ف " إن " هنا نافية. وقوله الحق :﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ أي ما يتبعون إلا الظن. هم إما أن يتبعوا الظن وإما أن يخرصوا. ( فالخارص ) هو من يتكلم بغير الحقيقة، بل يخمن تخمينا، كأن ينظر إنسان إلى آخر في سوق الغلال ويسأله : كم يبلغ مقدار هذا الكوم من القمح ؟. فيرد : حوالي عشرة أرادب أو اثني عشر أردبا، وهو يخمن تخمينا بلا دليل يقيني أو بلا مقاييس ثابتة، أو يقول كلاما ليس له معنى دقيق.
فإذا اتبعت الناس فسوف يضلونك. لأنهم لا يملكون دليلا علميا، ولاحقا يقينيا، بل يتبعون الظن إن كان الأمر راجحا، ويخرصون ويخمنون حتى ولو كان الأمر مرجوحا.
﴿ إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( ١١٧ ) ﴾
وساعة ترى " هو " هذه فاعرف أنها ترُدّ وتجيب على ما يمكن أن يقال، فهناك من يقول : أنا سوف أرى تصرفات فلان، ولأنك من البشر فمهما علمت عنه فأنت محدودة الإدراك ؛ لأنك سترى تصرفات فقط، ولن ترى انفعالات قلبه وتقلبات عقله، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الأعلم، لأن الميزان كله عنده، إنه يدرك الظاهر والباطن، وهو سبحانه يقول هنا : " أعلم " وهناك " عليم "، و " العليم " هو من يرى ظاهر الأمر ويحيط به، لا الخافي منه، أما الذي يرى الظاهر والخفي فهو أعلم.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل كثيرة يعامل الناس بعلانيتهم، ويترك سرائرهم إلى الله. وعندما قتل مسلم رجلا أعلن الإسلام، سأله صلى الله عليه وسلم لماذا ؟، قال : لأنه أعلن الإسلام نفاقا. فقال صلى الله عليه وسلم : أشققت عن قلبه ؟ !.
وسبحانه وتعالى " أعلم " ؛ لأنه يعلم الظاهر والباطن، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾ :
ما الذي أدخل هذه المسألة في هذا السياق ؟ لقد تكلم الحق عن أن هناك أعداء لكل نبي يلتمسون ثغرة في منهجه ليتكلموا فيها، وهذه هي مهمتهم التي هيأها الله لهم، فحين يقولون الاعتراضات نجد المنهج يرد عليهم وبذلك تنتفع الدعوة إلى أن تقوم الساعة.
مثال ذلك نجد الجماعة الذين عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج، فحين قال لهم : إنني أسري بي إلى المسجد الأقصى وعرج بي إلى السماء في ليلة واحدة، والتمسوا له ثغرة لينفذوا منها ويضللوا غيرهم وقالوا له : أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ؟ ! ! لكن أبو بكر الصديق قال : إن كان قال فقد صدق، وهذا هو الإيمان الذي يحسن استقبال الأمر المخالف للنواميس. ويجادلون أبا بكر، فيقول : أنا صدقته في خبر السماء فكيف أكذبه في ذلك، ما دام قال فقد صدق، وهذا كلام منطقي.
لكن المعارضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ؟ ! فأعطى صلى الله عليه وسلم لهم الأمارات ووصف لهم العير التي في الطريق، وغير ذلك من العلامات التي تجعل من الأمر حجة إلى يوم القيامة، ولو مرت مسألة الإسراء والمعراج من غير أن يعترض أحد من الأعداء، لما وجدنا الحرارة في تصديقها.
إننا نجد حاليا من يقول : وهل من المعقول أنه صلى الله عليه وسلم راح إلى بيت المقدس وجاء في ليلة ؟ لابد أن ذلك كان حلما. لو لم يقولوا هم هذا ما كنا عرفنا الرد ؛ إنما هم قالوها حتى نعرف الرد ويظل الرد ويظل الرد رادعا إلى أن تقوم الساعة، وهذه هي المهمة التي جعلها الله للأعداء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو قال لهم : إنني حلمت أني رحت بيت المقدس. أكان هناك من يعترض على أن يحلم النبي حتى ولو قال : إنه ذهب إلى آخر المعمورة إنه لا يجرؤ واحد أن يكذبه، لكنهم ما داموا قد كذبوه، ورفضوا تصديق الإسراء فهذا دليل على أنهم فهموا من الذهاب أنه ليس ذهابا رؤيا وإنما ذهاب قالب، لقد فهموا عنه أنه قد انتقل بجسده من مكة إلى بيت المقدس، ولذلك كذبوه، وهذا تكذيب منهم ينفعنا الآن، لنرد به على المكذبين المعاصرين.
إذن فوجود الأعداء يهيج القرائح التي يمكن أن نرد على أية شبه يثيرها أي إنسان سواء أكان ماضيا أم معاصرا.
والحق هنا يقول :
﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
هذه الآية لها قصة توضح كيف يحاول الأعداء اصطياد الثغرات لينفذوا منها، وقالوا : يقول النبي لكم : إن الميتة لا يحل لكم أن تأكلوا منها، وما تذبحونه بأيديكم كلوا منه، والذبح لون من الموت، هذه هي الشبهة التي قالوها، وهي أولا مغالطة في الأساليب ؛ لأن الميتة غير المذبوحة وغير المقتولة. فالمذبوحة إنما ذبحناها لنطهرها من الدم ؛ لذلك فالمناقشة الفقهية أو العلمية تهزم قولهم ؛ لأن هناك فرقا بين الموت والقتل. فالموت هو أخذ للحياة بدون سلب للنية، إنما القتل هو سلب للبنية أولا فتزهق الروح ويبقى الدم في الجسم. ثم هل يأخذ المشرع وهو الرب الأعلى الحكمة منا أو أن الحكمة عنده هو وحده ؟
وقد تبين لنا في عصرنا أن غير المؤمنين بدؤوا في الاهتداء إلى أن الميتة فيها كل الفضلات الضارة، واهتدوا إلى إزالة الفضلات الضارة من الحيوانات التي يريدون أكلها ؛ لأن تكوين جسم الحيوان يتشابه مع تكوين جسم الإنسان، فهو يأكل ويهضم ويمتص العناصر الغذائية ليتكون الدم والطاقة، وفي الجسم أجهزة تصفي وتنقي الجسم من السموم الضارة، فالكلية مثلا تصفي الدم من البولينا وغيرها، ويسير الدم ليمر على الرئة ليأخذ الأوكسجين، وكل ذلك لتخليص الجسد من الفضلات الضارة، وأوعية الدم في الإنسان والحيوان فيها الدم الصالح والدم الفاسد، والدم الفاسد هو الذي لم تتم تنقيته، وعندما تذبح الذبيحة ينزل منها الدم الفاسد وغيره، أي أننا ضحينا بالدم الصالح في سبيل وقايتنا من الدم الفاسد لكنها ماتت دون ذبح، فآثار الدمين الاثنين موجودة. وكذلك آثار الفضلات التي كان يجب أن يتخلص منها، وهذا ما نفعله في هذا الأمر، لكن هل لنا مع الحق سبحانه وتعالى تعقل في شيء إلا في توثيق الحكم والاطمئنان إلى مجيئه منه جلت قدرته ؟
كان جدلهم أنهم قالوا : أنتم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، فأنتم تظنون أنفسكم أحسن من الله، وهذا افتراء منهم. ثم إن الحيوان حين يموت لم يذكر عليه اسم الله، لكن الذبيحة التي نذبحها نذكر عليها اسم الله، فكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه. أي غير الميتة وغير ما يذبح للأصنام.
﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
إنَّ تلقي أي حكم من الحق، لا يصح أبدا أن نبحث عن علته أولا ثم نؤمن به، بل علينا بعد أن نثق بأنه من الله الذي آمنا به. علينا إذن أن نأخذ الحكم الذي أمر به الله.
﴿ وما لكم ألاّ تأكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه وقد فصّل لكم مّا حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه وإنّ كثيرا لّيضلّون بأهوائهم بغير علم إنّ ربّك هو أعلم بالمعتدين ( ١١٦ ) ﴾[ سورة الأنعام ]، وللآيتين كما علمنا سبب نزلتا من أجله وهو أن بعض المعارضين لرسول الله الذين يقفون من الدعوة موقف التكذيب والعمل على إبطالها والقضاء عليها، كانوا يشيعون عند المؤمنين إشاعات قد تفت في عضدهم العقدي فعرضوا هذه المسألة وهي في ظاهرها تشكيك. وهم قد عرضوا القضية بهذا الشكل غير المتسق ؛ لأن من الذي قتل ؟ لقد قالوا : إن الميتة قتلها الله، فهل الله هو الذي قطع رقبتها ؟ وهل ضربها الله على رأسها فأمات أصل إدارة الحياة وهو المخ ؟ هل صوب شيئا إلى قلبها ؟ سبحانه جل وعلا منزه عن مثل هذه الأفعال البشرية، فكيف يسمون الموت قتلا ؟ إن تسمية الموت قتلا هو الخطأ، فقولهم : كيف تبيحون لأنفسكم ما قتلتموه أي بالذبح. ولا تبيحون ما قتله الله أي أماته، فيه مغالطة في عرض القضية، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يضع عند المؤمنين مناعة من هذه الهواجس التي يثيرونها ؛ فقال :﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾، وما معنى الذكر ؟ إن عدم تحديد العلماء المعنى المقصود بالذكر، هو الذي أوجد بينهم خلافا كبيرا. فسيدنا الإمام مالك يرى أنك إذا ذبحت ولم تذكر اسم الله سواء أكنت ناسيا أم عامدا فلا يصح لك أن تأكل من الذبيحة. ويرى الإمام أبو حنيفة : إذا كنت لم تسم ناسيا فكل مما ذبحت، لكن إن كنت عامدا فلا تأكل، والإمام الشافعي- رضي الله عنه- يرى : مادمت مؤمنا ومقبلا على الذبح وأنت مؤمن فكل مما لم تذكر اسم الله ناسيا أو عامدا لأن إيمانك ذكر الله.
ونقول : ما هو الذكر ؟ هل الذكر أن تقول باللسان ؟ أو الذكر أن يمر الشيء بالخاطر ؟ إن كنتم تقولون إن الذكر باللسان فلنبحث في الحديث القدسي الذي قاله الله تعالى : " أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " ١.
إذن فقد سمى ربنا الخاطر في النفس ذكرا وبذلك يصبح من حق الإمام الشافعي أن يقول ما قال.
لذلك أقول : يجب أن نحدد معنى الذكر أولا حتى ننهي الخلاف حول هذه المسألة، فليس من المقبول أن نقيم معركة حول معنى " الذكر " ؛ لأن الذكر وهو خطور الأمر على البال قد يصحبه أن يخطر الأمر على اللسان مع الخطور على البال، وقد يظل خطورا على البال فقط، بدليل ما جاء في الحديث السابق. والمؤمن حين يجد أمامه أشياء كثيرة، قد يوجد شيء جميل وآخر ليس له من الجمال شيء ؛ فالجاموسة أقل في الجمال من بعض الحيوانات التي حرم الله أكلها، وأقبل المؤمنون على ذبح الجاموسة ليأكلوا منها، ولم نسمع عن مسلم تقدم إلى حيوان حرم الله أكله ليذبحه، لماذا ؟ لأن المؤمن يقبل على ما أحل الله، وهذا الإقبال دليل على أنه ذكر في نفسه المحلل والمحرم وهو الله، إذن اختياره حيوانا للذبح دليل على أنه ذكر الله في النفس أو في القول، وبهذا نتفق على أن ذكر المؤمن يكون في قلبه قال أو لم يقل، وينتهي الخلاف في هذه المسألة. إذن الإمام الشافعي أخذ بهذه المسألة ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن أكل المسلم من ذبيحة لا يعرف من ذبحها وهل سمّي أو لم يسمّ، أوضح لمن سأله : سمّ وكل.
فالإنسان منا لا يحضر وقت الذبح دائما، ويكفيه أن يستحضر المحلل والمحرم ساعة الأكل. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : اذكروا اسم الله، وسبحانه يعلم أنك تقبل على الأشياء لتفعلها. وهذه الأشياء تنقسم إلى قسمين : قسم يمر على بالك قبل أن تفعله، وقسم لا يمر على بالك، بل تفعله تلقائيا بدون ما يمر على البال، ومثال ذلك الأفعال العكسية كلها التي يفعلها الإنسان إنها لا تمر على باله. فلو حدث أن حاول واحد أن يضع إصبعه في عين آخر، فهذا الآخر يغمض عينيه تلقائيا. ويختلف ذلك عن الفعل الذي تفكر فيه قبل أن تفعله. فالذي يفعل الفعل بعد أن يمر بخاطره هو فعل ذو بال. ولذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يكلفنا عناء أو مشقة ؛ فقال :
" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع " ٢.
والأمر ذو وبال هو الأمر الذي يكون قد خطر على بالك أن تفعله أو لا تفعله. إذن فالله سبحانه وتعالى لا يكلفنا إلا عند الأمر الذي يمر على الخاطر ؛ لأنك حين تقبل على أي فعل فينفعل لك كما تريد، إن هذا من عطاء الله لك، وأنت حين تذبح عجلا، أو خروفا، وتتأمل أنت كيف يقدرك الله على هذا الكائن الحي. وإنك لم تفعل ذلك لتسخير الله كل الكائنات لك. فباسم الله تذبحه.
إذن هناك أمور كثيرة وأفعال ذات بال تمر عليك ومن حسن الأدب والإيمان أن تقبل عليها باسم الله. ولذلك يخطئ بعض الناس حين يظنون أن الإنسان عندما يذبح حيوانا فهو يؤذيه. لا، بل ذبح هذا الحيوان هو تكملة لمهمته في الحياة ؛ لأنه مخلوق لهذا الهدف ومذلل له.
لقد قلنا سابقا : إن هناك عجيبة من عجائب المزاولات الفعلية، هذه العجيبة أنك حين تأتي إلى الحيوانات التي لم يحلها الله للإنسان، كالحمار مثلا إذا ما تعرضت هذه الحيوانات إلى ما يميتها، كأن التف حول عنقه حبل، واختنق فهو يموت دون أن يمد رقبته إلى الأمام، لكن الحيوان الذي أحله الله للأكل ؛ مثل الجاموسة أو الخروف أو العجل، نجد الحيوان من هذه الحيوانات إن اختنق يمد رأسه إلى الأمام، فيقول أهل الريف في مصر : إنه يطلب الحلال، أي الذبح. فلا يسمي ذبح الحيوان اعتداء عليه ؛ لأن الحيوان مخلوق لهذه المهمة.
إذن فمعنى كلمة " باسم الله " أي أنني لم أجترئ على هذا العمل إلا في إطار اسم الله الذي أحل لي هذا.
بعد ذلك يقول الحق للمؤمنين : لا تسمعوا كلام الكافرين، ويأتي السؤال الاستنكاري : " وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " والمعنى : أي سبب يمنعكم من " أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ؟ وقد فصل لكم ما حرم عليكم، فما ذكر اسم الله عليه ليس من ضمن المحرمات التي نص الله عليها، فربنا سبحانه هو من حلل وحرم. وإن قيل : ما دام قد حرم علينا بعض ا
٢ رواه عبد القادر الرّهاوي في الأربعين عن أبي هريرة..
﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾ :
ما الذي أدخل هذه المسألة في هذا السياق ؟ لقد تكلم الحق عن أن هناك أعداء لكل نبي يلتمسون ثغرة في منهجه ليتكلموا فيها، وهذه هي مهمتهم التي هيأها الله لهم، فحين يقولون الاعتراضات نجد المنهج يرد عليهم وبذلك تنتفع الدعوة إلى أن تقوم الساعة.
مثال ذلك نجد الجماعة الذين عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج، فحين قال لهم : إنني أسري بي إلى المسجد الأقصى وعرج بي إلى السماء في ليلة واحدة، والتمسوا له ثغرة لينفذوا منها ويضللوا غيرهم وقالوا له : أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ؟ ! ! لكن أبو بكر الصديق قال : إن كان قال فقد صدق، وهذا هو الإيمان الذي يحسن استقبال الأمر المخالف للنواميس. ويجادلون أبا بكر، فيقول : أنا صدقته في خبر السماء فكيف أكذبه في ذلك، ما دام قال فقد صدق، وهذا كلام منطقي.
لكن المعارضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ؟ ! فأعطى صلى الله عليه وسلم لهم الأمارات ووصف لهم العير التي في الطريق، وغير ذلك من العلامات التي تجعل من الأمر حجة إلى يوم القيامة، ولو مرت مسألة الإسراء والمعراج من غير أن يعترض أحد من الأعداء، لما وجدنا الحرارة في تصديقها.
إننا نجد حاليا من يقول : وهل من المعقول أنه صلى الله عليه وسلم راح إلى بيت المقدس وجاء في ليلة ؟ لابد أن ذلك كان حلما. لو لم يقولوا هم هذا ما كنا عرفنا الرد ؛ إنما هم قالوها حتى نعرف الرد ويظل الرد ويظل الرد رادعا إلى أن تقوم الساعة، وهذه هي المهمة التي جعلها الله للأعداء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو قال لهم : إنني حلمت أني رحت بيت المقدس. أكان هناك من يعترض على أن يحلم النبي حتى ولو قال : إنه ذهب إلى آخر المعمورة إنه لا يجرؤ واحد أن يكذبه، لكنهم ما داموا قد كذبوه، ورفضوا تصديق الإسراء فهذا دليل على أنهم فهموا من الذهاب أنه ليس ذهابا رؤيا وإنما ذهاب قالب، لقد فهموا عنه أنه قد انتقل بجسده من مكة إلى بيت المقدس، ولذلك كذبوه، وهذا تكذيب منهم ينفعنا الآن، لنرد به على المكذبين المعاصرين.
إذن فوجود الأعداء يهيج القرائح التي يمكن أن نرد على أية شبه يثيرها أي إنسان سواء أكان ماضيا أم معاصرا.
والحق هنا يقول :
﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
هذه الآية لها قصة توضح كيف يحاول الأعداء اصطياد الثغرات لينفذوا منها، وقالوا : يقول النبي لكم : إن الميتة لا يحل لكم أن تأكلوا منها، وما تذبحونه بأيديكم كلوا منه، والذبح لون من الموت، هذه هي الشبهة التي قالوها، وهي أولا مغالطة في الأساليب ؛ لأن الميتة غير المذبوحة وغير المقتولة. فالمذبوحة إنما ذبحناها لنطهرها من الدم ؛ لذلك فالمناقشة الفقهية أو العلمية تهزم قولهم ؛ لأن هناك فرقا بين الموت والقتل. فالموت هو أخذ للحياة بدون سلب للنية، إنما القتل هو سلب للبنية أولا فتزهق الروح ويبقى الدم في الجسم. ثم هل يأخذ المشرع وهو الرب الأعلى الحكمة منا أو أن الحكمة عنده هو وحده ؟
وقد تبين لنا في عصرنا أن غير المؤمنين بدؤوا في الاهتداء إلى أن الميتة فيها كل الفضلات الضارة، واهتدوا إلى إزالة الفضلات الضارة من الحيوانات التي يريدون أكلها ؛ لأن تكوين جسم الحيوان يتشابه مع تكوين جسم الإنسان، فهو يأكل ويهضم ويمتص العناصر الغذائية ليتكون الدم والطاقة، وفي الجسم أجهزة تصفي وتنقي الجسم من السموم الضارة، فالكلية مثلا تصفي الدم من البولينا وغيرها، ويسير الدم ليمر على الرئة ليأخذ الأوكسجين، وكل ذلك لتخليص الجسد من الفضلات الضارة، وأوعية الدم في الإنسان والحيوان فيها الدم الصالح والدم الفاسد، والدم الفاسد هو الذي لم تتم تنقيته، وعندما تذبح الذبيحة ينزل منها الدم الفاسد وغيره، أي أننا ضحينا بالدم الصالح في سبيل وقايتنا من الدم الفاسد لكنها ماتت دون ذبح، فآثار الدمين الاثنين موجودة. وكذلك آثار الفضلات التي كان يجب أن يتخلص منها، وهذا ما نفعله في هذا الأمر، لكن هل لنا مع الحق سبحانه وتعالى تعقل في شيء إلا في توثيق الحكم والاطمئنان إلى مجيئه منه جلت قدرته ؟
كان جدلهم أنهم قالوا : أنتم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، فأنتم تظنون أنفسكم أحسن من الله، وهذا افتراء منهم. ثم إن الحيوان حين يموت لم يذكر عليه اسم الله، لكن الذبيحة التي نذبحها نذكر عليها اسم الله، فكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه. أي غير الميتة وغير ما يذبح للأصنام.
﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
إنَّ تلقي أي حكم من الحق، لا يصح أبدا أن نبحث عن علته أولا ثم نؤمن به، بل علينا بعد أن نثق بأنه من الله الذي آمنا به. علينا إذن أن نأخذ الحكم الذي أمر به الله.
﴿ وما لكم ألاّ تأكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه وقد فصّل لكم مّا حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه وإنّ كثيرا لّيضلّون بأهوائهم بغير علم إنّ ربّك هو أعلم بالمعتدين ( ١١٦ ) ﴾[ سورة الأنعام ]، وللآيتين كما علمنا سبب نزلتا من أجله وهو أن بعض المعارضين لرسول الله الذين يقفون من الدعوة موقف التكذيب والعمل على إبطالها والقضاء عليها، كانوا يشيعون عند المؤمنين إشاعات قد تفت في عضدهم العقدي فعرضوا هذه المسألة وهي في ظاهرها تشكيك. وهم قد عرضوا القضية بهذا الشكل غير المتسق ؛ لأن من الذي قتل ؟ لقد قالوا : إن الميتة قتلها الله، فهل الله هو الذي قطع رقبتها ؟ وهل ضربها الله على رأسها فأمات أصل إدارة الحياة وهو المخ ؟ هل صوب شيئا إلى قلبها ؟ سبحانه جل وعلا منزه عن مثل هذه الأفعال البشرية، فكيف يسمون الموت قتلا ؟ إن تسمية الموت قتلا هو الخطأ، فقولهم : كيف تبيحون لأنفسكم ما قتلتموه أي بالذبح. ولا تبيحون ما قتله الله أي أماته، فيه مغالطة في عرض القضية، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يضع عند المؤمنين مناعة من هذه الهواجس التي يثيرونها ؛ فقال :﴿ فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( ١١٨ ) ﴾، وما معنى الذكر ؟ إن عدم تحديد العلماء المعنى المقصود بالذكر، هو الذي أوجد بينهم خلافا كبيرا. فسيدنا الإمام مالك يرى أنك إذا ذبحت ولم تذكر اسم الله سواء أكنت ناسيا أم عامدا فلا يصح لك أن تأكل من الذبيحة. ويرى الإمام أبو حنيفة : إذا كنت لم تسم ناسيا فكل مما ذبحت، لكن إن كنت عامدا فلا تأكل، والإمام الشافعي- رضي الله عنه- يرى : مادمت مؤمنا ومقبلا على الذبح وأنت مؤمن فكل مما لم تذكر اسم الله ناسيا أو عامدا لأن إيمانك ذكر الله.
ونقول : ما هو الذكر ؟ هل الذكر أن تقول باللسان ؟ أو الذكر أن يمر الشيء بالخاطر ؟ إن كنتم تقولون إن الذكر باللسان فلنبحث في الحديث القدسي الذي قاله الله تعالى :" أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " ١.
إذن فقد سمى ربنا الخاطر في النفس ذكرا وبذلك يصبح من حق الإمام الشافعي أن يقول ما قال.
لذلك أقول : يجب أن نحدد معنى الذكر أولا حتى ننهي الخلاف حول هذه المسألة، فليس من المقبول أن نقيم معركة حول معنى " الذكر " ؛ لأن الذكر وهو خطور الأمر على البال قد يصحبه أن يخطر الأمر على اللسان مع الخطور على البال، وقد يظل خطورا على البال فقط، بدليل ما جاء في الحديث السابق. والمؤمن حين يجد أمامه أشياء كثيرة، قد يوجد شيء جميل وآخر ليس له من الجمال شيء ؛ فالجاموسة أقل في الجمال من بعض الحيوانات التي حرم الله أكلها، وأقبل المؤمنون على ذبح الجاموسة ليأكلوا منها، ولم نسمع عن مسلم تقدم إلى حيوان حرم الله أكله ليذبحه، لماذا ؟ لأن المؤمن يقبل على ما أحل الله، وهذا الإقبال دليل على أنه ذكر في نفسه المحلل والمحرم وهو الله، إذن اختياره حيوانا للذبح دليل على أنه ذكر الله في النفس أو في القول، وبهذا نتفق على أن ذكر المؤمن يكون في قلبه قال أو لم يقل، وينتهي الخلاف في هذه المسألة. إذن الإمام الشافعي أخذ بهذه المسألة ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن أكل المسلم من ذبيحة لا يعرف من ذبحها وهل سمّي أو لم يسمّ، أوضح لمن سأله : سمّ وكل.
فالإنسان منا لا يحضر وقت الذبح دائما، ويكفيه أن يستحضر المحلل والمحرم ساعة الأكل. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : اذكروا اسم الله، وسبحانه يعلم أنك تقبل على الأشياء لتفعلها. وهذه الأشياء تنقسم إلى قسمين : قسم يمر على بالك قبل أن تفعله، وقسم لا يمر على بالك، بل تفعله تلقائيا بدون ما يمر على البال، ومثال ذلك الأفعال العكسية كلها التي يفعلها الإنسان إنها لا تمر على باله. فلو حدث أن حاول واحد أن يضع إصبعه في عين آخر، فهذا الآخر يغمض عينيه تلقائيا. ويختلف ذلك عن الفعل الذي تفكر فيه قبل أن تفعله. فالذي يفعل الفعل بعد أن يمر بخاطره هو فعل ذو بال. ولذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يكلفنا عناء أو مشقة ؛ فقال :
" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع " ٢.
والأمر ذو وبال هو الأمر الذي يكون قد خطر على بالك أن تفعله أو لا تفعله. إذن فالله سبحانه وتعالى لا يكلفنا إلا عند الأمر الذي يمر على الخاطر ؛ لأنك حين تقبل على أي فعل فينفعل لك كما تريد، إن هذا من عطاء الله لك، وأنت حين تذبح عجلا، أو خروفا، وتتأمل أنت كيف يقدرك الله على هذا الكائن الحي. وإنك لم تفعل ذلك لتسخير الله كل الكائنات لك. فباسم الله تذبحه.
إذن هناك أمور كثيرة وأفعال ذات بال تمر عليك ومن حسن الأدب والإيمان أن تقبل عليها باسم الله. ولذلك يخطئ بعض الناس حين يظنون أن الإنسان عندما يذبح حيوانا فهو يؤذيه. لا، بل ذبح هذا الحيوان هو تكملة لمهمته في الحياة ؛ لأنه مخلوق لهذا الهدف ومذلل له.
لقد قلنا سابقا : إن هناك عجيبة من عجائب المزاولات الفعلية، هذه العجيبة أنك حين تأتي إلى الحيوانات التي لم يحلها الله للإنسان، كالحمار مثلا إذا ما تعرضت هذه الحيوانات إلى ما يميتها، كأن التف حول عنقه حبل، واختنق فهو يموت دون أن يمد رقبته إلى الأمام، لكن الحيوان الذي أحله الله للأكل ؛ مثل الجاموسة أو الخروف أو العجل، نجد الحيوان من هذه الحيوانات إن اختنق يمد رأسه إلى الأمام، فيقول أهل الريف في مصر : إنه يطلب الحلال، أي الذبح. فلا يسمي ذبح الحيوان اعتداء عليه ؛ لأن الحيوان مخلوق لهذه المهمة.
إذن فمعنى كلمة " باسم الله " أي أنني لم أجترئ على هذا العمل إلا في إطار اسم الله الذي أحل لي هذا.
بعد ذلك يقول الحق للمؤمنين : لا تسمعوا كلام الكافرين، ويأتي السؤال الاستنكاري :" وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " والمعنى : أي سبب يمنعكم من " أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ؟ وقد فصل لكم ما حرم عليكم، فما ذكر اسم الله عليه ليس من ضمن المحرمات التي نص الله عليها، فربنا سبحانه هو من حلل وحرم. وإن قيل : ما دام قد حرم علينا بعض ا
٢ رواه عبد القادر الرّهاوي في الأربعين عن أبي هريرة..
﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه إنّ الّذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون( ١٢٠ ) ﴾ :
هذه تقنينات السماء التي تحمي المجتمع من بعضه وذلك في ألا تقع عين أحد على مخالفة من أحد، وإذا وقعت عينك على مخالفة من غيرك تكون المخالفة مما يدرك لكنها ليست كل الفساد في المجتمع ؛ ففساد المجتمع يأتي من أشياء كثيرة لا تقع تحت دائرة الإدراكات. وهناك أشياء تكون في منابع النفس البشرية التي تصدر عنها عوامل النزوع ؛ فقبل أن يوجد إثم ظاهر يوجد إثم باطن، والإثم الباطن سابق على الإثم الظاهر. والتقنينات البشرية كلها تحمينا من ظاهر الإثم، ولكن منهج السماء يحمينا من فساد ظاهر الإثم وباطن الإثم.
ويوضح لنا الحق الفرق بين تقنين البشر للبشر وتقنين الإله، فسبحانه رقيب على مواجيدكم ووجداناتكم وسرائركم، فإياكم أن تفعلوا باطن الإثم، ولا يكفي أن تحمي نفسك من أن يراك القانون ؛ لأن قصارى ما يعمل القانون أن يمنع الناس من أن يتظاهروا بالجريمة ويقترفوها علانية، والفرق بين تشريع السماء وتشريع الأرض أن تشريع الأرض يحمي الناس من ظاهر الإثم، ولكن تشريع السماء يحمي الناس من ظاهر الإثم وباطن الإثم، وباطن الإثم هو أعنف أنواع الإثم في الأرض.
وبعض أهل الاكتساب في الشر برياضتهم على الشر يسهل عليهم فعل الشر وكأنهم يفعلون أمرا قد تعودوا عليه بلا افتعال.
و " كسب " كما نعلم تأتي بالاستعمال العام للخير، و " اكتسب " تأتي للشر لأن الخير يكون فيه الفعل العملي رتيبا مع كل الملكات، ولا افتعال فيها، فمن يريد مثلا أن يشتري من محل ما فهو يذهب إلى المحل في وضح النهار ويشتري. لكن من يريد أن يسرق فهو يرتب للسرقة ترتيبا آخر، وهذا افتعال، لكن الافتعال قد يصبح بكثرة المران والدربة عليه لا يتطلب انفعالا، لأنه قد أضحى لونا من الكسب. و " يكسبون " تدل على الربح ؛ لأن " كسب " تدل على أنك أخذت الأصل والزيادة على الأصل، والإنسان حين يصنع الخير إنما يعطي لنفسه مقومات الحياة ويأخذ أجرا الآخرة زائدا، وهذا هو قمة الكسب.
ويريد الحق سبحانه وتعالى من العبد في حركته أن يحقق لذاته نفعا هو بصدد الحاجة إليه، ولكن الإنسان قد يحقق ما ينفعه وهو بصدد الحاجة إليه، ثم ينشأ من ذلك الفعل ضرر بعد ذلك ؛ لذلك يحمي الله الإنسان المؤمن بالمنهج حتى يميز بين ما يحقق له الغرض الحالي ويحقق نفعا ممتدا ولا يأتي له بالشر وما يحقق له نفعا عاجلا ولكن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة، إننا نجد الذين يصنعون السيئات ويميلون للشهوات مثلا يحققون لأنفسهم نفعا مؤقتا، مثل التلميذ الذي لا يلتفت إلى دروسه، والذي ينام ولا يستيقظ، والذي إن أيقظوه وأخرجوه من البيت ذهب ليتسكع في الشوارع، هو في ظاهر الأمر يحقق لنفعه راحة، لكن مآله إلى الفشل. بينما نجد أن من اجتهد وجد وتعب قد حقق لنفسه النفع المستمر الذي لا تعقبه ندامة.
﴿ إنّ الّذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون( ١٢٠ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
ففي الدنيا نجد أن الجزاء من بشر لبشر، ولكن ماذا عن لحظة العرض أمام الله وهو العليم بظاهر الإثم وباطن الإثم ؟.
فالذي يصون المجتمع إذن هو التقنين السماوي، فالمنهج لا يحمي الإنسان ممن حوله فحسب ولكنه يقنن لحركة الإنسان لتكون صحيحة.
﴿ ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه وإنّه لفسق وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون ( ١٢١ ) ﴾ :
وهنا يسمي الحق ما لم يذكر اسم الله عليه ب " الفسق " وهو ما تشرحه الآية الأخرى وتبرزه باسم مخصوص :
﴿ قل لاّ أجد في ما أوحي إليّ محرّما على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقا أهلّ لغير الله به.. ( ١٤٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
إذن ف " فسقا " معطوفة على الميتة والدم المسفوح ولحم خنزير، لكنه سبحانه فصل بين المعطوف وهو ( فسقا ) ؛ والمعطوف عليه بحكم يختص بالمعطوف عليه، وهذا الحكم هو الرجس وهكذا أخذت الثلاثة المحرمات الرجس. وعطف عليها ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله كالأصنام وهو قد جمع بين الرجس والفسق.
ويقول الحق :﴿ وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ﴾ وسبحانه يريد أن يبين لنا أن الفطرة السليمة التي لا يميلها هوى تصل إلى حقائق الخير، ولذلك نجد أن الذين يحثون ويحض بعضهم بعضا على الشر ويعلم بعضهم بعضا بخفاء إنما يأخذون مقام الشيطان بالوسوسة والتحريض على العصيان والكفر ؛ لأن المسألة الفطرية تأبى هذا، وحين يرتكب إنسان موبقة من الموبقات، إنما يلف لها ويتحايل ليصل إلى ارتكاب الموبقة، وقد يوحي بذلك إلى غيره، فيدله على الفساد. ويكون بذلك في مقام الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم بإعلام خفي ؛ لأن الفطرة السليمة تأبى الأشياء الشريرة وتقف أيضا فيها، ولا يجعلها تتقدم إلى الشر إلا الهوى، فإذا ما أراد شيطان من الإنس أو شيطان من الجن أن يزيّن للناس فعلا فهو لا يعلن ذلك مباشرة. إنما يلف ويدور بكلام ملفوف مزين.
﴿ وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون ﴾ وفي ذلك إشارة إلى قول المشركين : تأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتل الله وأنتم أولى أن تأكلوا ما قتل الله.
﴿ ... وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون ( ١٢١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
وكأن مجرد الطاعة لهؤلاء المشركين لون من الشرك ؛ لأن معنى العبادة امتثال وائتمار عابد لمعبود أمرا ونهيا، فإذا أخذت أمرا من غير الله فإنه يخرج بك عن صلب وقلب منهجه سبحانه وبذلك تكون قد أشركت به.
﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في النّاس كمن مّثله في الظّلمات ليس بخارج منها كذلك زُيّن للكافرين ما كانوا يعملون ( ١٢٢ ) ﴾ :
والحق سبحانه وتعالى كما عرفنا يعرض بعض القضايا لا عرضا إخباريا منه، ولكن يعرضها باستفهام، لأنه جل وعلا عليم بأنه حين يأتي لك الاستفهام ؛ ثم تدير ذهنك لتجيب فلت تجد إلا جوابا واحدا هو ما يريده الحق. إذن فالأسلوب أحيانا يكون أسلوبا خبريا أو يكون استفهاما بالإثبات أو استفهاما بالنفي. وحين يعرض سبحانه القضية التي نحن بصددها يوضح وهو العليم أنك إن أحببت أن تجيب فلت تجد إلا الجواب الذي يريده الحق
إننا نجد في الآية الكريمة موتا وحياة، وظلاما ونورا.
وما هي الحياة ؟. الحياة هي وجود الكائن على حالة تمكنه من أداء مهمته المطلوبة منه، وما دام الشيء يكون على حالة يؤدي بها مهمته ففيه حياة، وأرقى مستوى للحياة هو ما تجتمع فيه الحركة والحس والفكر، وهذه الأمور توجد كلها في الإنسان. أما الحيوان ففيه حس وحركة وليس عنده فكر. غير أن الحيوان له غريزة أقوى من فكر الإنسان، فهو محكوم بالغريزة في أشياء وبالاختيار في أشياء، وليس لك في الغريزة عمل. لكن في مجال الاختيار لك عمل، تستطيع أن تعمله وتستطيع ألا تعمله.
إذن فالحياة هي أن يكون الكائن على حال يؤدي به مهمته المطلوبة منه. وعلى هذا الاعتبار ففي الإنسان حياة، وفي الحياة حياة، وفي النبات حياة، وفي الجماد حياة، وكلما تقدم العلم يثبت لنا حيوات أشياء كثيرة كنا نظن ألا حياة فيها، وإن ظهر لنا في التفاعلات أن بعض الأشياء تتحول إلى أشياء أخرى، فعلى سبيل المثال الحيوان فيه حياة فإذا ذبحناه وأكلناه، ورمينا عظامه، كانت فيها حياة من نوع ثم صارت أجزاؤه إلى جمادية لها حياة من نوعها، بدليل أنه حين يمر بعض من الزمن يتفتت العظم.
وكنا قديما في الريف نحلب اللبن في أوعية من الفخار وتوضع في مراقد، ويستمر اللبن أسبوعا في المرقد، ويكون أحلى في يومه عن أمسه. ويزداد اللبن حلاوة كل يوم، ثم تأخذ زوجة الفلاح قطعة القشدة الأخيرة وتصنع منها الجبن الجميل الطعم. أو الزّبد لكن بعد أن غلينا اللبن نجده يفسد بعد عدة ساعات ؛ لأنك حين وضعته في المرقد، أخذته بالحياة فيه فظلت في حيوية حياته، لكن حين غليته فقد قتلت ما فيه من الحياة، فإن لم تضعه في ثلاجة لابد من أن يتعفن، ومعنى التعفن، أنه لم يعد يؤدي مهمته كلبن، إنما انتقل إلى حياة أخرى بفعل البكتيريا وغيرها، ولا يذهب الحياة إلا الهلاك وهو ما قاله الحق :
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.. ( ٨٨ ) ﴾ [ سورة القصص ].
إذن لا تأخذ الميت على أنه شيء ليس فيه حياة، ولكنه انتقل إلى حياة ثانية.
﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في النّاس.. ( ١٢٢ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
كأن للإنسان حياة في ذاته، ثم جعل الحق له نورا يمشي به. كأن الحياة متنقلة في أشياء، ويحتاج الإنسان إلى حياة، ويحتاج إلى نور تتضح به مرائي الأشياء. وكانوا قديما يعتقدون أن الإنسان يرى حين ينتقل شعاع من عينه إلى المرئي فيراه، إلى أن جاء العربي المسلم ابن الهيثم. وقال هذا رأي جانبه الصواب في قانون الضوء، وقال : إن الإنسان يرى ؛ لأن شعاعا من المرئي يصل إلى عين الرائي. بدليل أن المرئي إن كان في ضوء يدركه الإنسان، وإن كان في ظلمة لا يدركه الإنسان، ولو كانت الأشعة تخرج من عين الإنسان لرأى الأشياء سواء أكانت في نور أم في ظلمة، وتعدلت كل النظريات في الضوء على يد العالم المسلم، وجاءت من بعد ذلك الصور الفوتوغرافية والسينما. إذن فالنور وسيلة إلى المرئيات.
ويترك الحق سبحانه وتعالى في أقضية الكون الحسية أدلة على الأقضية المعنوية ؛ فالنور الحسي الذي نراه إما ضوء الشمس وإما ضوء القمر، وإما ضوء المصباح، وإما غير ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان يرى الأشياء، ومعنى رؤية الإنسان للأشياء أن يتعامل معها تعاملا نفعيا غير ضار. ونحن نضيء المصباح بالكهرباء حيث يغيب النور الطبيعي نور الشمس وعندما نضيء مصابيحنا نرى الأشياء ونتفاعل معها ولا نحطمها ولا تحطمنا، وكل واحد منا يأخذ من النور على قدر إمكاناته. إذن كل واحد يضيء المكان المظلم الذي اضطر إليه بغيبة المنير الطبيعي على حسب استطاعته، فإذا ظهرت الشمس أطفأنا جميع مصابيحنا ؛ هذا دليل من أدلة الكون الحسية الملموسة لنأخذ منها دليلا على أن الله إن فعل لقيمنا نورا فلا نأتي بقيم من عندنا، ما دامت قيمه موجودة.
ويوضح لنا الله أن الإنسان بدون قيم هو ميت متحرك، ويأتيه المنهج ليحيا حياة راقية. ويوضح سبحانه لكل إنسان : احرص على الحياة الثانية الخالدة التي لا تنتهي وذلك لا يتأتى إلا بإتباع المنهج، وإياك أن تظن أن الحياة فقط هي ما تراه في الوجود لأنه إن كانت هذه هي غاية الحياة لما أحس الإنسان بالسعادة ؛ لأنه لو كانت الدنيا هي غايتنا للزم أن يكون حظنا من الدنيا جميعا واحدا وأعمارنا واحدة، وحالاتنا واحدة، والاختلاف فيها طولا وقصرا وحالا دليل على أنها ليست الغاية ؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية.
إذن فقول الله هو القول الفصل :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان.. ( ٦٤ ) ﴾ [ سورة العنكبوت ]
فهذه هي الحياة التي لا تضيع منك ولا تضيع منها، ولا يفوتك خيرها ولا تفوته. إذن فالذي يحيا الحياة الحسية الأولى وهي الحركة بالنفخ في الروح هو ميت متحرك.
﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به ﴾ ( من الآية ١٢٢ سورة الأنعام )
أي أنه سبحانه قد أعطى لمثل هذا العبد حياة خالدة ونورا يمشي به، لا يحطم ولا يتحطم.
أما من يقول : إن الحياة بمعناها الدنيوي، لا تختلف عن الحياة في ضوء الإيمان، لمثل هذا نقول : لا، ليس بينهما تساو فهما مختلفتان بدليل أن الحق يقول :
﴿ استجيبوا للّه وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾( من الآية ٢٤ سورة الأنفال )
فسبحانه يخاطبهم، وما دام يخاطبهم فهم أحياء بالقانون العادي، لكنه سبحانه أنزل لرسوله المنهج الذي يحيا به المؤمن حياة راقية، وافطنوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى أعطى ومنح الروح الأولى التي ينفخها في المادة فتتحرك وتحس بالحياة الدنيا، إنه أعطاها المؤمن والكافر. ثم يأتي بروح ثانية تعطي حياة أبدية. ولذلك سمي منهج الله لخلقه روحا :
﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ﴾( من الآية ٥٢ سورة الشورى )
فالمنهج يعطي حياة خالدة.
إذن فقوله الحق :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه ﴾ أي أو من كان ضالا فهديناه، أو من كان كافرا فجعلناه مؤمنا. ولنلحظ أن فيه " ميِِْتا " بالتخفيف، وفيه ميّت بالتشديد. والميّت هو من يكون مآله الموت وإن كان حيا، فكل منا ميّت وإن كان حيا. ولكن الميِْت من مات بالفعل وسلبت وأزهقت روحه. ولذلك يخاطب الحق نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول له :( إنك ميّت ).
أي تؤول إلى الموت وإن كنت حيّا الآن. لأن كلا منا مستمر في الحياة إلى أن يتلبس بصفة الفناء، ويقول الحق :﴿ فأحييناه ﴾ أي بالمنهج الذي يعطيه حياة ثانية، ولذلك سميّ القرآن روحا، وسمّي من نزل القرآن روحا أيضا.
﴿ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ﴾ ولماذا يمشي به في الناس فقط، وليس بين كل الأشياء ؟ ؛ لأن الأشياء الأخرى من الممكن أن تحاط أنت منها، ولكن كلمة الناس تعبر عن التفاعل الصعب لأنهم أصحاب أغيار. ويتابع الحق : كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " وهذا تساؤل جوابه : لا، أي ليس كل منهما مساويا للآخر، ومثلما نقول : هل يستوي الأعمى والبصير ؟. والفطرة هنا تقول : لا، مثلما تؤكد الفطرة عدم استواء الظلمات والنور، أو الظل والحرور، وهنا يأمننا الله على الجواب ؛ لأنه سبحانه يعلم أن الأمر إذا طرح كسؤال وكاستفهام فلن نجد إلا جوابا واحدا هو ما يريد الحق أن يقوله خبرا.
ويذيل الحق الآية :﴿ كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون ﴾( من الآية ١٢٢ سورة الأنعام )
والمعنى هنا أي تركناهم عرضة لأن ينفعلوا للتزيين، ولم يحمهم الحق بالعصمة في اختيارهم ؛ لأنه سبحانه قد ترك الاختيار حرا للإنسان :
﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾( من الآية ٢٩ سورة الكهف )
﴿ وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلاّ بأنفسهم وما يشعرون ( ١٢٣ ) ﴾ :
وقوله الحق سبحانه : " وكذلك " تدل على أن شيئا شبّه بشيء، فكما وجد في مكة من يناصبك العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى الله، ويصدّ عن سبيل الحق ؛ إن تلك قضية ليس فيها بدعا من الرسل ؛ لأن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب الإيمان، و " كذلك " أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة، فلم تكن بدعا من الرسل. وحيث إنك لم تكن بدعا من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو العزم من الرسل. وأنت أولى منهم بالصبر ؛ لأن مشاقتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله، فكل رسول إنما جاء لأمة محدودة ليعالج داء محدودا في زمان محدود.
وأنت قد جئت للأمر العام زمانا ومكانا إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك التي خصك الله بها.
﴿ وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها.. ( ١٢٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
والإجرام هو مأخوذ من مادة " الجيم " و " الراء " و " الميم "، الجرْم والجُرْم والجريمة. فيها معنى القطع. و " مجرميها " جمع مجرم، ومجرم من أجرم، وأجرم أي ارتكب الجرُم والجريمة، ومعنى ذلك أنه قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه، فهو يعزل نفسه لا لمصلحة لأحد إلا لمصلحته هو، فكأنه قام بعميلة انعزال اجتماعي، وجعل كل شيء لنفسه، ولم يجعل نفسه لأحد ؛ لأنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك.
إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح إقداما يجعل الإنسان عازلا نفسه عن خير مجتمعه ؛ لأنه يريد كل شيء لنفسه. وما دام يريد كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه، ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل ؛ كي لا يشعر أن هناك واحدا أحسن منه.
﴿ ... ليمكروا فيها وما يمكرون إلاّ بأنفسهم وما يشعرون ( ١٢٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
والمكر كما نعرف مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافا بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع ؛ لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين ؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبدا، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر :
وضعيفة فإذا أصابت فرصة *** قتلت كذلك قدرة الضعفاء
والضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه فرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفا من ألا تأتي فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم قد يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه. إذن فلا يمكر إلا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم. وهناك كثير من الآيات تتعلق بهذه المسألة، وبعضها وقع فيه الجدل والخلاف، ومن العجيب أن الخلاف لم يُصفّ، وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم. وهذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق :
﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرا ( ١٦ ) ﴾ [ سورة الإسراء ].
وهذه الآية فيها إشكال، وقامت بسببها معركة بين العلماء ؛ فنجد منهم من يقول : وكيف يأمر الله أناسا بالفسق ؟. وحاولوا أن يجدوا تأويلا لذلك فقالوا : إن الحق قد قسر وأجبر أكابر الناس على الفسق. والجانب الثاني من العلماء قالوا : لا، إن الحق لا يقسر البشر على الفسق، بل على الإنسان حين يقرأ كلمة أمر الله في منهجه فلابد أن نعرف أن هذا الأمر عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى ؛ لأن المأمور وهو المكلف صالح ألا يفعل، وأن الآمر قد أمر بشيء، والمأمور له حق الاختيار ؛ وبذلك تجد أكار القوم إنما استقبلوا أمر الله بالعصيان ؛ لأن الحق هو القائل :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله.. ( ٥ ) ﴾ [ سورة البينة ]، والفسق إذن مترتب على اختيار المأمور.
وحين نتأمل نحن بالخواطر معنى : " أمر الله " نجد أن أمر الله يتمثل في التكوينات الطبيعية الكونية ولا يوجد لأحد قدرة على مخالفة الله في ذلك، فهو القائل :﴿ إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾.
ويتمثل أيضا أمر الله في التشريعات، وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن يختاروا بين الطاعة والعصيان، وسبحانه القائل عن الأمر بالتشريع :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله ﴾
وحين يقول الحق :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ﴾.
فسبحانه لا يهلك هذه القرية ظلما، وإنما يرسل إليهم المنهج، فإن أطاعوا فأهلا وسهلا، وإن عصوا فلابد لهم من العقاب بالدمار.
وهكذا نرى العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على الأمر من الله لم يلتفتوا إلى أن ورود الأمر في القرآن جاء على لونين : أولا : أمر التكوين بالقهريات فلا يستطيع المأمور أن يتخلف عنه، ويمثل الأمر القهري قوله الحق :
﴿ إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون٨٢ ﴾. ( سورة يس )
فالأمر جاهز في عالم الأزل ليبرز حين يشاء الحق. والأمر الثاني : هو الأمر التشريعي وهو صالح لأن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصى، وفي هذا الإطار نفهم قوله الحق :
﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرا ( ١٦ ) ﴾( سورة الإسراء )
فلا تقل : إن الله يأمر بالفسق ؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لأنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء، بل جاء الأمر لكل البشر أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، لكن كبار أهل هذه القرية أخذوا البديل للطاعة وهو الفسق والمعصية، فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع بهم ؟، هو سبحانه يدمرهم تدميرا. فإن كان في الكونيات فلا أحد من خلق الله مكلف في الكونيات، أما أمره الثاني في إتباع المنهج فلنا أن نفهم أنه الاختيار.
وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الآية لتلتقي مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : أي وإذا أردنا أن نهلك قرية أنزلنا منهجا لها فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم إطاعة منهج الله فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وكذلك أيضا نفهم قوله الحق :﴿ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ﴾ لأن المكر إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئا من طريق ملتو لأنه ضعيف لا يمكن أن يواجه الحقائق، وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة، وهو يريد تزييف المسألة على هذه الفطرة لذلك يلتوي. ولمثل هذا الماكر نقول : أنت تريد أن تحقق لنفسك خيرا عاجلا وشهوة موقوتة، ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا الأمر بالنسبة لك، وكذلك عقوبتك على أنك أضللت الآخرين لرأيت كيف يأتي الشر.
﴿ وما يمكرون إلاّ بأنفسهم وما يشعرون ﴾( من الآية ١٢٣ سورة الأنعام )
أي لا يعلمون، لأنهم لا يوازنون الأمور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي.
﴿ وإذا جاءتهم آيةٌ قالوا لن نؤمن حتّى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الّذين أجرموا صغارٌ عند الله وعذابٌ شديدٌ بما كانوا يمكرون١٢٤ ﴾ :
وكأن الآية التي أرسلها الله مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلاغ عن الله لم تقنعهم، ولم يكتفوا بها، بل طالبوا بآيات أخرى، فهم قد قالوا :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنّةٌ من نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السّماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( ٩٢ ) ﴾ [ سورة الإسراء ]
هم لا يريدون أن يؤمنوا بل إنهم يدخلون في اللجاج، والتماس سبل الفرار من الإيمان ؛ لذلك تجد أن كل الحجج التي وقفوا بها أمام، دعوة الرسول هي أكاذيب ؛ فقالوا إنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، وبين الولد وأبيه، ويدخل بما جاء به ويزعم أنه من عند الله الفتنة في الأسرة الواحدة.
لكن لماذا لم يتساءلوا : ما دام قد سحر غيرنا فلماذا لم يسحرنا ؟. وهل تأبوا هم عن السحر ؟. وهل للمسحور رغبة أو خيار مع الساحر ؟. إنهم في ذلك كاذبون.
ثم قالوا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم شاعر. ولو أن أحدا غيرهم قال مثل هذا الكلام لكان مقبولا لأنه يجهل رسول الله، ولأنه ليس من قوم هم أهل الفصاحة وأهل البلاغة وأهل بيان، إنهم يعرفون الشعر، والنثر، والخطابة والكتابة. فلو كان هذا الأمر من غيرهم لكان القول مقبولا، ولذلك نجد منهم من تصفو نفسه يقول : والله ما هو بقول كاهن ولا بقول شاعر. ويطلب الحق منهم ألا يقولوا رأيا جماهيريا ؛ ففي الرأي الجماهيري يختلط ويلتبس الحق بالباطل. بل كان يطلب منهم أن يكون الكلام محددا بحيث تنسب كل كلمة إلى قائلها فيقول الحق :
﴿ قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثمّ تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة.. ( ٤٦ ) ﴾ [ سورة سبأ ]
أي لا تأتوا في أثناء هياج الناس وتتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون ؛ لأن قولكم في الهياج الجماهيري غير محسوب على أحج لكن المطلوب أن تقوموا لله مثنى أي اثنين اثنين، وكل اثنين يقولان : هيا بنا نستعرض أمر هذا الرسول ونرى قضاياه : أهو كاهن ؟. أهو ساحر ؟. أهو شاعر ؟ فبين الاثنين لا يضيع الحق أبدا لأن كلا منهما يناقش الآخر، وحين يجلس اثنان للنقاش، إذا انهزم منهما واحد أمام الآخر لا يفضح أمام الغير، لكن حين يتناقش ثلاثة أو أربعة فكل منهم يخاف أن ينهزم أمام غيره، ونجد كل واحد يدافع عن نفسه. ولذلك حين يجلس اثنان معا ليتناقشا، ويبحثا أي أمر لا يخشى أحدها الهزيمة ؛ لذلك يأتي الأمر من الله أن يقوموا لله مثنى أو فرادى، ويتذكر كل واحد منهم أمر هذا الرسول : أهو مجنون ؟
إن أفعال المجنون وأعماله تكون متقطعة غير مستقيمة. ومحمد على خلق عظيم، وهل يقال للمجنون : إنه على خلق عظيم ؟ ؛ لأن الإنسان منا لا يعرف كيف سيقابله المجنون، أيضربه، أيشتمه، أيقطع له ملابسه ؟. أما الخلق العظيم فمعناه الخلق المضبوط القيم، وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مضبوط بالقيم حتى صار ملكة وليس أمرا افتعاليا. وحين يقول الناس عن إنسان إن خلقه الكرم أي قد تأصلت فيه صفة الكرم تأصلا بحيث أصبحت تصدر عنه أفعال البذل بيسر وسهولة، والصفة حين ترسخ في النفس تصير هي الخلق وتصدر عن النفس الأفعال بيسر وسهولة. وفي أعمال المعاني نسميها خلقا، وفي أعمال المادة نسميها آلية.
وكلنا يعرف أن الإنسان إن أراد أن يتعلم قيادة سيارة فهو يتعلم الأفعال التي تؤدي إلى سير السيارة حتى يكتسب المهارة ويؤديها بيسر وبدون صعوبة، وكذلك الشأن في الخلق حين تصدر عنه الأفعال بدربة ومهارة، ونجد على سبيل المثال من يتعلم الفقه، فيسأله إنسان عن الحكم في الأمر المعين، فيستعرض الأمر من كل أوجهه في وقت طويل، لكن من يتدرب يصبح الفقه بالنسبة إليه ملكة، فلا يتعب في استنباط الحكم. كذلك الخلق.
ويوضح لهم الحق : أنتم تقولون عن الرسول : إنه مجنون، فاجلسوا مثنى مثنى أو فرادى وادرسوا تصرفاته ستجدون أنها تصرفات منطقية مبنية على خلق كامل مكتمل، وهو سلوك يختلف بالتأكيد عن سلوك المجنون ؛ لأن المجنون لا ضابط له في حركاته ولا في سكناته ولا فيما يأتي ولا فيما يدع. وكذلك لا يمكن أن يكون شاعرا ؛ لأنكم أنتم أهل شعر، وكذلك ليس بكاهن ؛ فالكهنة قد يستبدلون بآيات الله ثمنا قليلا، وهو الذي أعلن لكم رفض الملك والثروة والجاه. لكنهم قالوا :
﴿ وإذا جاءتهم آيةٌ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله.. ( ١٢٤ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
وقد حدث الوليد بن المغيرة نفسه بذلك، وكان من ناحية السن أسنّ من رسول الله، ومن ناحية المال كان غنيا، ومن ناحية الأولاد عنده العزوة والولد، وقال : لو كانت الرسالة بكل هذه الأمور لكنت أنا أولى بهذا لأنني أسن ولأنني أكثر مالا ولأنني أكثر ولدا. وهو قد قاساها بمقاييس البشر، وكأن الوليد لم يكن يعلم أن الرسالة ليست رئاسة، فإذا كنت أنت دون غيرك عندك المال وعندك الأولاد وعندك الزروع وغير ذلك لكنك لست على خلق محمد صلى الله عليه وسلم، الذي فطره الله عليه وأعده واصطفاه ليكون رسولا، ولكن مع هذا قال بعضهم :
﴿ وقالوا لولا نزّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾ [ الزخرف ]
ولنسمع رد القرآن :
﴿ أهم يقسمون رحمت ربّك.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الزخرف ]
ويوضح لهم الحق : نحن قسمنا بينهم الأمور الحياتية، لكنكم تريدون تقسيم رحمة الله، وفرق بين الرحمة في الرسالات وبين امتداد الحياة بالأقوات والمال ؛ لأن هذه عطاءات ربوبية. لكن الرحمة هي عطاءات ألوهية، إنكم تميزتم في دنياكم بالمال والبنين والبساتين لا لخصوصية فيكم ولكن لأن نظام الكون كله إنما يحتاج إلى مواهب متكاملة لا إلى مواهب متكررة، ولو امتلك كل الناس مثل ما عندك يا وليد من أرض ومال لما وجدت من يفلح لك الأرض، ولما كان عندك من يسرج لك الفرس. ولهذا جعل الحق مسألة الثروة دولا، أي يقلب سبحانه هذه الأمور لتكون متداولة بين الناس ؛ تكون لهذا في زمن ولآخر في وقت وزمن آخر ولا تدوم لأحد.
وحين جاء الناس إلى أبي جهل يحدثونه في الرسالة قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا، كسوا فكسونا، ذبحوا فذبحنا. حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا بوحي كما يأتيه، ومعنى كفرسي رهان، أي فحين تنطلق الخيل في السباق في وقت واحد كانوا يدقون عودا في الأرض عند نهاية السباق ومن يجذبه من الأرض يقال له : حاز قصب السبق، وعود القصبة هو غاية المشوار، حتى لا يقولن أحد لقد سبقني بخطوة أو غير ذلك.
وهنا يقول الحق :( وإذا جاءتهم آية ).
وانظر إلى كلمة " جاءتهم آية "، فمرة يقول :﴿ قد جئناك بآية من ربك ﴾، ومرة يقول " جاءتهم آية "، فكأن الآية بلغت من وضوحها ومن استقلالها ومن ذاتيتها وخصوصيتها أنها تجيء.
﴿ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله.. ( ١٢٤ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
ويقول الله لهم ردا عليهم : لا تقترحوا ذلك على الله ؛ لأن " الله أعلم حيث يجعل رسالته " ؛ لأن الرسالة إنما تجيء لتنتشر خيرا في الجميع، ولكنها تعف نفسها عن آثار الانتفاع من ذلك الخير. والغير يريد أن يأتي له الخير ثم يترك بعضا من الخير إلا البلاغ به. ويأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت ألا يأخذ أهله الزكاة، أما ما تركه فقد صار صدقة للناس، أي أنه لم ينتفع به في الدنيا ؛ لذلك هو مأمون على الرسالة، ولم يرد أن يأخذ الدنيا ليرثها أهله من بعده. وقد أراده الله كذلك ليكون خيره لكل الناس. فالرسالة تكليف، والنبوة ليس جزاؤها هنا، بل من عظمة الجزاء أنه في الآخرة، ولذلك حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة وقالوا : اشترط لنفسك. قال : تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وتعملون كذا وكذا.
قالوا له : فمنا لنا ؟ أنت اشترطت لنفسك، فما لنا إن نحن وفينا ؟. ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ؟. قال : لكم الجنة. هذا هو الثمن الذي عنده، فمن يريد الجنة يأتي إلى الإيمان، ومن يريد ما هو دون الجنة فليس مكانه مع أهل الإيمان. مع أنه قال لهم فيما بعد ستركبون السفن وتفرشون، الزرابي والوسائد وتجلسون عليها، وبشرهم بالكثير، لكنه لم يقل لهم ذلك من البداية لأن من هؤلاء من لا يدرك خيرا في الدنيا مع الإسلام ؛ بل يموت والإسلام ضعيف وإتباعه في قلة، لذلك أعطاهم الجزاء المضمون لهم جميعا حين قالوا له : ماذا إن نحن وفينا ؟. قال : لكم الجنة. وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الدنيا أهون من أن تكون جزاء على العمل الصالح، فجزاء العمل الصالح خالد لا يفوتك ولا تفوته.
﴿ وإذا جاءتهم آيةٌ قالوا لن نؤمن.. ( ١٢٤ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
وحين نتأمل قولهم :( لن نؤمن ) نجد أن في هذا القول إصرارا على عدم الإيمان، أي لن نؤمن حتى في المستقبل إنهم تحكموا في المستقبل. ثم يفضحهم الله فيموت بعضهم على الكفر، ومن بقي منهم يأتون مؤمنين بعد الفتح. ومن العجيب أن العبارة التي ينطقون بها هي عبارة مهزوزة لا تستقيم مع منطق الكفر منهم، قالوا : لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله، كأنهم قد عرفوا أن هناك رسلا من الله، والأصل في الآية أن يؤمنوا برسل الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وهذا القول يدل على مجرد المعارضة المقترنة بالغباء، فما دمتم تعرفون أن لله رسلا يصطفيهم، فكيف تحاولون أنتم تحديد إرادة الله في الاختيار ؟
إن رسل الله كانت لهم آيات كونية، حسية مرئية، وهي وإن كانت فيها قوة المشهد الملزم، إلا إنه لا ديمومة لها، فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب هذه الآية الكونية، إلا أنها أصبحت خبرا والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى، وكذالك رسالة عيسى عليه السلام حيث أبرأ الأكمة والأبرص بإذن الله. وهذه رسالات لزمن محدود وفي قوم محدودين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ومعه المنهج المعجزة الباقي إلى قيام الساعة، فإن كانت المعجزة حسية فلن يراها إلا قوم مخصوصون لأن الأمر الحسي لا يتكرر، بل ينتهي، وسيدنا محمد رسول إلى أن تقوم الساعة. فلابد له من آية باقية إلى قيام الساعة ؛ لذلك كانت الآية في المعنويات والعقليات التي لا تختلف فيها الأمم ولا تختلف فيها الأزمان، لكنهم أرادوا معجزة حسية، وأخرى عقلية، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية، فحسم الحق الأمر وقال :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾.
ولو نظروا إلى كلمة ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾، فكلمة " أعلم " تدل على أنه قد يمكّن الله بعضا من خلقه ليعلموا لماذا اختار الله محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الذين واجههم صلى الله عليه وسلم بأمر الدعوة، هل انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة، أو آمنوا بمجرد الإخبار ؟. لقد آمنوا بمجرد الإخبار ؛ لأن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الأرض، فيكذب في أمر السماء ؟
إننا نجد أن سيدنا أبا بكر، بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال : صدقت، وسيدتنا خديجة صدقته من فور أن قال
﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنّما يصّعّد في السّماء كذلك يجعل الله الرّجس على الّذين لا يؤمنون ( ١٢٥ ) ﴾ :
نجد من يقول إن ربنا حين يريد لإنسان أن يشرح صدره للإسلام فذلك من إرادة الله وما ذنب المكلف إذن ؟.
وللرد على هذا نقول : لقد عرفنا من قبل أن الهداية لها معنيان : المعنى الأول : الدلالة وهي أمر وارد وواجب حتى للكافر. فإن هدى الله للكافر أن يدله إلى طريق الخير، ولكن هناك هداية من نوع آخر وهي للذي آمن، ويصبح أهلا لمعونة الله بأن يخفف عنه أعباء التكاليف وييسرها له ويجعله يعشق كل الأوامر ويعشق البغض والتجافي عن كل النواهي.
يقول بعض الصالحين : " اللهم إني أخاف ألا تثيبني على طاعة، لأني أصبحت أشتهيها " كأنه عشق الطاعة بحيث لم يعد فيها مشقة أو تكليفا، لذلك فهو خائف، وكأنه قد فهم أنه لابد أن توجد مشقة، هذا الإنسان الصالح نقول : لقد فقدت الإحساس بمشقة التكليف لأنك عشقته فألفت العبادة كما ألفتك وعشقتك، وحدث الانجذاب بينك وبين الطاعة، وجعلت رسول الله مثلا لك وقدوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يرى أنه إذا نودي إلى الصلاة يقوم الناس إليها كسالى لكنه صلى الله عليه وسلم يقول لبلال حينما يأتي وقت الصلاة : " أرحنا بها يا بلال ".
وهذا غير ما يقوله بعض ممن يؤدون الصلاة الآن حيث يقول الواحد منهم : هيا نصل لنزيحها من على ظهورنا، وهؤلاء يؤدونها بالتكليف لا بالمحبة والعشق. أما الذين ألفوا الراحة بالصلاة حينما يحزبهم ويشتد عليهم أمر خارج عن نطاق أسبابهم، يقول الواحد منهم : ما دامت الصلاة تريح القلب، فلأذهب إليها وألقى ربي زائدا على أمر تكليفه لي متقربا إليه بالنوافل، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قم إلى الصلاة. ومعنى حزبه أن الأسباب البشرية لا تنهض به. فيقوم إلى الصلاة، وهذا أمر منطقي، ولله المثل الأعلى.
كان الإنسان منا طفل إذا ضايقه أمر يذهب إلى أبيه، فما بالنا إذا ما ضايقنا أمر فوق الأسباب المعطاة لنا من الله فلمن نروح ؟ إننا نلجأ لربنا ولقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة.
إذن فعشق التكليف شيء يدل على أنك ذقت حلاوة الطاعة، وقد يجوز أنه شاق عليك ؛ لأنه يخرجك أولا عما ألفت من الاعتياد. فعندما يأتيك أمر فيه مشقة تقول : إن هذه المشقة إنما يريد بها لي حسن الجزاء، فإذا ما عشقت الصلاة صارت حبا لك، وكان واحدا من الصالحين كما قلت يخاف ألا يثاب على الصلاة لأنها أصبحت شهوة نفس، والإنسان مطالب بأن يحارب نفسه في شهواتها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لنا المثل فقال : " لا يؤمن أحدكم حتى يصبح هواه تبعا لما جئت به " أي يصبح ما يشتهيه موافقا لمنهج الله، فإذا وصل وانتهى المؤمن إلى هذه المنزلة فهو نعم العبد السوي.
وهكذا عرفنا أن الهداية قسمان : هداية بمعنى الدلالة، وهداية بمعنى المعونة.
فإذا ما اقتنعت بهداية الدلالة وآمنت بالحق فسبحانه يخفف عليك أمور التكليف. ويجعلك عاشقا لها، ولذلك يقول أهل الصلاح : ربنا قد فرض علينا خمس صلوات، وسبحانه يستحق منا الوقوف بين يديه أكثر من خمس مرات، وفرض علينا ربنا نصاب الزكاة وهو اثنان ونصف بالمائة، وسبحانه يستحق منا أكثر من ذلك لأنه واهب كل شيء، وهذا عشق التكليف، وهذا هو معنى قوله :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ﴾.
﴿ فمن يرد أن يهديه ﴾ أي يدله سبحانه كما دل كل العباد إلى النهج، لكن الذي اقتنع بالدلالة وآمن يسهل عليه تبعات التكليف مصداقا لقوله الحق :
﴿ ويزيد الله الّذين اهتدوا هدى والباقيات الصّالحات خيرٌ عند ربّك ثوابا وخيرٌ مردّا ( ٧٦ ) ﴾( سورة مريم )، فهذه هداية المعونة، وفيه فرق هنا بين الإسلام والإيمان لأن الإيمان لا يحتاج فقط إلى الاعتقاد ؛ إنما هو حمل النفس على مطلوبات الإيمان. ولذلك نجد أن كبار رجال قريش رفضوا أن يقولوا : " لا إله إلا الله " ؛ لأنهم علموا أنها ليست مجرد كلمة تقال، ولكن لها مطلوبات تتعب في التكاليف الناتجة عنها ب " افعل " و " لا تفعل ". فالتكليف يقول لك " افعل " لشيء هو صعب عليك، ويقول لك : " لا تفعل " في شيء من الصعب أن تتركه، لذلك يقول سبحانه :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ﴾( من الآية ١٢٥ سورة الأنعام )، وسبحانه يشرح صدره للإسلام بعد أن علم أنه قد اعتقد شريعة التوحيد ورضيها واطمأن بها، فيأتي إلى فهم التكاليف ؛ لأن صحيح الإسلام يقتضي الانقياد لأمور التكاليف، فمن أخذ الهداية الأولى وآمن بربه، يوضح له سبحانه : آمنت بي وجئتني ؛ لذلك أخفف عنك تبعات العمل، ويشرح صدره للإسلام، وشرح الصدر قد يكون جزاءا. فسبحانه هو القائل :﴿ ألم نشرح لك صدرك ( ٤ ) ﴾( سورة الشرح )
فقد جازاه ربنا بذلك ؛ لأنه أدى ما عليه وصمد. كأن الله يريد بالإيمان من المؤمن أن يقبل على الحق، وحينما يقبل على الحق، يبحث العبد ليتعرف على المراد والمطلوب منه فيعلم أنها التكاليف، فإذا رأى الله منك الاستعداد المتميز لقبول التكاليف، فإنه يخففها عنك لا بالتقليل منها، ولكن بأن يجعلك تشتهيها، وقد تلزم نفسك بأشياء فوق ما كلفك الله ؛ لتكون من أهل المودة ومن أهل المودة ومن أهل التجليات ومن الذين يدخلون مع الله في ود، وتلتفت لنفسك وأنت تقول : لقد كلفني الله بالقليل وسبحانه يستحق الكثير. فتزيد من طاعتك وتجد أمامك دائما الحديث القدسي :
" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي ببطش بها، وجله التي يمشي بها١، أي بالأمور التي تزيد على ما كلفه في الصلاة والزكاة والصيام والحج.
إذن فمعنى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } أي يجعل الأمور التي يظن بعض من الناس أنها متعبة فإنه بإقباله عليها وعشقه لها يجدها مريحة ويقبل عليها بشوق وخشوع. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يترك في خلفه مثلا للناس، فنجد المال عزيزا على النفس حريصة عليه لأنه إن كان المال قد جاء بطريق شرعه الله وأحله فهو يأتي بتعب وبكد ؛ لذلك يحرص عليه الإنسان، فيحنن الله العبد من أجل البذل والعطاء إننا نجد المؤمن يعطي للسائل لأن السائل هو الجسر الذي يسير عليه المسلم إلى الثواب من الله، فيقول العبد المؤمن للسائل : مرحبا بمن جاء ليحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة، ولذلك عندما جاء مسلم إلى الإمام علي رضي الله عنه وكرم وجهه قال المسلم : أنا أريد أن أعرف أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟
واختار الإمام علي مقياسا للإيمان في نفس كل مؤمن، وقال له : إن جاءك من يطلب منك، وجاء من يعطيك، فإن كنت تهش لمن يعطيك فأنت من أهل الدنيا، وإن كنت تهش لمن يأخذ منك فأنت من أهل الآخرة ؛ لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب.
إذن ف ﴿ يشرح صدره للإسلام ﴾ أي يخفف عنه متاعب التكليف بحيث لا توجد مشقة، ثم يرتقي بعد ذلك ارتقاء آخر بأن يعشقه في التكليف. ويهديه الله إلى طريق الجنة، لأن هناك هداية إلى المنهج وهداية إلى الجزاء على المنهج، ولذلك نجد القرآن يقول ؛ عمن ضلوا :
﴿ إنّ الّذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ( ١٦٨ ) إلا طريق جهنّم.. ( ١٦٩ ) ﴾ [ سورة النساء ]
كأن هناك هداية إلى العمل وهداية إلى الجزاء، ونجد الحق يقول :
﴿ والّذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم ( ٤ ) سيهديهم ويصلح بالهم ( ٥ ) ويدخلهم الجنّة عرّفها لهم ( ٦ ) ﴾ [ سورة محمد ]
وقد يتساءل إنسان : كيف يهدي الله من قتل، وهل هناك تكليف بعد القتل ؟. نقول : انظر إلى الهداية، إنها هداية الجزاء ﴿ سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنّة عرّفها لهم ﴾.
وهكذا نعرف أن هناك هداية الجزاء، من يحسن العمل يجزه الله الجنة، أما من يسئ فله عذاب في الدنيا والآخرة.
﴿ ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنّما يصّعّد في السّماء كذلك يجعل الله الرّجس على الّذين لا يؤمنون( ١٢٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
وهل هذا تجن من الله على خلقه ؟ لا، لأنه مادام دعاهم للإيمان فآمن بعضهم وصاروا أهلا للتجليات، وكفر بعضهم فلم يؤمنوا، فصاروا أهلا للحرج وضيق الصدر. ومعنى الضيق أن الشيء يكون حجمه أقل مما يؤدي به مهمته، فحين يقال : ضاق البيت بي وبعيالي، فهذا يعني أن الرجل وزوجته عاشا في غرفتين، وكان البيت متسعا. ثم أنجبا عيالا كثيرة فضاق بهم البيت. وهكذا نعلم أنه لم يطرأ شيء على الجدران ومساحة البيت، لكن حين زاد عدد الأفراد شعر رب الأسرة بضيق المنزل. ويقال : صدره ضيّق أو ضيْق فقد ورد في القرآن لفظ ضيق على لغتين : فالحق يقول :
﴿ .. ولا تكن في ضيق مما يمكرون ( ١٢٧ ) ﴾ [ سورة النحل ]
وهناك في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجد كلمة ضيّق، والحق يقول :
﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك.. ١٢ ﴾[ سورة هود ]
فما المراد من " ضائق "، و " ضيَق "، و " ضيْق " ؟. نعرف أن الصدر هو مكان الجارحتين الأساسيتين في التكوين : القلب والرئة، والرئة هي الجارحة التي لا تستمر الحياة إلا بعملها ؛ فقد تبطئ الأمعاء مثلا، أو تتوقف قليلا عن عملها، ويتغذى الإنسان على خزينه من الدهن أو اللحم ولذلك يصبر الإنسان على الجوع مدة طويلة، ويصبر على الماء مدة أقل، لكنه لا يصبر على افتقاد الهواء لدقائق، ولا صبر لأحد على ترك الشهيق والزفير.
ولقد قلنا من قبل : إن الحق سبحانه وتعالى قد يملك بعضا قوت بعض. وأقل منه أن يملك بعض ماء بعض، لكن أيملك أحد هواء أحد ؟ لا ؛ لأن الرضا والغضب أغيار في النفس البشرية. فإذا غضب إنسان على إنسان، وكان يملك الهواء وحبسه فالإنسان يموت قبل أن يرضى عنه هذا الآخر، ولذلك لم يملك الله الهواء لأحد من خلقه أبدا.
إذن كل المسألة المتعلقة بقوله :﴿ يجعل صدره ضيّقا حرجا ﴾ نعلم عنها أن الصدر هو محل التنفس، والرئة تأخذ الأوكسجين وتطرد ثاني أوكسيد الكربون، وعندما يصاب الإنسان بنوبة برد نراه وهو يجد صعوبة في التنفس، كأن حيز الصدر صار ضيقا، فلا يدخل الهواء الكافي لتشغيل الرئتين، ويحاول الإنسان أن يعوض بالحركة ما فاته فينهج. ويشخص ذلك الأطباء ذلك بأن المريض يريد أن يأخذ ما يحتاجه إليه من الهواء فينهج ؛ لأن الحيز قد ضاق، وكذلك عندما يصعد الإنسان سلما، ينهج أيضا ؛ لأن الصعود يحتاج إلى مجهود، لمعاندة جاذبية الأرض، فالأرض لها جاذبية تشد الإنسان، ومن يصعد إنما يحتاج إلى قوة ليتحرك إلى الأعلى ويقاوم الجاذبية.
إننا نجد نزول السلم مريحا ؛ لأن في النزول مساعدة للجاذبية، لكن الصعود يحتاج إلى جهد أكثر، فإذا ضاق الصدر فمعنى ذلك أن حيز الصدر لم يعد قادرا على أن يأخذ الهواء بالتنفس بطريقة تريح الجسم، ولذلك يقال : " فلان صدره ضيق " أي أن التنفس يجهده إجهادا بحيث يح
﴿ وهذا صراط ربّك مستقيما قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون ( ١٢٦ ) ﴾ :
و " هذا " مقصود به ما تقدم من آيات. من كتاب الإسلام وهو القرآن، وذلك ما يشرح الصدر القابل للإيمان، والقرآن هو الحامل لمنهج الإسلام ؛ فمرة تعود الإشارة إلى القرآن أو إلى الإسلام. وليس هناك خلاف بين القرآن والإسلام
﴿ وهذا صراط ربّك مستقيما ﴾. و " الصراط " هو الطريق السوي، والطريق السوي قد يكون مع استوائه معوجا لكن هذا الطريق مستو ومستقيم، ونعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للغاية. وعلى هذا فصراط لا تغني عن مستقيم، ومستقيم لا يغني عن صراط، بل لا بد من صراط معبد ومستقيم ليكون أقصر طريق إلى الغاية وبلا متاعب، إننا نحن البشر نرى المهندسين وهم يقيسون الأبعاد والمسافات والغايات والبدايات والنهايات، وبعد ذلك يربطون البدايات بالغايات.
إنهم يحضرون آلات معينة ليرصدوا استقامة الطريق وكيفية تمهيده. وقد يعترض استقامة الطريق عقبات صعبة شديدة كأداء كجبل مثلا، فيقوم المهندسون إما بنحت نفق في الجبل ليضمنوا له الاستقامة، وإما بأن يحني الطريق ليضمنوا جودة تعبيد الطريق. فإن جاء المهندسون وقالوا نمشي من هنا لنضمن استقامة الطريق فإننا نفعل ذلك. وإلا جعلوا الطريق متعرجا أو حلزونيا ؛ وذلك ليتفادى السائر العقبات التي ليس له قدرة عليها.
لكن إذا كان الصراط قد مهده رب، أتوجد له عقبة ؟ طبعا لا، إذن فهو طريق مستقيم. ولنلحظ أنه سبحانه قال :﴿ صراط ربّك ﴾ أي أنه جاء بها من ناحية الربوبية عطاء الرب، إنه سيد، ومرب وخالق الخلق ويضمن لهم ما يعينهم على مهمتهم في الوجود معونة ميسرة سهلة. وهكذا نعرف أن طريق الحق هو الصراط المعبد المستقيم، أي الذي يصل بين البداية والنهاية. فإن كان الطريق الذي نتبعه مستقيما ومعبدا، وسهلا، فلماذا لا نتبعه ؟
﴿ وهذا صراط ربّك ﴾. ونلحظ أنه سبحانه قد أسند الرب لمحمد، أي من أجل خاطره جعل الصراط مستقيما ؛ لأنه سبحانه هو المتولي لربوبيتك يا محمد، وسبحانه رب الكون كله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عين أعيان الكون.
﴿ وهذا صراط ربّك مستقيما قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون ( ١٢٦ ) ﴾( سورة الأنعام )
" فصّلنا " أي أنّ كل شيء في هذا الكون مخلوق لما يناسبه، وكل قضية من قضايا الكون خلقها ربنا لتحقق الفائدة منها بدون مشقة، وبدون عنت. والمنهج الذي أنزله الله إنما يصلح الكون ويجعل كل شيء فيه مناسبا لمهمته ؛ لأن الله إله كل الناس وهم بالنسبة إليه سواء لأنه لم يتخذ لا صاحبة ولا ولدا. ولا يعطي سبحانه الحياة لمخلوق ويوجده في الكون، ثم يعريه من أسلحة الحركة في الحياة، ولكل إنسان سلاح من موهبة أو قدرة وبذلك تتعدد الأسلحة والمواهب والقدرات، فمن يريد أن يبني بيتا، أنقول له : اذهب إلى كلية الهندسة لتتعلم كيف ترسم البيت وتخططه ؟ أنقول له : تعلم كيف تكون فنيا وكهربائيا ونقاشا ؟ إن الفرد الواحد لا يمكن أن يتعلم كل هذه التخصصات، لذلك وزع الله المواهب على خلقه ؛ هذا عنده موهبة ليعمل لنفسه، ويعمل لغيره. وبعد ذلك يأتي غيره ليؤدي له عملا ليس له فيه موهبة بحيث يتكامل المجتمع كله ولا يتكرر أفراده.
ولو كنا تخرجنا جميعا كأطباء أو مهندسين لما نفعت الدنيا، ومن نقول عليهم : إنهم فشلوا في التعليم يقومون بأعمال في الحياة ما كنا نستطيع الحياة بدونها ؛ فقد خلقهم الله بقدرات عقلية محدودة ليهبهم قدرات أخرى تصلح في مهمات أخرى. وإن تعلم المجتمع كله تعليما لصار الهرم مقلوبا. وإن انقلب الهرم فمعنى هذا أن أجزاء منه ستكون بغير دعائم في الأرض. لذلك نجد أن هناك إعدادا عقليا أراده الحق لكل واحد من الخلق، ولا نستطيع أن نقول لكل إنسان : تعلم وتخرج في الجامعة ثم اكنس الشارع. وكن في الغد حدادا. لذلك ربط الحق كل عمل بالحاجة إليه، ومن يحسن استقبال قدر الله في نفسه يعط الله له من العمل كل الخير.
ونلحظ الآن أن من يعمل موظفا في الدولة يحيا في راتب محدود، بينهما تجد السباك يقدر عمله بأجر يحدده هو، ويبقى الويل والتعب لمن كان تقدير عمله في يد غيره.
﴿ وهذا صراط ربّك مستقيما قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون ﴾
وانظر كل قضية في الكون، لم يدخل ابن آدم فيها أنفه تجدها مستقيمة، ولا يأتي الفساد إلا في القضايا التي أدخل ابن آدم أنفه فيها بدون منهج الله. فإن دخلت في كل مسألة بمنهج الله يستقم الكون تماما. ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى النظام الأعلى في كونه والذي لا تدخل لنا فيه. ولا سيطرة عليه ؛ السماوات، والكواكب، والشمس، والقمر، وحركة الأرض، كل تلك الكائنات نجد أمورها تسير بانتظام، ولذلك يقول لنا الحق سبحانه :
﴿ والسّماء رفعها ووضع الميزان ( ٧ ) ألّا تطغوا في الميزان ( ٨ ) ﴾( سورة الرحمن )
فإن أردتم أن تستقيم أموركم في شئونكم وأحوالكم الاختيارية فادخلوا فيها بمنهج الله ؛ لأن الأشياء التي تدار بمنهج الله بدون أن يتدخل فيها البشر تؤدي مهمتها كما ينبغي.
فعلى الإنسان إذن أن يتذكر كيف يأخذ من المقدمات التي أمامه ما يوصل إلى النتائج، ولابد أن يأخذ المقدمات السليمة ليصل إلى الغايات الفطرية. وأقصر الأمور أن تسأل نفسك : أنت صنعة من ؟ صنعة نفسك ؟ ! لا، هل أنت من صنعة واحد مثلك ؟ لا. وهل ادعى واحد في كون الله وما أكثر ما يدعي أنه خلقك أو خلق نفسه ؟ لا. بل أنت وهو وكل الكون من صنعة الله، فدعوا الله يقرر قانون صيانتكم، وسيظل الناس متعبين إلى أن يسلموا الصنعة إلى خالقها. ﴿ وهذا صراط ربّك مستقيما قد فصّلنا الآيات لقوم يذّكّرون ﴾، ولم يقل فصلنا الآيات لواحد، بل قال " لقوم " حتى إذا ما مال أو غفل واحد في الفكر يعدله غيره. وكلنا متكافلون في التذكير، وهذا التكافل في التذكير يعصم كل مؤمن من نفسه ؛ فإن حصل عندي قصور من سهو أو من غفلة أو من هوى يعدله غيري. وهذه قضية كونية لو استقرأت الوجود كله وجدتها لا تتخلف أبدا.
﴿ لهم دار السّلام عند ربّهم وهو وليّهم بما كانوا يعملون ( ١٢٧ ) ﴾. أي أن لهؤلاء المتقدمين الذين صبروا وصابروا ورابطوا، لهم دار السلام، وهو أسلوب مكون كما يقال من مبتدأ وخبر، إلا أن المبتدأ أخر هنا، والخبر تقدم، وكان المنطق أن يقال : " دار السلام لهؤلاء " ولكن الأسلوب القرآني جاء ليقدم الخبر المكون من الجار والمجرور ومتعلقه، ويؤخر المبتدأ وذلك لخصوصية أرادها الحق، وهي أن هذه الدار لهم وحدهم دون غيرهم فهي خالصة لهم يوم القيامة و " دار السلام " مكونة من كلمتين، " دار " ومعناها ما يستقر فيه الإنسان، ويجمع هذا المكان كل ما تتطلبه حياة الإنسان، وهي أوسع قليلا من كلمة " بيت " ؛ لأن البيت مكان يعد للبيتوتة، لكن كلمة " دار " تعد للحياة ولما يتعلق بالحياة من مقوماتها.
و " دار " هنا مضافة إلى السلام، وهو كما نعلم اسم من أسماء الله، إذن فالحق هنا يوضح : لهم دار منسوبة للسلام وهو الله، وهم مستحقون لها جزاء منه، فإذا كانت الدار التي وعدها الله هي دار السلام وهو الله، فلابد أن فيها متعا وإمكانات على قدر فضل المضاف إليه وهو الله، ولماذا لم يقل الله : " دار الله " ؟، لأن الله أراد أن يأتي بوصف آخر من أوصافه ؛ ليعطيهم السلام والأمن والاطمئنان.
وهناك فرق بين دور الدنيا، وهذه الدار ؛ فدور الدنيا فيها متع، ولكنك فيها بين أمرين : إما أن تفوت أنت ما هي فيه، وإما أن يفوتك ما فيها، ولذلك لا يوجد في الدنيا أمن ؛ لأن غيرك قد يناوئك فيها ويعاديك، وقد تأتي لك مكدرات المرض، وقد تأتي لك معكرات الأعداء، كل ذلك ينغص عليك الأمن والسلام في الدنيا. ولذلك أراد الحق أن تكون لك الآخرة دار سلام ما ت قد آمنت، وأن تأمن فيها من كل الآفات التي كانت في دار الدنيا.
﴿ لهم دار السّلام عند ربّهم.. ( ١٢٧ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
وكأن دار السلام ليست وعدا من الله بأن تكون، ولكنها جاهزة معدة عند الله ومحفوظة لديه تنتظر المؤمنين، وسبحانه قد خلق جنانا تتسع لكل خلقه على فرض أنهم آمنوا وجعل من النار مثل ذلك على قدر خلقه، على فرض وتقدير أنهم كفروا. وسيأخذ المؤمنون ما أعد لهم من دور الإيمان ويرثون ما أعد للكافرين من دور الإيمان على فرض أنهم آمنوا في الدنيا.
﴿ أولئك هم الوارثون ( ١٠ ) الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( ١١ ) ﴾[ سورة المؤمنون ]
فلم يخلق الحق جنانا محدودة، لا، بل أعد وهيأ من الجنان ما يتسع لكل الخلق إن آمنوا، ومن النيران ما يتسع لكل الخلق إن كفروا. وما دامت العندية منسوبة إلى الله فهي عندية مأمونة.
وبعد ذلك أيتخلى الله عنهم ويكلهم إلى ما أعده لهم ؟. لا، بل قال :
﴿ ... وهو وليهم بما كانوا يعملون ١٢٧ ﴾ [ سورة الأنعام ]
فهناك إعداد، ثم قيومية ولاية الله، وهذه القيومية لله، هي للمؤمنين في الدنيا. لكن فلنلاحظ أن الولاية في الدنيا قد تكون فيها أسباب مخلوقة لله، لكن في الآخرة هناك الجزاء الذي لا يكله الله للأسباب، فتكون الولاية مباشرة له ؛ لأنه سيعطيك فورا، وإذا خطر أي شيء ببالك تجده حاضرا : فهي متعة على غير ما ألف الناس ؛ لأن الناس يتمتعون في الدنيا بواسطة الأسباب المخلوقة لله. ولكن في الآخرة فلا ملكية لأحد حتى في الأسباب، لذلك يقول سبحانه :
﴿ لمن الملك اليوم.. ١٦ ﴾ [ سورة غافر ]
وستجد الإجابة هي قوله سبحانه :
﴿ لله الواحد القهار ﴾( من الآية ١٦ سورة غافر ).
والحق هو الولي الذي يليك، قربا تنتفع به، فلا تضطر حتى أن تنادي عليه ليأتي لك بالمنافع ويدفع عنك المضار كما عمل لك في الدنيا ووفقك للعمل وهو وليك في الآخرة بحسن الجزاء لك بسبب ما كنت تعمل ؛ فالعمل في الدنيا هو الزرع وهو الحرث لثمرة الآخرة. ولكن أيعطينا الله على قدر أعمالنا ؟ لا، بل يعطينا على قدر صبرنا ؛ لأنه إن كان العطاء على قدر الأعمال، إننا لو حسبناها لما أدينا ثمن عشر معشار نعم الله علينا في الدنيا. فكأننا نعمل في الدنيا لنؤدي شكر ما أفاء علينا وأعطانا من النعم، فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأعطانا بعد ذلك ثوابا فهو الفضل منه، ولذلك يوضح الحق لنا : إياكم حين توفقون في العمل أن تفتتنوا بأعمالكم، بل عليكم أن تتذكروا أن ذلك فضل من الله :
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعون ( ٥٨ ) ﴾( سورة يونس )
وقد شرح النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأمر وقال :
( لن يدخل أحدا منكم أحدا منكم عمله الجنة، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة )١.
إذن المسألة كلها بالفضل من الله، ولكن فضل الله شرطه العمل الصالح، فأنت تعمل العمل الصالح، ويعطيك ربنا أضعافه، وبطبيعة الحال فعملك لن ينفع جلاله أو جماله أو كماله أو يزيده صفة أو يزيده ملكا، لكنه يعطيك على ما عملته لنفعك ولنفع بني جنسك.
ولذلك نجد الإمام الرازي رضي الله عنه يقول : إن العمل في ذاته يورث الذات شيئا من الصفاء الذي ترتاح له وتسعد به، حتى تجد الجزاء في الراحة، والراحة النفسية هي الأمر المعنوي الذي يوجد في بنية مادية هي قالبك. فساعة يوجد شيء في النفس فهو يؤثر في القالب أغيارا، فإذا غضب الإنسان فهذا الغضب يظهر أثره في البنية نفسها فيحمر الوجه، ويرتعش الإنسان للانفعال بالغضب، والغضب أمر معنوي لكنه أثر في البنية، وكذلك إذا ما حدث ما يسرك، يظهر ذلك في البنية أيضا ؛ فتشرق وتتهلل أساريرك. إذن فالعمل يؤثر في البنية، والبنية تؤثر في العمل.
﴿ ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس وقال أوليآؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الّذي أجّلت لنا قال النّار مثواكم خالدين فيها إلاّ ما شاء الله إنّ ربّك حكيمٌ عليمٌ ( ١٢٨ ) ﴾ :
وساعة تسمع " يوم " اعرف أنها " ظرف زمان "، أي أن هناك حدثا، وقوله الحق :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ﴾ أي اليوم الذي يقف فيه الجميع ويحشدون، وحين ننظر إلى ما بعدها نجد أن الحدث لم يأت، ولكن جاء ﴿ يا معشر الجنّ ﴾ وهذا " نداء ". فكأن الحدث هو النداء نفسه، والنداء يقتضي مناديا، وهو الحق سبحانه، ومنادي وهو معشر الجن والإنس، وقولا يبرز صورة النداء. فكأن العبارة هي : يوم يحشرهم جميعا فيقول يا معشر الجن والإنس، و " الحشر " هو الجمع، و " المعشر " هم الجماعة المختلطة اختلاط تعايش، بمعنى أن يكون فيهم كل عناصر ومقومات الحياة، وقد يضاف المعشر إلى أهل حرفة بخصوصها ؛ يا معشر التجار، يا معشر العلماء، يا معشر الوزراء. لكن إن قلت : يا معشر المصريين فهي جماعة مختلطة اختلاط تعايش ومعاشرة.
{ يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس.. ( ١٢٨ ) [ سورة الأنعام ]
و " استكثر " أي أخذ منه كثيرا، كمن استكثر من جمع المال، أو استكثر من الأصدقاء ؛ فمادة " استكثر " تدل على أنه أخذ كثرة. وماذا يعني استكثارهم من الإنس ؟. نحن نعلم أن من الجن طائعين، ومنهم عاصون، والأصل في العصيان في الجن " إبليس : الذي أقسم :
﴿ قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين ( ٨٢ ) ﴾[ سورة ص ].
فكأن الحق يوضح : أنكم معشر الجن قد حاولتم جاهدين أن تأخذوا الإنس إلى جانبكم واستكثرتم بهم، فبعد أن كان العاصون فقط من شياطين الجن وجد عصاة من الإنس أيضا، واستكثرتم منهم، بأن ظننتم أن لكم غلبة وكثرة وعزا، لأنهم إذا أطاعوكم في الوسوسة أصبحت لكم السيادة، وذلك ما كان يحدث، فكان الإنسان إذا ما نزل واديا مثلا قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن ويطلب أن يحفظه ويحفظ متاعه، وحينما يوسوس له بشيء يسارع إلى تنفيذه، وهذا استكثار.
﴿ وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض.. ( ١٢٨ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
وكذلك لم يستمع الجن والإنس فقط، بل استمتع أيضا بالجن، وهكذا نجد تبادل استمتاع من خلف منهج الله، لهؤلاء إغواء وسيادة، يأمرونهم بعمل الأشياء المخالفة لمنهج الله، وهؤلاء يستمتعون بهم يحققون لهم شهواتهم في صورة تدين، فيقولون لهم : اعبدوا الأصنام، واعبدوا الشمس، واعبدوا القمر، فيفعلون. وذلك يرضي فيهم غريزة الانقياد التديني، لأن كل نفس مفطورة على أن ترتبط بقوة أعلى منها ؛ لأن الإنسان إذا نظر لنفسه وإلى قرنائه وجدهم أبناء أغيار ؛ الواحد منهم يكون اليوم صحيحا وغدا مريضا، ويكون اليوم غنيا وغدا فقيرا، فما الذي يضمن للنفس البشرية حماية من هذه الأغيار ؟
إن الإنسان يحب أن يلجأ ويرتبط بقوي ؛ حتى إذا جاءت هذه الأغيار كانت سندا له. إلا أن هناك من يصعدها في التدين وهؤلاء هم الذين يركنون إلى الإيمانية لله ويعتمدون عليه سبحانه ويقبلون على الإيمان بالله بمطلوبات هذا الإيمان في " افعل : و " ولا تفعل ". لكن الأشياء التي يعبدونها من دون الله ليس لها مطلوبات أو تكاليف إلا أن تكون موافقة لأهواء النفس، وهذا الإكذاب للنفس أي حمل النفس على الكذب لا يدوم طويلا ؛ لأن الإنسان لا يغش نفسه ؛ فالإيمان يحمي النفس إذا جاء أمر فوق أسبابك، وليس هناك من يقول : يا شمس أو يا قمر، يا شيطان أو يا صخر ! لا يمكن ؛ لأنك لن تكذب على نفسك أبدا. ومثال ذلك قول الحق :
﴿ وإذا مسّ الإنسان الضّرّ دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلمّا كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسّه.. ( ١٢ ) ﴾[ سورة يونس ]
وهنا يقول الحق عن الإنس :
{ وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الّذي أجّلت لنا.. ( ١٢٨ )[ سورة الأنعام ]
أي هذا الاستمتاع أمدا، هو أمد الأجل أي ساعة تنقضي وتنتهي الحياة، ثم يبدأ الحساب فيسمعون قول الحق :
﴿ .. قال النّار مثواكم خالدين فيها إلّا ما شاء الله إنّ ربّك حكيمٌ عليمٌ ( ١٢٨ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
و " الثواء " هو الإقامة، و " مثواكم : أي إقامتكم، " إلا ما شاء الله : وهذا الاستثناء كان محل نقاش بين العلماء، دار فيه كلام طويل ؛ فهناك من قال : إن الحق سبحانه وتعالى قال :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ أي أن له طلاقة القدرة والمشيئة ؛ فيفعل ما يريد لكنه حسم الأمر وحدد هو " ما يشاء " فقال :
﴿ إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. ( ٤٨ ) ﴾[ سورة النساء ]
وهنا حدد " ما شاء "، أي أن ما شاء يكون في غير الشرك به فإن الشرك لا يكون محل غفران منه سبحانه. أو يجوز " إلا ما شاء الله " أن بعضا يفهم أنه بمجرد البعث والحشر ستكون النار مثواهم، ولكن المثوى في النار لن يكون إلا بعد الحساب، وهذا استثناء من الزمن الخلودي، فلن يحدث دخول للجنة أو للنار إلا بعد الحساب. فزمن الحساب والحشر مستثنى وخارج عن زمن الخلود في الجنة والنار. ونحن نجد أيضا ﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ في سورة هود حيث يقول الحق :
﴿ فأمّا الّذين شقوا ففي النّار لهم فيها زفيرٌ وشهيقٌ ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلّا ما شاء ربّك إنّ ربّك فعّالٌ لما يريد ( ١٠٧ ) وأمّا الّذين سعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلّا ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) ﴾[ سورة هود ].
إذن فهناك الاستثناء في النار والاستثناء في الجنة، فقول الحق :{ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " إلا ما شاء ربك " فمجيء الاستثناء بعد الوصف بالخلود، يدل على أن الخلود ينقطع مع أنه قد ثبت خلود أهل الجنة في الجنة وخلود أهل النار في النار للأبد من غير استثناء فكيف ذلك ؟
والرد على هذا أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار، وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار بما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم ولعنهم وطردهم وإهانتهم إياهم. وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعا، وهو رضوان الله كما قال :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة في جنّات عدن ورضوانٌ من الله أكبر ﴾ فلهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهذا هو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ ومعنى قوله في مقابلته :﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ أن ربك يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة الذي لا انقطاع له.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ إن ربك حكيم عليم ﴾. حكيم في أن يعذب، عليم بمن يستحق أن يعذّب، ومقدار عذابه، وعليم بمن يستحق أن يثاب وينعم، وبمقدار ثوابه ونعيمه، وحكيم في أن يرحم.
﴿ وكذلك نولّي بعض الظّالمين بعضا بما كانوا يكسبون ( ١٢٩ ) ﴾ :
" وكذلك " تشير إلى ما حدث من الجن والإنس من الجدل، فقال الحق على ألسنة الإنس :﴿ ربّنا استمتع بعضنا ببعض.. ( ١٢٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
ولم يأت بكلام الجن ؛ لأن كلامهم جاء في آيات أخرى ؛ فالحق هو القائل :
﴿ وقال الشّيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلّا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ.. ٢٢ ﴾[ سورة لإبراهيم ]
وكذلك أورد الله ما يجيء على لسان الشيطان في سورة أخرى :
﴿ كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّي بريءٌ منك.. ( ١٦ ) ﴾ [ سورة الحشر ]
وكذلك جاء الحق في آيات أخرى بأقوال الإنس الذين ضلوا :
﴿ .. ربّنا أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ( ٢٩ ) ﴾( من الآية ٢٩ سورة فصلت )
وقوله الحق هنا في سورة الأنعام :
﴿ وكذلك نولّي بعض الظّالمين بعضا ﴾ ( من الآية ١٢٩ سورة الأنعام )
أي كما صنعنا مع الجن والإنس، باستكثار الجن من الإنس واستمتاع بعضهم ببعض إضلالا وإغواء، وطاعة وانقيادا، نجل من بينهم ولاية ظالم على ظالم، ولا نولي عليهم واحدا من أهل الخير ؛ لأن أهل الخير قلبهم مملوءة بالرحمة، لا يقوون على أن يؤدبوا الظالم ؛ فهم قد ورثوا النبوة المحمدية في قوله يوم فتح مكة : " اذهبوا فأنتم الطلقاء }، ولذلك إذا أراد الله أن يؤدب ظالما لا يأتي له بواحد من أهل الخير ليؤدبه، إنه سبحانه بتكريمه لأهل الخير لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم. إنه سبحانه يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم بعضا.
والتاريخ أرانا ذلك. فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير، بينما لو تمكن منهم أعداؤهم الحقيقيون لرحموهم ؛ لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة.
ولذلك بلغنا عن سيدنا مالك بن دينار وهو من أهل الخير. يقول : قرأت في بعض الآثار حديثا قدسيا يقول فيه الحق :
( أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي )١.
فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته، بل جاء به الحق ليؤدب به الظلمة، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة فهو بجلاله ينزع المهابة من قلوب حراسه، وبدلا من أن يدفع عنه البندقية، يصوّب البندقية إليه.
فإياكم أن تظنوا أن ملكا يأخذ الملك قهرا عن الله، ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا يسلط الحق عليهم من يظلمهم، ولذلك يقال : " الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه "
﴿ وكذلك نولّي بعض الظّالمين بعضا بما كانوا يكسبون ( ١٢٩ ) ﴾[ سورة الأنعام ]
فكأن ما سلط على الناس من شر عات هو نتيجة لأعمالهم، ولذلك كان أحد الصالحين يقول : أنا أعرف منزلتي من ربي من خُلق دابتي ؛ إن جمحت بي أقول ماذا صنعت حتى جمحت بي الدابة ؟ ! وكأن المسألة محسوبة. وهذه معاملة الأخيار، عندما يرتكب ذنبا يؤاخذ به على الفور حتى تصير صفحته نظيفة دائما. قال عليه الصلاة والسلام :( ما من معصية تصيب المسلم إلا كفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها )٢.
فإذا فعل العبد من أهل الخير بعضا من السيئات، يوفيه الحق جزاءه من مرض في جسمه أو خسارة في ماله، وكذاك المسيء الذي لا يريد له الله النكال في الآخرة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا حط الله تعالى له به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها )٣.
﴿ وكذلك نولّي بعض الظّالمين بعضا بما كانوا يكسبون ﴾ هم اعتقدوا أنهم أخذوا شيئا من وراء الله وخلصوا به. نقول : لا، فربك سيحاسبك ثوابا أو عقابا وذلك بما قدمت يداك وما عملت من سيئات أو حسنات.
٢ رواه البخاري ومسلم وأحمد.
٣ رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود..
﴿ يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرّتهم الحياة الدّنيا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين ( ١٣٠ ) ﴾ :
ونلاحظ أنه قال هنا :﴿ يا معشر الجن والإنس ﴾ لأنه يريد أن يقيم الحجة بأنه سبحانه لم يجّرم أعمالهم ولم يضع لهم العقوبات إلا بعد بلغهم بواسطة الرسل ؛ فقد أعطاهم بلاغا بواسطة الرسل عما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك، فلم يأخذهم سبحانه ظلما.
وهنا وقفة ؛ فالخطاب للجن والإنس ﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ فقال بعض العلماء : إن الجن لهم رسل، والإنس لهم رسل، وقال آخرون : الرسل من الإنس خاصة ؛ لأن القرآن جاء فيه على لسانهم :﴿ إنا سمعنا كتابا منزلا من بعد موسى ﴾
إذن فقد احتج الجن بكتاب أنزل من بعد موسى عليه السلام وعندهم خبر عن الكتاب الذي جاء بعده، كأن الجن يأخذون رسالتهم من الإنس ؛ فكأن الله قد أرسل رسلا من الإنس فقط وبلغ الجن ما قاله الرسول، وهو هنا يقول سبحانه :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ.. ( ١٣٠ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
وأنت حين تأتي إلى اثنين : أولهما معه مائة جنيه، والثاني يسير معه وليس معه شيء وتقول : " هذان معهما مائة جنيه " فهذا قول صحيح فقوله سبحانه :﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ أي من مجموعكم. أو أن الرسل تأتي للإنس، وبعد ذلك من الجن من يأخذ عن الرسول ليكون رسولا مبلغا إلى إخوانه من الجن :
﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( ٢٩ ) ﴾[ سورة الأحقاف ]
فكأن المنذرين من الجن يأخذون من الرسل من الإنس وبعد ذلك يتوجهون إلى الجن.
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي.. ( ١٣٠ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
والآيات تطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسل، وما يكون من شرح الأدلة الكونية الدالة على صدق الرسل. وكلمة ﴿ يقصون عليكم آياتي ﴾ أي يروون لهم الموكب الرسالي من أول " آدم " إلى أن انتهى إلى " محمد " صلى الله عليه وسلم. ﴿ ويقصون عليكم آياتي ﴾ قول يدل على دقة الأداء التاريخي ؛ لأن " قص " مأخوذ من قص الأثر، ومعناها تتبع القدم بدون انحراف عن كذا وكذا، وهكذا نجد أن المفروض في القصة أن تكون مستلهمة من واقع التاريخ. ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذا.. ( ١٣٠ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
وهو اليوم المخزي حيث سيقفون أمام الله ويذكرهم الحق أنه قد نبههم وقد أعذر من أنذر.
﴿ .. قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ١٣٠ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
وقولهم :﴿ شهدنا على أنفسنا ﴾ إقرار منهم على أنفسهم ؛ فقد شهدوا على أنفسهم، ولكن ما الذي منعهم أن ينضموا إلى الإيمان بمواكب النبوة ؟. تأتي الإجابة من الحق﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾.
والذي يغر هو الشيء الذي يكون له تأثير، وهو موصوف بأنه " دنيا " ! ! لذلك فالغرور الذي يأتي بالدنيا هو قلة تبصّر. ﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾. ومن يستقرئ آيات القرآن يجد آية تقول :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ ( من الآية ٢٣ سورة الأنعام )
فمرة ينفون عن أنفسهم أنهم كفروا، ومرة يثبتون أنهم كافرون، وهذا لاضطراب المواقف أو اختلافها. أو أنهم ﴿ شهدوا على أنفسهم ﴾ ؛ بمعنى أن أبعاضهم شهدت عليهم ؛ لأن الإنسان في الدنيا له إرادة، وهذه الإرادة مسيطرة على ما له من جوارح وطاقات مخلوقة لله ؛ لأن الله جعل للإرادة في الإنسان ولاية على الأبعاض التي تقوم بالأعمال الاختيارية. لكن الأعمال الاضطرابية القهرية ليس للإنسان إرادة فيها ؛ فلا أحد يملك أن يقول للقلب انبض كذا دقة في الساعة، ولا أحد يقول للأمعاء : تحركي الحركة الدّودية هكذا. لكنه يقدر أن يمشي على برجليه إلى المسجد أو يمشي إلى الخمارة. ويستطيع أن يقرأ القرآن أو يقرأ في كتاب يضر ولا يفيد.
إذن فإرادة الإنسان مسيطرة على الأبعاض لتحقق الاختيار المصحح للتكليف. لكن يوم القيامة تسلب الإرادة التي للإنسان على أبعاضه، وتبقى الأبعاض كلها حرة، وحين تصير الأبعاض حرة فالأشياء التي كانت تقبلها في الدنيا بقانون تسخيرها لإرادتك قد زالت وانتهت، فهي في الآخرة تشهد على صاحبها ؛ تشهد الجلود والأيدي والأرجل :
﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ ( من الآية ٢١ سورة فصلت )، وحين يقولون لربنا : ما كنا مشركين، فهذا كلامهم هم، لكن جوارحهم تقول لهم : يا كذابون، أنتم عملتم كذا.
ذلك إشارة إلى ما تقدم، وهو إرسال الرسل مبلغين عن الله ؛ حتى لا يكون لأحد حجة بعد الرسل، وقد أقروا بأن الله أرسل لهم رسلا وشهدوا على أنفسهم، وما داموا قد أقروا على أنفسهم بأن الله أرسل لهم رسلا وشهدوا على أنفسهم بذلك، إذن فهذا إقرار جديد بأن الله لم يكن مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعاقب على جُرم، وقبل أن يجّرم ينزل النص بواسطة الرسل. أي أن الله لا يهلكهم بسبب ظلم وقع منهم إلا بعد ذلك البلاغ.
﴿ وأهلها غافلون ﴾، و " الغفلة " ضد اليقظة، فاليقظة هي تنبّه الذهن الدائم، و " الغفلة " أن تغيب بعض الحقائق عن الذهن، ومعنى أن ربنا لا يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي غير يقظين ؛ فلو أنهم كانوا يقظين ومتنبهين لما احتاجوا إلى الرسل ؛ لأن الله عندما خلق الخلق أرسل آدم إلى ذريته، وكان المفروض كما يلقن الآباء الأبناء وسائل حياتهم أن يلقنوهم مع ذلك قيم دينهم. فكما أن الآباء يعلمون ذريتهم وسائل حياتهم، ثم ينقلونها ويزيدون عليها بابتكاراتهم، كان من الواجب على الآباء أن يقوموا بهذا العمل بالنسبة للقيم فتعيش القيم في الناس كما عاشت وسائل حياتهم.
ولماذا إذن عاشت وسائل حياتهم وتوارثوها وزادوا عليها أشياء ؟ ! لأن زاوية الدين هي التي يغفل الناس عنها، بسبب أنها تقيد حركتهم في " افعل " و " لا تفعل "، ولكنهم يريدون الترف في وسائل حياتهم. لماذا إذن أيها الإنسان تحرص على الترقي في ترف الحياة ولا تحرص على الترقي في القيم ؟. لقد كنت على سبيل المثال تشرب من الماء أو النبع بيدك ثم صنعت كوبا لتشرب منه، ونقيت الماء من الشوائب ونقلته من المنابع في صهاريج. أنت ترفه حياتك المادية والمعيشية فأين إذ الاهتمام بقيم بالدين ؟ ! !
راجع أصله وخرج أحاديثه الدكتور/ أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر.
ولو كانوا متيقظين لكان كل أب قد علم ابنه ما ورثه من آبائه من القيم، وعلى الرغم من ذلك رحم الحق سبحانه وتعالى هذه الغفلة، وكرر التنبيه بواسطة الرسل. وكلما انطمست معالم القيم التي يحملها المنهج فهو جل وعلا يرسل رسولا رحمة منه وفضلا وعدالة، ولم يكن يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، والغفلة ضد اليقظة.
إذن لوز كانوا متيقظين لما كانت هناك ضرورة للرسل ؛ لأن الآباء كانوا سينقلون لأبنائهم القيم كما ينقلون إليهم وسائل حياتهم، وهذا الأمر مستمر معنا حتى الآن ؛ إن الأب مثلا إن غاب ابنه عن المدرسة يوما يلوم الابن، وإن أهمل في دروسه أو رسب فهو يعاقب الابن، وهذه هي الغيرة على المستقبل المادي للابن، ولا غيرة على أدائه لفروض الدين، لماذا ؟. إن الناس لو عنوا بمسائل قيمهم كما يعنون دائما بمسائل حياتهم لاستقام منهج الخير في الناس وأصبح أمرا رتيبا.
وعرفنا أن الغفلة ضدها اليقظة، كما أن السهو ضده التذكر، والغروب ضده الشروق، والغياب ضده الحضور.
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٣٢ ) ﴾ :
" ولكل "، وجاءت بالتنوين أي لكلّ من الإنس والجن درجات مما عملوا، فكأن الأعمال تتفاوت ؛ فقد تكون في ظاهرها قوالب متحدة، لكن التفاوت إنما ينشأ بكثرة العمل، أو بإخلاص المقارن للعمل والمكتسب والفاعل له، فهناك من يخلص بكل طاقته، وهناك من يؤدي عمله بنصف إخلاص، ومسألة الإخلاص هذه لا تحددها لوائح ولا قوانين إنما يحددها الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم مبلغا عن رب العزة هذا الحديث القدسي :( الإخلاص سر من سري أستودعه قلب من أحببت من عبادي )١.
إذن فمقاييس الإخلاص لا يعرفها إلا الله ربنا سبحانه وتعالى، وعلى مقدار ذلك تكون الدرجات. وتكون الدرجات على مقدار ما يزيده العبد من جنس ما فرضه الله عليه ؛ فالحق قد فرض صلوات خمسا، فيزيد العبد عشر ركعات في الليلة مثلا. والله قد فرض الصيام شهرا، فيصوم العبد يومي الاثنين والخميس.
والذي يقف عند ما فرض الله يجازيه الله على إخلاصه في أداء ما عليه، وحينما سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقف الذي لا يؤدي إلا الفروض فقط قال له : " أفلح إن صدق " ٢، فالذي يزيد عما فرض الله من جنس ما فرض الله أشد فلاحا. ولا يصل الإنسان إلى المرتبة التي هي أشد فلاحا إلا إذا كان في درجة أعلى، وكلمة " درجات : تفيد العلو، وكلمة " دركات " تفيد الهبوط، والحق لا يغفل عن ظاهر وباطن كل عمل لأي عبد.
٢ رواه النسائي والبيهقي في السنن الكبرى..
﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ( ١٣٣ ) ﴾ :
وهنا يحننا الله سبحانه وتعالى إلى عبادته، وإلى تكاليفه ؛ يحننا إلى فضيلة الطاعة، وكل ذلك لمصلحتنا وهذا مطلق الربوبية الرحيمة، فيحسن لنا الجزاء، ويفخم لنا فيه لنعمل لصالحنا نحن ؛ لأن كل أعمالنا كما قلنا لا تزيد في ملك الله قدر جناح بعوضة، وكل معصياتنا لا تنتقص من ملك الله قدر جناح بعوضة ؛ لأن الله بكل صفات الكمال خلقنا، ولم نزده نحن شيئا. لقد أوجد الدنيا من عدم، وفرق بين الصفة القائمة بذات الله، وإيجاد متعلق الصفة. فالله خالق ؛ والله رحمن، والله رحيم، والله قهار، وسبحانه رحمن ورحيم وقهار وخالق حتى قبل أن يبرز ويظهر ما يخلقه ؛ لأنه بصفة الخالق فيه خلق، وهو رزاق قبل أن يخلق المرزوق، فالصفة موجودة فيه قائمة به، وبهذه الصفة رزاق قبل أن يخلق المرزوق، فالصفة وجودة فيه قائمة به، وبهذه الصفة رزق، وبوجود هذه الصفات فيه يقول للشيء كن فيكون، وله هذا الكون كله، وهو غني عن العباد وله كل الملك، وكذلك خلق التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
" لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة " ١
﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ( ١٣٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
إذن فالخلق مستمر الإيجاد من العدميات وهو دليل على أن صفة الخالقية موجودة.
وما آدم في منطق العقل واحد*** لكنه عند القياس أو آدم
فالكون كله من أول آدم موجود، وكل الكون المسخر لآدم كخليفة في الأرض خاضع لله، فإن شاء أذهب الخلق وأتى بخلق جديد.
سقط على بعيره: أي صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به..
﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( ١٣٤ ) ﴾ :
والحق سبحانه وتعالى لأنه لا إله إلا هو، إذا وعد فلابد أن يتحقق وعده، وإذا أوعد فلا بد أن يأتي وعده. والوعد إذا أطلق فهو في خير، والوعيد يكون في الشر. والذي يخلف الوعد أو الوعيد من الخلق فهذا أمر متوقع لأنه من الأغيار، فيتغير رأيه فلم يعد أهلا لهذا الوعد ؛ لأنه ربما يكون قد وعد بشيء كان يظن أنه في مكنته، وبعد ذلك خرج عن مكنته، فليس له سيطرة على الأشياء، لكن إذا كان من وعد قادرا، ولا يوجد إله آخر يناقضه فيما وعد أو أوعد به فلابد أن يتحقق الوعد أو يأتي الوعيد.. ولذلك حينما يحكم الله حكما فالمؤمن يأخذ الحكم قضية مسلمة ؛ لأنه لا إله مع الله سيغير الحكم، وسبحانه ليس من الأغيار، والمثال أنه قال :
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( ١ ) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ( ٢ ) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ( ٣ ) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ( ٤ ) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ( ٥ ) ﴾ [ سورة المسد ]
وهذا وعيد في أمر لهم في اختيار، ومع ذلك لم يسلموا. وجاء بعدها ما يؤكد لكل مسلم : إياك أن تأخذ هذه القضية مأخذ الشك، وتقول : قد يتوب أبو لهب هذا وزوجه ويسلمان، ألم تتب هند ؟ ! ألم يسلم أبو سفيان ؟ !. لكنه سبحانه عالم بما يصير إليه اختيار أبي لهب واختيار زوجه، وإن كان كل منهما مختارا، ولا يوجد إله سواه ليغير الأمر عما قال.
﴿ قل هو الله أحد ( ١ ).. ﴾ [ سورة الإخلاص ]
أي لا يوجد إله آخر ليعدل هذا الأمر.
﴿ إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ( ١٣٤ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
قد يظن بعض الناس أن الله قد يأتي بما وعد به لكنهم قد يهربون منه، ولكن ليس الأمر كما يظنون ؛ فالوعد آت وأنتم لا تستطيعون الهرب منه، ولا أحد بقادر على أن يمنع الله عن تحقيق ما وعد أو أوعد، ولن تفروا من وعده أو وعيده، ولن تغلبوا الله أو تفوتوه وتعجزوه ؛ فالله غالب على أمره.
﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ١٣٥ ) ﴾ :
والقوم هم الجماعة، وعادة يطلق على الرجال لأنهم أهل القيام للمهمات ؛ لأن الشأن والأصل في المرأة الستر والبيتوتة والاستقرار في البيت للقيام على أمره ورعايته.
وحين تقرأ القرآن تجد كلمة " قوم " وتفهم أن المقصود منها الجماعة التي تجمعهم رابطة، وأنها للرجال خاصة، والمثال هو قول الحق :
﴿ لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ ( من الآية ١١ سورة الحجرات )
وما دام قد جاء بمقابل " قوم " : " ولا نساء "، ف " قوم " هذه للرجال ومأخوذ منها " القيام للمهمات "، ومأخوذ منها " القوامة ". ولذلك الشاعر يقول :
ولا أدري وليس أخال أدري أقوم آل حصن أم النساء
يعني أرجال أم نساء.
﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ ( من الآية ١٣٥ سورة الأنعام )
و " المكان " هو الحيز الذي يأخذه جسم الإنسان ؛ فكل كائن له مكان، إن وقف له مكان، إن قعد له مكان، والمكان هو المملوك والمخصص لك من الأرض، فحين تقف في مكان لا يقدر آخر أن يقف فيه وأنت واقف، بل يجب أن يزحزحك عنه، وحين تزحزح من هو واقف، فهو يروح إلى مكان ثان، ويمتنع التداخل بين اثنين في حيز لا يتسع إلا واحدا، وهذا أمر فطري ؛ فتجد الولد الصغير الذي لم يدرك أي شيء ويقدر أن يقف فقط، ثم يريد أن يقعد على الكرسي الذي تجلس عليه أخته أو أخوه، فقبل أن يقعد على الكرسي يشد من يجلس عليه ؛ لأنه يعرف بالفطرة أن اثنين لا يوجدان في حيز واحد.
وترى ذلك أيضا في غير الجرم المرئي، فأنت حين تأتي بقارورة وتضعها في ماء لتمتلئ تسمع صوت الهواء الخارج منها في بقبقة ؛ لأن الماء لا يمكن أن يدخل إلا إن خرج الهواء، ولأن المياه أكثف فهي تضغط ليخرج الهواء، وهذا ما يؤكد عدم التداخل. أي لا يوجد شيئان اثنان في حيز واحد. ومكانتك هي الموقع الذي تستولي عليه، ولذلك حتى في الجيوش وفي الحرب توضع الخطط من أسلحة مختلفة، لتستولي على الأماكن.
" اعملوا على مكانتكم " هو قول موجه إلى الجماعة الذين عارضوا النبوة ووقفوا منها هذه المواقف، فيقول لهم الحق تهديدا لهم وتيئيسا من أنهم لن يصلوا إلى النيل من رسول الله : اعملوا على قدر استطاعتكم من التمكن، أو اثبتوا على ما أنتم عليه من الخلاف والمناهضة، لماذا ؟ ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عامل أيضا : فلن يكون ثباتكم مانعا لي من العمل ؛ أنتم تعملون وأنا أعمل، أنتم تعملون على طاقاتكم، وأنا أعمل على طاقاتي الإيمانية ومدد ربي الأعلى من الطاقة.
﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ١٣٥ ) ﴾ ( سورة الأنعام )
﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ ﴾ و " له " تعطي دلالة إلى أن الإيمان ستكون عاقبة الدار لصالحه ؛ لأن الآخرين لن تكون لهم بل عليهم، وساعة ترى " اللام " اعرف أن الأمر لهم لا عليهم. فكأن الظالمين إن تنلهم عاقبة فهي ليست لهم، وإنما عاقبتهم عليهم، ولن يفلح الظالمون.
﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ١٣٦ ﴾ :
وهنا رجوع إلى كلام عن الذين يناهضون منهج الله.
و " ذرأ " أي خلق، وبث، وبشر، والحرث يراد به الزرع، وسمي الزرع حرثا، لأنه يأتي بالحرث، و " الأنعام " وهي تتمثل في ثمانية أزواج في آية تأتي بعد ذلك، وهي الإبل، والبقر، والضأن والمعز.
﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ﴾ أي مما خلق، وهم قد حرثوا فقط ؛ لأن الذي يزرع هو الله، فسبحانه الذي أعطى للبذرة قوتها لتربي لها جذرا، وتمتص عناصر الغذاء من الأرض، وهو الذي جاء بعناصر الأرض كلها، وهو الذي جعل البذرة تتوجه إلى العناصر الصالحة لها، وتترك غير صالح بقانون " الذي خلق فسوى والذي قد " ر فهدى ". والذي صنعه الله الحرث وفي الأنعام تتخيلون أنكم تتصرفون فيه على رغم أنه هو الذي ذرأ وخلق. إنه سبحانه هو المتصرف.
هم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا : هذا لله " بزعمهم " وهذا لشركائنا، أي جاءوا بالحرث وقسموه قسمين. وقالوا : هذا لله، وهذا للأصنام.
وكذلك قسموا الأنعام وجعلوا منها قسما لله، وقسما لهم، ألم يكن من العدل أن يقسم الذي خلق بدلا من هذا الزعم منكم لأنكم أخذتم غير حقكم، ويا ليتكم أنصفتم فنرضى بقسمتكم فيذهب القسم الذي لله للصدقات على الفقراء، والذي للشركاء يذهب للأصنام وللسدنة الحجاب عليها والخادمين والذين يضربون لكم الأقداح، وياليتكم عرفتم العدل في القسمة بل أن ما صنعتموه هو قسمة ضيزى جائرة وظالمة، لماذا ؟. تأتي الإجابة من الحق :
﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ.. ( ١٣٦ ) ﴾
أنتم قسمتم وقلتم : هذا لله وهذا لشركائنا. فاصدقوا مع أنفسكم في هذه النسبة، لكنهم كانوا يسرقون حق الله، وكان لهم في الهلاك تقسيم معين، وفي الزيادة لهم تقسيم آخر. فإذا ما جاءت آفة للزرع وأهلكته أخذوا ما خصصوه لله وأعطوه للشركاء وقالوا : إن ربنا غني ! وبرغم أنكم قسمتم ولكنكم لم توفوا بالقسمة التي فرضتموها ورضيتم بها.
وكذلك في الأنعام يقدرون عددا من الأنعام ويقولون : هذه لله، وتلك للشركاء، فإن ماتت بهيمة من المنذور لله لم يعوضوها، وإن ماتت بهيمة منذورة للأصنام يعوضوها ويأخذوا بدلا منها من القسم الذي نذروه لله. وأيضا لنفترض أن عينا جارية ساحت فيها المياه لتروي الزرع المقسوم لله، فيأخذوا منها للأرض المزروعة للأصنام. إذن هي قسمة ضيزى من البداية، وليتهم وفوا بهذه القسمة، وهكذا ساء حكمهم وفسد.
﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( ١٣٧ ) ﴾ :
وأيضا نقلوا تلك القسمة الضيزى إلى ما يتعلق بذواتهم في الإنجاب والإنسال ؛ فشركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم، و " التزيين " هو إدخال عنصر التحسين على التزيين أمرا عرضيا طارئا، ووجه التزيين أنهم إما أغنياء، وإما فقراء، فإن كانوا فقراء يقل الواحد منهم لماذا أجلب لنفسي همّا على همّ، وإن كانوا أغنياء يقل الواحد منهم : إن الأبناء سيأخذون منك ويفقرونك. إذن ففيه أمران : إما فقر موجود بالفعل، وإما فقر مخوف منه، ولذلك تجد الآيات التي تعرضت لهذا المعنى، تأتي على أسلوبين اثنين ؛ فالعجز مختلف باختلاف الصدر، والذين يحبون أن يستدركوا على أساليب القرآن لأنه مرة يقول :
﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياكم.. ( ٣١ ) ﴾ [ سورة الإسراء ]
ومرة ثانية يقول :
﴿ نحن نرزقكم وإياهم.. ( ١٥١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]فما الفرق بين العبارتين ؟
ونقول هذا القائل : أنت تقارن بين التذييل ﴿ نحن نرزقكم وإياهم ﴾، و﴿ نحن نرزقكم وإياكم ﴾. هذه تذييل لآية، وهذه تذييل لآية ثانية. هات ذيل الآية مع صدرها نجد أن ذيل كل آية مناسب لصدرها. ومادام قد اختلف في الصدر فلابد أن يختلف في الختام، ففي الآية الأولى يقول الحق سبحانه :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ﴾ فالإملاق وهو الفقر واقع موجود. إذن فشغل الإنسان برزقه أولى من شغله برزق من يعوله من الأولاد، فيقول الحق لهؤلاء :
﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.. ( ١٥١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
فالإملاق موجود، وشغلهم برزق أنفسهم يملأ نفوسهم. لذلك يقول لهم :﴿ نرزقكم وإياهم ﴾ فيطمئنهم سبحانه نحن نرزقكم ثم نرزقهم. أما إن كان الإملاق غير موجود فالحق يقول :
يقول :
﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياكم.. ( ٣١ ) ﴾ [ سورة الإسراء ]
أي لا تقتلوا أولادكم خوفا من فقر فأنتم تملكون رزقكم، وحين يأتي الأولاد نرزقهم ونرزقكم معهم. وهكذا نرى أن الصدر مختلف في الآيتين، وكذلك العجز، والشركاء كانوا يزينون قتل الأولاد، وهذه مسألة تحتاج إلى تزيين قاس ؛ لأن حب الأبناء غريزة في النفس البشرية، والنفس تحب أن يكون لها ذرية ؛ لأن الإنسان يفهم أنه مهما طال عمره فسوف يموت فيجب أن يظل اسمه في الأجيال المتتابعة. ونجد الإنسان وهو ممتلئ بالسعادة حين يأتيه حفيد، ويقول : لقد ضمنت ذكري لجيلين قادمين، وينسى أن الذكر الحقيقي هو الذي يقدمه الإنسان من عمل، لا ذكرى الأبناء وحب امتداد الذات. وقتل الأبناء يحتاج إلى تزيين شديد، كأن يقال : إن أنجبت أبناء فسيفقرونك ويذلونك، فأنتم أمة غارات وأمة حروب وكل يوم يدخلك أبناؤك في قتال ونزال فتكون بين فقد لأبنائك أو انتهاب لمالك، وإن كانوا بنات فسيتم سبيهن من بعدك، وهكذا تكون المبالغة في الإغراء لعملية تناقض الفطرة السليمة في امتداد النسل.
﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ.. ( ١٣٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
و ﴿ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ تفيد أن بعضهم كان يرفض قتل الأولاد، و " يردوهم " من الردى، وهو الهلاك، والموت.
﴿ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ( ١٣٧ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
أي يخلطوا عليهم الدين، فهل كان عندهم دين ؟. لقد ورث هؤلاء من أمر قيم الدين ما كان سابقا وهو ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى مالوا وزالوا عنه إلى الشرك، إنهم زينوا لهم أعمالا ليوردوهم موارد الهلكة. وحاولوا أن يخلطوا عليهم ما بقي لهم من دين.
﴿ .. وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( ١٣٧ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]لأن وأد الأولاد وقتلهم إنما ينافي فكرة خلق الله، فهل يخلق الله لتقتل أنت ؟ !.
كأنهم يصامدون إرادة الإيجاد من الحق سبحانه وتعالى، لكنه سبحانه لو شاء ما فعلوا ذلك، فهو قد أعطاهم الاختيار، ومن باب الاختيار ينفذون إلى كل مراد لهم، ولو لم يخلق الله فيهم اختيارا ما فعلوا ذلك ؛ لأنه لو أراد ألا يضلوا لما فعلوا، وقد أراد الله أن يوجد خلقا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم الملائكة.
إذن فهذه المسألة ليست عزيزة على الله، وسبحانه ساعة يقهر على مراد له، إنما يكون ذلك لمصلحة المخلوق، وساعة يتركه مختارا فمن إمداد الخالق له بالاختيار ولا يفعل المختار شيئا غصبا عن الله ؛ لأن الألوهية تقتضي أمرين اثنين : تقتضي قدرة تتجلى في الأشياء القهرية التي لا يستطيع العباد أن يقفوا أمامها، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي له حق الاختيار بين البديلات في مراداته، أما بقية الكون فسائر بقانون التسخير وليس له اختيار.
والكائنات المسخرة أثبتت طلاقة القدرة، ولكنها لا تثبت لله محبوبية المخلوق ؛ لأن المحبوبية تنشأ من أنك تكون حرا في أن تفعل، ولكنك تؤثر فعلا مراد لله على مرادك. ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾.
و " الافتراء " هو الاختلاق والكذب المتعمد، وهم مفترون، لأنهم أرادوا أن يغيروا صدق الواقع في الإنجاب. فقد خلق الله الزوجين الذكر والأنثى من أجل الإنجاب.
﴿ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ١٣٨ ) ﴾ :
وهذا تماد في الشرك ؛ لأنهم قسموا الحيوانات والحرث وحجزوا قسما للأصنام، وهذه الأنعام المرصودة للأصنام لا يتصرف فيها أحد، فلا يؤخذ لبنها ولا يستخدمها أحد كمطايا، ولا يتعدى نفعها للناس. ولم ينتبهوا إلى أن هذه الأنعام نعمة من الله، ولابد من الانتفاع بها، وليس من حسن التعقل أن تترك حيوانا تستطيع أن تستفيد من تسخيره لك ولا تفعل، هم قد فعلوا ذلك وحكى الحق عنهم فقال :
﴿ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ.. ( ١٣٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
أي هي أنعام محرم استخدامها، وحرموا أيضا ركوبها.
﴿ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَ.. ( ١٣٨ ) ﴾وتمادوا في الكفر فذكروا أسماء الأصنام عليها :﴿ وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ.. ( ١٣٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وهذا لون من الافتراءات قد فعلوه ونسبوه إلى أنه متلقى من الله، ومأمور به منه سبحانه ولو قالوا : إن هذه الأمور من عندهم لكان وقع الافتراء أقل حدة، لكنه افتراء شديد لأنهم جاءوا بهذه الأشياء ونسبوها إلى الله، وهم قد انحلوا عن الدين وقالوا على بعض من سلوكهم إنه من الدين، ولذلك يجازيهم الله بما افتروا مصدقا لقوله :
﴿ .. سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ( ١٣٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
﴿ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ ( ١٣٩ ) ﴾ :
ويقودهم الباطل إلى باطل آخر فادعوا أن ما في بطون هذه الأنعام من اللبن ومن الأجنة إذا نزلت حيّة فهي للذكور منهم فقط، ولا تأكل النساء من ذلك شيئا، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء وهذا يدل على التشقيق في القسمة.
ويذيل الحق الآية بالقول الكريم :
﴿ ... سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ ( ١٣٩ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
أي سيجزيهم على كذبهم وافترائهم بما يليق عقابا للكاذبين ؛ لأنه سبحانه ( حكيم ) في أفعاله وأقواله وقدره ( عليم ) بما يفعلونه من خير وشر، وإنه سيجازيهم على ما فعلوه أتم الجزاء وأكمله.
﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ( ١٤٠ ) ﴾ :
وجْه الخسران أنهم لم يلتفتوا إلى أن الله يرزقهم ويرزق أبناءهم أيضا، ولعلك أيها الأب قتلت ولدا، كنت ستعيش أنت في رحاب رزقه، وكثيرا ما يكون البعض من الأولاد صاحب رزق وفير، ويقال عن مثل هذا الابن : إن وجهه وجه الخير والسعد والبركة، فمن يوم أن وُلد ولد ومعه الخير، وذلك حتى لا يتأبى الإنسان على عطاء الله ؛ لأنك حين تتأبى على عطاء الله تحرم تنفسك العطاء فيما تظنه غير عطاء، وهذا خسران كبير.
إننا نلحظ أن العرب كانوا في بيئة تستجيب وتلبي الصريخ، فساعد يصرخ من في شدة نزلت به واستنجد، يجد من ينقده، والأولى بالنجدة أهل الرجل وأولاده. والمثال على ذلك ما حدث من جد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ذهب ليحفر البئر، وجاءت قريش ووقفت له حتى لا يحفر، فقال : لو أن لي عشرة أبناء سأضحي بواحد منهم. إذن فكثرة الأولاد في هذه المسائل تعطي العزوة وتكثر الصريخ، ولا يفعل ذلك إلا المفطور على النجدة.
وإن قتلت ابنا خوفا من الفقر فقد تخسر رزقا قد يكون في طي من تقتل من الذرية، وفوق ذلك تفقد مباهج الشأن أو العزوة أو الآل. أو على الأقل أنهم قد خسروا لأنهم عاكسوا مرادات الله في الإيجاد بالإنجاب.
﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْم.. ( ١٤٠ ) ﴾
و " سفها " تعني طيشا، وحمقا، وجهلا.
﴿ .. وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ( ١٤٠ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وهم حين يحرمون على أنفسهم ما رزقهم الله من الأنعام، فهي أهل حمق وضلال وخسران فلو تركوها لانتفعوا منها في حمل أثقالهم أو فيما تدره من لبن، أو في أكل لحمها. إنهم بحمقهم وجهلهم قد خسروا كثيرا، وهم مع ذلك فعلوا ما فعلوا بكذب متعمد على الله، وهم قد ضلواأةنمنتااتا
ولم يكونوا أهلا للهداية، وكان يكفي أن يصفهم بقوله : " قد ضلوا " ؛ لكنه أضاف : " وما كانوا مهتدين " لأن الضلال هو عدم الذهاب إلى المقصد الوصل للغاية، وقد يكون ذلك عن جهل بالطريق، لكن الحق سبحانه رسم لهم طريق الحق فآثروا الذهاب إلى الضلال مع وجود طريق الحق.
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( ١٤١ ) ﴾ :
وقول الحق : " أنشأ " أي أوجد على إبداع لم يسبق له مثيل فلم يكن هناك نماذج توضيحية تدل الله سبحانه، وإنما ابتدأها على غير مثال سابق ؛ لأنه لا يوجد خالق سواه. والخالق إذا لم يكن هناك سواه من شريك أو ند فإنه حين يخلق إنما ينشئ خلقا على غير نظام أو مثال كان قد سبقه.
وكلمة " جنات " تؤدي إلى ما نعرفه من المكان المحدد الذي يجمع صنوف الزروع والثمار مما نقتات، ومما نتفكه به، وتسمى جنة وتسمى جنات ؛ لأن المادة كلها تدل على الستر وعلى التغطية، ومنه الجنون لأن فيه سترا للعقل، ومنها الجنّ لأنهم مستورون عن رؤية العين، وكذلك " المِجَنّ " لأنه الذي يستر عن الإنسان طعنات الخصم.
والجَنّة هي المكان الممتلئ بالزرع والثمار وتعلوا الأشجار فيه وتكثف وتلتف أغصانها وفروعها بحيث تستر من يكون بداخلها وتستره أيضا عن بقية الأمكنة ؛ لأنه لا حاجة له إلى الأمكنة الأخرى ؛ ففي الجنة كل مقومات الحياة من غذاء وفاكهة ومرعى، وماء وخضرة ومتعة، وفيها كل شيء. كما تسمى البيت العظيم المكتمل الذي يضم ويشتمل على كل المرافق " قصرا " لأنه قَصَرَك عن أي مكان سواه ؛ لأن فيه الأشياء التي تحتاج إليها كلها، فلا تحتاج إلى شيء بعده
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ.. ( ١٤١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]
ومادة العرش تدل على العلو، ومنه قيل للسقف " عرش " ويطلق العرش أيضا على السرير ؛ مثل قوله الحق :﴿ ثم رفع أبويه على العرش ﴾، ويطلق العرش على الملك مثل قوله الحق :﴿ ولها عرش عظيم ﴾، كل ذلك يدل على " العلو " وقوله الحق هنا :﴿ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾، أي أن الزرع من نوع العنب، حين نعني به نجعل له القوائم والقواعد التي يقوم عليها ؛ لأن امتداد أغصانه اللينة لا تنهض أن تقوم وحدها، ولكن هناك نوع أيضا يقوم وحده نسميه العنب الأرضي، وكأن الكلام فيما يختص بالكرم. أي : أنك إذا ما نظرت إلى الزرع الذي لا ساق له كالبطيخ، وكالشمام، وكالكوسة، وكل الزروع التي ليست لها ساق تجدها مفروشة في الأرض أي غير قائمة على قواعد وقوائم وعروش. وإن كنا الآن نحاول أن نرفعها لنعطي لها قوة الإنتاج. والكلام جاء على ما كان موجودا عند العرب أيام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ ﴾. والزرع يطلق ويراد به ما نقتات به من الحبوب.
﴿ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ.. ( ١٤١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وحين ننظر إلى هذه الآية نجد أنه قد سبقتها آية فيها كل هذه المعاني يقول سبحانه :
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٩٩ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وبعض الناس يحاولون نقد القرآن فيقولون : إنه يكرر المعاني الواحدة ؛ لأنهم لا يمتلكون فطنة أن المتكلم هو الله، وسبحانه يتكلم في كل شيء لأمر حكيم، فهو هنا يتكلم هن هذه الأشياء كدليل على الخالق ووحدانيته بدليل أنه ذيل الآية بقوله :﴿ إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ﴾، ولكن الكلام في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد جاء بقصد الحديث عن الانتفاع بها فيقول :﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ ( من الآية ١٤١ سورة الأنعام ).
ولا شك أن استقامة العقيدة بالإيمان بالإله الواحد تحتاج إلى الدليل أولا ؛ لأن فائدتها أشمل وأعم، وأعمق، وأخلد من الأكل، لأن الأكل قصارى ما فيه أنه يقوتنا هذه الحياة، ولكن الأدلة الأولى تعطينا الثواب الباقي والنعيم المقيم ؛ لذلك فالآية الأولى متعلقة بالدليل، وهذه الآية متعلقة بالانتفاع، وهنا نلاحظ أنه قال :﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾، وفي هذا إباحة لتناول الأشياء منه قبل أن تنضج دون أن يترتب على ذلك لون من الضرر وإلا عالجناها بما يزيل وينفي عنا الضرر، فإذا ما وجدت ثمارا لم تنضج لك أن تأكل منها، ولم يجعل الحق لنا حرجا فيما نحرث ونبذر ونروي ولكن الله سبحانه هو الذي يزرع ونحن نأكل منه، ونجد أهل الريف يشوون الذرة قبل أن تنضج ويقول سبحانه :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾.
لقد قالوا إن الآية مختصة بما يُحصد وهي الزروع، أما الأشياء التي لا يقال فيها : حصد فهي خارجة عن ذلك مثل الفواكه، لكن الإمام أبا حنيفة يرفض ذلك ويرى : أن كل ما تنبته الأرض ينطبق عليه هذا النص ؛ لأنه لا يصح أن تأخذ معنى الحصاد على العرف، ولكن بفهم اللغة.
ما معنى الحصاد في اللغة ؟. الحصاد في اللغة القطع، فحينما تفصل الثمرة المطلوبة فهذا هو الحصاد. ولكن يوم الحصاد للحبوب ؛ تكون الغلال في السنابل، ويرى الإمام أبو حنيفة أن تعطي من البداية لمن حضر القسمة، وكذلك حينما تدرسه وتذريه تعطي، وعندما تغربل الحبوب أعط أيضا، ويبتدئ الحصاد من ساعة أن تكيل، وما تقدم غير محسوب، ما تأتيه من الحق يوم حصاده هو غير المفروض ؛ لأنه لم يقل الحق المعلوم، وفي هذا اتساع لدائرة امتداد الخير إلى غير الزارعين.
﴿ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ ( من الآية ١٤١ سورة الأنعام ). والإسراف هو مجاوزة الحد، والبعض قد فسّر الإسراف بالزيادة فقط، ولكن الحقيقة أن أيّ تجاوز للحد زيادة أو نقصا يسمى إسرافا ؛ لأنه مأخوذ من " سرف الماء "، وهو أن يطلق الماء ويذهب في غير نفع، وسيدنا مجاهد يقول : لو أن للإنسان مثل جبل أبي قبيس ذهبا ثم أنفقه في حلّ ما عدّ سرفا، ولو صرف درهما واحدا في معصية الله يعد سرفاً.
إذن فمعنى : " ولا تسرفوا " أمران اثنان بمعنى لا تتجاوزا الحدود التي شرعها الحق فتستعملوا هذا في معصية، أو لا تسرفوا في أن تعطوا للفقير أقل مما يستحق.
وكان حاتم الطائي كريما جدا، وقعدوا يلومونه على هذا الكرم، فقال واحد له : لا خير في السرف. رد عليه فقال له : ولا سرف في الخير. أي أنه مادام في الخير فلا يكون سرفا.
وإذا كنا سنأخذ الأمر على المعنيين الاثنين : النقص والزيادة، فما المانع أن نعطي للفقير أكثر ؟. ويحكي الأثر أن أناسا قد تأخذهم الأريحية والنشاط للبذل والعطاء ساعة يرون كثرة غلتهم، وما أفاء الله عليهم من ريع أرضهم. إنهم يعطون الكثير مثلما عمل ثابت بن قيس، وكان عنده خمسون نخلة وجزها وأعطاها كلها للفقراء، ولم يترك لأولاده شيئا. فلما رُفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : أعط ولا تسرف، لماذا ؟ مخافة أن تحتاج بعد ذلك إلى ما أعطيت فتندم على أنك أعطيت.
﴿ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ١٤٢ ) ﴾ :
وبعد أن تكلم سبحانه عن نعمه علينا في الزراعة ونعمه علينا في الماشية قال " ومن الأنعام " وهي الإبل والبقر والغنم، " حمولة " والحمولة هي التي تحمل، فيقال : " فلان حَمول " أي يتحمل كثيرا. والحق يقول :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس.. ( ٧ ) ﴾ [ سورة النحلِ ].
والذي تحمله فوق ظهرها يسمى " حُمُولة ". ولذلك نقول عن السيارة التي تنتقل " حمولة كذا طن ". ﴿ ومن الأنعام حمولة وفرشا ﴾.
والإبل نحمل عليها الرحال، وكل متطلباتنا، و " فرشا " معناها : مقابل الحمولة. فالحمولة هي المشتدة التي تقوى على أن تحمل. وكل ما لا يستطيع الحمل لصغره، أو لأنه لم يعد لذلك، إذا ما نظرت إليه نظرة سطحية تجده وكأنه فارش للأرض. أو " ومن الأنعام حمولة " ؛ وهي التي تحمل متاعكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. " وفرشا " : أي ومن ما تتخذون منه فرشا بأن ننسج من وبره وصوفه وشعره ما نفرشه.
﴿ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ١٤٢ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وفي الحديث عن الأنعام، جاء بالحمولة والفرش ويأتي أيضا بسيرة الأكل ؛ لأننا نأكل لحمها وألبانها ومشتقات الألبان كلها، وهكذا تتعدد المنافع، فهي تحملنا ونأخذ من أصوافها وأوبارها وشعورها الفرش، والوبر وهو شعر الجمال، والصوف وهو شعر الغنم، وشعر الماعز يتميز بلمعة وانفصالية بين شعيراته.
ونلحظ أنه سبحانه قال في الآية الأولى : " كلوا " وفي الثانية : " كلوا " ؛ لأن ذلك جاء بعد الكلام عما حرموه على أنفسهم من أرزاق الله في الأرض. فكان ولابد أن يؤكد هذا المعنى، ويوضح : إن الذي خلق هو الله، والذي كلف هو الله، فلا تأخذوا تحليلا لشيء ولا تحريما لشيء إلا ممن خلق وممن كلف.
﴿ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ : الشيطان هو الذي يوسوس لهم بالمخالفة لمنهج الله، وعداوة الشيطان ظاهرة. فإذا ما كانت العداوة سابقة، فقد أنزل آدم وحواء من رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية وجرأهما على المخالفة فخرجا من الجنة، كان من الواجب أن نحتاط في قبول هذه الوسوسة.
﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ اَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٤٣ ) ﴾ :
وكلمة " أزواج "، جمع زوج، و " الزوج " يطلق على الشيء معه ما يقارنه مثل " زوج النعل "، ونحن في أعرافنا نأخذها على الاثنين، لكنها في الأصل تطلق على الواحد ومعه ما يقارنه، إلا أنه لم يكن هناك فارق بين الاثنين بحيث لا يتم الانتفاع بأحدهما إلا مع الآخر ولكن لا تميز لأحدهما على الآخر كالجورب مثلا، ففي مثل هذا نستسمح اللغة في أن نسمي الاثنين زوجا، لكن إذا كان هناك خلاف بين الاثنين لا نقول على الاثنين : زوج.
والذكر والأنثى من البشر، صحيح أنهما يقترنان في أن كل واحد منهما إنسان، لكن للذكر مهمة وللأنثى مهمة مختلفة. أما الجوارب فكل " فردة " منها نضعها في أي قدم لأنه لا فارق بينهما، إذن كلمة " زوج " تطلق ويراد بها الشيء الواحد الذي معه ما يقارنه. والحق يقول :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة.. ( ٣٥ ) ﴾ [ سورة البقرة ] : وكلمة " زوج " هنا أطلقت على حواء ؛ فآدم زوج وحواء زوج، والحق هو القائل :﴿ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ( ٤٥ ) ﴾ [ سورة النجم ].
ولم يقل عن الاثنين : إنهما " زوج " وإلا لقال : خلق الزوج الذكر والأنثى. إذن فكلمة " زوج " تطلق على واحد معه ما يقارنه، مثلما كمثل كلمة " توأم " وهي لا تقال للاثنين، بل تقال لواحد معه آخر. لكن الاثنين يقال لهما : توأمان.
﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. ( ١٤٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
" ومن الضان اثنين " أي ذكرها وأنثاها فتسمى الذكر كبشا والأنثى " نعجة ". ومن المعز اثنين، والذكر نسميه " تيسا "، والأنثى نسميها " عنزة "، وبذلك يكون معنا أربعة، ومن هنا نفهم أن الزوج مدلوله فرد ومعه ما يقارنه.
﴿ .. قُلْ اَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ١٤٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ] : وما دمتم أنتم تحرمون وتحللون، وتقولون : إن هذا من عند الله فقولوا لنا أن أحرّم الذكرين أم حرّم الأنثيين ؟ ولا يجود جوابا ؛ لأن سبحانه لا حرم هذا ولا حرم ذاك، ولذلك أبرزت المسألة إبراز الاستفهام، والشيء إذا أبرز الاستفهام فمعناه أنه مقرر بحيث إذا سألت الخصم لا يقول إلا ما تتوقعه، واسمه السؤال أو الاستفهام التقريري. ويقول الحق :﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي أخبروني بعلم ذلك في التحريم إن كنتم أهل صدق ؛ لأنكم لستم أهلا للتحريم، إنما يحرم ويحلل من خلق وشرع. فإن كان عندكم علم قولوا لنا هذا العلم.
ومن البقر اثنين : ذكر وأنثى أيضا، والذكر من البقر نسميه ثورات، ويخطئ بعض الناس في تسمية الأنثى البقر " بقرة "، إن البقرة اسم لكل واحد منهما : الذر والأنثى، والتاء في بقرة للوحدة، واسم الأنثى " ثورة " ﴿ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ الذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ أنتم تقولون : إنكم لم تتبعوا رسولا، وكنتم على فترة من الرسل، ولم يأت لكم رسول. إذن فلا تحريم إلا من الله، ولا يبلغكم تحريم الله إلا عن طريق رسول. بل أكنتم شهداء مسألة التحريم، أي أشاهدتم ربكم ورأيتموه حين أمركم بهذا التحريم أم أنتم الأنبياء ؟. إنكم تتعمدون الكذب على الله لإضلال الناس. إذن، فالحق لا يهدي من يظلم نفسه ويظلم الناس.
﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٥ ) ﴾ :
والحق سبحانه وتعالى قد تكلم عن التحريم في آيات كثيرة ؛ فهناك الآية التي قال فيها :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.. ( ٣ ) ﴾ [ سورة المائدة ].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحصر في أربعة فقط، فيقول سبحانه :
﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ.. ( ١٤٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
فكيف يتفق هذا النص مع النص الآخر ؟ !
من يقول ذلك نقول له : أنت لا تفرق بين إيجاز وإطناب، ولا تفرق بين إجمال وتفصيل ؛ فالذي ترك في هذه الآية داخل في الميتة ؛ لأن المنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، والذي ذبح على النصب وما أهلّ به لغير الله موجود وداخل في كلمة " الميتة ".
ثم : من قال : إن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع ؟ التشريع أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بتفويض من الله في قوله تعالى :﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.. ( ٧ ) ﴾ [ سورة الحشر ].
فلا تقل إن المحرمات فقط محصورة في هذه الآية لأن فيه محرمات كثيرة، بدليل أن الله مرة يجملها، فيحرم علينا الخبائث ؛ فكل خبيث محرم. وقلنا من قبل : إن الدم المسفوح محرم، والدم المسفوح هو السائل الذي ينهال ويجري وينصب ساعة الذبح، وهل هناك دم غير مسفوح ؟ نعم، وهو الدم الذي بلغ من قوة تماسكه أن كون عضوا في الجسم كالكبد والطحال. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان : فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال " ١ وفي رواية أخرى : السمك والجراد.
وعلى منطق التحريم للميتة والدم كان لابد ألا نأكل الميتة من السمك. ولا الكبد والطحال، ولكن الله أحل لنا السمك والجراد والكبد والطحال، لأنها لا تضر الجسم، فالسمك والجراد ليس لهما نفس سائلة أي دم يجري ؛ فإذا ما ذبحنا أحدهما لا يسيل له دم، أما الكبد والطحال فهما من دم وصل من الصلاحية أنه يكوّن عضوا في الجسم، ولا يتكوّن عضو في الجسم يؤدي مهمة من دم فاسد، بل لابد أن يكون من دم نقي.
والحق الذي شرع يقدر الظروف المواتية للمكلّفين، وقد تمر بهم ظروف وحالات لا يجدون فيها إلا الميتة، وهنا يأكلون أكل ضرورة على قدر دفع الضر والجوع. لكن على المسلم ألا يملأ بطنه من تلك الأشياء. ﴿ .. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ] : وأنواع الاضطرار : ألا تجد ما يؤكل من الحلال، أو أن يكون ما يؤكل من الحلال موجودا إلا أن هناك من يكرهك على أن تأكل هذا المحرم، فالإكراه داخل في الاضطرار، والاضطرار يحملك ويدفعك إلى أن تمنع عن نفسك الهلاك ؛ فتأخذ من طعام حتى تقتات فلا تموت من الجوع، فإذا كان الله قد أباح لك أن تأكل من الميتة في حال مظنة أن تموت من الجوع فمالك من الإكراه بالموت العاجل ؛ إنه أولى بذلك ؛ لأنه سبحانه هو الذي رخّص، وهو الذي شرع الرخصة، ومعنى ذلك أنها دخلت التكليف ؛ لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وما دامت قد دخلت في دائرة التكليف فهنا يكون الغفران والرحمة.
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ١٤٦ ) ﴾ :
هنا يأتي الحق بالتحريم الثاني، وهو التحريم للتهذيب والتأديب، مثلما قال من قبل :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.. ( ١٦٠ ) ﴾ [ سورة النساء ].
ف " الظُفُر " هو ما يظهر عندما ننظر إلى أقدام بعض الحيوانات أو الطيور، فهناك حيوانات نجد تشقق إصبعها ظاهرا والأصابع مفصلة ومنفرجة بعضها عن بعض، فهذه ليست حراما عليهم، ونوع آخر نجد أصابعها غير مفصولة وغير منفرجة مثل الإبل، والنعام، والبط، والإوز وهي ذو ظفر. فكل ذي ظفر حرم على اليهود، وقد حرم عليهم لا لخبث وضرر في المأكول، ولكن تأديبا لهم لأنهم ظلموا في أخذ غير حقوقهم ؛ لذلك يحرمهم الله من بعض ما كان حلالا لهم ؛ فالأب يعاقب ابنه الذي أخذ حاجة أخيه اعتداء ؛ فيمنع عنه المصروف، والمصروف في حد ذاته ليس حراما، ولكن المنع هنا للتأديب. والحق هو القائل :﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ( ١٦٠ ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.. ( ١٦١ ) ﴾ [ سورة النساء ]، ولأنهم فعلوا كل ذلك يأتي لهم التحريم عقابا وتأديبا ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ١٤٦ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وأنت حينما تذبح الذبيحة تجد بعضا من الدهن على الكلي، ونجد في داخلها ما يسمونه " منديل الدهن " وكذلك " ألية الخروف "، وحين تقطع الرأس تجد فيها نوعا من الدهون، وقد حرّم الحق عليهم في البقر والغنم شحومها. وكذلك " كل ذي ظفر " محرم كله. وهناك استثناء في البقر والغنم هو :﴿ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ﴾.
أي أحل لهم ما هو فوق الظهر من الشحم، وأحل لهم ما حملته الحوايا من الشحوم و " الحوايا " جمع حوية أو حاوية أو حاوياء وهي ما تحوّى من الأمعاء أي تجمع واستدار، وفي الريف تقول المرأة عن قطعة القماش التي تبرمها وتلفها وتصنع منها دائرة مستديرة تضعها على رأسها لتحميه عندما تحمل فوقه الأشياء ؛ تقول : صنعت " حواية " والحواية هنا هي الأمعاء الغليظة، وطولها كذا متر، ومن حكمة تكوينها الربانية نجدها تلتف على بعضها، ولذلك اسمها الحوايا "، وهي ما نسميه " الممبار ". وكذلك حلل لهم ما اختلط بعظم في القوائم والجنب والرأس والعين، وكذلك أحل لهم شحما اختلط بعظم منه الألية، لأن الألية تمسك بعَجْب الذنب. أي أصله، وهو الجُزَيْء في أصل الذّنَب عند رأس العُصْعُص. ولأنه رحيم فهو ينزل عقوبة فيها الرحمة فيبيح له شيئا ويحرم شيئا آخر.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ﴾ : وليس هذا التحريم تعدّيا عليهم، أو تعنتا في معاملتهم، بل لأنهم بغَوْا والباغي يجب أن يأخذ حظه من الجزاء ؛ حتى يفكر ماذا يحقق له البغي من النفع، وماذا يمنع عنه من النفع أيضا، وحين يقارن بين الاثنين قد يعدل عن بغيه، وهم قد صدّوا عن سبيل الله، وأخذوا ربا لينّموا أموالهم وأكلوا أموال الناس بالباطل، لذلك حرّم عليهم الحق بعض الحلال. وسبحانه صادق في كل بلاغ عنه، ونعرف بذلك أن علة التحريم لبعض الحلال كانت بسبب ظلمهم وما بدر منهم من المعاصي فكان التحريم عقوبة لهم.
وكان مقتضى أنهم يكذبونك فيما أخبرت به عن الله، أن يعجل الله لهم بالعذاب ؛ لكن الحق لم يعجل لهم بالعذاب لأنه ذو رحمة واسعة. ﴿ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾( من الآية ١٤٧ سورة الأنعام ).
ولكن إياكم أن تطمعوا في الرحمة الدائمة ؛ إنها رحمة تأجيل فقط. ولن يفوتكم عذابه، وهنا يحننهم أيضا فيقول سبحانه :﴿ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ وكأنه يقول لهم : راجعوا أنفسكم واستحوا من الله ولا يغرنكم أنه ربّ، خلق من عدم وأمد من عُدْم، وتولى التربية، لكنه لن يرد ويمنع بأسه وعذابه عن القوم المجرمين منكم.
وكلما تقرأ آية فيها " سيقول " فاعلم أنها تنطوي على سرّ إعجازي للقرآن، والذي يعطي هذا السر هو الخصم حتى تعرف كيف يؤدي عدوّ الله الدليل على صدق الله، مما يدل على أنه في غفلة. ومن قبل قال الحق سبحانه :﴿ سيقول السفهاء من الناس ﴾( من الآية ١٤٢ سورة البقرة ) : و " سيقول " معناها أنهم لم يقولوا الآن، ويخبر القرآن أنهم سيقولون، ولم يخبئ ويستر القرآن هذه الآية، بل قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا يقرأ ويصلى به. ولو أن عندهم شيئا من الفكر لكانوا يسترون القول حتى يظهروا المتكلم بالقرآن بمظهر أنه لا يقول الكلام الصحيح، أو على الأقل يقولون إنه يقول : " سيقول السفهاء "، ونحن لسنا بسفهاء فلا نقول هذا القول. لكنهم يقولون القول السفيه برغم أن الآية قد سبقتهم بالتنبؤ بما سوف يقولون ؛ لأن الذي أخبر هو الله، ولا يمكن أن يجيء احتياط من خلق الله ليستدرك به على صدق الله.
هم سمعوا الكلمة، ومع ذلك لم يسكتوا بل سبقتهم ألسنتهم إليها ليؤيدوا القرآن.
وكل مسرف على نفسه في عدم إتباع منهج الله يقول : إن ربنا هو الذي يهدي وهو الذي يضل، ويقول ذلك بتبجح ووقاحة لتبرير ما يفعل من سفه. وسيظل المسرفون على أنفسهم وكذلك المشركون يقولون ذلك وسيحاولون تحليل ما حرّم الله. وقد جاء المشركون بقضيتين : قضية في العقيدة، وقضية في التكليف ؛ قالوا في قضية العقيدة :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾، وكأنهم أشركوا بمشيئة الله. وجاءوا إلى ما حرموا من حلال الله وقالوا إنهم قد فعلوا ذلك بمشيئة الله أيضا ؛ ليوجدوا لأنفسهم مبررا، وهذا القول ليس قضية عقلية ؛ لأنها لو كانت وقفة عقلية لكانت في الملحظين : الخير والشر، فالواحد منهم يقول : كتب ربنا علينا والعياذ بالله الشر، لماذا يعذبني إذن ؟ ! ولا يقول هذا الإنسان " وكتب الله لي الخير " هذا ما كان يفرضه ويقتضيه المنطق لكنهم تحدثوا عن الشر وسكتوا عما يعطى لهم من خير.
وقولهم " لو شاء الله ما أشركنا " صحيح المعنى ؛ لأنه سبحانه لو شاء أن يجعل الناس كلهم مهديين لفعل، لكنه شاء أن يوجد لنا اختيارا، وفي إطار هذا الاختيار لا يخرج أمر عن مشيئته الكونية. بل يخرج الكفر والشر عن مراده الشرعي. وعلمنا من قبل أن هناك فرقا بين الكونية والشرعية ؛ فكفر الكافر والشر ليس غصبا عن الله أو قهرا عنه سبحانه، إنما حصل وحدث بما أعطاه الله لكل إنسان من اختيار، فالإنسان صالح للاختيار بين البديلات :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ٢٩ ﴾ [ سورة الكهف ].
فالإنسان قادر على توجيه الطاقة الموهوبة له من الله الصالحة للخير أو الشر. إذن فاختيار الإنسان إما أن يدخله إلى الإيمان وإما أن يتجه به إلى الكفر، لذلك يقول الحق عن الذين يدعون أن كفرهم كان بمشيئة الله :﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا.. ١٤٨ ﴾ [ سورة الأنعام ].
والسابقون لهم قالوا ذلك وفعلوا مثل ما يفعل هؤلاء من التكذيب ؛ وجاءهم بأس وعذاب من الله شديد، ولذلك يأمر الحق محمدا صلى الله عليه وسلم :﴿ .. قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ١٤٨ ﴾[ سورة الأنعام ].
ويسألهم محمد صلى الله عليه وسلم عن علم يؤكدون به صحة ما يدعونه.. ويزعمونه أي هل عندكم بلاغ من الله، والحق أنهم لا علم لديهم ولا دليل، إنهم يتبعون الظن، ويخرصون، أي أن كلامهم غير واضح الدلالة على المراد منه، إنه تخمين وظن وكذب.
لذلك يقول سبحانه :﴿ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ١٤٩ ﴾.
﴿ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ.. ١٤٩ ﴾ [ سورة الأنعام ]و " الحجة " هي الدليل الذي تقيمه لتأييد قولك في الجدل، ولذلك نسمي عقودنا حجة على الملكية. أو " الحجة البالغة " أي التي لا ينفذ منها شيء أبدا يعطل المراد منها.
﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ( ١٥٠ ) ﴾ :
وما دمتم لا تملكون العلم فمن المحتمل أنكم تملكون شهودا على ما تقولون. والخطاب : " هلم شهداءكم " هو خطاب للجماعة، و " هلم " يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى مذكرا كان أو مؤنثا. والجمع مذكرا أو مؤنثا، فتقول : هلم يا زيد إليّ، وهلم يا هند إليّ، وهلم أيضا لجماعة الذكور ولجماعة الإناث، وهذه لغة الحجازيين. وتختلف عن لغة بني تميم التي يزيدون عليها فيقال : " هلم يا رجل "، و " هلمي يا امرأة "، و " هلما، وهلموا، وهلممن ". والقرآن نزل بلغة قريش " الحجازيين "، والحق يقول : " هلم شهداءكم ". أي هاتوا وأحضروا شهداءكم أن الله حرم هذا، إنكم بلا علم، وكذلك لا شهود عندكم على المدعي ؛ فإن كان عندكم شهود هاتوا هؤلاء الشهود.
وماذا إن أحضروا شهود زور ؟ إنه سبحانه يحذر رسوله ويوضح له أنهم حتى ولو أحضروا شهداء إياك أن تصدقهم فهم كاذبون.
وكأن الله يريد أن يفضح الشهود أيضا أمام المشهود أمامهم، ويعطي أيضا قضيتين اثنتين ؛ فسبحانه يدحض ويبطل حجتهم، ويفضح الشهود الذين جاءوا بهم. فكأنه قال : هاتوا هؤلاء الذين قالوا لكم هذا الكلام، وفي ذلك فضيحة لمن لقنهم هذه الأوامر.
ويأمر الحق رسوله ألا يتبع الذين كذبوا بآياته سبحانه. وكلمة : أهواء : ، جمع هوى، وهو ما يختمر في الذهن ليلوي الإنسان عن الحق ؛ فهو شهوة ترد على الذهن فتجعله يعدل عن الحق :﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ ﴾ ( من الآية ١٥٠ سورة الأنعام ).
وهم لا يكذبون بآيات الله فقط بل لا يؤمنون بالآخرة أيضا ؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون بالآخرة لعلموا أنهم مجازون على هذا جزاء يناسب جرائمهم، ولو أنهم قدروا هذه المسألة لامتنعوا عن إتباع أهوائهم. ويذيل الحق الآية بقوله الكريم :﴿ وهم بربهم يعدلون ﴾ ( من الآية ١٥٠ سورة الأنعام ).
ونفهم من كلمة " يعدل " أنها من العدل بمعنى القسط ؛ إذا قيل : عدل في كذا، أو عدل بين فلان وفلان ؛ أو عدل في الحكم، أما عدل بكذا فيكون المراد منها أنه جعله عديلا ومساويّا. وجاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله الحق :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( ١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
أي يجعلون ما لا يصح أن يكون مساويا لله، مساويا وعدلا لله. وهذا فعل من جعلوا لله شركاء، وكذلك من لا يؤمنون بالله ؛ فالواحد منهم يعدل عن ربه عدولا ويميل ويعرض عنه ويشرك به ويسوِّي به غيره. ويجب أن نلحظ عند النطق بكلمة " التوحيد " وهي : " لا إله إلا الله " ألا نقف عند قول :( لا إله ) لأن ذلك يعني إنكار ونفي وجود إله وهذا والعياذ بالله كفر. إذن يجب علينا أن نصلها بما بعدها فنقول :( لا إله إلا الله ) أو نكون عند نطقنا بلفظ ( لا إله ) قد انعقدت قلوبنا على وحدانيته وما يجب له تعالت عظمته من صفات الجلال والكمال، ومعنى ( لا إله إلا الله ) أنه لا معبود بحق إلا الله، لأن المعبودين بباطل كثيرون كالأصنام والنجوم والجن وبعض الإنس والملائكة وغير ذلك.
وكلمة " بربهم يعدلون " تفيد أنهم أهل شرك، وكذلك من ينكر وجود الله إنه عن ربنا يعدل ويميل ويحيد عن الاعتراف به إلها.
ننظر في هذه الآية فلا نجد شيئا من المحرمات من الأطعمة التي بها قوام الحياة، ولكن نجد فيها المحرمات التي إن اتبعناها نهدر القيم المعنوية التي هي مقومات الحياة الروحية، إنها مقومات الحياة من القيم ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾.
والأداء القرآني هنا يأخذ لفظ " تعال " بفهم أعمق من مجرد الإقبال، فكأن الحق يقول : أقبل علي إقبال من يريد التعالي في تلقي الأوامر. فأنت تقبل على أوامر الله لتعلوا وترتفع عن حضيض تشريع البشرية ؛ فلا تأخذ قوانينك من حضيض تشريع البشر ؛ لأن الشرط الواجب في المشرع ألا يكون مساويا لمن شرّع له، وألا يكون منتفعا ببعض ما شرّع، وأن يكون مستوعبا فلا تغيب عنه قضية ولا يغفل عن شيء والمشرع من الخلق لا يشرع إلا بعد اكتمال عقله ونضجه. ولا يقدر أن يمنع نفسه من الانتفاع بالتشريع.
الرأسمالي مثلا يشرع ليستفيد، والماركسي يشرع ليستفيد. وكل واحد يشرع وفي نفسه هوى، ومن بعد ذلك تعدل التشريعات عندما نستبين أنها أصبحت لا تفي ولا تغطي أمور الحياة، فكأن المشرع الأول لقصور علمه غابت عنه حقائق فضحها المجتمع حين برزت القضايا، فنظر في قانونه فلم يجد شيئا يغطي هذه القضايا، فيقول : نعدل القانون، ونستدرك. ومعنى استدراك القانون أي أن هناك ما جهله ساعة قنن.
إذن يشترط في المقنن ألا يكون مساويا للمُقنن له، وألا تغيب عنه قضية من القضايا حتى لا يُسْتدرك عليه، وألا يكون منتفعا بالتشريع، ولا يوجد ذلك في بشر أبدا، فأوضح الحق : اتركوا حضيض التشريع البشري وارتفعوا إلى السماء لتأخذوا تقنينكم منها ؛ فحين ينادي الله " تعالوا " فمعناها ارتفعوا عن حضيض تقنين بشريتكم إلى الأعلى لتأخذوا منه تقنيناتكم التي تحكم حركة حياتكم، فهو لا ينتفع بما شرع، بل أنتم الذين تنتفعون، ولأنه لا يغيب عنه شيء سبحانه، وهو خالق، هو أولى أن يشرع لكم. ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
" أتل " من التلاوة وهي القراءة ﴿ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ أي ما جعله حراما.. أي يمتنع عليهم فعله، وسأقول لكم كل البلاغات بلاغا بعد بلاغ. ﴿ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
لقد جاء سبحانه بتحريم الشرك من خلال تركيب لغوي يؤكد علينا ألا نشرك به ؛ فأنت ساعة تأتي لتلقى أوامر لمن ترأسه تقول له : استمع إلى ما أمنعك منه فاتبعه. ثم تبدأ في التفصيل، والحق هنا جاء بأول بند من المحرمات والمحظورات هو ألا نشرك به شيئا. أي أتلوا عليكم تحريم الشرك، فأول المحرمات الشرك، وعلينا أن نوحد الله، فكل نهي عن شيء أمر بمقابله وكل أمر بشيء نهى عن مقابله. وعلى ذلك فكل أمر يستلزم نهيا، وكل نهي يستلزم أمرا. فلا تلتبس عليكم الأوامر والنواهي. أو تكون ( عليكم ) منقطعة عما قبلها، أي عليكم ترك الشرك، وعليكم إحسانا بالوالدين، وألا تقتلوا أولادكم، وألا تقربوا الفواحش.. أي ألزموا ذلك.
ثم يقول سبحانه :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ وسبحانه يأمر هنا بتأكيد الإحسان إلى الوالدين ؛ فهو أمر بإيجاب ويستلزم نهيا عن مقابله وهو عقوق الوالدين ؛ أي لا تعقوهم. فعدم الإحسان إلى الوالدين يدخل فيما حرم الله. ثم يقول سبحانه :﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ( ١٥١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]. أي استبقوا حياة أولادكم، فإن أردتها من قبيل النهي فقل هو نهي عن قتل الأولاد، وإن أردتها من قبيل الإيجاب فقل : استبقوا الحياة. وقول :﴿ من إملاق ﴾ أي من فقر، فكأنهم كانوا فقراء، وما دام الإملاق موجودا فشغل الإنسان برزق نفسه يسبق الانشغال برزق من يأتي بعده ؛ فيا أهل الإملاق تذكروا أن الله يرزقكم ويرزق من سيأتي زيادة وهم الأولاد. ويقول سبحانه :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ( ١٥١ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وهذا نهي عن القرب، أي نهي عن الملابسات التي قد تؤدي إلى الفعل لا نهي عن الفعل فقط ؛ فحينما أراد الله يحرم على آدم وعلى زوجه الشجرة قال :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة.. ١٩ ﴾ [ سورة الأعراف ].
لأن القرب قد يغري بالأكل، وكذلك :﴿ ولا تقربوا الفواحش ﴾ أي لا تأتي إلى مقدمات الفواحش بأن تلقي نظرة أو تحدق النظر إلى محرمات غيرك، وكذلك المرأة التي تتبرج ؛ إنها تقوم بالإقبال على مقدمات الفواحش، فإذا امتنعت عن المقدمات أمنت الفتنة والزلل ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا لكل ملك حمى، إلا وإن حمى الله تعالى في أرضه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ". ١
ويمنعك الحق : ألا تقرب، أي أبعد نفسك عن مظنة أن تستهويك الأشياء، مثلها مثل " اجتنب " تماما، وسبحانه وتعالى يقول :﴿ واجتنبوا الرجس من الأوثان.. ٣٠ ﴾ [ سورة الحج ].
ويقول :﴿ .. واجتنبوا قول الزور ٣٠ ﴾ [ سورة الحج ]، وهنا يقول تعالى :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾.
وكل ما ظهر من الفواحش هو من أفعال الجوارح التي ترتكب الموبقات و ﴿ ما بطن ﴾ هو من أفعال السرائر مثل الحقد والغل، والحسد.
ويتابع سبحانه :﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾( ١٥١ ) } [ سورة الأنعام ]، وكلمة " النفس : يختلف الناس في معناها، ولا تطلق النفس إلا على التقاء الروح بالمادة، والروح في ذاتها خيّرة، والمادة في ذاتها خيّرة مسبحة عابدة. ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده.. ٤٤ ﴾ [ سورة الإسراء. ].
وإذا التقت الروح بالمادة تقوم الحياة، فمعنى قتل النفس أن نفصل الروح عن المادة بهدم البنية وهذا غير الموت ؛ لأن الله هو الذي يميت النفس، أما الإنسان به في الآية فستجد التعقل يعطيك التوازن في القرار، وقد ختم الحق الخمسة الأشياء فهو يقتل النفس إن هدم بنيتها. والذي وهب الحياة هو الله، فلا يسلب الحياة إلا هو. وبعد ذلك يشرع الله لنا أن نسلب الحياة قصاصا، أو للزنا من الثيب المحصن رجلا أو امرأة، أو للردّة، فهو قتل بحق، لكن سبحانه وتعالى يلعن من يهدم بنيان الله بغير الحق، والإنسان بنيان الله فلا تعتدي عليه. ولذلك أمرنا الله بالقصاص من إنسان قتل إنسانا ؛ حتى يحافظ كل واحد على حياة نفسه، وحين يحفظ الإنسان كل نفس، فإنه ينجو بنفسه ويسلم.
هكذا يأمر الحق بأن نقتل الثيّب، والثيب الزاني يطلق على الذكر والأنثى وهو من تزوج ودخل على زوجه وذاق كل منهما عسيلة الآخر وأفضى إليه، وكذلك المرتد، فنحن نحرص على حرية الاعتقاد ؛ بدليل أننا لا نقتل الكافر الأصلي لكفره، ولكن يجب على الإنسان أن يفهم أن الدخول إلى الإيمان بالإسلام يقتضي أن يدرسه دراسة مستوفية مقنعة، وأن يعلم أن حياته رهن بأن يرجع عن هذا الدين، فإذا علم أن حياته رهن بأن يرجع عن هذا الدين، فلن يدخله إلا وهو مقتنع تمام الاقتناع. ونحن نحمى بالاختيار، فنعلن لكل من يقبل على الإسلام ونحذره : إياك أن تدخل بظاهر القول دون فهم لمعنى الإسلام لأنك لو دخلت ثم بعد ذلك ارتددت فسوف تقتل، ومادام الشيء ثمنه الحياة، فالواجب أن يحتاط الإنسان الاحتياط الشديد. وفي ذلك أيضا ثقة من أن الإنسان إذا ما بحث عن الأدلة فسيقتنع بأن له إلها حقا، ولكننا لا نقتل الكافر الأصلي.
إذن فقل المرتد حماية لحزم الاختيار، فإياك أن تدخل بدون رؤية ؛ لأنك لو دخلت ثم ارتددت فسوف تقتل، وبذلك يصفي الحق المسألة تصفية لازمة بأن يعرض من يقبل الإسلام جميع الحجج على نفسه، ولا يدخل إلا بنية على هذا، ففي أي عقد يحاول الإنسان أن يعرف التزاماته وأن تتضح أمامه هذه الالتزامات. ولا يدخل إلى الدين الدخول الأهوج، أو الدخول الأرعن، أو الدخول المتعجل. بل يلزمه أن يدخل بتؤدة ورؤية.
وفي الزواج يدخل الإنسان بكلمة ويخرج بكلمة أيضا هي : " أنت طالق "، ولذلك تحتاط المرأة، فما دامت قد عرفت أن بقاء زواجها رهن بكلمة فعليها أن تحرص ألا تضع هذا الحق إلا في يد أمينة عليه. وساعة أن يقول لها أبوها : اسمعي، إن لك أن تختاري الزوج الذي إن أحبك أكرمك، وإن كرهك لا يظلمك ؛ لأنه بكلمة منه تنتهي الحياة الزوجية. إذن فعلى المرأة أن تفكر في الإنسان الأمين على هذه الكلمة.
ومع ذلك فهناك احتياط للغفلة ؛ فالرجل يتزوج بكلمة واحدة، من مرة واحدة لكن في الطلاق هناك ثلاث مراحل ؛ كرصيد للغفلة. فالرجل يتزوج المرأة بكلمة " زوّجتك نفسي أو يزوجها وليها ويكون القبول من الزوج وبهذا يتم الزواج ". لكن في الطلاق أباح الله لغفلة الرجل ولرعونته أن يطلق مرة، ثم يراجع هو من غير دخول أحد بينهما، ثم يطلق ثانية، ويراجعها، ولكن بعد الطلاق الثالث يجد التنبيه من الحق : لقد احتطنا لك برصيد من غفلتك. ولكن عندما تريدها زوجا لك فلا يتم ذلك إلا أن تتزوج غيرك، وبعدها قد تعود لك أو تبقى مع من تزوجها. فاحتط جيدا للأمر الذي تدخل عليه، وللتعاقد الذي التزمت به. فإذا كان هذا هو الشأن في تعاقد الزواج، فما بالنا بالرّدة ؟ إننا نقتل المرتد، ولا نفعل به ذلك قبل أن يؤمن وقبل أن يعلن إيمانه وقبل الدخول في حيز المؤمنين، وليعلم أنه إن رجع عن الإسلام فسيقتل. وهكذا يصعّب الإسلام الدخول إليه، ويحمي الاختيار في الوقت نفسه. ويتابع سبحانه :﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ ( من الآية ١٥١ سورة الأنعام ).
و " الوصية " لا تكون إلا للأمور المهمة التي لا تستقيم كالحياة إلا بالقيام بها، إنها في أمهات المسائل التي لا يصح أن نغفلها. ولذلك حين تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لقد ظل ثلاثة وعشرين عاما يستقبل من السماء ويناول أهل الأرض، ثم جاء في حجة الوداع وركّز كل مبادئ الدين في قوله تعالى :﴿ ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾.
و " وصاكم " غير شرّع ؛ فشرّع تأتي بكل التشريعات وما فيها من تفاصيل صغيرة، والوصية تضم أمهات المسائل في التشريع. والعقل يجب أن يسع المسألة من أولها إلى آخرها ؛ فلو استعملت عقلك في كل منهي عنه، أو في كل مأمور به في الآية فستجد التعقل يعطيك التوازن في القرار، وقد ختم الحق الخمسة الأشياء التي ذكرها في هذه الآية ب﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾. وهذه الأوامر متفق عليها في جميع الرسالات وفي جميع الأديان، ويسمونها : " الوصايا العشر ". و
.
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١٥٢ ) ﴾ :
ونعلم أن اليتيم هو من فقد أباه، ولم يبلغ مبلغ الرجال، هذا في الإنسان، أما اليتيم في الحيوان فهو من فقد أمه. وقوله الحق :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.. ( ١٥٢ ) ﴾ [ من الآية ١٥٢ [ سورة الأنعام ].
هنا يفرض سبحانه أن اليتيم له مال، فلم يقل : لا تأكل مال اليتيم. بل أمرك ألا تقترب منه ولو بالخاطر، ولو بالتفكير، وعليك أن تبتعد عن هذه المسألة. وإذا كان قد قال :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ﴾ فهل هذا الأمر على إطلاقه ؟. لا ؛ لأنه أضاف وقال بعد ذلك :﴿ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي بأن نُثَمّر له ماله تثمرا يسع عيشه، ويبقى له الأصل وزيادة، ولذلك قال في موضع آخر :﴿ وارزقوهم فيها.. ٥ ﴾ [ سورة النساء ].
فلا يأخذ أحد مال اليتيم ويدخره، ثم يعطيه منه كل شهر جزءا حتى إذا بلغ الرشد يجد المال قد نقص أو ضاع، لذلك لم يقل : ارزقوهم منها، بل قال :﴿ وارزقوهم فيها ﴾ أي ارزقوهم رزقا ناشئا منها. فمالهم ظرفية للرزق، ولا يتأتّى هذا إلا بأن نثمرها لليتيم، ولا نحرم الوصاية على اليتيم لرعاية ماله من أصحاب الكفاءات في إدارة الأعمال والأمناء، وقد يوجد الكفء في إدارة العمل، والأمين فيه لكن حاله لا ينهض بأن يتحمل تبعات ومؤنة حياته وقيامه بإدارة أموال اليتيم ؛ فقال سبحانه في ذلك :﴿ ومن كان غنيا فليستعفف.. ٦ ﴾ [ سورة النساء ].
أي أن يهب الوصيّ تلك الرعاية لله وحين يهب تلك الرعاية لله ولا يأخذ نظير القيام بها أجرا ؛ يضمن أنه إن وًُجد في ذريته إلى يوم القيامة يتيم فسيجد من يعوله حسبة لله وتطوعا منه مدخرا أجره عند الله. والحق هو القائل :﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( ٩ ) ﴾ [ سورة النساء ].
وحينما يجد اليتيم من يرعاه وحين يتعاطف المجتمع مع كل يتيم فيه، ويتولى أمور اليتامى أناس أمناء قادرون على إدارة أمورهم فسوف يقل جزع الإنسان من أن يموت ويترك صغاره ؛ لأنه سيجد كرامة ورعاية لليتيم، فالناس تخاف من الموت لأن لهم عيالا صغارا ويرون أن المجتمع لا يقوم برعاية اليتامى، لكن الإنسان إن وجد اليتيم مكرما، ووجد آباء من الأمة الإسلامية متعددين، فإن جاءه الموت فسوف يطمئن على أولاده لأنهم في رعاية المجتمع، ولكن لا تنتظر حتى يصلح شأن المجتمع بل أصلح من نفسك وعملك تجاه أي يتيم، ويمكنك بذلك أن تطمئن على أولادك فستجد من يرعاهم بعد مماتك، وحين يرعى المجتمع الإيماني كل يتيم ستجد الناس لا تضيق ذرعا بقدر الله في خلقه بأن يموت الواحد منهم ويترك أولادا. والمثل واضح في سورة الكهف بين العبد الصالح وسيدنا موسى حينما مرّا على قرية :﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ٧٧ ﴾ [ سورة الكهف ].
فلم يطلبا نقودا ليدخراها، ولكنهما طلبا طعاما لسد الجوع، وهذه حاجة مُلحّة. ومع أنهما استطعما أهل القرية أبى أهل القرية أن يضيفوها. ومعنى ذلك أنها قرية لئيمة الأهل. وعلى الرغم من العبد الصالح وجد ردّهم عليه وامتناعهم عن إطعامهما، ولكنه عندما وجد جدارا، وبفراسته علم أن الجدار يريد أن ينقض وكأن الجدار له إدارة، فأقام الجدار، ولامه سيدنا موسى عليه السلام، وكان سيدنا موسى منطقيا مع نفسه، فقد طلب هو وشيخه من أهل القرية مجرد الطعام فرفضوا، فكيف ترد عليهم بأن تبني لهم الجدار، وكان يجب أن تأخذ على البناء أجرة، فهم قوم لئام، هذا كلام موسى. لكن العبد الصالح جازاهم بما يستحقون ؛ لأنه ببنائه الجدار قد حال بينهم وبين أخذ الكنز، لأنه لو ترك الجدار ينهار لظهر الكنز الذي تحته وهو ليتيمين، وهكذا عرف العبد الصالح كيف يربيهم. وبعد ذلك أراد الله أن يشرح لنا أن الجدار لغلامين يتيمين في المدينة.
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا.. ٨٢ ) [ سورة الكهف ].
فكأن استخراج الكنز مقارن ببلوغ الرشد، وكأن العبد الصالح قد بنى الجدار بناء موقوتا، بحيث لا ينهار إلا حين يبلغ الغلامان مبلغ الرشد، لقد بنى العبد الصالح البناء وكأنه يضبط الميقات فلا يتماسك الجدار إلا لساعة بلوغ الغلامين أشدهما، وعندئذ يستخرج الغلامان كنزهما. وبعد ذلك جاء لنا بالحيثية لكل ذلك، فقال سبحانه :﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا.. ٨٢ ﴾ [ سورة الكهف ].
فكأن صلاح الأب هو الذي أراد به الحق أن يظهر لنا كيف حمى كنز الأبناء، فيأتي العبد الصالح وموسى لأهل القرية اللئام، ويطلبان طعاما، فلا يطعمونهما، فيبني العبد الصالح الجدار الموقوت الذي يصون الكنز من اللئام. والحق يقول هنا :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ١٥٢ ﴾ [ سورة الأنعام ].
من لا يقدر على قرب مال اليتيم بالتي هي أحسن فليبتعد عنه.
وحتى لا يتحرز ويتوقى الناس من رعايتهم مال اليتيم، قال سبحانه :﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ( من الآية ٦ سورة النساء ).
وكلمة ﴿ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي لا يكنز ولا يدخر منه أبدا، بل يأكل بما يدفع الجوع فقط ويكتسي ما يستر جسمه. ونعرف أن اليتيم لم ينضج عقله بعد، وكذلك الكبير السفيه هو أيضا لا يقدر على التصرف ؛ لذلك قال الحق في أدائه البياني حيث يؤدي اللفظ ما يوحي بالمعاني الواسعة :﴿ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ﴾( من الآية ٥ سورة النساء ).
وجعل الحق مال السفيه في مرتبة مال الولي ؛ لأن السفيه لا يحترم ملكيته وقد يبددها. ولكن المال يعود لهذا الإنسان حين يذهب عنه السفه فيقول الحق :﴿ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ ( من الآية ٦ سورة النساء ).
إنه أداء قرآني عجيب، يشجع الناس ألا يتركوا السفيه يبدد ماله فتكون خسارة للمجتمع كله، فما دام هو في سفه فانظر إلى المال كأنه مالك، ولتكن أمينا عليه أمانتك على مالك. وعندما ترى وتجد رشده وتطمئن على ذلك، فإن الحق يأمرك أن تعيد له ماله. ونعود إلى اليتيم، هنا يقول الحق :﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.
هذا إن كان له مال، فماذا عن اليتيم الذي لا مال له ؟. هنا تكون الوصية أقوى، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا وكافل اليتيم هكذا " ( وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما )١.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل " ٢.
وخذوا بالكم واجعلوا مسح رأس اليتيم لله، فمن الجائز أن تكون لليتيم أم جميلة، ويريد الولي أن يتقرب منها عن طريق الولد، احذروا ذلك، فإنه فضلا على أنه يسخط الله ويغضب فهو خسة ولؤم ونذالة. ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.. ( ١٥٢ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
لم يقل الله سبحانه بالتي هي حسنة ولكنه قال :﴿ بالتي هي أحسن ﴾ لتشديد الحرص على مال اليتيم حتى يبلغ أشده لأن بلوغ الأشد، يعني أن اليتيم صارت له ذاتية مستقلة، وما المعيار في الذاتية المستقلة ؟ ؛ أن يصبح قادرا على إنجاب مثله، وهذا معيار النضج. مثله مثل الثمرة حين تنضج ؛ أي صارت البذرة التي فيها صالحة لأن نضعها في الأرض لتكون شجرة. وأنت إن قطفت الثمرة قبل أن تنضج لا تجد طعمها حلوا، ولا تستسيغ مذاقها إلا حين تستوي البذرة وتنضج.
و " الأشد " أي أن الإنسان يصير قادرا على إنجاب مثله وهو ما نسميه البلوغ، ويصبح أيضا قادرا على حسن التصرف في المال وفي كل شيء. ويتابع سبحانه :﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [ من الآية ١٥٢ سورة الأنعام ].
والكيل هي المعايير لما يكال حجما، والموازين هي المعايير لما يقدّر كثافة، فهناك معيار للحجم ومعيار للكثافة. معيار الحجم الكيل، ومعيار الكثافة هو الوزن، وهناك أيضا التقديرات العادلة في القياس، للأقمشة مثلا، المقياس فيها هو المتر، إذن كل شيء بحسبه، وإذا أردت الموزون فلابد أن يكن القسط، أي بالعدل.
وهذه المسألة من الصعب تحقيقها، ولذلك تختلف الموازين باختلاف نفاسة الأشياء، فحين نزن الفول أو العدس أو البطاطس أو القلقاس، فنحن نزنه بميزان كبير، لأن فرق الميزان قد يكون حول الكيلو جرام، فالأمر حينئذ يكون مقبولا. وحين نزن أشياء أثمن قليلا، نأتي بالميزان الدقيق. فإن كان الشيء الموزون ذهبا نحيط الميزان بجدران زجاجية لأن لفحة الهواء قد تقلل أو تزيد الوزن.
إننا نحاول أن نمنع تأثير تيارات الهواء علينا. وحين نزن المواد الكيماوية نأتي بميزان يعمل بالذرة. إذن كل موزون يأخذ درجة ميزانه بمقدار نفاسته وتأثيره ؛ لأن تحقيق العدالة في الميزان مسألة صعبة، وكذلك الأمر في الكيل. فحين يكيل الإنسان كيلا يمسك إناء الكيلة ويهزه ؛ حتى يأتي المكيال دقيقا محررا، وإن أراد أن يلغي ضميره ويأخذ أكثر من حقه فهو يملأ المكيال بأكثر مما يحتمل ويسند الزيادة بيده حتى لا تقع. وربنا يقول :﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ( ١ ) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( ٢ ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( ٣ ) ﴾ [ سورة المطففين ].
فحين يكتال يستوفي ويطفف أي يزيد ما سوف يأخذ شراء، وحين يبيع يقلل الكيل أو الوزن ليأخذ ثمنا أكثر من ثمن ما يزن أو يكيل. وأصل المبادلات غالبا بين طرفين، وبعض المتنطعين يقول : كيف يقول الحق :﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ والتطفيف في أي مسألة يكون بالزيادة لا بالنقص. ونقول : انتبه إلى أن المتحدث هو الله، والتطفيف يزيد طرفا وينقص من طرف، وكل صفقة بين اثنين فيها بيع وشراء. فإن أراد واحد أن يجعل الخسران على طرف وأن يستوفي لنفسه فهو مطفف.
ولذلك تأتي دقة الأداء القرآني من ربنا :﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.. ( ١٥٢ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وقال الحق ذلك لأنه يعلم أن الكيل والميزان بالعدل أمر متعذر ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لواسع رحمته في التشريع لنا لم يجعل مجال الاستطاعة أمرا يمكن أن تتحكم فيه أشياء لا تدخل في الاستطاعة ؛ ففي ضبط المكيال والميزان قال :﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ لأن المكيال والميزان أداتان ت
٢ رواه البخاري في الأدب المفرد..
﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ١٥١ ) ﴾. [ سورة الأنعام ].
هذه الأشياء كانت موجودة في بيئة نزول القرآن، إنهم كانوا يشركون بالله ويعقون والديهم ويقتلون الأولاد ويقاربون الفواحش ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فأوضح لهم : تعقَّلوها، فإذا ما تعقلتموها تجدون أن تكليف الله يمنعكم من هذه الأفعال، إنه أمر يقتضيه العقل السليم الذي يبحث في الأشياء بمقدمات سليمة ونتائج سليمة، لكن " الأربع " الأخرى، هم كانوا يفعلونها ويتفاخرون بها. ففي التي كانوا يعملونها من القيام على أمر مال اليتيم والوفاء في الكيل والميزان والعدل في القول والوفاء بالعهد قال :﴿ لعلكم تذكرون ﴾ أي إياكم أن تغفلوها ؛ فإذا كنتم تفعلونها وأنتم على جاهلية ؛ فافعلوها من باب أولى وأنتم على إسلامية. ثم جاء بالوصية الجامعة :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٥٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
ونظرا لأن هذه الوصية تستوعب كل الأحكام إيجابا وسلبا، نهيا وأمرا، فوضح لهم أنه يجب عليكم أن تتبعوا الصراط المستقيم : لتقوا أنفسكم آثار صفات القهر من الحق سبحانه وتعالى، وأول جنودها النار.
والصراط : هو الطريق المعبّد، ويأخذون منه صراط الآخرة، وهو كما يقال " أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف "، ما معنى هذا الكلام ؟. معناه أن يُمشي عليه بيقظة تامة واعتدال ؛ لأنه لو راح يمنة يهوى في النار، ولو راح يسرة يسقط فيها، فهو صراط معمول بدقة وليس طريقا واسعا، بل كما قلنا " أدقّ من الشعرة، وأحدّ من السيف " فلتمش على صراط الله ومنهجه معتدلا، فلا تنحرف يمنة أو يسرة ؛ لأن الميل كما قلنا يبعدك عن الغاية، إنك إذا بدأت من مكان ثم اختل توازنك فيه قدر ملليمتر فكلما سرت يتسع الخلل، وأي انحراف قليل في نقطة البداية يؤدي إلى زيادة الهوة والمسافة.
كذلك الدين، كلما نلتقي فيه ويقرب بعضنا من بعض، نسير في الطريق المستقيم، وكلما ابتعدنا عن التشريع تتفرق بنا السبل.
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٥٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ جلّى بالحركة الفعلية منطوق النسبة الكلامية، حينما جلس بين أصحابه وخطّ خطّا. وقال : هذا سبيل الله.
ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره، ثم قال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان ؛ يدعوا إليها، ثم قرأ هذه الآية :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾.
ولذلك فكل أهل الحق، وأهل الخير كلما اقتربوا من المركز كان الالتقاء، وهذا الاتقاء يظل يقرب ويقرب ويقرب إلى أن يتلاشى ويصير الكل إلى نقطة واحدة.
وانظر إلى جلال الحق حينما يجعل الصراط المستقيم إليه في دينه، منسوبا إلى رسوله :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ﴾ فالرسول يسير على هذا الصراط وهو لا يغش نفسه، والذي يفعله ويمشي فيه يأمركم بأن تمشوا فيه، وهو لم يأمركم أمرا وهو بنجوة وبعد عنه، ولو غشكم جميعا لا يغش نفسه، وهذا هو صراطه الذي يسير فيه.
والسبيل هنا معروف أنه إلى الله فكأن سبيل الله هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم، ونسب الفعل والحدث لله وحده ؛ ففي البداية قال :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ﴾، ثم قال : " سبيله " فالصراط لم يعمله محمد لنفسه، ولكن أراده الله للمؤمنين جميعا، ورسول الله هو الذي يأخذ بأيديهم إليه.
وحين ننظر إلى كل الخلافات التي تأتي بين الديانات بعضها مع بعض، بين اليهودية والنصرانية على سبيل المثال :﴿ وقالتِ الْيهُودُ ليْستِ النّصارى على شيْءٍ وقالتِ النّصارى ليْستِ الْيهُودُ على شيْءٍ.. ( ١١٣ ) ﴾ [ سورة البقرة ].
والمشركون قالوا : لا هؤلاء على شيء، ولا هؤلاء على شيء :﴿ كذلِك قال الّذِين لا يعْلمُون مِثْل قوْلِهِمْ.. ( ١١٣ ) ﴾ [ سورة البقرة ].
أي أننا أمام ثلاث أقوال : اليهود قالوا : ليست النصارى على شيء، والنصارى قالوا : ليست اليهود على شيء، وقال الذين لا يعلمون وهم أهل مكة مثل قولهم، ثم نجد الدين الواحد منهما ينقسم إلى طوائف متعددة، وكل طائفة لها شيء تتعصب له. وترى أن الذي تقول به هو الحق، والذي يقول به غيرها هو الباطل، وكيف ينشأ هذا مع أن المصدر واحد، والتنزيلات الإلهية على الرسل واحدة ؟ ! إن آفة كل هذا تنشأ من شهوة السلطة الزمنية، وكل إنسان يريد أن يكون له مكانة ونفوذ وخلافة. وهذا يريد أن يتزعم فريقا، وذلك يريد أن يتزعم فريقا، ولو أنهم جُمعوا على الطريق الواحد لما كانوا فرقاء.
ونجده صلى الله عليه وسلم يقول : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ". ١
وفي رواية " كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة "، والجماعة : هم أهل السنة والجماعة، وفي رواية : " ما أنا عليه وأصحابي ". ونلاحظ دقة هذا القول في عدد من المذاهب والفرق، وإن كنتم لا تسمعون عن بعضها لأنها ماتت بموت الذين كانوا يتعصبون لها، والذين كانوا يريدون أن يعيشوا في جلالها.
إذن الآفة تأتي خير ننظر حين إلى حكم من الأحكام، يرى فيه واحد رأيا، ويأتي الآخر فيرى فيه رأيا آخر، لا لشيء إلا للاختلاف. ونقول لهم : انتبهوا إلى الفرق بين حكم مُحْكم، وحكم تركه الله مناطا للاجتهاد فيه، فالحكم الذي أراده الله محكما جاء فيه بنص لا يحتمل الخلاف، وهذا النص يحسم كل خلاف. والحكم الذي يحبه الله من المكلَّفين تخفيفا عنهم على وجه من الوجوه يأتي بالنص فيه محتملا للاجتهاد، ومجيء النص من المشرع في حكم للاجتهاد هو إذن بالاجتهاد فيه ؛ لأنه لو أراده حكما لا نختلف فيه لجاء به محكما.
والمثال المستمر ما تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة، فحينما أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يضع السلاح قبل أن يؤدب بني قريظة، وهم من شايعوا مشركي مكة في الحرب. فقال صلى الله عليه وسلم : " لا يصلَين أحد العصر إلا في بني قريظة " ٢.
فذهب الصحابة في طريقهم إلى بني قريظة، وآذنت الشمس بالمغيب وهم في الطريق فانقسم صحابة رسول الله إلى قسمين : قسم قال : نصلي العصر قبل أن تغيب الشمس، وقال قسم آخر : قال رسول الله لا نصلين العصر إلا في بني قريظة. فصلى قوم العصر قبل مغيب الشمس، ولم يصل الآخرون حتى وصلوا إلى بني قريظة، ورفعوا أمرهم إلى المشرع وهو رسول الله، فأقر هذا، وأقر هذا، لأن النص محتمل.
لماذا ؟. لأن كل حدث من الأحداث يتطلب ظرفا له زمان ومكان ؛ فالذين قالوا إن الشمس كادت تغرب ولا بد أن نصلي العصر قبل مغيبها نظروا إلى الزمان. والذين قالوا لا نصلي إلا في بني قريظة نظروا إلى المكان. وحينما رفع الأمر إلى المشرع الأعلم أقر هؤلاء وأقر هؤلاء.
إذن فالحكم إن كان فيه نص محكم فلا احتمال للخلاف فيه. وإن كان الله قد تركه موضعا للاجتهاد فيه فهو يأتي لنا بالنص غير المحكم. ومن ذهب إليه لا يصح أن نخطّئه، ولذلك بقي لنا من أدب الأئمة الذين بقيت مذاهبهم إلى الآن بعضهم مع بعض. نجد الواحد منهم يقول : الذي ذهبت إليه صواب يحتمل الخطأ، والذي ذهب إليه مقابلي خطأ يحتمل الصواب، وجميل أدبهم هو الذي أبقى مذاهبهم إلى الآن، وعدم أدب الآخرين جعل مذاهبهم تندثر وتختفي ولا تدرون بها، والحمد لله أنكم لا تدرون بها.
٢ رواه البخاري في المغازي، والبيهقي في الدلائل والسنن..
ونحن إذا سمعنا كلمة " ثم " نعلم أنها من حروف العطف، وحروف العطف كثيرة، وكل حرف له معنى يؤديه، وهنا ﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾، وإيتاء موسى الكتاب كان قبل أن يأتي قوله :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ فالتوراة جاءت ثم الإنجيل، ثم جاء القرآن ككتاب خاتم. فكيف جاءت العبارة هنا ب " ثم " ؟. مع أن إتيان موسى الكتاب جاء قبل مجيء قوله الحق :﴿ قل تعالوا أتل عليكم ما حرم ربكم عليكم ﴾ ؟. ونقول لأصحاب هذا الفهم : أنت أخذت " ثم " لترتيب أفعال وأحداث، ونسيت أن " ثم " قد تأتي لترتيب أخبار. فقد يأتي من يقول لك : لماذا لا تسأل عن فلان ولا تؤدي الحق الواجب عليك له ؛ كحق القرابة مثلا، فتقول : كيف، لقد فعلت معه كذا، ثم أنا فعلت مع أبيه كذا، ثم أنا فعلت مع جدّه كذا.
إذن، فأنت تقوم بترتيب أخبار. وتتصاعد فيها، وتترقى، ولذلك قال الشاعر العربي :
إن من ساد ثم ساد أبوه **** ثم قد ساد قبل ذلك جدّه
فالسيادة جاءت أولا للجد، ثم جاءت للأب، ثم انتقلت للابن. و " ثم " في هذه الحالة ليست لترتيب الأحداث وإنما جاءت للترتيب الإخباري أي يكون وقوع المعطوف بها بعد المعطوف عليه بحسب التحدث عنهما لا بحسب زمان وقوع الحدث على أحدهما فالمراد الترقي في الإخبار بالأحداث.
وانظر إلى القرآن بكمال أدائه يقول :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ ﴾ ( من الآية ١١ سورة الأعراف ).
ونعلم أن الأمر من الله للملائكة بالسجود لآدم كان من البداية. فسبحانه في هذا القول الكريم يريد أن يرتب حالنا، إنه سبحانه خلقنا بعد أن صورنا، وصورنا، بعد أن قال للملائكة اسجدوا لآدم.
ولله المثل الأعلى، تجد من يقول لابنه : لقد اعتنيت بك في التعليم العالي، ثم لا تنس أني قد اعتنيت بك في التعليم الثانوي، ثم لا تنس أنني قد اعتنيت بك في التعليم الإعدادية ؛ ثم لا تنس أنني قد اعتنيت بك من قبل كل ذلك في التعليم الابتدائي. وأنت بذلك ترتقي إخباريا لا أحداثيا. فقد يكون الحدث بعد ولكن ترتيب الخبر فيه يكون قبل.
﴿ ثم آتينا موسى الكتاب.. ١٥٤ ﴾ [ سورة الأنعام ]. طبعا مادام جاء بسيرة موسى فالكتاب هو التوراة وإذا أطلق الكتاب من غير تحديد ؛ فإنه ينصرف إلى القرآن، لأنه هو الكتاب الجامع لكل ما في الكتب، والمهيمن على كل ما في الكتب. أما لو قيل مثلا : أنزلنا على موسى الكتاب، فيكون الكتاب هو التوراة، أو أنزلنا على عيسى الكتاب، فيكون الكتاب هو الإنجيل. ﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( ١٥٤ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
والتمام هو استيعاب صفات الخير، ولذلك يقول الحق :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.. ( ٣ ) ﴾ [ سورة المائدة ].
و " أكملت " فلا نقصان، وأتممتها فلا استدراك. ولماذا جاء بالتمام على الذي أحسن في أمر موسى عليه السلام ؟. جاء ذلك لأن الذين تصدوا للجاج والجدل معه صلى الله عليه وسلم هم اليهود.
وأنتم تعلمون أنهم صوروا في مصر هنا فيلما سينمائيا اسمه " الوصايا العشر " عن قصة سيدنا موسى عليه السلام. والوصايا العشر هي التي أقر " كعب الأحبار " أنها موجودة في التوراة وجاءت في الآيات السابقة التي تناولناها وشرحناها. فمن المناسب أن يأتي هنا ذكر موسى عليه السلام.
وحينما جاء موسى عليه السلام بالتوراة كما أنزلها الله عليه عاصره أناس آمنوا بما في التوراة، وكانوا من الناجين، وقد ماتوا. أما الذين استمرت حياتهم إلى أن جاء رسول الله، فكان من المطلوب منهم أن يؤمنوا به ؛ لأن الحق أوضح لهم في التوراة أن هناك رسولا قادما، ولابد أن تؤمنوا حتى تتم نعمة الإحسان عليكم، لأنكم وإن كنتم مؤمنين بموسى، وعاملين بمنهجه فلابد من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. والسابقون لكم أحسنوا في زمن بعثة رسالة موسى عليه السلام، وجاء محمد بالرسالة الخاتمة فإن أردتم أن يتم الله عليكم الحسن والكرامة والنعمة، فلابد أن تعلنوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، منكم من أحسن الاقتداء بموسى عليه السلام وآمنوا بمحمد فتم لهم الحسن :﴿ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾.
﴿ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي أنه مناسب لزمنه، ولله المثل الأعلى، عندما يكون لك ولد صغير السن فتقول : أنا فصلت له ملابسه، أي فصلت له الملابس التي تناسبه. وحين يكبر لن تظل ملابسه القديمة صالحة لأن يرتديها. و﴿ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي القيم التي تناسب الوقت الذي يعيشونه، فإذا ما جئنا بتفصيل جديد، في القرآن فهو مناسب لوقته، ولقائل أن يقول : هنا تفصيل، وهنا تفصيل، فما الفرق بين تفصيل وتفصيل ؟. نقول : إن كل تفصيل مناسب لزمه، وآيات القرآن مفصلة جاهزة ومعدة لكل زمن وللناس جميعا إلى أن تقوم الساعة.
الآفة دائما في القائمين على أمر التشريع، فحينما تأتيهم حالة لذي جاه وسلطان يحاولون إعداد وتفصيل حكم يناسبه، فنقول لمثل هذا الرجل : أنت تفصل الحكم برغم أن الأحكام جاهزة ومعدة وظاهرة، إننا نجد القوالب البدنية تختلف فيها التفصيلات للملابس بينما القوالب المعنوية نجد فيها التساوي بين الناس كلها، فالصدق عند الطفل مثل الصدق عند اليافع، مثل الصدق عند الرجل، مثل الصدق عند المرأة، مثل الصدق عند العالم، مثل الصدق عند التاجر. وليس لكل منهم صدق خاص، وكذالك الأمانة. ورحمنا الإسلام بالقضية العقدية وكذلك بالقضية الحكمية الجاهزة. المناسبة لكل بشر، وليست هناك آية على مقاس واحد تطبق عليه وحده، لا، فالآيات تسع الجميع.
وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً.. ( ١٥٤ ) } [ سورة الأنعام ]. والهدى هو ما يدل على الغايات، لأن دين الفطرة قد انطمس بعدم تبليغ الآباء إلى الأولاد منهج السماء في أمور الحياة ومتعلقاتها والقيم التي يجب أن تسود. والآفة أن الأب يعلم ولده كيف يأكل ويشرب، وينسى أن يعلمه أمور القيم، لكن الحق سبحانه وتعالى رحم غفلتنا، ورحم نسياننا ؛ فشرع وأرسل لكل زمان رسولا جديدا، وهديا جديدا ليذكرنا. ﴿ .. لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ سورة الأنعام ].
إن كل آفة تنبع من العزوف عن تشريعات الله، وهم ينسون أن يضعوا في أذهانهم لقاء الله، لكن لو أن لقاء الله متضح في أذهانهم لاستعدوا لذلك ؛ لأن الغايات هي التي تجعل الإنسان يقبل على الوسائل. والشاعر يقول :
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي****ومن أين والغايات هي بعد المذاهب
ونقول لهذا الشاعر : قولك : ألا من يريني غايتي قبل مذهبي كلام صحيح، أما قولك : ومن أين الغايات بعد المذاهب، هذا كلام غير دقيق، فالغاية هي التي تحدد المذهب، وكذلك شرع الله الغاية أولا، بعد ذلك جعل لها السبيل. وقد شرع الله لكل شيء ما تقضيه ظروف البشر الحياتية، ولذلك لا استدراك عليه لن فيه تفصيلا لكل شيء.
و " هذا إشارة وعادة ما تأتي وترد على متقدم، ولكن إذا لم يكن لاسم الإشارة متقدم أو حاضرة يشار إليه فهذا دليل على أنك إن أشرت لا ينصرف إلا إليه لأنه متعين ينصرف إليه الذهن بدون تفكير لوضوحه. وكلمة " كتاب " تدل على أنه بلغ من نفاسته أنه يجب أن يُكتب ويسجل ؛ لأن الإنسان لا يسجل ولا يكتب إلا الشيء النافع، إنما اللغو لا يسأل عنه، وقال ربنا عن القرآن : إنه " كتاب "، ومرة قال فيه : " قرآن " فهو " قرآن " يتلى من الصدور، و " كتاب " يحفظ في السطور. ولذلك حينما جاءوا ليجمعوه أتوا بالمسطور ليطابقوه على ما في الصدور.
﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك ١٥٥ ﴾ [ سورة الأنعام ] :" وأنزلناه " أي أمرنا بإنزاله، ونزل به الروح الأمين، وكلمة مبارك مأخوذة من " البركة " أي أنه يعطى من الخير والثمرة فوق ما يُظن فيه، وقد تقول : فلان راتبه مائتا جنيه، ويربي أولاده جيدا ويشعر بالرضا، وتجد من يقول لك : هذه هي البركة. كأن الراتب لا يؤدي هذه المسؤوليات أبدا. وكلمة " البركة " تدل على أن يد الله ممدودة في الأسباب، ونعلم أن الناس ينظرون دائما إلى رزق الإيجاب، ولا ينظرون إلى الرزق الأوسع من الإيجاب وهو رزق السلب، فرزق الإيجاب يأتي لك بمائتي جنيه، ورزق السلب يسلب عنك مصارف لا تعرف قدرها. فنجد من يبلغ مرتبه ألفا من الجنيهات، لكن بعض والده يمرض، ويحتاج ولد آخر إلى دروس خصوصية فتبدد الألف جنيه ويحتاج إلى ما فوقها.
إذن فحين يسلب الحق المصارف وإنفاق المال في المعصية أو المرض فهذه هي بركة الرزق، ونجد الرجل الذي يأتي ماله من حلال ويعرق فيه يوفقه الله إلى شراء كل شيء يحتاج إليه، ويخلع الله على المال القليل صفة القبول ونجد آخر يأتي ماله حرام فيخلع الله على ماله صفة الغضب فينفقه في المصائب والبلايا ويحتاج إلى ما هو أكثر منه.
وأنت حين تقارن القرآن بالتوراة في الحجم تجده أصغر منها ولكن لو رأيت البركة التي فيه فستجدها بركة لا تنتهي ؛ فكل يوم يعطى القرآن عطاءه الجديد ولا تنقضي عجائب، ويقرأه واحد فيفهم منه معنى، ويقرأه آخر فيفهم منه معنى جديدا. وهذا دليل على أن قائله حكيم، وضع في الشيء القليل الفائدة الكثيرة، وهذا هو معنى ﴿ كتاب أنزلناه مبارك ﴾ ؛ فكل كتاب له زمن محدود وعصر محدود وأمة محدودة، أما القرآن فهو يواجه من يوم أن أنزله الله إلى أن تقوم الساعة قضايا وأمة متجددة يضع لها حلولا. والمهم أن القرآن قد جاء على ميعاد مع طموح البشريات، وحضارتها وارتقاءاتها في العقول ؛ لذلك كان لابد أن يواجه كل هذه المسائل مواجهة تجعل له السبق دائما ولا يكون ذلك إلا إذا كانت فيه البركة.
وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل على رجل أمّي، وفي أمة أميّة، ولذلك حكمة بالغة لأن معنى " أمّي " أي أنه لم يأخذ علما من البشر، بل هو كما ولدته أمه، وجاءت ثقافته وعلمه من السماء.
إذن فالأمية فيه شرف وارتقاء بمصادر العلم له. ونزل القرآن في أمة أمية ؛ لأن هذا الدين، وتلك التشريعات، إنما نزلت في هذه الأمة المتبديّة المتنقلة من مكان إلى آخر وليس لها قانون بل يتحكم فيها رب القبيلة فقط، وحين تنزل إليها هذه القيم الروحية والأحكام التشريعية ففي ذلك الدليل على أن الكتاب الذي يحمل هذه القيم والأحكام قادم من السماء. فلو نزل القرآن على أمة متحضرة لقيل نقلة حضارية، لكنه نزل على أمة لا تملك قوانين مثل التي كانت تُحكم بها الفرس أو الروم.
ومادام الكتاب له هذه الأوصاف التي تريح الخلق من عناء التشريع لأنفسهم ويضم كل الخير، لذلك يأتي الأمر من الله :﴿ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ من الآية ( ١٥٥ ) سورة الأنعام ]. وساعة تأتي ب ﴿ لعل ﴾ فاعلم أن فيها رجاء، وقد ترجو أنت من واحد وتقول : لعل فلانا يعطيك كذا، والرجاء هنا من واحد، ومن يفعل العمل المرجو إنسان آخر، وقد يفعل الآخر هذا العمل، قد يغضب فلا يفعله ؛ لأن الإنسان ابن أغيار، بل ومن يدري انه ساعة يريد أن يفعل فلا يقدر. وإذا قلت : " لعلي أفعل لك كذا "، وهنا تكون أنت الراجي والمرجوّ في آن واحد، ولكنك أيضا ابن للأغيار، فأنت تتوقع قدرتك على الفعل وعند إرادتك الفعل قد لا تتيسر لك مثل هذه القدرة.
﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( ١٥٦ ) ﴾ :
فالكتاب يصفي العقائد السابقة التي نزلت على الطائفتين من اليهود والنصارى، وإذا كنتم قد غفلتم عن دراسة التوراة والإنجيل ؛ لأنكم أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة ؛ لذلك أنزلنا إليكم الكتاب الكامل مخافة أن تصطادوا عذرا وتقولوا : إن أميتنا منعتنا من دراسة الكتاب الذي أنزل على طائفتين من قبلنا من اليهود والنصارى. وكأن الله أنزل ذلك الكتاب قطعا لاعتذارهم.
و " صدف " فيها الخاصتان. وجاء الحق بهذه الصيغة المحتملة لأن تكون لازمة وأن تكون متعدية ليصيب الأسلوب غرضين ؛ الغرض الأول : أن تكون " صدف " بمعنى انصرف وأعرض فكانت لازمة أي ضل في ذاته، والأمر الثاني : أن تكون صدف متعدية فهي تدل على أنه يصرف غيره عن الإيمان، أي يضل غيره، ويقع عليه الوزر ؛ لضلال نفسه أولا ثم عليه وزر من أضل ثانيا، ولذلك جاء سبحانه باللفظ الذي يصلح للاثنتين " صدف عنها " أي انصرف، ضلالا لنفسه، وصدف غيره أي جعل غيره يصدف ويعرض فأضل غيره، وبذلك يعذبه الله عذابين، فيقول سبحانه :﴿ .. سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ( ١٥٧ ) ﴾[ سورة الأنعام ].
فكأن المسألة يرتكبها : الذين صدفوا أنفسهم، وصرفوها عن الإيمان، ويصدفون كل من يحاول أن يؤمن. وهؤلاء هم القوم الذين أعرضوا وانصرفوا عن منهج الهدى، أو تغالوا في ذلك فصرفوا غيرهم عن منهج الهدى، ولو أنهم استقرؤوا الوجود الذي يعايشونه لوجدوا الموت يختطف كل يوم قوما على غير طريقة رتيبة، فلا السن يحكم ويحدد وقت وزمن انقضاء الأجل، ولا الأسباب تحكمه، ولا المرض والعافية تحكمه، فالموت أمر شائع في الوجود. ومعنى ذلك أن على كل إنسان أن يترقب نهايته، فكأنه يتساءل : لماذا إذن يصدفون ؟. وماذا ينتظرون من الكون ؟. أرأوا خلودا في الكون لموجود معهم ؟
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( ١٥٨ ) ﴾ :
فهل ينتظرون من عطاءات الوجود المحيط بهم إلا أن تأتيهم الملائكة التي تقبض الروح ؟ والملائكة تأتي هنا مجملة. وفي آيات أخرى يقول :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم.. ٢٨ ﴾ [ سورة النحل ]. ولن يتأبى أحد من الملائكة ؛ لذلك يلقون لهم السلم وتنتهي المسألة. ٠
ويتابع سبحانه :﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( ١٥٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
ووقف العلماء عند هذا القول الكريم لأنهم أرادوا أن يفسروا الإتيان من الرب على ضوء الإتيان منا، والإتيان منا يقتضي انخلاعا من مكان كان الإنسان فيه إلى مكان يكون فيه، وهذا الأمر لا يصلح مع الله. ونقول : أفسرت كل مجيء على ضوء المجيء بالنسبة لك ؟ بالله قل لي : ما رأيك في قوله تعالى :﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ﴾ ( من الآية ١٩ سورة ق ). كيف جاءت سكرة الموت وهي المخلوقة لله ؟ إننا لا نعرف كيف يجيء الموت وهو مخلوق ؟ فكيف تريدون أن نعرف كيف يجيء الله ؟. عليكم أن تفسروا كل شيء بالنسبة لله بما يليق بذات الله في إطار " ليس كمثله شيء " ولنتأدب ونعط العقول مقدارها من الفهم، ولنجعل كل شيء منسوبا لله بما يناسب ذات الله ؛ لأن المجيء يختلف بأقدار الجائين، فمجيء الطفل غير مجيء الشاب، غير مجيء الرجل العجوز، غير مجيء الفارس، فما بالنا بمجيء الله سبحانه ؟ ! ! إياك إذن أن تفهم المجيء على ضوء مجيء البشر. وأكررها دائما : عليك أن تأخذ كل شيء بالنسبة له سبحانه لا بقانونك أنت، ولكن بقانون الذات الأعلى، واجعل كل ما يخصه في إطار " ليس كمثله شيء "، ولذلك قل : له سمْع ليس كسمعنا، وبصر ليس كبصرنا، ويد ليست كأيدينا، في إطار " ليس كمثله شيء ". وإياكم أن تسمعوا مناقشة في قوله : " يأتي ربك ". وقل إن إتيان الله ومجيئه ليس كفعل البشر، بل سبحانه " ليس كمثله شيء " ﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾. و " بعض آيات ربك "، هي العلامات، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخُويْصَة أحدكم وأمْر العامّة " ١، و " خُويْصَة أحدكم " تصغير : خاصة، والمراد حادثة الموت التي تخص الإنسان، وصغرت لاستصغارها في جنب سائر العظائم من بعث وحساب وغيرهما وقيل : هي ما يخص الإنسان من الشواغل المقلقة من نفسه وماله وما يهتم به.
و " أمر العامّة " : أي القيامة ؛ لأنها تعم الخلائق، أو الفتنة التي تعمي وتصم، أو الأمر الذي يستبد به العوام ويكون من قبلهم دون الخواص.
﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ﴾ [ من الآية ( ١٥٨ ) سورة الأنعام ].
لأن الإيمان لا يكون إلا بأمر غيبي ؛ فكل أمر مشهدي مدرك بالحواس لا يسمى إيمانا ؛ فأنت لا تقول : أنا أؤمن بأني أقرأ الآن كتاب خواطر الشعراوي حول آيات القرآن الكريم ؛ لأنك بالفعل تقرأ هذه الخواطر الآن. وأنت لا تقول : أنا أؤمن بأن النور يضيء الحجرة ؛ لأن هذا أمر مشهدي، وليس أمرا غيبيا. والإيمان يكون دائما بأمر غيبي، ولكن إذا جاءت الآيات فإننا ننتقل من الإيمان بالأمر الغيبي إلى الإيمان بالأمر الحسي، وحينئذ لا ينفع الإيمان من الكافر، ولا تقبل الطاعة من صدقة أو غيرها من أنواع البر والخير بعد أن تبلغ الروح الحلقوم وتقول : لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان. هذا لا ينفع ؛ لأن المال لم يعد مالك، بل صار مال الورثة، كذالك الذي لم يؤمن وبعد ذلك رأى الآيات الستة التي قال الشارع عنها : إنها ستحدث بين يدي الساعة أو قبل مجيء الساعة. وساعة ترى هذه الآيات لن يقبل منك أن تقول : آمنت ؛ لأن الإيمان إنما يكون بالأمر الغيبي، وظهور الآيات هو أمر مشهدي فلن يقبل بعده إعلان الإيمان. والحق هو القائل :﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.. ﴾ [ من الآية ١٥٨ سورة الأنعام ].
أي أن الإيمان يجب أن يكون سابقا لظهور هذه الآيات، وألا يكون المانع له من العمل القصور، كأن يكون الإنسان والعياذ بالله مجنونا ولم يفق إلا بعد مجيء العلامة، أو لم يبْلُغ إلا بعد وجود العلامة فهذا هو من ينفعه الإيمان.
وقد عرض الحق لنا هذه الصور ما حدث في التاريخ السابق، فهو القائل :﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ٩٠ ) ﴾[ سورة يونس ].
وماذا كان رد الله عليه ؟ لقد قال سبحانه :﴿ الآن وقد عصيت قبل.. ٩١ ﴾ [ سورة يونس ].
إذن : إذا بلغت الروح الحلقوم، وهذه مقدمات الموت فلا ينفع حينئذ إعلانك الإيمان.
ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ .. انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( ١٥٨ ) ﴾ [ سورة الأنعام ] : هم منتظرون الخيبة ونحن منتظرون الفلاح.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ١٥٩ ) ﴾ :
هذه الآية تشرح الآية التي سبقت خواطرنا عنها، وهي قوله الحق :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٥٣ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
والذين فرقوا دينهم نسوا أن الدين إنما جاء ليجمع لا ليفرق، والدين جاء ليوحد مصدر الأمر والنهي في الأفعال الأساسية فلا يحدث بيننا وبين بعضنا أي خلاف، بل الخلاف يكون في المباحات فقط ؛ إن فعلتها فأهلا وسهلا، وإن لم تفعلها فأهلا وسهلا، وما لم يرد فيه افعل ولا تفعل ؛ فهو مباح.
إذن الذين يفرقون في الدين إنما يناقضون منهج السماء الذي جاء ليجمع الناس على شيء واحد ؛ لتتساند حركات الحياة في الناس ولا تتعاند، وإذا كان لك هوى، وهذا هوى، وذلك هوى فسوف تتعاند الطاقات، والمطلوب والمفروض أن الطاقات تتساند وتتعاضد.
والشيع هم الجماعة التي تتبع أمرا، هذا الأمر يجمعهم ولو كان ضلالا.
وهناك تشيع لمعنى نافع وخير، وهناك تشييع لعكس ذلك، والتشيع على إطلاقه هو أن تجتمع جماعة على أمر، سواء أكان هذا الأمر خيرا أم شر.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.. ( ١٥٩ ) ﴾ [ سورة الأنعام ] : إذن هم بعيدون عن منهجك يا محمد، ولا يصح أن ينسبوا إلى دينك ؛ لأن الإسلام جاء لإثبات القيم للوجود مثل الماء لإثبات حياة الوجود. ونعرف أن الماء لا يأخذ لونا ولا طعما ولا رائحة، فإن أخذ لونا أو طعما أو رائحة فهو يفقد قيمته كماء صاف. وكذلك الإسلام إن أخذ لونا، وصار المسلمون طوائف ؛ فهذا أمر يضر الدين، وعلينا أن نعلم أن الإسلام لون واحد. ﴿ .. إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( ١٥٩ ) ﴾ [ سورة الأنعام ]. إن شاء سبحانه عاجلهم بالهزيمة أو بالعذاب، وإن شاء آجلهم إلى يوم القيامة.
هناك " حسن "، و " حسنة " ولا تقل : إن حسنة هي مؤنث حسن، لأن فيها تاء. كأنها تاء التأنيث، ولكن اسمها " تاء المبالغة " تأتي على اللفظ الذي للذكر، مثلما تقول : " فلان علاّمة "، و " فلان راوية للشعر " وفلانة نسّابة. هذه هي تاء المبالغة.
والحسنة هي الخير الذي يورث ثوابا، وكلما كان الثواب أخلد وأعمق كانت الحسنة كذلك. وإذا قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ : ف " أمثالها " جمع " مثل "، والمثل مذكر، والقاعدة تقول : حين يكون المعدود مذكرا نأتي له بالتاء، وحين يكون مؤنثا نحذف التاء لأن أصل الأعداد مبنى على التاء، لأنك عندما تعد تقول واحد، اثنان ثلاثة إلى عشرة فأصل الأعداد مبنيّ على التاء، وإذا استعملته مع المؤنث تخالف بحذف التاء فيه، وإن استعملت العدد مع الأصل وهو المذكر، تستعمله على طبيعته فتقول : " ثلاثة رجال ". وإذا أردت أن تتكلم عن الأنثى، تقول : " ثلاث نسوة "، والحق هنا يقول :﴿ فله عشر أمثالها ﴾، و " مثل " كما قلنا مذكر. والحق لم يجعل الأصل في العطاء هو " المثل "، بل جعل الأصل هو الحسنة :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾( من الآية ١٦٠ سورة الأنعام ) : وهذا هو مطلق الرحمة والفضل. ولذلك ورد الحديث القدسي : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى ( إن ربكم عز وجل رحيم. من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عز وجل ولا يهلك على الله إلا هالك )١.
ونعرف أن الحق يجزي الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، لأن كل فعل تلازمه طاقة من الإخلاص في نفاذه، فكأن الحق قد وضع نظاما بأن الحسنة بعشر أمثالها، ثم بالنية المخلصة تبلغ الأضعاف إلى ما شاء الله. وقد وضع الحق هذا النظام ؛ لأنه جل وعلا يريد للحسنة أن تُفعل، وينتفع الغير بها، فإن كان فاعلها حريصا على أجر الزائد فهو يقدمها بنية مخلصة، ويقول الحق لنا :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ١١ ) ﴾[ سورة الحديد ].
ويقول أيضا :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ ( من الآية ( ٢٤٥ ) سورة البقرة ).
ويحدد هنا جزاء الحسنة بأن ثوابها عشر أمثالها، ونية معطى الحسنة هي التي يمكنها أن تضاعفها إلى سبعمائة أو أزيد. والحق سبحانه وتعالى يعطي مثلا لذلك في قوله تعالى :
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ ( من الآية ( ٢٦١ ) سورة البقرة }.
وإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطيها أنت حبة فتعطيك سبعمائة فماذا يعطي خالق الأرض ؟ إن عطاءه غير محدود ولا ينفذ، ولذلك يقول سبحانه :﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾ ( من الآية ٢٦١ سورة البقرة ).
ويتابع الحق سبحانه :﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ ( من الآية ( ١٦٠ ) سورة الأنعام ). مادام لا يجزي إلا مثلها فهم لا يظلمون أبدا.
و " دينا قيما " أي تقوم عليه مسائل الحياة، وهو قائم بها، و " قيما " : مأخوذة من " القيمة " أو من " القيام " على الأمر، وقام على الأمر أي باشره مباشرة من يصلحه، كذلك جاء الدين ليصلح للناس حركة حياتهم بأن أعطاهم القيم، وهو قائم عليهم أيضا :﴿ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾.
وفي كل أمر مهم له خطره ومنزلته يأتي لنا الحق بلمحة من سيرة إبراهيم عليه السلام، لأنه صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه في القدر المشترك الذي يجمع كفار مكة، وأهل الكتاب الذين يتمحكون فيه. فقالت اليهود : إبراهيم كان نصرانيا، وربنا يقول لهم ولنا :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ﴾ ( من الآية ٦٧ سورة آل عمران ). واليهودية والنصرانية جاءتا من بعده. أما بالنسبة للجماعة الأخرى ففي بيئتهم، وكل حركات حياتهم، وتجارتهم ونفعهم من آثار إبراهيم عليه السلام ما هو ظاهر وواضح. يقول الحق :﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾( من الآية ٣٧ سورة إبراهيم ) :
فسيدنا إبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت الحرام، وهو الذي عمل لهم مهابة وجعلت تجارتهم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب ولا يتعرض لها أحد، وجاءت لهم بالرزق الوفير. وحين يقول الحق :﴿ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾( من الآية ١٦١ سورة الأنعام ).
المقصود هو الدين الذي تعيشون في كنف خيرات آثاره، و " الحنف " هو اعوجاج في القدم. وبطبيعة الحال لم يكن دين إبراهيم مائلا عن الحق والصواب بل هو مائل عن الانحراف دائم الاستقامة. ونعرف أن الرسل إنما يجيئون عند طغيان الانحراف، فإذا جاء إبراهيم مائلا عن المنحرف ؛ فهو معتدل.
و " صلاتي " مقصود بها العبادة والركن الثاني في الإسلام الذي يتكرر كل يوم خمس مرات، وهي الركن الذي لا يسقط أبدا ؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما قلنا سابقا يكفي أن تقولها مرة في العمر، وقد يسقط عنك الصوم إن كنت لا تستطيع، وقد لا تزكي لأنه ليس لك مال، وقد لا تستطيع الحج، وتبقى الصلاة التي لا تسقط أبدا عن العبد. وهي كما نعلم قد أخذت التكليف حظها من الركنية.
إن كل تكليف من التكاليف جاء بواسطة الوحي إلا الصلاة فإنها جاءت بالمباشرة، تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه دون واسطة. وحين يقول الحق :﴿ إن صلاتي ﴾، فهو يذكر لنا عمدة الأركان والتي اشتملت على كل الأركان كما أوضحنا سابقا. حتى إن الإنسان إذا كان راقدا في مرض ولا يستطيع القيام فعليه أن يحرك رأسه بالصلاة أو يخطر أعمال الصلاة على قلبه. ويقول الحق :﴿ ونسكي ﴾. و " النسك " يطلق ويراد بها كل عبادة، والحق يقول :﴿ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ﴾ ( من الآية ٦٧ سورة الحج ).
" النسك " إذن هو عبادة ويطلق بالأخص على أفعال كثيرة في الحج، مثل نسك الطواف ونسك السعي، ونسك الوقوف بعرفة، ونسك الرمي، ونسك الجمار، وكل هذه اسمها مناسك، والأصل فيها أنها مأخوذة من مادة " النسيكة " وهي السبيكة من الفضة التي تصهر صهرا يخرج منها كل المعادن المختلطة بها حتى تصير غاية في النقاء. فسميت العبادة نسكا لهذا، أي يجب أن تصفى العبادة لله كما تصفى سبيكة الفضة من كل المعادن التي تخالطها :﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ﴾.
وهنا أمران اختياريان، وأمران لا اختيار للإنسان فيهما، الصلاة والمناسك كلاهما داخل في قانون الاختيار، لكن المحيا والممات لا يدخل أي منهما في قانون الاختيار ؛ إنهما في يد الله، والصلاة والنسك أيضا لله، ولكن باختيارك، وأنت لا تصلي إلا لأنك آمنت بالآمر بالصلاة، أو أن الجوارح ما فعلت كذا إلا لله. إذن فأنت لم تفعل شيئا من عندك أنت، بل وجهت الطاقات المخلوقة لله لتأدية المنهج الذي أنزله الله. إذن إن أردت نسبة كل فعل فانسبه إلى الله.
ولماذا جاء بالصلاة والنسك وكلاهما أمر اختياري ؟ ؛ لأنه إن كان في ظاهر الأمر لكم اختيار، فكل هذا الاختيار نابع من إيجاد الله لكم مختارين. وهو الذي وضع المنهج فجعلكم تصلون، أو : إن صلاتي لله ونسكي لله، أي أن تخلص فيها، ولا تشرك فيها، ولا تصلي مرائيا، ولا تصنع نسكا مرائيا، ولا تذهب إلى الحج من أجل أن يقولوا لك : " الحاج فلان " أبدا، بل اجعلها كلها لله ؛ لأنك إن جعلتها لغيره فليس لغيره من القدرة على الجزاء ما يجازيك الله به، إن جعلتها لغيره فقد اخترت الخيبة في الصفقة ؛ لذلك اجعل الصلاة والنسك للذي يعطيك الأجر. ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦٢ ) ﴾[ سورة الأنعام ].
يقول بعد ذلك :﴿ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ ﴾.
وهذا القول يدل على أن الخلق قد يجعل لله شريكا في العبادة فيجعل صلاته ظاهرية رياء، ومناسكه ظاهرية رياء، وحياته يجعلها لغير واهب الحياة. ويعمل حركاته كلها لغير واهب الحياة، ويجعل مماته للورثة وللذرية ؛ لذلك عليك أن تتذكر أن الله لا شريك له. ﴿ .. وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣ ﴾[ سورة الأنعام ].
وهذا أمر من الله لرسوله، وكل أمر للرسول هو أمر لكل مؤمن برسالته صلى الله عليه وسلم، والأوامر التي صدرت عن الرب هي لصالحك أنت. فسبحان أهل لأن يُحب، وكل عبادة له فيها الخير والنفع لنا، وأنا لا أدعيه لنفسي بل هو عطاء من ربكم وربي الذي أمر. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حينما رأى أن رسوله صلى الله عليه وسلم مشغول بأمر أمته أبلغنا :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ ( من الآية ١٢٨ سورة التوبة ).
وفي كل شيء كان صلى الله عليه وسلم يقول : أمّتي أمتي أمتّي أمتي، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يطمئن رسوله على محبوبية أمته فقال له : " إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك }١. والحديث بتمامه كالآتي : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم :﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ الآية.
وقال عيسى عليه السلام :﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
فرفع يديه وقال :﴿ اللهم أمتي أمّتي ﴾ وبكى، فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال عز وجل : " يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك " ٢. ونزل قوله الحق :﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ٥ ﴾ ( سورة الضحى ).
روي عن علي رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : " إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار " ٣ويذيل الحق الآية بقوله :﴿ وأنا أول المسلمين ﴾. وحين يقول صلى الله عليه وسلم : وأنا أول المسلمين في أمته فهذا قول صحيح صادق لأنه قبل أن يأمر غيره بالإسلام آمن هو بالإسلام، وكل رسول أول المسلمين في أمته، لكن هناك أناس يقولون : لنأخذ العبارة هكذا، ونقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم له منزلة بين رسل الله أجمعين تتجلى في أنه اخذ العهد على غيره، ولم يأخذ العهد عليه احد، فان كان أول المسلمين في أمته، فهو أول المسلمين بين الرسل أيضا، وإن لم تأخذها حدثا خذها للمكانة. وأضرب هذا المثل : هب أن كلية الحقوق أنشئت مثلا سنة كذا وعشرين، لكل سنة لها أول من التلاميذ ثم جاء واحد وحصل على ١٠٠% هذا العام فنقول عنه : إنه الأول على كلية الحقوق من يوم أن أنشئت.
٢ رواه مسلم في كتاب الإيمان..
٣ غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري..
﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ ﴾ :
معنى الرب أنه هو الذي تولى التربية، وله السيادة، وكل شيء في الوجود مربوب لله، فكيف أحذ شيئا من الأشياء التي هو ربها وخالقها ليكون شريكا له ؟ ! ! إن ذلك لا يصح أبدا. ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا ﴾ : وهذا إنكار يأتي في صورة استفهام من كل سامع. وكأن الحق يقول لكل منا. أعرض هذا على ذهنك عرضا غير متحيّز، وأنا سأأتمنك على الجواب. ولا تقال ذلك إلا وقد تأكد أن الجواب يكون : لا، فلو كان الجواب يحتمل هذه أو تلك لما آمنك على الجواب. وكأنه يقول : إن أي عاقل يجيب على هذا السؤال سيوافقني في أنه لا ينبغي أن يتخذ غير الله ربا. ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾( من الآية ١٦٤ سورة الأنعام ) : و " أبغي " أي أطلب، و " تكسب " مأخوذة من مادة " كسب "، و " اكتسب "، و " كسب " دائما تأتي في الخير كما علمنا من قبل، و " اكتسب " تأتي في الشر. لكن هناك أناس يعتادون على فعل السيئات ولم تعد تكلفهم شيئا، فكأنها لسهولة ذلك عليهم تعتبر كسبا. ومن الحمق أن تقول هذا كسب، وهو عليك وليس لك ؛ لأنك حين تنظر إلى التسمية نفسها تفهم أنها ليست رصيدا لك بل عليك.
﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ ( من الآية ١٦٤ سورة الأنعام ) : والوزر هو الحمل الشاق، وإن اشتق منه شيء فإن المشقة والصعوبة تلازمه ؛ ككلمة " وزير "، والحق هو القائل :﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) ﴾ ( سورة طه ). كأن موسى عليه السلام عرف أن حمل الرسالة إلى اليهود عملية شاقة فقال لله أعطني أخي يساعدني في هذه المشقة.
والحق هو القائل :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( ١ ) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ( ٢ ) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ( ٣ ) ﴾( سورة الشرح ). وكان النبي عليه الصلاة والسلام في أول استقباله للوحي قد عانى من وقع هذه العملية وكان أمرها شاقا عليه ؛ لأن المسألة تقتضي التقاءات مَلكية ببشرية، ولابد أن يحدث تفاعل، وهذا التفاعل الذي كان يظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمر وجهه، ويتصبب منه العرق، وبعد ذلك يقول : زملوني زمِّلوني ودثروني، وإن كان قاعدا وركبته على ركبة أحد بجانبه فيشعر جاره بالثقل، وإن كان على دابة تئط وتئن تعبا، لأن التقاء الوحي برسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أمرين : إما أن يتحول الوحي وهو حامل الرسالة إلى بشرية مماثلة لبشرية الرسول، وإما أن الرسول ينتقل إلى ملائكية تناسبه مع استقباله للملك. وهكذا كان التقاؤه بالملكية يتطلب انفعالا وتفاعلا.
لكن لما أنس صلى الله عليه وسلم بالوحي عرف حلاوة استقباله نسي المتاعب، ولذلك عندما فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتاق إليه. وكان الوحي من قبل ذلك يتعبه، ويجهده، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبقى في نفسه حلاوة ما أوحي به إليه، وتهدأ نفسه ويشتاق إلى الوحي، فإذا ما استقبل الوحي، بشوق فلن يتذكر المتاعب.
﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾( من الآية ١٦٤ سورة الأنعام ) : إذن مادة الوزر هي الثقل بمشقة، أي لا يحمل إنسان مشقة ثقيلة عن آخر ؛ فالمسؤولية لا تتعدى إلا إذا تعدى الفعل، وعرفنا من قبل الفارق بين من ضل في ذاته، ومن أضلل غيره ليحمل أوزاره مع أوزارهم لتعديه بإضلالهم. وسنعود جميعا إلى ربنا لينبئنا بما كنا فيه نختلف.
وهناك قول كريم في آية أخرى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ في الأَرْضِ ﴾ ( من الآية ٣٩ سورة فاطر ). وهنا يقول الحق :﴿ خلائف الأرض ﴾ : ومعنى " خليفة " أي الذي يخلف غيره ؛ فإما أن يخلفه زمانا، وإما أن يخلفه مكانا. وخلفة الزمان أن يأتي عصره بعد عصره، ويومه بعد يومه، وخلفه المكان أي أن يكون جالسا ثم يرحل ليأتي آخر ليستقر مكانه، وأنظر إلى كل قواعد الحياة بالنسبة للإنسان تجده في شبابه قويا، ثم يرحل عنه الشباب ليأخذه آخره، ويذهب إلى الشيخوخة. وكذلك نجد إنسانا يملك مكانا ثم يتركه ويأتي واحد آخر يملكه.
أو أن الحق سبحانه وتعالى أراد من الخلافة، لا خلافة بعضنا لبعض ولكن خلافة الإنسان لرب الإنسان في الأرض ؛ لأن كل شيء منفعل لله قهرا، والحق سبحانه وتعالى منح بسعة عطائه ؛ فجعل بعض الأشياء تنفعل لبعضها هبة منه سبحانه، فإذا أوقدت النار على سبيل المثال تنفعل لك، وإذا حرثت في الأرض ووضعت فيها البذور تنفعل لك، وإذا شربت ترتوي، وإذا أكلت تشبع. من أين أخذت كل ذلك ؟.
إنك قد أخذته من أن الحق الذي سخّر لك ما في الكون، وجعل أسبابا ومسببات، فكأنك أنت خليفة إرادات ؛ لكي يثبت لنا سبحانه أنه يفعل ما يريد، فعلينا أن نأخذ هذه القضية قضية مسلمة، وإن أردت أن تختبر ذلك فانظر إلى أي إنسان ولو كان كافرا ويريد أن يقوم من مكانه، وتنفعل له جوارحه فيقوم، فأي جارحة أمرها أن تفعل ذلك ؟. إنه لا يعرف إلا بمجرد أنه أراد أن يقوم قد قام. وحتى لا تفهم أنك أخذت كل ذلك بشطارتك فهو يجعل بعضا من الأمور مشاعا عالميا، مثل الموت والحياة إنهما أمران، لا يختلف فيهما الإنجليزي عن الفرنسي، عن العربي، وكذلك الضحك والبكاء، وهل هناك فرق بين ضحكة انجليزية، أو ضحكة شيوعية أو ضحكة رأسمالية ؟. طبعا لا، فكلها ضحك وهو لغة عالمية، ولذلك قال :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ٤٣ ﴾ [ سورة النجم ] : وسبحانه جاء بأمر مشترك موجود في الناس كلها، فأنت تتكلم وتعمل على الصورة والكيفية التي تريدها، لكنك ساعة تضحك فهو سبحانه الذي يضحك. وأنت حين تود مجاملة أحد وتضحك له فتفاجأ بأن ضحكتك صناعية.
والحق يوضح لك : إن زمام كوني في يدي، أجعل القوم مختارين في أشياء، وأجعلهم مرغمين ومتحدين على رغم أنوفهم في أشياء ؛ فأنا الذي أضحك وأبكي. ولا يوجد بكاء إنجليزي أو بكاء فرنساوي أو بكاء ألماني، وكل البشر شركاء في مثل هذه الأمور.
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ.. ( ١٦٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
إن إرادتك على أبعاضك، وعلى جوارحك أيها ألإنسان موهوبة لك من الواهب الأعلى والمريد الأعلى، وسبحانه يسلب ذلك من بعض الأفراد، فيأمر المخ : إياك أن ترسل إشارة لتلك الجارحة لتنفعل. فيصاب هذا الإنسان بالشلل.
ولو كان الأمر شطارة من الإنسان لقاوم ذلك. أنتم إذن خلائف الأرض ؛ تنفعل لكم الأشياء بقدر ما أراد الله أن تنفعل لكم، فإذا سلب انفعلها عنكم فلكي يثبت أنكم لم تسخروها بقدراتكم، بل به هو، إن شاء أطلق الخلافة، وإن شاء قيد الخلافة. ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات ﴾. كأن من الخلافة أننا لا نكون متماثلين متطابقين، بل أراد سبحانه أن نكون متكاملين في المواهب، وفي الكماليات ؛ لأن الناس لو كانوا صورة مكررة في المواهب، لفسدت الحياة، فلابد أن تختلف مواهبنا، لأن مطلوبات الحياة متعددة، فلو أصبحنا كلنا أطباء فالأمر لا يصلح، ولو كنا قضاة لفسد الأمر، وكذلك لو كنا مهندسين أو فلاحين. إذن فلابد من أن تتحقق إرادة الله في قوله سبحانه :﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.. ( ١٦٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ] : أي أن البعض قد رُفع، والبعض الآخر رُفع عليه، فمن هو البعض المرفوع ؟. ومن البعض المرفوع عليه ؟ إن كل وحد فيكم مرفوع في جهة مواهبه، ومرفوع عليه فيما لا مواهب له فيه ؛ لأن الحق يريد أن يتكاتف المخلوقون، ولا ينشأ التكاتف تفضلا، وإنما ينشأ لحاجة، فلابد أن تكون إدارة المصالح في الكون اضطرارا، وهذه هي هندسة المكون الأعلى سبحانه التي تتجلى في أنك وضعت خريطة لمن دخلوا معك في مرحلة التعليم الابتدائي. ومن ترك منهم الدراسة ومن استمر ليدخل الدراسة الإعدادية. إنك تجدهم أقل، ومن درس في المرحلة الثانوية أقل، ومن تعلم التعليم العالي أقل، ومن نال الدكتوراه أقل.
و هكذا نجد أن البعض يتساقط من التعليم لأن هناك أكثر من مهمة في الكون لا تحتاج إلا إلى حامل الابتدائية فقط، أو حامل الإعدادية، أو إلى حامل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ولو ظل كل واحد منهم في التعليم العالي، فلن نجد لتلك المهام أحدا. لذلك جعل الله التكاتف في الكون احتياجا لا تفضلا.
والحظوا جيدا : أن الإنسان إذا عضّه جوع بطنه أو جوع عياله فهو يقبل أي عمل وإن رضي بقدر الله فيما وضعه فيه، ولم يحقد على سواه فسيتقن هذا العمل، وسيتفوق فيه وسيرزقه الله الرزق الحلال الطيب. ولذلك قال الإمام علي : قيمة كل امرئ ما يحسنه، فإن أحسن الإنسان عمله، فهو إنسان ناجح في الوجود.
وهكذا أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يجعلنا أشخاصا مكررين، ولكن جعلنا متفاضلين متفاوتين، فرفع بعضا على بعض، وكل منا مرفوع فيما يجيد، ومرفوع عليه فيما لا يجيد، حتى يحتاج الإنسان منا إلى غيره ليؤدي له العمل الذي لا يجيده وبذلك يرتبط العالم ارتباط مصلحة وحاجة لا ارتباط تفضل. ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ.. ( ١٦٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ] : كأن هذا الرفع هو اختبار للبشر فيما أعطاهم الله من المواهب. ليعلم علم الإلزام للعبد ؛ فسبحانه يعلم أزلا كل ما يصدر عن العبد، ولكنته يترك للعبد فرصة أن يؤدي العمل ليكون ملتزما بما فعل. وتكون حجة على العبد. وحينما يقول الحق :﴿ ليبلوكم ﴾ فالمقصود ليختبركم اختبار إقرار على نفوسكم، لا إخبار له.
﴿ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٦٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وسبحانه " سريع العقاب "، وإياك أن تستبطئ الآخرة ؛ فالثواب والعقاب سيأتي بعد أن ننتهي ونموت. وليس للموت سبب ؛ فكل إنسان عرضة لأن يموت، وبذلك تكون قيامته قد قامت، وإن قامت قيامة الإنسان فلن يقوم بأي عمل آخر. إذن فسبحانه سريع العقاب. ولكن البعض من القوم يغريهم حلم الله ويستبطئون الآخرة. لذلك يقول أحد العارفين : اجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. إذن فكل صفة من صفات الحق يتجلى ويظهر أثرها في المخلوق هبة من الله له، فأنت إذا أردت أن تقف، مثلا، لا تعرف ما هي العضلات التي تحركها لتقف، ولكنك بمجرد إرادتكم أن تقف تقف، وذلك مظهر لإرادة الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
ومادمنا خلائف فلابد أن نتكامل ولا نتكرر، بمعنى أن كل واحد فيه موهبة تنقص من الآخر، وفي الآخر موهبة تنقص في غيره، ليضطر كل مخلوق في الأرض أن يتعاون مع آخر، ليأخذ ثمرة مواهب غيره، ويعطي هو ثمرة مواهبه. ولا يريد الحق منا أن نعطي ثمرات المواهب تفضلا، وإنما يريد أن يجعلها حاجة. فأنت تحتاج إلى موهبة من لا موهبة لك فيه، إنك تحتاج إلى الغير، وهو كذلك أيضا يحتاج إلى عملك.
راجع أصله وخرج حديثه الدكتور أحمد عمر هاشم نائب رئيس جامعة الأزهر.
وحين يستخلفنا الله تبارك وتعالى بهذه الصورة فبعضنا في ظاهر الأمر يكون أعلى من بعض، لذلك يوضح سبحانه : أنا فضلت بعضكم على بعض، لكني لم أفضل طائفة لأجعل طائفة مفضولا عليها، ولكن كل مفضل في شيء لأن له فيه مواهب، ويكون مفضلا عليه في شيء آخر لا مواهب له فيه، وهكذا يتساوى الناس جميعا.
إننا جميعا عيال الله، وليس أحد منا أولى بالله من أحد ؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ؛ ولذلك إن حاولنا إحصاء المواهب في البشر وتوزيعها على الخلق جميعا لوجدنا أن مجموع كل إنسان مجموع كل إنسان لآخر، ولكن أنت تأخذ في موهبة ما تفوقا، وفي الموهبة الأخرى لا تجد نفسك قادرا عليها، وفي موهبة ثالثة قد تقدر عليها لكنك لا تحبها، واجمع الدرجات كلها في جميع المواهب ستجد أن كل إنسان الآخر، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾( من الآية ١٦٥ سورة الأنعام ).
إذن فكل واحد منا يقدر أن يقول : أنا مرفوع، ولكن عليه ألا يغتر ؛ لأنه مرفوع عليه أيضا. والتوازن يأتي من هذه الناحية، فلا غرور برفعتك في درجة، ولا مذلة بانخفاضك في درجة ؛ لأن هذا مراد لله وذلك مراد له سبحانه والذي يحترم قدر الله في توزيع مواهبه على الخلق يعطيه الله خير موهبته، فلا يتميز ذو موهبة أخرى عليه أبدا.
ولكن أينجح الناس جميعا في هذا ؟. لا، فهناك أناس يتساقطون، وهناك من يرى واحدا أغنى منه وهو فقير، فيبدأ في الغل والحقد والحسد، ونقول له : انظر إلى قوتك فقد تكون أقوى منه، وقد تكون أسعد منه في أمور كثيرة. خذ الموهبة التي أعطاها الله لك، والموهبة التي أعطاها لغيرك وستجد مجموع كل إنسان مجموع كل إنسان، فالذي ينجح في هذه المعادلات التفاضلية يكون له من الله ثواب. فيتجاوز له سبحانه عن بعض سيئاته، ويغفر له. والذي لا يحترم قدر الله في خلق الله يعاقبه الله ؛ لذلك أوضح سبحانه : أنا أبلوكم وأختبركم، فمن ينجح فله غفران ورحمة، ومن لا ينجح فله عقاب، ولا تظنوا أن عقابي بعيد ؛ لأن ما بين الإنسان والعقاب أن يموت، وليس هناك سبب معروف للموت ؛ فمن الممكن أن يموت الإنسان لوقته، فيبدأ عقابه. ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٦٥ ) ﴾ [ سورة الأنعام ].
وبذلك ختمت سورة الأنعام، التي أستهلها بقوله سبحانه ﴿ الحمد لله ﴾ وختمها بقوله :﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾، فالحمد لله في الأولى، والحمد لله في الآخرة.