ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ اختلفوا في الذي حرمه النبي -صلى الله عليه وسلم- على (١) نفسه، فروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الصبح دخل على أزواجه امرأة امرأة يسلم عليهن، وكانت حفصة قد أهدي لها عسل، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل عليها تحبسه عندها وتسقيه منه، فيجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- عندها، وفطنت عائشة بذلك فجمعت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-وقالت لكل واحدة منهن، إذا دخل عليك (٢) النبي -صلى الله عليه وسلم- فقولي (٣): ما هذا الريح نجدها منك؟ أكلت مغافير (٤)؟ فإنه يقول: لا. سقتني حفصة عسلًا. فقولي: جرست نحلة العرفط (٥). فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على(٢) في (ك): (عليك) زيادة.
(٣) في (ك): (عليك فتقول).
(٤) المغافير: صمغ يسيل من شجر العرفط حلو غير أن رائحته ليست بطيبة. "اللسان" ٢/ ٧٤٩ (عرفط).
(٥) جرست النحلة أي أكل ورعت، وهو لحسها إياه ثم تعسله، ولا يقال جرس بمعنى رعى إلا للنحل.
والعرفط (بضم العين والفاء وتسكين الراء): شجر خبيث الريح، وهو من أخبث =
وهذا قول ابن أبي مليكة، وعبد الله بن عتبة.
وروى عبيد بن عمير عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها عسلًا ثم ذكر القصة (٢)، ونحو هذا ذكر أبو إسحاق (٣). وفي تفسير عطاء الخراساني أن التي كانت تسقي رسول الله العسل أم سلمة (٤).
وقال المقاتلان:... رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت حفصة، فزارت أباها فلما رجعت أبصرت مارية... النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت وقالت: إني رأيت مارية معك في البيت، وكان ذلك في يوم عائشة،
(١) حديث متفق عليه، وهو هنا بألفاظ قريبة مما في الصحيح.
وانظر: "صحيح البخاري"، كتاب: الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك ٧/ ٥٦٠ ومسلم، كتاب: الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق ٢/ ١١٠١، "سنن أبي داود" كتاب: الأشربة، باب: في شراب العسل ٢/ ٧٠٨، و"سنن النسائي"، كتاب: الطلاق، باب: تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ ٢/ ٧٢١، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٠٢.
(٢) متفق عليه. رواه البخاري، في التفسير، سورة التحريم ٦/ ١٩٤. ومسلم كتاب: الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق ٢/ ١١٠٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩١.
(٤) أخرجه ابن سعد، عن عبد الله بن رافع. "الدر" ٦/ ٢٣٩.
وروى عطاء عن ابن عباس أن هذه القصة وقعت في بيت (٣) عائشة -وعائشة كانت عند أمها- وعلمت حفصة بذلك، فأخبرت عائشة (٤)... عائشة: في بيتي، وفي يومي؟ فأرضا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن حلف لها أن لا يصيبها (٥). وهذا قول الحسن، ومجاهد، وقتادة، والشعبي، ومسروق، ورواية ثابت عن أنس (٦).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٩ ب، و"تنوير المقباس" ٦/ ٩٦، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٤٧ أ.
(٣) (بيت) ساقطة من (ك).
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠١، و"الدر" ٦/ ٢٣٩.
(٥) في (س): (والشعبي) زيادة.
(٦) أخرجه الحاكم ٢/ ٤٩٣ وصححه. قال ابن حجر: وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أنس... وهذا أصح طريق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال... وذكره بأطول مما هنا. "فتح الباري" ٩/ ٣٧٦، وفي "تفسير ابن كثير" ٤/ ٣٨٦ قال: وقال الهيثم بن كليب في "مسنده":.. وذكر ما يدل على تعلق القصة بمارية. ثم قال: وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الضياء المقدسي في كتابه المستخرج. ورجح النووي، وابن كثير نزول الآية في قصة العسل، وهو قول القاضي عياض. انظر: "شرح النووي على مسلم" ١٠/ ٧٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٨٦. ورجح الجصاص، وابن حجر، وغيرهما نزولها في شأن مارية القبطية.
انظر: "أحكام القرآن" ٣/ ٤٦٤، و"فتح الباري" ٩/ ٢٩٠، و"فتح القدير" ٥/ ٢٥٢. وقال ابن حجر أيضًا: فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معًا. "الفتح" ٨/ ٦٥٧.=
وقال الشعبي: كان مع الحرام يمين فعوتب في الحرام وأمر أن يكفر اليمين، فذلك قوله: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (٢).
قال صاحب النظم: قوله: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ﴾ استفهام فيه إنكار، والإنكار من الله عز وجل نهي، وتحريم الحلال (٣) مكروه، ولا يحرم الحلال إلا بتحريم الله عز وجل (٤).
قال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: جعلت امرأتي عليّ حرام قال: كذبت، ليس عليك حرام، ثم تلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ الآية، عليك أغلظ الكفارات رقبة (٥). قوله تعالى: {تَبْتَغِي
وعموم الآية للسببين وغيرهما هو اختيار ابن جرير وغيره. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٢، و"روح المعاني" ٢٨/ ١٥١.
(١) أخرجه ابن جرير وابن سعد. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٠، و"الدر" ٦/ ٢٤٠. وقال ابن حجر: ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال:... وذكر نحوه. "فتح الباري" ٨/ ٦٥٧.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٠.
وقال ابن حجر: قال البيهقي: (.. أخرجه الترمذي، وابن ماجه بسند رجاله ثقات من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق.) "فتح الباري" ٩/ ٣٧٣.
(٣) في (ك): (الحرام).
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤٢.
(٥) أخرجه النسائي، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٤٩٣ ولم يذكر قوله: عليك أغلظ =
٢ - قوله تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قال مقاتل: يعني قد بين الله، كما قال: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور: ١] (٢). وقال غيره: قد أوجب، وهو اختيار ابن قتيبة (٣).
وذكر صاحب النظم القولين، وقال: إذا وصل بعلى لم يحتمل غير الإيجاب كقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ﴾ [سورة الأحزاب: ٥٠]، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين، فإن حمل على الإيجاب كان اللام بمعنى على كقوله: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] وقوله: ﴿تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ أي تحليلها بالكفارة.
و ﴿تَحِلَّةَ﴾ على وزن تفعلة، وأصله تحللة فأدغمت (٤)، وتفعلة من مصادر تفعل كالتوصية، والتسمية. ومن المضاعف التعزة والتغرة. وتحلة القسم تكون بمعنيين:
أحدهما: تحليله بالكفارة كالذي في هذه الآية.
والآخر: يستعمل بمعنى الشيء القليل. وهذا هو الأكثر في
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤٢.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٩ ب، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٤٣.
(٣) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٧٢.
(٤) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٦٢: حيث أدغمت اللام في اللام.
أرى إبلي عاقت جدود فلم تذق | بها قطرةً إلا تحلَّة مقسم |
قال مقاتل: قد بين الله كفارة أيمانكم في المائدة [: ٨٩]. والذين رووا من المفسرين أنه حلف قالوا: تلزم الكفارة في تحريمه الجارية على نفسه، كما تلزم في اليمين (٤).
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الحرام يمين (٥). والحكم في
(٢) متفق عليه، و"صحح البخاري"، كتاب: الأيمان، باب قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ ٨/ ١٦٧، و"صحيح مسلم"، كتاب: الأدب، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه ٤/ ٢٠٢٨، ولفظه: "يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم".
(٣) ورد البيت في "اللسان" ١/ ٧٠٥ (حلل) ولم ينسبه.
(٤) وهو قول قتادة، ومسروق، والشعبي، وزيد بن أسلم، والضحاك، وغيرهم. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٠، و"زاد المسير" ٨/ ٣٠٧، و"الدر" ٦/ ٢٤٠.
(٥) أخرجه البخاري في مواضع، ولفظه: (إذا حرم امرأته ليس بشيء). وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ كتاب الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك ٧/ ٥٦، وفي كتاب التفسير، باب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ﴾، ولفظه: (في الحرام يكفر) ٦/ ١٩٤. =
وأخرجه مسلم في كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق ٢/ ١١٠٠.
(١) وبه قال عامة أهل العلم. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤٦٥، و"المغني" ١٠/ ٦١، و"فتح الباري" ٩/ ٣٧١.
(٢) قال النووي: فيه قولان للشافعي أصحهما يلزمه كفارة يمين. "شرح النووي على مسلم" ١٠/ ٧٣، وقال ابن قدامة في "المغني" ١٠/ ٣٩٦: إذا قال لزوجته: أنت علي حرام وأطلق فهو ظهار. وقال الشافعي: لا شيء عليه. وله قول آخر عليه كفارة يمين، وليس بيمين.
(٣) وهو مذهب الشافعي، ومالك، والجمهور، وفي المسألة أربعة عشر مذهبًا كما حكاه القاضي عياض، وبلغت عند القرطبي ثمانية عشر، وزاد غيره عليها.
انظر: "شرح النووي على مسلم" ١٠/ ٧٤، و"فتح الباري" ٩/ ٣٧٢. وقال الألوسي: وهي في هذه المسألة كثيرة جدًّا، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضًا. "روح المعاني" ٢٨/ ١٤٩.
(٤) ورد في رواية البخاري في بلفظ: (وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا). قال ابن=
قال المقاتلان: أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يكفر يمينه ويراجع وليدته، فأعتق رقبة (١).
قال أبو إسحاق: وعلى التفسيرين ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله، ولم يجعل الله لنبيه أن يحرم إلا ما حرم الله (٢).
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾، أي: وليكم وناصركم، ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾ بخلقه، ﴿الْحَكِيمُ﴾ فيما فرض من حكمه.
٣ - قوله: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ قال أبو إسحاق: موضع (إذ) نصب كأنه قال: واذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا (٣)، يعني ما أسر إلى حفصة في تحريمه الجارية على نفسه واستكتمها ذلك (٤)، وقال جماعة من المفسرين: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى المغيرة والكراهية في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين. تحريم الأمة على نفسه، وبشرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر. وهذا قول
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ أ، وهو قول زيد بن أسلم وغيره. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ١٨٥.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٢.
(٣) (حديثًا) ساقطة من (س).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩١.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ قال ابن عباس: أخبرت به عائشة (٣) ﴿وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة، فأخبر (٤) النبي -صلى الله عليه وسلم- حفصة عند ذلك ببعض (٥) ما قالت، وهو قوله: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾ قال ابن عباس: عرف حفصة بعض ما أخبرت به عائشة: ﴿وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾، فلم يعرفه إياها على وجه التكريم والإغضاء (٦).
وقال مقاتل: ﴿وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ لم يخبرها أنك أخبرت عائشة أن أبا بكر وعمر يملكان (٧). فالذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر وعمر. ونحو هذا ذكر الزجاج (٨).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ أ، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٤٧ ب، وفي "مجمع الزوائد" ٧/ ١٢٦، ذكر الخبر عن أبي هريرة ثم قال: رواه الطبراني في "الأوسط"، من طريق موسى بن جعفر بن أبي كثير، عن عمه. قال الذهبي: مجهول وخبره ساقط. وذكر ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٣٩٠ تخريج الطبراني لذكر الخلافة عن ابن عباس. ثم قال: إسناده فيه نظر. واعتمد ما ورد في الصحيح.
وانظر: "تخريجات الكشاف" ص ١٧٦.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٩٦.
(٤) في (ك): (فأخبر الله) والصواب ما أثبته.
(٥) (ما) ساقطة من (س).
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤٣.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٤.
(٨) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٢، والذي فيه أنه عرف حفصة بعض ما أفضت به من الخبر دون التصريح بما عرفها به.
وقرئ (عرَفَ) مخففًا (٣)، ومعناه جازى عليه، ولا يجوز أن يكون (عرف) من العلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أظهره الله على ما كانت أفشته علم جميع ذلك، ولم يجز أن يعلم من ذلك مع إظهار الله إياه بعضه، ولكن يعلم جميعه، فإذا لم يجز حمله على هذا الوجه علمت أنه بمعنى المجازاة،
(٢) انظر: "زاد المسير" ٨/ ٣٠٩، و"الكشاف" ٤/ ١١٥، من طريق أبي صالح عن ابن عباس. والقولان في "تفسير ابن عباس" ٦/ ٩٧.
قال ابن حجر: قوله: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً لقوله: بل شربت عسلًا) هذا القدر بقية الحديث.. وكأن المعنى: وأما المراد بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ فهو لأجل قوله: (بل شربت عسلًا)، والنكتة فيه أن هذه الآية داخلة في الآيات الماضية، لأنها قبل قوله: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾.
قلت: وما ذكر من أمر الخلافة لا وجه له إذ يستبعد جمع أمر خاص به -صلى الله عليه وسلم- مع خلافة المسلمين العامة، ثم ما الذي منع عائشة وحفصة -رضي الله عنهما- من ذكر هذا الأمر بعد موته -صلى الله عليه وسلم- وما حصل أو كاد أن يحصل بين المهاجرين والأنصار، وهل كان الصديق أو الفاروق يحرص على تولي أمر المسلمين، وهل كانت عائشة أو حفصة كذلك، وعائشة هي التي كانت تشير عليه -صلى الله عليه وسلم- بأمر عمر بالصلاة دون أبيها، لو كانت علمت ذلك من قبل هل كانت ستشير بهذا؟
(٣) قرأ الكسائي ﴿عَرَّفَ﴾ بتخفيف الراء، وقرأ الباقون بتشديدها.
انظر: "حجة القراءات" ص ٧١٣، و"النشر" ٢/ ٣٨٨، و"الإتحاف" ص ٤١٩.
(٢) من قوله: (جازى عليه...) إلى هنا كلامه، وفيه تصرف من الواحدي. وانظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٣٠١ - ٣٠٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦٦، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٢، و"زاد المسير" ٨/ ٣٠٨.
قلت: تطليق حفصة رضي الله عنها يرده ما في الصحيح، وفيه عن عمر قال: فقلت: أطلقت يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءك؟ فرفع رأسه إليّ وقال: لا. فقلت: الله أكبر. وفي رواية (أطلقتهن؟ فقال: لا. فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه) وفرحه -رضي الله عنه- لما علم بأنه لم يطلق حفصة، ولو كانت طلقت لحزن؛ إذ في إمساكها دليل على فضل آل الخطاب وخيريتهم، وفي "تفسير مقاتل" ١٦٠ أأنه لم يطلقها وأنها من نسائه في الجنة.
وانظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الطلاق، باب: بيان أن تخيير المرأة لا يكون طلاقًا إلا بالنية ٢/ ١١٠٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٨٩.
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٦٢، ومما قال: وقراءة الكسائي: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾ وردها أبو عبيد ردًّا شنيعًا.. قال أبو جعفر: وهذا الرد لا يلزم، والقراءة معروفة عن جماعة منهم أبو عبد الرحمن السلمي.
والمراد بالجمع في قوله: ﴿قُلُوبُكُمَا﴾ التثنية. قال الفراء: وإنما اختير الجمع على التثنية؛ لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الإنسان، كاليدين والرجلين والعينين، فلما جرى أكثره على هذا ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى الاثنين مذهب الاثنين (٤). وقد ذكرنا شرح هذا عند قوله: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨]، وتفسير الصغو قد تقدم أيضًا عند قوله: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ﴾ (٥) [الأنعام: ١١٣].
(٢) في (س): (قلبهما) وهو قول ابن زيد. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٤، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٤٨ ب.
قال الألوسي: وإنما لم يفسروا: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ بمالت إلى الواجب، أو الحق، أو الخير، حتى يصح جعله جوابًا من غير احتياج إلى نحو ما تقدم؛ لأن صيغة الماضي، وقد، وقراءة ابن مسعود: (فقد زاغت قلوبكما) وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف. انظر: "روح المعاني" ٢٨/ ١٥٢.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ١٨٩.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤٤.
(٥) والصغا: ميل في الحنك أو إحدى الشفتين، وأصغيت الإناء إذا أملته. انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٥٩، و"اللسان" ٢/ ٤٤٥ (صغا).
وروى ذلك عن عبد الله مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر" (٦).
وقال المسيب بن شريك (٧): هو أبو بكر (٨).
وقال سعيد بن جبير: هو عمر (٩).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٩٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٦، و"زاد المسير" ٨/ ٣١٠.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ أ.
(٤) في (ك): (والنبيين).
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤٤، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٩١.
(٦) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٢٧: رواه الطبراني وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو متروك.
(٧) مسيب بن شريك. أبو سعيد التميمي. سكتوا عنه، مات سنة ١٨٦ هـ انظر: "التاريخ الكبير" ٧/ ٤٠٨.
(٨) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٩ ب، و"زاد المسير" ٨/ ٣١٠، عن مكحول عن أبي أمامة.
(٩) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٩ ب، و"الدر" ٦/ ٢٤٤، ونسب إخراجه لسعيد ابن منصور وابن سعد وابن المنذر.
قال الفراء: وصالح المؤمنين مثل أبي بكر وعمر، الذين ليس فيهم نفاق، وهو موحد في مذهب جمع كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا سيسة للحرب فقد أمر بالمجيء واحداً كان أو أكثر (٣).
وقال الزجاج: وصالح المؤمنين هاهنا ينوب عن الجميع كما تقول: يفعل هذا الخيرُ من الناس؛ تريد كل خيّر (٤)، هذا كلامهما. وقد حصل أن قوله: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يجوز أن يراد به الواحد والجماعة، ثم الكلام في التعيين والتفصيل يكون إلى المفسرين على ما حكينا عنهم.
وقال قتادة وسفيان: صالح المؤمنين هم الأنبياء (٥). وعلى هذا معنى الآية: أن الأنبياء يوالونه وهم له أولياء، كما أن الله تعالى وليه وجبريل وليه. أي فلا يضره معاداة من عاداه.
وأظهر هذه الأقوال قول من قال: إن المراد بصالح المؤمنين أبو بكر وعمر؛ لأن الخطاب في هذه الآية لابنتيهما عائشة وحفصة، وكأنه قيل لهمما: إن تعاونتما على إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن أبويكما لا يوافقانكما ولا
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٦٧.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٣.
(٥) انظر:"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٢، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٠٥.
قلت: وهذا المعنى بعيد عن ظاهر الآية، وأي فائدة في موالاة الأنبياء عليهم السلام لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة، والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ قال مقاتل: بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين: ﴿ظَهِيرٌ﴾ قال يعني: أعوان النبي -صلى الله عليه وسلم- (٢).
قال أبو عبيدة، والفراء، والزجاج: وظهير في معنى ظهراء، وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع (٣) كقوله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩]، وقد ذكرنا هذا في مواضع. قال الفراء: والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير (٤). قال أبو علي: وقد جاء فعيل مفردًا يراد به الكثرة، كقوله: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ [المعارج: ١٠ - ١١]، فدل عود الذكر
قلت: وممن قال بعموم اللفظ ابن جرير والنحاس وغيرهما.
انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٨، و"روح المعاني" ٢٨/ ١٥٤.
وقال النحاس: فمن أصح ما قيل فيه أنه لكل صالح من المؤمنين، ولا يخص به واحد إلا بتوقيف. "إعراب القرآن" ٣/ ٤٦٢، وفي "تنوير المقباس" ٦/ ٩٨ قال: (جملة المؤمنين المخلصين أعوان له عليكما مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- ومن دونهم...).
وعلى هذا فحمل الآية على عمومها أولى وآكد والصديق والفاروق أولى الناس بنصرة النبي وموالاته، ولو فرض -وهو محال- أنهما نصرا ابنتيهما فبقية المؤمنين في نصرة النبي ومؤازرته -صلى الله عليه وسلم-. وهذا أبلغ في حق عائشة وحفصة -رضي الله عنهما-.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٦.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٦١، و"معاني القرآن" ٣/ ١٦٧، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٣.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٦٧.
٥ - ثم خوف نساءه بقوله: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ الآية. قال الضحاك: كل عسى في القرآن فهو واجب. والمفسرون يقولون: عسى من الله واجب (٢). والمعنى: واجب من الله إن طلقكن رسوله أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، والله تعالى كان عالمًا أنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدل خيرًا منهن؛ تخويفًا لهن؛ وهذا كقوله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨]، والأكثر في قوله: ﴿طَلَّقَكُنَّ﴾ الإظهار، وروي عن أبي عمرو الإدغام (٣).
ولإدغام القاف في الكاف حسن، لأنهما من حروف الفم، وأصل الإدغام أن يكون فيما دون حرف الطرفين الحلق والشفة، فإن ترك الإدغام فيهما حسن، لأنهما من أول مخارج الحرف فأشبها حرف الحلق لقربهما منها كما أن الخاء والغين لما كانتا من أول مخارج الحلق وأقربهما إلى الفم أجريا مجرى حروف الفم في أن لم تبين النون معهما في بعض اللغات. وهو رواية أبي نشيط (٤) عن قالون، وقراءة أبي جعفر، وكذلك
(٢) انظر: "جامع البيان" ٥/ ١١٧، و"المحرر الوجيز" ٢/ ١٥٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٨٥، و"اللسان" ٢/ ٧٨١ (عسى).
(٣) انظر: "النشر" ١/ ٢٨٦، و"الإتحاف" ٢٢ - ٢٣.
(٤) هو محمد بن هارون، مقرئ جليل ضابط مشهور. قال ابن أبي حاتم: صدوق، سمعت مه مع أبي ببغداد، قلت: وسمع منه أبوه -وأثنى عليه- ومحمد بن مؤمل الناقد وجماعة. وكان ثقةً. توفي سنة ٢٥٨ هـ ووهم من قال غير ذلك. انظر: "غاية النهاية" ٢/ ٢٧٢، و"سير النبلاء" ١٢/ ٣٢٤، و"تاريخ بغداد" ٣/ ٣٥٢، و"تهذيب التهذيب" ٩/ ٤٩٣.
ثم نعت تلك الأزواج التي كان يبدله لو طلق نساءه، فقال: ﴿مُسْلِمَاتٍ﴾ أي: خاضعات لله بالطاعة، ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ مصدقات بتوحيد الله، ﴿قَانِتَاتٍ﴾ طائعات، ﴿سَائِحَاتٍ﴾ قال المفسرون: صائمات. وذكرنا تفسير الكلام فيه عند قوله: ﴿السَّائِحُونَ﴾ (٢) [التوبة: ١١٢]. قوله: ﴿ثَيِّبَاتٍ﴾ جمع ثيب. قال الليث: وهي المرأة التي قد تزوجت فبانت بأي وجه (٣) كان، فعادت كما كانت غير ذات زوج قبل التزوج، أو تزوجت بعد ذلك (٤)، ولا يوصف به الرجل إلا أن يقال: ولد الثيبين كما يقال: ولد البكرين. وجاء في الخبر: "الثيبان يرجمان" (٥).
قال الأزهري: كأنه قيل لها ثيب؛ لأنها عادت إلى حالتها الأولى قبل
(٢) وممن فسرها بالصائمات ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وقتادة.
انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ١٩٣. ونسبه الزجاج لأهل التفسير وأهل اللغة. "معاني القرآن" ٥/ ١٩٤، و"اللسان" ٣/ ٣٢٣ (سيح). وقال الفراء: ونرى أن الصائم إنما سمي سائحًا أن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد، فكأنه أخذ من ذلك. "معاني القرآن" ٣/ ١٦٧.
(٣) في (ك): (بوجه ما) بدلاً من (بأي وجه)، والصواب ما أثبته.
(٤) في (س): (قبل التزوج، أو تزوجت بعد ذلك) زيادة وبعدها عبارة مطموسة.
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عن مسروق عن أبي بن كعب (البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يجلدان ويرجمان)، وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسروق: (البكران يجلدان وينفيان، والثيبان يرجمان ولا يجلدان، والشيخان يجلدان ثم يرجمان) ورجاله رجال الصحيح. "فتح الباري" ١٢/ ١٥٧.
قوله تعالى: ﴿وَأَبْكَارًا﴾ يريد عذارى.
٦ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (٢) قال ابن عباس: أي بالانتهاء عما نهاكم الله عنه، والعمل بطاعته (٣)، ﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾ قال عمر: يا رسول الله: هذا نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟ قال: "تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمركم الله به" (٤). ونحو هذا قال جماعة المفسرين.
قال مقاتل بن حيان: يعني أن يؤدب الرجل المسلم نفسه وأهله فيعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، فذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه وأهله وعبيده وإمائه في تأديبهم وتعليمهم (٥).
وقال علي -رضي الله عنه- (٦) في هذه الآية: علموهم وأدبوهم (٧).
(٢) في (ك): (أنفسكم وأهليكم).
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٧، وأخرج ابن جرير وغيره عنه قال: (اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار). انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩١، و"الدر" ٦/ ٢٤٤.
(٤) ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" ٨/ ٢٩٢، بدون سند. ونحوه روى ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ فقالوا: يا رسول الله: كيف نقي أهلنا نارًا. قال: (تأمرونهم بما يحبه الله وتنهونهم عما يكره الله) "الدر" ٦/ ٢٤٤.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٤٦، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩١.
(٦) في (ك): (رحمه الله).
(٧) أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم، وصححه ولفظه (علموا أهليكم خيرًا). انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٣، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٠٧، و"المستدرك" =
قال ابن عمر لرجل: أدب ابنك فإنك مسؤول عن ولدك (٣)، كيف أدبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك وطاعتك (٤).
وقال أبو ذر: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أخف أهلك ولا ترفع عنهم عطاءك" (٥).
وقال أبو إسحاق: المعنى: خذوا أنفسكم وأهليكم بما يقرب من الله، وجنبوا أنفسكم وأهليكم المعاصي (٦).
وقال مقاتل: قوا أنفسكم وأهليكم المعاصي بالأدب الصالح النار في الآخرة (٧). وهو قوله: ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، وقد سبق تفسيره في سورة البقرة (٨).
(١) أخرج سعيد بن منصور نحوه عن الحسين. انظر: "فتح الباري" ٨/ ٢٥٩.
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٣، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٠٧، و"الدر" ٦/ ٢٤٤.
(٣) في (ك): (كيف).
(٤) و (٥) لم أجده.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٤.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ أ.
(٨) عند تفسيره الآية (٢٤) من سورة البقرة قال: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾، أي: فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم، وإنما قيل لهم هذا بعد أن ثبتت الحجة عليهم في التوحيد وصدق محمد ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ﴾ قال ابن السكيت: الوُقود بالضم المصدر. يقال: وقدت النار تقد وقودًا. ويقال: ما أجود هذا الوقود للحطب. ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ جمع =
وقوله: ﴿شِدَادٌ﴾ أي أقوياء. قالا: وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم (٤).
٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ قال أبو إسحاق: معناه توبة بالغة في (٥) النصح (٦).
وقال الفراء: ﴿نَصُوحًا﴾ من صفة التوبة، ومعناه يحدث نفسه إذا تاب
(١) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥١ ب، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٩٢، و"روح المعاني" ٢٨/ ١٥٧، ولم ينسب لقائل.
(٢) في (ك): (فقال) زيادة.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب، و"الدر" ٦/ ٢٤٤، وذكر تخريج ابن جريج له عن كعب بلفظ: (ما بين منكب الخازن من خزنتها مسيرة سنة...)، وهذا مما نقل عن أهل الكتاب، والله أعلم.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب، و"زاد المسير" ٨/ ٣١٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ١٩٦.
(٥) في (ك): (من).
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٤.
وروي عن عاصم (نصوحًا) بضم النون (٤). قال الفراء: أراد المصدر مثل القعود. ونحو ذلك قال المبرد (٥) والزجاج. يقال: نصحت لهم نصحًا ونصاحة ونصوحًا (٦)، ويحتمل المصدر هاهنا معنيين:
أحدهما: أنه أراد توبة ناصحة، يسمى الفاعل باسم المصدر.
ويجوز أن يريد به توبة ذات نصوح. وقال أبو زيد نصحته: صدقته، وتوبة نصوح: صادقة (٧). وأما قول المفسرين فإنهم كلهم على أن التوبة النصوح هي التي لا يعاود صاحبها بعدها الذنب.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: التوبة النصوح أن يجتنب الرجل عمل السوء ثم لا يعود إليه أبدًا (٨).
(٢) في (س): (هذا قالا).
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٨، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥١ أ، و"الدر" ٦/ ٢٤٥.
(٤) قرأ عاصم ﴿نُصُوحًا﴾ بضم النون، وقرأ الباقون ﴿نَّصُوحًا﴾ بفتحها. انظر: "حجة القراءات" ص ٧١٤، و"النشر" ٢/ ٣٨٨، و"الاتحاف" ص ٤١٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦٨، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٣٠٣، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥١ أ.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٩٤.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٥٠، و"اللسان" ٣/ ٦٤٦ (نصح).
(٨) أخرجه ابن جرير ٢٨/ ١٠٨، وابن أبي حاتم، والحاكم ٢/ ٤٩٥، وصححه، وعبد الرزاق. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٣، و"الدر" ٦/ ٢٤٥.
وقوله: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ مفسر في سورة الحديد.
قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا﴾ إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة. وهذا معنى قول ابن عباس: لا تطفئه كما أطفأت نور المنافقين (٦).
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٧، عن عمر، وأبي، ومعاذ.
وهو المعنى الذي ذكره مقاتل بن سليمان في "تفسيره" ١٦٠/ ب، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن مجاهد ١٣/ ٥٦٨.
(٣) (الجنة) ساقطة من (س).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب.
(٥) قال: الإخزاء يرد على معان يقرب بعضها من بعض. قال الزجاج: أخزى الله العدو أي أبعده. وقال غيره: الخزي: الهوان، وأخزاه الله، أي: أهانه. وقال شمر: أخزيته: فضحته، وفي القرآن: ﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾. وقال ابن الأنباري: معنى الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو بوقوع في بلاء.
وانظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٤٩٠، و"اللسان" ١/ ٨٢٩، و"المفردات" (١٤٧) (خزي).
(٦) وهو قول مجاهد، والضحاك، والحسن. انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٠، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٨٤، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٠٨، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٢، و"المستدرك" ٢/ ٤٩٦.
٩ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ مفسر في سورة براءة (١).
١٠ - قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ﴾ قال صاحب النظم: نظمه: ضرب الله امرأة نوحٍ وامرأة لوط للذين كفروا مثلًا. ثم بين حالهما فقال: ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ﴾ يعني نوحًا ولوطًا.
وقوله: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ قال عطاء عن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون، وكانت امرأة لوط إذا نزل به الضيف بالليل أوقدت النار حتى يعلم قومه أنه قد نزل به ضيف، وإذا نزل به بالنهار (٢) دخنت (٣).
وروى الضحاك عنه قال: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما
﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ يقال: غلظ الشيء يغلط غلظًا في الخلقة، ثم يقال: رجل غليظ إذا كان فظًّا، وغلظ له القول وأغلظ إذا لم يرفق به.. والغلظة قوة في القلب على إحلال الألم بصاحبه، كما أن الرفق ضعف القلب عن ذلك. قال ابن عباس: يريد شدة الانتهار والنظر بالبغضة والمقت. وقال ابن مسعود: هو أن يكفهر في وجوههم.
(٢) في (ك): (النهار) والصواب ما أثبته.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٨، و"زاد المسير" ٨/ ٣١٥، وأخرجه الحاكم وصححه، وابن جرير، وعبد الرزاق نحوه.
انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٩، و"المستدرك" ٢/ ٤٩٦، و"الدر" ٦/ ٢٤٥.
وروى أن ابن عباس سئل عن قوله ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ قال: ليس بالزنا، ولكن كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف (٣).
وقال مقاتل: كانتا مخالفتين لدينهما (٤).
وقال الكلبي: أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان (٥).
هذا ما ذكره المفسرون في تفسير خيانة امرأة نوح وامرأة لوط، وقد حصل من هذا أن خيانتهما لم تكن في بغاء، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يبتليهم الله في نسائهم بفساد، وإنما كانت في الدين (٦).
قوله تعالى: ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ أي: لم يدفعا عنهما عذاب الله مع كفرهما. وقال مقاتل والكلبي (٧): يخون عائشة وحفصة في تظاهرهما على الرسول. أي إن عصيا ربهما لم يغن محمد عنهما من الله شيئاً (٨).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٣.
(٣) أخرجه ابن جرير، وذكره الثعلبي بألفاظ مقاربة لما هنا.
انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٩، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٢ ب.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٨٦، و"زاد المسير" ٨/ ٣١٥.
(٦) قال القرطبي: وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكره القشيري. انظر: "الجامع" ١٨/ ٢٠٢، و"أضواء البيان" ٨/ ٣٨١.
(٧) في (س): (وقوله وقال الكلبي ومقاتل).
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٦٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٢ ب.
قال أبو إسحاق: أعلم الله أن الأنبياء لا يغنون عمن عمل بالمعاصي شيئًا (٣). وقال المفسرون: قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره (٤).
١١ - ثم أخبر أن معصية الغير لا تضره إذا كان مطيعًا (٥)، وهو قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾، وهي آسية بنت مزاحم، كانت قد آمنت بموسى، وسألت الله بيتًا في الجنة.
فقالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ ومعنى عندك أي لا يتصرف فيه إلا بإذنك، وهو الجنة (٦). قال المفسرون: كانت تعذب في الله لأجل إيمانها، فسألت الله بيتًا في الجنة، فاستجاب الله لها، فنظرت إلى
(٢) انظر: " التفسير الكبير" ٣٠/ ٥١، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٣، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٩٤.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٨.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٣/ أ.
(٦) قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار. انظر: "البحر المحيط" ٨/ ١٩٤، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٤.
قلت: لعل مراد المؤلف -رحمه الله- قرب المنزل من الله تعالى، وأنها أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة، فتكون في الجنان القريبة من العرش، أما إذا كان مراده تأويل معنى ﴿عِنْدَكَ﴾ بنفي العلو عن الله تعالى، فهو قول ترده آيات كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مخالف لما عليه سلف الأمة. والله أعلم.
قوله: ﴿وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ قال مقاتل: وعمله الشرك (٢). وروى أبو صالح (٣) عن ابن عباس: ﴿وَعَمَلِهِ﴾ قال: جماعه (٤). ﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ قال الكلبي ومقاتل: المشركين أهل مصر (٥).
قال صاحب النظم: وتأويل الآية أن من كان مؤمنًا وعمل صالحًا لم يضره كفر حميمه ووليه وفساده (٦).
قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض على الله وأبعدهم من الله. فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا، أن الله حكم عدل لا يؤاخذ عبدًا إلا بذنبه (٧).
وقال مقاتل: يقول لعائشة وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية. وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم (٨).
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ وقد تقدم
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٨.
(٣) في (س): (أبو صالح) زيادة.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٥٣ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٠٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٠٣.
(٦) لم أجده، وهو ما ذكره غيره من المفسرين. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١١٠.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٠٩، و"الدر" ٦/ ٢٤٥، ونسب إخراجه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦٠ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٨/ ٢٠٢، عن يحيي ابن سلام.
قال مقاتل: أحصنت فرجها عن الفواحش، وإنما ذكرت بذلك لأنها قذفت بالزنا (٢). وقال الكلبي: يعني فرجها ثوبها (٣).
قال الزجاج: والعرب تقول للعفيف: هو نقي الثوب وهو طيب الحُجْزة. تريد أنه عفيف، وأنشد للنابغة (٤):
رقاق النعال طيب حجزاتهم | يحيون بالريحان يوم السباسب |
قال مقاتل: يعني في الجيب، وذلك أن جبريل مد حبيب درعها بإصبعه ثم نفخ في جيبها، فحملت (٧). وهذا قول جماعة المفسرين (٨). ومن حمل الفرج على حقيقته في هذه الآية جعل الكناية في قوله: (فيه) من غير
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ أ، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٠.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٣، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦٩، ونسبه للمفسرين.
(٤) "ديوان النابغة الذبياني" ص ٤٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ١٢٤، و"اللسان" ١/ ٥٧٤ (حجز)، و"الخزانة" ٤/ ٣٩٣.
والسباسب والبسابس: القفار، واحدها: سبسب وبسبس، ومنه قيل للأباطيل: الترهات البسابس. "تهذيب اللغة" ١٢/ ٣١٥ (سب).
(٥) في (س): (ونحو هذا قال الفراء وهو مستقصي فيما تقدم) زيادة، وانظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦٩.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩٦.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ أ.
(٨) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٣، و"جامع البيان" ٢٨/ ١١٠، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٩٤.
قوله تعالى: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ قال مقاتل: يعني بعيسى أنه نبي الله (٢)، ويدل على هذا قراءة الحسن (بكلمةِ ربها) على الواحد (٣). وعيسى سمي كلمة الله في مواضع من القرآن (٤)، وجمعت تلك الكلمة هاهنا فذكرت باسم الجمع.
وقال أبو علي الفارسي: الكلمات تكون الشرائع التي شرع لها دون القول، لأن ذلك قد استغرقه.
قوله تعالى: ﴿وَكُتُبِهِ﴾ وكأن المعنى: صدقت بالشرائع التي ابتلي بها إبراهيم فأخذت بها وصدقت الكتاب فلم تكذب بها، وإنما سميت الشرائع كلمات كما سميت الشرائع (٥) التي ابتلي بها إبراهيم كلمات في قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] وقد مر. وهذا الذي ذكرناه قول أبي علي (٦). وهو معنى قول ابن عباس بكلمات ربها التي جاء بها جبريل. وقوله: ﴿وَكُتُبِهِ﴾ قال: التي أنزل على إبراهيم وموسى وداود وعيسى (٧).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ أ، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٥.
(٣) قرأ بها الحسن، وأبو العالية، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري، وغيرهم. انظر: "زاد المسير" ٨/ ٣١٦، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٩٥.
(٤) وردت بهذا المعنى في الآيتين (٣٩، ٤٥) من سورة آل عمران، (١٧١) من سورة النساء.
(٥) (س): (كلمات كما سميت الشرائع) زيادة.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٠.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٣، و"الوسيط" ٤/ ٣٢٤.
والمراد به الكثرة (٢) والشياع أيضًا. وقد يجيء ذلك في الأسماء المضافة كما جاء في المفردة التي بالألف واللام، كقوله: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤]، فكما أن المراد بنعمة الله الكثرة، كذلك في قوله: (وكتابه) (٣).
قوله تعالى: ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ قال ابن عباس: من الطائعين لله عز وجل (٤).
قال مقاتل: من المطيعين لربها (٥). وقال عطاء: من المصلين (٦).
قيل: كانت تصلي بين المغرب والعشاء.
وقال قتادة: كانت من القوم المطيعين (٧). ولهذا قال: ﴿مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ دون القانتات: لأنه أراد القوم، وهو عام، كقوله: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: ٤٣]، ومعنى من القوم القانتين أي من الذين (٨) هم مقيمون على طاعة الله. ويجوز أن يراد قومها، وذلك أن رهطها الذين كانت منهم
(٢) في (ك): (الكثير).
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٣٠٤.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٠٤، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٠.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٦١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٨.
(٦) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٦٨، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٥٥.
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٣، "جامع البيان" ٢٨/ ١١٠.
(٨) (س): (أي من الذين) زيادة.