ﰡ
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)قوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذا العذابُ الذي تَوَعَّدُوا بهِ، الأظْهَرُ أنَّه عذابُ الدنيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ عذابَ الآخرةِ.
وقوله: مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال قوم: «من» زائدةٌ وهذا نحوٌ كوفيٌّ، وأما الخليلُ وسيبويهِ فلا يجوزُ عندَهم زِيادَةٌ «من» في المُوجَبِ «١»، وقال قومٌ: هي للتبعيضِ، قال ع «٢» : وهَذَا القولُ عندي أبْيَنُ الأقوالِ هنا وذلك أنه لَوْ قَالَ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبَكُم لَعَمَّ هذَا اللفظُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الذنوبِ، ومَا تَأَخَّرَ عن إيمانِهم، والإسْلاَم إنَّما يَجُبُّ ما قبله.
وقوله سبحانه: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى كأنّ نوحا ع قال لهم:
وآمنوا يَبِنْ لَنَا أَنَّكُمْ ممن قُضِيَ له بالإيمان والتأخيرِ، وإنْ بَقِيتُم عَلى كُفْرِكُمْ فَسَيَبينُ أنكم ممن قُضِيَ عليه بالكفرِ والمُعَاجَلَةِ، ثم تبيَّنَ هذا المعنى ولاَح بقوله تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لاَ يُؤَخَّرُ وجَوابُ لو مقدرٌ/ يقتضِيه المعنى، كأنَّه قال: فَمَا كَانَ أحْزَمَكُمْ أو أَسْرَعَكُمْ إلَى التّوبة لو كنتم تعلمون.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٥ الى ١٠]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠)
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٧٢).
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ: معناه: جعلوها أغشية على رؤوسهم.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١١ الى ١٢]
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢)
وقوله: يُرْسِلِ السَّماءَ الآية، رُوِيَ أن قومَ نوحٍ كانوا قَدْ أصَابَتْهُمْ قُحُوطٌ وأزْمَةٌ فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر، ومِدْراراً من الدَّرِّ، ورَوَى ابنُ عباسٍ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرجاً، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ» «١» رواه أبو داود واللفظ له، والنسائيُّ وابن ماجه، ولفظ النسائيِّ «٢» :«من أكْثَرَ من الاستغفار»، انتهى من «السلاح».
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١٣ الى ١٥]
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥)
وقوله: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً قال أبو عبيدةَ وغيره: تَرْجُونَ معناه تَخَافُونَ «٣»، قالُوا: والوَقَارُ بمعنى العَظَمَةِ، فكأَنَّ الكلامَ عَلى هذا التأويلِ وَعِيدٌ وتخويفٌ، وقال بعض العلماء: تَرْجُونَ على بَابِها، وكأنه قال: مَا لَكُمْ لا تجعلون رجاءكم لله، ووَقاراً يكونُ على هذا التأويل منهم كأنه يقولُ: تَؤُدَةً مِنْكُمْ وتَمَكُّناً في النظر.
وقوله: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال ابن عباس وغيره: هي إشارة إلى التدريجِ الذي للإنْسَانِ في بطنِ أمه «٤»، وقال جماعة: هي إشارة إلى العِبْرَةِ في اختلاف خلق ألوان الناس
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي قائلا: الحكم فيه جهالة.
(٢) في د: وابن ماجه.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٧٤).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٢٥١)، رقم: (٣٥٠١٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٧٤)، وابن كثير (٤/ ٤٢٥).
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١٦ الى ٢٤]
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
وقوله سبحانه: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً... الآية، قال عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص وابن عباس: إن الشَّمْسَ والقمر أقْفَاؤهما إلى الأرض، وإقبال/ نورهما وارتفاعُه في السماء «١» وهذا الذي يقتضيه لفظ السّراج.
وأَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ: استعارَةٌ مِنْ حَيْثُ خُلِقَ آدم ع من الأرض.
ونَباتاً مصدرٌ جَاءَ على غير المصدر، التقديرُ: فَنَبَتُّم نَبَاتاً، والإعَادَةُ فيها بالدَّفْنِ، والإخراجُ هو بالبعثِ، وظاهر الآية: أنَّ الأرْضَ بسيطَةٌ غيرُ كُرِيَةً، واعتقادُ أحَدِ الأمْرَيْنِ غَيْرُ قَادِح في الشرْعِ بنفسِه، اللهمَّ إلاَّ أنْ يترتبَ «٢» على القولِ بالكُرِيَّةِ نَظَرٌ فاسِدٌ، وأما اعتقادُ كونِها بسيطةً، فهو ظاهِرُ كتابِ اللَّه تعالى، وهو الذي لاَ يَلْحَقُ عنه فسادٌ أَلْبَتَّةَ، واستدلَّ ابن مجاهد على صحَّة ذلك بماءِ البحر المُحِيطِ بالمَعْمُورِ فَقَال: لَوْ كانت الأرضُ كُرِيَّةً لَمَا اسْتَقَرَّ المَاءُ عَلَيْهَا «٣»، والسُّبُلُ الطرقُ، والفجاجُ الواسعةُ، وقولُ نوحٍ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ... الآية، المعنى: اتّبعوا أشرافهم وغواتهم، وخَساراً: معناه: خسرانا، وكُبَّاراً: بناءُ مبالغةٍ نَحْوَ: حُسَّانَ وُقُرِىءَ «٤» شاذًّا: «كِبَاراً» - بكسْرِ الكَافِ- قال ابن الأنباري: جَمْعُ كبير.
(٢) في د: يتركب. [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٧٥).
(٤) قرأ بها ابن محيصن، وعيسى بن عمر.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٦٢)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٧٦)، و «البحر المحيط» (٨/ ٣٣٥)، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (٦/ ٣٨٥).
وقوله: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً هو إخبارُ نُوحٍ عن الأَشْرَافِ، ثم دَعَا اللَّهَ عليهم ألاَّ يَزِيدَهم إلا ضَلالاً، وقال الحسن: أراد بقوله: وَقَدْ/ أَضَلُّوا الأَصْنَامَ المذكورة «٣».
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
وقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ابتداء إخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تعالى لمحمَّد- عليه السلام- و «ما» في قوله: مِمَّا: زائدةٌ فكأَنه قال: مِنْ خطِيئَاتِهِم، وهي لابتداءِ الغَايَةِ، - ص-: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من للسببِ، ع «٤» : لابتداءِ الغايةِ و «ما» زائِدة للتَوْكيد، انتهى، فَأُدْخِلُوا نَاراً يعني جَهَنَّمَ، وقول نوح: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً قال قتادة وغيره: لم يَدْعُ نوحٌ بهذهِ الدعوةِ إلاَّ مِنْ بَعْدِ أنْ أُوحِيَ إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «٥» [هود: ٣٦] ودَيَّاراً أصْله: دَيْوَارٌ من الدَّوَرانِ، أي: من يجيءُ ويذهب.
وقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال ابن عباس: لم يَكْفُرْ لنوحٍ أبٌ مَا بَيْنَه وبين آدم عليه السلام «٦»، وقرأ أُبيُّ بن كعب «٧» :«ولأَبَوَيَّ»، وبيتُه المسجدُ فيما قاله ابن
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٣٩٩)، وابن كثير (٤/ ٤٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٢٧)، وعزاه للبخاري، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عبّاس.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٧٦).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٧٦).
(٥) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٧٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٢٨)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٦) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٧٧).
(٧) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٧٧).
وقوله: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ تعميمٌ بالدعاء لمؤمِني كلِّ أمَّةٍ، وقال بعض العلماء: إن الذي استجاب لنوح ع فأغْرَق بدعوتِه أهْلَ الأرضِ الكفارِ، لجديرٌ أن يستجيبَ له فَيَرْحَمَ بدعوتِهِ المؤْمنينَ، والتَّبَارُ: الهَلاَك.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٧٧).