تفسير سورة الأنفال

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
سورة الأنفال

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأنفال١ على بركة الله
هي مدنية كلها كذا قال أكثر الناس، وقال مقاتل هي مدنية غير آية واحدة وهي قوله تعالى ' ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ ' الآية كلها وهذه الآية نزلت في قصة وقعت بمكة ويمكن أن تنزل الآية في ذلك بالمدينة ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه٢.
١ - عدد آياتها خمس وسبعون آية، وعدد كلماتها (١٦٣١) إحدى وثلاثون وستمائة وألف كلمة، وعدد حروفها (٥٢٩٤) أربع وتسعون ومائتان وخمسة آلاف حرف..
٢ - وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي مدنية إلا سبع آيات، من قوله سبحانه: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾ إلى آخر السبع آيات. وهذه الآية هي رقم (٣٠) من السورة..

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
سورة الأنفال
بسم الله الرّحمن الرّحيم تفسير سورة الأنفال على بركة الله.
هي مدنية كلها كذا قال أكثر الناس، وقال مقاتل هي مدنية غير آية واحدة وهي قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية: ٣٠] الآية كلها وهذه الآية نزلت في قصة وقعت بمكة ويمكن أن تنزل الآية في ذلك بالمدينة، ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)
النفل والنفل والنافلة في كلام العرب الزيادة على الواجب، وسميت الغنيمة نفلا لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل، ومنه قول لبيد: [الرمل]
إنّ تقوى ربّنا خير نفل
أي خير غنيمة، وقول عنترة:
إنّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا ونعفّ عند مقاسم الأنفال
والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسئول، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم «الأنفال» فهو من الضرب الأول، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء «يسألونك الأنفال»، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى «من»، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب الْأَنْفالِ في هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله ﷺ افترقوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة أقامت مع رسول الله ﷺ في العريش
496
الذي صنع له وحمته وآنسته، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا.
وقال ابن عباس في كتاب الطبري: وكان رسول الله ﷺ قد حرض الناس قبل ذلك فقال: من قتل قتيلا أو أسر أسيرا فله كذا وله كذا، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها، وقالت نحن أولى بالمغنم، وساءت أخلاقهم في ذلك، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا، فقسمه حينئذ رسول الله ﷺ على السواء، وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن «الأنفال» فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله ﷺ وقسمه عليه السلام عن بواء.
قال القاضي أبو محمد: يريد عن سواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله ﷺ وصلاح ذات البين، مما جرى أيضا يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص، قال:
لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله: هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه، فقال: ليس هذا لي ولا لك، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت عليه سورة الأنفال، فقال: اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فهو لك.
قال القاضي أبو محمد: وفي بعض طرق هذا الحديث، قال سعد: فقلت لما قال لي ضعه في القبض إني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي، قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلفي، قال فقلت أخاف أن يكون نزل فيّ شيء، فقال: إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وأسند الطبري أيضا عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان يسمى المرزبان، فلما أمر رسول الله ﷺ أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به، فألقيته في النفل، وكان رسول الله ﷺ لا يمنع شيئا يسأله، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله ﷺ فأعطاه إياه.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة، لا سيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية، فرضي المسلمون وسلموا، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليهم غنائمهم، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد: كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب، ثم نسخ بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال: ٤١] وقال ابن زيد: لم يقع في الآية نسخ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول.
497
قال القاضي أبو محمد: وقال ابن عباس أيضا الْأَنْفالِ في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه، وهذا أيضا يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر. وقال علي بن صالح بن جني والحسن فيما حكى المهدوي: الْأَنْفالِ في الآية ما تجيء به السرايا خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة، بل يجيء خارجا عن يوم بدر، وقال مجاهد: الْأَنْفالِ في الآية الخمس، قال المهاجرون: لم يخرج منا هذا الخمس، فقال الله تعالى هو لله وللرسول، وهذا أيضا قول قليل التناسب مع الآية، وقال ابن عباس وعطاء أيضا: الْأَنْفالِ في الآية ما شد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس والغائر والعبد الآبق هو للنبي ﷺ يصنع فيه ما شاء، وقال ابن عباس أيضا: الْأَنْفالِ في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال: الْأَنْفالِ الأسارى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئا من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب من الاختلاف، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الجمهور: النفل باق إلى يوم القيامة، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة: إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده، وقالت فرقة: إنما ينفل الإمام قبل القتال، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلا فله كذا وكذا، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا، وقال الشافعي وابن حنبل: لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس، وقال إبراهيم النخعي: ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي: لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس: وقال ابن المسيب: إنما ينفل الإمام من خمس الخمس، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا، ولا أحب لأحد أن يسفك دما على مثل هذا، قال سحنون: فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة.
وقال مالك رحمه الله: لا يجوز أن يقول الإمام لسرية: ما أخذتم فلكم ثلثه، قال سحنون: يريد ابتداء، فإن نزل مضى ولهم أنصباؤهم في الباقي، وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية: ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى، ويستحب على مذهب مالك إن
498
نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا أو نحو هذا، وقال بعضهم: النفل جائز من كل شيء، وأما السلب فقال مالك رحمه الله: الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره، وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر: السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر: قال الإمام أولم يقله، وقال مالك: إذا قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه فذلك لازم، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد، وقال الشافعي وابن حنبل: تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة، وقال إسحاق بن راهويه:
إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل وإن كان كثيرا خمس، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا، فخمس ذلك، وروي في ذلك حديث عن النبي ﷺ هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود، وقال مكحول: السلب مغنم وفيه الخمس، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: يريد يخمس على القاتل وحده، وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم: ويجزىء شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال الشافعي: لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلا مشيحا مبارزا، وأما من قتل منهزما فلا، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف: للقاتل السلب منهزما كان القتيل أو غير منهزم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله ﷺ سلبه، وقال ابن حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط، واختلفوا في السلب، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافا أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه، وقال أحمد بن حنبل في الفرس: ليس من السلب، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دنانير أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافا أنه ليس من السلب، واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار، فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب، وقالت: فرقة: ليس من السلب، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب، قال ابن حبيب في الواضحة: والسوارين من السلب، ويرجح الشافعي هل هذه كلها من السلب أو لا؟
قال القاضي أبو محمد: وإذا قال الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه فقتل ذمي قتيلا فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ أهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلا فله سلبه.
قال القاضي أبو محمد: وأما الصفي فكان خالصا لرسول الله ﷺ وقوله عز وجل:
499
فَاتَّقُوا اللَّهَ معناها في الكلام، اجعل بينك وبين المحذور وقاية، وقوله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح، وذاتَ في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته، والذي يفهم من بَيْنِكُمْ هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه، وذلك في قوله: عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الأنفال: ٤٣] وذاتِ الشَّوْكَةِ [الأنفال: ٧] فإنها هاهنا مؤنثة قولهم: الذئب مغبوط بذي بطنه، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه، وقد تقال الذات أيضا بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم، ومنه قول الشاعر: [البسيط].
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ذات العشاء ولا تسري أفاعيها
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال: ذاتَ بَيْنِكُمْ الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء.
قال القاضي أبو محمد: ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض، وقال الزجاج البين هاهنا الوصل، ومثله قوله عز وجل: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: ٩٤].
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا كله نظر، وقوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عند ما ينفذه رسول الله ﷺ في الغنائم، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلا فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم وَأَطِيعُوا هذا عند سيبويه، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢ الى ٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
إِنَّمَا لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب كقوله أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الأنبياء: ١٠٨، فصلت: ٦] وغير ذلك من الأمثلة، وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت «إنما» للمبالغة والتأكيد فقط، كقوله عليه السلام «إنما الربا في النسيئة»، وكقوله «إنما الشجاع عنترة»، وأما من قال «إنما»، هي لبيان الموصوف فهي عبارة فاترة إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإخبار دون «إنما»، وقوله هاهنا إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ
ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط أي الكاملون، وَجِلَتْ معناه فزعت ورقت وخافت وبهذه المعاني فسرت العلماء، وقرأ ابن مسعود «فرقت»، وقرأ أبي بن كعب «فزعت»، يقال وجل يوجل ويأجل وييجل وهي شاذة وييجل بكسر الياء الأولى ووجه هذه أنهم لما أبدلوا الواو ياء لم يكن لذلك وجه قياس، فكسروا الياء الأولى ليجيء بدل الواو ياء لعلة، حكى هذه اللغات الأربع سيبويه رحمه الله، وتُلِيَتْ معناه سردت وقرئت، والآيات هنا القرآن المتلو، وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج عن نفس التصديق، منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكما من أحكام الله في القرآن فنزل على النبي ﷺ فسمعه فآمن به، زاد إيمانا إلى سائر ما قد آمن به، إذ لكل حكم تصديق خاص، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة، وتترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل، ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص وتترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات.
وهؤلاء يقولون يزيد وينقص، وقوله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعد ما تكفل له به من نصر أو رزق أو غيره، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل، ثم أتبع ذلك وعدهم ووسمهم بإقامة الصلاة ومدحهم بها حضا على ذلك، وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قال جماعة من المفسرين: هي الزكاة.
قال القاضي أبو محمد: وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة وإلا فهو لفظ عام في الزكاة ونوافل الخير وصلاة المستحقين، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل، وقوله «أولئك هم المؤمنين حقا» يريد كل المؤمنين، وحَقًّا مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه، وهو المصدر غير المتنقل، والعامل فيه أحق ذلك حقا. وقوله دَرَجاتٌ ظاهره، وهو قول الجمهور، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا، وقوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يريد به مآكل الجنة ومشاربها، وكَرِيمٌ صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٧]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)
اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله كَما حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان، وأنا أبدأ بهما، قال الفراء:
التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك، هذا نص قوله في هداية مكي
501
رحمه الله، والعبارة بقوله: امض لأمرك ونفل من شئت غير محررة، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم، فكانت فيه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي ﷺ فأخرجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم هاهنا للخروج، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه ﷺ من بيته، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله يُجادِلُونَكَ كلاما مستأنفا يراد به الكفار، أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها، كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي ذكرت من أن يُجادِلُونَكَ في الكفار منصوص والقول الثاني قال مجاهد والكسائي وغيرهما: المعنى في هذه الآية كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم.
قال القاضي أبو محمد: والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك، فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهية وكذلك وقع التشبيه في المعنى، وقائل هذه المقالة يقول إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول إن المجادلين هم المشركون، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ وقال الأخفش: الكاف نعت ل حَقًّا [الأنفال: ٤]، والتقدير هم المؤمنون حقا كما أخرجك.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق وقيل الكاف في موضع رفع والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر، وقال أبو عبيدة: هو قسم أي لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك بتقدير والذي أخرجك، فالكاف في معنى الواو و «ما» بمعنى الذي، وقال الزجّاج: الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لك ثباتا كما أخرجك ربك، وقيل: الكاف في موضع رفع والتقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حق كما أخرجك، وقيل المعنى: وأصلحوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف، وقيل التقدير: قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك، وهذا نحو أول قول ذكرته، وقال عكرمة: التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك أي الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيرا لكم، وقوله: مِنْ بَيْتِكَ يريد من المدينة يثرب، قاله جمهور المفسرين وقال ابن بكير:
المعنى كما أخرجك من مكة وقت الهجرة، وقرأ عبد الله بن مسعود: «في الحق بعد ما بين» بضم الباء من غير تاء، والضمير في قوله يُجادِلُونَكَ، قيل: هو للمؤمنين وقيل: للمشركين، فمن قال للمؤمنين جعل الْحَقِّ قتال مشركي قريش، ومن قال للمشركين جعل الْحَقِّ شريعة الإسلام، وقوله إِلَى الْمَوْتِ
502
أي في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون، وقوله وَهُمْ يَنْظُرُونَ حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله.
وقوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الآية، في هذه الآية قصص حسن أنا أختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرة رسول الله ﷺ لابن هشام، واختصاره أن رسول الله ﷺ لما بلغه وقيل أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها، قال لأصحابه إن عير قريش قد عنت لكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، قال فانبعث من معه من خف، وثقل قوم وكرهوا الخروج وأسرع رسول الله ﷺ لا يلوي على من تعذر ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله ﷺ لا يلقى حربا فلم يكثر استعدادهم، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله ﷺ بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستنفر أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله ﷺ خروجهم، أوحى الله إليه وحيا غير متلو يعده إحدى الطائفتين، فعرف رسول الله ﷺ أصحابه بذلك، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله ﷺ أخذ طريق الساحل وأبعد وفات ولم يبق إلا لقاء أهل مكة، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا عيرنا قد نجت فلننصرف، فحرش أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة، وقال بعض المؤمنين: نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له، فجمع رسول الله ﷺ أصحابه وهو بواد يسمى ذفران، وقال أشيروا علي أيها الناس، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو، فأعاد رسول الله ﷺ الاستشارة فقام عمر بمثل ذلك، فأعاد رسول الله ﷺ الاستشارة فتكلم المقداد الكندي فقال: لا نقول لك يا رسول الله اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول إنا معكما مقاتلون. والله لو أردت بنا برك الغماد.
قال القاضي أبو محمد: وهي مدينة الحبشة لقاتلنا معك من دونها، فسر رسول الله ﷺ بكلامه ودعا له بخير، ثم قال أشيروا علي أيها الناس فكلمه سعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة.
قال القاضي أبو محمد: ويمكن أنهما جميعا تكلما في ذلك اليوم، فقال يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجل، فقال إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله، فو الله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم، فالتقوا وكانت وقعة بدر، وقرأ مسلمة بن محارب «وإذ يعدكم» بجزم الدال، قال أبو الفتح ذلك لتوالي الحركات، وقرأ ابن محيصن «وإذ يعدكم الله احدى الطائفتين» بوصل الألف من إِحْدَى وصلة الهاء بالحاء، والشَّوْكَةِ عبارة عن السلاح والحدة، ومنه قول الأعور: [الرجز]
إن العرفج قد أدبى
وقرأ أبو عمرو فيما حكى أبو حاتم الشَّوْكَةِ تَكُونُ بإدغام التاء في التاء، ومعنى الآية وتودون العير
503
وتأبون قتال الكفار، وقوله وَيُرِيدُ اللَّهُ الآية، المعنى ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم «بكلمته» على الإفراد الذي يراد به الجمع، والمعنى في قوله بِكَلِماتِهِ إما أن يريد بأوامره وأمره للملائكة والنصر لجميع ما يظهر الإسلام أن يكون، وإما أن يريد بكلماته التي سبقت في الأزل والمعنى قريب، و «الدابر» الذي يدبر القوم أي يأتي في آخرهم، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أ؟ ى الهلاك عليه.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٨ الى ١٠]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي الكفر، وَلَوْ كَرِهَ أي وكراهتهم واقعة فهي جملة في موضع الحال، وقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ الآية، إِذْ متعلقة بفعل، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ [الأنفال الآية: ٧] وقال الطبري: هي متعلقة ب لِيُحِقَّ.. ويُبْطِلَ.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يعمل فيها يَعِدُكُمُ [الأنفال: ٧] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم، وتَسْتَغِيثُونَ معناه تطلبون، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك، وقرأ جمهور الناس «أني» بفتح الألف، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني» بكسر الألف أي قال إني، ومُمِدُّكُمْ، أي مكثركم ومقويكم من أمددت. وقرأ جمهور الناس «بألف» وقرأ عاصم الجحدري «بأألف» على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران، وقرأ عاصم الجحدري أيضا «بآلاف» ومُرْدِفِينَ معناه متبعين، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف مُرْدِفِينَ على هذا حال من الضمير في قوله مُمِدُّكُمْ ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم ببعض، وهذه القراءة بفتح الدال وهي قراءة نافع وجماعة من أهل المدينة وغيرهم، وقرأ سائر السبعة غير نافع «مردفين» بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضا، وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين.
ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضا، ومن قال «مردفين» بمعنى أن كل ملك أردف ملكا وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مردّفين» بفتح الراء وكسر الدال وشدها.
وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه، وحكاه أبو حاتم قال: كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة، ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة، وأنشد الطبري شاهدا على أن أردف بمعنى جاء تابعا قول الشاعر [خزيمة بن مالك] :[الوافر]
إذا الجوزاء أردفت الثّريّا ظننت بآل فاطمة الظّنونا
والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي ﷺ وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها، وقال ابن عباس: كانا في خمسمائة خمسمائة، وقال الزجّاج: قال بعضهم: إن الملائكة خمسة آلاف، وقال بعضهم: تسعة آلاف، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير، وقوله تعالى: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الآية، الضمير في جَعَلَهُ عائد على الوعد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى، وقال الزجّاج: الضمير عائد على المدد، ويحتمل أن يعود على الإمداد، وهذا يحسن مع قول من يقول إن الملائكة لم تقاتل وإنما أنست بحضورها مع المسلمين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي ضعيف ترده الأحاديث الواردة بقتال الملائكة وما رأى من ذلك أصحاب النبي ﷺ كابن مسعود وغيره، ويحتمل أن يعود على الإرداف وهو قول الطبري، وهذا أيضا يجري مجرى القول الذي قبله ويحتمل أن يعود على «الألف» وهذا أيضا كذلك، لأن البشرى بالشيء إنما هي ما لم يقع بعد، و «البشرى» مصدر من بشرت، والطمأنينة السكون والاستقرار وقوله وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ توقيف على أن الأمر كله لله وأن تكسب المرء لا يغني إذا لم يساعده القدر وإن كان مطلوبا بالجد كما ظاهر رسول الله ﷺ بين درعين، وهذه القصة كلها من قصة الكفار وغلبة المؤمنين لهم تليق بها من صفات الله عز وجل العزة والحكمة إذا تؤمل ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١١ الى ١٢]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢)
العامل في إِذْ هو العامل الذي عمل في قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ [الأنفال: ٧] بتقدير تكراره لأن
505
الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف، وإنما القصد أن تعدد نعمة الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال: واذكروا إذ فعلنا كذا وقال الطبري: العامل في إِذْ قوله وَلِتَطْمَئِنَّ [الأنفال: ١٠].
قال القاضي أبو محمد: وهذا مع احتماله فيه ضعف، ولو جعل العامل في إِذْ شيئا قريبا مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في إِذْ حَكِيمٌ [الأنفال: ١٠] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل، وقرأ نافع «يغشيكم» بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي «يغشّيكم» بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم» بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة «النعاس» بالرفع، وحجة من قرأ «يغشاكم» إجماعهم في آية أحد على يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران: ١٥٤]، وحجة من قرأ «يغشيكم» أن يجيء الكلام متسقا مع يُنَزِّلُ، ومعنى يُغَشِّيكُمُ يغطيكم به ويفرغه عليكم، وهذه استعارة والنُّعاسَ أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماش، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس، وقول النبي ﷺ «إذا نعس أحدكم في صلاته» الحديث، وينص على ذلك قول الشاعر [ابن الرقاع] :[الكامل]
وسنان أقصده النعاس فرنّقت في عينه سنة وليس بنائم
وقوله أَمَنَةً مصدر من أمن الرجل يأمن أمنا وأمنة وأمانا، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة، وقرأ ابن محيصن «أمنة» بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله، وهو في الصلاة من الشيطان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده، وقوله وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً تعديد أيضا لهذه النعمة في المطر، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره، وقاله الزجّاج: إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم- بإلقاء الشيطان إليهم- نزعم أنّا أولياء الله وفينا رسول الله ﷺ وحالنا هذه والمشركون على الماء، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر.
وتدمثت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت قالوا: فهذا معنى قوله لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي من الجنابة، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر، والرجز العذاب، وقرأ أبو العالية «رجس» بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر، وقرأ ابن محيصن «رجز» بضم الراء، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهب» بجزم الباء، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم: رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي في الرملة الدهسة التي كان المشي فيها صعبا.
506
قال القاضي أبو محمد: والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول الله ﷺ على أول ماء، فقال له حباب: أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟ الحديث المستوعب في السيرة.
قال القاضي أبو محمد: ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم، وهذا قبل الترائي بالأعين، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان وتدمت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم، فسر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين.
قال القاضي أبو محمد: هذا أحد ما يحتمله قوله وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ والضمير في بِهِ على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل أن يعود الضمير في بِهِ على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول.
قال القاضي أبو محمد: ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ «وينزل عليكم من السماء ما» ساكنة الألف لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ قال: وهي بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وقرأ ابن المسيب «ليطهركم به» بسكون الطاء، وقوله تعالى:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ الآية، العامل في إِذْ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها، ولو قدرناه قريبا لكان قوله وَيُثَبِّتَ على تأويل عود الضمير على الربط، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل وَيُثَبِّتَ في إِذْ ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه «إني معكم» بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة، وقرأ جمهور الناس «أني» بفتح الألف على أنها معمولة ل يُوحِي، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول، وقوله فَثَبِّتُوا يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي.
ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك، ويحتمل أن يريد: فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين: لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن، ويقول آخر: ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا. ويقول آخر: أقدم يا فلان، ونحو هذا من الأقوال المثبتة.
507
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أيضا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل يجيء قوله سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مخاطبة للملائكة، ثم يجيء قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حربا لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك، أي هذه كانت صفة الحال.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون سَأُلْقِي إلى آخر الآية خبرا يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعا لهم وحضا على نصرة الدين، وقرأ الأعرج «الرعب» بضم العين والناس على تسكينها، واختلف الناس في قوله فَوْقَ الْأَعْناقِ، فقال الأخفش فَوْقَ زيادة، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق وقال غيره بمعنى على، وقال عكرمة مولى ابن عباس: هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق، وقال المبرد: وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل أنبلها، ويحتمل عندي أن يريد بقوله فَوْقَ الْأَعْناقِ وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، ومثله قول الشاعر: [الوافر].
جعلت السيف بين الجيد منه وبين أسيل خديه عذارا
فيجيء على هذا فَوْقَ الْأَعْناقِ متمكنا، وقال ابن قتيبة فَوْقَ في هذه الآية بمعنى دون، وهذا خطأ بين، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى: ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: ٢٦] أي فما دونها.
قال القاضي أبو محمد: وليست فَوْقَ هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال بَنانٍ قالت فرقة: هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء، فالمعنى على هذا واضربوا منهم في كل موضع، وقالت فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو القول الصحيح، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحا فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٣ الى ١٦]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
508
هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون داخلون فيه بالمعنى والضمير في أَنَّهُمْ
عائد على الذين كفروا، واقُّوا
معناه خالفوا ونابذوا وقطعوا، وهو مأخوذ من الشق وهو القطع والفصل بين شيئين، وهذه مفاعلة فكأن الله لما شرع شرعا وأمر بأوامر وكذبوا هم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق، مأخوذ من هذا لأنه مع شقه الآخر تباعدا وانفصلا وعبر المفسرون عن قوله اقُّوا
أي صاروا في شق غير شقه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وإن كان معناه صحيحا فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه، والمثال الأول إنما هو الشّق بفتح الشين، وأجمعوا على الإظهار في شاقِقِ
اتباعا لخط المصحف، وقوله إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
جواب الشرط تضمن وعيدا وتهديدا، وقوله تعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ المخاطبة للكفار، أي ذلكم الضرب والقتل وما أوقع الله بهم يوم بدر، فكأنه قال الأمر ذلكم فذوقوه وكذا فسره سيبويه، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون ذلِكُمْ في موضع نصب كقوله زيدا فاضربه، وقرأ جمهور الناس «وأن» بفتح الألف، فإما على تقدير وحتم أن. فيقدر على ابتداء محذوف يكون «أن» خبره، وإما على تقدير واعلموا أن، فهي على هذا في موضع نصب، وروى سليمان عن الحسن بن أبي الحسن و «إن» على القطع والاستئناف، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً الآية، زَحْفاً يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي يزحف بعضهم إلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الألية ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويدا زاحفا، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد نار الزحفتين ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر: [البسيط]
كأنهنّ بأيدي القوم في كبد طير تكشف عن جون مزاحيف
ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
على عمائمنا تلقى وأرجلنا على مزاحيف تزجى مخها رير
ومنه قول الآخر [الأعشى] :[الطويل]
لمن الظعائن سيرهنّ تزحّف
ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي: [الوافر]
509
وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب الله عز وجل: وهذا قول جمهور الأمة، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة: يراعى أيضا الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة، لأنها بشعة على الفار ذامة له، وقرأ الجمهور «دبره» بضم الباء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبره» بسكون الباء، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله يَوْمَئِذٍ فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم، وقال فيهم يوم حنين: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: ٢٥] ولم يقع على ذلك تعنيف.
قال القاضي أبو محمد: وقال الجمهور من الأمة: الإشارة ب يَوْمَئِذٍ إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله إِذا لَقِيتُمُ وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى، وليس في الآية نسخ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله ﷺ فيهم وفرارهم عنه، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفوا عن كبيرة، ومُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ونصبه على الحال، وكذلك نصب متحيز، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم مَنْ، وقال قوم: الاستثناء هو من أنواع التولي.
قال القاضي أبو محمد: ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفا وتحيزا، والفئة هاهنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة، وأما على القول الآخر فتكون الفئة المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال: أنا فئتكم أيها المسلمون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مرارا، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال لجماعة فرت في سرية من سراياه: «أنا فئة المسلمين» حين قدموا عليه، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اتقوا السبع الموبقات» وعدد فيها الفرار من الزحف، وباءَ بمعنى نهض متحملا للثقل المذكور في الكلام غضبا كان أو نحوه، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفة ذات، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان.
510
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٧ الى ١٨]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليس هم مستبدين بالقتل، لأن القتل بالإقدار عليه، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم، وسبب هذه الآية فيما روي عن أصحاب رسول الله ﷺ لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل، فقال قتلت كذا وفعلت كذا فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية، وقوله وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى يراد به ما كان رسول الله ﷺ فعله يومئذ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب، فرمى بها في وجوه القوم وتلقاهم ثلاث مرات فانهزموا عند آخر رمية، ويروى أنه قال يوم بدر: شاهت الوجوه، وهذه الفعلة أيضا كانت يوم حنين بلا خلاف، وروي أن التراب الذي رمى به لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث.
قال القاضي أبو محمد: فيحتمل قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ما قلناه في قوله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وذلك منصوص في الطبري وغيره، وهو خارج في كلام العرب على معنى وما رميت الرمي الكافي إذ رميت، ونحوه قول العباس بن مرداس: [المتقارب] فلم أعط شيئا ولم أمنع أي لن أعط شيئا مرضيا ويحتمل أن يريد، وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك، ولكن الله رماه وهذا أيضا منصوص في المهدوي وغيره، ويحتمل أن يريد وما أغنيت إذ رميت حصياتك ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك، والعرب تقول في الدعاء: رمى الله لك، أي أعانك وصنع لك.
وحكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقرأت فرقة «ولكنّ الله رمى» بتشديد النون، وفرقة «ولكن الله» بتخفيفها ورفع الهاء من «الله»، وَلِيُبْلِيَ أي ليصيبهم ببلاء حسن، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلا، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء، وغيرهم، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتكم، عَلِيمٌ بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو، وحكى الطبري: أن المراد بقوله وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ رمي رسول الله ﷺ الحربة على أبي بن خلف يوم أحد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد، وحكي أيضا أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله ﷺ في حصن خيبر فصار في الهويّ حتى أصاب ابن أبي الحقيق فقتله وهو على فراشه، وهذا فاسد، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا، فهذان القولان ضعيفان لما
ذكرناه، وقوله ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم، وموضع ذلِكُمْ من الإعراب رفع، قال سيبويه: التقدير الأمر ذلكم، وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلكم وَأَنَّ معطوف على ذلِكُمْ، ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مقدر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا، وقرأت فرقة «وإن» بكسر الهمزة على القطع والاستئناف. ومُوهِنُ معناه مضعف مبطل، يقال وهن الشيء مثل وعد يعد، ويقال وهن مثل ولي يلي، وقرىء فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ [آل عمران: ١٤٦] بكسر الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «موهن كيد» من أوهن، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «موهن كيد» من وهن، وقرأ حفص عن عاصم «موهن كيد» بكسر الدال والإضافة، وذكر الزجّاج أن فيها أربعة أوجه فذكر هذه القراءات الثلاث، وزاد «موهّن كيد» بتشديد الهاء والإضافة إلا أنه لم ينص أنها قراءة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٩ الى ٢١]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١)
قال بعض المتأولين: هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين يوم بدر، قال الله لهم: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم، وقد حكم الله لكم، وَإِنْ تَنْتَهُوا عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم وَإِنْ تَعُودُوا لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته، ثم أنسهم بقوله وإيجابه، أنه مع المؤمنين، وقال أكثر المتأولين: هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يدعو أبدا في محافل قريش، ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأهلكه واجعله المغلوب، يريد محمدا ﷺ وإياهم، وروي أن قريشا لما عزموا على الخروج إلى حماية العير تعلقوا بأستار الكعبة واستفتحوا، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأظهر خير الدينين عندك، اللهم أقطعنا للرحم فاحنه الغداة، ونحو هذا فقال لهم الله: إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم أي كما ترونه عليكم لا لكم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا توبيخ، ثم قال لهم وَإِنْ تَنْتَهُوا عن كفركم وغيكم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ثم أخبرهم أنهم إن عادوا للاستفتاح عاد بمثل الوقعة يوم بدر عليهم، ثم أعلمهم أن فئتهم لا تغني شيئا وإن كانت كثيرة، ثم أعلمهم أنه مع المؤمنين.
وقالت فرقة من المتأولين: قوله وإِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، هي مخاطبة للمؤمنين، وسائر الآية مخاطبة للمشركين، كأنه قال وأنتم الكفار إن تنتهوا فهو خير لكم، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي
بكر وأبي عمرو وحمزة والكسائي «وإن الله» بكسر الهمزة على القطع، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص «وأن» بفتح الألف، فإما أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف، وإما في موضع نصب بإضمار فعل وما ذكره الطبري من أن التقدير لكثرتها ولأن الله مع المؤمنين محتمل المعنى، وفي قراءة ابن مسعود: «ولو كثرت والله مع المؤمنين». وهذا يقوي قراءة من كسر الألف، من «إن» وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، الخطاب للمؤمنين المصدقين، جدد عليهم الأمر بطاعة الله والرسول ونهوا عن التولي عنه، وهذا قول الجمهور، ويكون هذا متناصرا مع قول من يقول: إن الخطاب بقوله وَإِنْ تَنْتَهُوا هو للمؤمنين، فيجيء الكلام من نمط واحد في معناه، وأما على قول من يقول إن المخاطبة ب إِنْ تَنْتَهُوا هي للكفار فيرى أن هذه الآية إنما نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وكراهيتهم خروج رسول الله ﷺ وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم، وقالت فرقة: الخطاب بهذه الآية إنما هو للمنافقين والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وإن كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدا لأجل أن الله وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان، والإيمان التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء، وقيل إن الخطاب لبني إسرائيل، وهذا أجنبي من الآية، وتَوَلَّوْا أصله تتولوا لأن تفعل دخلت عليه تاء المخاطب بالفعل المستقبل فحذفت الواحدة، والمحذوفة هي تاء تفعل، والباقية هي تاء العلامة، لأن الحاجة إليها هنا أمس ليبقى الفعل مستقبلا، وقوله وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ يريد دعاءه لكم بالقرآن والمواعظ والآيات، وقوله كَالَّذِينَ قالُوا يريد الكفار، فإما من قريش لقولهم سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٨] وإما الكفار على الإطلاق الذين يقولون سمعنا القرآن وعلمنا أنه سحر أو شعر وأساطير بحسب اختلافهم، ثم أخبر الله عنهم خبرا نفى به أنهم سمعوا أي فهموا ووعوا، لأنه لا خلاف أنهم كانوا يسمعون التلاوة بآذانهم ولكن صدورهم مطبقة لم يشرحها الله عز وجل لتلقي معاني القرآن والإيمان به.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
المقصود بهذه الآية أن يبين أن هذه الصنيفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله عز وجل، وأنها أخس المنازل لديه، وعبر ب الدَّوَابِّ ليتأكد ذمهم وليفضل عليهم الكلب العقور والخنزير ونحوهما من السبع، والخمس الفواسق وغيرها، والدَّوَابِّ كل ما دب فهو جميع الحيوان بجملته، وقوله الصُّمُّ الْبُكْمُ عبارة عما في قلوبهم وقلة انشراح صدورهم وإدراك عقولهم، فلذلك وصفهم بالصم والبكم وسلب العقل، وروي أن هذه الآية نزلت في طائفة من بني عبد الدار وظاهرها العموم فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بهذه الأوصاف، ثم أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من
513
قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم في قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ والمراد لأسمعهم إسماع تفهيم وهدى، ثم ابتدأ عز وجل الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أي ولو أفهمهم لَتَوَلَّوْا بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: المعنيّ بهذه الآية المنافقون، وضعفه الطبري وكذلك هو ضعيف.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الآية، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، واسْتَجِيبُوا بمعنى أجيبوا، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر: [الطويل]
كان مزاحف الحيّات فيه قبيل الصبح آثار السياط
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقوله لِما يُحْيِيكُمْ قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام، وقيل لِما يُحْيِيكُمْ معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحيي بالعزة والغلبة والظفر، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت، ويحيي أيضا كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة، وقال النقاش: المراد إذا دعاكم للشهادة.
قال القاضي أبو محمد: فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة، وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحتمل وجوها، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات، ويلتئم مع هذا التأويل قوله وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر، ومنها أن يقصد بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه.
قال القاضي أبو محمد: فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦]، حكي هذا التأويل عن قتادة، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوة على طاعة إلا بالله، وقال المفسرون في ذلك أقوالا هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا، وقرأ ابن أبي إسحاق «بين المرء» بكسر الميم ذكره أبو
514
حاتم، قال أبو الفتح: وقرأ الحسن والزبيدي «بين المرّ» بفتح الميم وشد الراء المكسورة، وتُحْشَرُونَ أي تبعثون يوم القيامة، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله ﷺ دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما سمعت فيما يوحى إلي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ فقال أبيّ: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبدا إلا أجبتك، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
هذه الآية تحتمل تأويلات، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط، بل تصيب الكل من ظالم وبريء، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه، فإنه قال يوم الجمل وما علمت أنّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت، وكذلك تأول الحسن البصري، فإنه قال: هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير، وكذلك تأول ابن عباس، فإنه قال: أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بيانا شافيا.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء قوله لا تُصِيبَنَّ على هذا التأويل صفة ل فِتْنَةً، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج: زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي، قال ومثله قوله تعالى: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ [النمل: ١٨] فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن، وقال قوم: هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون، وقال المهدوي: وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن، ودخلت النون مع لا حملا على دخولها مع اللام فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في القول تكره، لأن جواب القسم إذا دخلته «لا» أو كان منفيا في الجملة لم تدخل النون، وإذا كان موجبا دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً خطابا عاما لجميع المؤمنين مستقلا بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول.
515
والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك هاهنا يريدون لا تقم هاهنا فتقع مني رؤيتك، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم، نحا إليه، الزجّاج، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء، ونهي الظلمة هاهنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط، وخَاصَّةً نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في تُصِيبَنَّ وهذا الفعل هو العامل، ويحتمل أن تكون خَاصَّةً حالا من الضمير في ظَلَمُوا ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز «لتصيبن» باللام على جواب قسم، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط، قال أبو الفتح: يحتمل أن يراد بهذه القراءة «لا تصيبن» فحذف الألف من «لا» تخفيفا واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة، «لا تصيبن» فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تنطع في التحميل وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ «واتقوا فتنة أن تصيب» وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاما حسنا ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة.
وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله لا تُصِيبَنَّ هي على معنى الدعاء ذكره الزهراوي وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ الآية، هذه آية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين، وإِذْ ظرف لمعمول وَاذْكُرُوا، تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل، ولا يجوز أن تكون إِذْ ظرفا للذكر وإنما يعمل الذكر في إِذْ لو قدرناها مفعولة، واختلف الناس في الحال المشار إليها بهذه الآية، فقالت فرقة هي الأكثر: هي حال مكة في وقت بداءة الإسلام، والناس الذين يخاف «تخطفهم» كفار مكة، و «المأوى» على هذا التأويل المدينة والأنصار، و «التأييد بالنصر» وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها، والطَّيِّباتِ الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالت فرقة: الحال المشار إليها هي حال رسول الله ﷺ وأصحابه في غزوة بدر، والناس الذين يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة، فإن رسول الله ﷺ كان يتخوف من بعضهم، والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو، والطَّيِّباتِ الغنيمة.
قال القاضي أبو محمد: وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر، وقال وهب بن منبه وقتادة: الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة، فإنها كانت أعرى الناس أجساما وأجوعهم بطونا وأقلهم حالا ونعما، والناس الذين يخاف «تخطفهم» على هذا التأويل فارس والروم، و «المأوى» على هذا هو النبوءة والشريعة، و «التأييد بالنصر» هو فتح البلاد وغلبة الملوك، والطَّيِّباتِ هي نعم المآكل والمشارب والملابس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل،
516
ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول، وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب في هذه الآية في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن تمثل أحد بهذه الآية لحالة العرب فتمثله صحيح، وأما أن تكون حالة العرب هي سبب الآية فبعيد لما ذكرناه، وقوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ترج بحسب البشر متعلق بقوله وَاذْكُرُوا.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها، قال الزهراوي: والمعنى لا تخونوا بغلول الغنائم، وقال الزهراوي وعبد الله بن أبي قتادة: سبب نزولها أمر أبي حبابة، وذلك أنه أشار لبني قريظة حين سفر إليهم إلى حلقه يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله ﷺ إلا الذبح، أي فلا تنزلوا، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه، الحديث المشهور، وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئا حتى تيب عليه، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
، وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله: سببها أن رجلا من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله ﷺ فنزلت الآية، فقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا معناه أظهروا الإيمان، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقا أن لا يفعلوا فعل ذلك المنافق، وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال: أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: يشبه أن تمثل بالآية في قتل عثمان رحمه الله، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات، والخيانة التنقص للشيء باختفاء وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما، مالا كان أو سرّا أو غير ذلك، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر. وخيانة الرسول تنقص ما استحفظ، وخيانات الأمانات هي تنقصها وإسقاطها، والأمانة حال للإنسان يؤمن بها على ما استحفظ، فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير، وقيل المعنى وتخونوا ذوي أماناتكم، وأظن الفارسي أبا علي حكاه، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد، وقوله فِتْنَةٌ
يريد محنة واختبارا وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك، وقوله وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدرا من مكاسب الدنيا.
وقوله تعالى: وَتَخُونُوا قال الطبري: يحتمل أن يكون داخلا في النهي كأنه قال: لا تخونوا الله
517
والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم، قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضا «وتخونوا أمانتكم» على إفراد الأمانة، وقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ الآية، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له، ويَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً معناه فرقا بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم، و «الفرقان» مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما، ومنه قوله يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: ٤١] وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان هاهنا بالنجاة، وقال السدي ومجاهد معناه مخرجا ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار: [الخفيف]
بادر الأفق أن يغيب فلمّا أظلم اللّيل لم يجد فرقانا
وقال الآخر: [الرجز]
ما لك من طول الأسى فرقان بعد قطين رحلوا وبانوا
وقال الآخر: [الطويل]
وكيف أرجّي الخلد والموت طالبي ومالي من كأس المنيّة فرقان
وقوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، يشبه أن يكون قوله وَإِذْ معطوفا على قوله إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الأنفال: ٢٦]، وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله رسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم، الحديث المشهور، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية، والمكر المخاتلة والتداهي، تقول: فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلا وتسترا بما يريد، ويقال أصل المكر الفتل، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم: ممكورة، فمكر قريش بالنبي ﷺ كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره، وتدبير قريش على رسول الله ﷺ هذه الخصال الثلاث لم يزل قديما من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكرا وما استسروا به هو المكر، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي ﷺ يا محمد ماذا يدبر فيك قومك، قال: يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟
قال: ربي، قال: إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو يا عم يستوصي بي خيرا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى
518
اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله ﷺ من مكة بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلدا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى، هذا الرأي لا أرى غيره. فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله ﷺ من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيثورون به، فلما قام رأوا عليا فقالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدري. وفي السير أن رسول الله ﷺ خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون، قالوا محمدا، قال إني رأيته الآن جائيا من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، وجاؤوا إلى مضجع النبي ﷺ فوجدوا عليا فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار، ومعنى لِيُثْبِتُوكَ ليسجنوك فتثبت، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ليوثقوك، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك.
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني «ليثّبتوك» وهذه أيضا تعدية بالتضعيف، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «ليبيتوك» من البيات، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة، وقال أبو حاتم معنى لِيُثْبِتُوكَ أي بالجراحة، كما يقال أثبتته الجراحة، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحدا، وقوله تعالى: وَيَمْكُرُ اللَّهُ معناه يفعل أفعالا منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب، وقوله خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقدرهم وأعزهم جانبا.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو من واحد.
قوله عز وجل:
519

[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣١ الى ٣٢]

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)
الضمير في عَلَيْهِمْ عائد على الكفار، و «الآيات» هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله تُتْلى، وقَدْ سَمِعْنا يريد وقد سمعنا هذا المتلو لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم، أي قصصهم المكتوبة المسطورة، وأَساطِيرُ جمع أسطورة، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري، لأنه كان يجيء أساطر دون ياء، هذا هو قانون الباب، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صياريف، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيه آيات من كتاب الله، وقتله رسول الله ﷺ صبرا بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل وكان أسره المقداد، فلما أمر رسول الله ﷺ بضرب عنقه قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أغن المقداد من فضلك»، فقال المقداد: هذا الذي أردت، فضرب عنق النضر، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله ﷺ قتل يوم بدر صبرا ثلاثة نفر، المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وهم عظيم في خبر المطعم، فقد كان مات قبل يوم بدر، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له يعني أسرى بدر، وقوله وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره، وفيه نزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم، لأن النضر كان فيهم موسوما بالنبل والفهم مسكونا إلى قوله، فكان إذا قال قولا قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبدا بعلمائهم وفقهائهم، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمدا ﷺ هذه الكرامة، وعميت بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل، ويجوز في العربية رفع الْحَقَّ على أنه خبر هُوَ والجملة خبر كانَ، قال الزجّاج: ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقّ» على أن يكون خبر «كان» ويكون هو فصلا، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بأن الذي بعده خبر ليس بصفة. وفَأَمْطِرْ إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة.
قال القاضي أبو محمد: ويعارض هذه قوله هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: ٢٤] لأنهم ظنوها سحابة رحمة، وقولهم مِنَ السَّماءِ مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّه ويمنه.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)
قالت فرقة: نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى، وقال ابن أبزى: نزل قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ بمكة إثر قولهم أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: ٣٢] ونزل قوله وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عند خروج النبي ﷺ عن مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله وَما لَهُمْ إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم، قال: أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم» بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن، واختلفوا في معنى قوله وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله مُعَذِّبَهُمْ يعود على كفار مكة والضمير في قوله وَهُمْ عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله ﷺ بمكة، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد: ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضا ما مقتضاه: أن يقال الضميران عائدان على الكفار، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك، ويقولون لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين، كون
521
الرسول ﷺ مع الناس والاستغفار، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة، وقال قتادة: الضمير للكفار، وقوله وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، جملة في موضع الحال أن لو كانت، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وقال الزجّاج ما معناه، إن الضمير في قوله وَهُمْ عائد على الكفار.
والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر، فالمعنى: وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وحكاه الطبري عن ابن عباس.
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي: المراد بقوله وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين، فالمعنى: وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون، فنسب الاستغفار إليهم، إذ ذريتهم منهم، وذكره مكي ولم ينسبه، وفي الطبري عن فرقة أن معنى يَسْتَغْفِرُونَ يصلون، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة، وقوله عز وجل: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ توعد بعذاب الدنيا، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن» في موضع نصب، وقال الطبري: تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا، والظاهر في قوله وَما أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة، ويصح أن تكون ما نافية ويكون القول إخبارا، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون، وقوله وَهُمْ يَصُدُّونَ على التأويلين جملة في موضع الحال، ويَصُدُّونَ في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم، فهو متعدّ كما قال الشاعر: [الوافر]
صددت الكأس عنا أمّ عمرو
وقد تجيء صد عير متعدّ كما أنشد أبو علي: [البسيط]
صدت خليدة عنّا ما تكلّمنا
والضمير في قوله أَوْلِياؤُهُ عائد على الله عز وجل من قوله يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، روي الأخير عن الحسن، والضمير الآخر تابع للأول، وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه، وقوله أَكْثَرَهُمْ ونحن نجد كلهم بهذه الصفة، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه حكى سيبويه من قولهم: قل من يقول ذلك، وهم يريدون لا يقوله أحد.
وإما أن يقول: إنه أراد بقوله أَكْثَرَهُمْ أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوما قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله أَكْثَرَهُمْ وكذلك كانت حال مكة وأهلها، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن: إن قوله وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ، ناسخ لقوله وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
522
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٥]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
قرأ الجمهور «وما كان صلاتهم» بالرفع «عند البيت إلا مكاء» بالنصب «وتصدية» كذلك، وروي عن عاصم أنه قرأ: «صلاتهم» بالنصب «إلا مكاء وتصدية» بالرفع، ورويت عن سليمان الأعمش بخلاف عنه فيما حكى أبو حاتم، وذكر أبو علي عن الأعمش أنه قال في قراءة عاصم: أفإن لحن عاصم تلحن أنت؟
قال أبو الفتح: وقد روي الحرف كذلك عن أبان بن تغلب، قال قوم: وهذه القراءة خطأ لأنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة، قال أبو حاتم: فإن قيل إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس معرفا ومنكرا واحد في التعريف، قيل إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، كما قال حسان: [الوافر].
كأنّ سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
ولا يقاس على ذلك، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي: وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء، وأخطأ في ذلك، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث، ومنه قوله تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: ٦٧] وقوله فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل: ٥١] وكَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: ٨٦- ١٠٣، النمل: ١٤] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور، فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر، ومنه قول عنترة: [الكامل]
وخليل غانية تركت مجدلا تمكو فريصته كشدق الأعلم
ومنه قول الشاعر:
فكأنما يمكو بأعصم عاقل يصف رجلا فر به حيوان ومنه قول الطرماح: [الكامل]
فنحا لأولاها بطعنة محفظ تمكو جوانبها من الإنهار
ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي: فالهمزة في مُكاءً منقلبة عن واو.
قال القاضي أبو محمد: ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده، ووزنه فعّال بشد
523
العين كخطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «إلا مكا» بالقصر، و «التصدية» عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق، وقتادة بأنه الضجيج والصياح، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع، ومن قال التصفيق قال: إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله ﷺ للقرآن، و «التصدية» يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت، ومنه قول الطرماح يصف الأروية: [الطويل]
لها كلما ريعت صداة وركدة بمصران أعلى ابني شمام البوائن
فيلتئم على هذا الاشتقاق قول من قال: هو التصفيق، وقول من قال الضجيج، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه، ويمكن أن تكون «التصدية» من صد يصد استعمل الفعل مضعفا للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف، وذلك نحو قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [يوسف: ٢٣] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلا وتكملة وغير ذلك، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل، مثل قول الشاعر: [الرجز] بات ينزي دلوه تنزّيا وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء «تصدية»، فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضا على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: ٥٧] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن «المكاء والتصدية» إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله ﷺ لتقطع عليه وعلى المؤمنين قراءتهم وصلاتهم ويخلط عليهم، فكان المصلي إذا قام يقرأ من المؤمنين اكتنفه من الكفار عن يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.
قال القاضي أبو محمد: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم
524
وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي ﷺ ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.
قال القاضي أبو محمد: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)
قال بعض الرواة منهم ابن أبزى وابن جبير والسدي ومجاهد: سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان أنفق في غزوة أحد على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من الذهب أو نحو هذا، وأن الآية نزلت في ذلك، وقال ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ إنه لما قتل من قتل ببدر اجتمع أبناؤهم وقرابتهم وقالوا لمن خلص ماله في العير: إن محمدا قد نال منا ما ترون، ولكن أعينونا بهذا المال الذي كان سبب الواقعة، فلعلنا أن ننال منه ثأرا، ففعلوا فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وعلى القولين فإنما أنفق المال في غزوة أحد، فأخبر الله تعالى في هذه الآية خبرا لفظه عام في الكفار، والإشارة به إلى مخصوصين أنهم ينفقون أموالهم يقصدون بذلك الصد عن سبيل الله والدفع في صدر الإسلام، ثم أخبر خبرا يخص المشار إليهم أنهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة، إذ لا تتم لهم إرادة ويذهب المال باطلا، والحسرة التلهف على الفائت، ويحتمل أن تكون الحسرة في يوم القيامة، والأول أظهر وإن كانت حسرة القيامة راتبة عليهم، ثم أخبر أنهم يغلبون بعد ذلك، بأن تكون الدائرة عليهم، وهذا من إخبار القرآن بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون، فكان كما أخبر، قال ابن سلام: بين الله عز وجل أنهم يغلبون قبل أن يقاتلوا بسنة، حكاه الزهراوي، ثم أخبر تعالى عن الكافرين أنهم يجمعون إلى جهنم، والحشر جمع الناس والبهائم إلى غير ذلك مما يجمع ويحضر، ومنه قوله وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [الأنعام: ١١١] ومنه في التفسير: أن السلوى طائر كانت الجنوب تحشره على بني إسرائيل، والقوم الذين جلبهم أبو سفيان وأنفق المال عليهم هم الأحابيش من كنانة، ولهم يقول كعب بن مالك: [الطويل]
وجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن قصية ثلاث مئين إن كثرن وأربع
وقال الضحاك وغيره: إن هذه الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر الذين كانوا يذبحون يوما عشرا ويوما تسعا من الإبل، وحكى نحو هذا النقاش.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «ليميز» بفتح الياء وكسر الميم، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة بن نصاح وشبل وأبي عبد الرحمن والحسن وعكرمة ومالك بن دينار، تقول مزت الشيء، والعرب تقول مزته فلم يتميز لي، حكاه يعقوب وفي شاذ القراءة وانمازوا اليوم، وأنشد أبو زيد: [البسيط]
لما ثنى الله عني شرّ عدوته وانمزت لا منشئا ذعرا ولا وجلا
وهو مطاوع ماز، وقرأ حمزة والكسائي «ليميّز» بضم الياء وفتح الميم وشد الياء، وهي قراءة قتادة وطلحة بن مصرف والأعمش والحسن أيضا وعيسى البصري، تقول ميزت أميز إذا فرقت بين شيئين فصاعدا، وفي القرآن تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: ٨] فهو مطاوع ميز ومعناه تتفصل، وقال ابن عباس رضي الله عنه والسدي، المعنيّ ب الْخَبِيثَ الكفار وب الطَّيِّبِ المؤمنون.
قال القاضي أبو محمد: واللام على هذا التأويل من قوله لِيَمِيزَ متعلقة ب يُحْشَرُونَ [الأنفال: ٣٦]، والمعنى أن الله يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين بأن يجمع الكافرين جميعا فيلقيهم في جهنم، ثم أخبر عنهم أنهم هم الخاسرون أي الذين خابت سعايتهم وتبت أيديهم وصاروا إلى النار، وقال ابن سلام والزجّاج:
المعنيّ ب الْخَبِيثَ المال الذي أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله، والطَّيِّبِ هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله.
قال القاضي أبو محمد: واللام على هذا التأويل من قوله لِيَمِيزَ متعلقة ب يُغْلَبُونَ [الأنفال: ٣٦]، والمعنى: الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب، وقوله تعالى على هذا التأويل وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ إلى قوله فِي جَهَنَّمَ مترتب على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يخرج من الأموال ما كان صدقة أو قربة يوم القيامة ثم يأمر بسائر ذلك فيلقى في النار، وحكى الزهراوي عن الحسن أن الكفار يعذبون بذلك المال، فهي كقوله فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة: ٣٥] وقاله الزجّاج: وعلى التأويلين فقوله وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً إنما هي عبارة عن جمع ذلك وضمه وتأليف أشتاته وتكاثفه بالاجتماع، وفَيَرْكُمَهُ في كلام العرب يكثفه، ومنه
526
سحاب مركوم وركام، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط] زع بالزمام وجوز الليل مركوم وقوله وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بمعنى يلقي، قاله أبو علي، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ على هذا التأويل يراد المنافقون من الكفار، ولفظة الخسارة تليق بهم من جهة المال وبغير ذلك من الجهات، وقوله قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية، أمر من الله عز وجل لنبيه ﷺ أن يقول للكفار هذا المعنى الذي تضمنه ألفاظ قوله إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وسواء قاله النبي ﷺ في هذه العبارة أو غيرها، ولو كان الكلام كما ذكر الكسائي أنه في مصحف ابن مسعود «قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لكم» لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها، هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ، وقوله إِنْ يَنْتَهُوا يريد به عن الكفر ولا بد، والحامل على ذلك جواب الشرط ب يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر، وقوله إِنْ يَعُودُوا يريد به إلى القتال لأن لفظة عاد يعود إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان الإنسان عليها ثم تنقّل عنها.
ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال، ولا يصح أن يتأول وَإِنْ يَعُودُوا إلى الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه وإنما قلنا في عاد إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر بمنزلة صار، وذلك كما تقول عاد زيد ملكا تريد صار، ومنه قول أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شبيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل، لكنها مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونه، فحكمها حكم صار، وقوله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ عبارة بجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله حين صد في وجه نبيه وبمن هلك في يوم بدر بسيف الإسلام والشرع، والمعنى فقد رأيتم وسمعتم عن الأمم ما حل.
قال القاضي أبو محمد: والتخويف عليهم بقصة بدر أشد إذ هي القريبة منهم والمعاينة عندهم وعليها نص ابن إسحاق والسدي، وقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ الآية، أمر من الله عز وجل فرض به على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار، و «الفتنة» قال ابن عباس وغيره معناها الشرك، وقال ابن إسحاق: معناها حتى لا يفتن أحد عن دينه كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم كبلال وغيره، وهو مقتضى قول عروة بن الزبير في جوابه لعبد الملك بن مروان حين سأله عن خروج رسول الله ﷺ من مكة مهاجرا، وقوله وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أي لا يشرك معه صنم ولا وثن ولا يعبد غيره، وقال قتادة حتى تستوسق كلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذه المعاني تتلازم كلها، وقال الحسن: حتى لا يكون بلاء، وهذا يلزم عليه القتال في فتن المسلمين الفئة الباغية، على سائر ما ذكرناه من الأقوال يكون المعتزل في فسحة، وعلى هذا جاء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أما نحن فقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وأما أنت وأصحابك فتريدون أن نقاتل حتى تكون فتنة.
527
قال القاضي أبو محمد: فمذهب عمر أن «الفتنة» الشرك في هذه الآية وهو الظاهر، وفسر هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»، ومن قال المعنى حتى لا يكون شرك فالآية عنده يريد بها الخصوص فيمن لا يقبل منه جزية، قال ابن سلام: وهي في مشركي العرب، ثم قال الله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا أي عن الكفر فإن الله بصير بعملهم مجاز عليه، عنده ثوابه وجميل المعاوضة عليه وقرأ يعقوب بن إسحاق وسلام بن سليمان «بما تعملون» بالتاء أي في قتالكم وجدكم وجلادكم عن دينه.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا الآية، معادل لقوله فَإِنِ انْتَهَوْا، والمعنى فإن انتهوا عن الكفر فالله مجازيهم أو مجازيكم على قراءة «تعملون»، وإن تولوا ولم ينتهوا فاعلموا أن الله ينصركم عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظفر، أي فجدوا، و «المولى» هاهنا الموالي والمعين، والمولى في اللغة على معان هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها، والمولى الذي هو السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
موضع «أن» الثانية رفع، التقدير «فحكمه أن»، فهي في موضع خبر الابتداء، والغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي من ذلك قول الشاعر [امرؤ القيس] :[الوافر]
وقد طفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر: [البسيط]
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنّى توجّه والمحروم محروم
ومنه قول النبي ﷺ في الرهن: «له غنمه وعليه حرمه» وقوله: «الصيام في الشتاء هو الغنيمة الباردة» فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب غنيمة، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا له، والفيء مأخوذ من فاء إذا رجع وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرض وجزية الجماجم وخمس الغنيمة ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: والزكوات أيضا مال على حدته، أحكامه منفردة دون أحكام هذين، قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب: الغنيمة ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ صلحا، وهذا قريب مما بيناه، وقال قتادة: الفيء والغنيمة شيء واحد فيهما الخمس، وهذه الآية التي في الأنفال ناسخة لقوله في سورة الحشر وما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الآية: ٧] وذلك أن تلك كانت الحكم أولا، ثم أعطى الله أهلها الخمس فقط وجعل الأربعة الأخماس في المقاتلين.
528
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف نص العلماء على ضعفه وأن لا وجه له من جهات، منها أن هذه السورة نزلت قبل سورة الحشر هذه ببدر، وتلك في بني النضير وقرى عرينة، ولأن الآيتين متفقتان وحكم الخمس وحكم تلك الآية واحد لأنها نزلت في بني النضير حين جلوا وهربوا وأهل فدك حين دعوا إلى صلح ونال المسلمون ما لهم دون إيجاف، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أن في الفيء الخمس، وأنه كان في قرى عرينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أربعة أخماسها كان للرسول ﷺ خاصة دون المسلمين يضعها حيث شاء.
وقال أبو عبيدة: هذه الآية ناسخة لقوله في أول السورة قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: ١] ولم يخمس رسول الله ﷺ غنائم بدر فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر في قول علي بن أبي طالب في البخاري كانت لي شارق من نصيبي من المغنم ببدر وشارق أعطانيها رسول الله ﷺ من الخمس حينئذ أن غنيمة بدر خمست فإن كان ذلك فسد قول أبي عبيدة، ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكره علي بن أبي طالب من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة السويق وغزوة ذي أمر وغزوة نجران ولم يحفظ فيها قتال ولكن يمكن أن غنمت غنائم والله أعلم.
وقوله في هذه الآية مِنْ شَيْءٍ ظاهره عام ومعناه الخصوص، فأما الناض والمتاع والأطفال والنساء وما لا يؤكل لحمه من الحيوان ويصح تملكه فليس للإمام في جميع ذلك ما كثر منه وما قل كالخايط والمخيط إلا أن يأخذ الخمس ويقسم الباقي في أهل الجيش، وأما الأرض فقال فيها مالك: يقسمها الإمام إن رأى ذلك صوابا كما فعل النبي ﷺ بخيبر، ولا يقسمها إن أداه اجتهاده إلى ذلك كما فعل عمر بأرض مصر سواد الكوفة.
قال القاضي أبو محمد: لأن فعل عمر ليس بمخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليست النازلة واحدة بحسب قرائن الوقتين وحاجة الصحابة وقلتهم، وهذا كله انعكس في زمان عمر، وأما الرجال ومن شارف البلوغ من الصبيان فالإمام عند مالك وجمهور العلماء مخير فيهم على خمسة أوجه، منها القتل وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية، ومنها الفداء وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه رأي ولا مكيدة لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه، ومنها المن وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين ونحو ذلك من القرائن، ومنها الاسترقاق، ومنها ضرب الجزية والترك في الذمة، وأما الطعام والغنم ونحوهما مما يؤكل فهو مباح في بلد العدو يأكله الناس فما بقي كان في المغنم.
قال القاضي أبو محمد: وأما أربعة أخماس ما غنم فيقسمه الإمام على الجيش، ولا يختص بهذه الآية ذكر القسمة فأنا أختصره هنا، وأما الخمس فاختلف العلماء فيه، فقال مالك رحمه الله: الرأي فيه للإمام يلحقه ببيت الفيء ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله ﷺ ما رآه، كما يعطي منه اليتامى والمساكين وغيرهم، وإنما ذكر من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه، قال الزجّاج محتجا لمالك:
529
قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة: ٢١٥].
وللإمام بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك، وقالت فرقة: كان الخميس يقسم على ستة أقسام، قسم لله وهو مردود على فقراء المسلمين أو على بيت الله، وقسم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقسم لقرابته، وقسم لسائر من سمي، حكى القول منذر بن سعيد ورد عليه، قال أبو العالية الرياحي: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقبض من خمس الغنيمة قبضة فيجعلها للكعبة فذلك لله، ثم يقسم الباقي على خمسة، قسم له وقسم لسائر من سمي، وقال الحسن بن محمد وابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة والشافعي: قوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده قد أعتقك الله وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر، والدنيا كلها لله، وقسم الله وقسم الرسول واحد، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقسم الخمس على خمسة أقسام كما تقدم، وقال ابن عباس أيضا فيما روى عنه الطبري، الخمس مقسوم على أربعة أقسام، وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لقرابته وليس لله ولا للرسول شيء، وقالت فرقة: قسم الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد موته مردود على أهل الخمس القرابة وغيرها، وقالت فرقة: هو مردود على الجيش أصحاب الأربعة الأخماس، وقال علي بن أبي طالب: يلي الإمام منهم سهم الله ورسوله، وقالت فرقة: هو موقوف لشراء العدد وللكراء في سبيل الله، وقال إبراهيم النخعي وهو الذي اختاره أبو بكر وعمر فيه، وقال أصحاب الرأي: الخمس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، مقسوم ثلاثة أقسام، قسم لليتامى، وقسم للمساكين وقسم لابن السبيل، ورسول الله ﷺ لم يورث، فسقط سهمه وسهم ذوي القربى، وحجتهم فيه منع أبي بكر وعمر وعثمان لذوي القربى.
قال القاضي أبو محمد: ولم يثبت المنع بل عورض بنو هاشم بأن قريشا قربى، وقيل لم يكن في مدة أبي بكر مغنم، وقال الشافعي: يعطى أهل الخمس منه ولا بد ويفضل الإمام أهل الحاجة ولكن لا يحرم صنفا منهم حرمانا تاما، وقول مالك رحمه الله: إن للإمام أن يعطي الأحوج وإن حرم الغير.
قال القاضي أبو محمد: وكان رسول الله ﷺ مخصوصا من الغنيمة بثلاثة أشياء كان له خمس الخمس، وكان له سهم في سائر الأربعة الأخماس، وكان له صفيّ يأخذه قبل القسمة، دابة أو سيف، أو جارية ولا صفيّ لأحد بعده بإجماع إلا ما قال أبو ثور من أن الصفيّ باق للإمام، وهو قول معدود في شواذ الأقوال، وذوو القربى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس: هم بنو هاشم فقط، فقال مجاهد: كان آل محمد ﷺ لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس، قال ابن عباس: ولكن أبى ذلك علينا قومنا، وقالوا قريش كلها قربى، وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو المطلب فقط، وقال رسول الله ﷺ لعثمان بن عفان وجبير بن مطعم في وقت قسمة سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ما فارقونا في جاهلية ولا في الإسلام».
قال القاضي أبو محمد: كانوا مع بني هاشم في الشعب وقالت فرقة: قريش كلها قربى، وروي عن
530
علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا: الآية كلها في قريش، والمراد يتامى قريش ومساكينها، وقالت فرقة: سهم القرابة بعد النبي ﷺ موقوف على قرابته، وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز إلى بني هاشم وبني المطلب فقط، وقالت فرقة: هو لقرابة الإمام القائم بالأمر، وقال قتادة:
كان سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله ﷺ ما كان حيا، فلما توفي جعل لولي الأمر بعده، وقاله الحسن بن أبي الحسن البصري، وحكى الطبري أيضا عن الحسن أنه قال: اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قوم: سهم النبي ﷺ للخليفة، وقال قوم: سهم النبي ﷺ لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: سهم القرابة لقرابة الخليفة، فاجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة، فكان على ذلك مدة أبي بكر رضي الله عنه، قال غير الحسن وعمر والْيَتامى الذين فقدوا آباءهم من الصبيان، واليتم في بني آدم من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات، وَالْمَساكِينِ الذين لا شيء لهم وهو مأخوذ من السكون وقلة الحراك، وَابْنِ السَّبِيلِ الرجل المجتاز الذي قد احتاج في سفر، وسواء كان غنيّا في بلده أو فقيرا فإنه ابن السبيل يسمى بذلك إما لأن السبيل تبرزه فكأنها تلده، وإما لملازمة السبيل كما قالوا ابن ماء وأخو سفر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ابن زنى» وقد تقدم هذا.
قال القاضي أبو محمد: وقد اقتضبت فقه هذه الآية حسب الاختصار والله المستعان.
قال القاضي أبو محمد: وما في قوله أَنَّما غَنِمْتُمْ بمعنى الذي، وفي قوله غَنِمْتُمْ ضمير يعود عليها، وحكي عن الفراء أنه جوز أن تكون «ما» شرطية بتقدير أنه ما، وحذف هذا الضمير لا يجوز عند سيبويه إلا في الشعر، ومنه:
إن من يدخل الكنيسة يوما وقرأ الجمهور «فأن لله» بفتح الهمزة، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم وحسين عن أبي عمرو «فإن» بكسر الهمزة، وقرأ الحسن «خمسه» بسكون الميم، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ الآية، قال الزجّاج عن فرقة: المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم، «فإن» متعلقة بهذا الوعد، وقال أيضا عن فرقة:
إنها متعلقة بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح، لأن قوله وَاعْلَمُوا يتضمن بانقياد وتسليم لأمر الله في الغنائم فعلق «أن» بقوله وَاعْلَمُوا على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة، وقوله وَما أَنْزَلْنا عطف على قوله بِاللَّهِ والمشار إليه ب ما هو النصر والظهور الذي أنزله الله يوم بدر على نبيه وأصحابه، أي إن كنتم مؤمنين بالله وبهذه الآيات والعظائم الباهرة التي أنزلت يوم بدر، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن نزل يوم بدر أو في قصة يوم بدر على تكره في هذا التأويل الأخير.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون المعنى واعلموا أنما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا إن كنتم آمنتم، أي فانقادوا لذلك وسلموا وهذا تأويل حسن في المعنى،
531
ويعترض فيه الفصل بين الظرف وما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام، ويَوْمَ الْفُرْقانِ معناه يوم الفرق بين الحق والباطل بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك، والْفُرْقانِ مصدر من فرق يفرق، والْجَمْعانِ يريد جمع المسلمين وجمع الكفار، وهو يوم الوقعة التي قتل فيها صناديد قريش ببدر، ولا خلاف في ذلك، وعليه نص ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن بن علي وقتادة وغيرهم. وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول جمهور الناس.
وقال أبو صالح: لتسع عشرة، وشك في ذلك عروة بن الزبير، وقال لتسع عشرة أو لسبع عشرة، والصحيح ما عليه الجمهور، وقوله عز وجل: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يعضد أن قوله وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يراد به النصر والظفر، أي الآيات والعظائم من غلبة القليل الكثير، وذلك بقدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
العامل في إِذْ قوله الْتَقَى وبِالْعُدْوَةِ شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رحا البير لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادي أي منعته، ومنه قول الشاعر:
عدتني عن زيارتك العوادي وحالت دونها حرب زبون
ولأنها ما عدا الوادي أي جاوزه، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة، وهذه هي العدوة التي في الآية، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «بالعدوة» بضم العين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «بالعدوة» بكسر العين، وهما لغتان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة وعمرو «بالعدوة» بفتح العين، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر، قال أبو الفتح: الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن رغوة ورغوة ورغوة، وروى الكسائي: كلمته بحضرة فلان وحضرته إلى سائر نظائر، ذكر أبو الفتح كثيرا منها، وقوله الدُّنْيا والْقُصْوى إنما بالإضافة إلى المدينة، وفي حرف ابن مسعود «إذ أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى»، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان، حدثني أبي أنه رأى هذه المواضع على ما وصفت وقال ابن عباس: بدر بين مكة والمدينة، والدُّنْيا من الدنو، والْقُصْوى من القصو، وهو البعد، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ، وقال الخليل في العين: شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا، والرَّكْبُ بإجماع من المفسرين غير أبي سفيان، ولا يقال ركب إلا لركاب الإبل وهو من أسماء الجمع، وقد يجمع راكب عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر، ولا يقال ركب لما كثر جدا من الجموع.
532
وقال القتبي: الركب العشرة ونحوها، وهذا غير جيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد قال «والثلاثة ركب» الحديث وقوله أَسْفَلَ في موضع خفض تقديره في مكان أسفل كذا قال سيبويه، قال أبو حاتم: نصب «أسفل» على الظرف ويجوز «الركب أسفل» على معنى وموضع الركب أسفل أو الركب مستقرا أسفل.
قال القاضي أبو محمد: وكان الركب ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب قد نكب عن بدر حين نذر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي، وقال مجاهد في كتاب الطبري: أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجارا لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد ﷺ وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر من يسقي لهم كلهم، فاقتتلوا فغلبهم أصحاب محمد ﷺ فأسروهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تعقب، وكان من هذه الفرق شعور يبين من الوقوف على القصة بكمالها، وقوله وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ قال الطبري وغيره: لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم، وقال المهدوي: المعنى أي لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نيل واضح، وإيضاحه أن المقصد من الآية نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك، فالمعنى إذ هيأ الله لكم هذه الجمال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله دون تعب كثير: ولو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا، ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عز وجل لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً أي لينفذ ويظهر أمرا قد قدره في الأول مَفْعُولًا لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم، وذلك كله معدوم عنده، وقوله تعالى:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ الآية، قال الطبري: المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة، وَيَحْيى أيضا ويعيش من عاش عن بيان منه أيضا وإعذار لا حجة لأحد عليه، فالهلاك والحياة على هذا التأويل حقيقتان، وقال ابن إسحاق وغيره: معنى لِيَهْلِكَ أي ليكفر، وَيَحْيى أي ليؤمن، فالحياة والهلاك على هذا مستعارتان، والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر أيضا من كفر عن مثل ذلك، وقرأ الناس «ليهلك» بكسر اللام الثانية وقرأ الأعمش «ليهلك» بفتح اللام، ورواها عصمة عن أبي بكر عن عاصم، و «البينة» صفة أي عن قضية بينة، واللام الأولى في قوله لِيَهْلِكَ رد على اللام في قوله لِيَقْضِيَ.
وقرأ ابن كثير في رواية قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «من حيّ» بياء واحدة مشددة، وقرأ نافع وابن كثير في رواية البزي وعاصم في رواية أبي بكر «من حيي» بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية، قال من قرأ «حيّ» فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبها بالصحيح مثل عض وشم ونحوه، ألا ترى أن حذف الياء من جوار في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذا قلت رأيت جواري لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح، ومنه قوله كَلَّا إِذا بَلَغَتِ
533
التَّراقِيَ
[القيامة: ٢٦]، وعلى نحو «حيّ» جاء قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
عيّوا بأمرهم كما... عيّت ببيضتها الحمامه
ومنه قول لبيد: [الرمل]
سألتني جارتي عن أمتي... وإذا ما عيّ ذو اللب سأل
وقول المتلمس: [الطويل]
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه... زنابيره والأزرق المتلمس
ويروى جن ذبابه، قال أبو علي وغيره: هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز، ألا ترى أن قوله تعالى: عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف: ٣٣، القيامة: ٤٠] لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم، ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول: [الكامل]
وكأنها بين النساء سبيكة... تمشي بسدة بيتها فتعي
قال أبو علي وأما قراءة من قرأ «حيي»، فبين ولم يدغم، فإن سيبويه قال: أخبرنا بهذه اللغة يونس، قال وسمعنا بعض العرب يقول أحيياء قال أبو حاتم: القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام العرب، والخط فيه ياء واحدة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه اللفظة استوعب أبو علي القول فيما تصرف من «حيي» كالحي الذي هو مصدر منه وغيره.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
المهدوي إِذْ نصب بتقدير واذكر.
قال القاضي أبو محمد: أو بدل من إِذْ المتقدمة وهو أحسن، وتظاهرت الروايات أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى فيها عدد الكفار قليلا فأخبر بذلك أصحابه فقويت نفوسهم وحرضوا على اللقاء، فهذا معنى قوله فِي مَنامِكَ أي في نومك قاله مجاهد وغيره.
وروي عن الحسن أن معنى قوله فِي مَنامِكَ أي في عينك إذ هي موضع النوم، وعلى هذا التأويل تكون الرواية في اليقظة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول ضعيف، وعليه فسر النقاش وذكره عن المازني، والضمير على التأويلين من قوله يُرِيكَهُمُ عائد على الكفار من أهل مكة، ومما يضعف ما روي عن الحسن أن معنى هذه الآية يتكرر في التي بعدها، لأن النبي ﷺ مخاطب في الثانية أيضا، وقد تظاهرت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم، انتبه وقال لأصحابه أبشروا فلقد نظرت إلى مصارع القوم، ونحو هذا، وقد كان علم أنهم ما بين التسعمائة إلى الألف، فكيف يراهم ببصره بخلاف ما علم، والظاهر أنه رآهم في نومه قليلا قدرهم وحالهم وبأسهم مهزومين مصروعين، ويحتمل أنه رآهم قليلا عددهم، فكان تأويل رؤياه انهزامهم، فالقلة والكثرة على الظاهر مستعارة في غير العدد، كما قالوا: المرء كثير بأخيه، إلى غير ذلك من الأمثلة، والفشل الخور عن الأمر، إما بعد التلبس وإما بعد العزم على التلبس ولَتَنازَعْتُمْ أي لتخالفتم وفِي الْأَمْرِ يريد في اللقاء والحرب وسَلَّمَ لفظ يعم كل متخوف اتصل بالأمر أو عرض في وجهه فسلم الله من ذلك كله، وعبر بعض الناس أن قال «سلم لكم أمركم» ونحو هذا مما يندرج فيما ذكرناه، وقوله إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بإيمانكم وكفركم مجاز بحسب ذلك، وقرأ الجمهور من الناس «ولكنّ الله سلم» بشد النون ونصب المكتوبة وقرأت فرقة «ولكن الله» برفع المكتوبة، وقوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ الآية، وَإِذْ عطف على الأولى، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإجماع، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا ووقعت العين على العين، والمعنى أن الله تعالى لما أراد من إنفاذ قضائه في نصرة الإسلام وإظهاره قلل كل طائفة في عيون الأخرى، فوقع الخلل في التخمين والحزر الذي يستعمله الناس في هذا التجسد كل طائفة على الأخرى وتتسبب أسباب الحرب، وروي في هذا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لقد قلت ذلك اليوم لرجل إلى جنبي أتظنهم سبعين؟ قال بل هم مائة، قال فلما هزمناهم أسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال ألفا.
قال القاضي أبو محمد: ويرد على هذا المعنى في التقليل ما روي أن رسول الله ﷺ حين سأل عما ينحرون كل يوم، فأخبر أنهم يوما عشرا ويوما تسعا، قال هم ما بين التسعمائة إلى الألف، فإما أن عبد الله ومن جرى مجراه لم يعلم بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن نفرض التقليل الذي في الآية تقليل القدر والمهابة والمنزلة من النجدة، وتقدم في مثل قوله لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو للقصة بأجمعها، وذهب بعض الناس إلى أنهما لمعنيين من معاني القصة والعموم أولى، وقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تنبيه على أن الحول بأجمعه لله وأن كل أمر فله وإليه، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش «ترجع» بفتح التاء وكسر الجيم، قال أبو حاتم: وهي قراءة عامة الناس، وقرأ الأعرج وابن كثير وأبو عمرو ونافع وغيرهم «ترجع» بضم التاء وفتح الجيم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
535
هذا أمر بما فيه داعية النصر وسبب العز، وهي وصية من الله متوجهة بحسب التقييد التي في آية الضعف، ويجري مع معنى الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا».
قال القاضي أبو محمد: وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في ولاية الإمارة والقضاء لا يطلب ولا يتمنى، فإن ابتلي صبر على إقامة الحق، و «الفئة» الجماعة أصلها فئوة وهي من فأوت أي جمعت، ثم أمر الله تعالى بإكثار ذكره هنالك إذ هو عصمة المستنجد ووزر المستعين، قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ذكر خفي لأن رفع الأصوات في موطن القتال رديء مكروه إذا كان إلغاطا، فأما إن كان من الجمع عند الحملة فحسن فاتّ في عضد العدو، وقال قيس بن عباد: كان أصحاب رسول الله ﷺ يكرهون الصوت عند ثلاث: عند قراءة القرآن وعند الجنازة والقتال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوا إجابة الدعاء عند القتال وإقامة الصلاة ونزول الغيث، وقال ابن عباس يكره التلثم عند القتال.
قال القاضي أبو محمد: ولهذا والله أعلم يتسنن المرابطون بطرحه عند القتال على ضنانتهم به وتُفْلِحُونَ تنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم، وهذا مثل قول لبيد: [الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض ضعف وقد يخدع الأريب
وقوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية استمرار على الوصية لهم والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أمر بدر وتنازعهم، وفَتَفْشَلُوا نصب بالفاء في جواب النهي، قال أبو حاتم في كتاب عن إبراهيم «فتفشلوا» بكسر الشين وهذا غير معروف وقرأ جمهور الناس «وتذهب» بالتاء من فوق ونصب الباء، وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم «وتذهب ريحكم» بالتاء وجزم الباء، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهب» بالياء من تحت وبجزم يذهب، وقرأ أبو حيوة «ويذهب» بالياء من تحت ونصب الباء، ورواها أبان وعصمة عن عاصم، والجمهور على أن الريح هنا مستعارة والمراد بها النصر والقوة كما تقول: الريح لفلان إذا كان غالبا في أمر، ومن هذا المعنى قول الشاعر وهو عبيد بن الأبرص: [البسيط]
كما حميناك يوم العنف من شطب والفضل للقوم من ريح ومن عدد
وقال مجاهد: «الريح» النصر والقوة، وذهبت ريح أصحاب محمد ﷺ حين نازعوه يوم أحد، وقال زيد بن علي وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ معناه الرعب من قلوب عدوكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن بشرط أن يعلم العدو بالتنازع، وإذا لم يعلم فالذاهب قوة
536
المتنازعين فينهزمون، وقال شاعر الأنصار: [البسيط]
قد عوّدتهم ظباهم أن تكون لهم... ريح القتال وأسلاب الذين لقوا
ومن استعارة الريح قول الآخر: [الوافر]
إذا هبت رياحك فاغتنمها... فإن لكل عاصفة سكون
وهذا كثير مستعمل، وقال ابن زيد وغيره: الريح على بابها، وروي أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار، واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا». وقال الحكم وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ يعني الصبا إذ بها نصر محمد ﷺ وأمته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما كان في غزوة الخندق خاصة، وقوله وَاصْبِرُوا إلى آخر الآية، تتميم في الوصية وعدة مؤنسة، وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الآية، آية تتضمن الطعن على المشار إليهم وهم كفار قريش، وخرج ذلك على طريق النهي عن سلوك سبيلهم، والإشارة هي إلى كفار قريش بإجماع، و «البطر» الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها، و «الرياء» المباهاة والتصنع بما يراه غيرك، وهو فعال من راءى يرائي سهلت همزته، وروي أن أبا سفيان لما أحس أنه قد تجاوز بعيره الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بعث إلى قريش فقال: «إن الله قد سلم عيركم التي خرجتم إلى نصرتها فارجعوا سالمين قد بلغتم مرادكم»، فأتى رأي الجماعة على ذلك، فقال أبو جهل: والله لا نفعل حتى نأتي بدرا، وكانت بدر سوقا من أسواق العرب لها يوم موسم، فننحر عليها الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بنا العرب ويهابنا الناس.
قال القاضي أبو محمد: فهذا معنى قوله تعالى: وَرِئاءَ النَّاسِ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فاحنها الغداة»، وقال محمد بن كعب القرظي: خرجت قريش بالقيان والدفوف، وقوله وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أي غيرهم.
قال القاضي أبو محمد: لأنهم أحرى بذلك من أن يقتصر صدهم على أنفسهم، وقوله وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ آية تتضمن الوعيد والتهديد لمن بقي من الكفار ونفوذ القدر فيمن مضى بالقتل.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
التقدير واذكروا إذ، والضمير في لَهُمُ عائد على الكفار، والشَّيْطانُ إبليس نفسه، وحكى
537
المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا القول أن قوله وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ليس مما يلقى بالوسوسة، وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش ففي السير لابن هشام أنه جاءهم بمكة، وفي غيرها أنه جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم، فقال لهم «إني جار لكم» ولن تخافوا من قومي وهم لكم أعوان على مقصدكم ولن يغلبكم أحد، فسروا عند ذلك ومضوا لطيتهم وقال لهم أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصرا.
فروي أنه لما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما رأى الملائكة نكص فقال له الحارث أتفر يا سراقة فلم يلو عليه، ويروى أنه قال له ما تضمنت الآية.
وروي أن عمرو بن وهب أو الحارث بن هشام قال له أين يا سراقة؟ فلم يلو ومثل عدو الله فذهب ووقعت الهزيمة، فتحدث أن سراقة فر بالناس، فبلغ ذلك سراقة بن مالك، فأتى مكة فقال لهم: والله ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم ولا رأيتكم ولا كنت معكم، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من بني مدلج، فقال لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ الآية، والْيَوْمَ ظرف، والعامل فيه معنى نفي الغلبة، ويحتمل أن يكون العامل متعلق لَكُمُ وممتنع أن يعمل غالِبَ لأنه كان يلزم أن يكون لا غالبا، وقوله إِنِّي جارٌ لَكُمْ معناه فأنتم في ذمتي وحماي، وتَراءَتِ تفاعلت من الرؤية أي رأى هؤلاء هؤلاء، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر «ترأت» مقصورة، وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه أمال والراء مرققة ثم رجع عن ذلك، وقوله نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ معناه رجع من حيث جاء، وأصل النكوص في اللغة الرجوع القهقرى، وقال زهير:
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا
كذا أنشد الطبري، وفي رواية الأصمعي إذا ما استلأموا وبذلك فسر الطبري هذه الآية، وفي ذلك بعد، وإنما رجوعه في هذه الآية مشبه بالنكوص الحقيقي، وقال اللغويون: النكوص، الإحجام عن الشيء، يقال أراد أمرا ثم نكص عنه، وقال تأبّط شرّا: [البسيط]
ليس النكوص على الأدبار مكرمة إن المكارم إقدام على الأسل
قال القاضي أبو محمد: فليس هنا قهقرى بل هو فرار، وقال مؤرج: نكص هي رجع بلغة سليم.
قال القاضي أبو محمد: وقوله عَلى عَقِبَيْهِ يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله، وقوله إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم، وقوله إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرّ، وفي الموطإ وغيره أن رسول الله ﷺ قال: «ما ريء الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة، لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر»، قيل وما رأى يا رسول الله؟ قال: «رأى الملائكة يزعمها جبريل».
538
وقال الحسن: رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام، وقوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ قيل إن هذه معذرة منه كاذبة ولم تلحقه قط مخافة، قاله قتادة وابن الكلبي، وقال الزجّاج وغيره: بل خاف مما رأى من الأمر وهوله وأنه يومه الذي أنظر إليه، ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة ونزول الملائكة للحرب، وحكى الطبري بسنده أنه لما انهزم المشركون يوم بدر حين رمى رسول الله ﷺ بقبضة من التراب وجوه الكفار أقبل جبريل ﷺ إلى إبليس، فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا، فقال له الرجل أي سراقة تزعم أنك لنا جار؟ فقال إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ الآية، ثم ذهب، وقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الآية، العامل في إِذْ زَيَّنَ أو نَكَصَ لأن ذلك الموقف كان ظرفا لهذه الأمور كلها، وقال المفسرون إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم وقلة عددهم، قالوا مشيرين إلى المسلمين غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي اغتروا فأدخلوا نفوسهم فيما لا طاقة لهم به.
قال القاضي أبو محمد: والنفاق أخص من مرض القلب لأن مرض القلب مطلق على الكافر وعلى من اعترضته شبهة وعلى من بينهما، وكني بالقلوب عن الاعتقادات إذ القلوب محلها، وروي في نحو هذا التأويل عن الشعبي أن قوما ممن كان الإسلام داخل قلوبهم خرجوا مع المشركين إلى بدر، منهم من أكره ومنهم من داجى وداهن، فلما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم ارتابوا واعتقدوا أنهم مغلوبون، فقالوا غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، قال مجاهد: منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن أمية.
قال القاضي أبو محمد: ولم يذكر أحد ممن شهد بدرا بنفاق إلا ما ظهر بعد ذلك من معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، فإنه القائل يوم أحد لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: ١٥٤] وقد يحتمل أن يكون منافقو المدينة لما وصلهم خروج قريش في قوة عظيمة قالوا عن المسلمين هذه المقالة، فأخبر الله بها نبيه في هذه الآية، ثم أخبر الله عز وجل بأن من توكل على الله واستند إليه، فإن عزة الله تعالى وحكمته كفيلة بنصره وشد أعضاده، وخرجت العبارة عن هذا المعنى بأوجز لفظ وأبلغه.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)
هذه الآية تتضمن التعجيب مما حل بالكفار يوم بدر، قاله مجاهد وغيره، وفي ذلك وعيد لمن بقي
539
منهم، وحذف جواب، لَوْ إبهام بليغ، وقرأ جمهور السبعة والناس «يتوفى» بالياء فعل فيه علامة التذكير إلى مؤنث في اللفظ، وساغ ذلك أن التأنيث غير حقيقي، وارتفعت الْمَلائِكَةُ ب يَتَوَفَّى، وقال بعض من قرأ هذه القراءة إن المعنى إذ يتوفى الله الذين كفروا والْمَلائِكَةُ رفع بالابتداء، ويَضْرِبُونَ خبره والجملة في موضع الحال.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا التأويل سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا، وقرأ ابن عامر من السبعة والأعرج «تتوفى» بالتاء على الإسناد إلى لفظ «الملائكة»، ويَضْرِبُونَ في موضع الحال، وقوله وَأَدْبارَهُمْ قال جمهور المفسرين يريد أستاههم، ولكن الله كريم كنى، وقال ابن عباس أراد ظهورهم وما أدبر منهم، ومعنى هذا أن الملائكة كانت تلحقهم في حال الإدبار فتضرب أدبارهم، فأما في حال الإقبال فبين تمكن ضرب الوجوه، وروى الحسن أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت في ظهر أبي جهل مثل الشراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك ضرب الملائكة»، وعبر بجمع الملائكة، وملك الموت واحد إذ له على ذلك أعوان من الملائكة، وقوله وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ قيل كانوا يقولون للكفار حينئذ هذا اللفظ فحذف يقولون اختصار، وقيل معناه وحالهم يوم القيامة أن يقال لهم هذا، والْحَرِيقِ فعيل من الحرق، وقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يحتمل أن يكون من قول الملائكة في وقت توفيتهم لهم على الصورة المذكورة، ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا تقريعا من الله عز وجل للكافرين حيهم وميتهم، وَأَنَّ يصح أن تكون في موضع رفع على تقدير والحكم أن، ويصح أن تكون في موضع خفض عطفا على ما في قوله بِما قَدَّمَتْ، وقال مكي والزهراوي: ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الباء تقديره «وبأن»، فلما حذفت الباء حصلت في موضع نصب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير متجه ولا بيّن إلا أن تنصب بإضمار فعل، وقوله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الآية، الدأب: العادة في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل
ويروى كدينك، ومنه قول خراش بن زهير العامري:
فما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت هوازن وارفضّت سليم وعامر
وهو مأخوذ من دأب على العمل إذا لزمه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، لصاحب الجمل الذي هش إليه وأقبل نحوه وقد ذل ودمعت عيناه: إنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه فكأن العادة دؤوب ما، وقال جابر بن زيد وعامر الشعبي ومجاهد وعطاء: المعنى كسنن آل فرعون، ويحتمل أن يراد كعادة آل فرعون وغيرهم، فتكون عادة الأمم بجملتها لا على انفراد أمة، إذ آل فرعون لم يكفروا وأهلكوا مرارا بل لكل أمة مرة واحدة، ويحتمل أن يكون المراد كعادة الله فيهم، فأضاف العادة إليهم إذ لهم نسبة إليها يضاف المصدر إلى الفاعل وإلى المفعول، والكاف من قوله كَدَأْبِ يجوز أن يتعلق بقوله وَذُوقُوا وفيه بعد، والكاف على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، ويجوز أن تتعلق بقوله قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وموضعها أيضا على هذا نصب كما تقدم، ويجوز أن يكون معنى الكلام الأمر مثل دأب آل فرعون فتكون الكاف في
540
موضع خبر الابتداء، وقوله فَأَخَذَهُمُ معناه أهلكهم وأتى عليهم بقرينة قوله بِذُنُوبِهِمْ ثم ابتدأ الإخبار بقوة الله تعالى وشدة عقابه.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦)
ذلِكَ في موضع رفع على خبر الابتداء تقديره عند سيبويه الأمر ذلك، ويحتمل أن يكون التقدير وجب ذلك، والباء باء السبب، وقوله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً جزم ب لَمْ وجزمه بحذف النون، والأصل يكون فإذا دخلت لم جاء لم يكن، ثم قالوا «لم يك مغيرا» كأنهم قصدوا التخفيف فتوهموا دخول «لم» على يكن فحذفت النون للجزم، وحسن ذلك فيها لمشابهتها حروف اللين التي تحذف للجزم كما قالوا لم أبال، ثم قالوا لم أبل فتوهموا دخول لم على أبال؟ ومعنى هذه الآية الإخبار بأن الله عز وجل إذا أنعم على قوم نعمة فإنه بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغيرها وتكديرها حتى يجيء ذلك منهم بأن يغيروا حالهم التي تراد وتحسن منهم، فإذا فعلوا ذلك وتلبسوا بالتكسب للمعاصي أو الكفر الذي يوجب عقابهم غير الله نعمته عليهم بنقمته منهم، ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد ﷺ فكفروا ما كان يجب أن يكونوا عليه، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته.
وقوله وَأَنَّ عطف على الأولى، وسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي لكل وبكل ما يقع من الناس في تغيير ما بأنفسهم لا يخفى عليه من ذلك سر ولا جهر، وقوله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الآية، الكاف من كَدَأْبِ في هذه الآية متعلقة بقوله حَتَّى يُغَيِّرُوا، وهذا التكرير هو لمعنى ليس للأول، إذ الأول دأب في أن هلكوا لما كفروا، وهذا الثاني دأب في أن لم تغير نعمتهم حتى غيروا ما بأنفسهم، وقد ذكرنا متعلقات الكاف في الآية الأولى، والإشارة بقوله الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى قوم هود وصالح ونوح وشعيب وغيرهم، وقوله تعالى:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ إلى يَتَّقُونَ المعنى المقصود تفضيل الدواب الذميمة كالخنزير والكلب العقور على الكافرين الذين حتم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وهذا الذي يقتضيه اللفظ، وأما الكافر الذي يؤمن فيما يستأنفه من عمره فليس بشر الدواب، وقوله الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ يحتمل أن يريد أن الموصوف ب شَرَّ الدَّوَابِّ هم الذين لا يؤمنون المعاهدون من الكفار فكانوا شر الدواب على هذا بثلاثة أوصاف: الكفر والموافاة عليه والمعاهدة مع النقض، والَّذِينَ على هذا بدل البعض من الكل، ويحتمل أن يريد بقوله الَّذِينَ عاهَدْتَ الَّذِينَ الأولى، فتكون بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، والمعنى على هذا الذين عاهدت فرقة أو طائفة منهم، ثم ابتدأ يصف حال المعاهدين بقوله: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ،
والمعاهدة في هذه الآية المسالمة وترك الحرب، وأجمع المتأولون أن الآية نزلت في بني قريظة، وهي بعد تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة، ومن قال إن المراد ب الدَّوَابِّ الناس فقول لا يستوفي المذمة، ولا مرية في أن الدواب تعم الناس وسائر الحيوان، وفي تعميم اللفظة في هذه الآية استيفاء المذمة، وقوله فِي كُلِّ مَرَّةٍ يقتضي أن الغدر قد كان وقع منهم وتكرر ذلك، وحديث قريظة هو أنهم عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ألا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوا من غيرهم، فلما اجتمعت الأحزاب على النبي ﷺ بالمدينة غلب على ظن بني قريظة أن النبي صلى الله عليه وسلم، مغلوب ومستأصل، وخدع حيي بن أخطب النضري كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة وعهدهم، فغدروا ووالوا قريشا وأمدوهم بالسلاح والأدراع، فلما انجلت تلك الحال عن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الله بالخروج إليهم وحربهم فاستنزلوا، وضربت أعناقهم بحكم سعد بن معاذ، واستيعاب القصة في سيرة ابن هشام، وإنما اقتضبت منها ما يخص تفسير الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
دخلت النون مع «إما» تأكيدا ولتفرق بينها وبين إما التي هي حرف انفصال في قولك جاءني إما زيد وإما عمرو «وتثقفهم» معناه وتحصلهم في ثقافك أو تلقاهم بحال ضعف تقدر عليهم فيها وتغلبهم، وهذا لازم من اللفظ لقوله فِي الْحَرْبِ، وقيل ثقف أخذ بسرعة ومن ذلك قولهم: رجل ثقف لقف، وقال بعض الناس معناه تصادفنهم إلى نحو هذا من الأقوال التي لا ترتبط في المعنى، وذلك أن المصادف يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب، والثقاف في اللغة ما تشد به القناة ونحوها، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إن قناتي لنبع ما يؤيسها عض الثقاف ولا دهن ولا نار
وقال آخر: [البسيط]
تدعو قعينا وقد عضّ الحديد بها عض الثقاف على صم الأنابيب
وقوله فَشَرِّدْ معناه طرد وخوف وأبعده عن مثل فعلهم، والشريد المبعد عن وطن أو نحوه، والمعنى بفعل تفعله بهم من قتل أو نحوه يكون تخويفا لمن خلفهم أي لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به، وسواء كان معاصرا لهم أم لا، وما تقدم الشيء فهو بين يديه وما تأخر عنه فهو خلفه، فمعنى الآية فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريدا لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم، والضمير في لَعَلَّهُمْ عائد على الفرقة المشردة، وقال ابن عباس: المعنى نكل بهم من خلفهم، وقالت فرقة «شرد بهم» معناه سمع بهم، حكاه الزهراوي عن أبي عبيدة، والمعنى متقارب لأن
542
التسميع بهم في ضمن ما فسرناه أولا، وفي مصحف عبد الله «فشرذ» بالذال منقوطة، وهي قراءة الأعمش ولم يحفظ شرذ في لغة العرب ولا وجه لها إلا أن تكون الذال المنقوطة تبدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخراذيل، وقرأ أبو حيوة وحكاها المهدوي عن الأعمش بخلاف عنه: «من خلفهم» بكسر الميم من قوله مَنْ وخفض الفاء من قوله خَلْفَهُمْ والترجي في قوله لَعَلَّهُمْ بحسب البشر، ويَذَّكَّرُونَ معناه يتعظون.
وقوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ الآية قال أكثر المؤلفين في التفسير: إن هذه الآية هي من بني قريظة، وحكاه الطبري عن مجاهد، والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر، وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته فترتب فيهم هذه الآية وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشتهرة، فهذه الآية هي عندي فيمن يستقبل حاله من سائر الناس غير بني قريظة، وخوف الخيانة بأن تبدو جنادع الشر من قبل المعاهدين وتتصل عنهم أقوال وتتحسس من تلقائهم مبادئ الغدر، فتلك المبادئ معلومة والخيانة التي هي غايتهم مخوفة لا متيقنة، وحينئذ ينبذ إليهم على سواء، فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا، وبنو قريظة نبذوا العهد مرتين، وقال يحيى بن سلام: تخاف في هذه الآية بمعنى تعلم.
قال القاضي أبو محمد: وليس كذلك، وقوله خِيانَةً يقتضي حصول عهد لأن من ليس بينك وبينه عهد فليست محاربته لك خيانة، فأمر الله تعالى نبيه محمدا ﷺ إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا، وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم، وهو النبذ ومفعول قوله فَانْبِذْ محذوف تقديره إليهم عهدهم.
قال القاضي أبو محمد: وتقتضي قوة هذا اللفظ الحض على حربهم ومناجزتهم إن لم يستقيموا، وقوله عَلى سَواءٍ قيل معناه حتى يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم، فتكونون فيه أي في استشعار الحرب سواء، وقيل معنى قوله عَلى سَواءٍ أي على معدلة أي فذلك هو العدل والاستواء في الحق، قال المهدوي: معناه جهرا لا سرا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو الأول، وقال الوليد بن مسلم: عَلى سَواءٍ معناه على مهل كما قال تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: ٢].
قال القاضي أبو محمد: واللغة تأبى هذا القول، وذكر الفراء أن المعنى انبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب، بل افعل بهم مثلما فعلوا بك.
قال القاضي أبو محمد: يعني موازنة ومقايسة، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ يحتمل أن يكون طعنا على الخائنين من الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يريد فانبذ إليهم على سواء حتى تبعد عن الخيانة، فإن الله لا يحب الخائنين فيكون النبذ على هذا التأويل لأجل أن الله لا يحب
543
الخائنين، والسواء في كلام العرب قد يكون بمعنى العدل والمعدلة، ومنه قوله تعالى: إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: ٦٤] ومنه قول الراجز: [الرجز]
فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء
وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥] ومنه قول حسان بن ثابت: [الكامل]
يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيّب في سواء الملحد
وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبكسر السين غير عاصم فإنه فتحها، والَّذِينَ كَفَرُوا مفعول أول، وسَبَقُوا مفعول ثان، والمعنى فأتوا بأنفسهم وأنجوها «إنهم لا يعجزون» بكسر ألف «إن» على القطع والابتداء، ويُعْجِزُونَ معناه مفلتون ويعجزون طالبهم، فهو معدى عجز بالهمزة تقول عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضا، قال سويد: [الوافر]
وأعجزنا أبو ليلى طفيل صحيح الجلد من أثر السلاح
وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، كقريش في بدر وغيرهم، فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون، وقيل معناه لا يعجزون في الدنيا، وقيل المراد في الآخرة، قال أبو حاتم وقرأ مجاهد وابن كثير وشبل «ولا تحسبن» بكسر التاء، وقرأ الأعرج وعاصم وخالد بن الياس «تحسبن» بفتح التاء من فوق وبفتح السين، وقرأ الأعمش «ولا يحسب» بفتح السين والياء من تحت وحذف النون، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى «ولا يحسبنّ» بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة، وقرأ حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة «ولا يحسبن» بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون التقدير ولا يحسبن أحد، ويكون قوله الَّذِينَ كَفَرُوا مفعولا أولا وسَبَقُوا مفعولا ثانيا، وإما أن يكون الَّذِينَ كَفَرُوا هم الفاعلون، ويكون المفعول الأول مضمرا وسَبَقُوا مفعول ثان، وتقدير هذا الوجه ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، وإما أن يكون الَّذِينَ كَفَرُوا هو الفاعل وتضمر «أن» فيكون التقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، وتسد أن سبقوا مسد المفعولين، قال الفارسي: ويكون هذا كما تأوله سيبويه في قوله عز وجل قال أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤] التقدير أن أعبد.
قال القاضي أبو محمد: ونحوه قول الشاعر: [الطويل]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
قال أبو علي: وقد حذفت «أن» وهي مع صلتها في موضع الفاعل، وأنشد أحمد بن يحيى في ذلك:
[الطويل]
544
وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «أنهم لا يعجزون» بفتح الألف من «أنهم»، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون، وقرأ الجمهور «يعجزون» بسكون العين، وقرأ بعض الناس فيما ذكر أبو حاتم «يعجزون» بفتح العين وشد الجيم، وقرأ ابن محيصن «يعجزون» بكسر النون ومنحاها يعجزوني بإلحاق الضمير، قال الزجّاج: الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على المعنى أنهم لا يعجزونني، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين، كما قال الشاعر: [الوافر]
وما راعنا إلا يسير بشرطة وعهدي به قينا يفش بكير
تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني
قال القاضي أبو محمد: البيت لعمرو بن معد يكرب وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة: [الكامل]
ولقد علمت ولا محالة أنّني للحادثات فهل تريني أجزع
هذا يجوز على الاضطرار، فقال قوم حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب، وقال أبو العباس المبرد: أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية، وهكذا كان يقول في بيت عمرو بن معديكرب، وفي مصحف عبد الله «ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون»، قال أبو عمرو الداني بالياء من تحت وبغير نون في يحسب.
قال القاضي أبو محمد: وذكرها الطبري بنون.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)
المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين، والضمير في قوله لَهُمْ عائد على الذين ينبذ إليهم العهد، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس: «القوة» ذكور الخيل و «الرباط» إناثها، وهذا قول ضعيف، وقالت فرقة:
القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» ثلاثا، وقال السدي: القوة السلاح، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق فقال: هذا من القوة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، والْخَيْلِ والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهية والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة، وأمر المسلمون بإعداد ما
545
استطاعوا من ذلك، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفا على نحو قوله مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] وعلى نحو قوله فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: ٦٨] وهذا كثير، ونحوه قول رسول الله ﷺ «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، هذا في البخاري وغيره، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا»، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر، ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحرب وأنكاه في العدو وأقربه تناولا للأرواح خصها رسول الله ﷺ بالذكر والتنبيه عليها، وقد روي عنه ﷺ أنه قال: «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة، صانعه والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به» وقال عمرو بن عنبسة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا». ورِباطِ الْخَيْلِ جمع ربط ككلب وكلاب، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة، ويجوز أن يكون الرباط مصدرا من ربط كصاح صياحا ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس، وإن جعلناه مصدرا من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضا. فإذا ربط كل واحد منهم فرسا لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط، وذلك الذي حض في الآية عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من ارتبط فرسا في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «ومن ربط» بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكتب، كذا نصه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر وتُرْهِبُونَ معناه تفزعون وتخوفون، والرهبة الخوف، قال طفيل الغنوي: [البسيط]
ويل أم حيّ دفعتم في نحورهم بني كلاب غداة الرعب والرهب
ومنه راهب النصارى، يقال رهب إذا خاف، ف تُرْهِبُونَ معدى بالهمزة، وقرأ الحسن ويعقوب «ترهّبون» بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء، قال أبو حاتم: وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون» بالياء من تحت وخففها، فهو على هذا المعدى بالتضعيف، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله».
قال القاضي أبو محمد: ذكرها الطبري تفسيرا لا قراءة، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة، وقوله عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ذكر الصفتين وإن كانت متقاربة إذ هي متغايرة المنحى، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدوا لله» بتنوين عدو وبلام في المكتوبة، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ الآية، قال مجاهد الإشارة بقوله وَآخَرِينَ إلى قريظة، وقال السدي: إلى أهل فارس، وقال ابن زيد: الإشارة إلى المنافقين، وقالت فرقة: الإشارة إلى الجن، وقالت فرقة: هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي ﷺ أن يشرد بهم من خلفهم.
546
قال القاضي أبو محمد: وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله لا تَعْلَمُونَهُمُ فإذا حملنا قوله لا تَعْلَمُونَهُمُ على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة وكان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله آخَرِينَ إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال: الإشارة إلى الجن، وإذا جعلنا قوله لا تَعْلَمُونَهُمُ محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال، وكان العلم متعديا إلى مفعولين.
قال القاضي أبو محمد: هذا الوجه أشبه عندي، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل دارا فيها فرس الجهاد ونحو هذا، وفيه على احتماله نظر، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبرز معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله، ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جدا والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون، ويحسن أن يقدر قوله لا تَعْلَمُونَهُمُ بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة، ويحسن أيضا أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقا إذا سمع الآية، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه، وقوله مِنْ دُونِهِمْ بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون» في كلام العرب و «من دون» يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول، ومنه المثل:
وأمر دون عبيدة الوذم تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها، ولزوم هذا هو في الآخرة، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة، وقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها الآية، الضمير في جَنَحُوا هو للذين نبذ إليهم على سواء، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح
وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض ومنه قول النابغة: [الطويل].
جوانح قد أيقنّ أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب
أي موائل. وقال لبيد: [الوافر]
جنوح الهالكيّ على يديه مكّبا يجتلي نقب النصال
وقرأ جمهور الناس «للسّلم» بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسّلم» بكسرها وشدها
547
وهما لغتان في المسالمة، ويقال أيضا «السّلم» بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة، وقرأ جمهور الناس «فاجنح» بفتح النون وهي لغة تميم، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنح» وهي لغة قيس بضم النون، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس، وعاد الضمير في لَها مؤنثا إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس، وقال أبو حاتم يذكر السلم، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد:
هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة.
قال القاضي أبو محمد: وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بها بأن يعنى بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضا إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقرا في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: ١٣٩] الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه، لأن الآيتين مبينتان، وقوله وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أمر في ضمنه وعد.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
الضمير في قوله وَإِنْ يُرِيدُوا عائد على الكفار الذين قيل فيهم، وَإِنْ جَنَحُوا [الأنفال: ٦١] وقوله وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ يريد بأن يظهروا له السلم ويبطنوا الغدر والخيانة، أي فاجنح وما عليك من نياتهم الفاسدة، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي كافيك ومعطيك نصرة وإظهارا، وهذا وعد محض، وأَيَّدَكَ معناه قواك، وَبِالْمُؤْمِنِينَ يريد بالأنصار بقرينة قوله وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الآية، وهذه إشارة إلى العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في حروب بعاث فألف الله تعالى قلوبهم على الإسلام وردهم متحابين في الله، وعددت هذه النعمة تأنيسا لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي كما لطف بك ربك أولا فكذلك يفعل آخرا، وقال ابن مسعود: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله إذا تراءى المتحابان فتصافحا وتضاحكا تحاتت خطاياهما، فقال له عبدة بن أبي لبابة إن هذا ليسير، فقال له لا تقل ذلك فإن الله يقول لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله تمثل حسن بالآية لا أن الآية نزلت في ذلك بل تظاهرت أقوال المفسرين أنها في الأوس والخزرج كما ذكرنا، ولو ذهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان من جميعهم من التحاب حتى تكون ألفة الأوس والخزرج جزءا من ذلك لساغ ذلك،
وكل تألف في الله فتابع لذلك التألف الكائن في صدر الإسلام، وقد روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «المؤمن مألفة لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».
قال القاضي أبو محمد: والتشابه هو سبب الألفة فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال النقاش: نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وحكي عن ابن عباس أنها نزلت في الأوس والخزرج خاصة، قال ويقال إنها نزلت حين أسلم عمر وكمل المسلمون أربعين، قاله ابن عمر وأنس، فهي على هذا مكية، وحَسْبُكَ في كلام العرب وشرعك بمعنى كافيك ويكفيك، والمحسب الكافي، وقالت فرقة: معنى هذه الآية يكفيك الله ويكفيك من اتبعك من المؤمنين، ف مَنِ في هذا التأويل رفع عطفا على اسم الله عز وجل، وقال عامر الشعبي وابن زيد: معنى الآية حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، ف مَنِ في هذا التأويل في موضع نصب عطفا على موضع الكاف، لأن موضعها نصب على المعنى ليكفيك التي سدّت حَسْبُكَ مسدّها، ويصح أن تكون مَنِ في موضع خفض بتقدير محذوف كأنه قال وحسب وهذا كقول الشاعر: [المتقارب]
أكلّ امرئ تحسبين امرأ ونار توقّد بالليل نارا
التقدير وكل نار، وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بابه ضرورة الشعر، ويروى البيت ونارا، ومن نحو هذا قول الشاعر: [الطويل]
إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا فحسبك والضحّاك سيف مهند
يروى «الضحاك» مرفوعا والضحاك منصوبا والضحاك مخفوضا فالرفع عطف على قوله سيف بنية التأخير كما قال الشاعر:
عليك ورحمة الله السلام
ويكون «الضحاك» على هذا محسبا للمخاطب، والنصب عطفا على موضع الكاف من قوله «حسبك» والمهند على هذا محسب للمخاطب، والضحاك على تقدير محذوف كأنه قال فحسبك الضحاك.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
قوله حَرِّضِ معناه حثهم وحضهم، قال النقاش وقرئت «حرص» بالصاد غير منقوطة والمعنى متقارب والحارض الذي هو القريب من الهلاك لفظة مباينة لهذه ليست منها في شيء، وقالت فرقة من
549
المفسرين: المعنى حرض على القتال حتى يبين لك فيمن تركه أنه حرض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول غير ملتئم ولا لازم من اللفظ، ونحا إليه الزجّاج، والْقِتالِ مفترض على المؤمنين بغير هذه الآية، وإنما تضمنت هذه الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بتحريضهم على أمر قد وجب عليهم من غير هذا الموضع، وقوله إِنْ يَكُنْ إلى آخر الآية في لفظ خبر ضمنه وعد بشرط لأن قوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ بمنزلة أن يقال إن يصبر منكم عشرون يغلبوا، وفي ضمنه الأمر بالصبر وكسرت العين من «عشرون» لأن نسبة عشرين من عشرة نسبة اثنين من واحد فكما جاء أول اثنين مكسورا كسرت العين من عشرين ثم اطرد في جموع أجزاء العشرة، فالمفتوح كأربعة وخمسة وسبعة فتح أول جمعه، والمكسور كستة وتسعة كسر أول جمعه، هذا قول سيبويه، وذهب غيره إلى أن عشرين جمع عشر الإبل وهو وردها للتسع، فلما كان في عشرة وعشرة عشر وعشر ويومان من الثالث جمع ذلك على عشرين، كما قال امرؤ القيس:
ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال لما كان في الثلاثين حول
وحول وبعض الثالث وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة بأن ثبوت الواحد للعشرة كان فرضا من الله عز وجل على المؤمنين ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو النسخ لأنه رفع حكم مستقر بحكم آخر شرعي، وفي ضمنه التخفيف، إذ هذا من نسخ الأثقل بالأخف، وذهب بعض الناس إلى أن ثبوت الواحد للعشرة إنما كان على جهة ندب المؤمنين إليه، ثم حط ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين، وروي أيضا هذا عن ابن عباس، قال كثير من المفسرين: وهذا تخفيف لا نسخ إذ لم يستقر لفرض العشرة حكم شرعي، قال مكي:
وإنما هو كتخفيف الفطر في السفر وهو لو صام لم يأثم وأجزأه.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، ولا يمتنع كون المنسوخ مباحا من أن يقال نسخ، واعتبر ذلك في صدقة النجوي، وهذه الآية التخفيف فيها نسخ للثبوت للعشرة، وسواء كان الثبوت للعشرة فرضا أو ندبا هو حكم شرعي على كل حال، وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه أو غير عدده فجائز أن يقال له نسخ لأنه حينئذ ليس بالأول وهو غيره، وذكر في ذلك خلافا.
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر في ذلك أن النسخ إنما يقال حينئذ على الحكم الأول مقيدا لا بإطلاق واعتبر ذلك في نسخ الصلاة إلى بيت المقدس، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «إن يكن منكم مائة» في الموضعين بياء على تذكير العلامة، ورواها خارجة عن نافع.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب المعنى لأن الكائن في تلك المائة إنما هم رجال فذلك في الحمل على المعنى كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] إذ أمثالها حسنات، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «إن تكن منكم مائة» في الموضعين على تأنيث العلامة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب اللفظ والمقصد كأنه أراد إن تكن فرقة عددها مائة وقرأ أبو
550
عمرو بالياء في صدر الآية وبالتاء في آخرها، ذهب في الأولى إلى مراعاة يَغْلِبُوا وفي الثانية إلى مراعاة صابِرَةٌ قال أبو حاتم: وقرأ «إن تكن» بالتاء من فوق منكم «عشرون صابرون» الأعرج وجعلها كلها على «ت».
قال القاضي أبو محمد: إلا قوله وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ فإنه لا خلاف في الياء من تحت، قوله لا يَفْقَهُونَ معناه لا يفهمون مراشدهم ولا مقصد قتالهم لا يريدون به إلا الغلبة الدنياوية، فهم يخافون إذا صبر لهم، ومن يقاتل ليغلب أو يستشهد فيصير إلى الجنة أثبت قدما لا محالة، وروى المفضل عن عاصم «وعلم» بضم العين وكسر اللام على البناء للمفعول، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وابن عمرو والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق «ضعفا» بضم الضاد وسكون العين، وقرأ عاصم وحمزة وشيبة وطلحة «ضعفا» بفتح الضاد وسكون العين، وكذلك اختلافهم في سورة الروم، وقرأ عيسى بن عمر «ضعفا» بضم الضاد والعين وذكره النقاش، وهي مصادر بمعنى واحد، قال أبو حاتم: من ضم الضاد جاز له ضم العين وهي لغة، وحكى سيبويه الضّعف والضّعف لغتان بمنزلة الفقر والفقر، حكى الزهراوي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: ضم الضاد لغة أهل الحجاز وفتحها لغة تميم ولا فرق بينهما في المعنى، وقال الثعالبي في كتاب فقه اللغة له: الضّعف بفتح الضاد في العقل والرأي، والضّعف بضمها في الجسم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ترده القراءة وذكره أبو غالب بن التياني غير منسوب، وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع أيضا «ضعفاء» بالجمع كظريف وظرفاء، وحكاها النقاش عن ابن عباس، وقوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر، ويلحظ منه وعيد لمن لم يصبر بأنه يغلب.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان، ولهم هو الإخبار ولذلك استمر الخطاب ب تُرِيدُونَ، والنبي ﷺ لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، وجاء ذكر النبي ﷺ في الآية مشيرا إلى النبي ﷺ في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش، وأنكره سعد بن معاذ ولكنه ﷺ شغله بغت الأمر وظهور النصر فترك النهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت هذه الآية، ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي ﷺ بأخذ الفدية، وذلك أن رسول الله ﷺ لما جمع أسرى بدر استشار فيهم أصحابه، فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله هم قرابتك ولعل الله أن يهديهم بعد إلى
551
الإسلام ففادهم واستبقهم ويتقوى المسلمون بأموالهم، وقال عمر بن الخطاب لا يا رسول الله بل نضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر، وقال عبد الله بن رواحة بل نجعلهم في واد كثير الحطب ثم نضرمه عليهم نارا، وقد كان سعد بن معاذ قال وهو مع رسول الله ﷺ في العريش وقد رأى الأسر لقد كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، فأخذ رسول الله ﷺ بقول أبي بكر ومال إليه، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأولى والأهيب على سائر الكفار كان قتل أسرى بدر، قال ابن عباس نزلت هذه الآية والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤٧] وذكر الطبري وغيره أن رسول الله ﷺ لما تكلم أصحابه في الأسرى بما ذكر دخل ولم يجبهم ثم خرج، فقال: إن الله تعالى يلين قلوب رجال ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: ٣٦] ومثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: ١١٨] ومثلك يا عمر مثل نوح قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦] ومثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: ٨٨] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنتم اليوم فلا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق، وفي هذا الحديث قال عمر: فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذه حجة على ذكر الهوى في الصلاح، وقرأت فرقة «ما كان للنبيّ» معرفا، وقرأ جمهور الناس «لنبي»، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وحده «أن تكون» على التأنيث العلامة مراعاة للفظ الأسرى، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «أن يكون» بتذكير العلامة مراعاة لمعنى الأسرى، وقرأ جمهور الناس والسبعة «أسرى»، وقرأ بعض الناس «أسارى» ورواها المفضل عن عاصم، وهي قراءة أبي جعفر، والقياس والباب أن يجمع أسير على أسرى، وكذلك كل فعيل بمعنى مفعول وشبه به فعيل وإن لم يكن بمعنى مفعول كمريض ومرضى، إذا كانت أيضا أشياء سبيل الإنسان أن يجبر عليها وتأتيه غلبة، فهو فيها بمنزلة المفعول، وأما جمعه على أسارى فشبيه بكسالى في جمع كسلان وجمع أيضا كسلان على كسلى تشبيها بأسرى في جمع أسير، قاله سيبويه: وهما شاذان، وقال الزجّاج: أسارى جمع أسرى فهو جمع الجمع، وقرأ جمهور الناس «يثخن» بسكون الثاء، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب «يثخّن» بفتح الثاء وشد الخاء، ومعناه في الوجهين يبالغ في القتل، والإثخان إنما يكون في القتل والجارحة وما كان منها، ثم أمر مخاطبة أصحاب النبي ﷺ فقال تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي مالها الذي يعن ويعرض، والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي عمل الآخرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقرأ ابن جماز «الآخرة» بالخفض على تقدير المضاف، وينظر ذلك لقول الشاعر: [المتقارب]
أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقّد بالليل نارا
على تقدير وكل نار، وذكر الطبري وغيره أن رسول الله ﷺ قال للناس: إن شئتم
552
أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم، وإن شئتم قتلوا وسلمتم، فقالوا نأخذ المال ويستشهد منا سبعون، وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل نزل على النبي ﷺ بتخيير الناس هكذا.
قال القاضي أبو محمد: وعلى الروايتين فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب، وإذا خيروا فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ والذي أقول في هذا إن العتب لأصحاب النبي ﷺ بقوله ما كانَ لِنَبِيٍّ إلى قوله عَظِيمٌ إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال منهم وجميع العتب إذا نظر فإنما هو للناس، وهناك كان عمر يقتل ويحض على القتل ولا يرى الاستبقاء، وحينئذ قال سعد بن معاذ: الإثخان أحب إليّ من استبقاء الرجال، وبذلك جعلهما رسول الله ﷺ ناجيين من عذاب أن لو نزل، ومما يدل على حرص بعضهم على المال قول المقداد حين أمر رسول الله ﷺ بقتل عقبة بن أبي معيط: أسيري يا رسول الله، وقول مصعب أين عمير للذي يأسر أخاه شد يدك عليه فإن له أما موسرة إلى غير ذلك من قصصهم، فلما تحصل الأسرى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله ﷺ القتل في النضر وعقبة والمنّ في أبي عزة وغيره، وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله تعالى فاستشار رسول الله ﷺ حينئذ، فمر عمر رضي الله عنه على أول رأيه في القتل، ورأى أبو بكر رضي الله عنه المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء، ومال رسول الله ﷺ إلى رأي أبي بكر، وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير، فلم ينزل على شيء من هذا عتب، وذكر المفسرون أن الآية نزلت بسبب هذه المشورة والآراء، وذلك معترض بما ذكرته، وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة ولا أقول ذلك، لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل بدر وذلك في السرية التي قتل فيها عمرو بن الحضرمي وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال لأجل المال، والذي منّ الله به فيها إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي قد تقدم تحليلها، ووجه ما قال المفسرون أن الناس خيروا في أمرين، أحدهما غير جيد على جهة الاختبار لهم، فاختاروا المفضول فوقع العتب، ولم يكن تخييرا في مستويين، وهذا كما أتي رسول الله ﷺ ليلة الإسراء بإناءين فاختار الفاضل، وعَزِيزٌ حَكِيمٌ صفتان من قبل الآية لأن بالعزة والحكمة يتم مراده على الكمال والتوفية، وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطا.
قال القاضي أبو محمد: وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب، وقد ذكره أيضا أبو الحسن الأخفش، وقال: العرب لا تعرف هذا وكلاهما عندهم سواء، وقوله تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الآية، قالت فرقة: الكتاب السابق هو القرآن، والمعنى لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدقتم لمسكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة، وقال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن أيضا وابن زيد: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم أو تأخر، وقال الحسن وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم: الكتاب هو ما كان الله قضاه في الأزل من إحلال الغنائم والفداء لمحمد ﷺ وأمته وكانت في سائر الأمم محرمة، وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معينا، وقالت فرقة: الكتاب هو
553
أن الله عز وجل قضى أن لا يعاقب أحدا بذنب أتاه بجهالة، وهذا قول ضعيف تعارضه مواضع من الشريعة، وذكر الطبري عن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب أن الكتاب السابق هو أن لا يعذب أحدا بذنب إلا بعد النهي عنه ولم يكونوا نهوا بعد، وقالت فرقة: الكتاب السابق هو ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر، وذهب الطبري إلى دخول هذه المعاني كلها تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى، واللام في لَمَسَّكُمْ جواب لَوْلا، وكِتابٌ رفع بالابتداء والخبر محذوف، وهكذا حال الاسم الذي بعد لولا، وتقديره عند سيبويه لولا كتاب سابق من الله تدارككم، وما من قوله فِيما يراد بها إما الأسرى وإما الفداء، وهي موصولة، وفي أَخَذْتُمْ ضمير عائد عليها، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى العائد، وروي أن رسول الله ﷺ قال: لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر بن الخطاب، وفي حديث آخر وسعد بن معاذ، وذلك أن رأيهما كان أن يقتل الأسرى، وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ الآية، نص على إباحة المال الذي أخذ من الأسرى وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليلها، قوله حَلالًا طَيِّباً حال في قوله، ويصح أن يكونا من الضمير الذي في غَنِمْتُمْ ويحتمل أن يكون حَلالًا مفعولا ب «كلوا»، وَاتَّقُوا اللَّهَ معناه في التشرع حسب إرادة البشر وشهوته في نازلة، أخرى، وجاء قوله وَاتَّقُوا اللَّهَ اعتراضا فصيحا في أثناء الكلام، لأن قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هو متصل بالمعنى بقوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
روي أن الأسرى ببدر أعلموا رسول الله ﷺ أنهم لهم ميل إلى الإسلام وأنهم يؤملونه وأنهم إن فدوا ورجعوا إلى قومهم التزموا جلبهم إلى الإسلام وسعوا في ذلك ونحو هذا الغرض، ففي ذلك نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس الْأَسْرى في هذه الآية عباس وأصحابه، قالوا للنبي ﷺ آمنا بما جئت به ونشهد إنك لرسول الله لننصحن لك على قومنا فنزلت هذه الآية، وقرأ جمهور الناس: «من الأسرى» وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة «من الأسارى» وهي قراءة أبي جعفر وقتادة ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق، واختلف عن الحسن بن أبي الحسن وعن الجحدري وقرأ ابن محيصن «من لسرى» بالإدغام، ومعنى الكلام إن كان هذا عن جد منكم وعلم الله من نفوسكم الخير والإسلام سيجبر عليكم أفضل مما أعطيتم فدية وسيغفر لكم جميع ما اجترحتموه، وقرأ الأعمش «يثيبكم خيرا»، وقرأ جمهور الناس «أخذ» بضم الهمزة وكسر الخاء، وقرأ شيبة بن نصاح وأبو حيوة «أخذ» بفتحها، وروي أن أسرى بدر افتدوا بأربعين أوقية أربعين أوقية إلا العباس فإنه افتدي بمائة أوقية.
قال القاضي أبو محمد: والأوقية أربعون درهما، وقال قتادة فادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف، وقال
عبيدة السلماني كان فداء أسرى بدر مائة أوقية، والأوقية أربعون درهما، ومن الدنانير ستة دنانير، وروي أن العباس بن عبد المطلب قال: فيّ وفي أصحابي نزلت هذه الآية، وقال حين أعطاه رسول الله ﷺ من مال البحرين ما قدر أن يقل، هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر الله لي وأسند الطبري أيضا إلى العباس أنه قال فيّ نزلت حين أعلمت رسول الله ﷺ بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى وقال ذلك فيء فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي، وروي عن العباس أنه قال: ما أود أن هذه الآية لم تنزل ولي الدنيا بأجمعها، وذلك أن الله قد آتاني مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر لي، وقوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ الآية، قول أمر أن يقوله للأسرى ويورد معناه عليهم، والمعنى إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرهم ذلك ولا يسكنوا إليه، فإن الله بالمرصاد لهم الذي خانوه قبل بكفرهم وتركهم النظر في آياته وهو قد بينها لهم إدراكا يحصلونها به فصار كعهد متقرر، فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم، وقوله عَلِيمٌ حَكِيمٌ صفتان مناسبتان، أي عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم به.
قال القاضي أبو محمد: وأما تفسير هذه الآية بقصة عبد الله بن أبي سرح فينبغي أن يحرر، فإن جلبت قصة عبد الله بن أبي سرح على أنها مثال كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك فحسن، وإن جلبت على أن الآية نزلت في ذلك فخطأ، لأن ابن أبي سرح إنما تبين أمره في يوم فتح مكة، وهذه الآية نزلت عقيب بدر.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا، والكفار والمهاجرين بعد الحديبية، وذكر نسب بعضهم من بعض، فقدم أولا ذكر المهاجرين وهم أصل الإسلام، وانظر تقديم عمر لهم في الاستشارة و «هاجر» معناه أهله وقرابته وهجروه، وَجاهَدُوا معناه أجهدوا أنفسهم في حرب من أجهد نفسه في حربهم، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا هم الأنصار وآوى معناه هيأ مأوى وهو الملجأ والحرز، فحكم الله على هاتين الطائفتين بأن بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، فقال كثير من المفسرين هذه الموالاة هي المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي، وعليه فسر الطبري الآية، وهذا الذي قالوا لازم من دلالة اللفظ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وكثير منهم إن هذه الموالاة هي في الميراث، وذلك أن النبي ﷺ آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت بين الأنصار أخوة النسب وكانت أيضا بين
بعض المهاجرين فكان المهاجريّ إذا مات ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجريّ ورثه أخوه الأنصاري، وإن كان له ولي مسلم لم يهاجر، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه وبين قريبه المهاجري لا يرثه، قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة، ثم توارثوا بعد ذلك لما لم تكن هجرة.
قال القاضي أبو محمد: فذهبت هذه الفرقة إلى أن هذا هو مقصد الآية، ومن ذهب إلى أنها في التآزر والتعاون فإنما يحمل نفي الله تعالى ولايتهم عن المسلمين على أنها صفة الحال لا أن الله حكم بأن لا ولاية بين المهاجرين وبينهم جملة، وذلك أن حالهم إذا كانوا متباعدي الأقطار تقتضي أن بعضهم إن حزبه حازب لا يجد الآخر ولا ينتفع به فعلى هذه الجهة نفي الولاية، وعلى التأويلين ففي الآية حض للأعراب على الهجرة، قاله الحسن بن أبي الحسن، ومن رأى الولاية في الموارثة فهو حكم من الله ينفي الولاية في الموارثة، قالوا: ونسخ ذلك قوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: ٧٥]، وقرأ جمهور السبعة والناس «ولايتهم» بفتح الواو والولاية أيضا بالفتح، وقرأ الكسائي «ولايتهم» بفتح الواو والولاية بكسر الواو، وقرأ الأعمش وابن وثاب «ولايتهم» والولاية بكسر الواو وهي قراءة حمزة، قال أبو علي والفتح أجود لأنها في الدين، قال أبو الحسن الأخفش والكسر فيها لغة وليست بذلك ولحن الأصمعي والأعمش وأخطأ عليه لأنها إذا كانت لغة فلم يلحن.
قال القاضي أبو محمد: لا سيما ولا يظن به إلا أنه رواها، قال أبو عبيدة: الولاية بالكسر هي من وليت الأمر إليه فهي في السلطان، والولاية هي من المولى، يقال مولى بين الولاية بفتح الواو، وقوله وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ يعني إن استدعى هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا نصركم على قوم من الكفرة فواجب عليكم نصرهم إلا إن استنصروكم على قوم كفار قد عاهدتموهم أنتم وواثقتموهم على ترك الحرب فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك عذر ونقض للميثاق وترك لحفظ العهد والوفاء به، والقراءة «فعليكم النصر» برفع الراء، ويجوز «فعليكم النصر» على الإغراء، ولا أحفظه قراءة، وقرأ جمهور الناس «والله بما تعملون» على مخاطبة المؤمنين، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج «بما يعملون» بالياء على ذكر الغائب.
قوله عز وجل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس، كما تقول لمن تريد أن يستطلع: عدوك مجتهد، أي فاجتهد أنت، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال: أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر، وذلك في صدر الإسلام،
556
وذلك أيضا مذكور مستوعب في تفسير قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: ٩٧].
والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧] إنما هي فيمن قتل مع الكفار، وفيهم قال رسول الله ﷺ أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى نارهما الحديث على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصا يقول من غلب كنت معه، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي، والضمير في قوله إِلَّا تَفْعَلُوهُ قيل هو عائد على الموارثة والتزامها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول، ويظهر أيضا عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [الأنفال: ٧٢] وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين، ويجوز أن يعود الضمير مجملا على جميع ما ذكر، والفتنة المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر، و «الفساد الكبير» ظهور الشرك، وقرأ جمهور الناس «كبير» بالباء المنقوطة واحدة، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي بالثاء منقوطة مثلثة وروى أبو حاتم المدني أن رسول الله ﷺ قرأ «وفساد عريض»، وقرأت فرقة «والذين كفروا بعضهم أولى ببعض»، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الآية، آية تضمنت تخصيص المهاجرين والأنصار وتشريفهم بهذا الوصف العظيم، وحَقًّا نصب على المصدر المؤكد لما قبله، ووصف الرزق بالكريم معناه أنه لا يستحيل نجوا، والمراد به طعام الجنة، كما ذكر الطبري وغيره ولازم اللفظ نفي المذمات عنه، وما ذكروه فهو في ضمن ذلك، وقوله مِنْ بَعْدُ يريد به من بعد الحديبية وبيعة الرضوان، وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهجرة الثانية، لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين، ثم كان فتح مكة وبه قال ﷺ لا هجرة بعد الفتح، وقال الطبري: المعنى من بعد ما بينت لكم حكم الولاية.
قال القاضي أبو محمد: فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بأنهم من الأولين في المؤازرة وسائر أحكام الإسلام، وقوله تعالى: وَجاهَدُوا مَعَكُمْ لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر، وقوله فَأُولئِكَ مِنْكُمْ كذلك، ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم»، وقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ إلى آخر السورة، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري، ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجرا معه، وقالت فرقة منها مالك بن أنس رحمه الله: إن الآية ليست في المواريث، وهذا فرار عن توريث الخال والعمة ونحو ذلك، وقالت فرقة: هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة، وقوله فِي كِتابِ اللَّهِ، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ، وعَلِيمٌ صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام، كمل تفسير سورة الأنفال.
557
فهرس الجزء الثاني من المحرر الوجيز
559
فهرس المحتويات تفسير سورة النساء الآية: ١ ٣ الآيتان: ٢، ٣ ٥ الآيات: ٣- ٥ ٨ الآية: ٦ ١٠ الآيات: ٧- ٩ ١٢ الآيتان: ١٠، ١١ ١٤ الآية: ١١ ١٦ الآيتان: ١١، ١٢ ١٨ الآيات: ١٢- ١٤ ٢٠ الآيتان: ١٥، ١٦ ٢١ الآيتان: ١٧، ١٨ ٢٣ الآية: ١٩ ٢٦ الآيتان: ٢٠، ٢١ ٢٩ الآيتان: ٢٢، ٢٣ ٣٠ الآية: ٢٣ ٣٢ الآية: ٢٤ ٣٤ الآية: ٢٥ ٣٥ الآية: ٢٥ ٣٦ الآيات: ٢٦- ٢٨ ٤٠ الآيتان: ٢٩، ٣٠ ٤١ الآية: ٣١ ٤٣ الآية: ٣٢ ٤٤ الآيتان: ٣٣، ٣٤ ٤٥ الآيتان: ٣٥، ٣٦ ٤٩ الآيات: ٣٧- ٣٩ ٥١ الآية: ٤٠ ٢٥٣ الآيتان: ٤١، ٤٢ ٥٥ الآية: ٤٣ ٥٦ الآيات: ٤٤- ٤٦ ٦١ الآيتان: ٤٧، ٤٨ ٦٣ الآيات: ٤٩- ٥٢ ٦٥ الآيات: ٥٣- ٥٥ ٦٧ الآيتان: ٥٦، ٥٧ ٦٩ الآيتان: ٥٨، ٥٩ ٦٩ الآيتان: ٦٠، ٦١ ٧١ الآيات: ٦٢- ٦٤ ٧٣ الآيات: ٦٥- ٦٨ ٧٤ الآيتان: ٦٩، ٧٠ ٧٦ الآيات: ٧١- ٧٣ ٧٦ الآيتان: ٧٤، ٧٥ ٧٨ الآيتان: ٧٦، ٧٧ ٧٩ الآيتان: ٧٧، ٧٨ ٨٠ الآيات: ٧٩- ٨١ ٨١ الآيتان: ٨٢، ٨٣ ٨٣ الآيات: ٨٤- ٨٦ ٨٦ الآيتان: ٨٧، ٨٨ ٨٧ الآيتان: ٨٩، ٩٠ ٨٩ الآية: ٩١ ٩١ الآية: ٩٢ ٩٢ الآية: ٩٣ ٩٤ الآية: ٩٤ ٩٦ الآيتان: ٩٥، ٩٦ ٩٧ الآيات: ٩٧- ١٠٠ ٩٩
561
الآيتان: ١٠١، ١٠٢ ١٠٢ الآيات: ١٠٢- ١٠٤ ١٠٧ الآيات: ١٠٥- ١٠٧ ١٠٨ الآيات: ١٠٨- ١١٠ ١١٠ الآيات: ١١١- ١١٣ ١١١ الآيات: ١١٤- ١١٦ ١١٢ الآيتان: ١١٧، ١١٨ ١١٣ الآيات: ١١٩- ١٢٢ ١١٤ الآيات: ١٢٣- ١٢٥ ١١٥ الآيتان: ١٢٦، ١٢٧ ١١٧ الآيتان: ١٢٨، ١٢٩ ١١٩ الآيات: ١٣٠- ١٣٣ ١٢١ الآيتان: ١٣٤، ١٣٥ ١٢٢ الآيتان: ١٣٦، ١٣٧ ١٢٤ الآيات: ١٣٨- ١٤٠ ١٢٥ الآيات: ١٤١- ١٤٣ ١٢٦ الآيات: ١٤٤- ١٤٧ ١٢٧ الآيات: ١٤٨- ١٥١ ١٢٩ الآيتان: ١٥٢، ١٥٣ ١٣٠ الآيات: ١٥٤- ١٥٦ ١٣١ الآيات: ١٥٧- ١٥٩ ١٣٢ الآيات: ١٦٠- ١٦٢ ١٣٥ الآيتان: ١٦٣، ١٦٤ ١٣٦ الآيات: ١٦٥- ١٦٩ ١٣٧ الآيتان: ١٧٠، ١٧١ ١٣٨ الآيتان: ١٧١، ١٧٢ ١٣٩ الآيات: ١٧٣- ١٧٥ ١٤٠ الآية: ١٧٦ ١٤١ تفسير سورة المائدة الآيتان: ١، ٢ ١٤٣ الآيتان: ٢، ٣ ١٤٨ الآيتان: ٣، ٤ ١٥٢ الآيتان: ٤، ٥ ١٥٧ الآية: ٦ ١٦٠ الآيتان: ٧، ٨ ١٦٥ الآيات: ٩- ١١ ١٦٦ الآية: ١٢ ١٦٧ الآية: ١٣ ١٦٩ الآيتان: ١٤، ١٥ ١٧٠ الآيات: ١٥- ١٧ ١٧١ الآيتان: ١٨، ١٩ ١٧٢ الآيات: ٢٠- ٢٢ ١٧٣ الآيات: ٢٣- ٢٦ ١٧٤ الآيات: ٢٧- ٢٩ ١٧٨ الآيتان: ٣٠، ٣١ ١٧٩ الآية: ٣٢ ١٨١ الآيتان: ٣٣، ٣٤ ١٨٣ الآيات: ٣٥- ٣٧ ١٨٦ الآية: ٣٨ ١٨٧ الآيات: ٣٩- ٤١ ١٨٩ الآيتان: ٤١، ٤٢ ١٩٢ الآيات: ٤٢- ٤٤ ١٩٤ الآية: ٤٥ ١٩٦ الآيات: ٤٦- ٤٨ ١٩٨ الآية: ٤٨ ٢٠٠ الآيتان: ٤٩، ٥٠ ٢٠١ الآيتان: ٥١، ٥٢ ٢٠٣ الآيتان: ٥٣، ٥٤ ٢٠٥ الآيات: ٥٥- ٥٧ ٢٠٨ الآيات: ٥٨- ٦٠ ٢٠٩ الآيات: ٦١- ٦٤ ٢١٣ الآيات: ٦٥- ٦٨ ٢١٦ الآيتان: ٦٩، ٧٠ ٢١٩ الآيتان: ٧١، ٧٢ ٢٢٠ الآيات: ٧٣- ٧٥ ٢٢١ الآيات: ٧٦- ٧٨ ٢٢٢ الآيات: ٧٩- ٨١ ٢٢٤ الآيتان: ٨٢، ٨٣ ٢٢٥
562
الآيات: ٨٤- ٨٧ ٢٢٧ الآيتان: ٨٨، ٨٩ ٢٢٨ الآيات: ٩٠- ٩٢ ٢٣٢ الآيتان: ٩٣، ٩٤ ٢٣٤ الآية: ٩٥ ٢٣٦ الآيات: ٩٦- ٩٨ ٢٤١ الآيات: ٩٩- ١٠٢ ٢٤٤ الآيات: ١٠٣- ١٠٥ ٢٤٧ الآيتان: ١٠٦، ١٠٧ ٢٥٠ الآيتان: ١٠٨، ١٠٩ ٢٥٦ الآية: ١١٠ ٢٥٧ الآيات: ١١١- ١١٣ ٢٥٩ الآيتان: ١١٤، ١١٥ ٢٦١ الآيتان: ١١٦، ١١٧ ٢٦٢ الآيات: ١١٨- ١٢٠ ٢٦٣ تفسير سورة الأنعام الآيتان: ١، ٢ ٢٦٥ الآيات: ٣- ٥ ٢٦٧ الآية: ٦ ٢٦٨ الآيات: ٧- ٩ ٢٦٩ الآيتان: ١٠، ١١ ٢٧٠ الآيتان: ١٢، ١٣ ٢٧١ الآيات: ١٤- ١٦ ٢٧٣ الآيتان: ١٧، ١٨ ٢٧٤ الآية: ١٩ ٢٧٥ الآيتان: ٢٠، ٢١ ٢٧٦ الآيات: ٢٢- ٢٤ ٢٧٧ الآية: ٢٥ ٢٧٩ الآيتان: ٢٦، ٢٧ ٢٨٠ الآيات: ٢٨- ٣٠ ٢٨٢ الآية: ٣١ ٢٨٣ الآيتان: ٣٢، ٣٣ ٢٨٤ الآيتان: ٣٤، ٣٥ ٢٨٧ الآيات: ٣٦- ٣٨ ٢٨٨ الآيات: ٣٩- ٤١ ٢٩٠ الآيات: ٤٢- ٤٥ ٢٩١ الآيات: ٤٦- ٤٩ ٢٩٢ الآيتان: ٥٠، ٥١ ٢٩٣ الآيتان: ٥٢، ٥٣ ٢٩٤ الآيتان: ٥٤، ٥٥ ٢٩٦ الآيات: ٥٦- ٥٨ ٢٩٨ الآيتان: ٥٩، ٦٠ ٢٩٩ الآيتان: ٦١، ٦٢ ٣٠٠ الآيتان: ٦٣، ٦٤ ٣٠١ الآيات: ٦٥- ٦٧ ٣٠٢ الآيتان: ٦٨، ٦٩ ٣٠٣ الآية: ٧٠ ٣٠٥ الآية: ٧١ ٣٠٦ الآيتان: ٧٢، ٧٣ ٣٠٨ الآيتان: ٧٤، ٧٥ ٣١٠ الآيتان: ٧٦، ٧٧ ٣١٢ الآيات: ٧٨- ٨٠ ٣١٤ الآيات: ٨١- ٨٣ ٣١٥ الآيات: ٨٤- ٨٦ ٣١٦ الآيات: ٨٧- ٩٠ ٣١٧ الآية: ٩١ ٣٢٠ الآية: ٩٢ ٣٢١ الآية: ٩٣ ٣٢٢ الآية: ٩٤ ٣٢٣ الآيتان: ٩٥، ٩٦ ٣٢٥ الآيتان: ٩٧، ٩٨ ٣٢٦ الآية: ٩٩ ٣٢٧ الآيات: ١٠٠- ١٠٢ ٣٢٨ الآيات: ١٠٣- ١٠٥ ٣٣٠ الآيات: ١٠٦- ١١٠ ٣٣٢ الآيتان: ١١١، ١١٢ ٣٣٤ الآيتان: ١١٣، ١١٤ ٣٣٦ الآيات: ١١٥- ١١٧ ٣٣٧
563
الآيتان: ١١٨، ١١٩ ٣٣٨ الآية: ١٢٠ ٣٣٩ الآية: ١٢١ ٣٤٠ الآيتان: ١٢٢، ١٢٣ ٣٤٠ الآيتان: ١٢٤، ١٢٥ ٣٤٢ الآيتان: ١٢٦، ١٢٧ ٣٤٤ الآيتان: ١٢٨، ١٢٩ ٣٤٥ الآيات: ١٣٠- ١٣٢ ٣٤٦ الآيات: ١٣٣- ١٣٥ ٣٤٧ الآية: ١٣٦ ٣٤٨ الآية: ١٣٧ ٣٤٩ الآية: ١٣٨ ٣٥٠ الآية: ١٣٩ ٣٥١ الآيتان: ١٤٠، ١٤١ ٣٥٢ الآيتان: ١٤٢، ١٤٣ ٣٥٤ الآيتان: ١٤٤، ١٤٥ ٣٥٥ الآية: ١٤٦ ٣٥٧ الآيتان: ١٤٧، ١٤٨ ٣٥٨ الآيتان: ١٤٩، ١٥٠ ٣٦٠ الآية: ١٥١ ٣٦١ الآية: ١٥٢ ٣٦٢ الآية: ١٥٣ ٣٦٣ الآية: ١٥٤ ٣٦٤ الآيات: ١٥٥- ١٥٧ ٣٦٥ الآية: ١٥٨ ٣٦٦ الآيتان: ١٥٩، ١٦٠ ٣٦٧ الآيات: ١٦١- ١٦٣ ٣٦٨ الآيتان: ١٦٤، ١٦٥ ٣٧٠ تفسير سورة الأعراف الآيات: ١- ٣ ٣٧٢ الآيات: ٤- ٧ ٣٧٣ الآيتان: ٨، ٩ ٣٧٥ الآيتان: ١٠، ١١ ٣٧٧ الآيات: ١٢- ١٦ ٣٧٨ الآيتان: ١٧، ١٨ ٣٨٠ الآية: ١٩ ٣٨٢ الآيتان: ٢٠، ٢١ ٣٨٤ الآيتان: ٢٢، ٢٣ ٣٨٥ الآيات: ٢٤- ٢٦ ٣٨٧ الآيتان: ٢٧، ٢٨ ٣٩٠ الآيتان: ٢٩، ٣٠ ٣٩١ الآيتان: ٣١، ٣٢ ٣٩٢ الآيات: ٣٣- ٣٦ ٣٩٤ الآية: ٣٧ ٣٩٧ الآيتان: ٣٨، ٣٩ ٣٩٨ الآيات: ٤٠- ٤٢ ٤٠٠ الآية: ٤٣ ٤٠١ الآيتان: ٤٤، ٤٥ ٤٠٢ الآيات: ٤٦- ٤٨ ٤٠٣ الآيات: ٤٩- ٥٢ ٤٠٥ الآيتان: ٥٣، ٥٤ ٤٠٧ الآيتان: ٥٥، ٥٦ ٤١٠ الآيتان: ٥٧، ٥٨ ٤١١ الآيات: ٥٩- ٦٢ ٤١٤ الآيتان: ٦٣، ٦٤ ٤١٥ الآيات: ٦٥- ٦٨ ٤١٦ الآيتان: ٦٩، ٧٠ ٤١٧ الآيات: ٧١- ٧٣ ٤١٩ الآيات: ٧٤- ٧٦ ٤٢٢ الآيات: ٧٧- ٧٩ ٤٢٣ الآيات: ٨٠- ٨٤ ٤٢٤ الآيتان: ٨٥، ٨٦ ٤٢٦ الآيات: ٨٧- ٨٩ ٤٢٧ الآيات: ٩٠- ٩٣ ٤٢٩ الآيات: ٩٤- ٩٦ ٤٣١ الآيات: ٩٧- ١٠٠ ٤٣٢ الآيتان: ١٠١، ١٠٢ ٤٣٣ الآيات: ١٠٣- ١٠٨ ٤٣٥
564
الآيات: ١٠٩- ١١٦ ٤٣٦ الآيات: ١١٧- ١٢٤ ٤٣٩ الآيات: ١٢٥- ١٢٧ ٤٤٠ الآيات: ١٢٨- ١٣٠ ٤٤٢ الآيات: ١٣١- ١٣٣ ٤٤٣ الآيات: ١٣٤- ١٣٦ ٤٤٥ الآيتان: ١٣٧، ١٣٨ ٤٤٦ الآيات: ١٣٩- ١٤١ ٤٤٨ الآيتان: ١٤٢، ١٤٣ ٤٤٩ الآيات: ١٤٣- ١٤٥ ٤٥١ الآيتان: ١٤٦، ١٤٧ ٤٥٣ الآيتان: ١٤٨، ١٤٩ ٤٥٤ الآية: ١٥٠ ٤٥٦ الآيات: ١٥١- ١٥٣ ٤٥٨ الآيتان: ١٥٤، ١٥٥ ٤٥٩ الآية: ١٥٦ ٤٦٠ الآية: ١٥٧ ٤٦١ الآيتان: ١٥٨، ١٥٩ ٤٦٤ الآيات: ١٦٠- ١٦٣ ٤٦٦ الآيات: ١٦٤- ١٦٦ ٤٦٨ الآيتان: ١٦٧، ١٦٨ ٤٧٠ الآيتان: ١٦٩، ١٧٠ ٤٧٢ الآيتان: ١٧١، ١٧٢ ٤٧٣ الآيات: ١٧٣- ١٧٥ ٤٧٦ الآيات: ١٧٦- ١٧٩ ٤٧٨ الآيتان: ١٧٩، ١٨٠ ٤٧٩ الآيات: ١٨١- ١٨٥ ٤٨١ الآيتان: ١٨٦، ١٨٧ ٤٨٣ الآيتان: ١٨٨، ١٨٩ ٤٨٥ الآيات: ١٩٠- ١٩٣ ٤٨٧ الآيات: ١٩٤- ١٩٦ ٤٨٨ الآيات: ١٩٧- ٢٠٠ ٤٩٠ الآيات: ٢٠١- ٢٠٣ ٤٩١ الآيات: ٢٠٤- ٢٠٦ ٤٩٣ تفسير سورة الأنفال الآية: ١ ٤٩٦ الآيات: ٢- ٤ ٥٠٠ الآيات: ٥- ٧ ٥٠١ الآيات: ٨- ١٠ ٥٠٤ الآيتان: ١١، ١٢ ٥٠٥ الآيات: ١٣- ١٦ ٥٠٨ الآيتان: ١٧، ١٨ ٥١١ الآيات: ١٩- ٢١ ٥١٢ الآيات: ٢٢- ٢٤ ٥١٣ الآيتان: ٢٥، ٢٦ ٥١٥ الآيات: ٢٧- ٣٠ ٥١٧ الآيتان: ٣١، ٣٢ ٥٢٠ الآيتان: ٣٣، ٣٤ ٥٢١ الآية: ٣٥ ٥٢٣ الآية: ٣٦ ٥٢٥ الآيات: ٣٧- ٤٠ ٥٢٦ الآية: ٤١ ٥٢٨ الآية: ٤٢ ٥٣٢ الآيتان: ٤٣، ٤٤ ٥٣٤ الآيات: ٤٥- ٤٧ ٥٣٥ الآيتان: ٤٨، ٤٩ ٥٣٧ الآيات: ٥٠- ٥٢ ٥٣٩ الآيات: ٥٣- ٥٦ ٥٤١ الآيات: ٥٧- ٥٩ ٥٤٢ الآيتان: ٦٠، ٦١ ٥٤٥ الآيات: ٦٢- ٦٤ ٥٤٨ الآيتان: ٦٥، ٦٦ ٥٤٩ الآيات: ٦٧- ٦٩ ٥٥١ الآيتان: ٧٠، ٧١ ٥٥٤ الآية: ٧٢ ٥٥٥ الآيات: ٧٣- ٧٥ ٥٥٦
565
Icon