ﰡ
١ - أقسم سبحانه وتعالى في بداية هذه السورة الكريمة بالسماء والطارق فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١)﴾ والسماء: كل ما علانا، فكأنه تبارك وتعالى أقسم بالعالم العلوي وما فيه، ثم خصص بعض ما في ذلك العالم السماوي، فأقسم بالطارق.
والطارق في الأصل (١): اسم فاعل من طرق طرقًا وطروقًا إذا جاء ليلًا. قال الماوردي: وأصل الطرق: الدق، ومنه سميت المطرقة؛ لأنه يطرق بها الحديد، وسمي الطريق؛ لأنه يضرب بالرجل، وسمي قاصد الليل طارقًا لاحتياجه إلى طرق الباب غالبًا؛ حيث إن الأبواب مغلقة في الليل، ثم اتسع في كل ما ظهر بالليل كائنًا ما كان، ثم اتسع في التوسع حتى أطلق على الصور الجالية البادية بالليل، والمراد هنا: الكوكب البادي بالليل.
قال الراغب: عبر عن النجم بالطارق؛ لاختصاص ظهوره بالليل.
قالت هند بنت عتبة يوم أحد:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقِ | نَمْشِيْ عَلَى النَّمَارِقِ |
يَا رَاقِدَ اللَّيْلِ مَسْرُوْرًا بِأَوَّلِهِ | إِنَّ الْحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارَا |
لَا تَفْرَحَنَّ بِلَيْلٍ طَابَ أَوَّلُهُ | فَرُبَّ آخِرِ لَيْلٍ أَجَّجَ النَّارَا |
وقد أكثر سبحانه (٢) في القرآن الحلف بالسماء، وبالشمس، وبالقمر، وبالليل، لأن في أحوالها وأشكالها، وسيرها ومطالعها ومغاربها من عجائب وغرائب دلائل لمن يتدبر ويتفكر بأن لها خالقًا مدبرًا يقوم بشؤونها، ويحصي أمرها، لا يشركه سواه في هذا الإبداع والصنع.
وقد اختلف في الطارق (٣)، هل هو نجم معين، أو جنس النجم؟ فقيل: هو
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
٢ - ثم بين سبحانه ما هو الطارق تفخيمًا لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢)﴾؛ أي: (١) أيُّ شيء أعلمك يا محمد بالطارق، فإنه لا يناله إدراك الخلق إلا بالتلقي من الخلاق العليم، كأنه قيل: ما هو؟ فقيل: هو ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣)﴾؛ أي: الكوكب المضيء، تقول العرب: وما أدراك ما كذا؟ أي: وأي شيء يعلمك حقيقته وهو أسلوب من كلامهم، يراد به التفخيم والتعظيم، كأنه في فخامة أمره لا يمكن الإحاطة به ولا إدراكه.
قال سفيان: كل ما في القرآن: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فقد أخبره، وكل شيء قال فيه: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ لم يخبره.
٣ - ثم فسر هذا الطارق بقوله: ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣)﴾، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: ما هو؟ فقيل: هو النجم الثاقب، كما مر آنفًا، ولم يقل: والنجم الثاقب مع أنه أخصر وأظهر، فعدل عنه تفخيمًا لشأنه، فأقسم أولًا بما يشترك فيه هو وغيره وهو الطارق، ثم سأل عنه بالاستفهام تفخيمًا لشأنه ثانيًا، ثم فسره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام.
والمعنى (٢): أي لا أقسم بكل طارق من الكواكب، بل أقسم بطارق معين هو النجم الثاقب؛ أي: الذي يثقب الظلام، ويهتدى به في ظلمات البر والبحر، ويوقف به على أوقات الأمطار وغيرها من أحوال يحتاج إليها الإنسان في معاشه؛ وهو الثريا عند جمهرة العلماء؛ لأن العرب تسميه النجم ويسمى كوكب الصبح، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب؛ لأن له ضوءًا ثاقبًا لا محالة؛ أي: في نفسه، وإن حصل التفاوت بالنسبة، أو المعهود بالثقب، فهو من باب ركب السلطان، وهو زحل الذي في السماء السابعة لا يسكنها غيره؛ لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات؛ لأنه إذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء.. هبط زحل من السابعة، فكان معها في سمائها، ثم يرجع إلى مكانه من السابعة، فهو طارق حين ينزل وحين يصعد.
(٢) المراغي.
أحدهما: بعد إن النافية.
والآخر: في باب القسم، تقول: سألتك لما فعلت بمعنى: إلا فعلت، وعدي الحفظ بـ ﴿على﴾؛ لتضمنه معنى الهيمنة، والمعنى: ما كل نفس من النفوس الطيبة والخبيثة إنسانية أو جنية إلا عليها حافظ مهيمن رقيب؛ وهو الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾.
والخلاصة: أي أحلف (٢) بالسماء وبالنجم الثاقب أن للنفوس رقيبًا يحفظها ويدبر شؤونها في جميع أطوار وجودها، حتى ينتهي أجلها، وذلك الحافظ والرقيب هو ربها المدبر لشؤونها، المصرف لأمورها في معاشها ومعادها.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿إنْ﴾: خفيفة، ﴿كُلُّ﴾: رفعًا، ﴿لما﴾ خفيفة فهي عند البصريين: مخففة من الثقيلة، و ﴿كُلُّ﴾؛ مبتدأ، واللام هي الداخلة للفرق بين إنْ النافية وإن المخففة، و ﴿ما﴾: زائدة، و ﴿حَافِظٌ﴾: خبر المبتدأ، و ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق به، والمعنى عليه: إنه أي: إن الشأن والحال كل نفس لعليها حافظ.
وعند الكوفيين: ﴿إن﴾: نافية، و ﴿اللام﴾: بمعنى إلا، و ﴿ما﴾: زائدة، و ﴿كُلُّ﴾ و ﴿حَافِظٌ﴾: مبتدأ وخبر، والمعنى عليه: ما كل نفس إلا عليها حافظ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو.
وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما: ﴿لَمَّا﴾ مشددة، وهي بمعنى: إلا، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم، تقول العرب: أقسمت عليك لما فعلت كذا، أي: إلا فعلت، قاله الأخفش، فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون ﴿إن﴾ نافية، والمعنى: ما كل نفس إلا عليها حافظ،
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
٥ - ولما ذكر (٢) أن كل نفس عليها حافظ.. أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل لذلك، ولا يملي على حافظ إلا ما يسره في عاقبته فقال: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: (٣) ليتفكر الإنسان المركب من الجهل والنسيان، المنكر للنشور والحشر والميزان ﴿مِمَّ﴾؛ أي: من أي شيء، فأصله مما حذفت الألف تخفيفًا كما مرَّ في ﴿عَمَّ﴾؛ أي: من أي شيء ﴿خُلِقَ﴾ حتى يتضح له أن من قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، بل أقدر على قياس العقل، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويجديه، ولا يملي حافظه ما يرديه. والفاء في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن كل نفس عليها حافظ، وأردت معرفة قدرة ذلك الحافظ.. فأقول لك: لينظر الإنسان مم خلق؛ أي: لينظر بعقله، ويتدبر بقلبه في مبدأ خلقه، ليتضح له قدرة حافظه الذي وهب له العقل، وأنه إذا قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط.. فهو على إعادته أقدر، فليعمل بما به يسر حين الإعادة.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٧ - ﴿يَخْرُجُ﴾ ذلك الدافق الممتزج في الرحم ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ﴾ للرجل ﴿وَالتَّرَائِبِ﴾ للمرأة، والصلب: الشديد، وباعتباره سمي الظهر صلبًا؛ أي: يخرج من بين ظهر الرجل وترائب المرأة، وهي ضلوع صدرها، وعظام نحرها؛ حيث تكون القلادة، وكل عظم من ذلك تريبة.
وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم: بين الثديين، وفي "القاموس": الترائب: عظام الصدر، أو ما ولي الترقوتين منه، أو بين الثديين والترقوتين، أو أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع من يسرته، أو اليدان والرجلان والعينان، أو موضع القلادة. انتهى.
ومن ذلك يتحمل الوالد مصالح معيشة الولد، وتشتد رقة الوالدة ومحبتها للولد، وإيراد ﴿بَيْنِ﴾ (٢) إشارة إلى ما يقال: إن النطفة تتكون من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الولد والديه غالبًا، فيجتمع ماء الرجل في صلبه، ثم يجري منه، ويجتمع ماء المرأة في ترائبها، ثم يجري منها، وفي "قوت القلوب": أصل المني: هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب، وهناك مسكنه، فتنضجه الحرارة، فيستحيل
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَخْرُجُ﴾ مبنيًا للفاعل، وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم مبنيًا للمفعول، وقرأ الجمهور: ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ﴾ بضم الصاد وسكون اللام، وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم وأهل مكة وعيسى: بضم الصاد واللام، وقرأ اليماني: بفتحهما، ويقال: صالب بوزن قالب، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في أبياته المشهورة التي مدح بها النبي - ﷺ -:
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى الرَّحِمْ
وقد تقدمت اللغات في الصلب في سورة النساء عند تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ كما سيأتي بيانها أيضًا في مبحث التصريف، وقال في "الصحاح": التريبة واحدة الترائب، وهي عظام الصدر، قال أبو عبيدة: جمع التريبة: ترائب، والمعنى: أي خلق من ماء مدفوق يخرج من الظهر والترائب لكل من الرجل والمرأة، فهو إنما يكون مادة لخلق الإنسان إذا خرج من بين الرجل والمرأة، ووقع في رحم المرأة.
والخلاصة (٢): أن الولد يتكوَّن من مني مدفوق من الرجل، فيه جرثومة حية دقيقة لا ترى إلا بالآلة المكبرة (الميكرسكوب)، ولا تزال تجري حتى تصل إلى جرثومة نظيرتها من جراثيم المرأة، وهي البويضة، ومتى التقت الجرثومتان.. اتحدتا، وكونتا جرثومة الجنين.
٨ - والضمير في قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ للخالق، فإن قوله: ﴿خُلِقَ﴾ يدل عليه؛ أي: إن الخالق الذي خلق الإنسان ابتداء مما ذكر ﴿عَلَى رَجْعِهِ﴾؛ أي: على إعادته بعد موته ﴿لَقَادِرٌ﴾؛ أي: لبين القدرة، بحيث لا يرى له عجز أصلًا، وتقديم (٣) الجار والمجرور على عامله، وهو ﴿لَقَادِرٌ﴾ للاهتمام به من حيث إن الكلام فيه بخصوصه،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء من هذه المادة قادر على أن يرده حيًا بعد أن يموت بالبعث، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وأصرح منهما قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
وقال مجاهد (١): على أن يرد الماء في الإحليل، وقال عكرمة والضحاك: على أن يرد الماء في الصلب، وقال مقاتل بن حيان: يقول: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة، وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، والأول أظهر، ورجحه ابن جرير والثعلبي والقرطبي.
٩ - ثم بين وقت المرجع فقال: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩)﴾ ظرف لرجعه، ولا يضر الفصل بالأجنبي للتوسع في الظروف، وقيل: العامل في الظرف ﴿لَقَادِرٌ﴾، واعترض عليه بأنه يلزم عليه تخصيص القدرة بهذا اليوم، وقيل: العامل فيه مقدر؛ أي: يرجعه يوم تبلى السرائر، وقيل: العامل فيه مقدر، وهو اذكر، فيكون مفعولًا به. ومعنى ﴿تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾: أي: تعرف وتكشف، والسرائر (٢): جمع سريرة بمعنى السر، وهي التي تكتم وتخفى؛ أي: يوم يتعرف فيه، ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعماله، ويميز بين ما طاب منها وما خبث، والإبلاء: هو الابتلاء والاختبار، وإطلاق الإبلاء على الكشف والتمييز من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب؛ لأن الاختبار يكون للتعريف والتمييز، وابتلاء الله عباده بالأمر والنهي يكون لكشف ما علم منهم في الأزل من الطاعة أو العصيان. وقال بعضهم: المراد بالسرائر: الفرائض، كالصوم والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة، فإنها سر بين العبد وبين ربه، ولو شاء العبد أن يقول: فعلت ذلك، ولم يفعله أمكنه، وإنما تظهر صحة تلك السرائر يوم القيامة. قال ابن عمر
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي هو سبحانه قادر على أن يعيد الإنسان إلى الحياة في اليوم الذي تنكشف فيه السرائر، وتتضح الضمائر، ويتميز الطيب من الخبيث، فلا يبقى في سريرة سر، بل تنقلب كل خفية إلى الجهر، ولا يكون جدال ولا حجاج، ولا يبقى لذوي الأعمال إلا انتظار الجزاء على ما قدموا، فإما حلول في نعيم، وإما مصير إلى عذاب أليم
١٠ - ﴿فَمَا لَهُ﴾؛ أي: فما للإنسان، و ﴿ما﴾ نافية ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾ في نفسه يمتنع بها من العذاب الذي حل به ﴿وَلَا نَاصِرٍ﴾ من خارج ينتصر به؛ إذ كل نفس يومئذٍ رهينة بما كسبت، مشغولة بجزاء ما جرت عليه خيرًا كان أو شرًا، فالمراد (٢) بالقوة المنفية: هي القوة الثابتة له في نفسه، لا القوة مطلقًا، وإلا لم يبق للعطف فائدة؛ لأن القوة المستفادة من الغير قوة أيضًا، وقد نفيت أولًا، والقوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف، وفي "التعريفات": هي تمكن الحيوان من الأفعال الشاقة، ونصر المظلوم إعانته على الظالم، وخلاصه منه.
والحاصل: أن القوة التي يدافع بها الإنسان عن نفسه (٣)؛ إما من ذاته، وقد نفاها بقوله: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ﴾ وإما من غيره، وقد نفاها بقوله: ﴿وَلَا نَاصِرٍ﴾؛ أي: فلا تكون لأحد قوة على الإفلات مما قدر له من جزاء عمله إن كان مسيئًا، ولا ناصر ينصره فيحميه مما حتم أن يقع عليه.
والخلاصة (٤): أي فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها من عذاب الله، ولا ناصر ينصره مما نزل به. قال عكرمة: هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر، قال سفيان: القوة: العشيرة، والناصر: الحليف، والأول أولى.
١١ - ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (١١)﴾: ﴿ذَاتِ﴾: مؤنث ذو، بمعنى: صاحب، والرجع: المطر، سمي رجعًا. لما أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
١٢ - ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢)﴾ والصدع: ما تتصدع عنه الأرض، وتنشق من النبات إذ المحاكي للنشور هو تشقق الأرض، وظهور النبات منها لإظهار العيون، فالمراد بالصدع نبات الأرض سمي به؛ لأنه صادع للأرض، والأرض تتصدع به، والصدع في اللغة: الشق.
والحاصل: أن الصدع إذا كان اسمًا للنبات، فكأنه قال: والأرض ذات النبات، وإن كان المراد به الشق، فكأنه قال: والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه، كالأموات. وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تتصدعها المشاة، وقيل: ذات الحرث؛ لأنه يصدعها، وقيل: ذات الأموات؛ لانصداعها عنهم عند البعث. وفي "المفردات": الصدع (١): شق في الأجسام الصلبة، كالزجاج والحديد ونحوها. وفي الآية إشارة إلى أن السماء ذات المرجع كالأب، والأرض ذات الصدع كالأم، وما ينبت من الأرض كالولد.
والحاصل: أن الله سبحانه أقسم أولًا بالسماء مجردة عن التوصيف - أعني: أول السورة - وثانيًا مقيدة بكونها ذات المرجع، وكذا بالأرض ذات الصدع إيماء إلى المنة عليهم بكثرة المنافع، ودلالة على العلم التام، والقدرة الكاملة فيها.
والمعنى (٢): أي أقسم لكم بالسماء ذات المطر، وهو أنفع شيء ينتظره
(٢) المراغي.
١٣ - ثم ذكر المقسم عليه فقال: ﴿إِنَّهُ﴾: أي: إن هذا (١) القرآن الذي من جملته ما تلي من الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده ﴿لَقَوْلٌ﴾؛ أي: لكلام؛ إذ القول كثيرًا ما يكون بمعنى المقول ﴿فَصْلٌ﴾؛ أي: فاصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما مبالغ في ذلك كأنه نفس الفصل، كما قيل له فرقان بمعنى: الفارق.
١٤ - ﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)﴾؛ أي: هو كلام جد، وليس بالهزل، والهزل: اللعب، وفي "فتح الرحمن": الهزل: ما استعمل في غير ما وضع له من غير مناسبة ولا علاقة، والجد: ضده، وهو أن يقصد به المتكلم حقيقة كلامه؛ أي: ليس في شيء من القرآن شائبة هزل، بل كله جد محض لا هزل فيه، فمن حقه أن يهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العتاة، ويظهر من الآية أن من يؤم القرآن بهزل، أو يتفكه بمزاح به يكفر، وفي "هدية المهديين": إذا أنكر رجل آية من القرآن، أو سخر بها، أو مزح بها، أو استهان بها فقد كفر، ومن قرأ القرآن على ضرب الدف أو القصبة أو المزمار أو سائر الملاهي.. فقد كفر؛ لأنه استهزأ به وأهانه، فينبغي للمؤمن أن يحترز من هذا كله وأمثاله، ويجتنب عنه. قال أبو حيان: ويجوز (٢) أن يعود الضمير في ﴿إِنَّهُ﴾ على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة، وابتلاء سرائره؛ أي: إن هذا القول قول جزم مطابق للواقع، لا هزل فيه، بل هو جد كله. انتهى.
والمعنى: أي أقسم لكم أيها المشركون بالسماء والأرض الموصوفين بما ذكر على أن هذا القول الذي جاءكم به محمد - ﷺ - لقول حق، لا مجال للريب فيه، وهو جد لا هزل فيه، فمن حقه أن يهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب الطغاة.
أخرج الترمذي والدارمي: عن علي كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إنها ستكون فتنة"، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله
(٢) البحر المحيط.
١٥ - ثم بين ما يدبرونه للمؤمنين، وما تحويه صدورهم من غل لهم فقال: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن أهل مكة ومعاندي قريش ﴿يَكِيدُونَ﴾ في إبطال أمره، وإطفاء نوره ﴿كَيْدًا﴾؛ أي: حسبما في قدرتهم؛ أي: يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله - ﷺ - من الدين الحق، قال الزجاج: يخاتلون النبي - ﷺ -، ويظهرون ما هم على خلافه.
١٦ - ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦)﴾؛ أي: أقابلهم (١) بكيد متين لا يمكن رده، وأستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأجازيهم جزاء كيدهم، قيل: هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر.
وكيد المحدث العاجز الضعيف لا يقاوم كيد القديم القادر القوي، فتسمية الاستدراج والانتقام في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار كيدًا من باب المشاكلة؛ لوقوعه في مقابلة كسبهم جزاء له، وإلا فالكيد وهو المكر والاحتيال في إيصال المكروه إلى الغير بخفية لا يجوز إسناده إليه تعالى مرادًا به معناه الحقيقي، وتسمية جزء الشيء باسم ذلك الشيء على سبيل المشاكلة، شائع كثير في كلامهم، نحو قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)﴾.
والمذهب الأسلم: إثبات الكيد له تعالى كما أثبته لنفسه في هذه الآية وغيرها، ويقال في تفسيره: كيد الله هو صفة ثابتة له تعالى؛ نثبتها ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها، أثرها انتقامه تعالى ممن كاد برسوله - ﷺ -.
١٧ - ﴿فَمَهِّلِ﴾ يا محمد؛ أي: أخر وانظر ﴿الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: لا تستعجل بالانتقام منهم، ولا تدع عليهم
وقوله: ﴿أَمْهِلْهُمْ﴾ بدل من ﴿مهل﴾، وهما - أي: التمهيل والإمهال - لغتان بمعنى، مثل: نزل وأنزل، والإمهال: الإنظار، وتمهل في الأمر: اتأد فيه، وكرر الأمر بالإمهال، وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير. اهـ "نسفي". وانتصاب ﴿رُوَيْدًا﴾ على أنه مصدر مؤكد لمعنى الفعل المذكور، أو نعت لمصدره المحذوف، أي: أمهلهم إمهالًا رويدًا؛ أي: قريبًا أو قليلًا يسيرًا، فإن كل آتٍ قريب، وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ - بما فيه من الرمز إلى قرب وقت الانتقام من الأعداء، وفي "كشف الأسرار": وما كان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر إلا زمان يسير، يقال: أَرْوَدَ يُرْوِدُ إذا رفق وتأنى، ومنه: بني رويد كما في "المفردات"، وفي "الإرشاد": هو في الأصل تصغير: رود بالضم، وهو المهل، أو إرواد مصدر أرود بالترخيم، ويأتي اسم فعل نحو: رويد زيدًا؛ أي: أمهله، ويأتي حالًا نحو: سار القوم رويدًا؛ أي متمهلين، ذكر معنى هذا الجوهري، والبحث عنه مستوفى في كتب النحو.
ولما كرر (١) الأمر بالإمهال توكيدًا.. خالف بين اللفظين على أن الأول مطلق، وهذا الثاني مقيد بقوله: رويدًا، وقرأ ابن عباس: ﴿أمَهلهم﴾ بفتح الميم، وشد الهاء موافقة للفظ الأمر الأول.
والمعنى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥)﴾، أي (٢): أنهم يمكرون بالناس بدعوتهم إلى مخالفة القرآن بإلقاء الشبهات كقولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾، وقولهم: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾، أو بالطعن فيه بكون الرسول ساحرًا أو مجنونًا أو تبييتهم قتله، كما جاء في قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾.
وبعدئذٍ ذكر ما قابلهم ربهم به، وما جازاهم عليه كفاء عملهم فقال: ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦)﴾؛ أي: وأقابل كيدهم بنصر الرسول، وإعلاء دينه، وجعل كلمته العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وسمى مجازاتهم كيدًا منه للتجانس في اللفظ، كما
(٢) المراغي.
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا | فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِيْنَا |
فائدة: روي (١) عن همام مولى عثمان رضي الله عنه أنه قال: لما كتبوا المصحف شكوا في ثلاث آيات، فكتبوا في كتف شاة، وأرسلوني إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، فدخلت عليهما، فناولتها أبيًا، فقرأها، فإذا هي فيها ﴿لا تبديل للخلق﴾، فكتب ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾، وكان فيها: ﴿لم يتسن﴾، فكتب: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾، وكان فيها: ﴿فأمهل الكافرين﴾ فمحا الألف، وكتب ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ﴾، ونظر فيها زيد بن ثابت، فانطلقت بها إليهم، فأثبتوها في المصحف. وفيه إشارة إلى أن الله تعالى حافظ للقرآن من التحريف والتبديل، لأنه أثبته في صدور الحفاظ، وإلى أن المشكلات يرجع فيها إلى أهل الحل.
الإعراب
﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (٤)﴾.
﴿وَالسَّمَاءِ﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم ﴿السَّمَاءِ﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالسماء، وجملة القسم مستأنفة، ﴿وَالطَّارِقِ﴾: قسم آخر أيضًا مماثل لما قبله في إعرابه معطوف
وَخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ | وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ |
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧)﴾.
﴿فَلْيَنْظُرِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره؛ إذا عرفت أن كل نفس عليها حافظ، وأردت بيان قدرة ذلك الحافظ.. فأقول لك: ﴿لينظر الإنسان﴾، ﴿اللام﴾: حرف جزم وطلب، ﴿ينظر﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ﴿الْإِنْسَانُ﴾. فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿مِمَّ﴾: ﴿من﴾: حرف جر مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ﴿ما﴾، و ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل
﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (١٠) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧)﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿عَلَى رَجْعِهِ﴾: متعلق بـ ﴿قادر﴾، ﴿لَقَادِرٌ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿قادر﴾ خبر ﴿إن﴾، والجملة مستأنفة ﴿يَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿رَجْعِهِ﴾، ولا يصح تعلقه بـ ﴿قادر﴾؛ لأنه تعالى قادر على رجعه في كل وقت من الأوقات، ولا تختص قدرته بوقت دون وقت، ﴿تُبْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿السَّرَائِرُ﴾: نائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿من﴾: زائدة، ﴿قُوَّةٍ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَا﴾: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها ﴿نَاصِرٍ﴾ معطوف على ﴿قُوَّةٍ﴾، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿تُبْلَى﴾، ﴿وَالسَّمَاءِ﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم، ﴿السَّمَاءِ﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، والجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم بالسماء، وجملة القسم مستأنفة ﴿ذَاتِ الرَّجْعِ﴾: صفة لـ ﴿السماء﴾ ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢)﴾ جملة قسمية مماثلة لما قبلها في إعرابه معطوفة عليه، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿لَقَوْلٌ﴾: ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿قول﴾: خبر ﴿إن﴾. ﴿فَصْلٌ﴾: صفة ﴿قول﴾، وجملة ﴿إن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿وَمَا هُوَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: حجازية تعمل عمل ليس، ﴿هُوَ﴾: في محل الرفع اسمها ﴿بِالْهَزْلِ﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١)﴾ ﴿السَّمَاءِ﴾: كل ما علاك فأظلك، والطارق: هو الذي يجيئك ليلًا، ومنه قول امرىء القيس:
وَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ | فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِيْ تَمَائِمَ مُحْوِلِ |
أَلَمْ تَرَيَانِيْ كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا | وَجَدَتُ بِهَا طِيْبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ |
﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣)﴾ هو الذي يثقب ضوءه الظلام، كأن الظلام جلد أسود، والنجم يثقبه، ومعنى الثاقب: المضيء لثقبه الظلام. قال أبو عبيدة: العرب تقول: أثقب نارك؛ أي: أضئها، وقيل: الثاقب: العالي، يقال: ثقب الطائر إذا علا في الهواء، وأسف: إذا دنا من الأرض، ودوم: إذا سكن جناحيه ليستقل. وعبارة "الأساس" و"اللسان": ثقب الشيء بالمثقب، وثقب القداح عينه ليخرج الماء النازل، وثقب اللآلي والدر ودر مثقب، وعنده در عذارى لم يثقبن، ومن المجاز: كوكب ثاقب ودري شديد الإضاءة والتلألؤ، كأنه يثقب بالظلمة، فينفذ فيها ويدرؤها، ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلًا نظارًا، وثقب الطائر: إذا حلق كأنه يثقب السكاك، وثقب الشيب في اللحية: أخذ في نواصيها، وباب الجميع: دخل، ويقال: ثقب الشيء يثقبه ثقبًا وثقوبًا: جعل فيه منفذًا ومسلكًا، ونفذ فيه، وثقبت النار ثقوبًا: إذ اتقدت واشتعلت، وثقب النجم: أضاء، وشهاب ثاقب: مضيء.
﴿مِنْ مَاءٍ﴾ وأصل ماء: موه، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، فصار: ماهًا، فاجتمع حرفان ضعيفان الألف والهاء، فقلبت الهاء همزة ليجاور الضعيف القوي، فصار ماء.
﴿دَافِقٍ﴾؛ أي: مدفوق من الدفق، وهو الصب؛ أي: مصبوب في الرحم، يقال: دفق يدفق دفقًا - من باب نصر -: إذا صب صبًا فيه سيلان بسرعة؛ أي: منصب بدفع وسيلان وسرعة، ولم يقل: من ماءين، مع أن الولد مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة؛ لامتزاجهما في الرحم، فصار كالماء الواحد، واتحادهما حين ابتدىء في خلقه. اهـ "خطيب".
ودافق: من صيغ النسب، كلابن وتامر؛ أي: ذي دفق وصب، وهو صادق
﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ﴾ والصلب: الشديد من كل شيء، يقال: هو صلب في دينه، وراع صلب العصا: إذا كان يعنف الإبل، وهو عظم في الظهر ذو فقار يمتد من الكاهل إلى العجب، أو أسفل الظهر، ويجمع على أصلاب وأصلب وصلبة، وهو المراد هنا، ويقال: هو من صلب فلان، أي: من نسله وولده، وفيه أربع لغات: بضم الصاد، وسكون اللام، والصلب بفتحتين، والصلب بضمتين، وقد قرىء بها جميعًا، وثمة لغة رابعة وهي الصالب، بوزن: قالب.
وقوله: ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ﴾؛ أي: من بين أجزائه، لأن بين إنما تضاف لمتعدد، وفي "القرطبي" ما يقتضي أن لفظ ﴿بين﴾ زائدة، ونصه: والمعنى يخرج من الصلب والترائب، وحكى القرطبي: أن ماء الرجل ينزل من الدماغ إلى الصلب، ثم يجتمع في الأنثيين، وهذا لا يعارضه قوله تعالى: ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾؛ لأنه ينزل من الدماغ إلى الصلب، ثم يجتمع في الأنثيين. وقال ابن عادل: جاء في الحديث: "إن الولد يخلق من ماء الرجل، يخرج من صلبه العظم والعصب، ومن ماء المرأة، يخرج من ترائبها اللحم والدم".
﴿وَالتَّرَائِبِ﴾ الترائب: عظام الصدر حيث تكون القلادة، وفي "المختار" والترائب: جمع تريبة، كصحيفة وصحائف. قال امرؤ القيس:
مُهَفْهَفَةٍ بَيْضَاءً غَيْرِ مُفَاضَةٍ | تَرَائِبُهَا مَصْقُوْلَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ |
وَمِنْ ذَهبٍ يَلُوْحُ عَلَى تَرِيْبٍ | كَلَوْن الْعَاجِ لَيْس بِذِيْ غُضُوْنِ |
﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩)﴾ أصل ﴿تُبْلَى﴾: تبلي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
سَيَبْقَى لَهَا فِيْ مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا | سَرِيْرَةُ وِدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ |
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (١١)﴾ الرجع: المطر؛ لأنه يعود كل حين، كما مر بسط البحث فيه، فالسحاب تحمل الماء من الأمطار، ثم ترجعه إلى الأرض، فالرجع في أصله: إعادة الشيء إلى حال أو مكان فيه أولًا، والمرة منه: الرجعة، كرجعة المرأة إلى النكاح.
﴿ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ والصدع: الشق، لأن النبات يصدع الأرض؛ أي: يشقها عند الخروج، فالصدع: الشق الناشىء عن تفرق بعض أجزاء الأرض، وانفصال بعضها من بعض بالنبات.
﴿يَكِيدُونَ﴾ أصله: يكيدون بوزن: يفعلون، وأصل ﴿أكيد﴾ أكيد بوزن أفعل، نقلت حركة الياء في الموضعين إلى الكاف، فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد.
﴿لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق من الباطل، ومنه: فصل الخصومات، وهو قطعها بالحكم الجازم، ويقال: هذا قول فصل؛ أي: قاطع للشر والنزاع. اهـ "قرطبي".
﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)﴾؛ أي: وما القرآن بالهزل، بل هو جد كله، فيجب أن يكون مهيبًا في الصدور، معظمًا في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه عن أن يلم بهزل، أو يتفكه بمزاح، وأن يلقي ذهنه إلى أن جبار السموات والأرض يخاطبه، فيأمره وينهاه، ويعده ويوعده، حتى إن لم يستفزه الفزع والخوف، ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادًا غير هازل، فقد نفى الله تعالى عن المشركين ذلك في قوله: ﴿وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١)﴾. اهـ "خطيب".
﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦)﴾؛ أي: أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره، وانتشار نوره.
﴿رُوَيْدًا﴾ مصغر رود: بوزن: عود الذي هو مصدر سماعي لأرود الرباعي، أو مصغر إرواد الذي هو مصدر قياسي لأرود الرباعي بحذف زوائده، و"المختار": فلان يمشي على رود بوزن عود، أي: على مهل، وتصغيره: رويد، يقال: أرود في السير إروادًا ومروادًا بضم الميم وفتحها؛ أي: رفق، وتقول: رويدك عَمْرًا؛ أي: أمهله، وهو تصغير ترخيم من إرواد مصدر: أرود يرود. اهـ. ورود بوزن: عود مصدر أرود مصدرًا سماعيًا، أو اسم مصدر له. اهـ. وفي "السمين": واعلم أن رويدًا يستعمل مصدرًا بدلًا من اللفظ بفعله، فيضاف تارة كقوله: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾، ولا يضاف أخرى نحو: رويدًا زيدًا، ويقع حالًا نحو: ساروا رويدًا؛ أي: متمهلين، ونعتًا لمصدر محذوف، نحو: ساروا رويدًا؛ أي: سيرًا رويدًا. والله أعلم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: مجاز على مجاز في قوله: ﴿وَالطَّارِقِ﴾؛ لأن الطارق حقيقة فيمن يأتي ليلًا ويطرق الباب، ثم استعمل في كل ما ظهر بالليل كائنًا ما كان، ثم استعمل في الكوكب البادي في الليل.
ومنها: الاستفهام للتفخيم والتعظيم في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢)﴾، ثم تفسيره بما يخصه تفخيمًا لشأنه، حيث قال: ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣)﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾؛ حيث أسند إلى الماء ما لصاحبه من الدفع مبالغة، وهو من استعمال فاعل بمعنى مفعول، كسر كاتم، وعيشة راضية؛ أي: سر مكتوم، وعيشة مرضية، أو فيه استعارة تصريحية، حيث شبه هذا الماء لتتابع قطراته حتى كأنه يدفق ويدفع بعضه بعضًا، بجامع تتابع السيلان في كل،
ومنها: الطباق في قوله: ﴿بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾، فقد طابق بين عظم الظهر وعظم الصدر، وأفرد الأول، وجمع الآخر؛ لأن صدر المرأة تريبتها، فيقال للمرأة: ترائب يعني بها: التريبة، وما حواليها وما أحاط بها، أو يقال: إنه تعالى أراد: يخرج من بين الأصلاب والترائب، فاكتفى بالواحد عن الجماعة، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾؛ ولم يقل: والأرضين.
ومنها: الفصل في قوله: ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣)﴾، وسياق الكلام يقتضي الوصل؛ لأنه قصد إشراكهما في الحكم، واتفقا فيه، وإنما عدل عنه تفخيمًا لشأنه، فأقسم أولًا بما يشترك فيه هو وغيره، وهو الطارق، ثم سأل عنه بالاستفهام تفخيمًا لشأنه ثانيًا، ثم فسره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام.
ومنها: فن المماثلة في قوله: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (٤)﴾، وهو تماثل ألفاظ الكلام كلها أو بعضها في الزينة دون التقفية، فالطارق والثاقب وحافظ متماثلة في الزينة دون التقفية، وأورد الشيخ عبد الغني النابلسي للقاضي يحيى بن أكثم بيتين في المماثلة:
إِنَّمَا الدُّنْيَا طَعَامْ | وَمُدَامٌ وَغُلَامْ |
فَإِذَا فَاتَكَ هَذَا | فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلَامْ |
ومنها: الطباق بين ﴿السَّمَاءِ﴾ و ﴿الْأَرْضِ﴾، وبين ﴿فَصْلٌ﴾ و ﴿الْهَزْلِ﴾.
ومنها: تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله: ﴿عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ للاهتمام به من حيث إن الكلام فيه بخصوصه، فهو لا ينافي قادريته على غيره.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾.
ومنها: فن المشاكلة في قوله: ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦)﴾ حيث سمى الاستدراج والانتقام منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار كيدًا على طريقة المشاكلة
ومنها: الإطناب بتكرير الفعل مبالغة في الوعيد في قوله: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧)﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
* * *
اشتملت على المقاصد التالية:
١ - بيان كون حافظٍ على كل نفس.
٢ - إقامة الأدلة على أن الله قادر على بعث الخلق كرة أخرى.
٣ - بيان أن القرآن منزل من عند الله تعالى فاصل بين الحق والباطل ليس بهزل.
٤ - بيان كيدهم بالرسول - ﷺ -، وجزاء الله تعالى لهم على كيدهم.
٥ - أمر الرسول - ﷺ - بالإمهال لهم حتى يحل بهم العذاب (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الأعلى، وتسمى سورة: سبح، مكية في قول الجمهور، نزلت بعد سورة التكوير، وقال الضحاك: هي مدنية، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة سبح اسم ربك الأعلى بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير وعائشة مثله، وأخرج البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي - ﷺ - مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرآننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي - ﷺ -، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله - ﷺ -، قد جاء فيما جاء، حتى قرأت ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾ في سور مثلها.
وآيُها: تسع عشرة آية. وكلماتها: اثنتان وسبعون كلمة. وحروفها: مئتان وتسعون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها: أنه ذكر في تلك خلق الإنسان، وأشار إلى خلق النبات بقوله: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢)﴾، وذكر هنا خلق الإنسان في قوله: ﴿خَلَقَ فَسَوَّى﴾، وخلق النبات في قوله: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥)﴾، وقصة النبات هنا أوضح وأكثر بسطًا، وقصة خلق الإنسان هناك أكثر تفصيلًا.
وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر فيما قبلها: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥)﴾، كأن قائلًا قال: من خلقه على هذا المثال؟ فقيل: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، وأيضًا لما قال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣)﴾.. قيل: هو ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾؛ أي: ذلك القول الفصل. انتهى.
فضلها: ومما ورد في فضل هذه السورة: ما أخرجه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ -: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، و ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١)﴾،
ومما ورد في فضلها أيضًا: ما أخرجه أحمد والبزار وابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - ﷺ - يحب هذه السورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾.
ومما ورد أيضًا: ما أخرجه مسلم وغيره عن جابر بن سمرة: أن النبي - ﷺ - كان يقرأ في الظهر بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾.
ومنه أيضًا: ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله - ﷺ - يوتر بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾ و ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾، و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾.
وأخرج أبو داود والترمذي - وقال: حديث حسن غريب - والنسائي وابن ماجه والحاكم - وصححه - والبيهقي عن عائشة قالت: كان النبي - ﷺ - يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، وفي الثانية: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾، وفي الثالثة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾، والمعوذتين.
وبحديث عائشة هذا عمل الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى، وأما عند أبي حنيفة وأحمد.. فالمستحب في الثالثة الإخلاص فقط، عملًا بحديث أبي بن كعب السابق.
وفي "الصحيحين": أن رسول الله - ﷺ - قال لمعاذ: "هلا صليت بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ ". وسميت سورة الأعلى: لذكره فيها.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: سورة الأعلى كلها محكم، فيها ناسخ، وليس فيها منسوخ، فالناسخ قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)﴾.المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها قريبًا، ثم إنه سبحانه وتعالى بدأ هذه السورة بأمر رسول الله - ﷺ - أن ينزه اسمه عن كل ما لا يليق به، واسم الله ما يعرف به، والله إنما يعرف بصفاته من كونه عالمًا قادرًا حكيمًا خالقًا، فالله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم؛ أي: تنزيهه عن أن نصفه بما لا يليق من شبه المخلوقات، أو ظهوره في واحد منها بعينه، أو اتخاذه شريكًا أو ولدًا له، فلا تتجه عقولنا إليه إلا بأنه خالق المخلوقات، وهو الذي أوجدها وسواها، وأنه هو الذي أخرج المرعى، ثم جعله جافًا حتى لفظه السيل بجانب الوادي.
قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر رسوله بتسبيح اسمه، وعلم أمته المأمورة بأمر الله له كيف يمكنها أن تعرف الاسم الذي تسبحه على نحو ما ذكرنا، ولا يكمل ذلك إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، فكان هذا مدعاة إلى شدة حرصه - ﷺ - على حفظه.. وعده بأنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه، وتبيين ما أوجب أن يعرف من صفاته، وأحكام شرائعه، كما وعده بأن ما يقرئه إياه لا ينساه.
قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما وعد رسوله - ﷺ - بذلك الفضل العظيم، وهو حفظ القرآن، وعدم نسيانه.. أمره بتذكير عباده بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وتنبيههم من غفلاتهم،