تفسير سورة البلد

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة البلد من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الْبَلَدِ
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)
يعنى بالبلد ههنا مكة، والمعنى أقسم بهذا البلد.
و" لا " أدخلت توكيداً كما قال عزَّ وجلَّ: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). وقرئت (لأقْسِمُ بهذا البلد).
تكون اللام لامَ القسَم والتوكيد، وهذه القراءة قليلة.
وهي في العربية بعيدة لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا معه النون، تقول لأضربن زيداً، ولا يجوز لأضرِبُ تريد الحال.
وزعم سيبويه والخليل أن هذه اللام تدخل مع أن
فاستغنى بها في باب إن، تقول إني لأحِبُّكَ.
* * *
ومعنى: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢)
أُحِلَّتْ مَكًةُ للنبي عليه السلام ساعة من النهار، ولم تحل لأحد قبله ولا
لأحَدٍ بعده، ومعني أُحِلَّتْ له أُحِلَّ لَه صَيْدُهَا وأن يختلى خلالها وأن يعضد
شجرها.
يقال: رَجلْ حِلٌّ وَحَلال وَمُحَلٌّ، وكذلك رجل حرام وحِرْم وَمحْرِمٌ (١).
* * *
وقوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣)
جاء في التفسير أن معناه آدم وولده، وجاء معناه أيضاً كل والد وكل
مولودٍ.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد﴾: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن: إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد. واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية، فقال: وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ، ف «حِلٌّ» بمعنى حَلال، قال معنى ذلك الزمخشري. ثم قال: «فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه» وأنت حِلٌّ «في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله تعالى ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء: أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية.
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن. أنَّ الجملةَ حاليةٌ، أي: لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك، أي: لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه. وقيل: المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه، أي: مُسْتَحَلٌّ أَذاك. وتقدَّم الكلام في مثلِ»
لا «هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ْوقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤)
هذا جواب القسم، المعنى أقسم بهذه الأشياء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، أي يكابد أمره في الدنيا والآخرة.
وقيل: (فِي كَبَدٍ) أي خلق منتصباً يمشي على رِجْلَيْه وسائر الأشياء والحيوان غير منتصبة.
وقيل (فِي كَبَدٍ) خَلْقُ الإنسان في بَطْنِ أمَهِ ورأسه قِبَلَ رأسِها، فإذا أرادت الولادة انقلب الرأس إلى أسفل.
* * *
وقوله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)
هذا جاء في التفسير أنه رجل كان شديداً جدًّا، وكان يبسط له الأديم
العكاظِي فيقوم عليه فيهد فلا يخرج من تحت رجليه إلا قطعاً من شدتِه، وكان يقال له كلدة فقيل: أيحسب لشدته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وأنه لا يبعث.
وقيل أن لن يَقْدِرَ عليه اللَّه عزَّ وجلَّ لأنه كان لا يؤمن بالبعث.
* * *
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦)
وقرئت (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)، ويُقْرأَ لُبَّدًا).
ومعنى " لُبَد " كثير بعضه قَدْ لُبِّدَ بِبَعْض، وفُعَل للكثرةِ، يقال: رجل حُطَم: إذا كان كثير الحطم.
ومن قرأ لُبَّداً فَهو جمع لاَبِدٍ.
* * *
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)
أي أيحسب أن لم يحص عليه ما أنفق، وفي الكلام دليل على أنه
ادعَى أنه أنفق كثيراً لم ينفعهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
أي ألم نَفعل به ما يُسسْتَدلُّ به على أن اللَّه قَادرٌ على أن يبعثه وأن
يحصِيَ عليه ما يعمله.
* * *
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
الطريقين الْوَاضِحَيْن، النجد المرتفع من الأرْضِ، فالمعنى ألم نعرْفه
طريق الخير وَطَرِيقَ الشرِّ بَيِّنَيْنِ كبيان الطريقين العَالِيَيْنِ.
* * *
وقوله (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)
المعنى فلم يقتحم العقبة كما قال: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلًى).
ولم يذكر " لا " إلا مَرةٍ وَاحِدَةً، وقلما يتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بلا مَرتين أو أكثر، لا تكاد تقول: لا حَيَّيتَني تريد مَا حَيَّيْتَنِي.
فإن قلت: لاحَييْتَني ولا زُرْتَني صَلَح.
ْوالمعنى في (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) موجود أن " لا " ثانية كأنَّها في الكلام
لأن قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)
تدل على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
* * *
وقرئت: (فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)
وقرئت (فَكَّ رَقَبَةً)، (أو أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ).
وكلاهما جائز، فمن قال (فَكُّ رَقَبَةٍ) فالمعنى اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام، ومن قرأ (فَكَّ رَقَبَةً) فهو محمول على المعنى (١).
والمسغبة المجاعة.
* * *
ْوقوله: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥)
معناه ذا قرابة، تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد قرابتي قبيح لأن
القرابة المصدر
قال الشاعر:
(١) قال السَّمين:
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ «فَكَّ» فعلاً ماضياً، «ورقبةً» نصباً «أو أَطْعم» فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون «فَكُّ» برفع الكاف اسماً، «رقبةٍ» خَفْصٌ بالإِضافة، «أو إطعامٌ» اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه «اقتحمَ» فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها «فَكُّ» على إضمار مبتدأ، أي: هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه «فلا اقتحمَ» تقديرُه: وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير: اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو «فَكُّ» مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء «فَكَّ أو أطعمَ» فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا «ذا» بالألف. وقرأ الحسن «إطعامٌ» و «ذا» بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ «أَطْعم» أو «إطعامٌ» و «يتيماً» حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ «ذي» بالياء نعتاً ل «يوم» على سبيل المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم: «ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ» والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ: الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه: سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي: افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو: أَثْرى، أي: صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً: مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال: «والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
يَبْكِي عليه غَرِيبٌ ليس يَعْرِفُهُ... وذُو قَرَابَتهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ
وقوله: (ذَا مَتْرَبةً).
يعنى أنه من فقره قد لصق بالتُّرَابِ.
* * *
وقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ
(١٧)
معناه إذا فعل ذلك وكان عقد الإيمان ثم أقام على إيمانِه.
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
أي على طاعة اللَّه، والصبر عن الدخول في معاصيه، ثم كان مع ذلك
مِنَ الَّذِينَ يتواصون (بالمرحمة)، أولئك أصحاب اليمن على أنفسهم أي كانوا
ميامين على أنفسهم غير مشائيم.
* * *
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)
أي هم المشائيم على أنفسهم، نعوذ باللَّهِ من النار.
* * *
وقوله: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
ويقرأ بغير هَمزٍ، ومعناه مطبقة.
يقال آصَدْتُ البابَ وأوصدته إذا أطبقته.
Icon