تفسير سورة يونس

بيان المعاني
تفسير سورة سورة يونس من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

[الجزء الثالث]

[خطبة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نحمدك يا من وفقتنا لهذا الخير الجسيم، ونشكرك أن سخرتنا للقيام بهذا السفر الكريم، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإني أشرع بالجزء الثاني من هذا التفسير متيمنا بفضله ولطفه، سائلا منه المعونة والتيسير على إتمامه، إنه بالإجابة جدير، وهو على كل شيء قدير.
تفسير سورة يونس عدد ١- ٥١- ١٠
نزلت بمكة بعد سورة الإسراء عدا الآيات ٤٠، ٩٤، ٩٥، ٩٦ فإنها نزلت بالمدينة، وهي مائة وتسع آيات وألف وثمنمئة واثنتان وثلاثون كلمة، وتسعة آلاف وتسعة وتسعون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال الله تعالى: «الر» تقدم البحث مستوفيا أول سورة الأعراف في ج ١، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بما بدئت به هذه السورة، ويوسف وهود والحجر وابراهيم. قال سعيد بن جبير:
الراء وحم ون حروف الرحمن مقطعه. وبه قال ابن عباس. وقال غيرهما كل حرف مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، ولا يعلم المراد منها على الحقيقة إلا الله تعالى. لذلك فأحسن قول في تفسير هذه الحروف المبدوءة بها سور القرآن العظيم أن يوكل علمها إلى الله «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ١» الذي أودع الله فيه الحكم كلها، فلا رطب ولا يابس إلا في هذا القرآن يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله، لأنه مأخوذ من علم الله المحيط بكل شيء، ولوحه المكنون الحاوي جميع المكوّنات، وهذه
3
الآيات تخبر العارف بصواب الحكمة المتقنة، وتهيء المعاني للقلوب الطاهرة على تصديق ما تخبر به قومك، وتلهب قلوب أهل للعزم صادقي النيّة على تأييدك فيما تبشر به وتنذر. فيا أكمل الرسل «أَكانَ لِلنَّاسِ» أهل مكة وغيرهم «عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ» عظيم القدر جليل الخلق (بدلالة هذا التنوين المأتي به للتبجيل) وجعلنا ذلك الرجل الخطير الذي أهلناه لوحينا وللخلافة في أرضنا «مِنْهُمْ» من أحسنهم حسبا وأشرفهم نسبا، وقلنا له «أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» قومك من أهل مكة وغيرهم من سائر الخلق العاقل بأن ينتهوا عما هم عليه من عبادة غير الله الواحد، ومن الأفعال والأعمال الذميمة ويرجعوا عن الكفر، أو ينزل بهم عذاب لا طاقة لهم به «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا» منهم بك وصدقوا ما تتلوه عليهم من هذا القرآن وأقلعوا عما هم عليه من الكفر ودواعيه.
«أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ» منزلة ومكانة «صِدْقٍ» سابقة رفيعة أي قد سبق لهم عند الله خير. قال ذو الرّمة:
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة ومفاخر
مطلب في معنى القدم:
لأن القدم كل ما قدمت من خير وهو كناية عن العمل الذي يتقدم فيه الإنسان، وأطلق لفظ القدم على هذا المعنى لأن السعي والسبق يحصل به، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وفي إضافة القدم إلى الصدق التنبيه على زيادة الفضل. وقال بعض المفسرين المراد به الشفاعة وأنشد:
صل لذي العرش واتخذ قدما ينجيك يوم العار والزلل
هذا، وكل عمل صالح ثوابه قدم صدق لفاعليه «عِنْدَ رَبِّهِمْ» راجع قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) آخر سورة القمر في ج ١، أي أن جزاء أعمالهم الحسنة مخبوءة لهم عند ربهم يوم يلقونه.
والقدم هو العضو المخصوص، وقد يراد منه التقدم المعنوي أي المنازل الشريفة قال حسان:
4
وقال الآخر:
لنا القدم العليا إليك وخلقنا لأولنا في طاعة الله تابع
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمّت على البحر
وهذا القدم الذي يتخذ عند الله عز وجل هو ما يقدمه العاقل من أعمال صالحة بإخلاص صادق إلى ربه في دنياه ليدخرها له وينميها فيجد ثوابها عنده منازل رفيعة في جنة عالية دائم نعيمها، لهذا فإن كل فعل صالح وأمر طيب يسمى قدما من تسمية الشيء باسم آلته، وهذه الإضافة المشار بها آنفا من إضافة الموصوف إلى صفته مبالغة في تحقيقها، وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم أهله، إذ ليس للكافرين ما يبشرون به، بل لهم الإنذار والتهديد، وما جاء في بعض الآيات من لفظ البشارة لهم فهو من باب التهكم بهم قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية ٥ من سورة التوبة في ج ٣، أما الإنذار فإنه يصرف للفريقين المؤمنين والكافرين إذ قل من لا يستحق الإنذار «قالَ الْكافِرُونَ» لما سمعوا تلك الآيات البينات عتوا وعنادا «إِنَّ هذا» الذي تسمعونه من محمد ما هو إلا «سحر مبين ٢» لا خفاء فيه على أحد وقرىء لساحر، وعليه يكون قولهم إن محمدا الذي يأتيكم بالآيات ساحر ظاهر سحره فلا تلتفتوا إليه، وذلك أنهم تعجبوا من أن الله تعالى كيف خص محمدا ﷺ من بينهم وشرّفه برسالته إليهم، ويقولون الله أعظم من أن يكون له رسول بشر يتيم كيتيم أبي طالب، جهلا منهم بحقيقته ﷺ فهو الذي لا ريب فيه لأحد من ذوي العقول الكاملة بأن له القدّنح المعلّى وفيه غاية الغايات ونهاية النهايات؟؟؟ والله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وقد قال رائبه فيه:
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وقال الآخر:
ولو صوّرت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع
وقال الأبوصيري:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم
ولم يعلم هؤلاء المتعجبون الذين طمس الله على قلوبهم أن الحظوظ الدنيوية لا دخل
5
لها في مختارات الله، ولكن هذا ليس بكثير على من سلب الله عقله. وقد لا تجتمع مع العقل، ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
ولكن من رزق الحجى حرم الغنى ضدان مفترقان أي تفرق
مطلب معنى التعجب والتدبر والأيام الست والعرش:
هذا وإن التعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء خلاف العادة، وقد زعموا أن ضيرورة اليتيم الفقير نبيأ لم تجر به العادة فأنزل الله تعالى هذه الآية تهكما بهم.
قال تعالى يا أيها الناس «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» تقدم البحث فيها في الآية ٥٩ من سورة الفرقان في ج ١، وله صلة في الآية ٩ من سورة فصلت الآتية إن شاء الله «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» المبسوط القابل لانعكاس أشعة أسمائه تعالى وصفاته، واستولى عليه استيلاء يليق بذاته، بلا أين ولا كيف ولا كم، بصرف النظر عما يتصور من معنى ثم في تراخي الزمن والمهلة، وقد تقدم تفسيره وما يتعلق به مفصلا في الآية ٥١ من سورة طه في ج ١، «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» كله فيهما مما يتعلق في جميع مكوناته العلوية والسفلية فلا يخرج شيء عن قضائه وتقديره مما يقع فيهما، ومن جملة ذلك اختيار سيدنا محمد ﷺ للرسالة ومعنى التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها وما ينتج عنها لتقع على الوجه المحمود، قال عليه الصلاة والسلام إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته، والمراد هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل «ما مِنْ شَفِيعٍ» يشفع لأحد «إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» لذلك الشفيع الذي يرتضيه ولا يشفع إلا لمن يرضاه راجع الآية ١٠٩ من سورة طه في ج ١، وله صلة في الآية ٢٥٥ من سورة البقرة في ج ٣، وهذا الشفيع عام يشمل الأنبياء والملائكة فمن دونهم، وقد جاء في معرض الرد لقول الكفرة بشفاعة الأوثان، فإذا كان الأنبياء فمن دونهم من كرام الخلق على الله لا يشفعون إلا بإذنه، وإلا لمن يرضاه، فكيف يتمنّى القول بشفاعة الأوثان التي كونتها أيديهم من أحجار وأخشاب وغيرها «ذلِكُمُ» الإله العظيم خالق السموات والأرض ومدبر أمورهما ومن فيهما المستولي
6
على العرش العظيم هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ» أيها الناس سيدكم ومولاكم ومسوي أموركم «فَاعْبُدُوهُ» وحده شكرا لنعمه الظاهرة والباطنة «أَفَلا تَذَكَّرُونَ ٣» عظمته وجميل صنعه إليكم فتعتبرون وتتعظون وتنقادون لهذا الربّ الذي «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» لا إلى غيره ولا مصير لأحد دونه «جَمِيعاً» إنسكم وجنكم وملككم، وقد وعدكم بالبعث بعد الموت على لسان رسله «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» منجزا لا محيد لكم عنه «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» يحييهم أولا كما أحيى أصلهم من العدم «ثُمَّ يُعِيدُهُ» على حالته الأولى بعد إماتته كما بدأه «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» العدل بحيث لا ينقص من أجر أحد منهم شيئا بل يزبده من فضله وكرمه «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» كذلك يجزيهم على أعمالهم بالعدل، فلا يزيد على ما يستحقونه شيئا ولا يعذّبهم على ما لم يفعلوا، وهؤلاء الكافرون «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» ماء متناء في الغليان بدل ما كانوا يتلذذون به من الأشربة المحرمة في الدنيا «وَلهم عَذابٌ أَلِيمٌ» فوق ذلك لا تطيقه أجسامهم «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ٤» بالدنيا بالله وكتبه ورسله، وينكرون اليوم الآخر، وفي هذه الآية دلالة قاطعة على البعث بعد الموت والحشر والنشر والمعاد، وردّ صريح على منكري ذلك الإله العظيم «الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» خصّ القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء الذي خصّه بالشمس لقوّته وكماله، وفيه إشارة إلى أن هذا النور مستفاد من ذلك الضياء، وهذه الاستفادة حاصلة من الشمس إلى القمر، سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة، أو بأن يستنير نفس جوهره بصورة يعلمها الله، راجع الآية ١٢ من سورة الإسراء في ج ١.
و «قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» يتنقل فيها بنظام بديع لا يتغير راجع الآية ٣٩ من سورة يس في ج ١ تعرف المنازل وغيرها، وإنما أعاد الضمير للقمر وحده لأن سيره في المنازل أسرع من سير الشمس، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين المعتبرة شرعا لابتنائها على الأهلة، وما قيل إنه يرجع إلى الشمس والقمر معا، وإنما وحده مع أنه عائد لهما للإيجاز اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر كما في قوله تعالى (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) الآية ٦٨ من التوبة في ج ٣ بدل ترضوهما إيجازا
7
واكتفاء، إلا أن الأول أولى لموافقته لظاهر الآية، وللسبب المذكور آنفا المؤيد بقوله تعالى «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
مطلب السنين الشمسية والقمرية وما يتعلق بهما:
والمراد بالسنين هنا القمرية التي هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما، وثماني ساعات، وثمان وأربعون دقيقة، راجع الآية ٣٢ من الأعراف في ج ١، على أنه لا مانع من أن تشمل جملة آية السنين والحساب السنة الشمسية أيضا التي هي ثلاثمائة وخمس وستون يوما، وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة أيضا، والفرق بينهما عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة بمقتضى الرصد الأليخاني، وكل من السنتين تكون بسيطة وكبيسة ولهذا يكون شهر شباط في كل أربع سنين تسعا وعشرين يوما إذ ينضم إليه فروق ثلاث سنين لانتظام الحساب الجاري، والأشهر العربية تكون ثلاثين، وتسعا وعشرين يوما للسبب نفسه، فتكون السنة القمرية بانقضاء اثنى عشر شهرا قمريا، والشمسية عند وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من البروج الاثني عشر التي ذكرناها أول سورة البروج المارة في ج ١، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٦ من سورة الحجر الآتية إن شاء الله «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ»
الضياء في الشمس والنور في القمر وجعل منهما معرفة السنين والحساب، وما أظهر ما أظهر منها وأوجد ما أوجد في عالمي للغيب والشهادة من مظاهر أسمائه وصفاته «إِلَّا بِالْحَقِّ» الموافق للحكمة البالغة، إظهارا لقدرته وبرهانا لوحدانيته وجعلها دلائل على عظمته، فلم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا بل هي حق لا مرية فيه كسائر مخلوقات ذلك الخالق الجليل الذي «يُفَصِّلُ الْآياتِ» تفصيلا وافيا ويكررها تكريرا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥» الحكمة التكوينية لهذا الكون العظيم المهمول فيستدلون على شئون مبدعها ويستنبطون منها البراهين على باهر قدرته ووحدانيته «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» من كون أحدهما مضيئا والآخر مظلما، وكون كل منهما يخلف صاحبه فيجيء وراءه متصلا به دون فاصلة ما، وأخذ أحدهما من الآخر بصورة تدريجية ساعات ودقائق، ثم يتلوه صاحبه فيرجع إليه
8
ليسترد ما أخذه منه حتى يبلغ الغاية المقدّرة في الأزل، وهكذا كل منهما يعيد الكرة على الآخر دواليك بصورة منتظمة لا تختلف قيد شعرة منذ خلقها الله تعالى إلى الآن، وإلى أن يأذن بخراب هذا الكون «وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من الكواكب السيارة والثابتة والبحار والأنهار والمعادن الجامدة والسائلة، مما عرفه الخلق ومما لم يعرفه بعد، والآثار الحكمة والخلائق المتنوعة «لَآياتٍ» واضحات عظيمات دالات على وجود الصانع لهذه المصنوعات المتقنة، وعلى كمال قدرته وبالغ حكمته، وعلى ما أنكروه من البعث بعد الموت، وما تعجبوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب بتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الردى «لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ٦» الله ويحذرون عاقبة ما خوفهم به رسله، وخص المتقين لأن التقوى تدعو إلى النظر في عواقب الأمور والتدبر لنتائجها، وقد تحدو بهم إلى الفكر والتفكر في آيات الله والتذكر بها لتوصلهم إلى معرفة صانعها المكون هيكلها، فيزدادوا إيمانا وتصديقا وإذعانا، فينقادوا إلى الله ويؤمنوا برسله وكتبه واليوم الآخر، فيحصل لهم المقصود الذي خلقوا لأجله وهو عبادة الله تعالى القائل:
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من الذاريات الآتية.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» ولا يتوقعون حصوله ولا يخطرونه ببالهم لتوغلهم بالغفلة عن لتفطن إلى الحقائق الراعنة، لأنهم لا يعتقدون بالثواب والعقاب لإنكارهم اليوم الآخر فلا يخافون وعيدنا وتهديدنا الواقع على لسان رسلنا «وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا» المستعارة الموقتة دار البلاء والمحن التي لم تدم ولم تصف لأحد بدلا من الآخرة الدائم نعيمها دار السعادة والصفاء، وآثروا الأدنى الفاني الخسيس، على الأعلى الباقي النفيس «وَاطْمَأَنُّوا بِها» وركنوا إليها ومالوا بكليتهم عليها وسكنت لها قلوبهم سكون من لا براح له عنها، آمنين من اعتراء المزعجات غافلين عما أعد لهم من العذاب، فبنوا القصور الفخمة القوية، وأملوا الآمال المغوية البعيدة، فأزال ذلك كله الوجل من قلوبهم وصرفها في الملاذ والملاهي حتى أنساهم ذكر الله زخارفها، وصاروا بحالة لم يصل معها إلى قلوبهم ما يسمعون من الإنذار والتخويف والوعيد «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ٧» لا يتفكرون
9
بها لاهون في ألعابهم، مقبلون على لذاتهم، معرضون عما يأتيهم من قبلنا «أُولئِكَ» الذين هذا شأنهم وهو مبتدأ و «مَأْواهُمُ» مبتدأ ثاني وخبره «النَّارُ» وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول والجملة خبر «إن» التي هي بصدر هذه الآية لذلك لا يوقف على (غافلون) ولو كانت إشارة الوقف عليها لأن الكلام لا يتم بها وإشارة الوقف عبارة عن فاصلة فمنها ما يتم بها الكلام فيوقف عليها ومنها ما يوقف عليها، فيرجع القارئ إليها فيصلها بما بعدها ويقف على ما يصح عليه الوقف، وهذا كثير في القرآن العظيم إذ لا يخفى أن الخبر محط الفائدة وهو الذي يوقف عليه لا المبتدأ، والمعنى أن الموصوفين المذكورين الذين لا يرجون لقاء الله مصيرهم ومثواهم نار جهنم جزاء «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ٨» من الأعمال الخبيثة في الدنيا والجار من/ بما/ متعلق بمحذوف تقديره جوزوا بكسبهم القبيح وجاء الرجاء بصدر هذه الآية بمعنى الخوف وهو كثير بلغة العرب، قال أبو ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها. أي لم يخفه والمراد من لقاء الله الرجوع إليه بالبعث بعد الموت والحساب المترتب عليه الجزاء بحسب الأعمال. قال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ» في الآخرة إلى الجنات العالية «بِإِيمانِهِمْ» الخالص المؤدي إلى ذلك، فتراهم على الطريق السوي في الدنيا مدة لبثهم فيها، ويجعلون بسببه في الآخرة بمكان «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» أي من تحت منازلهم ومن بينها لينظروا إليها من أعالي أصرّتهم وشرفات قصورهم. وقيل إنها تجري بين أيديهم وليس لشيء إلا أن يراد ما بين أيديهم (أمامهم) فإنه شيء يعتدّ به. وقيل يهديهم نور أعمالهم لما جاء في الحديث أن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة، فيقول له أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار.
وفي هذه الآية دليل على أن مجرد الإيمان منج، إذ قال بإيمانهم دون أن يضم إليه العمل الصالح، وهو لا شك ينجي من التخليد بالنار ويدخل الجنة من لم يتمكن من العمل كمن أسلم ومات قبل أن يقدم عملا صالحا، فإذا أمكنه تقديم العمل
10
الصالح فهو من باب أولى «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٩» الدائم لأمثالهم، وحرف الجر هنا متعلق بتجري وهو حال من الأنهار «دَعْواهُمْ» دعاءهم وهو مبتدأ و «فِيها» متعلق به وخبره «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ» أي أنهم يدعون الله تعالى وينادونه في هذه الجملة الدالة على التنزيه تلذذا بذكره تعالى لا عبادة، وانهم يقولون هذه الجملة كلما يعايتون شيئا من عجائب آثار قدرته ونتائج رحمته ورأفته «وَتَحِيَّتُهُمْ» فيما بينهم «فِيها» أي الجنة «سَلامٌ» أي يحيي بعضهم بعضا وتحييهم الملائكة في هذه الكلمة أيضا. وقيل إن جملة سبحانك اللهم علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام، فإذا أرادوا شيئا قالوها، فيأنونهم بما تشتهي أنفسهم وتلذّ به أعينهم من الأطعمة التي لا يشبه بعضها بعضا في اللون والطعم والرائحة والآنية واللذة والكم والكيف والماهية والغداء. فإذا فرغوا حمدوا الله تعالى على ذلك بما يلهمهم المنعم عليهم من أنواع التحميد والتقديس التي منها ما حكاه الله عنهم بقوله عز قوله «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٠» فترجع الموائد عند ذلك واستدل القائل بهذا بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مرّ بهم الطائر يشتهونه قالوا سبحانك اللهم، وذلك دعاؤهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فإذا جاء الملك بسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله وتحيّتهم فيها سلام. فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله تعالى (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وهذا ترتيب ذكري بحسب الترتيب الوقوعي، إلا أنه خلاف الظاهر، والأولى ما ذكرناه، لأن أهل الجنة يبتدئون أمورهم كلها بتعظيم الله تعالى وتنزيه، ويختمونها بشكره والثناء عليه، ويتكلمون بينهما بما أرادوا مما يلقيه ربهم على قلوبهم. أخرج مسلم عن جابر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا فما بال الطعام يا رسول الله؟ قال جشاء (أي يخرج جشاء وعرقا) ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد. وجاء في صحيح مسلم في وصف أهل الجنة يسبّحون الله تعالى بكرة وعشيا.
11
مطلب كراهية الدعاء بالشر على النفس:
قال تعالى «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ» الذي يدعونه على أنفسهم فيجيب دعاءهم فيه ومنه قول أهل مكة (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية ٣٢ من سورة الأنفال في ج ٣، ومنه قولهم عند سماع الآيات التي فيها الوعيد (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية ٤٨ من سورة يس المارة في ج ١، ومثلها الآية ٣٨ الآتية وهي مكررة في القرآن كثيرا، قال ابن عباس المراد في هذه الآية دعاء الرجل على أهله وولده عند الغضب مثل قوله لعنك الله، لا بارك الله فيك، وكذا المرأة تقول لولدها قصف عمرك أعماك الله كسرك لا وفقك وشبهه، وقال قتادة المراد دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه. راجع الآية ١١ من سورة الإسراء في ج ١ أي لو يعجل الله للناس استجابة دعاءهم بالشر «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» أي كطلبه وإرادة إجابته «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ» حالا ولفرغ من إهلاكهم من كثرة ما تلوكه ألسنتهم من ذلك الدعاء السيء لكن الله تعالى بمنه وكرمه، قد يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له بالشرّ، قال ابن قتبية إن الناس عند الضجر يدعون على أنفسهم وأهليهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة، فلو بدلوا الدعاء حال الغضب بالشرّ على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، بالخير، لهم لكان أولى وأنفع لهم تحاشيا عن حصول الشر والوقوع بالملامة إذا صادقت الدعوة ساعة إجابة، حفظنا الله من ذلك. والتفسير الأول أولى وأحسن انطباقا على المعنى، لأن المراد بالناس في هذه الآية- والله أعلم- المذكورون في قوله تعالى (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الآية السابقة، ويؤيد هذا ما جاء أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث أحد رؤساء قريش مكة القائل (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) الآية المارة آنفا، وعليه يكون المعنى ولو يعجل الله لهؤلاء الكافرين العذاب كما يعجل لهم الخير في المال والولد لعجل قضاء آجالهم فأماتهم جميعا، ويدل على هذا أيضا قوله تعالى تتمة هذه الآية «فَنَذَرُ» نترك ونهجر «الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» السابق
12
ذكرهم ووصفهم «فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١» يترددون من الحيرة في تمردهم وعتوهم ولكنا بمقتضى الحكمة الأزلية لا نعجل الشر لهم ولا ننقص أجلهم عما هو مقدر لهم، بل نمهلهم ونستدرجهم، لا نتركهم ولا نهملهم، وسنفيض عليهم النعم ونغريهم بالمال والجاء حتى تلزمهم الحجة ويستكملوا جميع ما قدر لهم في أزلنا الذي لا يتبدل، ثم نأخذهم على غرة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ أللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وتقربة بها إليك يوم القيامة، واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة. ولا يقال إن هذه الآية أي (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) إلخ لم تنزل بعد، فلا يصح أن تكون الآية المفسرة سببا للنزول في حق القائل لأن الكفرة كانوا يتقولون بما في معناها كلما سمعوا آية وعيد أو تهديد أو تخويف من حضرة الرسول ﷺ بدليل طلبهم استعجال العذاب مثل قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الآية المنوه بها آنفا وأمثالها، ولأن آية الأنفال لم يكن نزولها في المدينة المنورة كي يحتج بها هذا القائل لأنها نزلت بمكة منفردة عن سورتها وليست هي وحدها بل ما قبلها وما بعدها من الآية ٢٠ إلى ٢٦ نزلت بمكة حكاية عن حالتهم السابقة وتهكم بهم كما سنأتي على ذكرها وسببها عند تفسيرها في القسم المدني إن شاء الله وقد أعمي الله قلب النضر المذكور عن أن يقول اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه ووفقنا له بدلا من أن يقول (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) إلخ، ولكن توغله في الضلال وتماديه في العناد أداء إلى قوله ذلك، لأن اللسان ينطق بما يتلقاه عن القلب والدنّ ينضح بما فيه من خذلان الله إياه، قال تعالى «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ» الشدة والضنك «دَعانا لِجَنْبِهِ» مضجعا «أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» أي أنه يثابر على الدعاء في جميع أحواله وحالاته «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ» الذي أنهكه بعد أن التجأ إلينا ودعانا «مَرَّ» مضى واستمر على حالته الأولى من الإعراض عنا ونسي حالة الجهد والبلاء ولم يركن إلينا ويدعنا شكرا على رحمتنا به وإجابتنا لدعائه، وصار من شدة غفلته وعمهه وإعراضه وانهماكه في زخارف الدنيا وشهواتها
13
«كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا» قبل «إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» وكأنه لم يصبة شيء من الفقر والفاقة والمرض البتة «كَذلِكَ» كما زينا لهذا الإنسان جهله القبيح ونسيانه المليح «زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ» الذين تجاوزوا حدود الله وأفرطوا بكل صفة ذمية وفرطوا بكل خصلة ممدوحة فرأوا حسنا «ما كانُوا يَعْمَلُونَ ١٢» من القبائح والإعراض عن الله تعالى والانهماك في الشهوات والمثابرة على الكفر. ونائب فاعل زين هو لفظ ما الذي هو بمعنى الذي، أي العمل السيء الذي كانوا يعملونه بإغواء الشياطين وتسويلاتهم. وفي هذه الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهوع إليه في الشدة.
ومما يليق بالكامل أن يتضرع إلى مولاء في السراء والضراء فهو أرجى للإجابة، وأن يكثر الخوف حالة الرخاء والصحة، والرجاء حالة الفاقة والمرض، فهو أجدر بالخضوع إلى الله. جاء عن أبي الدرداء: أدع الله تعالى يوم صرائك يستجب لك يوم ضرائك. وعن أبي هريرة: من صره أن يستجاب له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية ٨٣ من سورة الإسراء في ج ١ فراجعه. والمراد بالإنسان هنا من حيث اللفظ والمعنى الكافر بقطع النظر عن كونه معينا فتشمل الآية من نزلت فيه وغيره من كل من هذه صفته من الكافرين والعاصين غير المبالين بما يفعلون، لأن أل فيه للجنس ويدخل تحت الجنس عموم أفراده. هذا، واعلم أن المزين في الحقيقة للعمل هو الله تعالى، لأنه مالك الملك، والخلق كلهم عبيده يتصرف فيهم كيفما شاء وأراد. راجع قوله تعالى:
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الآية ٥٧ من سورة الأنعام الآتية، وقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من سورة الصافات، وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) الآية ١٣٥ من الأنعام أيضا، وإذا كان للشيطان سبب ظاهرى فيكون بإقدار الله تعالى إياه، وإلّا فهو عاجز أيضا عن أن يقسر الإنسان على فعل شيء أو عدمه، راجع قوله تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الآية ٧٦ من سورة النساء في ج ٣، والآية ٣١ من سورة إبراهيم الآتية، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية ١٢١ من سورة طه المارة في ج ١، وفيها ما يرشدك
14
إليه من المواضع التي فيها هذا البحث فراجعها. قال تعالى «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ» السابقة كقوم نوح وعاد وثمود، وقد بينا ما يتعلق بالقرن في الآية ١٥ من سورة الإسراء المارة في ج ١ فراجعها «مِنْ قَبْلِكُمْ» يا أهل مكة وقد التفت بالخطاب تعالى خطابه إليهم مبالغة في التشديد والتهديد «لَمَّا ظَلَمُوا» أنفسهم بتكذيبهم آياتنا ونماديهم في الغي والبغي «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الواضحة فكذبوهم كما كذبتم محمدا يا أهل مكة الذي جاءكم بمثلها «وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» برسلهم مثلكم بل بقوا مصرّين على كفرهم «كَذلِكَ» مثل ما جزيناهم بالهلاك «نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ١٣» منكم فنهلككم أيضا وكذلك نجزي كل طائفة مجرمة لم ترجع عن كفرها بالهلاك «ثُمَّ جَعَلْناكُمْ» يا قريش بعد إهلاك القرون الماضية «خَلائِفَ» لهم «فِي الْأَرْضِ» لإعمارها ونشر السلام فيها وعبادة مكونها وحده «مِنْ بَعْدِهِمْ» أي الهالكين الذين أساؤا التصرف بها وعبدوا الأوثان «لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ١٤» هل تقتفون آثارهم فتستحقون الإهلاك مثلهم أو تعملون خيرا فتستوجبون النجاة في الدنيا من عذاب الاستئصال والجنة في الآخرة والنعيم الدائم.
واعلم أن كلمة كيف منصوبة بتعلمون لا بننظر قبلها لأن معنى الاستفهام فيه يمنع تقدم عامله وعليه يكون المعنى أنكم أيها الناس بنظر منّا وتحت مراقبتنا فانظروا كيف تعملون أتعتبرون بمن قبلكم فتفوزون بالنجاح، أم تعترون بما أنتم عليه فتهلكون، والله تعالى لا ريب عالم بما يقع منهم قبل وقوعه ناظر إليه قبل شروعهم فيه، وإنما قال لهم ذلك إظهارا لقوله سبحانه لعباده بأن يعاملهم معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه على حد قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الآية الثانية من سورة تبارك الملك الآتية فيظهره لخلقه ليتيقنوا أن من يعمل صالحا يجازى بأحسن منه، ومن يقترف طالحا يجازى بمثله.
مطلب ذم الدنيا وحالة الرسول وعمر فيها:
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله ﷺ قال إن الدنيا
15
حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واحذروا فتنة النساء أي وفتنتها، ولا تعتروا بزخرفها وخذوا منها ما يكفيكم، ودعوا الفضل تكونوا فاضلين. قال تعالى (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الآية ٧٧ من سورة النساء في ج ٣، وليعلم أنه لم يؤت الإنسان في هذا القليل إلا قليلا، وهذا القليل إن تمنّعت به فهو لهو ولعب، قال تعالى (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) الآية ٢١ من سورة الحديد في ج ٣، وقال تعالى (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الآية ١٤ من سورة العنكبوت ومثلها ٣٢ من سورة الأنعام الآتيتين ومثلها الآية ٣٦ من سورة محمد في ج ٣، فعلى العاقل أن لا يشري حياة قليلة فانية بحياة كثيرة باقية، قال ابن عياض لو كانت الدنيا ذهبا يفنى والآخرة خزفا يبقى لوجب أن نختار ما يبقى على ما يفنى، قال تعالى (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الآية ٢٤ من سورة لقمان الآتية. وقال ﷺ لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ ألا أريك الدنيا بما فيها قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رءوس الناس وقذرات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم، وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد ثم هي صائرة عظما رميما، وهذه القذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها في الدنيا، فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياسهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام رءوس دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك، قال فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا. وروي أن عمر بن الخطاب دخل على النبي ﷺ وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبيه، فبكى عمر فقال ﷺ ما يبكيك يا عمر؟ فقال تذكرت كسرى وقيصر وما كانا عليه فيه من سعة الدنيا وأنت رسول الله وقد أثر الشريط في جنببك، فقال ﷺ هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا،
16
وقد تمثل عند ما آلت له الخلافة بالآية الآتية الدالة على معنى قوله ﷺ هذا وذلك أن ضيفا جاءه ذات يوم وأمامه قصعة يأكل منها وبجانبه ضيفان يأكلان على قصعة أخرى، فجلس معه فرأى عظاما وعصبا، فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال هذا الذي ترى إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايب اللحم إلى آل محمد، والذي يليه للمهاجرين والأنصار، والذي يليه للضيفان، وما بقي من عظم وعصب لعمر وآل عمر، فبهت الرجل ثم قال له عمر اعلم أيها الرجل أنا أعلم بصلاء الجداء منكم، ولكن نتركه لئلا يقال لنا غدا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) الآية ٢١ من سورة الأحقاف الآتية. قيل أن تيمور لنك لما أسر ببلد رم با يزيد قال له هل أنت آسف؟ قال وكيف لا، فقال لا تأسف فلو كانت الدنيا تساوي عند الله ذرة ما ملكها لمثلك أعور ومثلي أعرج، ثم قال له أتدري من الملك؟ قال أنت، قال لا، الملك من يشهد له الناس في اليوم والليلة على رءوس المنابر خمس مرات.
فتدبر قوله هذا، واعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا» المعنيون بالآيات السابقة، وقد وضع الموصول فيها موضع الضمير إشعارا بالذّم لهم أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو محمد ﷺ إن كنت تريد أن نؤمن بك «ائْتِ» لنا «بِقُرْآنٍ» ليس فيه عيب آلهتنا ولا ترك عبادتها «غَيْرِ هذا» الذي تتلوه علينا المملوء بما نكره المحشو بتنديد ما نعبده «أَوْ بَدِّلْهُ» بأن تجعل الآية المشتملة على سب آلهتنا آية أخرى في مدحها، ومن هؤلاء الخبثاء عبد الله بن أمية المخزومي والوليد ابن المغيرة ومكرز بن حفص وعمر بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام، وقد قالوا هذا لحضرة الرسول على طريق التجربة والامتحان ليعلموا صدق قوله وعدمه، فأجابهم الله تعالى عن التبديل لأنه في طوق البشر بقوله «قُلْ يا محمد لهؤلاء العتاة «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي» لأني لم آت به من جهة نفسي كي أتمكن من تبديل شيء منه، ولا ينبغي لي أن أفعل هذا «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي فلا أقدر أن أزيد فيه شيئا ولا أنقص البتة «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بالإقدام على تبديل
17
حرف أو زيادته أو نقصه «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥» هو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا، وهذا جواب لكم عما طلبتموه من التبديل، أما الإتيان بقرآن آخر غير هذا فهو خارج عن طوق البشر، فلا أقدر أنا ولا غيري عليه البتة، وهذا وما بعده في الآية رد صريح على من يقول إن القرآن أتى به محمد من عند نفسه، وكثير من آيات هذه السورة جاءت بمعرض الرد على هذا وآيات غيرها في السور الأخرى أيضا صريحة بالردّ على هؤلاء الذين يشكون يكون هذا القرآن من عند الله، وقد أكد ذلك بقوله جل قوله لحبيبه «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ» لأني أمي كما تعلمون لا أحسن القراءة والكتابة وإن تلاوتي له عليكم أمر غريب أبرزه لكم، وإن إظهار أمر عجيب خارج عن العادة وخارق لها وإن أمّيّا مثلي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء أو يجالسهم وقد قضى ردحا من عمره بين أظهركم وأنتم تعلمون ذلك إذ أنتم أميون مثلي فقراءتي عليكم كتابا بكلام فصيح يعلو على كل فصيح مشحونا بالأخبار الغيبية مما لا يعلمه إلا الله لمن أغرب الأمور وأعجبها إن كنتم تعقلون، واعلموا يا قومي أن الله تعالى لو شاء لم ينزله علي ولم يأمرني بتلاوته «وَلا أَدْراكُمْ بِهِ» ولا أعلمكم بذلك على لساني لأن الأمر منوط به وليس لي شيء منه أصلا، لأني عاجز عن الإتيان بشيء منه مثلكم وقرىء (ادرأتكم) بإسناد الفعل إلى حضرة الرسول عطفا على ما تلوته لتوحيد الضميرين، والقراءة المشهورة هي ما في المصاحف بإسناد الضمير إلى الله تعالى وهي أبلغ في المعنى «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً» مدة أربعين سنة «مِنْ قَبْلِهِ» قبل إنزاله علي من قبل الله وتلاوتي إياه عليكم، فلو كان شيء منه في نفسي لتلوت عليكم خلالها شيئا منه وهذا دليل كاف على ردّ زعمكم بأن هذا القرآن من عندي أو أني تلقيته من الغير، أو أني أقدر على الإتيان بشيء منه، وإلا لوقع منّي ولو بعض آية على طريق السهو على الأقل طيلة تلك المدة. وبما أنكم يا قوم تعلمون عدم وقوع شيء مني من هذا القرآن، ولم أقل لكم إنه أنزل علي شيء منه، ولم أدّع النبوة التي شرفني الله بها إلا بعد مضي الأربعين من عمري، وإذا علمتم هذا وتحققتم عدم ادعائي شيئا من ذلك فاعلموا أنه من عند الله، وأن البشر كلهم عاجزون عن الإتيان بآية
18
منه أو أقل، وعاجزون عن تبديل ما أوحي إلي منه أيضا، وإني أبرأ مما تتوهمونه وما تسندونه إلي مخافة عذاب الله ربي «أَفَلا تَعْقِلُونَ ١٦» ما وضحته لكم وتعترفون بأني نشأت بينكم ولم أغب عنكم لأنهم بالتعليم من الغير، فمن له منكم مسكة من عقل سليم وذهن مستقيم يعلم صحة ذلك، ويعرف بأن هذا الذي أتلوه عليكم منزل من عند الله العزيز الحكيم وكما أنكم عاجزون كلكم عن الإتيان بمثله فأنا مثلكم عاجز أيضا لأني من أحدكم فاتقوا الله وآمنوا به يا قوم لعلكم تفلحون.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن على رسول الله ﷺ وهو ابن أربعين سنة (أي بعد كما لها لأن النزول بدأ في الإحدى والأربعين من عام ولادته ﷺ فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه (أي القرآن إلا شهورا) ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث فيها عشر سنين (أي يوحى إليه أيضا) ثم توفي صلى الله عليه وسلم، فيكون عمره الشريف ثلاثا وستين سنة وهو الصحيح من أقوال ثلاثة، لأن من قال إن عمره ستون سنة اقتصر على العقود وترك الكسر وهو ما بين العقدين وكل عشر سنين يسمى عقدا، ومن قال خمس وستون حصل له اشتباه في مدة الإقامة بمكة والمدينة من حساب السنة مرتين، قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ» لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم ذنبا «مِمَّنِ افْتَرى» اختلق من تلقاء نفسه «عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فنسب إليه ما لم يكن من الشريك والصاحبة والولد «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على أنبيائه فكان مجرما بافترائه هذا «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ١٧» المقترفون أوزارا توجب هلاكهم في الدنيا وإهلاكهم في الآخرة وإذا كان كذلك، فاعلموا يا قوم أن من أعظم الإجرام أن آتيكم بشيء ليس من عند الله وأقول لكم هذا من عنده فكيف يسوغ لي أن أجرؤ على ذلك أو يتسنى لي الإقدام عليه كلا لا يجوز لي ذلك أبدا فأكون مفتريا على الله مزورا عليكم بهتا واختلافا، ولكنكم أنتم افتريتم على الله تعالى فنسبتم له شريكا وصاحبة وولدا وهو منزه عن كله، ونسبتم لي الافتراء والسحر والكهانة والتعليم من الغير، وأنا بريء من ذلك كله، فكنتم مجرمين مستحقين عذاب الله، قال تعالى «وَيَعْبُدُونَ» هؤلاء الكفرة المكذبون أوثانا «مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ» إن تركوا
19
عادتها «وَلا يَنْفَعُهُمْ» إن عبدوها لأنها حجارة لا تحس بالتعظيم والتبجيل والعبادة التي هي أعظم أنواع التعظيم لا تليق إلا لمن يضر وينفع بأن يقدر على الإحياء والإماتة والخير والشر والصحة والمرض والفقر والغنى «وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ» الأوثان جهلا منهم وسخافة بهم «شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» مع علمهم بأنها لا تضر من جحدها ولا تنفع من اعترف بها، ويقولون ما حكى الله عنهم في الآية ٣ من سورة الزمر الآتية (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) كما سيأتي بعد من أن هؤلاء العتاة توهموا أن عبادة الأوثان أشدّ وأكثر، في تعظيم عبادة الله وحده لزعمهم أنهم ليسوا بأهل لأن يعبدوا الله الإله الواحد رأسا، بل يعبدون هذه الحجارة والأخشاب، تقربا إلى الله تعالى، ويقولون إنها واسطة بينهم وبينه وإنها تشفع لهم عنده في الدنيا لإصلاح معاشهم، إذ جعلوها على صور رجال صالحين بزعمهم ذوي خطر عندهم ومكانة عالية، أما الآخرة فلا يحسبون لها حسابا لأنهم لا يعتقدون بالبعث بعد الموت، وقد حكى الله عنهم بقوله عز قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) الآية ٣٩ من سورة النحل الآتية، ومن يقول منهم على طريق الشك إن هناك آخرة فيعتقدون أنها تشفع لهم فيها أيضا عند الله إن كان هناك آخرة على ما يزعم محمد وأصحابه فيها بعث ونشور وحساب وعقاب وجزاء، وإن الشفاعات تنفع لأن محمدا يقول بها فإنا نتخذها لتشفع لنا أيضا وقد عبدناها في الدنيا لتكون شافعة لنا في الآخرة، أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحارث يقول إذا كان يوم القيامة شفعت اللّات والعزّى وفيه نزلت هذه الآية ونزولها فيه لا يقيدها بل تشمل كل من قال قوله بشفاعة الأوثان أو اشتراكها مع الرحمن «قُلْ» يا أكرم الرسل «أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ» وجوده «فِي السَّماواتِ» «وَلا فِي الْأَرْضِ» وتسمونه شريكا له وشفيعا عنده، وهو لا يعلم له شريكا البتة ولم يعط الشفاعة لديه أحدا من أهل السموات والأرض إلا لمن يرضاه ولم يفوض من يرضاه بالشفاعة إلا لمن يرتضيه «سُبْحانَهُ وَتَعالى» من أن يتفوّه أحد بمثل ذلك عليه، وله البراءة والتنزيه «عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨» معه من الأنداد والأضداد، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا. قال تعالى «وَما كانَ النَّاسُ»
20
في عهد آدم عليه السلام «إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً» حنفاء لله متفقين على عبادته وطاعته واستمر الأمر كذلك إلى
أن أغوى إبليس قابيل فقتل أخاه هابيل «فَاخْتَلَفُوا» بعد هذه الحادثة الأولى من نوعها لأنه أول شر وقع على وجه الأرض، فتفرقوا من أجلها، إذ أن قابيل أخذ أخته وهرب من وجه أبيه، وبقي آدم ومن معه على عبادة الله وطاعته، وكفر قابيل ومن معه، فصاروا قسمين مؤمنين وكافرين، وهذا التفسير أولى من القول بأن الناس كانوا أمة واحد متفقين على الكفر والمكر من زمن نوح عليه السلام، مستدلا بقوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية ١٣ من سورة البقرة في ج ٣، لأن هذه الآية تنطبق على قوم نوح عليه السلام إذ بعث فيهم وكلهم كافرون، ولذلك عمهم الله بالعذاب ولم يبق على وجه الأرض منهم أحدا إلا نوحا ومن آمن به، كما فصلناه في الآية ٥٨ من الأعراف في ج ١، ولهذا البحث صلة في الآية ٢٤ من سورة هود الآتية. هذا إذا كان المراد بالناس على الإطلاق فيجوز أنهم كانوا كذلك وتفرقوا ببعثته عليه السلام، إذ خالفوا أمره واختلفوا فيما بينهم على إجابة دعوته، هذا إذا كان المراد بالناس العرب خاصة، فيكون المعنى أنهم كانوا على دين الإسلام من عهد إسماعيل عليه السلام، إذ أن أباه إبراهيم عليه السلام سمى أتباعه المسلمين كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الحج في ج ٣، وبقوا مسلمين إلى أن غيرّه عمرو بن لحى، إذ سن لهم عبادة الأوثان، وهو أول من عبدها، إذ أنهم كانوا على الفطرة السليمة الصحيحة أول الخلق، ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه والمراد بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام لأنه دين الفطرة دين الحق والصدق.
والتفسير الأول أولى، لأن الاختلاف وقع بعد حادثة ابني آدم عليه السلام كما ذكرناه آنفا. وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول ﷺ إذ يخبره ربه عز وجل بأن لا مطمع لصيرورة الناس كلهم على دين واحد كما يريد لأن الله أراد ذلك كما سيأتي في الآيتين ١١٧/ ١١٨ من سورة هود الآتية، قال تعالى «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي جعله لكل أمة أجلا وقضى بسابق أزله تأخير العذاب عن
21
قومك وإمهالهم للإيمان به «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل عقوبة المكذبين وعدم إمهالهم، ولكان إنزال العذاب العاجل بهم فصلا بينهم «فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٩» ولأراهم المحق من المبطل وأهل النعيم من أهل الجحيم حالا، ولكن اقتضت حكمته ذلك التأخير ليبلغ كل منهم جهته المتجه إليها بأعماله التي يزاولها وإظهار ما خفي في نفسه إلى الناس، ليعلموا أن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، لأن من مفاد رحمته التي سبقت غضبه تأخير القضاء فيهم ليوم القضاء، قال تعالى حاكيا جنايتهم الأخرى «وَيَقُولُونَ» لبعضهم كفرة قومك يا سيد الرسل «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» محسوسة مشاهدة كآية موسى عليه السلام اليد والعصا وآية عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص لآمنا به، وبما أنه لم يأت بشيء من ذلك ولا مما اقترحناه عليه مما ذكر في آية الفرقان ٦ فما بعدها، وآية الإسراء ٩٠ فما بعدها المارتين في ج ١ فلا نؤمن به «فَقُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء العمه القلوب الذين أعمى الطيش أبصارهم وملأ الحمق قلوبهم إنما تطلبونه من الغيب و «إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» وحده اختص به نفسه وليس من خصائص البشر مثلي «فَانْتَظِرُوا» حصول ما تطلبونه من الآيات من الله الذي أعطاها للأنبياء قبلي «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ٢٠» ذلك لأن الأنبياء لم يأتوا بالآيات من أنفسهم، وهذه الآية جواب لهم وتهديد ووعيد بأنهم إذا لم يكتفوا بما أنزل الله من القرآن والآيات الأخر كانشقاق القمر والأخبار بالغيبات فإن الله تعالى ينزل بهم عذابه فلينتظروه لأن سؤالهم هذا بعد ما أراهم الله من الآيات على يد نبيه محمد ﷺ عبارة عن تعنت وعناد، ولو أنصفوا لاكتفوا بالقرآن العظيم الباقي إعجازه على ممر الدهور، لأنه الآية الكبرى والنعمة العظمى،
قال تعالى «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من خصب وسعة وصحة وجاه «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ» قحط وفقر ومرض وذلة «مَسَّتْهُمْ» حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، أسند جل شأنه ضمير إذاقة الرحمة إليه وضمير الضراء إليهم ليتعلمّ الناس الأدب بتعاليم الله تعالى المبينة في هذا القرآن، فيسندوا كل ما يدل على الخير إليه تعالى وما يدل على الشر إليهم أنفسهم، وليتأدبوا أيضا بعضهم مع بعضهم بمقتضى تفضيل الله
22
بعضهم على بعض فيعرفوا قدر ذوي المكانة منهم فيخاطبوهم بما يليق بهم، فهو أحرى بقضاء حوائجهم عندهم واحترامهم لديهم «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ» كيد (والمكر صرف الشيء عن وجهه الظاهر لنوع من الحيلة) خفي منطوفي قلوبهم المريبة «فِي آياتِنا» إذ كذبوا بها واستهزأوا بمن أنزلت عليه من الأنبياء الأقدمين كفعل قريش بمحمد رسولهم.
مطلب الأنواء والحكم الشرعي فيها والإبرة المحدثة:
أخرج في الصحيحين عن زيد ابن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء (أي مطر وسمي سماء لأنه يقطر منها) كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس، فقال هل تدرون ماذا قال ربكم، قالوا الله ورسوله أعلم، قال قال أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. والنوء جمع أنواء وهي منازل القمر عند العرب فإذا طلع نجم سقط نظيره فيستدلون من ذلك على وجود مطر أو ريح كالمنجمين، فمنهم من ينسب ما يحدث من المطر والريح إلى تأثير الطالع، ومنهم ينسبه إلى تأثير الغارب، ومعلوم أن العلماء استحدثوا الإبرة التي تتأثر من وجود الريح والمطر وغيره في الجو قبل وصوله إلى المحل الذي فيه الإبرة، فيخبرون بما يرون من تأثيرها من تموجات الجو، وقد أشار إلى هذا القرآن الكريم بقوله جل قوله: (هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الآية ٥٧ من الأعراف المارة فراجعها تعلم حقيقة قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من الأنعام الآتية، روي أن الله تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة، حتي كادوا يهلكون، ثم رحمهم الله تعالى بالحيا أي المطر، قال الأبوصيري:
إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم. فلما رحمهم وخصبت أراضيهم وكثر عليهم الخير، طفقوا يطعنون بآيات الله ويعادون رسوله ويكذبونه ويقولون لم نمطر بدعائه ولا ببركته، وإنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية.
لحكم الشرعي: هو أن من يعتقد أن للنجوم والأنواء تأثيرا فعليا بإنزال المطر
23
وغيره من دون الله فهو كافر، وما جاء بالحديث الشريف المذكور أعلاء يصرف لهذه الفئة، أما من يعتقد أن التأثير عندها لا بها وينسب الفعل إلى الله تعالى فلا يكفر، وكذلك من يعتقد أن التأثير بها على معنى أن الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة فمتى شاء أثرت ومتى شاء لم تؤثر، وكذلك من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها لا يكفر، والأولى عدم اعتقاده بذلك أيضا، وأما من يستدل بذلك على حدوث المطر والريح وأنه قد يحصل بإذن الله تعالى وقد لا يحصل فلا شيء عليه لأنه لم يجزم بالحصول كما أن الإبرة، إنما تدل عند ترطب الجو على حصول المطر أو حصول أرباح وزوابع لتأثرها بذلك كما ذكرنا آنفا، وأنه قد يقع ما تدل عليه خلال أربع وعشرين ساعة، وقد لا يحصل ما تدل عليه لطوارئ طرأت على تبدل حالة الجو التي كانت عليه أولا، وهذه لا تعارض قوله تعالى في الآية الأخيرة من سورة لقمان الآتية الدالة على أن نزول الغيث خاص بعلمه تعالى، لأنه في الحقيقة لا يعلم وقت نزوله إلا الله، كما أن الغيب لا يعلمه غيره، لأن الإبرة المذكورة لا تدل على أنه ينزل ساعة كذا أو دقيقة كذا، لأنها إذا بقي الجو على حالته قد تصدق خلال أربع وعشرين ساعة وإلا فلا، لأنه من علم الغيب وذلك من التوسم الداخل في قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) الآية ٧٥ من سورة الحجر الآتية، قال تعالى «قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً» منكم وأعجل عقوبة وأشد أخذا، ثم هددهم بقوله «إِنَّ رُسُلَنا» الملائكة الموكلين بحفظكم في الأرض من طوارق الجن والشياطين «يَكْتُبُونَ» في صحفهم «ما تَمْكُرُونَ ٢١» في هذه الدنيا وتعرض عليكم صحفهم في الآخرة لتجازون بمقتضاها، وهناك يتضح ما كنتم تخفونه من المكر وغيره قابل الله تعالى مكرهم بأشد منه، إذ خبأ لهم جزاء كيدهم إلى يوم القيامة وأمهلهم في هذه الدنيا ليزدادوا إنما. واعلم أن عرض صحف الملائكة على الناس كأفلام السينما الآتي بيانها في الآية ٢٩ من آل عمران في ج ٣ والآية ٤٩ من سورة الكهف الآتية، قال تعالى «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ» يا أهل مكة كغيركم «فِي الْبَرِّ» على دوابه وانعامه «وَالْبَحْرِ» على فلكه وسفنه ويهديكم إلى مقاصدكم بالعلامات الأرضية من الأودية والجبال والأنهار والعلامات السماوية من
24
النجوم السيارة والثابتة ويسهل لكم أسباب معايشكم «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ» أي الفلك بأداة الجمع، لأن فلكا يطلق على الواحد والمتعدد وصرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريق الالتفات أحد أبواب البديع قصدا للمبالغة، كأنه يذكرها لهم بغيرهم ليعجّبهم منها ويطلب زيادة الإنكار، لأن الالتفات على الوجه المار ذكره أو بعكسه من أنواع الفصاحة في الكلام «بِهِمْ» بركاب تلك السفن «بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» لينة الهبوب لا خفيفة ولا عاصفة، وما قيل إنها ساكنة فيكون المراد بها هذا المعنى لا إنها واقفة، إذ لا يستفاد منها بالسير «وَفَرِحُوا بِها» ركابها لموافقتها لمقصودهم ولوجود النفع التام بها والمسرة العظيمة لاستقامة سيرهم وتيسيره «جاءَتْها» جاءت تلك السفينة السائرة بذلك الهواء اللين أو جاءت تلك الريح الطيبة «رِيحٌ عاصِفٌ» شديد سريع الجريان قاطع للأجسام الصلبة ولم يقل عاصفة لأن عاصفا يستوي فيه المذكر والمؤنث «وَجاءَهُمُ» أي ركاب ذلك الفلك بسبب تلك الريح «الْمَوْجُ» هو ما علا وارتفع من اضطراب المياه وغواربها من شدة حركة ماء البحر واختلاطه بعضه ببعض «مِنْ كُلِّ مَكانٍ» من أطرافهم الأربع ومن تحتهم وفوقهم «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» من الجهات الست، وأشرفوا على الغرق وتيقنوا الهلاك، «دَعَوُا اللَّهَ» وحده لا غير «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» إخلاصا حقيقيا لعلمهم يقينا أنه لا ينجيهم من الشدائد والبلايا إلا هو وأن أوثانهم لا تغني عنهم شيئا من ذلك قائلين «لَئِنْ أَنْجَيْتَنا» يا ربنا «مِنْ هذِهِ» الشدة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ٢٢» أنعامك علينا بخلاصنا موقنين بأنك الإله الواحد، مؤمنين بصدق أنبيائك، متمسكين بطاعتك، ولم يقولوا لنشكرنّك مبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه، لأن اسم الفاعل يدل على الدوام والتجدد، والفعل يدل على الإنشاء فقط، قال تعالى «فَلَمَّا أَنْجاهُمْ» الذي استغاثوا به جل جلاله من ذلك الضيق الذي أحاط بهم بسبب التجائهم إليه «إِذا هُمْ يَبْغُونَ» يفسدون «فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» يعبثون
بمن يمشي عليها ويتجاوزون عليهم ويعملون بغير ما أمروا وأخلفوا ما وعدوا الله به من الشكر والإيمان، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ» الباغون المتجاوزون
25
على الغير «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» يعود إثمه ووباله، قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) الآية ٤٥ من سورة الجاثية ونظيرتيها الآية ٥٦ من سورة الشورى الآتيتين، واعلموا أنكم تتمتعون يبغيكم هذا «مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» مدة حياتكم فيها وهي قليلة «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة الدائمة «فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٣» بأن نخبركم في الآخرة عن أعمالكم في الدنيا ونجازيكم عليها الخير بأخير منه وانشر بمثله.
مطلب البغي ومتى يكون مذموما ومتى يكون ممدوحا وحكمه:
ولما كان البغي قد يكون بحق مثل هدم دور الكفرة والمعاندين وقطع أشجارهم وحرق زروعهم عند ما يستولي المسلمون عليها عنوة، كما فعل رسول الله ﷺ في يهود بني قريظة الآتية قصتهم في الآية ٢٦ من سورة الأحزاب، والآية ٥ من سورة الحشر، ويكون بغير حق كأخذ مال الغير ظلما ومجاوزة حدود الله تعالى عتوا، قيّد تبارك وتعالى البغي في هذه الآية بغير الحق لأنه مذموم، وقد يكون البغي ممدوحا وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع، والقصاص إلى العفو، والحق إلى السماح، لأن معناه اللغوي مجاوزة الحد مطلقا، وقد تكون هذه المجاوزة في الخير كما ذكرنا فيكون ممدوحا، وقد يكون في الباطل فيكون مذموما، وهو بمعناه هذا من أعظم منكرات الذنوب، لأن معناه الاصطلاحي الإفساد والتجاوز على أموال الناس وأنفسهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما، وقد نظم بعضهم معنى هذه الجملة في بيتين من الشعر وكان الخليفة المأمون العباسي رحمه الله يتمثل بهما وهما:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعه فارجع فخير مقال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل لا ندك منه أعاليه وأسفله
وقال أيضا:
لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا جنوده ضاق عنها السهل والجبل
ونظمها أيضا الشهاب فقال:
26
إن يعد ذو بغي عليك فخله وارقب زمانا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى جبل على جبل لدك الباغي
وأقبح أنواع البغي في الحكام قال بهرام وهو لا يعرف الإسلام: أسد حطوم خير من ملك غشوم، وملك غشوم خير من فتنة تدوم، فكيف بمن هو مسلم مؤمن؟ وإن العقلاء حذّروا من غلطة السلطان العادل فكيف بغيره؟ قال الإسكندر:
على العاقل أن يكون مع السلطان كراكب سفينة، إن سلم جسمه من الفرق لم يسلم قلبه من الخوف. أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث هنّ على أهلها المكر والنكث والبغي، ثم تلا عليه الصلاة والسلام هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إلخ، وتلا (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية ٤٣ من سورة فاطر المارة في ج ١، وتلا (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية ١٠ من سورة الفتح في ج ٣. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وأخرج أيضا من طريق بلال بن بردة عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: لا يبغي على الناس إلّا ولد بغي أو فيه عرق منه.
هذا، وقرىء متاع بالرفع على أنه كلام مبتدأ أي بغي بعضكم على بعض باطلا هو متاع الحياة الدنيا، ولا يصلح لزاد الآخرة. وقراءة الفتح التي جرينا عليها تبعا لما في المصاحف أولى، لأن الكلام متصل بما قبله، ولأن المعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيا إلا أياما قليلة، فأقلعوا عنه خير لكم، قال تعالى «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا» في زوالها وفنائها وقصر مدة التمتع فيها، والمثل ما شبه مضربه بمورده أي يؤتى بما وقع على ما لم يقع ويستعار للأمر العجيب المستغرب أي إنما حالها في سرعة تقضّيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها «كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ» بذلك الماء «نَباتُ الْأَرْضِ» اشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا لأن الماء كالغذاء للنبات فيجري فيه مجرى الدم من ابن آم «مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ» كالبقول والزروع والحشيش والمراعي «حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها» حسنها ونضارتها وبهجتها باختلاف
27
أنواع النبات وألوان أزهاره من أحمر وأصفر وأزرق وأبيض وأسود وبين ذلك «وَازَّيَّنَتْ» بنباتها وارواءها فصارت كالعروس إذا نزخرفت بالثياب والحلي واللباس المقول فيه:
كأذيال خود أقبلت في غلائل مصبّغة والبعض أقصر من بعض
وزد على ذلك التطرية والتجميل لما يظهر من جسمها «وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها» أي تحقق لأهل الدنيا تمكنهم من إبداع الشؤون الغريبة والأحوال العجيبة بما شاءوا فيها من بناء رفيع وملك خطير وأموال وأولاد وخدم وحشم ورياش وقدروا باقدار الله إياهم على أشياء لم تكن قبل وانقادت لهم معادنها، وفاضت لهم خزائنها وأطلعهم الله على ما كان كامنا فيها ومخبوءا بين طبقاتها من المنافع، فغاصوا تحت البحار، وطاروا في الهواء، وساروا في الأسراب، وعملوا المدمرات والصواريخ، وكلم أهل الغرب أهل الشرق والجنوب الشمال، ورأى بعضهم بعضا بالمرائي المبدعة على البعد ومع الحواجز، وفعلوا ما أرادوا وتصوّروا وتخيّلوا وظنوا أنهم قادرون على كل ما يريدون، ونفخ فيهم إبليس ولبسهم العجب فتعاظموا وتكابروا وبغى بعضهم على بعض، ووليهم أرذلهم، والتهم القوي الضعيف، واستخدم الخرق الشريف، وأعرضوا عن الله، وطغوا في البلاد، وتحكموا في العباد، ولم يبق فيهم من ينهى عن منكر أو يأمر بمعروف، واستحقوا معاجلة عذاب الله كما إذا استحصد الزرع «أَتاها أَمْرُنا» بالإهلاك فأوقعناه فيهم فجأة في زمن لم يتوقعوه في جزء من الليل أو جزء من النهار، وهذا الجزء قد يكون «لَيْلًا» عند أناس «أَوْ نَهاراً» عند آخرين بسبب حيلولة كرة الأرض من الشمس «فَجَعَلْناها» أي الحياة الدنيا بالنسبة لأهلها ومن عليها أي الأرض الجسمية العظيمة بأعين أهلها، وما أقيم عليها من جبال وحصون وقصور وأودية وأنهار وأشجار «حَصِيداً» كالنبات إذا حصده أهله فلم يبقوا منه شيئا ولم يتركوا له أثرا لأنهم يستأصلونه لحاجة التين لدوابهم، ولكن مهما كان استئصالهم له فلا يكون مثل ما إذا كان بحادث سماوي، إذ تكون تلك الأرض وما كان عليها مما ذكر «كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» أي كأن لم تكن تلك الأرض وكأن لم يكن فيها
28
أحد مقيما قبل، لأن غني بمعنى أقام بالمكان، وهو هنا منفي أي كأن لم يلبث فيها أحد ولم يكن فيها شيء، كما أن الأرض بعد حصاد زرعها إذا رأيتها تقول كأنها لم تزرع، والأمس مثل في الوقت القريب، كأنه قيل لم تغن آنفا.
ويطلق على اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وله أوجه في الإعراب والبناء، راجع فيه شذور الذهب في علم النحو، وفيه أن المكسور قد يراد به مطلق اليوم، أي لا يختص باليوم الذي قبل يومك. ضرب الله تعالى هذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وتكبر على أهلها وأعرض عن الآخرة وازدرى الداعي إليها بنبات برز في الأرض ضعيفا فقوي بالماء وحسن واكتسى كمال رونقه، ففاجأته صاعقة أو برد أو ريح عاصف فجعلته حصيدا كأن لم يكن زرع أصلا، ونظير هذه الآية الآية ٤٥ من سورة الكهف الآتية وقد شاهدنا مرارا عند ما يقع البرد على الزرع يترك محله أرضا يابسة كأنها لم تزرع، وكذلك الطاغي الباغي مهما بلغ من زهو الدنيا وعظمتها، فإن أجله يفاجئه على حين غفلة فتقصفه قصفا على غرة، ويكون كأن لم يكن وجد في الدنيا «كَذلِكَ» كما فصلنا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفناكم مصيرها «نُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالة على قدرتنا المنبهة على أحوال الدنيا وعواقبها «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢٤» فيها ويعتبرون بما فيها فيقفون على حقائقها ويفقهون معانيها، وخص المفكرين لأن غيرهم لا ينتفع بها ولا يتوصل إلى إزالة الشك والشبعة التي تحوك في القلب لما رسب فيها من الرين والصدأ المتكاثف الذي حجبها عن التفكر في ملكوت الله، قال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الآية ١٥ من سورة المطففين الآتية وأمثال هؤلاء هم الذين حكى الله عنهم بقوله (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) الآية ٦ من سورة فصلت الآتية قال تعالى «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ» من كل مكروه دار الأمان من كل مخوف التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهي الجنة التي يسلم الله تعالى وملائكته فيها على أهلها، وهذه الدار هي الموصوفة بقوله عزّ قوله (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) الآية ٢٧ من الواقعة المارة في ج ١، وهذه هي التي يدعوكم إليها ربكم أيها الناس لا إلى
29
زهرة الدنيا الذابلة المحشوة بالمكاره المملوءة بالمخاوف التي هي على شفا جرف هار «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ٢٥» موصل إلى دار النعيم وهذه الدعوة عامة من الله تعالى إلى خلقه كافة على لسان رسوله بالدلالة، إذ حذف مفعولها والهداية خاصة لمن يشاء منهم لإثبات مفعولها، وهي مساوية للإرادة.
جاء عن جابر قال: جاءت ملائكة إلى النبي ﷺ وهو نائم، فقال بعضهم إنه نائم، وقال بعضهم العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا إن لصاحبكم مثلا فاضربوا له مثلا.
وفي رواية خرج علينا رسول الله ﷺ فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما للآخر نضرب له مثلا، فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المائدة. فقالوا أولوها ليفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان، فقال بعضهم الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس. قال تعالى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل وعبدوا الله حق عبادته لأن حضرة الرسول فسّر الإحسان الوارد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب بما نصه: قال أي الرجل الموصوف أول الحديث وهو جبريل عليه السلام، أخبرنى عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك. فهؤلاء الذين هذه صفتهم لهم «الْحُسْنى» الجنة سميت حسنى إذ لا أحسن منها البتة وعرفت فانصرفت إلى المعهود السابق في قوله تعالى (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) «وَزِيادَةٌ» على الحسنى هي رؤية الله تعالى التي لا توازيها رؤية، وهي عند أهل الجنة أحسن من كل شيء.
مطلب معنى الزيادة ورؤية الله تعالى:
ولا زائد على نعيم الجنة إلّا رؤية الله تعالى المنعم بها، يدل على هذا ما رواه صهيب أن رسول الله ﷺ قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى أتريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر
30
إلى ربهم تبارك وتعالى، ثم تلا هذه الآية- أخرجه مسلم- وقال به عكرمة والحسن والضحاك ومقاتل والسدي أخذا من قول أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، قال في بدء الأمالي:
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
ومما يؤكد هذا قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية ٢٣ من سورة القيامة المارة في ج ١، إذ ثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما النضارة وهي حسن الوجه من نعيم أهل الجنة، والثاني النظر إلى وجه الله تعالى كما هنا، قال الحسن إن الحسنى هي الجنة والزيادة هي العلاوة، وما هي هذه العلاوة المنكرة تعظيما لشأنها هي رؤية الله تعالى، فأثبت لهم في هذه الآية أمرين أيضا، الأولى الجنة والثانية الرؤية، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وقد تقدم بحث الرؤية بصورة مفصلة في تفسير الآية ١٨ من سورة والنجم، والآية ٢٣ من سورة القيامة، والآية ١٤٣ من الأعراف، والآية الأولى من سورة الإسراء المارات في ج ١، فراجعها ففيها ما ترومه من هذا البحث وزيادة قال تعالى «وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ» لا يغشاها غبرة يشوبها سواد «وَلا ذِلَّةٌ» من أثر هوان مما يرهق وجوه أهل النار من الكآبة والكسوف والاكفهرار بسبب ما يعرض لهم من الحزن وسوء الحال والعياذ بالله «أُولئِكَ» بيض الوجوه الكرام الأعزاء «أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ٢٦» لا يخرجون منها أبدا «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ» العظام كالشرك والكفر بدليل التعريف فيكون لهم «جَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملوها في الدنيا «بِمِثْلِها» في الآخرة وهذا عدل منه تعالى، إذ لا يقضي بعقابين على سيئة واحدة بل عذاب واحد، وفيه تنبيه على أن الحسنة يضاعف ثوابها فيعطى بدل الواحدة عشرة إلى سبعمئة إلى ما يشاء، وهذا فضل منه على عباده «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» زيادة على ما يغشى وجوههم من الفتر والاكفهرار، وقلوبهم من الخوف والهوان مما هيء لهم من العذاب وما ظهر لهم من الخيبة لدى أوثانهم التي كانوا يرجون شفاعتها وتبين لهم أنهم «ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يمنعهم من عذابه أو يحول دون وصوله إليهم إذا نزل بهم، كما يكون للمؤمنين شفعاء عند الله يشفعون
31
لهم بإذنه وتصير صفة هؤلاء «كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ» من أثر الذل والهوان والفتر «قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» لشدة ما يغشاهم من السواد والعياذ بالله «أُولئِكَ» الموصوفون بالإهانة المشوه وجوههم بالسواد المشبه بطائفة من الليل أو ظلمة آخره «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ٢٧» لا يخرجون منها أبدا، ولا دليل في هذه الآية على خلود أهل الكبائر بداعي أنها هي السيئات المرادة في هذه الآية، لأن لفظ السيئات شامل للكفر والمعاصي، وقد قامت الأدلة على عدم خلود العصاة المؤمنين، فخصصت الآية بمن عداهم، وقسمنا في الآية ٥٩ من سورة مريم المارة في ج ١ ما يتعلق بهذا البحث فراجعه.
مطلب الأوثان وما يقع بين العابدين والمعبودين:
قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» مؤمنهم وكافرهم إذ نجمعهم من كل ناحية إلى موضع واحد وهو موقف الحساب، فتدخل المؤمنين الجنة بدليل قوله تعالى «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا» بعد أن نعزلهم عن المؤمنين في المحشر بقوله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» الآية ٧٠ من سورة يس المارة في ج ١ ما معناه الزموا «مَكانَكُمْ» لا تبرحوه «أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ» الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا لتسألوا عن عبادتهم بحضورهم «فَزَيَّلْنا» فرقنا بينهم بعد ما أمرناهم بالثبات في مواضعهم وباعدنا «بَيْنَهُمْ» بين العابدين والمعبودين وقطعنا ما بينهم من التواصل بتمييز بعضهم عن بعض، وسألنا المعبودين على حدة، فأنكروا تصدرهم للعبادة، ثم جمعناهم وسألناهم، فأجابوا بمواجهة العابدين ما ذكره الله بقوله عز قوله «وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ٢٨» وهذا جواب تبر عن عبادتهم وردّ لقول العابدين إنا كنا نعبدكم، ولا يقال كيف نطقت، لأن منها ما هو جماد وهي إما أن تكون منحوتة من حجر أو خشب أو معمولة من طين أو غيره، فلا يتسنى لها النطق ولا يتيسر، لأن الله تعالى الذي حشرها لهذه الغاية أهّلها في ذلك اليوم للنطق بذلك، وكذلك الحيوانات والكواكب، قال مجاهد تنتصب لهم الآلهة فتقول لهم والله ما كنا نسمع دعاءكم، ولا نبصر عبادتكم،
32
ولا نعقل ما تقولون، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا، فيقول الكفار والله إياكم كنا نعبد، فتقول الأوثان «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إن» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان «كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» ٢٩ أي أن شهادة الله كافية على أننا لم نعلم بعبادتكم فضلا عن أننا جماد لا نشعر بشيء، وهذا ظاهر في الأوثان لأنها غافلة لا تعلم شيئا من ذلك، أما غيرها من العاقلة المتنبّهة العالمة كالملائكة وعزير والمسيح فتؤول كلمة غافلين بحقهم على عدم الرضاء بعبادتهم، كما تؤول على عدم الشعور بحق الأصنام، فيقول هؤلاء إنا لم نلق لعبادتهم بالا، ولم نرض بها، وكنا غافلين عنها، وتقول الأصنام إنا لم نشعر بعبادتهم ولا نعلم بها.
هذا إذا كانت الملائكة وعزير والمسيح عالمين بعبادة العابدين لهم يكون جوابهم على نحو ما ذكر آنفا، أما إذا لم يكونوا عالمين بها وهو أولى لأن الله تعالى لما سأل الملائكة عن الأسماء قالوا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) الآية ٣٢ من سورة البقرة، وكان ﷺ يسأل جبريل عن أشياء أحيانا فيقول له لا أعلم، ولقول عيسى عليه السلام جوابا لربه أيضا (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية ١١٥ من المائدة في ج ٣، مما يدلّ على عدم شعورهم لعبادة عابديهم، وعلى هذا يكون معنى غافلين بحقهم أيضا مثل معناه في حق الأصنام لتساويهم في عدم العلم. ولا يخفى أن الملائكة الذين عبدوا غير الحفظة الملازمين لبني آدم. وهنا سؤال وهو هل يفني الله الأوثان بعد حشرها وسؤالهم أم لا؟ والجواب والله أعلم عدم إفنائها أي عدم صيرورتها ترابا كالحيوانات، وإنما تحشر وتسأل عن عبادتها فتنكر وتتبرأ مما أسند إليها كما هو صريح الآيات، إذ بضع الله فيها قوة النطق والدفاع، ثم إنها تدخل النار مع عابديها وتحترق معهم بدليل قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الآية ٩٨ من سورة الأنبياء الآتية ولا اعتراض على أفعاله تعالى من أنها لم تعقل الاحتراق ولم تحس به لأن الذي جعل فيها قوة النطق يجعل فيها قوة الإحساس لا يسأل عما يفعل، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أما الحيوانات فقد دلّ النص على فنائها كما سيأتي آخر سورة عمّ الآتية، ولهذا البحث صلة في الآية ٢٢ من سورة الأنعام الآتية «هُنالِكَ» في ذلك الموقف العظيم والهول العميم
33
«تَبْلُوا» تختبر وقرىء تتلو بتاءين أي تقرأ أو تتبع «كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ» من خير أو شر لأن العمل هو الذي يهدي النفس إلى الثواب أو العقاب «وَرُدُّوا» مع ما يظهر لهم من العمل «إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» مالكهم ومدبّر أمورهم ومحاسبهم عليه بالعدل المنفرد في ربوبيته، لا ما كانوا يتولونهم في الدنيا مما لا حقيقة له بالربوبية، لأن كلمة مولى تأتي بمعنى المالك وتأتي بمعنى الناصر كما في قوله تعالى:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) الآية ١١ من سورة محمد في ج ٣، كما أنها تأتي بمعنى السيد وبمعنى العبد قال:
ولن يتساوى سادة وعبيدهم على أن أسماء الجميع موالي
ومثل هذه الكلمات تؤول في كل محل بما يتاسبها بحسب المقام «وَضَلَّ عَنْهُمْ» خفي وضاع وغاب «ما كانُوا يَفْتَرُونَ ٣٠» في الدنيا من الأصنام والأوثان بأنها شركاء لله أو أنهم يشفعون لهم، أما من عبد وهو يعلم وقد أمر الناس بعبادته كنمرود وفرعون فهؤلاء لا يشفعون ولا يؤذن لهم فيعتذرون بل يساقون على وجوههم سحبّا إلى جهنم والله أعلم. فيا أكرم الخلق.
«قُلْ» هؤلاء المشركين «مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» غيثا ونباتا أأوثانكم أم الله «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ» فلا يقدر أن يسمع أحدكم صاحبه إلا بإذن الله «وَالْأَبْصارَ» فلا يستطيع أن يبصر أحدكم صاحبه بها إلا بأمر الله لأنه هو الملك الحقيقي المالك لجوارح الإنسان والحيوان وهو الذي يحميها من الآفات والطوارئ إن شاء الله مدة الحياة مع ما هي عليه من اللطافة، إذ يؤذيها كل شيء، ومن يقدر على خلقها وتسويتها على هذه الصورة العجيبة والهيئة البديعة إلا الله، وإن من يقف على علم التشريح يرى ما يبهر العقل كما بيناه في الآية ٢٨ من سورة فاطر المارة في ج ١ ويحيّر اللبيب، فسبحان الإله الفعال النادر. وليعلم أن علم التشريح يزيد في الإيمان ويقوي العقيدة لمن يريد الله هدايته «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» المؤمن من الكافر، والفرخ من البيضة، والزرع من الحبة في الأرض والإنسان والحيوان من النطفة في الرحم «وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» الكافر من المؤمن، والبيضة من الطير، والحب من الزرع، والنطفة من الإنسان والحيوان «وَمَنْ يُدَبِّرُ
34
الْأَمْرَ»
في هذا الكون الجسيم علويه وسفليه آلله أم أوثانكم؟ «فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» أي أنهم يجيبونك اضطرارا بأن الفاعل لذلك كله هو الله «فَقُلْ» لهم إذا «أَفَلا تَتَّقُونَ ٣١» هذا الرب الكبير الفعال لهذه الأشياء وغيرها وكيف تعبدون غيره مما لا يعقل شيئا وهو عاجز عن نفع نفسه ودفع الضرّ عنها. وليعلم أنه لا يوجد نص صريح على أن الله تعالى هو في السماء أو الأرض، وأما ما جاء من أنه جل جلاله في السماء على المعنى اللائق به تعظيما لشأنه لا على ما نتصوره نحن، وأن قوله ﷺ في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قل لها أين الله؟ أعتقها فإنها مؤمنة، وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام كم تعبد يا حصين؟ فقال سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض، فقال ﷺ فمن الذي أعددته لزغبتك ورهبتك؟
فقال الإله الذي في السماء. على ما يقتضيه الظاهر. ومن جملة تنزيهه تعالى نسبته للعلو، ولذلك يرفع الإنسان يديه نحو السماء في الدعاء أي إلى الخزانة المشار إليها في قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية ٢٢ من سورة الذاريات الآتية فراجعها، لا لكونه جل جلاله فيها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ١٣ من سورة طه المارة في ج ١، ولهذا البحث صلة في الآية ١٨ من سورة الأنعام الآتية، قال تعالى «فَذلِكُمُ» الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو «اللَّهُ رَبُّكُمُ» أيها الناس الإله «الْحَقُّ» الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة وحده «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ» الصريح الثابت أيها الناس «إِلَّا الضَّلالُ» الباطل، إذ لا واسطة بين الحق والباطل، وكذلك لا واسطة بين الإيمان والكفر ولا الجنة والنار، فالذي يتصف به العبد إما حقّا أو باطلا ومن أخطأ أحدهما وقع في الآخر لا محالة، لأن من وقاه الله من النار أدخله الجنة، ومن خصه بالإيمان عصمه من الكفر، وهكذا «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٣٢» عن الحق إلى الضلال ومن التوحيد إلى الشرك؟ سئل مالك رحمه الله عن شهادة لاعب الشطرنج والنرد، فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة، يقول الله تعالى (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فهذا كله في الضلال.
والصارف في الحقيقة هو الله تعالى، والإنكار والتعجب متوجهان إلى منشأ الصرف،
35
وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم تعلق غرض به، وتقدم في الآية ١٢ المارة ما له صلة في هذا البحث فراجعه «كَذلِكَ» كما حقت الكلمة على الباغين من الأمم السابقة المتجاوزين حدود الله «حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» أي حكمه لقوله تعالى (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الآية ١٣ من سورة السجدة الآتية، ونظيرتها الآية ١١٩ من سورة هود الآتية أيضا، أي وقعت «عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا» من أمتك يا محمد الذين تمردوا بالكفر وخرجوا عن حدود الله «أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ٣٣» أي حقت عليهم الكلمة لعدم إيمانهم، وهو قضاء أزلي ولا راد لقضائه المسجل عليهم في سابق علمه، المثبت في لوحه، قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لقومك وغيرهم «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» ينشئه على غير مثال سابق كما أنشأ الله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» بعد موته كما أنشأه أول مرة، وهذا استفهام إنكاري وجوابه لا أحد يفعل ذلك، وهو احتجاج آخر على بطلان الإشراك وحقيقة التوحيد، ولا يقال إن مثل الاحتجاج إنما يأتي على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفى الإلهية، وهم غير مقرين بذلك، لأن في الآية إشارة إلى أن الاعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في ظهوره وجلائه، حدا بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى، ولظهور برهانها صارت أمرا مسلما بالبداهة وجعل ذلك الطيبي من ضعه الإدماج كقول ابن نباته:
فلا بدلي من جهلة في وصاله فمن لي بخل أودع الحلم عنده
فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما، قال تعالى «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المنكرين إذا لم يجيبوك بالاعتراف «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» هو وحده لا غير، لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٣٤» كيف تصرفون عن قصد السبيل وتقلبون من الحق إلى الباطل لأن معنى الإفك الصرف والقلب، ومنه قول عروة بن أذينة:
36
وخصّه صاحب القاموس بالقلب عن الرأي وهو أنسب في هذا المقام وهذا أمر من الله تعالى إلى حبيبه ﷺ بأن ينوب عنهم ببيان من يفعل ذلك لا بأن ينوب عنهم في الجواب كما قاله بعض المفسرين بل أكثرهم، لأن القول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له، إذ ليس المؤول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه وتعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) الآية ٧٨ من سورة الرعد الآتية في ج ٣، حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون ﷺ نائبا عنهم في ذلك، بل إنما هو وجود من يفعل المبدأ والإعادة من شركائهم، فالجواب المطلوب منهم لا لا غير، نعم أمر ﷺ بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعيّنه وتحتمّه وإشعارا بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافة التبكيت، لا مكابرة ولجاجا، قال تعالى «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» فإذا قالوا لك لا وحتما ان يقولوا لا، لأن شركاءهم لا تنطق لكونها جماد «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» ويرشد له، فإذا كان كذلك قل لهم «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ» ويعبد لأنه هو الذي يعطي العقل، ويبعث الرسل، وينزل الكتب، ويوفق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات الدالات على الهدى الكائنة في الأرض والسماء «أَمَّنْ لا يَهِدِّي» يهتدي الشرع الذي يريده «إِلَّا أَنْ يُهْدى» إليه من قبل الغير كالأصنام وهدايتها عبارة عن نقلها من مكان لآخر بواسطة عابديها، هذا إذا أريد بهذه الآية الأوثان، أما إذا أريد العابدون رؤساء الكفرة فيكون المعنى أنهم أنفسهم ضالون فكيف يقدرون على إرشاد غيرهم لأنّهم محتاجون للإرشاد فلا يقدرون عليه إلا بتقدير الله إياهم وما هو بفاعل ذلك لهم، فيكون التمسك بهدايته تعالى أولى وأوجب «فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٣٥» بأنها آلهة فتساوونها مع الإله الذي بيده الإحياء والإماتة، وأي شيء حدا بكم إلى اتخاذ هذه الفجرة آلهة فتعبدونها وتتقربون بها زلفى إلى الله، وأي شيء ظهر لكم من منافعها حتى أشركتموها مع الإله القادر الحق القهار الفعال، وكيف تحكمون بما يأباه صريح العقل ويقر بطلانه؟ وهذا احتجاج ثالث على بطلان الشرك
37
وأحقية التوحيد جيء به إلزاما بعد إلزام لهؤلاء الكفرة، وجاء كل من الاحتجاجات الثلاثة منفصلا عن الآخر دون العطف عليه إيذانا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب، والسؤال في كل للتبكيت والتقريع في أقوالهم التي هي ليست بأقوى لهم، وفي أفعالهم التي هي أفعى لهم، قال تعالى «وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ» فيما بزعم من ألوهية الأصنام وشفاعتها «إِلَّا ظَنًّا» منهم بأنها أنداد لله وقضاء بالجور بشركتها له فيما يقولون ويحكمون ويتبعون من الوهم والشبه للتي لا تجدي نفعا، إذ غاية ذلك هي الظن «وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» إذ لا يقوم مقام اليقين فكيف بالظن الفاسد، لأن المراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، لأن اعتقادهم ذلك عبارة عما يستندون فيه إلى الخيالات الفارغة والّا فية الباطلة من ظنونهم الواهية كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة، ولا يلفتون إلى الحقائق ولا يسلكون مالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحقيقة، فيفهمون مضمونها ويقفون على صحتها وبطلان ما يخالفها.
هذا وفي تخصيص الأتباع بالأكثر إشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على ماهية التوحيد، ويعرف أحقيته ولكن لا يتبعه مكابرة وعنادا، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره ﷺ بأن ينوب عنهم بالجواب هو أن الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك، لأن منهم من يعلم أحقية ذلك إلا أنه كان معاندا ولعل النيابة حينئذ عن الجمع باعتبار هذا البعض، على أن الأكثر قد يطلق على الكل كما قدمناه، كما أن القليل يأتي بمعنى العدم في قوله تعالى (فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ) الآية ٨٨ من البقرة، وعليه قول القائل:
إن تك عمن أحسن الصنيعة مأ فوكأ ففي آخرين قد أفكوا
قليل التشكي في المصيبات حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وحمل النقيض على النقيض حسن وطريق مسلوك «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ٣٦» من اتباع الظن والأفعال القبيحة وترك الحق والأعمال الحسنة وهذه الجملة تؤذن بالتهديد والوعيد، قال تعالى «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ» المنزل عليك يا حبيبي «أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال العلامة ابن حجر إن هذه الآية جواب عن قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) الآية ١٥ المارة، وهو طلب للافتراء في
38
المستقبل، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية ذلك زعمهم وقيل إن كفار مكة زعموا أن محمدا أتى بهذا القرآن من نفسه اختلاقا، فأخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه وحي أنزله الله إليه مبرأ عن الافتراء وأن محمدا والبشر كافة عاجزون عن الإتيان بمثله أو مثل شيء منه، وأن ما هو عليه من الفصاحة التي أعجزت الفصحاء وكلّت البلغاء عن معارضته وعن الإتيان ببعض نفائس ما فيه من العلوم وأخبار الماضين والأحكام والآداب ومكارم الأخلاق محقق بطلان ما يقولونه فيه ومبطل زعمهم به، فلا هو مفترى ولا مختلق ولا سحر ولا كهانة ولا من أساطير الأولين، ولا تعلمه من الغير ولا أعانه عليه أحد كما يقولون راجع الآية ٤ فما بعدها من سورة الفرقان في ج ١، «وَلكِنْ تَصْدِيقَ» أي أنزله الله تعالى مصدقا «الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور وما تقدمها من الصحف السماوية المنزلة على الرسل السابقين، لأن ما فيه موافق لما فيها، ولو أنه جاء مباينا لها لطعن فيه البتة. ومن المعلوم أميّة محمد صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من عند الله لما قدر على إخبار الناس فيما هو نازل من الكتب القديمة، فضلا عن الإتيان بغيرها. فإخباره بالمغيبات الأخر وتلاوته على قومه معجزة عظيمة كافية لنبوّته، ومبرهنة على صدق نزوله من عند الله «وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ» تبيينه من الحلال والحرام والفرائض والأحكام وتوضيح ما فيه من الشرائع دليل صريح وبرهان قاطع على أنه كلام الله نازل من عنده على رسوله «لا رَيْبَ فِيهِ» بأنه «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ٣٧» بلا شك ولا شبهة. والجار متعلق بتفصيل، وجملة لا ريب اعتراضية كما تقول علي- كرم الله وجهه- لا شكّ شجاع، وعمرو بن العاص لا جرم سياسي، وحسان رضي الله عنه حقا جبان ومعاوية عفا الله عنه لا غرو حليم، إلى غير ذلك. قال تعالى «أَمْ» منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه، وبل انتقالية، والاستفهام لإنكار الواقع أي بل «يَقُولُونَ افْتَراهُ» محمد من عند نفسه «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المفترين عليك وعلى ربك «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» بالإخبار بالغيب والأحكام والوعد والوعيد، فضلا عما هو عليه من الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، لأنكم عرب مثل المنزل عليه، وقد
39
نزل بلغتكم، وأنتم أشدّ تمرنا في النظم واعتيادا بالنثر، وأكثر علما بالأمور الملائمة للطبائع البشرية وترض للنفوس بإعطاء كل ذي حق حقه، فإذا كنتم على هذه الحالة ولم تقدروا على إنشاء سورة من مثل هذا القرآن ولن تقدروا البتة، فاعلموا أنه من عند الله حقا، وأن لو اجتمعت الأنس والجن على الإتيان بمثله لعجزوا، لأن الآية منه نفسها معجزة والسورة خارقة للعادة، فكيف بالقرآن كله الذي لا يقدر على الإتيان بمثله غير الذي أنزله.
مطلب الفرق بين آيات التحدي على الإتيان بمثل القرآن:
والفرق بين هذه الآية وآية البقرة عدد ٢٣ في ج ٣ واضح، لأن المراد هنا بسورة مثل القرآن والمراد بآية البقرة فأتوا بسورة من رجل مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وما قيل إن من هناك زائدة، قيل لا قيمة له، إذ لا زائد في القرآن، فكل قيل بزيادة حرف أو قصه في القرآن قيل غير سديد، وقائله قد زاد في حده وهو عن الحقيقة بعيد، فهنا تحداهم الله تعالى على الإتيان بسورة مثل القرآن بأحكامه وأخباره وبلاغته وفصاحته، وهناك على الإتيان بمثله من رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة معروف عندهم مثل محمد، لأنه أتى به على أميته المحققة عندهم، فكان معجزا بنفسه، كما أن الفرق بين هاتين الآيتين وآية هود الآتية بيّن، لأن تلك تحداهم بها للإتيان بعشر سور منه والإتيان من المخاطبين جميعهم أميهم وقارئهم، لأنه بعد أن تحداهم بكله في هذه الآية وفي آية الإسراء ٨٩ المارة في ج ١ وظهر عجزهم تحداهم بأقلّ منه بأن طلب منهم الإتيان بعشر سور منه فقط، ولم يأتوا ولن يأنوا، فظهر من هذا أن كل آية مختصة بشيء لا تشمله الآية الأخرى «وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لتستعينوا به على ذلك من أمثالكم وآلهتكم التي تزعمون أنها تمدكم في المهمات وتلجأون إليها في المهمات «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٣٨» في قولكم، لأنه يستلزم الإتيان بمثله من أفرادكم ويستلزم قدرتكم عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن، لأنه عليه الصلاة والسلام تحدّى به على لسان ربه عز وجل مصاقع العرب بسورة ما منه، فلم يأتوا بذلك، وليعلم أن مجموع ما نزل حين هذا التحدي واحد وخمسون سورة، وقد تحداهم على الإتيان بمثلها، فلم يقدروا
40
لأنه أخبرهم قبل في الآية ٨٩ من سورة الإسراء المارة في ج ١، بأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو عاون بعضهم بعضا، لهذا بعد أن تحداهم بأجمعه تحداهم بما نزل منه، ولما عجزوا تحداهم بعشر سور منه كما سيأتي في سورة هود في الآية ١٤ الآتية، قال تعالى «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ» أي القرآن، لأن الخلق كلهم عاجزون عن الإحاطة بعلومه، فهؤلاء المكذبون أعجز من باب أولى، وقد سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبّروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا، ويعلمون أنه ليس من الممكن أن يأتوا بسورة مثله، والتعبير هنا بلفظ ما عن القرآن دون إن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه، للإيذان بكمال جهلهم، وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به، وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعليته ما في حيز الصلة له، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما، إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم، لأنه أبلغ «وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه إلى الآن وحتى بعد، بدليل النفي المتصل، وقيل ولما يأتهم بيان ما يؤول إليه من الوعيد الذي هددهم به الله أو ولم يأتهم تفسير ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب، وعلى هذا كله فالمعنى أن هذا القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهؤلاء الكفرة فاجئوه بالتكذيب قبل أن يتدبروا ألفاظه ويتفكروا في معناه، أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة «كَذلِكَ» مثل تكذيبهم هذا الخالي عن التعقل والتأمل «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم وما جاءوهم به من الكتب السماوية ولم يصدقوهم بما وعدوهم به «فَانْظُرْ» يا حبيبي «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ٣٩» أنفسهم من الأمم السابقة إذ عذبوا بأنواع العذاب بسبب تكذيبهم رسلهم، وإن من كذبك يا خاتم الرسل ستكون عاقبته عاقبتهم. وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من أذى قومه، وتحذير للناس بأن يجتنبوا الظلم لئلا يقعوا في مصيره السيء كما وقع الظالمون قبلهم.
41
مطلب الآية المدنية وشرط النسخ:
والآية المدنية من هذه السورة هي قوله تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أي إن من قومك يا محمد من يؤمن بهذا القرآن لسابق سعادته «وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ» لشقائه الأولي «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ٤٠» استعدادهم الفطري بقبول هذا القرآن واعراضهم عنه باقترافهم الأعمال الفاسدة التي أضلتهم عن الاهتداء به
«وَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» أي جزاؤه وهذه الآية من آيات المتاركة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من الكافرون في ج ١، وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٢٥ من سورة سبأ الآتية «أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ» لا يصل وإليكم من جزائه شيء «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ٤١» لا يصل إليّ من جزائه شيء.
وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية السيف كما زعمه بعض المفسرين لأن مدلولها اختصاص كل بأعماله وثمراتها له من ثواب وعقاب وإن ما فهم من معناها بعض المفسرين كمقاتل والكلبي وابن زيد، الإعراض وترك التعرض بشيء للكافرين الذين أمر حضرة الرسول أخيرا بقتالهم لا يدل على النسخ، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا للحكم المنسوخ وهنا لا رفع أصلا لأن مدلول الآية الاختصاص فقط كما ذكرنا وآية السيف لم ترفع شيئا من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلا وبعيدا عن الصحة، قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» إذا قرأت عليهم القرآن ويصغون لما تبين لهم ما يأتون وما يذرون، ولكنهم لا يسمعون سماع قبول ولا يعون وعي أهل العقول، فلا تحزن عليهم لأنهم صم عن سماع الحق «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» كلا لا تقدر على ذلك لأن من أصمّه الله وختم على قلبه لا يمكن أن يسمع بأذنيه، ولا تقدر على إسماعه وهو أصم، فكيف إذا ضمّ إليه عدم العقل، إذ يقول الله تعالى «وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ٤٢» فهل تطمع بإسماعهم بعد أن سلب الله عقولهم مع أسماعهم، لأن الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما تتلوه عليهم، إذ أن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي
42
الصوت على ما يريده مخاطبه، فإذا اجتمع فقدان العقل مع عدم السمع فقد أيس من إسماعه وإفهامه. وأعيد الضمير في هذه الآية إلى من باعتبار معناها، إذ يكون للمفرد والجمع فأعاده في الآية الأولى للمفرد باعتبار لفظها، وفي الثانية للجمع باعتبار معناها، وفي الثالثة وهي «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» باعتبار لفظها أيضا، أي يتطلع إليك ببصره ظاهرا ليعاين أدلة صدقك، واعلام نبوتك، ولكنه لا يصدقك إذ أنتم إلى عمى بصره عمه قلبه «أَفَأَنْتَ» بعد هذا تقدر «تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ ٤٣» كلا لا تقدر على هداية عمي البصر عمه البصيرة، ولا يمكنك ذلك لئن الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد بحس ويتفطن بالحدس لما لا يدركه البصير، وأما الأعمى الأحمق فلا يؤمل منه ذلك، لأنه جهد البلاء والعمدة على البصيرة، فمن فقدها فقد أيس من اعتباره وإبصاره، لأن من لا عقل له ولا بصيرة فهو جماد، ولا ينتفع انتفاعا كاملا بالحواس الظاهرة، إلا إذا ضم إليها الحواسّ الباطنة قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً» فلا ينقصهم مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق، إذ أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ومتعهم بالعقل والسمع والبصر تفضلا منه عليهم «وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤» بعدم استعمال ما منحهم الله به من الجوارح لما خلقت لها، وعده انصياعهم للأمر بالخير وتدبرهم فوائده، وركونهم إلى الشر وعدم نظرهم إلى عاقبته، وإقبالهم على المناهي رغبة فيها، وإدبارهم عن الرشد. ورغبتهم عن طرقه، وصدودهم عن الهدى، وعدم مبالاتهم بما يؤول إليه، لهذا فإن تقدير الشقاء عليهم لم يكن ظلما من الله، وحاشاه وهو القائل (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الآية ١١ من سورة الحج في ج ٣، وإنما نسب فعل الظلم إليهم لأنه كسبهم اقترفوه برغبة منهم إليه واختيار له، ولو أوقعوا شيئا من الظلم كرها لما عوقبوا عليه. وأعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى الله تعالى بوجه من الوجوه، ولو عذب بغير ذنب على سبيل الفرض، لأن الظلم التصرف بحق الغير دون وجه شرعي، والخلق كلهم ملك الله، والمالك يتصرف بملكه كيفما شاء وأراد، والتصرف بالملك ولو على غير وجهه لا يعد ظلما، إذ لا
43
حق للغير فيه، وهو لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر. قال تعالى «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» واذكر يا محمد لقومك يوم يجمعهم ليوم الحساب، وإذ ذاك يرون أنفسهم «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم هذه التي يرونها طويلة الأمد «إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ» وقيل إن هذا اللبث في قبورهم، والأول أولى بالمقام، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار اللبث في القبور إلى وقت الحشر، فتعين حمل المعنى على الكافر، لأن المؤمن انتفع في مكثه بالدنيا بما عمل من طاعة الله ورسوله بخلاف الكافر، فإنه لم ينتفع بعمره فيها، لأنه أنفذه بالمعاصي، لذلك استغل مدة لبثه في الدنيا، لأنه كان في
شهوات ولذات قانية، فصارت كالعدم «يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» إذا خرجوا من قبورهم كتعارفهم بالدّنيا، ثم يشتد عليهم هول الموقف فتنقطع المعرفة، ويعرض الحبيب عن حبيبه، والزوج عن زوجته، والابن عن أبيه، والأخ عن أخيه، والأم عن ولدها، قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآيات ٣٥ فما بعدها من سورة عبس في ج ١، وقال تعالى (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الآية ١١ من سورة المعارج الآتية، وقال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية ١٠٣ من سورة المؤمنين الآتية لهذا يصير التقاطع بينهم، فلا ينظر أحدهم للآخر، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن صاحبه، وحينئذ يظهر مغزى قوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» إذ شاهدوه حقا وكانوا يجحدونه بالدنيا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ٤٥» في بيع آخرتهم الباقية بدنياهم الفانية وضلوا طريق النجلة، فحصلت لهم خسارة عظيمة لا تتلافى، قال تعالى «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» من العذاب في الدنيا قبل موتك يا محمد «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبل أن نريك عذابا فيهم إذ نرجئه للآخرة «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» فيها، وهناك ترى ما أوعدناهم به من الوبال الدائم «ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ٤٦» من المعاصي والقبائح لا حاجة إلى شهود عليها، لأنها كلها مدونة عنده لم يخف عليه شيء منها، فكل جارحة تشهد بما فعلت وتبين زمانه ومكانه وصفته، وإذ ذاك يذوقون العذاب الأليم. وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن بلفظها ومعناها كالآية ٩٤ من المؤمنين الآتية وغيرها،
44
وفيها وعيد وتهديد للكفار وأهل المعاصي، وبشارة لحضرة الرسول بأن الله تعالى سيريه العذاب الذي أوعدهم بإنزاله والذل والخزي في الدنيا والآخرة وقد أراه بعض ذلك يوم بدر، وفي فتح مكة وغيرها من أيام انتصاره عليهم، وسيريه أيضا ما خبىء لهم في الآخرة من العذاب الذي لا ينقضي «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» فرقة وطائفة وقوم ورهط وعشيرة وفخذ وبيت «رَسُولٌ» يرسله الله تعالى لإصلاحها فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم ويبشرهم، فيؤمن به من شاء الله إيمانه ويكفر به من شاء خذلانه، مثلك مع أمتك، وكما يكون حالك يا أكرم الرسل مع أمتك كان حالهم مع أممهم في الدنيا والآخرة، فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أمره به ربه فصدقه أناس وكفر به آخرون كما هي الحالة معك وأمتك، حتى إذا انتهى الأجل المضروب لهم «قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل فينجي الله رسوله والذين آمنوا به، ويهلك من كذبه وجحد ما جاءه به، وهذا عدل منه تعالى لأنه لا يهلك قوما إلا بعد أن يتقدم إليهم بالمعذرة وإقامة الحجة على لسان رسوله، وهذا القضاء قد يكون بالدنيا عذاب استئصال كقوم عاد ونوح، وقد يكون على البعض وقد يؤخر الله عذاب آخرين إلى الآخرة فيوقعه فيهم دفعة واحدة، وهؤلاء الذين ينالون العذاب في الدنيا سينالهم العذاب الأكبر يوم القيامة أيضا إذا شاء تعذيبهم، وفي ذلك اليوم يجمع الله الأمم كلها للحساب ويجاء برسول كل أمة ليشهد عليها بما كان منها، فيفصل بنجاة المؤمنين وإكرامهم عنه وفضله، وبتعذيب الكافرين وإهانتهم بعدله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٤٧» شيئا من جزاء أعمالهم فينال المؤمن ثواب أعماله الطيبة وما صبر عليه من مضض العيش في دنياء ويجازى الكافر عقاب أعماله السيئة وما بطر ومرح في دنياه، فيربح المؤمن ويخسر الكافر، راجع الآية ١١ من سورة الحج في ج ٣، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» لك يا حبيبي على طريق السخرية والاستهزاء «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من نزول العذاب إذا لم نؤمن بك وبربك وتهددنا به أنت وأصحابك أنزلوه بنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٤٨» في ذلك، وهذه الآية لا توجد في ترتيب القرآن من أوله إلى هنا ومن هذه السورة إلى سورة الأنبياء وبعدها تكرر كثيرا عند كل مناسبة، أما في ترتيب النزول فقد مر مثلها
45
في سورة يس وغيرها «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المستعجلين ما بسوءهم المستبعدين ما تهددهم به من الشقاء «لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» أي لا أقدر على شيء لنفسي فكيف أقدر أن أنفعكم أو أوقع بكم ما هددتكم به، لأن الأمر فيه لله، وقدم في هذه الآية الضر على النفع وفي الآية ١٨٨ من الأعراف المارة في ج ١ النفع على الضر لأن المقام يستدعي ذلك هنا وهناك، أي ليس لي
شيء من الأمر كله «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أن يملكنيه بتقديره إياي على فعله، لأن إنزال العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء لا يكونان إلا بتقدير الله تعالى وقضائه لا قدرة للبشر على شيء من ذلك. وإن علم الساعة التي يكون فيها ذلك العذاب الموعود به من خصائصه أيضا لا علم لأحد بوقت قيامها، لأنه لم يطلع أحدا من خلقه على غيبه ولكن «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» معين عند الله، شرا كان أو خيرا ف «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المحتم لنجاتهم أو عذابهم، واستوفوا ما قدره لهم من البقاء في هذه الدنيا كاملا نزل بهم، وإذ ذاك «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه ولا لحظة «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩» عنه، وليس المراد هنا بالساعة الساعة الزمانية، راجع الآية ٣٣ من سورة الأعراف المارة في ج ١ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الباحثين عن حتفهم نطلقهم «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ» هذا الذي أوعدكم به «بَياتاً» ليلا وأنتم غافلون في فرشكم «أَوْ نَهاراً» بأن باغتكم به على حين غرّة وأنتم قائمون بأعمالكم وقد عمكم به «ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ» وأي شيء يريد به «الْمُجْرِمُونَ ٥٠» إذا وقعوا فيه، وما الذي يستعجلون من أنواعه فكله مكروه لا يرغب بنوع من أنواعه فكيف تردون حلوله بكم وهو مر المذاق شديد الخناق
«أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ» فيكم ذلك العذاب ورأيتم ألمه وشدته «آمَنْتُمْ بِهِ» وصدقتم بنزوله من قبل الله وأردتم الإيمان بالله فلا يقبل منكم، لأن وقت نزوله وقت بأس لا تقبل فيه التوبة والرجوع إلى الله، وسيقال لكم «آلْآنَ» تؤمنون وقد فاتكم وقت الإيمان «وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ٥١» لأنكم لا تصدقون أن هناك عذابا وتسخرون بالرسل حينما يخوفونكم به «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بتكذيب الرسل وإنكارهم الإله من قبل ملائكة العذاب «ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم
46
فهو جزاء جحودكم في الدنيا «هَلْ تُجْزَوْنَ» في الآخرة التي كنتم تنكرونها في الدنيا «إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٥٢» من الأعمال القبيحة جزاء وفاقا «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ» يستوخون منك ويطلبون يا سيد الرسل الاستخبار «أَحَقٌّ هُوَ» قولك إن هناك قيامة أخرى وعذابا على ما نفعل «قُلْ» لهم «إِي وَرَبِّي إِنَّهُ» الذي تستخبرون عنه «لَحَقٌّ» لا مرية فيه البتة «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٥٣» الله عند إرادته تعذيبكم في ذلك اليوم فلا يفوت شقيا جزاؤه ولا مهرب لأحد، فالعذاب لاحق بكم لا محالة وهناك تتمنى كل نفس قدر عليها العذاب ما قاله تعالى قوله «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ» أشركت بالله وكفرت به في الدنيا «ما فِي الْأَرْضِ» من شيء وطلب منها الفداء مما حلّ بها من عذاب الله في الآخرة «لَافْتَدَتْ بِهِ» نفسها لتنجو منه إلا أنه لا ينفع الفداء ولا يقبل البدل «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ» أضمروا اليأس والحرمان لما علموا ذلك وكتموا تأثرهم وأسفهم على ما وقع منهم في الدنيا من الكفر والإنكار والتكذيب «لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» عيانا «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أولئك الظالمون «بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٥٤» فيما قضي عليهم من العذاب لأنه بما كسبت أيديهم، وإن الله لا يشدد في عذاب الظالم ولا يخفف من عذاب المظلوم لقاء ظلمه، بل ينال كل جزاء على ما عمل.
ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بين الأنبياء وأممهم، وهذه بين بعضهم بعضا، وقد جاءت هذه الأفعال بلفظ الماضي مع أنها في القيامة وأحوالها، وهي من الأمور المستقبلة لأنها واجبة الوقوع ومحققة فيها، فلذلك جعل الله تعالى مستقبلها كالماضي. واعلم أن كلمة أسرّ التي مصدرها الإسرار من الأضداد، إذ تكون بمعنى الإخفاء ولإظهار، ولذلك اختلف المفسرون فيها، فمنهم من قال أظهروا الندامة وأعلنوها على ما فاتهم، لأن ذلك اليوم ليس بيوم تصبّر وتصنّع كي يظهروا خلاف ما يبطنون، وهو الأولى، لأن استعمال أسر غالبا في الكتمان وهو ما ينصرف إليه الذهن بادىء الرأي، وهو أنسب بالمقام، ومنهم من قال أخفوا أسفهم وندامتهم لئلا يلاموا عليها من قبل غيرهم فيجتمع عليهم عذابان العذاب واللوم أيضا، وعلى هذا يكون المراد بمن يخفي الندامة رؤساء الكفر خشية لومهم من أتباعهم.
47
والندامة هي الغم والأسف على ما فرط من الشخص، وإظهارها يكون بعضّ الأصبع والبرطم والبكاء والصياح، وإخفاؤها بعدم إظهار شيء من ذلك وكتم ما يدل على آثارها، وقد وقع منهم ذلك، أجارنا الله، وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا كالرعد والمائدة في ج ٣ وغيرها، ثم اتبع جل شأنه ما يدل على عظمته واقتداره مما سبق بقوله «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا وعبيدا، ومن كان كذلك فإنه لا يقبل الفداء فليس للكافر أن يقتدى بشيء مما فيهما من العذاب وهما في قبضة ربه وهو من جملة المملوكين فيهما، فكيف يقتدى المملوك بشيء لا يملكه، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، لأن الآخرة ليس فيها ما يملك لأن الملك يؤمئذ كلّه لله، وقد أكد هذا بقوله «أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ثابت واقع كما أخبر به رسله لا محالة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ٥٥» ذلك ويجحدون الثواب والعقاب في الدنيا فيقعون في ندامة الآخرة «هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ» في الدنيا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٥٦» في الآخرة يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا القرآن على لسان رسوله، فاتعظوا بها فهي نقاء لكم من الكفر «وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ» من داء الجهل الذي هو في القلب وهو أضر من داء الجسد الذي بمرض البدن «وَهُدىً» من الضلال إلى الصواب «وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ٥٧» من العذاب الدنيوي والأخروي المادي والمعنوي. وهذه الآية عامة لكل البشر المنتفعين به قريش فمن عداهم الموجودين في زمنه ﷺ والآتين بعده من عامة الخلق إلى يوم القيامة، لأن القرآن ما زال ولا يزال رادعا عن الشر، مرغبا بالخير، مطهرا للأخلاق، مصححا للعقائد، منجيا من الجهالات، لما فيه من الأمر والنهي والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، وخصّ الصدر دون سائر الجوارح لأنه موضع القلب وهو أعز موضع في بدن الإنسان، قال ﷺ فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي عبد الله النعمان ابن بشير وهو الذي سميت المعرة الواقعة بين حلب وحماه باسمه: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب:
48
مطلب معنى الرحمة والفضل ومراتب كمال النفس.
هذا، وقد خاطب الله عز وجل رسوله سيد المخاطبين بقوله بعد ذلك «قُلْ» لهؤلاء الجهلة ليس الفرح الذي تطمئن له النفس بحطام الدنيا ولذتها الفانية، وإنما الفرح الدائم المحمود العاقبة يكون «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ» وهو الإسلام والإيمان والقرآن وطاعة الرسول «فَبِذلِكَ» الأمر العظيم الحسن العاقبة إذا أرادوا الفرح بمعناه، المبهج للوجوه، المثلج للصدور «فَلْيَفْرَحُوا» إذا فقهوا ونظروا إلى عاقبة الأمر، فلا شيء أحق أن يفرح به غير ذلك، فمن أعطي تلك الأمور الأربعة وعمل بما تفرع عنها فقد أعطي الخير كله لأنه «هُوَ» المشار إليه من الفضل والرحمة «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨» من متاع الدنيا، لأن ما آتاهم الله تعالى في الإسلام والإيمان والقرآن ومحمد ﷺ والانتفاع بها وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه لا يقاس بالدنيا وما فيها. واعلم أن الفرح لذة في القلب تظهر على الجوارح عند إدراك المحبوب والمشتهى من كل ما يؤمله الرجل، وأكثر ما يستعمل في اللذات البدنية الدنيوية، واستعمل هنا فيما يرغب فيه من الأمور الأخروية، قال بعض المحققين إن في هذه الآية إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها: الأولى تهذيب الظاهر من فعل كل ما لا ينبغي، وإليها الإشارة بالموعظة الحسنة، لأن فيها الزجر عن المعاصي، وإذا انزجرت النفس عن المعاصي جنحت إلى الطاعات ففازت بالرضى، الثانية تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية، وإليها الإشارة بشفاء لما في الصدور، الثالثة تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى، الرابعة تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن وذلك المشار إليه بقوله (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ) إلخ الآية، هذا ومما يدل على تفسير الآية بما ذكرنا ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله، ولا يكون من أهله إلا من هو مسلم مؤمن. وروى ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري، وجاء عن جمع أن الفضل القرآن، والرحمة الإسلام. وقيل إن المراد بالرحمة محمد ﷺ لقوله تعالى
49
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الآية ١٠٥ من الأنبياء الآتية ولذلك فسرناها بالقرآن وبمحمد عليه السلام جمعا بين القولين كما فسرنا الفضل بالإيمان والإسلام.
وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفضل محمد ﷺ والرحمة علي عليه السلام وهو كرم الله وجهه وإن كان رحمة جليلة لهذه الأمة إلا أن المقام لا يناسب التفسير بذلك، كما أن الله تعالى لم يطلق الفضل على رسوله محمد بالقرآن، ولهذا فالأولى بالتفسير هو ما ذكرناه والله أعلم. وفي هذه الآية دلالة على الاستشفاء بالقرآن العظيم، ولا شك أنه بركة جليلة قد يذهب الله تعالى به الأمراض الحسية والمعنوية، وهذا مما لا ينكره أحد إلا قليل الاعتقاد، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية ٨٢ من سورة الإسراء المارة في ج ١، «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ» هذا عامّ في كل ما نزل من السماء أو خرج من الأرض أو كان مما بينهما أو حصل من حيوان وطير وحوت وسائر ما به نفعكم أيها الناس «فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا» بأن بعضتموه وقسمتموه، وهو ما ذكره الله تعالى فى الآيات من ١٣٦- ١٤٠ من سورة الانعام الآتية من تخصيص بعض الحيوان والحرث لأناس دون غيرهم وتحريم بعض الحيوان كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها من تلقاء أنفسهم، كما ستجد تفصيله بمحله إن شاء الله، فيا أكمل الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبدين بالتحليل والتحريم والتخصيص والإباحة «آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ» بذلك أم تلقيتموه عن رسوله أم من كتابه «أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩» فتنسبونه إليه دون أن يأذن لكم به، وبما أنه تعالى لم يأمر بذلك ولم ينزّل به شيئا على رسوله فأنتم كاذبون مختلقون لزعمكم في قولكم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) كما مر في الآية ٢٧ من سورة الأعراف المارة في ج ١.
مطلب الحرام رزق مثل الحلال وقول المعتزلة فيه والرد عليهم.
هذا، وإن ما استدلت به المعتزلة في هذه الآية بأن الحرام ليس برزق لا مستند له، لأن المقدّر للانتفاع هو الحلال، فيكون المذكور في هذه الآية قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام. قال في بدء الأمالي:
50
ومعناه أن الحرام رزق مثل الحلال، لأن الرزق ما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان وينتفع به فعلا حراما كان أو حلالا، سواء في ذلك رزق الإنسان والدواب، مأكولا وغير مأكول، ولا يقبح نسبته إلى الله تعالى كما تقوله المعتزلة، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد في ملكه، فكل ما يقع من حلال أو حرام بتقديره كسائر أنواع الخير والشر، إلا أن الحسن برضاه والقبيح بقضاه، وعقاب مقترف الحرام لسوء مباشرة أسبابه فيلزم على القائل إن الحرام ليس برزق أن من انتفع بالحرام طول عمره لم يرزقه الله وهو خلاف الواقع ومباين لقوله تعالى:
(وَما مِنْ دَابَّةٍ... إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية ٦ من سورة هود الآتية، وأهل الاعتزال لهم مخالفات كثيرة مع أهل السنة والجماعة منها هذه، ومنها رؤية الله تعالى، ومنها أن ما يفعله الإنسان من فاحشة لا دخل لخلق الله وإرادته فيها، حتى قيل إن أبا اسحق الاسفراييني كان ذات يوم عند الصاحب بن عباد، فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء، فردّ عليه الأستاذ أبو اسحق بقوله: سبحان من لا يقع في ملكه إلّا ما يشاء.
وإنهم يقصدون بذلك إكبار الله تعالى وتعظيمه عن أن يكون فاعلا لغير الحسن.
وإن أهل السنة والجماعة يمجدونه ويبجلونه فيقولون لا يقع في ملكه من خير أو شر إلا بإرادته وقضائه وقدره، وطريقهم هذا لعمري هو للصواب، لأنا نتحاشى أن نقول بوقوع شيء دون إرادته، إلا أن الخير برضاه والشرّ بقضاء، وفي البيت المذكور آنفا من أنواع البديع التسجيع بين مقالي وقالي، والجناس المطرف وهو ما زاد أحد ركبيه على الآخر حرفا في طرفه الأول، وبين الحل والسحت المطابقة وهي الجمع بين متضادّين، ومعنى الحلال ما نص الله أو رسوله، أو أجمع المؤمنون على إباحة تناوله، أو قضى القياس الجلي إباحته بعينه أو جنسه بأن لم يتبين أنه حرام، والحرام ما نص الله تعالى أو رسوله ﷺ أو أجمع المسلمون على امتناع تناوله بعينه أو جنسه، أو اقتضى القياس الجلي ذلك، أو ورد فيه حدّ أو تعزير أو وعيد شديد مئول سواء كان تحريمه لمفسدة أو مضرّة خفيّة كالزنى فإن فيه فساد الغراس وتضييع الأنساب وقتل الولد معنّى لعدم وجود من يربيه، ومذكّى
51
المجوس فإن فيه فساد الأبدان أو مضرة أخرى علمها الشارع، أو مضرة واضحة كالسّم والخمر فإن في الأول هلاك النفس، وفي الثاني ذهاب العقل، تدبر.
قال تعالى «وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ» أيحسبون أن الله لا يعلم حالهم، أم يظنون أنهم يعافون من عقابه، أم أن الله يغفل عن افترائهم، كلا، بل يعلم ولا يغفل، وإن شاء يعاقبهم عليه عقابا شديدا في الآخرة، إذ يجازى فيها كلا بما عمل. وفي هذا الاستفهام توبيخ كبير، وتقريع خطير، ووعيد عظيم لجميع أصناف المخالفين أوامر الله الكذب فما دونه بالنظر لإبهامه «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ» عميم «عَلَى النَّاسِ» بتأخير عقوبتهم وإمهالهم ليرجعوا إليه، وقد أنزل عليهم الكتب وأرسل إليهم الرسل وركب فيهم العقل ليميّزوا الخبيث من الطيب، والحرام من الحلال، والحق من الباطل فيتبعوا الأحسن، ولو عاجلهم بالعقوبة لاحتجوا عليه كأهل الفترة والصغير والمجنون والمريض والفقير والملك المار ذكرهم في الآية الأخيرة من سورة طه، والآية ١٥ من سورة الإسراء المارتين في ج ١، «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ٦٠» نعم الله المتوالية عليهم ولا يقدرونها قدرها ولا يستهدون يهدي الله ولا يسترشدون بإرشاد رسله ولا يتبعون ما أنزل إليهم من الحق،
قال تعالى «وَما تَكُونُ» يا أكرم الرسل «فِي شَأْنٍ» حال وأمر ومطلق خطب. واعلم أن لفظ الشأن لا يأتي إلا فيما له خطر مما يعظم من الأمور «وَما تَتْلُوا مِنْهُ» من ذلك الشأن، لأن تلاوته معظم شؤونه صلى الله عليه وسلم، وعود الضمير إلى الشأن أولى من عوده إلى القرآن لاحتياج تأويل «مِنْ قُرْآنٍ» بمعنى سورة، لأن كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر يكون تفخيما للمضر وهو كما ترى، وقيل إنه يعود إلى التنزيل غير المذكور، وعليه يكون المعنى وما تتلوء من التنزيل «وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ»
أيها الناس قليلا كان أو كثيرا، جليلا أو حقيرا «إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» نراه ونثبته ونحصيه عليكم في صحائفكم، لأنا رقباء عليكم. وقيل إن الخطابين الأولين في قوله تعالى (وَما تَكُونُ) (وَما تَتْلُوا) له ﷺ ولأمته عامة، لأن العادة إذا خوطب رئيس القوم بشيء كان قومه داخلا فيه لانصرافه إليهم بالتبعية، والأول
52
أولى، إذ روعي في كل من المقامين ما يليق به، فعبّر أولا بالخطابين المذكورين في مقام الخصوص لسيد المخاطبين بالشأن، لأن عمل العظيم عظيم، وعبر بالثاني للأمة جميعهم برّهم وفاجرهم بالعمل العام للجليل والحقير، ليمتاز رأس النوع الإنساني بالخطاب أيضا عن عامة الناس، كما امتاز بغيره عليهم «إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» أي أنه تعالى شاهد عليكم حين الدخول في أعمالكم والخوض بأقوالكم. ومعنى الإفاضة الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه والتلبس به «وَما يَعْزُبُ» ولا يغرب ولا يبعد ويخفى ويغيب «عَنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل ما يقع في ملكه «مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ» أو أقل، وذكر الذرة للتقليل عند الناس، وتطلق على السخلة الصغيرة جدا، وهو تعالى لا تخفى عليه خافية مهما قلت «فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ولا فيما بينهما أو فوقهما أو تحت الأرض «وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ» منها فعلمه بالقليل كعلمه بالكثير وعلمه بالبعيد كعلمه بالقريب سواء عنده فلا يقع شيء في كونه «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ٦١» مدون ومثبت بصورة ظاهرة في لوحه العظيم الذي لم يغفل شيئا. قدم في هذه الآية الأرض على السماء وفيما سبق وسيأتي السماء على الأرض في مثل هذه الآية الآية ٤٣ من سورة سبأ الآتية وغيرها، لأن شهادة الله تعالى هنا على أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصلها بقوله (وَما يَعْزُبُ) إلخ حسّن تقديم الأرض، وإلا فحق السماء أن تقدّم على الأرض، لأنها أفضل منها، عدا ما ضمّ جثمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنّه لا شك أفضل من السماء.
مطلب أولياء الله من هم والمحبة الصادقة والرؤيا الصالحة:
ثم إنه تعالى لمّا عمّم وعده ووعيده في حق جميع من أطاع وعصى، أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه فقال مصدرا كلامه بأداة التنبيه «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ» الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة، وتولى هدايتهم بما آتاهم من الآيات والبراهين على قدرته، والدلائل والحجج على حكمته، وتولوا القيام بحقه والرحمة لخلقه، وتحابوا في الله ومن أجله على غير أرحام بينهم أو أموال يتعاطونها،
53
فهؤلاء الكرام المتقون «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» يوم يخاف الناس من هول الموقف «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٢» إذا حزنوا وقت الفزع الأكبر زمن الحسرة، ثم وصفهم بقوله تعالى قوله «الَّذِينَ آمَنُوا» بي وبكتبي ورسلي «وَكانُوا» في الدنيا «يَتَّقُونَ ٦٣» ما يغضب الله تعالى من أقوال وأفعال، ويعملون ما يرضيه وهؤلاء الذين إذا رئوا ذكر الله. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي. وروى الطبراني بسنده عن سعيد بن جبير مرسلا قال سئل رسول الله ﷺ عن أولياء الله تعالى فقال هم الذين إذا رئوا ذكر الله. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال هم قوم تحابوا في الله على غير أرحاء بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور، وأنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية- أخرجه أبو داود- وروى البغوي بسنده عن ابن مالك الأشعري قال: كنت عند النبي ﷺ فقال:
إن لله عبيدا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة، قال وفي ناحية القوم اعرابي فجثى على ركبتيه، ورمى بيديه، ثم قال حدثنا يا رسول الله عنهم من هم؟ قال فرأيت في وجه رسول الله ﷺ البشر، فقال هم عباد من عباد الله ومن بلدان شتى وقبائل شتي، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورا ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون. وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول قال الله تعالى المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء. واعلم أن الولي أخذ لفظه من الولاء، وهو القرب والنصرة، قولي الله هو الذي يتقرب إليه تعالى بكل ما افترض عليه، ويكون مشتغلا بالله مستغرق القلب في معرفه نور جلال الله، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله،
54
وإن سمع سمع آيات الله، وإن نطق نطق بالثناء على الله، وإن تحرّك تحرك في طاعة الله، وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى الله، لا يفتر عن ذكره ولا يرى بقلبه غيره، فإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ومعينه، قال تعالى:
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ٢٥٧ من سورة البقرة في ج ٣، فعلى هذا يكون العالم العامل هو ولي الله، وغير العامل هو الأحمق الخاصر، فقد جاء بالخبر ويل للعالم من لاتباع، وقال صاحب الزيد
وإن السحت رزق مثل حل وإن يكره مقالي كل قالي
وعالم بعلمه لم يعملن معذّب من قبل عابد الوثن
وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) الآية ٢٢ من الجاثية الآتية. هذا ومعنى المتقي من اتقى كل ما نهى الله عنه، وأكبر من التقوى الورع، والورع من اتقى الشبهات وترك الحلال مخافة الوقوع بالحرام.
روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الله النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. فيجب على المتقي الورع أن يجتنب الحريم والمحرم لأن المحرم حرام لعينه، والحريم محرم، لأنه يت؟ رج به إلى الحرام، فمن كانت هذه صفاتهم. َهُمُ الْبُشْرى»
بالنجاة من كل سوء والفوز بكل حسنِ ي الْحَياةِ الدُّنْيا»
قال أكثر المفسرين البشرى في هذه الآية الرؤيا الصالحة الصادقة، أخرج الترمذي عن عبادة ابن الصامت قال: سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالىَ هُمُ الْبُشْرى)
قال هي الرؤيا الصالحة يراعا المؤمن أو ترى له. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا وما البشرات؟ قال الرؤيا الصالحة. وروى البخاري ومسلم عنه أيضا أن رسول الله ﷺ قال إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. هذا لفظ البخاري ولمسلم إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من
55
ستة وأربعين جزءا من النبوة. والرؤيا ثلاث: رؤيا صالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا ممّا يحدّث المرء نفسه، ولا يحمل معنى الآية إلا على الأولى، وهذه الأحاديث تأكيد للرؤيا وصدقها. ومعنى أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهو أنه ﷺ أقام في النبوة يوحى إليه ثلاثا وعشرين ستة، كان في بدايتها ستة أشهر يرى الوحي في النام، فتكون مدة الرؤيا الصادقة جزءا باعتبار كل ستة أشهر جزءا من ستة وأربعين جزءا، وهذه أصح من رواية خمس وأربعين إلخ، وفي رواية ست وسبعين وغيرها لانطباقها على المعنى دون كسور ما.
هذا، وقيل إن البشرى هي الثناء الحسن في الدنيا والجنة في الأخرى، أخرج مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله ﷺ أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال تلك عاجل بشرى المؤمن، قال العلماء هذه البشرى المعجلة له بالخير في الدنيا دليل للبشرى المؤجلة له في الآخرة المشار إليها بقوله تعالى:
(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية ١٢ من سورة الحديد في ج ٣، وهذه البشرى المعجلة دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبّته له وتحبببه إلى خلقه، وقال الزهري وعطاء وابن عباس وقتادة: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله عند نزول الموت بدليل قوله سبحانه (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) وتقول لهم (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) من هول القبر والقيامة (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) الآية ٣٧ من فصلت الآتية، وفي الآخرة أيضا بعد خروج نفس المؤمن يعرج بها إلى الله ويبشر برضوان الله. وقال الحسن هي ما بشر الله به المؤمن في كتابه من جنّته وكريم ثوابه يدل عليه قوله تعالى تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ»
ولا إخلاف لمواعده التي وعد بها عباده المخلصين العارفين في كتابه وعلى لسان رسله ولا تغيير لشيء من لِكَ»
أي تبشير المؤمن بما فيه سعادته في الدارينُ وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
٦٤» الذي لا أعظم منه، وهذه الآيات الثلاث واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وهو (وَما تَكُونُ) إلخ، وبين ما بعدها وهو «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» في شأنك من التخويف والتهديد ولا يسؤك تكذيبهم وتعزيزهم بكثرة الأموال والأولاد «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» فالغلبة والقهر على الأعداء بالقدرة من خصائص
56
الله تعالى لا يملكها أحد غيره، فهو الذي يعز من يشاء وحده لا شريك له ولو لم يكن لديه قوة ومنعة، ويذل من يشاء ولو كان ذا قوة ومنعة، وأنت ممن شاء عزّك في الدنيا والآخرة، قال تعالى (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية ٢١ من المجادلة في ج ٣، وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ٩ من سورة المؤمن الآتية، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية ٨ من سورة المنافقين في ج ٣، وقال تعالىَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية ٤٥ من سورة الروم الآتية، وقال تعالىَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)
الآية ١٧ من الصافات الآتية، ولهذا فإنه تعالى قادر على سلبهم ما يتعززون به عليك بإهلاك أموالهم وأولادهم وذوبهم وإدلالهم وإهانتهم وإظهار عزك عليهم بالنصر و «هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم ودعائك «الْعَلِيمُ ٦٥» بنواياهم وأحوالك، والدليل على أن الآية السابقة معترضة الالتفات إلى الخطاب لتكون معطوفة على (وَما تَكُونُ) التي هي خطاب لحضرة الرسول أيضا، والحذف أي لو حذفتها ووصلت ما قبلها بما بعدها لصح المعنى شأن الآيات المعترضة والآيات المدنية بالسور المكية وبالعكس، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه حذف شيء من ترتيب القرآن بالقراءة للوصل المذكور ولا لغيره قطعا، ويحرم إلا الاتباع لما هو محرر في المصاحف لا تبديل لكلمات الله، قال تعالى قوله «أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» كل آية تصدّر بأداة التنبيه كهذه فيها تنبيه للسامع على النظر لمعناها ومغزاها، فهذه تنبه القارئ أن لا ملك لأحد في هذين الهيكلين العظيمين وما فيهما إلا الله، وأن كل من يدعي العزّة على غيره ولم يرد الله عزّه لا ينالها، لأنه جل شأنه لا يسخر أحدا له مما بين السماء والأرض ينصره ويقويه، وإذا علم هذا فكل أحد ذليل إلا من أعزه الله، وكل أحد ضعيف إلا من قواه الله، وكل أحد مهان إلا من أكرمه الله، فمن أراد عزّه سخر له ما يدعو إلى ذلك من خلقه الذين هم في السموات والأرض، فيكون عزيزا بعزّة الله، ولا تكرار في هذه الآية لأن الآية المتقدمة عدد ٥٥ جاءت بلفظ (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ، وكذلك الآية الآتية عدد ٦٨ وكل ما صدر بما يكون لغير العاقل غالبا، وما صدر بمن
57
يكون للعاقل، فيدل مجموع الآيات على أنه تعالى مالك جميع ما ومن في السموات والأرض العاقل وغيره، النّامي والجامد وغيرهما من كل ما يطلق عليه جماد وحساس، وإذا كان العقلاء في ملكه فلأن يكون غيرهم في قبضته من باب أولى، وإذا علمت هذا ظهر لك أن ما يعبده المشركون من الأوثان في ملكه وتحت تصرفه، فجعلها شركاء له معبودة من دونه من القدح بمكان بالنسبة لمقام الربوبية الفردة الحقة.
قال تعالى «وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ» مفعول يدعون قبله، ومفعول يتبع مقدر تقديره شيئا غير أهواءهم وتسميتهم لأن شركة الله تعالى في ربوبيته محالة، وهذا على أن ما في يتبع نافية وهو الأولى في المقام والأنسب في المعنى، وقد ذكر صاحب الجمل رحمه الله وجوها أخرى في معنى ما، وتفسير هذه الآية. وجعل الشربيني عفا الله عنه مفعول وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء أيضا، وصدر قوله هذا بقوله (وكان حقه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) شركاء وأراه متجاوزا في قوله هذا، لأن الحق ما قاله ربه لا ما جرى عليه هو وغيره، راجع الآية ٥ من سورة الحج والآية ١٠٨ من سورة التوبة في ج ٣، وهو خلافا لما جرينا عليه من أن مفعول يتبع الذي قدرناه تبعا لغيرنا (شيئا) إذ يدل عليه قوله تعالى «إِنَّ» أي ما «يَتَّبِعُونَ» في الحقيقة «إِلَّا الظَّنَّ» على توهم شفاعتها لهم «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ٦٦» يحزرون ويقدرون شركة الله تعالى تقديرا باطلا وكذبا محضا، فتبّا لما يتبعون، وتعسا لما يزعمون، وقبحا لما يفعلون، ويؤسا لما يكذبون، وإفكا بحتا لما يفترون.
ثم نبه جل شأنه على عظيم قدرته وشمول نعمته وأنه الذي يستحق العبادة وحده بقوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ» فتستربحوا من أتعابكم التي قاسيتموها في النهار «وَالنَّهارَ» جعله «مُبْصِراً» لتنصرفوا فيه إلى أعمالكم وتأمين معاشكم والنهار يبصر فيه لا يبصر هو إلا أن معناه مفهوم في كلام العرب فخاطبهم بلغتهم، قال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بناثم
أضاف النوم إلى الليل ووصفه به وعنى نفسه ولم يكن هو نائما ولا بعيره،
58
وهذا من باب نقل الاسم من المسبب إلى السبب، قال قطرب تقول العرب أظلم الليل وأبصر النّهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء «إِنَّ فِي ذلِكَ» السكون ليلا والاشتغال نهارا «لَآياتٍ» من آيات الله الكثيرة الدالة على انفراده بالإلهية واستحقاقه وحده للعبادة وعبرة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٦٧» سماع قبول واعتبار وتدبر وتذكر لينتفعوا بها ويتعظوا فينتبهوا وينتهوا عما يقولون «قالُوا» أولئك المشركون بعد هذه الدلائل المبرهنة على التوحيد «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» من الملائكة وسموها بنات الله، تعالى عن ذلك، وهذا فضلا عن وصمهم عزّته بالشريك من الأوثان وقد خصوا الإله بالبنات وهم لا يرضونهن لأنفسهم «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتبرأ من أن يكون له ولد «هُوَ الْغَنِيُّ» عن جميع خلقه، والولد إنما يتخذ للحاجة ليتقوى به على غيره، ويستعين به لحوائجه، ويستعز به لذله، ويتشرف به لهوانه، ويتلذذ به لشهوته، وكلّ ذلك من أمارات الحدوث وهي عليه محال، وهو منزه عن ذلك كله، وكيف يتخذ ولدا وهو «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ملكا وعبيدا، والكل في تصرفه وهو خالقهم ومحدثهم من العدم، وهم محتاجون إليه في كل أمورهم مع غناه عنهم، ولما نزه جلّ شأنه نفسه المقدسة عن الولد عطف على من قال ذلك بالإنكار والتوبيخ والتقريع فقال عز قوله نافيا صحة ذلك «إِنْ عِنْدَكُمْ» أيها المفترون «مِنْ سُلْطانٍ بِهذا» الذي اختلقتموه أي ما عندكم عليه حجة ولا برهان به البتة، ثم تابع بالإنكار عليهم بقوله «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ٦٨» حقيقته وتضيفون إليه ما لا صحة له، وهو المبرأ من كل نقص المنزه عن كل شريك فكيف تجوزون نسبة ما لا تجوز نسبته إليه تعالى، وهذا جهل مركب منكم أيها لمختلقون لا يستند إلى برهان، ولا يعتمد على دليل ولا مادة، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لأمثال هؤلاء «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» ويقولون عليه الباطل وينسبونه إلى ما لا يليق بجنابه «لا يُفْلِحُونَ ٦٩» في الدنيا أبدا، ولا ينجون من عذاب الآخرة، وعذاب القبر، ولا يفوزون بريح الجنة، ولا يسعدون السعادة الطيبة وإن اغتروا بطول العمر والسلامة من الأمراض في الدنيا والبقاء بنعيمها الزائل والتمتع بعلو
59
المناصب والجاه، لأن هذا كله «مَتاعٌ» قليل زائل يتمتعون به في حياتهم ويقيمون به رياستهم ويرفعون به صيتهم ويتظاهرون به على المؤمنين ويناصبونهم العداء وينشرون عليهم سطوتهم «فِي الدُّنْيا» فقط لا يدوم لهم ذلك ولا ينتفعون به في الآخرة، بل يكون عليهم وبالا فيها «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» بالموت «ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ» بعد الموت وفي الآخرة بعد الحساب على ذلك وغيره ونعذبهم «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ٧٠» نعمنا ولم يستعملوها لما خلقت لها كما أنهم لم يستعملوا جوارحهم لما خلقت لها. هذه نبذة من أحوال قريش قومك يا محمد، قصصناها عليك وها نحن أولاء نقص عليك من أحوال الأنبياء قبلك وما لا قوه من أقوامهم كي تذكره لهم، وتسلي نفسك بما وقع لهم من أقوامهم.
قال تعالى «وَاتْلُ» يا محمد «عَلَيْهِمْ» أي قومك «نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» هم بنو قابيل أول رجل أهرق الدم على وجه الأرض وسن القتل الذي لم يعرف قبل، إذ قتل أخاه هابيل وعصى أباه، كما ستأتي قصتهما في الآية ٢٧ من سورة المائدة في ج ٣.
قال ﷺ من سن حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة. وهو أول من انشق على أهله ومنه بدأ الخلاف، لأمر أراده الله، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» الآية ١١٨ من سورة هود الآتية، وفائدة هذه القصص إخبار حضرة الرسول بأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم، وإعلامه بأنه ليس هو وحده قاصى شدة بإرشاد قومه بل إخوانه الأنبياء كانوا كذلك، فإنهم كذبوا وأهينوا وطردوا وقتلوا، ليتسلى بذلك ويهون عليه. ما يلاقيه من قومه، قال تعالى حاكيا حاله معهم «يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ» ثقل وعظم وشق «عَلَيْكُمْ مَقامِي» بين أظهركم إذ طال أمده فيهم إذ لبث بعد تشرفه بالنبوة معهم ألف سنة إلا خمسين عاما، كما سنبينه في الآية ١٤ من سورة العنكبوت الآتية، وهو يدعوهم خلالها إلى الله ولينبذوا الكفر فلم ينجع بهم «وَتَذْكِيرِي»
يصعب عليكم ووعظي إياكم «بِآياتِ اللَّهِ» وبيان حججه وبراهينه طلبا لهدايتكم لما به نفعكم، ولقاء هذا تعزمون على طردي وقتلي، فافعلوا ما شئتم «فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ»
60
ولست مباليا بكم إذ هو حسبي وثقتي، قد فوضت أمري إليه «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ» الذي عزمتم عليه واستعدوا لتنفيذه، ولا تتركوا شيئا تصورتموه إلا أحضرتموه «وَ» ادعوا «شُرَكاءَكُمْ» أيضا فيما أنتم عليه ممن هو على طريقتكم فيما أظهرتموه.
يؤيد هذا التفسير قول من جعل الواو بمعنى مع، أي أجمعوا أمركم مع شركائكم.
وما قيل إن المراد بالشركاء هنا الأوثان، مخالف للظاهر ومناف للسياق، وإذا صحت الحقيقة فلا مجال للعدول عنها إلى المجاز «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» هما وكربا بل اجعلوه سهلا ويسرا «ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ» ذلك الأمر الذي أجمعتم عليه وأهلكوني، وتخلصوا مني، واطرحوا عنكم ثقلي عليكم، وتخلصوا من مقامي بينكم، ولا تلتفتوا لتذكيري «وَلا تُنْظِرُونِ ٧١» لا تمهلوني إن استنظرتكم بل عجلوا بما تريدونه. هذا وإن تفسير الغمة بالستر والخفاء والإبهام كما ذكره بعض المفسرين لا يناسب المقام، إذ يكون المعنى على هذا التفسير ليكن أمركم ظاهرا منكشفا، أخذا من غم الهلال إذا خفي والتبس أمره على الناس، وعليه حديث وائل بن حجر: لا غمة في فرائض الله. أو لا تستر ولا تخفي بل تظهر وتعلن، فالمشي على هذا الوجه فيه بعد عن المعنى المراد والله أعلم «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» عن نصحي، وأدبرتم عني وأعرضتم عن تذكيري، فذلك شأنكم، أما أنا «فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» على إرشادي حتى يؤدي نصحي إلى توليكم عني أو تتهموني بالطمع «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» لا على أحد غيره. فإن أطعتموني فهو حظكم وسعادتكم، وإلا فلا ضرر عليّ من عدم قبولكم نصحي المؤدي إلى حرمانكم من الإيمان بالله الموصل إلى نعيمه الدائم، ولكن آسف عليكم والله يثيبني على نيتى آمنتم أو توليتم «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٧٢» لله المستسلمين لأمره ونهيه، فإني لا أخالف أمره ولا أخاف سواء، هذا آخر كلام نوح عليه السلام لقومه وقد بلغ الغاية في النصح لهم، وأظهر عدم مبالاته بما يريدونه به من العزم على قتله، وقد بلغ النهاية من درجات التوكل والوثوق بالله عز وجل مبينا عدم خوفه منهم ومما أجمعوا عليه به، وصارحهم بأن مكرهم مهما كان فإنه لا يصل إليه لاعتماده على ربه «فَكَذَّبُوهُ» وقابلوا مبالغة نصحه لهم والتصلب
61
في دين الله بمبالغتهم بالعناد والتمرد والإصرار علي الكفر «فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ» من المؤمنين الذين ركبوا «فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ» جمع خليفة، أي أبقيناهم يخلفون الهالكين غرقا فيسكنون الأرض ويعمرونها بدلهم «وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» لإصرارهم على الكفر وأهلكناهم «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ٧٣» فإنها عاقبة مشئومة، وقد مرت القصة في الآية ٥٨ من الأعراف في ج ١، ولها صلة في الآية ٢٥ من سورة هود الآتية، وفي هذه الجملة إعلام بتهويل ما جرى عليهم وتحذير لمن يكذب الرسل وتسلية لحضرة الرسول محمد ﷺ بما يلاقيه من قومه، وتخويف لقومه بأنهم إذا لم يؤمنوا تكون عاقبتهم الهلاك مثل قوم نوح، إذ جرت عادة الله تعالى أن يوقع الهلاك بعد الإنذار، ومن أنذر فقد أعذر، والنظر قد يكون بالبصر وبالبصيرة، وعند الخاصة يكون بالبصيرة أكثر منه بالبصر، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ» أي نوح عليه السلام «رُسُلًا» كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام، وهؤلاء ما بين نوح وموسى عليهم السلام «إِلى قَوْمِهِمْ» كعاد وثمود وغيرهم ممن قصّ الله تعالى علينا ومن لم يقصّ «فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» الدالة على نبوتهم المثبتة لرسالتهم والحجج المبينة لصدقهم والبراهين الموجبة للإيمان بهم «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» بما أظهروه لهم من المعجزات الباهرات، ولم يتبعوا الشرع الذي جاءوهم به «بِما» بالذي أمرهم به رسلهم بلزوم اتباعه من أصول الدين وفروعه الذي «كَذَّبُوا بِهِ» أمثالهم «مِنْ قَبْلُ» مجيء الرسل إليهم بل أصروا على كفرهم وعنادهم، وجروا على نهج قوم نوح في اتخاذ التكذيب ذريعة، ولم يرتدعوا بما وقع على من قبلهم من العذاب، وكأنه لم يكن، إذ لم يغيروا حالتهم بعد بعثة الرسل، كأنه لم يبعث إليهم أحد وينذرهم عاقبة أمرهم، ويخوفهم سوء أعمالهم، ويزجرهم عن المنكرات، ويأمرهم بالمعروف «كَذلِكَ» مثل ما طبعنا على الباغين الأولين «نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ٧٤» المتجاوزين حدودنا، الخارجين عن طاعتنا، الباغين على عبادنا ورسلنا.
62
مطلب رسالة الأنبياء خاصة عدا نوح باعتبار آخرها ومحمد أولا وآخر:
وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل رسول أرسل إلى قومه خاصة، وإيذان بعموم رسالة محمد ﷺ وهذ متفق عليه في بداية كل نبي ونهايته فيما عدا نوح عليه السلام إذ اختلف العلماء في بعثته، هل هي لأهل الأرض عامة أو لصنع مخصوص، وينبني على هذا الخلاف الخلاف في أن الطوفان هل عم وجه الأرض كله أو بعضه؟
قال ابن عطية: الراجح الثاني المؤيد بكثير من الآيات والأحاديث، ولأن كثيرا من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الطوفان. هذا أصح ما قالوه في بداية رسالة نوح، أما نهايتها فهي عامة، إذ أجاب الله دعاءه بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية ٢٦ من سورة نوح الآتية، فالذي لم يهلك بالطوفان هلك بغيره إذ ثبت أنه لم يبق بعد الطوفان على وجه الأرض سوى من كان معه بالسفينة لعموم الآية المستشهد بها والآية المفسرة قبل وظاهر الآيات الأخر والأحاديث الواردة في هذا الشأن، وعلى هذا فالفرق بين رسالة محمد ورسالته عليهما الصلاة والسلام خصوص رسالة نوح ابتداه وعمومها انتهاء، وعموم رسالة محمد ابتداء وانتهاء، وان رسالة نوح مقصورة في زمنه، ورسالة محمد مستمرة إلى آخر الدوران، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية المذكورة من سورة نوح الآتية، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ»
أي الأنبياء المذكورين وغيرهم ممن لم يذكرهم الله في كتابه «مُوسى وَهارُونَ» صدر هذه الآية ينفي القول بعدم رسالة هرون عليه السلام، كما ذكر في التوراة الموجودة الآن، لأن صريح بعثة هرون كبعثة موسى، راجع الآية ٣٤ من القصص المارّة في ج ١، وهذه من جملة الآيات المحرفة بالتوراة وهي كثيرة، وسنبين منها كل ماله مناسبة ومساس في تفسير الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» أشراف قومه، ويندرج فيهم بقية قومه، لأنهم تبع لهم، ولذلك خصهم وسمى الملأ ملأ لأن رؤيتهم تملأ العين رواء والنفوس جلالا وبهاء إذ كانوا يمتازون على العامة باللباس والسكن والمأكل والمشرب والمركب وغيره، وهم أهل الحل والعقد في الملك وهم خاصة الملك ومرجع أمره، وعززناهما «بِآياتِنا» المعجزات المار ذكرها في الآية ١٣٣ فما بعدها
63
من سورة الأعراف في ج ١ «فَاسْتَكْبَرُوا» عن قبولها وتعاظموا على رسلنا وأعجبوا بأنفسهم فجحدوا صحتها وأصروا على كفرهم «وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ٧٥» في ذلك لاجترائهم على ردّ آيات الله تعالى وكفرهم بها «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا» وعرفوه حقا لا مناص لهم من إنكاره «قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ٧٦» ظاهر يعرفه كل أحد «قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» الصريح «لَمَّا جاءَكُمْ» من الحق «أَسِحْرٌ هذا» خاطبهم على سبيل الإنكار، أي كيف تقولون لهذا الحق سحر وهو حقيقة واقعة، وقد أدى عنادكم لهذا القول البذي الذي سمّيتم الحق به سحرا، ثم احتج على صحة قوله بأنه ليس بسحر بل حق محض بقوله «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» ٧٧ بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم، ولا ينجحون بمشروعهم، لأن السحر عبارة عن تمويه وتخييل غير دائم، فصاحبه مغلوب ومبهوت وخاسر في أمره غير ظاهر ببغيته. وإن ما جئتكم به سيكون له الفوز والغلبة عليكم بصورة واضحة دائمة، وما كان هذا شأنه فليس بسحر «قالُوا أَجِئْتَنا» الكلام فيه حذف أي بهذا السحر يا موسى أنت وأخوك «لِتَلْفِتَنا» تلوينا وتصرفنا بما عندك من السحر، وتلفتنا «عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» من الدين القديم المألوف، وتصرفنا إلى دين حديث لا نعرفه «وَتَكُونَ» بذلك «لَكُمَا الْكِبْرِياءُ» العظمة والسلطان علينا، وتطلق هذه الكلمة على الملك لأنه أكبر شيء يطلب في الدنيا ويرغب فيه «فِي الْأَرْضِ» منطقة مصر، لأن ملك فرعون لم يتجاوزها لما مر في الآية ٤٦ من سورة القصص في ج ١ مما حكاه الله على لسان شعيب عليه السلام الدالة على اقتصار ملك فرعون بأرض مصر لا يتخطاها لغيرها «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ٧٨» ولا مصدقين ما جئتمانا به وفيه تأكيد لإنكارهم السابق، وانما ثنوا الخطاب لموسى وأخيه مع أنه وحده الذي خاطبهم تعظيما لأمر الإعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى وإقناطه من إيمانهم به وبأخيه، وانما أفردوه بقولهم «لِتَلْفِتَنا» لأنه من خصائص صاحب الشريعة وهو موسى عليه السلام «وَقالَ فِرْعَوْنُ» وحده دون ملائه لأن الأمر له ومن خصائصه وما يهمه. أما الاستكبار المار ذكره ونحوه فهو مما يسند
64
إليه ولأشراف قومه «ائْتُونِي» أيها الشرطة وهم الحاشرون المار ذكرهم في الآية ٢٧ من سورة الشعراء المارة في ج ١ «بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ٧٩» ماهر في السحر أمر قومه بذلك ليعارض معجزات موسى بسحر سحرته ليبين لقومه لما رأى أن الشك غامرهم في صدق موسى أنّ ما جاء به هو سحر لا من عند الله، كما ذكر يقصد أضلالهم عن الإيمان به، فذهب الحاشرون وجمعوهم في الوقت
والمكان الذي اتفقا عليه كما مرت الإشارة إليه في سورة الشعراء وطه في الآيات ٣٧/ ٧٥ فما بعدها المارات في ج ١ «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ٨٠» تقدم سبب تقديمهم له في السورتين المذكورتين، وهو بإلهام من الله، لأن سحرهم لا يؤثر بعصا موسى لو ألقاها أولا بخلاف ما لو ألقاها بعدهم، لأنها تؤثر في سحرهم، ولولا هذا التقديم لقال الجهال، وكلهم إذ ذاك جهال ما غلب موسى السحرة فقط
«فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي المطلية بالزئبق والمحشوة به قبل طلوع الشمس حتى رآها الناس على حالها، ثم صاروا يدمدمون عليها حتى طرقتها حرارة الشمس، فصارت تتحرك كما مرت الإشارة إليه في تلك السورتين والآية ١٢٦ من الأعراف المارة في ج ١ أيضا، وبهذه الصورة موهوا على الناس بأنها انقلبت حيات وجبالا «قالَ مُوسى» مخاطبا للسحرة بعد أن ألقى عصاه، وصارت تلقف الزئبق المطلي بعصيّهم وحبالهم بقدرة الله تعالى الذي جعل فيها قوة جاذبة لذلك الزئبق كالمغناطيس في جذب الحديد «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» هو الشيء الباطل بعينه «إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ» ويفضحكم بمحقه بالكلية حتى يكون لا أثر ولا عين بالحق الذي آتانيه ربي قطعا لمادة الفساد «إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ٨١» لا يحسنه ولا يقوّيه ولا يثبته ولا يؤيده وقدمنا في الآية ٥٢ من سورة الشعراء ما يتعلق بالسحر فراجعه «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ» يثبته ويقوّيه ويجعله ما حقا للباطل ومرهقا لأهله، ويظهره «بِكَلِماتِهِ» التي وعد بها أنبياء بالنصر وإعلاء الكلمة «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ٨٢» ذلك، فإنه يوقعه فيهم ويوجبه عليهم قال تعالى «فَما آمَنَ لِمُوسى» بعد ظهور هذه المعجزات الواضحة على يده وخيبة ما أمله فرعون من سحرته الذين آمنوا بموسى لما عرفوا
65
الحق «إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ» بني إسرائيل، لأن آباءهم بقوا مع فرعون، فلم يجيبوا دعوته خوفا منه، وفي هذا تعريض لحضرة الرسول محمد ﷺ حيث لحقه الحزن والأسف على عدم إيمان قومه، أي فما يحزنك يا حبيبي إذا لم يؤمن قومك كلهم، وما هذا الاغتمام بشأنهم، أليس لك أسوة بمن قبلك من الأنبياء وخاصة موسى وقومه، وما قيل إن ضمير قومه يعود إلى فرعون بعيد عن الصحة، إذ لم يؤمن من قومه إلا امرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطة بنته ومؤمن آل فرعون، وهؤلاء لا يسمون ذرّية لأن الذرية الطائفة وأولاد العشيرة، ولا وجه للاحتجاج بمن دخل من أبناء فارس إلى اليمن ولقبوا بالأبناء، لأن أولئك أمهاتهم من غير جنس آبائهم، ويريد صاحب هذا القول أن آباء الذرية المذكورة كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، أي وكانوا يتبعون أمهاتهم بالإيمان كأولاد الفرس المذكورين، بل عائد إلى موسى بدليل قوله «أَنْ يَفْتِنَهُمْ» يعذبهم ليصدهم عن الإيمان وبصرفهم عن الهوى، ولم يقل أن يفتنوهم، لأنه هو وحده الفاتن لهم، ولأن قومه كانوا تابعين له ويرغبون مراده، وهذا لا يمنع أن تكون الذرية الحاصلة من أب قبطي وأم إسرائيلية، أو بالعكس، أن يدخلوا في هذه الذرية المؤمنة، لأن الهدى هدى الله يهدي به من يشاء. وما قيل إن الضمير في ملائهم راجع إلى فرعون على سبيل التعظيم كما هو العادة في ضمائر العظمة، مردود، لأن ذلك خاص بضمير المتكلم، مثل نحن والمخاطب كما في قوله «رَبِّ ارْجِعُونِ» الآية ٩٩ من سورة المؤمنون الآتية، وقوله إلا فارحمون يا آل محمد، ولم ينقل أن ذلك يكون في ضمير الغائب كما هنا، وما قيل إنه جمع الضمير باعتبار عوده إلى فرعون وآله مردود أيضا، لأن هذا يكون في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم، وفرعون ليس كذلك، قال تعالى «وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ» في مصر خاصة وهكذا كلما جاءت هذه اللفظة فلا تنصرف إلى غيرها كما مر أي أنه غالب عليها وقاهر أهلها متكبر جبار «وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ٨٣» المتجاوزين حدود الله المبالغين في الظلم لأنه كان عبدا فادعى الربوبية وكان كثير القتل والتعذيب للناس
66
«وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» إيمانا خالصا «فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا» وامضوا معي ولا تخافوا من فرعون فإن الله عاصمكم منه وثقوا بكلامي فان الله تعالى ناصري عليه ومهلكه وقومه فاستسلموا لأمر الله «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ٨٤» له منقادين لأمره تابعين لإرادته فاذا كنتم موصوفين بالإيمان المحض القلبي المذكور في هذه الآية وبالإسلام الظاهري الذي هو مطلق الإذعان المذكور فيها، فامتثلوا قولي وهذا هو كمال الإيمان، لأن من يؤمن بالله إيمانا حقيقيا لا يتوكل على غيره «فَقالُوا» مجيبين له «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» لا على غيره، ثم ابتهلوا إلى ربهم فقالوا «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً» محلا لها بأن تسلطهم علينا فيصرفونا عن دينتا أو يعذبونا فيردونا قسرا عنه فيقول فرعون لو كانوا على الحق لما سلط عليهم، ولم يصابوا بعذابه، فيظنوا أنهم
خير منا فيتعنّتوا بذلك، ويزدادوا كفرا وطغيانا فتكون مسخرين «لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥» المتمادين في الظلم ولا تهلكنا بذنوبنا أو ذنوبهم «وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ٨٦» ومن قبح جوارهم وسوء صنيعهم بعد أن تخلصنا من ظلمهم وبغيهم ولهذا عبر عنهم بالكفر بعد الظلم ووضع المظهر موضع المضمر أي القوم الكافرين بدل منهم هذا ولا جرم أن الله تعالى أجاب دعاهم، وقبل توكلهم، فنجاهم مما يخافون وأهلك عدوهم، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن تستجاب دعوته فليخلص لربه ويرفض ما سواء ويحسن ظنه به، فإنه عند حسن ظن عبده به قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا» اتخذا واجعلا «لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً» للصلاة يرجعون إليها بعبادتهم لإقامة شعائر الدين فيها «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» تستقبلونها في صلاتكم وكلوا أي الأنبياء، عليهم السلام في ذلك الزمن يستقبلون الكعبة، كما روى عن ابن عباس قال قال بنو إسرائيل لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأن يجعلوها قبل القبلة، لأن موسى وهارون كانوا يستقبلونها لكونها قبلة أبيهم إبراهيم عليهم السلام، وكانوا يصلون خفية لئلا يؤذيهم كفرة القبط، كما كان محمد وأصحابه في بداية الإسلام، فإنهم كانوا يخفون صلاتهم وعبادتهم خشية اذية قريش
67
لهم وقد عمم الله هذا الخطاب، لأن العبادة عامة وواجبة على العامة، وخصص أوله بموسى وأخيه لأن الأمر باتخاذ بيوت العبادة من خصائص الأنبياء لأنهم هم المشرعون لغيرهم، وقيل المراد من قوله «قِبْلَةً» أي اجعلوها متقابلة وليس بشيء على أن ظاهر القرآن لا يدل على المعنى المراد في هذه اللفظة لأن اليهود تستقبل صخرة بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس، ولا يبعد أن تشمل هذه اللفظة الأمر بأن يجعلوا بيوتهم قبلة لرّوادها من الضيفان والزوّار وجعلها مأوى لكل فقير ومسكين ومقطوع يستقبلون فيها العاني وذا الحاجة وغيرهم، لأن هذا من جملة ما حث عليه الشارع ومن مكارم الأخلاق والله أعلم «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» في تلك البيوت على المعنى الجاري في التفسير «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ٨٧» بك يا موسى فإنه لا يصيبهم أذى الكفرة ولا ينالهم مكروه منهم «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا» من كل ما يتزين به الناس من اللباس والحلي والمراكب والمساكن ونحوها «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» الناس ويميلوهم عن طاعتك ويصرفوهم عن هداك، وكرر لفظ ربنا للالحاح في التضرع، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء واللام في ليضلوا مثل اللام في قوله تعالى «لِيَزْدادُوا إِثْماً» الآية ٧٨ من آل عمران في ج ٣ في اللفظ والمعنى وهذه حجة على المعتزلة لأنهم لا ينسبون ما لا يليق فعله إلى الخالق، والله تعالى يقول ليضلوا وليزدادوا، إذ لا يكون شيء خيرا كان أو شرا إلا بإرادته وقضائه وقدره، راجع الآية ٥٩ المارة من هذه السورة. واعلم بأن هذه اللام للتعليل مجازا لا حقيقة، لأن الله تعالى آتاهم ما آتاهم ليؤمنوا به ويشكروه فتوسلوا بها إلى البغي والطغيان، وتوصلوا بها إلى الكفر والخسران، فاشبهت حالهم حال من أعطى المال لأجل الإضلال فورد الكلام بلفظ التعليل بناء على هذه المشابهة وقال بعض المفسرين إن اللام هذه للعاقبة أي تكون عاقبة أمرهم الإضلال عن الحق.
وقيل في هذا المعنى:
وأموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أي أن عاقبة المال والدور تكون كذلك.
68
مطلب معنى الطمس وعدد الآيات وأن الأنبياء لم يدعوا على أممهم إلا بعد اليأس منهم:
ثم أنه لما رأى موسى عليه السلام إصرارهم على الكفر ولم ينجع فيهم نصحه، ولم يتيقظوا لصبر الله عليهم، ولم يؤثر فيهم ما أظهره لهم من المعجزات على يد رسولهم، ركن إلى الدعاء عليهم بعد أن أيس منهم، فقال «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أهلكها وأذهب آثارها وامحقها لأنهم يستعينون بها على معصيتك والطمس المحو وإزالة الأثر للشيء، قال قتادة بلغنا أن زروعهم وأموالهم وجواهرهم صارت حجارة. وقال ابن عباس، إن دراهمهم ودنانيرهم صارت حجارة منقوش عليها نقشها كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا. وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة وهي حجارة، والجوزة مشقوقة وهي حجارة راجع الآية ١٠١ من الإسراء في ج ١ والأولى أن يراد بهذا الطمس إتلافها وذهاب منافعها وهو أولى، والله أعلم، لتدخل في جملة الآيات التسع المشار إليها في الآية المذكورة من سورة الإسراء، إذ لا يتجه عدها منها على رأي بعضهم بالمعنى الأول، أي قلبها حجارة مع بقاء وصفها، هذا وقدمنا في الآية ١٤٣ من الأعراف في ج ١ ما يتعلق بهذا فراجعها يتبين لك أن هذه ليست من الآيات التسع، وأن الآيات تسع عشرة، منها ما هو خاص بموسى، ومنها ما هو خاص بالقبط، ومنها ما هو خاص ببني إسرائيل قبل خروجهم من مصر وبعد خروجهم، وما قيل إن صورهم صارت حجارة لا وجه له، لأنه عليه السلام دعا على أموالهم لا عليهم، وكان عذاب القبط بالغرق لا بالمسخ. واعلم أن النبي لا يدعو على قومه ما زال يأمل إيمانهم، ولم يدع عليهم إلا بإشارة من الله تعالى، وأول من دعا على قومه نوح عليه السلام، وذلك بعد أن أوحى إليه ربه بقوله جل قوله (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) الآية ٣٦ من سورة هود الآتية، فراجعها تعلم منها أنه يئس من إيمانهم فدعا عليهم، وهكذا موسى وغيره ومن قبله وبعده لأنهم أشفق على أمتهم من الأب على ولده، ولذا قال ﷺ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون حينما تعدوا عليه وآذوه
69
«وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» اربطها وقسّها حتى لا تلين للإيمان ولا تنشرح له، وهذه الجرأة من سيدنا موسى بعد أن أيّسه الله من إيمانهم، وإنما قال ما قال لعلمه أن الله تعالى وتعظم يفعل ذلك لمن يشاء، ويحكم به لمن يريد، ثم علل قساوته هذه بقوله «فَلا يُؤْمِنُوا» وهم على حالتهم هذه من الرفاه والصحة، وسيضلون متمادين في الضلال «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ٨٨» وكان ذلك، فإنهم لم يؤمنوا حى داهمهم الغرق، فكان إيمانهم إيمان يأس حالة يأس، فلا يقبل ممن آمن منهم أو من غيرهم في هاتين الحالتين، قال في بدء الأمالي:
وما إيمان يأس حال بأس بمقبول لفقد الامتثال
فظهر أن دعاء موسى هذا بهذه الشدّة موافق لقضاء الله تعالى وقدره عليهم في الأزل، وقد ألهمه الله إياه، ولما كان هارون عليه السلام يؤمن على دعاء موسى خاطبهما بقوله عز قوله «قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» لأن التأمين دعاءه، ومنه يعلم أن دعاء الإمام دعاء للمأموم، وقراءته قراءة له أيضا. واعلم أن معى آمين اللهم استجب فحال الله تعالى بين فرعون وقومه، وبين الإيمان حتى أدركهم الغرق، إجابة لدعائهما الموافق لما هو في علم الله، لأن الناس جارون على تطبيق ما هو كائن في الأزل، وما هم إلا مظاهر له «فَاسْتَقِيما» على ما أنتما عليه واثبتا على الدعوة وامضيا لأمركما ولا تستعجلا في إجابة دعوتكما، فإنها مجابة لا محالة، ولكن بوقتها المحتوم الذي لا يتبدل. قالوا وكان بين الدعوة والإجابة أربعون سنة، ومن هنا قيل أن أقل صبر الله على الظالم أربعون سنة، على أنه قد يجيب الدعاء حالا في بعض الأحيان، وهو لا يسأل عما يفعل من تقديم الإجابة وتأخيرها «وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ٨٩» حكمة إمهالنا لمن عصانا وانجاز وعدنا لمن دعانا، وهذا النهي لا يدل على صدور النهي عنه من موسى وهرون، كما أن قوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية ٦٥ من سورة المؤمن الآتية لا يدل على صدور الشرك من محمد ﷺ لأنه مستحيل عليه بل مجرد تأكيد امر الوعيد، وقد كثر أن ينهى الشخص عما يستحيل وقوعه منه زجرا للغير، والإفادة بأن في تأخير الدعاء حكما إلهية وتعليما للأمة بعدم طلبهم
70
الاستعجال بإجابة الدعاء، وإيذانا بأن الجهلة لا يعرفون عادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح. وليعلم أن كل دعاء لا بدّ أن يجيبه الله تعالى في الدنيا أو أن يدفع عنه ما يقابله من البلاء، أو أن ما لم يعطه له في الدنيا يعطه له في الآخرة، فأكثروا أيها الناس من الدعاء وألحوا به على ربكم، فإنه يحب الملحين فيه بخلاف البشر منكم، وفيه قيل:
لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
قال تعالى «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» أي عبرناهم إياه حتى قطعوه «فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ» لحقوهم ليدركوهم ويردوهم إلى مصر ليسترقوهم ويقتلوا من شاءوا منهم «بَغْياً» وتطاولا عليهم بالقول «وَعَدْواً» عدوانا وظلما وطغيانا عليهم بالفعل، فلما تراءى الجمعان قبل دخولهم البحر قالوا لموسى ابن المخلص والبحر أمامنا وفرعون وراءنا، وكان موسى أخرجهم بأمر الله تعالى وتوجه بهم نحو البحر بأمره، ولا يعلم ماذا يفعل بعد ذلك، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه حالا، فانفلق وظهرت أرضه يابسة كأنها لم تنحسر عن ماء فأمرهم بدخوله فدخلوه، فاتبعهم فرعون وجنوده وصار الطرفان فيه بنو إسرائيل بآخره وفرعون وقومه بأوله، فخرج بنو إسرائيل عن آخرهم، وتوسط فرعون وقومه كلهم البحر، فأطبق عليهم والتطم بأمواجه فوقهم جميعهم، قال تعالى حاكبا حالة فرعون حين رأى ذلك «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٩٠» المنقادين لأمره، قال هذا ظنا منه أنه ينجيه من الهلاك ليعود لكفره كما كان يقول لموسى عند نزول كل آية كما هو مبين في الآية المارة من سورة الأعراف في ج ١، ولم يعلم بانقضاء إمهال الله إياه، وان إمهاله ذلك لم يكن إهمالا، وإنما ليوافي الوقت المقدر لإهلاكه الذي لا يتقدم ولا يتأخر، ولئلا تبقى له معذرة يعتذر بها أو حجة يحتج بها، وقد أجمعت العلماء على أن الإيمان مهما كان خالصا، والتوبة من المعاصي مهما كانت نصوحا، لا يقبلان حال اليأس، لصراحة قوله تعالى
71
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) الآية من آخر سورة المؤمن الآتية، وتقدم ما يتعلق في هذا البحث في الآية ١٣٧ من سورة الشعراء المارة ج ١، وله صلة في آخر سورة المؤمن المذكورة، وفي الآيتين ١٦/ ١٧ من سورة النساء في ج ٣.
واعلم أن قول فرعون لا يدل على الإخلاص بل يقيد التشكيك، لأنه لم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو، ولم يقل كما قالت السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) الآية ١٢٠ من سورة الأعراف المارة في ج ١، وأن قوله (آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) هذا دليل على عدم اعتقاده صحته، لأنه كان دهريّا ينكر الصانع الأعظم، ولذلك ادعى الربوبية على قومه الذين يعبدون الأوثان، فلم تنفعه توبته ولا إيمانه، لأنه لم يجنح إليها إلا بعد انفلاق بابهما بحضور الموت بصورة لم يبق معها له أمل بالنجاة منه، ولو أراد الله لوفقه لهما عند رؤية معجزة انفلاق البحر، إذ كان في الوقت فسحة ولكن من يرد الله خذلانه فلا هادي له.
مطلب الحكمة في عدم قبول إيمان اليائس وإخراج جثة فرعون ومعجزة القرآن:
قال تعالى «آلْآنَ» تركن إلى الإيمان وقد ضيعت وقته، لا لا سبيل لك إليه «وَقَدْ عَصَيْتَ» ربك وبغيت وتطاولت بادعائك الألوهية «قَبْلُ» هذا الوقت وقد دعيت للإيمان سنين كثيرة ولم تجب دعوة رسولنا، ولم ترجع إلينا، أما الآن وقد اضطررت في وقت اليأس من الحياة فلا سبيل لإجابة طلبك الإيمان لإعراضك عنه في وقته «وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١» في أرض الله وعباده وبلاده، وأهنت رسلي وتجبرت على عبادي. والحكمة في عدم قبول إيمان اليائس هو أن الناس إذا صاروا في تلك الحالة يضطرون إلى الإيمان ليخلصوا من العذاب، فلو قبل منهم لآمن كل أتباع الرسل المتقدمين، ولما أهلك الله منهم أحدا فتتعطل الحكمة المرادة من تعذيب الكافر وتنعيم المؤمن، لأنه إذا قبل إيمان الكافر عند آخر رمق من حياته يتساوى مع المؤمن بنعيم الجنة، وهذا مخالف لإرادة الله ووعده ووعيده، ولهذا اقتضت إرادته الأزلية بعدم الانتفاع بإيمان اليائس، وعند نزول العذاب الذي لا محيد عنه لتحصل ثمرة التفاوت بين المؤمن والكافر، وكذلك
72
لا تقبل التوبة في الآخرة مطلقا لأنها من قبيل العمل المقرب إلى الله، ولا عمل في الآخرة وإلا لآمن كل كافر وتاب كل عاص، ولانتفت الحكمة من خلق النار والعذاب. قال تعالى «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» فنلقيك على نجوة من الأرض، والنجوة المكان المرتفع، فألقي على الساحل كأنه ثور، وإنما قال ببدنك أي جسمك كاملا لم ينقص منه، شيء ليراك ويعرفك من كنت تتأله عليه، وأنت جسد بلا روح، وقيل ببدنك بدرعك المعروف عند قومك، وكان من ذهب مرصع بالجواهر ومن هنا يقول أهالي دير الزور للجية الثمينة بدن وهي لم تكرر في القرآن، ويفهم من هذا أنه كان لا تطوف العروس التي كانوا يطرحونها في النيل لأجل فيضانه «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» أي إنما قذفناك ببدنك الذي كنت تعرف به لتكون علامة لمن وراءك، لأنهم كانوا لا يصدقون أن فرعون يموت، إذ مر عليه أربعمائة سنة في الملك لم تصبه شوكة، فلما رأوه جئة هامدة منتنة صدقوا أنه عبد مثلهم ليس بإله، فيعتبرون عند ما يرونه في غاية الخسّة بعد أن كانوا يرونه في نهاية العظمة، وقال بعض المفسرين تكون آية لمن يأتي بعدك من القرون المستقبلة، وعليه يتجه القول الآن بأن هذا من الإخبار بالغيب، إذ عثر على قبره في مصر سنة ١٣٧ وحفظ في متحف مصر حتى الآن، وتكون معجزة عظيمة من معجزات القرآن العظيم، إذ أن التوراة تذكر موته غرقا ولم تذكر جثته، والإنجيل لم يأت بشيء عن ذلك، وظل الذين لا يصدقون بالقرآن ينكرون خروج جثته الثابت بصراحة حتى تاريخ إخراجها، فظهر أمر الله وخذل الجاحدون وأسلم من الأمريكان إذ ذاك ما ينوف عن تسعين رجلا في شهر اكتشافه، وربما أسلم خلق كثير بعده عند ظهور كوامن هذا القرآن الجليل الحاوي على ما في الدنيا والآخرة من وقائع وأقوال وأعمال «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا» هذه وأضرابها مما كان وسيكون «لَغافِلُونَ ٩٢» عنها تلئهون مائلون عن التعرض إليها زائغون عن منهج الحقائق. روي أن جبريل عليه السلام قال لفرعون وهو بصورة رجل من قومه ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفرها وجحد حقه وادعى السيادة عليه دونه؟ فكتب له الجواب. يقول أبو العباس
73
الوليد بن مصعب الريان: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمائه أن يغرق في البحر. قال فلما الجملة الغرق ناوله جبريل فتواه بخطه فعرفه وقال ما قال.
ولا بعد في هذا لأن الله أرسل إلى داود من استفتاه بشأن المرأة التي أخذها كما مرّ في الآية ٢٤ من سورة ص في ج ١، فحكم على نفسه بنفسه وهو نبي مرسل فلأن يرسل إلى هذا الخبيث لتحق عليه الكلمة بفعله القبيح من باب أولى.
وروي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال لما أغرق الله فرعون قال (آمَنْتُ) إلخ قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حبال البحر فأذسه في فيه مخافة أن تتداركه الرحمة- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن-. وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ذكر أحدهما عن النبي ﷺ أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله، أو خشية أن يرحمه الله- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح-. وبما أن هذا الحديث مشكل في ظاهره فيحتاج إلى إيضاح في صحته ومعناه، أما صحته فقد ورد من طريقين مختلفين عن ابن عباس، الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو شيخ نبيل صالح صادق، ولكنه كان سيء الحفظ ويغلط، ولهذا ضعفه يحيى بن معين وغيره، والحديث الثاني إنما يضعف إذا لم يتابع عليه أو إذا خالفه الثقات، وكلا هذين الأمرين منتف فيه لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير، وهو إسناد على شرط البخاري، ورواه أيضا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، وعطاء ثقة قد أخرج له مسلم وما تكلم في عطاء من قبل اختلاطه انما يخاف منه إذا انفرد به أو خولف فيه، وكلاهما منتف أيضا، فعلم أن هذا الحديث له أصل ثابت وأن رواته ثقات (وليس في قول ذكر أحدهما عن النبي ﷺ شك في رفعه) وإنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه، وشك شعبة في تعيينه بأنه هل هو عطاء أو عدي، وبما أن كلا منهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك الآخر في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث، وكلمة حبال البحر في الأول وطينه في الثاني لا تكون مباينة، لأن حبال البحر طينه، فالمعنى في الروايتين واحد، فلا يصح الاعتراض عليه بعد
74
أن ثبت عنه ﷺ بالوجه المار ذكره. أما صحة معناه فلا غبار عليها، لأن أهل السنة المثبتين القدر القائلين بخلق الأفعال لله تعالى وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه يحول بين المرء وقلبه كما في الآية ٢٤ من سورة الأنفال في ج ٣، فهو تعالى يحول بين الكافر والإيمان بدليل هذه الرواية، وقوله تعالى أيضا:
(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) الآية ١٥٥ من سورة النساء في ج ٣، وقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية ١١١ من سورة الأنعام الآتية، وقوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الآية ١٠١ من الأعراف المارة في ج ١، وهكذا فعل جل شأنه بفرعون إذ منعه عن الإيمان جزاء تركه إياه، ودس الطين في فمه من قبل جبريل عليه السلام من جنس الطبع والختم على القلب، ففعله هذا مع فرعون عليه اللعنة من هذا القبل، ولم يكن إلا بإرادة الله الملك الجليل، وغاية ما فيه أن يقال إن الله منع فرعون من الإيمان عقوبة على كفره السابق، وما قيل إنه لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل كان عليه أن يعينه عليها، هو قيل قد يكون سديدا إذا كان جبريل مكلفا مثلنا يجب عليه ما يجب علينا، أما إذا كان ليس كذلك وإنما يفعل ما أمره الله به وهو الذي منع فرعون من الإيمان، وإنما جبريل منفذ لأمره ليس إلا، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله وكيف يجب عليه اعانة من لم يعنه الله، وقد أخبر عنه بأنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، وقد قضت حكمته أن لا يقبل الإيمان في مثل حالة فرعون، ولما كان في أفعال الله تعالى قولان أحدهما أنها لا تعلل وأن تعليلها محال، فعلى هذا لا يرد شيء من هذا أصلا، ولم يبق إشكال في معنى الحديث، والقول الثاني أن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح، فعلها لأجلها، وكذا أوامره ونواهيه، لها غاية محمودة لأجلها أمر بها، ونهى عنها، وعلى هذا يقال لما قال فرعون (آمَنْتُ) إلخ، وقد علم جبريل بإعلام الله إياه أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب، وأن الوقت المقبول فيه الإيمان نفد، وأن إيمانه في غير الوقت المحدد له لا ينفعه، دسّ الطين في فيه لتعجيل ما قد قضى عليه، وسد الباب عنه سدا محكما بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ، ولا يبقى من
75
عمره متسع للإيمان المقبول، فيكون عمل جبريل تكميل لما سبق في حكم الله عليه وتنفيذ لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون، وهو سعي في مرضاة الله، وما قيل إن في منعه من التوبة كفرا لأنه رضي ببقائه على الكفر والرضاء بالكفر كفر لا وجه له لما قدمنا من الإضلال والهدى بمشيئة الله تعالى، وجبريل إنما يتصرف بأمر الله وقد فعل ما أمر به والرضاء بالأمر غير الرضاء بالمأمور فأي كفر يكون هذا؟
على أن الرضاء بالكفر إنما يكون كفرا بحقنا لأننا مأمورين بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفرا بحقنا مخالفتنا ما أمرنا به، وإن من ليس بمأمور كأمرنا، ولا مكلفا تكليفنا، بل يفعل ما يأمره سيده ربه كالملائكة، فإنه إذا نفذ ما أمره به ربه لم يكن راضيا بالكفر ولا يكون كفرا بحقه، وما قيل كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بمنع فرعون من الإيمان فقول سخيف لأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل، فإذا علم هذا ويقول كيف فهو سخيف، وإذا لم يعلم فهو جاهل جهلا مركبا، هذا وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ قال لي جبريل عليه السلام ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى مثل ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد، وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتعصم بكلمة الإخلاص فينجو، فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال (آلْآنَ) إلخ، قال تعالى «وَلَقَدْ بَوَّأْنا» وطنّا وأنزلنا «بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ» منزلا محمودا صالحا مرضيا وصفه بالصدق، لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق فتقول رجل صدق وقدم صدق، راجع الآية الثانية من هذه السورة، وذلك أن الشيء إذا كان كاملا لا بد وأن يصدق الظن به، وهذا المكان هو مصر والشام والقدس والأردن، وهي بلاد الخصب والبركة، ومن أحسن بقاع الأرض وأخيرها نتاجا، فالكامل فيها لا يضاهيه كامل في غيرها، ولهذا كانت مهبط الأنبياء ومهاجرهم ومدافنهم فيها، وناهيك به شرف «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» اللذائذ الحلال من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن ومركوب «فَمَا اخْتَلَفُوا»
76
في أمر دينهم، بل ثابروا عليه وتمسكوا به «حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بالوقوف على إلهام التوراة فاختلفوا بتأويلها زمن نزولها كما اختلفوا أخيرا في نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فمنهم من آمن بهما ومنهم من كفر، لذلك يقول الله تعالى لنبيه ﷺ «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٩٣» من الحق وإذ ذاك يميز بين المحق والمبطل، ويجزى كلا بما بستحقه، فيدخل من آمن وصدق الجنة، ومن كفر وجحد النار.
مطلب معنى الشك المخاطب به محمد ﷺ ومعنى الصدق والأراضي المباركة والآيات المدنيات:
«فَإِنْ كُنْتَ» يا سيد الرسل «فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» في هذا القرآن على سبيل الفرض والتقدير، لأن الشك في ذلك لا يتصور منه وقوعه لا نكشاف الغطاء له صلى الله عليه وسلم، ولذا عبّر بان التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) الآية ٨٢ من سورة الزخرف الآتية، وقوله تعالى (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) الآية ٢٦ من سورة الانعام الآتية ولم يعبّر في هذه الآيات بإذا لأنها تفيد الجزم بوقوع الشرط بعدها، وصدق القضية الشرطية لا يتوقف على وقوعها، أي إن كنت في شك مما قصصناه عليك من قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» وهم الأخبار والعلماء والربانيون العارفون بالتوراة والإنجيل والزبور، فإنه محقق عندهم لا مرية فيه لأنها مدونة في كتبهم بعضا باللفظ وبعضا بالمعنى وأخرى بالإشارة وطورا بالعبارة وتارة بالرمز ومرة بالامارة، وخص هذا السؤال بالقصص لأن الأحكام القرآنية قد تخالف ما عند أهل الكتاب، لانها ناسخة لكثير منها ومغايرة لها، إذ جاءت موافقة لعصره ﷺ فما بعده إلى يوم القيامة، بخلاف الأحكام الموجودة في كتبهم، إذ لم تكن صالحة لذلك، والشك لغة خلاف اليقين وهو اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة، وهو ضرب من الجهل وأخص منه،
77
فكل شك جهل وليس كل جهل شكا، فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه، وظاهر هذا الخطاب لسيد المخاطبين محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد به غيره على حد قوله تعالى (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) الآية ٨١ من سورة القصص المارة في ج ١ ومثلها الآية ٦٥ من سورة الزمر الآتية وما يشابهما من الآيات، لأنه ﷺ لا يصده صاد عن آيات ربه، فثبت أن المراد غيره بمعنى إياك أعني واسمعي بإجارة، فيكون المعنى قل أيها الإنسان إن كنت في شك مما أنزل علي فاسأل أهل الكتاب يخبرونك بصدقه، يدل على هذا قوله تعالى آخر هذه السورة (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فلا يقال والعياذ بالله تعالى أن الرسول شاكّ في نبوته أو فيما أنزل عليه، حاشا ثم حاشا، لأنه يوجب سقوط الشريعة معاذ الله، ولكان غيره بالشك أولى وهو لا يجوز البتة، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة لم يشك النبي ﷺ قط ولم يسأل، إذ قال لا أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، فاحذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين من ذكر الشك والصاقه بحضرة الرسول بداعي أنه من البشر، فإنه لا يجوز أصلا، نعم إنه بشر ولكنه قال مرارا إني لست كأحدكم، وعبر قول الناظم:
محمد بشر وليس كالبشر بل هو جوهرة والناس كالحجر
وفي هذه الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في أمر دينه فليراجع من يزيلها عنه من أهل العلم وليسارع إلى ذلك، قال تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية ٤٤ من سورة النحل الآتية ولا يعتمد على علمه، فكم زل عالم، وليعلم أن الاعتماد على النفس غرور وخيلاء وليتأمل قوله تعالى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية ٧٦ من سورة يوسف الآتية ليدفع عن قلبه ما طرأ له بالبرهان من قوانين الدين وأدلته ومباحث العلماء العارفين فيه، وبما أن هذه الآية مدنية والآيتين اللتين بعدها كذلك، فإن المراد بالذين يقرأون الكتاب والله أعلم هم عبد الله بن سلام وأصحابه الموثوق بأخبارهم، ولا يخفى أن منطوق الآية عام شامل لمؤمنهم وكافرهم، لأن القصد في هذا الإخبار بصحة هذه القصص، والإخبار
78
بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهما مدوننان في كتبهم وموضح فيها بعض تلك القصص ونعت حضرة الرسول، ومهما بالغوا في الكذب والإنكار لا يستطيعون جحدها خشية تكذيبهم أمام قومهم، وهم عرب يتحاشون عنه، إلا أنهم يبالغون في كتمها مهما أمكن. هذا وقال بعض المفسرين إن الخطاب في الآية لحضرة الرسول يشمل كافة الخلق على حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الآية الأولى من سورة الطلاق في ج ٣ وهو حسن، لكن فيه بعدا لأنه متى قيل إنه داخل في هذا الخطاب كان الاعتراض بما قدمناه موجودا والسؤال عنه واردا، وقال بعضهم أن (إن) في الآية نافية والمعنى ما أنت في شك حتى تسأل، فلا تسأل، ولئن سألت لازددت يقينا، ولكنه خلاف الظاهر، وقيل إن الشك هنا بمعنى الضيق، أي إن ضقت ذرعا من أذى قومك فاسأل إلخ الآية، وليس بشيء، لكونه خلاف الظاهر أيضا، وقيل إن الخطاب ليس له أصلا، لأن الناس كانوا في زمنه ثلاث فرق: مصدقون وهم المؤمنون، ومكذبون وهم الكافرون، وشاكون وهم المترددون، فخاطبهم الله تعالى بقوله فإن كنت أيها الإنسان في شك من الهدى الذي أنزلناه على نبينا ومما أخبر به من القصص، فاسأل أهل الكتاب يدلوك على صحته، وإنما وحد الضمير وهو يريد الجمع، لأن الخطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية ٧ من سورة الانفطار وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية ٧ من سورة الانشقاق الآتيتين، فإنه تعالى لم يرد فيها إنسانا بعينه بل أراد الجمع وهو وجيه، والله أعلم. «لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» في هذه الآيات الواضحة والبراهين القاطعة فهو الحق لا ريب فيه «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ٩٤» في شيء منه فتتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين، بل دم على جزمك الذي أنت عليه من قبل ولا تلتفت إلى ما ينقولون، والافتراء هو التشكك والتردد وهو أخف من التكذيب، ولذا عقبه بقوله «وَلا تَكُونَنَّ» أيها الإنسان «مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» فأنساهم الله ذكره وخسروا الدنيا والآخرة «فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ ٩٥» مثلهم نفسا وعملا، والتعبير بالخاسرين أظهر من التعبير بالكافرين،
79
والفائدة من النهي في الموضعين التهييج والإلهاب وزيادة التثبت والإعلام بأن الافتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما، فكيف بمن يمكن اتصافه بهما، وفي هذه الآية قطع لأطماع الكفرة.
وهاتان الآيتان على حد قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما سيأتي في الآية ١٠٤ من هذه السورة، وما قدمناه في الآية ١٧ من سورة القصص المارة فهي من جملة الخطابات المراد بها غيره صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم من الشك والمرية والتكذيب، كما ثبت لك مما تقدم وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن العظيم، وأحسن الأقوال في تفسيرها ما ذكرناه لك في تفسير هذه الآية، فتمسك بها واحذر أن تكون ممن يشملهم قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ»
بالعذاب الداخلين في قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية ١٢٠ من سورة هود الآتية المحكوم عليهم بذلك بمقتضى قضائه الأزلي وقدره السابق في علمه المسجل في لوحه المحفوظ «لا يُؤْمِنُونَ» البتة إذ لا يمكن نقض قضاء أبرمه وتخلف إرادة قضاها، وهكذا كل من قطع الله بعدم إيمانه لا يؤمن مهما جاءه من الرسل والكتب ومهما أظهر له من الآيات والمعجزات بدليل قوله تعالى «وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ» من آيات الرسل الأقدمين وغيرها، لأنهم لا ينتفعون بها ولا يتدبرون حكمها ولا يعقلون معناها لصرفهم جوارحهم إلى غير ما خلقت لها، لذلك قطع الأمر بموتهم كفارا وتخليدهم بالنار، لأنهم مثل فرعون لا يؤمنون «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ٩٦» الذي لا آلم منه ولا مرد له ولا نجاة منه، وإذا آمنوا حينذاك لا ينفعهم إيمانهم للإتيان به في غير محله كما مرّ تفصيله في الآية ٩٠ آنفا وهذه آخر الآيات المدنيات، قال تعالى «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ» أي أهلها من اطلاق المحل وإرادة الحال فيه، كما تقول سال الوادي، وجرت الساقية، وهذا كثير في القرآن أيضا وهو من محسنات الكلام. «آمَنَتْ» عند معاينة العذاب «فَنَفَعَها إِيمانُها» حال اليأس، ولا يرد على هذا عدم قبول إيمان فرعون، لأنه لم يفارقه النبي الذي أرسل لإرشاده حتى أدركه الغرق، أما هؤلاء فإن نبيهم بعد أن أنذرهم بنزول العذاب تركهم كما سيأتي في القصة.
80
مطلب في المشيئة والاستثناء وقصة يونس عليه السلام:
وقد سبق في علم الله تعالى صدق نيتهم في توبتهم قبل إحاطة العذاب فيهم، كما سنوضحه لك قريبا، بخلاف فرعون لأنه في تلك الحالة الرهيبة لم يزل شاكا كما تقدم في الآية ٩٠ المارة حتى مات «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» استثناء متصل، لأن الجملة في معنى النفي، أي ما آمنت قرية من القرى الهالكة فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا نفعهم إيمانهم، وقوم منصوب على أصل الاستثناء وإذا رفعت (قوم) على القراءة الأخرى كان الاستثناء منقطعا، ويكون المعنى لكن قوم يونس نفعهم إيمانهم «لَمَّا آمَنُوا» إيمانا خالصا لا يشم منه رائحة شك أو غيره ولذلك «كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» الذلّ والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بخلاف غيرهم إذ استأصلناهم بالعذاب لعدم صدق نيتهم وصحة إخلاصهم، وقد سبق في علم الله أن الذين استؤصلوا لو أجاب دعاءهم ورفع عنهم العذاب لردوا إلى ما نهوا عنه، أما هؤلاء فكان في علمه الأزلي إخلاصهم لله في توبتهم، لذلك رفعنا عنهم العذاب «وَمَتَّعْناهُمْ» في الدنيا بعده «إِلى حِينٍ ٩٧» انقضاء أجلهم المقدر لمكثهم فيها، وهو الأجل المبرم المقدّر على حسن توبتهم ونيتهم ولولا ذلك لأهلكوا بالأجل المعلق المقدر على عدم توبتهم ورجوعهم إلى الله، راجع الآية ٢ من سورة الأنعام الآتية. ، وهؤلاء خصوا من بين الأمم بحسب قضاء الله الأزلي، وتنطبق عليهم القاعدة ما عموم إلا وخص منه البعض، كقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية ٦٩ من الزمر الآتية، وقوله تعالى (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية ٨٨ من سورة النمل المارة في ج ١. هذا ولا يقال إنهم آمنوا قبل نزول العذاب لمخالفته للآية لأن الكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو بعد قرب وقوعه، لأنه وقع قبل إحاطته بهم وبعد مشاهدتهم له، والله أعلم. وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون هي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى أهل نينوى بأرض الموصل، وكانوا مشركين فدعاهم لتوحيد الله تعالى ورفض سواء من الآلهة، فأبوا عليه وأصروا
81
على كفرهم وكذبوه وجحدوا رسالته، فأخبرهم أنهم إذا لم يؤمنوا فإن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ليال، فأتقوا منه، واشتد غضبه عليهم، ولما لم يجد نصحه لهم نفعا أعرض عنهم وتركهم وذهب خارج قريتهم، فلما فقدوه عرفوا أن ما وعدهم به من العذاب واقع بهم لا محالة لأنهم لم يجربوا عليه كذبا، فخافوا وندموا، فلما أصبحوا توقعوا نزول العذاب فرأوا غيما أسود فغشاهم فأيقنوا أنه ما وعدهم به، فلبسوا المسوح وخرجوا إلى الصحراء بنسائهم وأولادهم ودوابهم وأظهروا توبتهم لله وإيمانهم برسوله وردوا المظالم الى أهلها وعجّوا إلى الله بالدعاء وعملوا ما كان يأمرهم به نبيهم وانتهوا عما نهاهم عنه، حتى انهم صاروا يقلعون الأحجار المغصوبة من بنائهم ويعطونها أهلها، رصاروا يتضرعون إلى الله، وفرقوا بين الأولاد والأمهات من نوع الإنسان والحيوان، وازداد بكاؤهم وبالغوا بالاستغاثة إلى الله. وهم يشاهدون الدخان يظهر من ذلك الغيم، وانه لا يزال بسود ويتكاثف ويقرب منهم حتى غشي مدينتهم كلها واسودت أسطحتهم وأحاط بهم من كل جانب، وهم يلحّون بالدعاء إلى الله ويستصرخونه بالإغاثة، وصار الأطفال يتصايحون والحيوانات تتثاغى، والنساء تبكي، وازداد عويل الرجال لرقة قلوبهم على الأولاد والحيوانات والنساء وأملهم برجاء الله رفع بلاءه عنهم وهو يتقوّى ساعة فساعة، ثم ذهبوا إلى شيخ لهم كانوا يعتقدون به فشكوا إليه نزول العذاب واستطلعوا رأيه واسترشدوا به، فقال لهم قولوا يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. وقال الفضيل قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن له أهل. وأنابوا كلهم إلى الله بإخلاص ونصح وصدق ودعوا كلهم بلسان واحد بذلك الدعاء وابتهلوا إلى الله تعالى موقنين قبول رجائهم، فرحمهم وكشف عنهم العذاب أولا بأول، وبدد تلك الغيوم حتى لم يبق منها شيء، فقرحوا وسبحوا الله وحمدوه وشكروه، ثم أمر الله يونس بالرجوع إليهم، فقال رب كيف أرجع فيجدوني كذابا لأني وعدتهم بالعذاب فكشفته عنهم، وإن عادتهم إذا كذب
الرجل دون بيّنة قتلوه، وانصرف مغاضبا. وسنأتي على بقية هذه القصة في الآية ١٣٩ فما بعدها من سورة الصافات الآتية حتى لا تتكرر
82
هنا وهناك، وقد ألزمنا أنفسنا التحاشي عن التكرار في القصص وغيرها مهما أمكن، لأن سبب ضخامة تفاسير المفسرين من التكرار لا غير.
مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها:
قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ» على الإحاطة والشمول «جَمِيعاً» تأكيد بعد تأكيد بحيث لا يتخلف منهم أحد البتة، ولكن الله جل شأنه لم يشأ ذلك، لأنه لا يشاء إلا ما يعلمه ولا يعلم إلا ماله ثبوت في نفسه في لوحه، فما لا ثبوت له أصلا لا يعلم، وما لا يعلم لا يشاء، ولا يشاؤه لكونه مخالفا لحكمته التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. وفي هذه الآية إشارة إلى تحقيق دوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، وإعلام بكمال قدرته ونفوذ مشيئته، وحجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها، وقرية لا يجوز التخلف عنها، وحملوا ما في الآية على الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة إلجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا، لكنه لم يشأ، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له ولضده، وفوض الأمر إليهم، محتجين بقوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية ٢٩ من سورة الكهف الآتية، وهذا ديّنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقيد مع أن قوله تعالى «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٩٨» يأباه قياسهم لأن المعنى ليس لك الأمر بإكراه الناس على الإيمان، وإنما أنت مبلغ ومنذر، فلا تحرص على إيمان من لم يؤمن، لأنه لا يكون إلا بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق.
والهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة والفاء للتفريع والمقصود تفريع الإنكار.
ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفريع الإنكار وقيل الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء أفأنت يا محمد تكرههم على الإيمان، والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على مشيئته تعالى، والإباء هو الإباء، فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها،
83
والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع على طريق المبالغة، ومن المعلوم أن المشيئة غير الإرادة، فإن الله تبارك وتعالى أمر الكافر بالإيمان وأراد منه الكفر بمقتضى مشيئته الأزلية، وهذا مما لا نزاع فيه، حتى أن الإنسان قد يأمر خادمه بشيء وهو يريد غيره، قال ابن عباس: إن رسول الله ﷺ كان يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره عز وجل أنه لا يؤمن إلّا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولم يقل إلّا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول أي اللوح المحفوظ الذي فيه سابق علم الله الأزلي بما كان وما يكون، قال تعالى «وَما كانَ» ما صح وما استقام ولا جاز «لِنَفْسٍ» من النفوس التي علم الله تعالى «أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ومشيئته وإرادته. وهذه الآية بيان لنبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها بمشيئته وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك، وتقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ» الكفر بقرينة ما قبله قال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) الآية ١٣٧ من سورة التوبة في ج ٣.
وقيل السخط والعذاب وأصله الشيء الفاسد المستقذر، وعبّر عن الكفر بالرجس لأنه علم في الفساد والاستقذار، راجع الآية ١٢٨ من سورة الأنعام الآتية.
وقرىء بنون العظمة ونجعل الرجس «عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ٩٩» أوامر الله ونواهيه فلا يفقهون مغازيها حتى يعوها ويتعظوا فيها، فيا أكرم الرسل
«قُلِ» لهؤلاء الكفرة «انْظُرُوا» نظر اعتبار واستدلال وتفكر وتدبر «ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من الآيات العظام الدالة على عظم صانعها، ففي السموات الشمس والقمر والنجوم السيارات والساكنات مما عرفه البشر ومما لم يعرفه بعد، وإن كابر بعضهم وقال بمعرفة كل ما في السموات حتى أنه أحصاها عدا فإن هناك من الأفلاك والبروج السائرة والواقفة الطالعة والغارية الظاهرة والخفية والتي يحصل بها الليل والنهار والإنضاج والرطوبة واليبوسة والتطعيم والتلوين وتأثيرات كثيرة وضعها الله تعالى فيها ومنافع تكون منها بإرادته تعالى للبشر والحيوان والطير والحوت والنبات والجماد، وفي الأودية والجبال والبحار والأنهار والعيون والأشجار
84
والزروع والمعادن المختلفة نوعا وجنسا وشكلا ولونا طبيعة وعملا مما يتركب منها، وأذواق ما يؤكل منها وطعمها مما لا يعلم إحصاء إلا الله، ففي كل منها آية عظيمة دالة على رب عظيم يغنيكم أيها الكفرة عن طلب آية غيرها:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
إن كنتم تريدون الإيمان بمبدعها «وَما تُغْنِي الْآياتُ» مهما كانت جليلة ونادرة «وَالنُّذُرُ» مهما كثروا وتعبوا في نصح البشر «عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ١٠٠» حالا ومستقبلا لأن الله طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم الذين لا يعقلون المنوه بهم آنفا الذين سبق لهم في الأزل الشقاء «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ» هؤلاء الكفار الذين لا يعقلون آيات الله ويطلبون الآيات من الرسل «إِلَّا» أياما سودا «مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ» بأن بوقع الله بهم مثل ما أوقعه عليهم من الغرق والخسف والريح والصيحة وغيرها من أنواع العذاب الذي صبّ على أسلافهم، وقد أطلقت الأيام على الوقائع الشديدة، لأن العرب تسمي النقم أياما كما هنا والنعم أياما كما في قوله تعالى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) الآية ٥ من سورة ابراهيم الآتية، فإذا كانوا ينتظرون إهلاكا مثل إهلاكهم لأنهم سائرون على شاكلتهم، فيا حبيبي «قُلْ» لهم «فَانْتَظِرُوا» ذلك لا تستعجلونه فإنه آت «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ١٠٢» له وإني مترقب إهلاككم فيه ونجاتي ومن معي لقوله عز قوله «ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» من ذلك العذاب المنتظر «كَذلِكَ» مثل ما أنجينا الرسل الذين بعثناهم إلى الذين قبلكم وأهلكنا من كذبهم من أمثالكم لأنا نرى «حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٣» أنت ومن آمن بك يا محمد ونهلك المشركين الذين كذبوك. واعلم أن حروف هذه الآية من كلمة كذلك إلخ ١٤٦٨ بحساب الجمل وان الآيتين من سورة الصافات ١٧١/ ١٧٢ والآية ٥١ من سورة المؤمن لها مساس في مغزى هذه الآية فراجعها وراجع الآية ٤٧ من سورة الروم الآتية أيضا، وإنا مثلما نفّذنا وعيدنا بإهلاك الكفرة ننجز وعدنا بنصرة الرسل وفوز المؤمنين بهم، وهذا مما أوجبه الله تعالى على ذاته المقدسة من الحق هو من حيث الوعد والحكم لا من حيث الاستحقاق، لأنه تبارك وتعالى ما عليه واجب
85
والعبد لا يستحق عليه شيئا، ومعنى أن الإنجاء واجب عليه انه كالأمر الواجب عليه تعالى بحسب وعده الذي لا يخلف، وإلا فلا وجوب حقيقة لا بالإنجاء ولا بالإهلاك، لأنه يفعل ما يشاء ويختار، فله أن يعذب المؤمن وينعم الكافر، فلا يسأل عما يفعل كما هو عقائد الأشعرية والماتريدية، وعليها جميع أهل السنة والجماعة، وهذا لا يعد ظلما منه، لأن الظلم التصرف في ملك الغير بلا حق، والله سبحانه وتعالى هو المالك المتفرد في عذا الكون علويه وسفليه، وله التصرف فيه كيفما شاء وأراد، وهذه الآية مقررة لمضمون ما قبلها، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيات ٥٥/ ٦٥ و ٩١ المارات في هذه السورة، قال تعالى «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» الذي أدعوكم إليه تقدم ما فيها في الآية ٩١ المارة من هذه السورة أيضا «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الأوثان لأني على دين أبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تعرفونه، لا تشكون فيه، كما أن رؤساء النحل كلها تحترمه وتقر لحضرته بصحة الدين القويم ولا تشك فيه، فالأولى أن تشكوا في دينكم المبتدع الذي لا أصل له البتة، وإنما قدم النفي لأن العبادة غاية تعظيم المعبود فلا تليق لأخس الأشياء كالأوثان التي لا تضر ولا تنفع تارك عبادتها وعابدها، وإنما تليق لمن بيده النفع والضر والإحياء والإماتة الملمع إليه بقوله «وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» فهو الذي يستحق العبادة لأنه خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم يميتكم ثم يحييكم، وقد اكتفى بذكر الوفاة لأنه أشد شيء على النفس وأقوى في الزجر والردع «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٤» المصدقين بالله الواحد وبما جاء من عنده، ولما ذكر العبادة التي هي من أعمال الجوارح اتبعها بما هو من أعمال القلوب وهو الإيمان فقال جل قوله «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ» أي ذاتك كلها، وهذه عطف على أن أكون «لِلدِّينِ حَنِيفاً» مائلا عن كل أباطيلهم وهي حال مؤكدة من الوجه لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والاعراض عن الباطل بكلية الإنسان من إطلاق الجزء على الكل «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٠٥» في الاعتقاد والأعمال «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ» مما يدعوك إليه
86
قومك من الاستشفاع بالأوثان وغيرها «فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ١٠٦» لنفسك وغيرك، هذا كله خطاب عام مراد به غير حضرة الرسول وإنما خوطب به تهييجا
وإلهابا لقلوب الناس وحثهم على التوحيد والكف عما هم عليه والرجوع إلى الله تعالى كما قدمناه في الآية ٩٤ المارة من هذه السورة. قال تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» من مرض وفقر وشدة وذلة «فَلا كاشِفَ لَهُ» عنك «إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ» صحة وعافية ورفاه وجاه «فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» على عباده من أحد ما «يُصِيبُ بِهِ» بكل من الضر والخير «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» مؤمنهم وكافرهم وقد قطع جل شأنه في هذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه، وسبيل الاعتماد في الأمرين وغيرهما إلا عليه، وقد رجح سبحانه جانب الخير في هذه الآية على جانب الشر لأنه لما ذكر إمساس الضربين أن لا كاشف له إلا هو، فيدل هذا على أنه يزبل جميع المضار ويكشفها، لأن الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير قال (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي أن جميع الخيرات منه لا يقدر أحد على ردها، لأنه هو مفيضها على عباده، ولذلك عضدها بقوله «وَهُوَ الْغَفُورُ» لذنوب عباده الساتر لها «الرَّحِيمُ ١٠٧» بهم الرءوف كثير الشفقة عليهم ومن رحمته لا يؤاخذهم بما يفعلون بحسب لطفه بهم، ويرزقهم وهم له جاحدون بمقتضى رأفته بهم، قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية الأخيرة من سورة فاطر المارة في ج ١، وقال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ... ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية ٦٢ من سورة النحل الآتية، فأكثروا من شكره أيها الناس واحمدوه وعظموه ومجّدوه، فهو المختص بالحمد بالدنيا والآخرة وهو المالك له فلا يقدر أحد أن يحمد أحدا إلا بتقديره «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ» هو كتاب الله الذي فيه هديكم «مِنْ رَبِّكُمْ» ومالك أمركم على لسان رسولكم الذي هو منكم «فَمَنِ اهْتَدى» به وصدقه وآمن بما أنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» لأن نفع هداه يرجع إليها «وَمَنْ ضَلَّ» عن سلوك طريق هداه ولم يسترشد به وكذب من أنزله عليه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه نفسه،
87
وفي هذه الآية تنزيه ساحة صاحب الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه من جلب نفع ودفع ضر لذلك أمره الله أن يقول لقومه العتاة المعاندين «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ١٠٨» للقيام بأموركم وإصلاح أحوالكم، وإنما أنا بشير لمن أطاع الله بالجنة ونذير لمن عصاه بالنار، وفي هذه الآية إشارة إلى أنه ﷺ غير مجبر لهم على الإيمان ولا بمكرههم عليه، ولا هو مكلف بقسرهم على شيء ما وإنما هو مأمور بتبليغهم أوامر الله ونواهيه فقط كما مر في الآية الأخيرة من سورة طه المارة في ج ١، وللبحث صلة في الآية ٢١ فما بعدها من سورة الغاشية الآتية، قال تعالى «وَاتَّبِعْ» يا سيد الرسل في جميع شئونك اعتقادا وعملا وتبليغا «ما يُوحى إِلَيْكَ» من ربك في هذا القرآن واعمل به وذكر قومك ليعملوا به «وَاصْبِرْ» على عدم قبولهم أوامر ربك، وعلى أذاهم لك، ومخالفتهم لأمرك، ودم على هذه الحالة «حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ» بنصرك عليهم وإعلاء كلمتك وإظهار دينك بالوقت الذي قدرناه هذا وارض بحكم الله فيما تؤمر به وتنهى عنه «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ١٠٩» وأعدلهم وأنفذهم حكما، لأن المطلع على السراء العالم بما تخفيه الصدور من قول الخصمين يوقع حكمه على ما هو الواقع دون حاجة إلى بينة أو شهادة، فالخطأ في حكمه محال والقول بخلاف هذا ضلال، وفي هذه الآية الوعيد والتهديد بالخذلان للكافرين والوعد والبشارة للمؤمنين بالنصر بما لا يخفى على بصير. ويوجد سورة أخرى في القرآن مختومة بمثل هذه اللفظة وهي سورة والتين المارة في ج ١ فقط، وقد امتثل ﷺ أمر ربه بالصبر على قومه حتى جزع الصبر ولم يجزع هو كما قيل:
سأصبر حتى يجزع الصبر عن صبري وأصبر حتى يحكم الله في أمري
وكما قيل أيضا:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمر من الصبر
وكما في قول الآخر:
يبيت يريني الدهر كيف انقلابه أبيت أريه الصبر كيف يكون
وللصبر بحث في الآيات الأخيرات من سورة النحل الآتية فراجعها. هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
88
Icon