سورة البقرة
هذه السورة مدنية نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وهي أطول سورة في القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف، وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة، فقد ذكرت أن القرآن مصدر الهدى، وذكرت الذين أنعم الله عليهم بالرضا، والذين غضب عليهم من الكفار والمنافقين.
وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن، وأن دعوته حق لا ريب فيها، ثم تحدثت عن أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، وعن الدعوة إلى عبادة الله وحده، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين، ثم خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة، وجاء فيها تذكيرهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى عليه السلام، وتذكيرهم كذلك بإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة، واستغرق ذلك نحو نصف السورة، وتخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى.
وانتقل الحديث إلى خطاب أهل القرآن بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه، وبذكر مسألة القبلة ونحوها.
ثم جاء الحديث عن التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه، وجاء الحديث عن الشرك، وعن المحرمات من الطعام، وأن التحريم والتحليل من حق الله وحده.
وتعرضت السورة لبيان أصول البر، وذكر بعض أحكام الصيام والوصية وأكل أموال الناس بالباطل، والقصاص والقتال والحج والخمر والميسر والنكاح والطلاق والرضاع والعدة وغيرها، كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة والتوحيد والبعث، وتحدثت عن الإنفاق وعن تحريم الربا والتجارة وكتابة الدّين، ثم ختمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم أن ينصرهم ويؤيدهم.
وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :
أن اتباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه، وأنه يجب إيثار الخير على الشر، وترجيح الأعلى على الأدنى.
وأن أصول الدين ثلاثة، وهي : الإيمان بالله، والإيمان بالبعث، والعمل الصالح.
وأن الجزاء على الإيمان والعمل معا، وأن شرط الإيمان هو : الإذعان النفسي والتسليم القلبي لكل ما جاء به الرسول، وأن غير المسلمين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبع المسلمون دين هؤلاء.
وأن الولاية العامة الشرعية يجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل، لا لأهل الكفر والظلم. وأن الإيمان بدين الله كما أنزله يستلزم الوحدة والاتفاق، وأن ترك الاهتداء بذلك يورث الاختلاف والشقاق، وأن تحقيق الأمور الجليلة يستعان عليه بالصبر والصلاة، وأن التقليد الأعمى باطل يؤدي إلى الجهالة والعصبية.
وأن الله أحل لعباده الطيبات من المطعم، وحرم أشياء خبيثة محدودة، ولا يجوز لغير الله أن يحل أو يحرم، وأن المحرمات تباح للمضطر لأن الضرورات تبيح المحظورات وتقدر الضرورة بقدرها، وأن الدين مبني على اليسر ورفع الحرج، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يأمر عباده إلا بما يطيقون، وأن إلقاء النفس إلى التهلكة حرام لا يجوز، وأن الأشياء تطلب بأسبابها ووسائلها المؤدية إليها، وأن الإكراه في الدين ممنوع، وأن القتال مشروع في الإسلام للدفاع، ولتأمين حرية الدين، وتأمين سيادة الإسلام في مجتمعه.
وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة، وأن سد الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة.
وأن الإيمان والصبر سببان لنصرة القلة العادلة على الكثرة الباغية، وأن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وأن الإنسان مجزي بعمله لا بعمل غيره، وأن حكمة التشريع يدركها العقل السليم لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد.
ﰡ
١- ألف لام ميم : هذه حروف ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها ليشير بها إلى إعجاز القرآن الكريم المؤلف من حروف كالحروف التي يؤلِّف منها العرب كلامهم، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن، وهى مع ذلك تنطوي على التنبيه للاستماع لتميز جرسها.
٢- هذا هو الكتاب الكامل وهو القرآن الذي ننزله لا يرتاب عاقل منصف في كونه من عند الله، ولا في صدق ما اشتمل عليه من حقائق وأحكام، وفيه الهداية الكاملة للذين يستعدون لطلب الحق، ويتوقُّون الضرر وأسباب العقاب.
٣- وهؤلاء هم الذين يصدقون - في حزم وإذعان - بما غاب عنهم، ويعتقدون فيما وراء المحسوس كالملائكة واليوم الآخر، لأن أساس التدين هو الإيمان بالغيب، ويؤدون الصلاة مستقيمة بتوجه إلى الله وخشوع حقيقي له، والذين ينفقون جانبا مما يرزقهم الله به في وجوه الخير والبر.
٤- والذين يصدقون بالقرآن المنزل عليك من الله، وبما فيه من أحكام وأخبار، ويعملون بمقتضاه، ويصدقون بالكتب الإلهية التي نزلت على من سبقك من الأنبياء والرسل كالتوراة والإنجيل وغيرهما، لأن رسالات الله واحدة في أصولها، ويتميزون بأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بمجيء يوم القيامة وبما فيه من حساب وثواب وعقاب.
٥- هؤلاء الموصوفون بما سبق من صفات، متمكنون من أسباب الهداية الإلهية، مستقرون عليها، أولئك هم وحدهم الفائزون بمطلوبهم ومرغوبهم ثواباً لسعيهم واجتهادهم وامتثالهم الأوامر واجتنابهم النواهي.
٦- هذا شأن المهتدين، أما الجاهلون الذين فقدوا الاستعداد للإيمان إعراضاً منهم وعناداً، فلن يستجيبوا لله، فيستوي عندهم تخويفك لهم وعدم تخويفك.
٧- هؤلاء قد تمكن الكفر منهم حتى كأن قلوبهم مختوم عليها بحجاب لا يدخلها غير ما فيها، وكأن أسماعهم مختوم عليها كذلك، فلا تسمع وعده الحق، وكأن أبصارهم قد غشيها غطاء فهي لا تدرك آيات الله الدالة على الإيمان، ولذلك استحقوا أن ينالهم العذاب الشديد.
٨- ومن الكافرين قوم آخرون من الناس يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يظهرون الإيمان فيقولون : إننا آمنا بالله وبيوم القيامة، وليسوا بصادقين في قولهم، فلا يدخلون في جماعة المؤمنين.
٩- إنهم يخدعون المؤمنين بما يصنعون، ويظنون أنهم يخادعون الله، إذ يتوهمون أنه غير مطلع على خفاياهم، مع أنه يعلم السر والنجوى، وهم في الواقع يخدعون أنفسهم لأن ضرر عملهم لاحق بهم، عاجلاً وآجلاً، ولأن من يخدع غيره ويحسبه جاهلاً - وهو ليس كذلك - إنما يخدع نفسه.
١٠- هؤلاء في قلوبهم مرض الحسد والحقد على أهل الإيمان مع فساد العقيدة، وزادهم الله على مرضهم مرضاً بنصره للحق، إذ كان ذلك مؤذياً لهم بسبب حسدهم وحقدهم وعنادهم، ولهؤلاء عذاب أليم في الدنيا والآخرة بسبب كذبهم وجحودهم.
١١- وإذا قال أحد من المهتدين لهؤلاء المنافقين : لا تفسدوا في الأرض بالصدِّ عن سبيل الله، ونشر الفتنة وإيقاد نار الحرب برَّأوا أنفسهم من الفساد، وقالوا : ما نحن إلا مصلحون. وذلك لفرط غرورهم، وهذا شأن كل مفسد خبيث مغرور يزعم فساده إصلاحاً.
١٢- ألا فتنبهوا أيها المؤمنون إلى أنهم هم أهل الفساد حقاً، ولكنهم لا يشعرون بفسادهم لغرورهم، ولا بسوء العاقبة التي ستصيبهم بسبب هذا النفاق.
١٣- وإذا قال قائل لهم ينصحهم ويرشدهم : أقبلوا على ما يجب، وهو أن تؤمنوا إيماناً مخلصاً مثل إيمان الناس الكاملين المستجيبين لصوت العقل ؛ سخروا وتهكَّموا وقالوا : لا يليق بنا أن نتبع هؤلاء الجهلاء ضعاف العقول. فرد الله عليهم تطاولهم وحكم عليهم بأنهم - وحدهم - الجهلاء الحمقى. ولكنهم لا يعلمون علماً يقيناً أن الجهل ونقص الإدراك محصور فيهم مقصور عليهم.
١٤- وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين المخلصين قالوا : آمنّا بما أنتم به مؤمنون من صدق الرسول ودعوته، ونحن معكم في الاعتقاد، وإذا انصرفوا عنهم واجتمعوا بأصحابهم الذين يشبهون الشياطين في الفتنة والفساد قالوا لهم : إنا معكم على طريقتكم وعملكم، وإنما كان قولنا للمؤمنين ما قلنا : استخفافاً بهم واستهزاء.
١٥- والله سبحانه يجازيهم على استهزائهم، ويكتب عليهم الهوان الموجب للسخرية والاحتقار، فيعاملهم بذلك معاملة المستهزئ، ويمهلهم في ظلمهم الفاحش الذي يجعلهم في عمى عن الحق، ثم يأخذهم بعذابه.
١٦- وهؤلاء إذ اختاروا الضلالة بدل الهداية كانوا كالتاجر الذي يختار لتجارته البضاعة الفاسدة الكاسدة فلا يربح في تجارته، ويضيع رأس ماله، وهم في عملهم غير مهتدين.
١٧- حال هؤلاء في نفاقهم كحال من أوقد ناراً لينتفع بها مع قومه، فلما أنارت ما حوله من الأشياء ذهب الله بنورهم وترك موقديها في ظلمات كثيفة لا يبصرون معها شيئاً، لأن الله قدَّم إليهم أسباب الهداية فلم يتمسكوا بها فصارت بصائرهم مطموسة، فاستحقوا أن يبقوا في الحيرة والضلال.
١٨- هؤلاء كالصُّمِّ، لأنهم قد فقدوا منفعة السمع، إذ لا يسمعون الحق سماع قبول واستجابة، وهم كالبُكْم الخُرس ؛ لأنهم لا ينطقون بالهدى أو الحق، وهم كالذين فقدوا أبصارهم لأنهم لا ينتفعون بها في اعتبار أو انزجار، فهم لا يرجعون عن ضلالتهم.
١٩- أو حالهم في حيرتهم وشدة الأمر عليهم وعدم إدراكهم لما ينفعهم ويضرهم، كحال قوم نزل عليهم مطر من السماء ورعد وصواعق، يضعون أطراف أصابعهم في آذانهم كي لا يسمعوا أصوات الصواعق خائفين من الموت، زاعمين أن وضع الأصابع يمنعهم منه.
وهؤلاء إذا نزل القرآن - وفيه بيان لظلمات الكفر والوعيد عليه، وبيان الإيمان ونوره المتألق، وبيان النذر وألوان العذاب - أعرضوا عنه وحاولوا الخلاص منه زاعمين أن إعراضهم عنه سيعفيهم من العقاب ولكن الله عليم بالكافرين مسيطر عليهم من كل جهة بعلمه وقدرته.
٢٠- إن هذا البرق الشديد يكاد يخطف منهم أبصارهم لشدته، وهو يضيء لهم الطريق حيناً فيسيرون خطوات مستعينين بضوئه، فإذا انقطع البرق واشتد الظلام يقفون متحيرين ضالين، وهؤلاء المنافقون تلوح لهم الدلائل والآيات فتبهرهم أضواؤها فيهمون أن يهتدوا، ولكنهم بعد قليل يعودون إلى الكفر والنفاق. إن الله واسع القدرة إذا أراد شيئاً فعله، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
٢١- يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي أنشأكم وخلقكم ونماكم كما خلق الذين سبقوكم، فهو خالق كل شيء، لعلكم بذلك تعدون أنفسكم وتهيئونها لتعظيم الله ومراقبته، فتتطهر بذلك نفوسكم وتذعن للحق، وتخاف سوء العاقبة.
٢٢- إنه وحده هو الذي مهد لكم الأرض بقدرته، وبسط رقعتها ليسهل عليكم الإقامة فيها والانتفاع بها، وجعل ما فوقكم من السماء وأجرامها وكواكبها كالبنيان المشيد، وأمدكم بسبب الحياة والنعمة - وهو الماء - أنزله عليكم من السماء فجعله سبباً لإخراج النباتات والأشجار المثمرة التي رزقكم بفوائدها، فلا يصح مع هذا أن تتصوروا أن لله نظراء تعبدونهم كعبادته لأنه ليس له مثيل ولا شريك، وأنتم بفطرتكم الأصلية تعلمون أنه لا مثيل له ولا شريك، فلا تحرفوا هذه الطبيعة.
٢٣- وإن كنتم في ريب من صدق هذا القرآن الذي تتابع إنزالنا له على عبدنا محمد، فحاولوا أن تأتوا بسورة مماثلة من سور هذا القرآن في بلاغتها وأحكامها وعلومها وسائر هدايتها، ونادوا الذين يشهدون لكم أنكم أتيتم بسورة مماثلة له فاستعينوا بهم ولن تجدوهم، وهؤلاء الشهداء هم غير الله، لأن الله يؤيد عبده بكتابه، ويشهد له بأفعاله، هذا إن كنتم صادقين في ارتيابكم في هذا القرآن.
٢٤- فإن لم تستطيعوا الإتيان بسورة مماثلة لسور القرآن - ولن تستطيعوا ذلك بحال من الأحوال - لأنه فوق طاقة البشر، إذ القرآن كلام الخالق فالواجب عليكم أن تتجنبوا الأسباب التي تؤدي بكم إلى عذاب النار في الآخرة، التي سيكون وقودها وحطبها من الكافرين ومن الأصنام، ولقد هيئت هذه النار لتعذيب الجاحدين المعاندين.
٢٥- وإذا كان هذا عقاب الفجار الجاحدين، فالجنة مثوى المؤمنين، فأخبر الذين صدَّقوا بالله ورسوله وكتابه، وأذعنوا للحق دون شك أو ارتياب، وعملوا الأعمال الصالحة الطيبة - أخبرهم بخبر يسرهم ويشرح صدورهم، وهو أن الله أعد لهم عنده جنات مثمرة تتخللها الأنهار الجارية تحت أشجارها وقصورها، كلما رزقهم الله وهم في هذه الجنات - رزقاً من بعض ثمارها قالوا : إن هذا يشبه ما رزقنا من قبل، لأن هذه الثمرات التي ينالونها تشابه أفرادها في الصورة والجنس ولكنها تتمايز في الطعم واللذة، ولهم فيها أيضاً زوجات كاملات الطهارة ليس فيهن ما يعاب. وسيبقون في هذه الجنة في حياة أبدية لا يخرجون منها.
٢٦- يضرب الله الأمثال للناس لبيان الحقائق العالية، ويضرب بصغائر الأحياء، وكبار الأشياء، وقد عاب من لا يؤمنون ضرب المثل بصغائر الأحياء كالذباب والعنكبوت، فبين الله سبحانه أنه لا يعتريه ما يعتري الناس من الاستحياء، فلا يمنع أن يصور لعباده ما يشاء من أمور بأي مثل مهما كان صغيراً، فيصح أن يجعل المثل بعوضة أو ما فوقها، والذين آمنوا يعلمون وجه التمثيل وأن هذا حق من الله، والذين كفروا يتلقونه بالاستنكار ويقولون : ما الذي أراده الله بهذا المثل ؟ وأن هذا المثل يكون سبباً لإضلال الذين لا يطلبون الحق ولا يريدونه، ويكون سبباً لهداية المؤمنين بالحق الذي يطلبونه، فلا يُضَلُّ به إلا المنحرفين المتمردين.
٢٧- الذين ينقضون عهد الله - وهم الذين لم يلتزموا عهد الله القوي الذي أنشأه في نفوسهم بمقتضى الفطرة موثقاً بالعقل المدرك ومؤيداً بالرسالة - ويقطعون ما أمر الله به أن يكون موصولاً كوصل ذوي الأرحام، والتواد والتعارف والتراحم بين بني الإنسان، ويفسدون في الأرض بسوء المعاملات وبإثارة الفتن وإيقاد الحروب وإفساد العمران، أولئك هم الذين يخسرون بإفسادهم فطرتهم وقطعهم ما بينهم وبين الناس ما يجب أن يكون من تواد وتعاطف وتراحم، ويكون مع ذلك لهم الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
٢٨- إن حالكم تثير العجب ! كيف تكفرون ولا توجد شبهة تعتمدون عليها في كفركم ؟ ونظرة إلى حالكم تأبى هذا الكفر ولا تدع لكم عذراً فيه، فقد كنتم أمواتاً فخلقكم الله ووهبكم الحياة وحسن التقويم، ثم هو الذي يعيدكم أمواتاً عند انتهاء أجلكم، ثم يبعثكم أحياء مرة أخرى للحساب والعقاب ثم إليه - لا إلى غيره - تعودون فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم.
٢٩- وإن الله الذي تجب عبادته وإطاعته هو الذي تفضل عليكم فخلق لمنفعتكم وفائدتكم كل النعم الموجودة في الأرض، ثم قد توجهت إرادته مع خلقه الأرض بمنافعها إلى السماء فجعل منها سبع سماوات منتظمات فيها ما ترون وما لا ترون، والله محيط بكل شيء عالم به.
٣٠- بيَّن - سبحانه - أنه هو الذي أحيا الإنسان ومكَّن له في الأرض، ثم بيَّن بعد ذلك أصل تكوين الإنسان وما أودع فيه من علم الأشياء وذكره به، فاذكر يا محمد نعمة أخرى من نعم ربك على الإنسان، وهي أنه قال لملائكته : إني جاعل في الأرض من أُمكِّنه منها وأجعله صاحبَ سلطان فيها وهو آدم وذريته، استخلفهم الله في عمارة الأرض.
واذكر قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها بالمعاصي، ومن يسفك الدماء بالعدوان والقتل لما في طبيعته من شهوات، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك، ونظهر ذكرك ونمجِّدك ؟ فأجابهم ربهم : إني أعلم ما لم تعلموا من المصلحة في ذلك.
٣١- وبعد أن خلق الله آدم وعلَّمه أسماء الأشياء وخواصَّها ليتمكن في الأرض وينتفع بها، عرض الله هذه الأشياء على الملائكة وقال لهم : أخبروني بأسماء هذه الأشياء وخواصها إن كنتم صدقتم في ظنكم أنكم أحق بخلافة الأرض ولا يوجد أفضل منكم بسبب طاعتكم وعبادتكم.
٣٢- وقد ظهر للملائكة عجزهم فقالوا : إننا ننزهك يا ربَّنا التنزيه اللائق بك، ونقر بعجزنا وعدم اعتراضنا، فلا علم عندنا إلا ما وهبتنا إياه، وأنت العالم بكل شيء، الحكيم في كل أمر تفعله.
٣٣- قال الله لآدم : أَخْبر الملائكة يا آدم بهذه الأشياء، فأجاب وأظهر فضله عليهم، وهنا قال الله لهم مذكراً لهم بإحاطة علمه : ألم أقل لكم إني أعلم كل ما غاب في السماوات والأرض ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تُظهرون في قولكم وما تُخفون في نفوسكم ؟.
٣٤- واذكر - يا أيها النبي - حين قلنا للملائكة : اخضعوا لآدم تحية له وإقراراً بفضله، فأطاع الملائكة كلهم إلا إبليس، امتنع عن السجود وصار من العاصين له والكافرين بنعم الله وحكمته وعلمه.
٣٥- ثم أمر الله آدم وزوجه أن يعيشا في جنة النعيم فقال له : اسكن أنت وامرأتك الجنة وكلا منها ما تشاءان أكلاً هنيئاً وافراً من أي مكان ومن أي ثمر تريدان، ولكن الله ذكر لهما شجرة معينة وحذرهما الأكل منها وقال لهما : لا تدنُوَا من هذه الشجرة ولا تأكلا منها، وإلا كنتما من الظالمين العاصين.
٣٦- ولكن إبليس الحاسد لآدم والحاقد عليه أخذ يحتال عليهما ويغريهما بالأكل من الشجرة حتى زلاّ فأكلا منها، فأخرجهما الله مما كانا فيه من النعيم والتكريم، وأمرهما الله تعالى بالنزول إلى الأرض ليعيشا هما وذريتهما فيها، ويكون بعضهم لبعض عدواً بسبب المنافسة وإغواء الشيطان، ولكم في الأرض مكان استقرار وتيسير للمعيشة، وتمتع ينتهي بانتهاء الأجل.
٣٧- وأحس آدم هو وزوجته بخطئهما وظلمهما لأنفسهما، فألهم الله تعالى آدم كلمات يقولها للتوبة والاستغفار، فقالها، فتقبَّل الله منه وغفر له لأنه كثير القبول للتوبة، وهو الرحيم بعباده الضعفاء.
٣٨- وقلنا لآدم وزوجته ومن سيكون من ذريته وإبليس : اهبطوا إلى الأرض وستكلفون تكليفات فيها، فإن جاءكم ذلك من عندي - وسيأتيكم حتماً - فالذين يستجيبون لأمري ويتبعون هداي لا يشعرون بخوف، ولا يصيبهم حزن لفوات ثواب، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
٣٩- والذين جحدوا وكذبوا برسل الله وكتبه، أولئك أهل النار، يظلون فيها أبدا لا يخرجون ولا يفنون.
٤٠- يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي تفضلت بها عليكم أنتم وآباؤكم بالتفكير فيها والقيام بواجب شكرها، وأوفوا بعهدي الذي أخذته عليكم وأقررتموه على أنفسكم، وهو الإيمان، والعمل الصالح، والتصديق بمن يجيء بعد موسى من الأنبياء، حتى أوفى بوعدي لكم وهو حسن الثواب والنعيم المقيم، ولا تخافوا أحداً غيري، واحذروا من أسباب غضبى عليكم.
٤١- وصدِّقوا بالقرآن الذي أنزلت مصدقا لما عندكم من كتاب وعلم من التوحيد وعبادة الله، والعدل بين الناس، ولا تسارعوا إلى جحود القرآن فتكونوا أول الكافرين به من حيث ينبغي أن تكونوا أول المؤمنين به، ولا تتركوا آيات الله لتأخذوا عن ذلك عوضاً قليلاً زائلاً من متاع الحياة الدنيا، وخُصّوني بالخوف فاتبعوا طريقي، وأعرضوا عن الباطل.
٤٢- ولا تخلطوا الحق المُنزَّل من عندي بالباطل المفترى من عندكم، حتى لا يشتبه هذا بذاك، ولا تكتموا الحق ومنه صِدْق محمد، وأنتم تعلمون أنه حق وصدق.
٤٣- واستجيبوا للإيمان. فأدُّوا الصلاة مستقيمة الأركان، وأعطوا الزكاة لمستحقيها، وصلوا مع جماعة المسلمين لتنالوا ثواب الصلاة وثواب الجماعة، وهذا يستلزم أن تكونوا مسلمين.
٤٤- أتطلبون من الناس أن يتوسعوا في الخير، وأن يلتزموا الطاعة ويتجنبوا المعصية، ثم لا تعملون بما تقولون، ولا تلتزمون بما تطلبون ؟، وفى ذلك تضييع لأنفسكم كأنكم تنسونها، مع أنكم تقرءون التوراة وفيها التهديد والوعيد على مخالفة القول للعمل، أليس لديكم عقل يردعكم عن هذا التصرف الذميم ؟
٤٥- واستعينوا على أداء التكليفات بالصبر وحبس النفس على ما تكره، ومن ذلك الصوم، وبالصلاة العظيمة الشأن التي تنقي القلب وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذلك كانت ثقيلة شاقة إلا على الخاضعين المحبين للطاعة، الذين اطمأنت قلوبهم لذكر الله.
٤٦- أولئك هم الخاضعون المطمئنة قلوبهم، الذين يؤمنون باليوم الآخر ويوقنون بأنهم سيلاقون ربهم عند البعث، وإليه - وحده - يعودون ليحاسبهم على ما قدمت أيديهم ويثيبهم عليه.
٤٧- يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت بها عليكم، من إخراجكم من ظلم فرعون وهدايتكم وتمكينكم في الأرض بعد أن كنتم مستضعفين فيها، واشكروا واهبها بطاعتكم له، واذكروا أنني أعطيت آباءكم الذين انحدرتم منهم ما لم أعطه أحداً من معاصريكم، والخطاب لجنس اليهود وموجه كذلك للمعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم.
٤٨- وخافوا يوم الحساب الشديد : يوم القيامة الذي لا تدفع فيه نفس عن نفس شيئاً، ولا تغنى فيه نفس عن نفس أخرى شيئاً، ولا يقبل من أي نفس تقديم أي شفيع، كما لا يقبل أي فداء تفدى به الذنوب، ولا يستطيع أحد أن يدفع العذاب عن مستحقيه.
٤٩- واذكروا من نعمنا عليكم أن نجَّيناكم من ظلم فرعون وأعوانه الذين كانوا يذيقونكم أشد العذاب، فهم يذبحون الذكور من أولادكم لتَوَهّم أن يكون منهم من يذهب بملك فرعون ويستبقون الإناث ليستخدموهن، وفى هذا العذاب والتعرض للفناء ابتلاءٌ شديد من ربكم واختبار عظيم لكم.
٥٠- واذكروا كذلك من نعم الله عليكم حين شققنا لكم ومن أجلكم البحر - وفصلنا ماءه بعضه عن بعض لتسيروا فيه - فتتخلصوا من ملاحقة فرعون وجنوده، وبفضلنا نجوتم، وانتقمنا لكم من عدوكم، فأغرقناهم أمام أبصاركم، فأنتم ترونهم وهم يغرقون والبحر ينطبق عليهم عقب خروجكم منه.
٥١- واذكروا حين واعد ربكم موسى أربعين ليلة لمناجاته، فلما ذهب إلى ميعاده وعاد، وجدكم قد انحرفتم واتخذتم العجل الذي صنعه السامري معبوداً لكم، وكنتم ظالمين باتخاذكم العجل شريكاً لله الذي خلقكم ونجاكم.
٥٢- ثم عفونا عنكم ومحونا عقوبتكم حين تبتم واستغفرتم من إثمكم، لعلكم تشكرون ربكم على صفحه وعفوه وفضله.
٥٣- واذكروا نعمتنا عليكم إذ أنزلنا على نبيكم موسى كتابنا التوراة، وهو الذي يفرِّق بين الحق والباطل، ويميِّز الحلال من الحرام، لكي تسترشدوا بنورها وتهتدوا من الضلال بتدبر ما فيها.
٥٤- واذكروا يوم قال لكم رسولكم موسى : يا قوم، لقد ظلمتم أنفسكم باتخاذكم عجل السامري معبوداً، فتوبوا إلى ربكم خالقكم من العدم، بأن تغضبوا على أنفسكم الشريرة الآمرة بالسوء وتذلوها، لتتجدد بنفوس مطهرة، فأعانكم الله على ذلك ووفقكم له وكان ذلك خيراً لكم عند خالقكم، ولهذا قَبِل توبتكم وعفا عنكم، فهو كثير التوبة على عباده، واسع الرحمة بهم.
٥٥- واذكروا قولكم لموسى : إننا لن نقر لك بالإيمان حتى نرى الله جهاراً عياناً بحاسة البصر لا يحجبه عنا شيء، فانقضَّت عليكم صاعقة ونار من السماء زلزلتكم جزاء عنادكم وظلمكم وطلبكم ما يستحيل وقوعه لكم، وأنتم تنظرون حالكم وما أصابكم من بلاء وعذاب في الصاعقة.
٥٦- ثم أيقظناكم من غشيتكم وهمودكم، وعلمناكم لكي تشكروا نعمتنا في ذلك، وتؤيدوا حق الله عن طريق هذا الشكر.
٥٧- ومن فضلنا عليكم أننا جعلنا السحاب لكم كالظلّة ليصونكم من الحر الشديد، وأنزلنا عليكم المنَّ، وهو مادة حلوة لزجة كالعسل تسقط على الشجر من طلوع الشمس، كما أنزلنا عليكم السلوى وهو الطائر المعروف بالسمان، فهو يأتيكم بأسرابه بكرة وعشيا لتأكلوا وتتمتعوا، وقلنا لكم : كلوا من طيبات رزقنا. فكفرتم بالنعمة، ولم يكن ذلك بضائرنا، ولكنكم تظلمون أنفسكم لأن ضرر العصيان واقع عليكم.
٥٨- واذكروا - يا بني إسرائيل - حين قلنا لكم : ادخلوا المدينة الكبيرة التي ذكرها لكم موسى نبيكم، فكلوا مما فيها كما تشاءون، كثيراً واسعاً، على أن يكون دخولكم بخشوع وخضوع من الباب الذي سمَّاه لكم نبيكم، واسألوا الله عند ذلك أن يغفر لكم خطاياكم، فمن يفعل ذلك بإخلاص نغفر له خطاياه، ومن كان محسناً مطيعاً زدناه ثواباً وتكريماً فوق العفو والمغفرة.
٥٩- ولكن الذين ظلموا خالفوا أمر ربهم، فقالوا غير ما أمرهم بقوله، استهزاء وتمردا، فكان الجزاء أن أنزل الله على الظالمين عذاباً من فوقهم جزاء فسقهم وخروجهم على أوامر ربهم.
٦٠- واذكروا - يا بني إسرائيل - يوم طلب نبيكم موسى السقيا لكم من ربه حين اشتد بكم العطش في التيه، فرحمناكم وقلنا لموسى : اضرب بعصاك الحجر. فانفجر الماء من اثنتي عشرة عيناً، فصار لكل جماعة عين - وكانوا اثنتي عشرة جماعة - فعرفت كل قبيلة مكان شربها، وقلنا لكم : كلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء المتفجر ودعوا ما أنتم عليه، ولا تسرفوا في الإفساد في الأرض بل امتنعوا عن المعاصي.
٦١- واذكروا - أيها اليهود - أيضاً يوم سيطر البطر على أسلافكم، ولم يؤدوا لنعمة الله حقها فقالوا لموسى : إننا لن نصبر على طعام واحد ( وهو المن والسلوى ) فادع لنا ربك كي يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقولها وقثائها وعدسها وثومها وبصلها، فتعجب موسى من ذلك، وأنكره عليهم فقال لهم : أتفضلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن، وهو المن والسلوى ؟.. فانزلوا إذن من سيناء وادخلوا مدينة من المدن فإنكم ستجدون فيها ما تريدون، وبسبب ذلك البطر والعناد أحاطت بهؤلاء اليهود المذلة والفقر والخنوع، واستحقوا غضب الله عليهم لما ألفوه من العناد والعصيان، وما جروا عليه من الكفر بآيات الله وبقتلهم الأنبياء مخالفين بذلك الحق الثابت المقرر، وقد جرأهم على ذلك - الكفر وهذا القتل - ما رُكِّب في نفوسهم من التمرد والعدوان ومجاوزة الحد في المعاصي.
٦٢- إن الذين آمنوا من الأنبياء من قبل، واليهود والنصارى، ومن يقدسون الكواكب والملائكة، من آمن برسالة محمد بعد بعثته، ووحَّد الله تعالى وآمن بالبعث والحساب يوم القيامة، وعمل الأعمال الصالحة في دنياه، فهؤلاء لهم ثوابهم المحفوظ عند ربهم، ولا يلحقهم خوف من عقاب. ولا ينالهم حزن على فوات ثواب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
٦٣- اذكروا حين أخذنا عليكم العهد والميثاق رافعين جبل الطور، وجعلناه بقدرتنا كالظلة فوقكم حتى خفتم وأذعنتم وقلنا لكم : خذوا ما آتيناكم من هدى وإرشاد بجد واجتهاد، واذكروا ما فيه ذكر من يستجيب له ويعمل به كي تصونوا بذلك أنفسكم من العقاب.
٦٤- ثم إنكم أعرضتم بعد ذلك كله، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وتأخيره العذاب عنكم لكنتم من الضالين الهالكين.
٦٥- وأنتم بلا ريب قد عرفتم أولئك الذين تجاوزوا الحد منكم في يوم السبت، بأن صادوا السمك فيه - مع أنه يوم راحة وعيد والعمل محرم فيه - فمسخ الله قلوب المخالفين، وصاروا كالقردة في نزواتها وشهواتها، وجعلناهم مبعدين من رحمتنا ينفر الناس من مجالستهم ويشمئزون من مخالطتهم.
٦٦- وقد جعل الله هذه الحال التي آلوا إليها عبرة وتحذيرا لغيرهم من أن يفعلوا مثل فعلهم، جعلها عبرة لمعاصريهم ومن يأتي بعدهم، كما جعلناها موعظة للذين يتقون ربهم، لأنهم هم الذين ينتفعون بنذير العظات والعبر.
٦٧- واذكر - يا محمد - حين قال موسى لقومه وقد قُتل فيهم قتيل لم يعرفوا قاتله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ليكون ذلك مفتاحاً لمعرفة القاتل، ولكنهم استغربوا أن تكون هناك صلة بين قتل القتيل وذَبح البقرة قائلين : أَتسخر منا يا موسى ؟، فرد عليهم قائلاً : إني أعتصم بتأديب الله لي أن أكون من الجاهلين الذين يستهزئون بعباده.
٦٨- هنا قالوا لموسى - مترددين في أمر البقرة : اطلب لنا من ربك أن يبين لنا صفة تلك البقرة، فقال لهم : إن الله أخبرني بأنها ليست كبيرة وليست صغيرة، بل هي وسط بين الكبر والصغر، فنفذوا ما أمركم الله به.
٦٩- ولكنهم استمروا في ترددهم فقالوا : اطلب لنا من ربك أن يبين لنا لون هذه البقرة، فأجابهم موسى : بأن الله يقول : إنها بقرة صفراء شديدة الصفرة مع صفاء، تُعْجِبُ الناظر إليها لصفاء لونها ووضوحه.
٧٠- ثم لجوا في أسئلتهم فقالوا : ادع لنا ربك يبين لنا شأن هذه البقرة، لأن البقر تشابه علينا، وسنهتدي إليها بمشيئة الله.
٧١- فقال لهم : إن الله يقول إنها بقرة لم تذلل بالعمل في حرث الأرض وقلبها للزراعة، ولا في سقي الأرض المهيأة للزراعة أو ما فيها من نبات، وهى بريئة من العيوب، سالمة من الآفات، لا لون فيها يخالف سائر جسدها، فقالوا له : الآن جئت بالبيان الواضح، وبحثوا عن البقرة المتصفة بهذه الأوصاف فذبحوها، وقد قاربوا ألا يفعلوا ذلك لكثرة أسئلتهم وطول لجاجهم.
٧٢- واذكروا يوم قتلتم نفسا وتخاصمتم وتدافعتم الجريمة، فاتَّهم بعضكم بعضا بقتلها، والله يعلم الحقيقة وهو كاشفها ومظهرها مع كتمانكم لها.
٧٣- فقلنا لكم على لسان موسى : اضربوا القتيل بجزء من هذه البقرة، ففعلتم : فأحيا الله القتيل وذكر اسم قاتله، ثم سقط ميتاً، وكانت معجزة من الله لموسى.
لأن الله قادر على كل شيء، وبقدرته هذه يحيى الموتى يوم القيامة، ويريكم دلائل قدرته لعلكم تعقلونها وتعتبرون بها.
٧٤- ثم إنكم بعد هذه الآيات كلها لم تستجيبوا ولم تستقيموا، ولم تلن قلوبكم أو تخشع، بل غلظت وتصلبت وبقيت على قسوتها، بل إنها أشد قسوة من الحجارة، لأن الحجارة قد تتأثر وتنفعل، فهناك أحجار تتفجر منها المياه الكثيرة فتجري أنهاراً، وهناك أحجار تتشقق فيخرج منها الماء عيوناً فوارة، ومنها ما يتأثر بقدرة الله وينقاد لمشيئته فيتردى من أعلى الجبال انقياداً لما أراده الله تعالى به، أما قلوبكم أيها اليهود فإنها لا تتأثر ولا تلين ولكم الويل على ذلك، فالله ليس بغافل عن أعمالكم، وهو سيؤدبكم بألوان النقم إذا لم تشكروا أنواع النعم.
٧٥- ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون أن تطمعوا في أن يُؤمن اليهود بدينكم وينقادوا لكم وقد اجتمعت في مختلف فرقهم أشتات الرذائل التي تباعد بينهم وبين الإيمان بالحق، فقد كان فريقا منهم - وهم الأحبار - يسمعون كلام الله في التوراة ويفهمونه حق الفهم ثم يتعمدون تحريفه وهم يعلمون أنه الحق، وأن كتب الله المنزلة لا يجوز تغييرها.
٧٦- وكان فريق من منافقيهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا مخادعين لهم : آمنا بأنكم على الحق وأن محمداً هو النبي الذي جاء وصفه في التوراة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض عاتبهم الفريق الآخر على غفلتهم، إذ تنزلق ألسنتهم في أثناء خداعهم للمؤمنين بعبارات تفيد خصومهم ولا يستدعيها الخداع، فيذكرون لهم ما ورد في التوراة من أوصاف محمد ويعطونهم بذلك حُجة عليهم يوم القيامة.
٧٧- وهل غاب عن هؤلاء وأولئك أن الله ليس في حاجة إلى مثل هذه الحُجة لأنه يعلم ما يخفون وما يبدون ؟.
٧٨- ومن اليهود فريق جهلة أميون لا يعرفون عن التوراة إلا أكاذيب تتفق مع أمانيهم، لفَّقها لهم أحبارهم، وألقوا في ظنهم أنها حقائق من الكتاب.
٧٩- فالهلاك والعذاب لهؤلاء الأحبار الذين يكتبون كتباً بأيديهم، ثم يقولون للأميين : هذه هي التوراة التي جاءت من عند الله، ليصلوا من وراء ذلك إلى غرض تافه من أغراض الدنيا فيشتروا التافه من حطام الدنيا بثمن غال وعزيز هو الحقيقة والصدق، فويل لهم مما تقوَّلوه على الله، وويل لهم مما يكسبون من ثمرات افترائهم.
٨٠- ومن اختلاقاتهم وأكاذيبهم ما يتلقونه من أحبارهم من أن النار لن تمس يهودياً مهما ارتكب من المعاصي إلا أياماً معدودة، فقل لهم يا محمد : هل تعاهدتم مع الله على ذلك فاطمأننتم، لأن الله لا يخلف عهده، أم أنكم تفترون الكذب عليه ؟.
٨١- الحق أنكم تفترون الكذب على الله، فحكم الله العام نافذ في خلقه جميعاً لا فرق بين يهودي وغير يهودي، لأن من ارتكب سيئة وأحاطت به آثامه حتى سدت عليه منافذ الخلاص، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
٨٢- والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة، لأنهم آمنوا وأدوا ما يفرضه عليهم إيمانهم من صالح الأعمال، فهم فيها خالدون.
٨٣- وإن لكم معشر اليهود بجانب هذا كله ماضياً حافلا بالإثم ونقض المواثيق، وتعدى ما وضعه الله لكم من حدود، فلتذكروا إذ أخذنا عليكم في التوراة ميثاقاً ألا تعبدوا إلا الله، وأن تحسنوا إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، وتستخدموا في حديثكم مع الناس القول الطيب الذي يؤلف بينكم وبينهم ولا ينفرهم منكم، وتؤدوا ما فرض عليكم من صلاة وزكاة، ولتذكروا ما كان من مسلككم حيال هذا الميثاق إذ نقضتموه وأعرضتم عنه إلا قليلا منكم ممن أذعن للحق.
٨٤- وإذ أخذنا ميثاقاً عليكم في التوراة ألا يسفك بعضكم دماء بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم، وهو ميثاق تقرون أنه في كتابكم وتشهدون على صحته.
٨٥- وها أنتم أولاء يقتل بعضكم بعضا، ويخرج فريق منكم فريقاً آخر من ديارهم متعاونين في ذلك عليهم مع غيركم بالإثم والعدوان، ثم إن وقع فريق منكم أسرى لدى من تتعاونون معهم تعملون على إنقاذهم من الأسر بافتدائهم، وإن سئلتم عما حملكم على افتدائهم قلتم : لأن أسفارنا أمرتنا أن نفدي أسرانا من اليهود، أو لم تأمركم أسفاركم كذلك ألا تسفكوا دماء إخوانكم، وألا تخرجوهم من ديارهم ؟، أفتذعنون لبعض ما جاء في الكتاب وتكفرون ببعض ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردهم الله - المطلع على أعمالهم وسرائرهم - إلى أشد العذاب.
٨٦- وذلك لأنهم قد آثروا أعراض الدنيا الزائلة على نعيم الآخرة الدائم، وكانوا بهذا كمن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فلن يخفف عنهم عذاب جهنم، ولن يجدوا من ينقذهم منه.
٨٧- ولتذكروا كذلك - معشر اليهود - مواقفكم الضالة الآثمة حيال موسى ومن بعثناه من بعده إليكم من المرسلين. فلقد أرسلنا إليكم موسى وآتيناه التوراة وبعثنا إليكم على آثاره عدة رسل، منهم عيسى ابن مريم الذي أمددناه بالمعجزات وأيدناه بروح القدس، وهو جبريل رسول الوحي الأمين، فكنتم كلما جاءكم رسول من هؤلاء بما لا تهوى أنفسكم تستكبرون عن اتباعه، ففريق كذبتموه وفريق آخر قتلتموه.
٨٨- وكذلك كان موقفكم حيال رسولنا - محمد - خاتم النبيين. فلقد قلتم له حينما دعاكم إلى الإسلام : إن قلوبنا مغطاة بأغشية لا تنفذ إليها دعوتك، فلا نكاد نفقه شيئاً مما تقول. ولم تكن قلوبهم كما يزعمون، ولكنهم استكبروا وآثروا الضلالة على الهدى، فلعنهم الله بكفرهم وأوهن يقينهم وأضعف إيمانهم.
٨٩- ولما جاءهم رسولنا بالقرآن - وهو كتاب من عند الله مصدق لما أنزل عليهم من التوراة، وعرفوا من التوراة نفسها صدق ما في هذا الكتاب - كفروا به عناداً وحسداً لأنه قد جاءهم به رسول من غير شعبهم بني إسرائيل، مع أنهم كانوا من قبل إذا اشتبكوا مع المشركين في صراع حربي أو جدلي ذكروا أن الله سينصرهم بإرسال خاتم النبيين الذي بشر به كتابهم، والذي تتفق صفاته كل الاتفاق مع صفات محمد. ألا لعنة الله على أمثالهم من المعاندين الجاحدين.
٩٠- ولبئس ما باعوا به أنفسهم بغياً وعدواناً، إذ مالوا مع أهوائهم وتعصبهم لشعبهم فكفروا بما أنزلنا، ناقمين على غيرهم أن خصهم الله دونهم بإرسال رسول منهم منكرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في أن ينزل من فضله على من يشاء من عباده، فباءوا بغضب على غضب لكفرهم وعنادهم وحسدهم، وعذبوا بكفرهم وللكافرين عذاب عظيم.
٩١- هذا هو ما كانت تنطوي عليه نفوسهم، ولكنهم كانوا يبررون أمام الخلق عدم إيمانهم بالقرآن حينما يطلب منهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم هم ويكفرون بغيره، ولقد كذبوا فيما يدَّعون من إيمانهم بما أنزل عليهم من توراة، لأن كفرهم بهذا الكتاب المصدق لما في كتابهم هو كفر بكتابهم نفسه، ولأنهم قد قتلوا الأنبياء الذين دعوهم إلى ما أنزل عليهم، وقتلهم لهؤلاء أقطع دليل على عدم إيمانهم برسالتهم.
٩٢- بل لقد كفرتم - أيها اليهود - كفراً صريحاً بكتبكم، ورجعتم إلى الشرك في عهد موسى نفسه، فلقد جاءكم موسى بالبينات والمعجزات الناطقة بصدقه، لكنكم حين تغيب موسى لمناجاة ربه عبدتم العجل ورجعتم إلى سابق وثنيتكم وأنتم ظالمون مبطلون.
٩٣- وحينما جاءكم بالتوراة، ورأيتم ما فيها من تكاليف شاقة، فاستثقلتم أعباءها وارتبتم فيها، أراكم الله آية على صدق هذا الكتاب وفائدة تعاليمه لكم، فرفع جبل الطور فوق رءوسكم حتى صار كأنه ظُلَّة وظننتم أنه واقع بكم، وحينئذٍ أعلنتم القبول والطاعة، فأخذنا عليكم ميثاقاً ألا يأخذكم هوى في الامتثال لما جاء في هذا الكتاب، فقلتم : آمنا وسمعنا، ولكن أعمالكم تكشف عن عصيانكم وتمردكم، وأن الإيمان لم يخالط قلوبكم، ولا يمكن أن يكون الإيمان قد خالط قلوب قوم شغفوا حباً بعبادة العجل. فلبئس ما دفعكم إليه إيمانكم إن كنتم مؤمنين.
٩٤- ولقد زعمتم أن الله سيخصكم من بين سائر الناس بنعيم الجنة بعد الممات، فإن كنتم مؤمنين حقاً بما تقولون فليكن الموت محبباً إليكم، ولتتمنوه حتى لا يبطئ عنكم هذا النعيم الذي تدَّعون.
٩٥- ولكنهم في الواقع لا يرغبون في الموت أبداً لما اقترفوه من ظلم لا يخفى أمره على الله، الذي يُعلِمُهُم أنهم كاذبون فيما يدعون، وأن النعيم يوم القيامة للمتقين، لا للفجار أمثالهم.
٩٦- بل إنك لتجدنهم أحرص الناس جميعاً على حياتهم على أي شكل عزيزة أو ذليلة، وحرصهم أكثر من حرص المشركين الذين لا يؤمنون ببعث ولا جنة، ولذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، ولن يبعد عنه تعميره - مهما طال - ما ينتظر من عذاب الله، إنه عليم بالظالمين وسيذيقهم جزاء ما اقترفوه.
٩٧- ولقد زعم بعضهم أنهم يعادونك ويكفرون بكتابك لأنهم أعداء لجبريل الذي يبلغك هذا الكتاب، فقل أيها النبي لهم : من كان عدواً لجبريل فهو عدو الله، لأن جبريل ما يجيء بهذا الكتاب من عنده، وإنما ينزله بأمر الله مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية، ومصدقاً لكتابهم نفسه، وهدى وبشرى للمؤمنين.
٩٨- فمن كان عدواً لجبريل أو ميكائيل أو لأي ملك أو رسول من ملائكة الله ورسله الذين لا يفعلون ولا يبلغون إلا ما يأمرهم به الله، فإنه بذلك يكون عدواً وكافراً به، والله عدو الكافرين.
٩٩- وما ينزل جبريل على قلبك إلا بآيات بينات لا يسع طالب الحق إلا الإيمان بها، وما يكفر بمثلها إلا المعاندون الخارجون عن سنة الفطرة.
١٠٠- وكما تذبذبوا في العقيدة والإيمان، تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود، فكانوا كلما عاهدوا المسلمين وغيرهم عهداً نبذه فريق منهم. لأن معظمهم لا يؤمن بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق.
١٠١- ولما جاءهم رسول من عند الله مطابقة أوصافه لما في أسفارهم - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - نبذ فريق منهم ما ذكر في كتبهم عن هذا الرسول، كأنه لم يرد فيها ولم يعلموا شيئاً عنه.
١٠٢- ولقد صدَّقوا ما تَتَقَوَّله شياطينهم وفجرتهم على ملك سليمان، إذ زعموا أن سليمان لم يكن نبياً ولا رسولاً ينزل عليه الوحي من الله، بل كان مجرد ساحر يستمد العون من سحره، وأن سحره هذا هو الذي وطَّد له الملك وجعله يسيطر على الجن والطير والرياح، فنسبوا بذلك الكفرَ لسليمان، وما كفر سليمان، ولكن هؤلاء الشياطين الفجرة هم الذين كفروا، إذ تقوَّلوا عليه هذه الأقاويل، وأخذوا يعلِّمون الناس السحر من عندهم ومن آثار ما أنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت، مع أن هذين الملكين ما كانا يعلِّمان أحداً حتى يقولا له : إنما نعلِّمك ما يؤدى إلى الفتنة والكفر فاعرفه واحذره وتَوَقَّ العمل به. ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة، فاستخدموا ما تعلَّموه منهما فيما يفرقون به بين المرء وزوجه. نعم كفر هؤلاء الشياطين الفجرة إذ تقوَّلوا هذه الأقاويل من أقاويلهم وأساطيرهم ذريعة لتعليم اليهود السحر، وما هم بضارين بسحرهم هذا من أحد، ولكن الله هو الذي يأذن بالضرر إن شاء، وأن ما يؤخذ عنهم من سحر سيضر من تعلَّمه في دينه ودنياه ولا يفيده شيئاً، وهم أنفسهم يعلمون حق العلم أن من اتجه هذا الاتجاه لن يكون له حظ في نعيم الآخرة، ولبئس ما اختاروه لأنفسهم لو كانت بهم بقية من علم.
١٠٣- ولو أنهم آمنوا بالحق وخافوا مقام ربهم لأثابهم الله ثواباً حسناً، ولكان ذلك خيراً مما يلقونه من أساطير ويضمرونه من خبث لو كانوا يميزون النافع من الضار.
١٠٤- يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم من هؤلاء اليهود فلا تقولوا للرسول حينما يتلوا عليكم الوحي :﴿ راعنا ﴾ قاصدين أن يجعلكم موضع رعايته، ويتمهل عليكم في تلاوته حتى تعوه وتحفظوه، لأن خبثاء اليهود يتظاهرون بمحاكاتكم في ذلك، ويلوون ألسنتهم بهذه الكلمة حتى تصير مطابقة لكلمة سباب يعرفونها ويوجهونها للرسول ليسخروا منه فيما بينهم، ولكن استخدموا كلمة أخرى لا يجد اليهود فيها مجالا لخبثهم وسخريتهم : فقولوا :﴿ انظرنا ﴾ وأحسنوا الإصغاء إلى ما يتلوه عليكم الرسول، وأن الله ليدخر يوم القيامة عذاباً أليماً لهؤلاء المستهزئين بالرسول.
١٠٥- ولتعلموا أن هؤلاء الكافرين من اليهود والمشركين من عبدة الأصنام لا يرجون إلا ضرركم ولا يودون أن ينزل عليكم خير من ربكم، والله لا يقيم وزناً لما يرجون وما يكرهون. فالله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
١٠٦- ولقد طلبوا منك - يا محمد - أن تأتيهم بالمعجزات التي جاءهم بها موسى وأنبياء بني إسرائيل، وحسبنا أننا أيدناك بالقرآن، وأننا إذا تركنا تأييد نبي متأخر بمعجزة كانت لنبي سابق، أو أنسينا الناس أثر هذه المعجزة فإننا نأتي على يديه بخير منها أو مثلها في الدلالة على صدقه، فالله على كل شيء قدير.
١٠٧- وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وليس لكم - أيها الناس - من دونه ولي يعينكم، ولا سند ينصركم.
١٠٨- لعلكم تريدون باقتراحكم معجزات معينة على رسولكم - محمد - أن تحاكوا بني إسرائيل المعاصرين لموسى، إذ طلبوا إليه معجزات خاصة. إن اقتراحكم هذا ليخفي وراءه العناد والجنوح إلى الكفر، كما كان يخفي ذلك اقتراح بني إسرائيل على رسولهم. ومن يؤثر العناد والكفر على الإخلاص للحق والإيمان، فقد حاد عن الطريق السوي المستقيم.
١٠٩- ولقد تمنى كثير من اليهود أن يردوكم - أيها المسلمون - إلى الكفر بعد إيمانكم، مع أنه قد تبين لهم من كتابهم نفسه أنكم على الحق، وما ذلك إلا لأنهم يحسدونكم ويخشون أن ينتقل إليكم السلطان ويفلت من أيديهم، فأعرضوا عنهم، واعفوا واصفحوا حتى يأذن الله لكم بمسلك آخر حيالهم، فهو القادر على أن يمكنكم منهم، وهو على كل شيء قدير.
١١٠- وحافظوا على شعائر دينكم، فأقيموا الصلاة، وأعطوا الزكاة، وما تقدموا لأنفسكم من أعمال طيبة وصدقة تجدوا ثوابه عند الله. إن الله بما تعملون عليم، علم من يبصر ويرى.
١١١- ومن أباطيل اليهود والنصارى وأمانيهم الكاذبة ما يزعمه كل منهم : من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان على دينهم، فلتطلبوا إليهم أن يأتوا ببرهان على ذلك إن كانوا صادقين.
١١٢- ولن يجدوا على ذلك برهاناً، فالحق أن الذين يدخر لهم الله تعالى نعيم الجنة ويثيبهم يوم القيامة ويقيهم الخوف والحزن، هم الذين يخلصون لله ويتبعون الحق، ويحسنون ما يؤدونه من أعمال.
١١٣- ومن عجب أنهم كما يعادون الإسلام يعادي بعضهم بعضاً، فيقول اليهود : ليست النصارى على شيء من الحق، ويقول النصارى في اليهود مثل ذلك، وكلاهما يستدل بأسفاره، ويقول المشركون من العرب الذين لا يعلمون شيئاً عن الكتب المنزلة في اليهود والنصارى معاً ما يقوله كلاهما في الآخر، ولقد صدقوا جميعاً في ذلك، فليس منهم فريق على حق، وسيتبين ذلك حينما يحكم الله بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
١١٤- ومن مظاهر عدائهم بعضهم لبعض ؛ وعدائهم للمسلمين، أن بعض طوائفهم خرَّبت معابد الطوائف الأخرى، وأن المشركين منعوا المسلمين من المسجد الحرام، وليس ثمة أحد أشد ظلماً ممن يحول دون ذكر الله في أماكن العبادة ويسعى في خرابها، فأولئك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. وما كان لهم أن يقترفوا مثل هذا الجرم الخطير، وإنما كان ينبغي أن يحفظوا للمعابد حرمتها، فلا يدخلوها إلا خاشعين، ولا يمنعوا غيرهم أن يذكر فيها اسم الله.
١١٥- وإذا كان المشركون قد منعوا المسلمين من الصلاة في المسجد الحرام، فلن يمنعهم هذا من الصلاة وعبادة الله، فجميع الجهات وجميع البقاع في الأرض لله، وإن الله ليتقبل من المسلم صلاته ويقبل عليه برضاه أياً كانت البقعة التي يؤدى فيها عبادته، فالله واسع لا يضيِّق على عباده، وهو عليم بنية من يتجه إليه.
١١٦- ومن كان هذا شأنه، وكان جميع ما في الكون مسخراً لأمره، خاضعاً لمشيئته، فهو أرفع وأجل من أن يحتاج لنسل أو يتخذ ولداً كما يقول هؤلاء اليهود والنصارى والمشركون.
١١٧- وكيف يحتاج لنسل أو يتخذ ولداً من أبدع السماوات والأرض وأذعن كل ما فيها لإرادته فلا يستعصى شيء عليه، وإذا أراد أمراً فإنما يقول له : كن، فيكون ؟.
١١٨- هذا ويمعن المشركون من العرب في عنادهم لمحمد، فيطلبون إليه مثل ما طلبته الأمم السابقة من أنبيائهم، فقد قالوا : إنهم لم يؤمنوا به إلا إذا كلمهم الله وجاءتهم آية حسية تدل على صدقه، كما قال بنو إسرائيل لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله ويكلمنا، وكما طلب أصحاب عيسى منه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، وما ذلك إلا لأن قلوب الكفار والمعاندين في كل أمة متشابهة، وأنه لا يستبين الحقَّ إلا من صفت بصائرهم وأذعنت عقولهم لليقين، وطلبت الحق.
١١٩- وقد أرسلناك بحقائق يقينية بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، وليس عليك إلا تبليغ رسالتنا، ولن تُسأل عن عدم إيمان من لم يؤمن بك من أصحاب الجحيم.
١٢٠- فلا ترهق نفسك في استرضاء المعاندين من اليهود والنصارى، فإن هؤلاء لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم التي يزعمون أنها الهدى، وليس ثمة هدى إلا هدى الله في الإسلام، ومن يتبع أهواء هؤلاء من بعد أن علم ما أنزلناه إليك من الحق، فلن يكون له يوم القيامة من دون الله ولى يعينه، ولا نصير يدفع عنه العذاب.
١٢١- غير أن ثمة فريقاً من اليهود والنصارى قد تفقهوا في أسفارهم الأصيلة، وتلوها حق التلاوة، وفطنوا إلى ما دخلها من تحريف، فأولئك يؤمنون بحقائقها ويؤمنون تبعاً لذلك بالقرآن، ومن يكفر بكتاب منزل فأولئك هم الخاسرون.
١٢٢- يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي العظيمة التي أنعمت بها عليكم بإخراجكم من ظلم فرعون وإغراقه، وإعطائكم المن والسلوى، وبعث الأنبياء فيكم، وتعليمكم الكتاب.. وغير ذلك مما شرفتكم به، وأني فضلتكم - وقتاً من الزمان - على الناس في جعل مصدر النبوات منكم.
١٢٣- وخافوا عقاب الله في يوم لا تدفع فيه نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها فداء، ولا تنفعها شفاعة، ولا يجد فيه الكافرون نصيراً لهم من دون الله.
١٢٤- واذكروا إذ ابتلى الله جدكم إبراهيم بتكاليف، فقام بها على أتم وجه، فقال له : إني جاعلك للناس إماماً يتبعونك ويقتدون بك، فطلب إبراهيم من ربه أن يجعل من ذريته أئمة كذلك، فأجابه بأن هذا لن يصل إليه منهم الظالمون، وأشار أنه سيكون من ذريته الأبرار والفجار.
١٢٥- واذكروا كذلك قصة بناء إبراهيم مع ابنه إسماعيل لبيت الله الحرام بمكة، وفى هذه القصة عظة بالغة لمن كان له قلب سليم، فلتذكروا إذ جعلنا هذا البيت ملاذاً للخلق ومأمناً لكل من يلجأ إليه، وإذ أمرنا الناس بأن يتخذوا من موضع قيام إبراهيم لبناء الكعبة مكاناً يصلون فيه، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن يصونا البيت مما لا يليق بحرمته، وأن يهيئاه تهيئة صالحة لمن يَؤُمُّهُ من الطائفين والمعتكفين والمصلين.
١٢٦- واذكروا إذ طلب إبراهيم من ربه أن يجعل البلد الذي سينشأ حول البيت بلداً آمناً، وأن يرزق من ثمرات الأرض وخيراتها من آمن من أهله بالله واليوم الآخر، فأجابه الله بأنه لن يضنَّ على الكافر نفسه بالرزق في أثناء حياته القصيرة، ثم يلجئه يوم القيامة إلى عذاب جهنم. ولبئس المصير.. مصير هؤلاء.
١٢٧- وإذ يرفع إبراهيم هو وابنه إسماعيل قواعد البيت وهما يدعوان الله : ربنا يا خالقنا وبارئنا تقبل منا هذا العمل الخالص لوجهك، فأنت السميع لدعائنا العليم بصدق نياتنا.
١٢٨- ربنا وفقنا واجعلنا مخلصين لك واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، وعلمنا طريقة عبادتنا لك في بيتك الحرام وما حوله، وتب علينا إن نسينا أو أخطأنا إنك أنت كثير القبول لتوبة عبادك، الغافر لهم بفضلك ورحمتك.
١٢٩- ربنا وابعث في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك ويعلّمهم ما يوحى إليه به من كتاب وعلم نافع وشريعة محكمة، ويطهرهم من ذميم الأخلاق، إنك أنت الغالب القاهر الحكيم فيما تفعل وما تأمر به وما تنهى عنه.
١٣٠- ولَنِعم ما فعله إبراهيم وما دعا به ربه، وما اتبعه من ملة قويمة، وأنه لا يعرض عن ملة إبراهيم إلا من امتهن إنسانيته وعقله، ولقد اصطفاه الله في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين المقربين.
١٣١- ولقد استجاب إبراهيم لأمر ربه حينما طلب الله إليه أن يذعن، فقال : أذعنت لرب العالمين جميعاً من جن وإنس وملائكة.
١٣٢- ولم يكتف بذلك بل أوصى بنيه بأن يسيروا على هديه، وحاكاه حفيده يعقوب فأوصى هو الآخر بنيه كذلك أن يتبعوا هذه السنن، وبيّن لأبنائه أن الله اصطفى لهم دين التوحيد وأخذ عليهم العهد ألا يموتوا إلا وهم مسلمون ثابتون على هذا الدين.
١٣٣- ولقد زعمتم - أيها اليهود - أنكم تسيرون على الدين الذي مات عليه يعقوب، فهل كنتم شهداء إذ حضره الموت فعرفتم الملة التي مات عليها ؟ ألا فلتعلموا أن يعقوب وأبناءه كانوا مسلمين موحدين ولم يكونوا يهوداً مثلكم ولا نصارى، وأن يعقوب حينما حضره الموت جمع بنيه وقال لهم : ما تعبدون من بعدى ؟ فأجابوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له خاضعون.
١٣٤- ثم ما لكم - أيها اليهود - والجدل في هؤلاء ! فأولئك قوم قد مضوا لسبيلهم، ثم لهم - وحدهم - ما كسبوا في حياتهم، فلن تسألوا عن أعمالهم، ولن يفيدكم شيء منها، ولن يكون لكم إلا ما كسبتم أنتم من أعمال.
١٣٥- ولكنهم لا ينفكون يمعنون في لجاجهم، ويزعم كل فريق منهم أن ملته هي الملة المثلى، فيقول لكم اليهود : كونوا يهوداً تهتدوا إلى الطريق القويم، ويقول النصارى : كونوا نصارى تهتدوا إلى الحق المستقيم، فلتردوا عليهم بأننا لا نتبع هذه الملة ولا تلك، لأن كلتيهما قد حُرِّفَتْ وخرجت عن أصولها الصحيحة، ومازجها الشرك، وبعدت عن ملة إبراهيم، وإنما نتبع الإسلام الذي أحيا ملة إبراهيم نقية طاهرة.
١٣٦- قولوا لهم : آمنا بالله وما أنزل إلينا في القرآن، وآمنا كذلك بما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنيه الأسباط، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى غير محرَّفة، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى غير محرَّف، وبما أوتي جميع النبيين من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم - فنكفر ببعضهم ونؤمن ببعض - ونحن في هذا كله مذعنون لأمر الله.
١٣٧- فإن آمنوا إيماناً مطابقاً لإيمانكم فقد اهتدوا، وإن تمادوا في عنادهم وإعراضهم فإنما هم في نزاع مستمر وخلاف معكم، وسيكفيك الله أمرهم - يا أيها النبي - ويريحك من لجاجهم وشقاقهم، فهو السميع لما يقولون، العليم بما عليه صدورهم.
١٣٨- قولوا لهم : إن الله قد هدانا بهدايته، وأرشدنا إلى حجته، ومن أحسن من الله هداية وحُجة، وأننا لا نخضع إلا لله، ولا نتبع إلا ما هدانا وأرشدنا إليه.
١٣٩- قولوا لهم : أتجادلوننا في الله زاعمين أنه لا يصطفى أنبياء إلا منكم ! وهو ربكم ورب كل شيء، لا يختص به قوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء، ويجزي كل قوم بأعمالهم، غير ناظر إلى أنسابهم ولا أحسابهم، وقد هدانا الطريق المستقيم في أعمالنا، ورزقنا صفة الإخلاص له.
١٤٠- قولوا لهم : أتجادلوننا في إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأبنائه الأسباط زاعمين أنهم كانوا يهودا أو نصارى مثلكم ؟، مع أنه ما أنزلت التوراة والإنجيل اللذان قامت عليهما اليهودية والنصرانية إلا من بعد هؤلاء، وقد أخبرنا الله بذلك، أفأنتم أعلم أم الله ؟، بل إن الله قد أخبركم أنتم بذلك في أسفاركم فلا تكتموا الحق المدوَّن في أسفاركم هذه، ومن أظلم ممن كتم حقيقة يعلمها من كتابه وسيجازيكم الله على ما تلجون فيه من باطل، فليس الله بغافل عما تعملون.
١٤١- ثم ما لكم أيها اليهود والنصارى والجدل في هؤلاء ؟ فأولئك قوم قد مضوا لسبيلهم، لهم ما كسبوا في حياتهم، ولن تُسألوا عن أعمالهم ولن يفيدكم شيء منها، ولن يكون لكم إلا ما كسبتم أنتم من أعمال.
١٤٢- إن ضعاف العقول الذين أضلتهم أهواؤهم عن التفكر والتدبر من اليهود والمشركين والمنافقين سينكرون على المؤمنين تحوَّلهم من قبلة بيت المقدس التي كانوا يصلّون متجهين إليها إلى قبلة أخرى وهي الكعبة، فقل لهم أيها النبي : إن الجهات كلها لله، لا فضل لجهة على أخرى بذاتها، بل الله هو الذي يختار منها ما يشاء ليكون قبلة للصلاة، وهو يهدى بمشيئته كل أمة من الأمم إلى طريق قويم يختاره لها ويخصها به، وقد جاءت الرسالة المحمدية فنسخت ما قبلها من الرسالات، وصارت القبلة الحقة هي الكعبة.
١٤٣- ولهذه المشيئة هديناكم إلى الطريق الأقوم، وجعلناكم أمة عدولاً خياراً بما وفقناكم إليه من الدين الصحيح والعمل الصالح لتكونوا مقرري الحق بالنسبة للشرائع السابقة، وليكون الرسول مهيمناً عليكم، يسددكم بإرشاده في حياته، وبنهجه وسنته بعد وفاته. وأما عن قبلة بيت المقدس التي شرعناها لك حيناً من الدهر، فإنما جعلناها امتحاناً للمسلمين ليتميز من يذعن فيقبلها عن طواعية، ومن يغلب عليه هوى تعصبه العربي لتراث إبراهيم فيعصى أمر الله ويضل عن سواء السبيل. ولقد كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله بهدايته، وكان امتثال هذا الأمر من أركان الإيمان، فمن استقبل بيت المقدس عند الأمر باستقباله - إيماناً منه وطاعة - فلن يضيع عليه ثواب إيمانه وطاعته.
١٤٤- ولقد رأينا كيف كنت تتطلع إلى السماء عسى أن ينزل الوحي بتغيير قبلة بيت المقدس إلى الكعبة التي تحبها لأنها قبلة إبراهيم أبى الأنبياء، وأبى اليهود والعرب، وبها مقام إبراهيم، فهي - لهذا - القبلة الجامعة وإن كانت تخالف قبلة اليهود، فها نحن أولاء نؤتيك سؤلك فاستقبل في صلاتك المسجد الحرام، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون في أي مكان تكونون، وإن أهل الكتاب الذين ينكرون عليكم التحول عن قبلة بيت المقدس قد عرفوا في كتبهم أنكم أهل الكعبة، وعلموا أن أمر الله جار على تخصيص كل شريعة بقبلة، وأن هذا هو الحق من ربهم، ولكنهم يريدون فتنتكم وتشكيككم في دينكم، والله ليس غافلا عنهم وهو يجزيهم بما يعملون.
١٤٥- وما كان إنكار أهل الكتاب عليكم لشبهة تزيلها الحُجة، بل هو إنكار عناد ومكابرة فلئن جئتهم - أيها الرسول - بكل حُجة قطعية على أن قبلتك هي الحق ما تبعوا قبلتك، وإذا كان اليهود منهم يطمعون في رجوعك إلى قبلتهم ويعلِّقون إسلامهم على ذلك فقد خاب رجاؤهم وما أنت بتابع قبلتهم، وأهل الكتاب أنفسهم يتمسك كل فريق منهم بقبلته : فلا النصارى يتبعون قبلة اليهود ولا اليهود يتبعون قبلة النصارى، وكل فريق يعتقد أن الآخر ليس على حق، فاثبت على قبلتك ولا تتبع أهواءهم، فمن اتبع أهواءهم - بعد العلم ببطلانها والعلم بأن ما عليه هو الحق - فهو من الظالمين الراسخين في الظلم.
١٤٦- وإن أهل الكتاب ليعلمون أن التحول إلى قبلة البيت الحرام بمكة هو الحق، ويسلِّمون أنك النبي المنعوت في كتبهم بنعوت من جملتها أنه يصلي إلى الكعبة، ومعرفتهم نُبُوَّتك وقبلتك كمعرفتهم أبناءهم في الوضوح والجلاء، ولكن بعضهم يخفون هذا الحق على علم اتباعاً لهواهم، وتعصباً باطلا لملتهم حفاظاً على سلطانهم، ويحاولون تضليلكم.
١٤٧- وإنما الحق هو ما صدر لك من الله تعالى لا ما يضلَّل به أهل الكتاب، فكونوا على يقين منه، ولا تكونوا من أهل الشك والتردد، ومن ذلك الحقِّ أمرُ تحول القبلة إلى البيت الحرام فامضوا عليه ولا تبالوا بالمعارضين.
١٤٨- إن هذه القبلة التي حولناك إليها هي قبلتك وقبلة أمتك، وكذلك لكل أمة قبلة تتجه إليها في صلاتها حسب شريعتها السابقة، وليس في ذلك شيء من التفاضل، وإنما التفاضل في فعل الطاعات وعمل الخيرات، فسارعوا إلى الخيرات وتنافسوا فيها، وسيحاسبكم الله على ذلك، فإنه سيجمعكم يوم القيامة من أي موضع كنتم، ولن يفلت منه أحد، وبيده كل شيء بما في ذلك الإماتة والإحياء والبعث والنشور.
١٤٩- فَاسْتقْبل - يا محمد - ومن اتبعك المسجد الحرام في صلاتك من كل مكان كنت فيه، سواء كان ذلك في حال إقامتك أم في حال سفرك وخروجك من مكان إقامتك، وإن هذا لهو الحق الموافق لحكمة ربك الرفيق بك، فاحرص عليه أنت وأمَّتك، فإن الله سيجازيكم أحسن الجزاء، والله عالم علماً لا يخفى عليه شيء من عملكم.
١٥٠- والتزم أمر الله في القبلة واحرص عليه أنت وأمتك، فاجعل وجهك في ناحية المسجد الحرام من كل مكان خرجت إليه في أسفارك، واستقبلوه حيثما كنتم من أقطار الأرض مسافرين أو مقيمين، لينقطع ما يحاجّكم به المخالفون ويجادلونكم به، وإذا لم تمتثلوا لأمر هذا التحويل فسيقول اليهود : كيف يصلي محمد إلى بيت المقدس والنبي المنعوت في كتبنا من أوصافه التحول إلى الكعبة ؟ وسيقول المشركون العرب كيف يدعى ملة إبراهيم ويخالف قبلته ؟ على أن الظالمين الزائغين عن الحق من الجانبين لن ينقطع جدالهم وضلالهم، بل سيقولون : ما تحوَّل إلى الكعبة إلا مَيْلا إلى دين قومه وحباً لبلده، فلا تبالوا بهم فإن مطاعنهم لا تضركم، وَاخْشَوْنِ فلا تخالفوا أمري، وقد أردنا بهذا الأمر أن نتم النعمة عليكم وأن تكون هذه القبلة التي وجهناكم إليها أدعى إلى ثباتكم على الهداية والتوفيق.
١٥١- وإن توجيهكم إلى المسجد الحرام بإرسالنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آيات من إتمام نعمتنا عليكم كما أتممنا عليكم النعمة - القرآن - ويطهر نفوسكم عمليا من دنس الشرك وسيئ الأخلاق والعادات ويكملكم علمياً بمعارف القرآن والعلوم النافعة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، فقد كنتم في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء.
١٥٢- فاذكروني - أيها المؤمنون - بالطاعة أذكركم بالثواب، واشكروا لي ما أسبغت عليكم من النعم ولا تجحدوا هذه النعم بعصيان ما أمرتكم به.
١٥٣- واستعينوا - أيها المؤمنون - في كل ما تأتون وما تذرون بالصبر على الأمور الشاقة والصلاة التي هي أمّ العبادات، إن الله بقدرته القاهرة مع الصابرين فهو وليهم وناصرهم.
١٥٤- ولن يؤدي الصبر إلا إلى الخير والسعادة في الدارين، فلا تقعدوا عن الجهاد في سبيل الله، ولا ترهبوا الموت فيه، فمن مات في الجهاد فليس بميت بل هو حي حياة عالية وإن كان الأحياء لا يحسون بها.
١٥٥- والصبر درع المؤمن وسلاحه الذي يتغلب به على الشدائد والمشاق، وسيصادفكم كثير من الشدائد فسنمتحنكم بكثير من خوف الأعداء والجوع وقلة الزاد والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، ولن يعصمكم في هذا الامتحان القاسي إلا الصبر، فبشر - يا أيها النبي - ( الصابرين ) بالقلب وباللسان.
١٥٦- الذين إذا نزل بهم ما يؤملهم يؤمنون أن الخير والشر من الله، وأن الأمر كله لله فيقولون : إنّا مِلْكٌ لله - تعالى - وراجعون إليه، فليس لنا من أمرنا شيء، وله الشكر على العطاء وعلينا الصبر عند البلاء، وعنده المثوبة والجزاء.
١٥٧- فهؤلاء الصابرون المؤمنون بالله لهم البشارة الحسنة بغفران الله وإحسانه، وهم المهتدون إلى طريق الخير والرشاد.
١٥٨- وكما أن الله رفع شأن الكعبة بجعلها قبلة الصلاة، رفع أمر الجبلين اللذين يُشَارِفانِهَا وهما «الصفا » «والمروة » فجعلهما من مناسك الحج، فيجب بعد الطواف السعي بينهما سبع مرات، وقد كان منكم من يرى في ذلك حرجاً لأنه من عمل الجاهلية، ولكن الحق أنه من معالم الإسلام، فلا حرج على من ينوى الحج أو العمرة أن يسعى بين هذين الجبلين، وليأت المؤمن من الخير ما استطاع فإن الله عليم بعمله ومثيبه عليه.
١٥٩- وأولئك الذين أنكروا عليكم أمر دينكم فريقان : فريق من أهل الكتاب الذين يعرفون الحق ويخفونه على علم وعناد، وفريق المشركين الذين عميت قلوبهم عن الحق، فاتخذوا أرباباً من دون الله، فأهل الكتاب الذين عرفوا براهين صدقك تبينوا الحق في دينك ثم أخفوا هذه الدلائل وكتموها عن الناس، أولئك يصب الله عليهم غضبه ويبعدهم عن رحمته، ويدعو عليهم الداعون من الملائكة ومؤمني الثقلين - الجن والإنس - بالطرد من رحمة الله.
١٦٠- ولا يستثنى من أهل الكتاب إلا من تاب وأحسن فرجع عن الكتمان، وتدارك أمره بإظهار ما كان يخفيه من وصف الرسول والإسلام، فإن الله يتقبل توبته ويمحو ذنبه، فهو الذي يقبل التوبة من عباده رأفة منه ورحمة.
١٦١- أما الذين استمروا على الكفر، وماتوا على ذلك دون توبة ولا ندم، فجزاؤهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
١٦٢- وسيستمرون في هذه اللعنة وفى النار لا يخفف عنهم العذاب، ولن يمهلوا أو يؤخروا، ولو طلبوا الإمهال والتأخير لن يجابوا إليه.
١٦٣- إن إلهكم الذي ينفرد بالعبودية واحد، فلا إله غيره، ولا سلطان لسواه، ثم هو قد اتصف بالرحمة فهو رحيم بعباده في إنشائهم وتكوينهم.
١٦٤- وقد أقام الله سبحانه وتعالى دلائل وآيات لكل ذي عقل على وجوده وألوهيته، ومن ذلك السماوات التي ترونها تسير فيها الكواكب بانتظام دون تزاحم ولا صدام تبعث الحرارة والنور لهذا العالم، والأرض وما فيها من البر والبحر، وتعاقب الليل والنهار وما في ذلك من المنافع، وما يجري في البحر من السفن تحمل الناس والمتاع، ولا يسيِّرها إلا الله، فهو الذي يرسل الرياح التي يسير بها المطر ينزل فيحيي الحيوان ويسقي الأرض والنبات، والرياح وهبوبها في مهابها المختلفة، والسحاب المعلق بين السماء والأرض، فهل هذه الأشياء كلها بهذا الإتقان والإحكام من تلقاء نفسها أم هي صنع العليم القدير ؟ .
١٦٥- ومع هذه الدلائل الواضحة اتخذ بعض الناس ممن ضلّت عقولهم أرباباً غير الله يطيعونهم ويعبدونهم كعبادة الله ويجعلونهم مثل الله، والمؤمن يسلم القيادة لله وحده وطاعته له لا تنقطع، أما هم فإن ولاءهم لآلهتهم يتزلزل عند النوائب فيلجأون إلى الله سبحانه، وهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم لو عاينوا ما سينالهم من العذاب يوم الجزاء حين ينكشف ملك الله وتكون الطاعة له وحده، لانتهوا عن جرمهم وأقلعوا عن إثمهم.
١٦٦- في ذلك اليوم يرجو الأتباعُ أن ينجيهم رؤساؤهم من الضلال فيتنكرون لهم ويتبرَّأون منهم ويقولون : ما دعوناكم لطاعتنا في معصية ربكم، وإنما هو هواكم وسوء تصرفكم، وتنقطع بينهم الصلات والمودات التي كانت بينهم في الدنيا، ويصير بعضهم لبعض عدواً.
١٦٧- وهنا يتبين الأتباع أنهم كانوا في ضلال حين اتبعوا رؤساءهم في الباطل ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا فيتنكروا لرؤسائهم كما تبرأوا منهم في هذا اليوم، وتبدو لهم أعمالهم السيئة فتكون حسرات عليهم ويندمون، وقد ألقى بهم في النار فلا يبرحونها.
١٦٨- يا أيها الناس كُلوا مما خلق الله في الأرض من الحلال الذي لم ينزل تحريمه، المستطاب الذي تستسيغه النفوس، ولا تسيروا وراء الشيطان الذي يزيِّن لكم أكل الحرام أو تحريم الحلال، فقد علمتم عداوة الشيطان، وبان قبيح ما يأمركم به.
١٦٩- وإنما يزين لكم الشيطان ما هو سيئ في ذاته، ويضركم في عافيتكم وما يقبح فعله، وتسيرون بسببه وراء الظنون والأوهام، فتنسبون إلى الله من التحريم والتحليل ما لم يأت دليل عليه من العلم اليقين.
١٧٠- وقد اعتاد الضالون عن سبيل الهدى أن يتمسكوا بما توارثوا عن آبائهم في العقيدة والعمل، وإذا دعوا إلى ما جاء من هدى الله قالوا : لا نعدل عما وجدنا عليه آباءنا، ومن أكبر الجهل ترجيح اتباع طاعة الآباء على إطاعة الله واتباع هداه، فكيف إذا كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يستنيرون بنور الهداية والإيمان ؟
١٧١- وإن مثل من يدعو أولئك الكافرين الجاحدين إلى الحق والهدى - فلا يستجيبون له ولا يفقهون ما يدعوهم إليه - كمثل راعى الغنم يناجيها، فلا تفقه منه شيئاً ولا يقرع سمعها إلا الصوت ولا تعي غيره، فهم كذلك عن الحق صُمّ الآذان، عُمْي البصائر، خُرْس الألسنة، لا ينطقون بخير، ولا يصدرون عن عقل.
١٧٢- لقد أبحنا للناس كل حلال خلقناه لهم في الأرض، ونهيناهم أن يتبعوا خطوات الشيطان، فإنْ فعلوا اهتدوا، وإن أبوا فإنا نخص المؤمنين بهدايتنا ونبيِّن الحلال والحرام، في أيها الذين آمنوا أبيح لكم أن تأكلوا من لذيذ الطعام الطيب غير الخبيث، فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات وإباحتها، ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره لتتم عبادتكم.
١٧٣- وليس المحرم ما زعمه المشركون وما زعمه اليهود، وإنما المحرم عليكم - أيها المؤمنون - الميتة التي لم تذبح من الحيوان، ومن الدم المسفوح، ومثله في التحريم لحم الخنزير، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله من الوثن ونحوه، على أن من اضطر إلى تناول شيء من هذه المحظورات لجوعٍ لا يجد ما يدفعه غيرها أو لإكراه على أكله فلا بأس عليه، وليتجنب سبيل الجاهلية من طلب هذه المحرمات والرغبة فيها ولا يتجاوز ما يسد الجوع.
١٧٤- هذا وقد كان من العالمِين بما أنزل الله فريقٌ يُخفى بَعْضَ الوحي لقاء عَرَضٍ من أعراض الدنيا، فإن اليهود كتموا كثيراً مما جاء في التوراة من نعت الرسول خشيةَ أن يُسْلِم أهل ملتهم فيزول أمرهم وتضيع مكاسبهم ولذيذ مطاعمهم، وإن مطاعمهم من هذا السبيل لهي كالنار يأكلونها، لأنها ستقودهم إلى النار، وسيعرض الله عنهم يوم القيامة، ولا يطهرهم من دنسهم، وأمامهم عذاب شديد موجع.
١٧٥- وأولئك هم الآثمون الذين اختاروا الضلالة على الهدى فاستحقوا العذاب في الآخرة بدل الغفران، فكانوا كمن يشترى الباطل بالحق، وما فيه ضلال بما فيه هداية، وإن حالهم لتدعو إلى العجب، إذ يصبرون على موجبات العذاب ويستطيبون ما يؤدي بهم إليه.
١٧٦- ولقد استوجبوا ما قدر لهم من الجزاء لكفرهم بكتاب الله الذي أنزله بالحق والصدق، ولقد اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً، دفع إليه حب الجدل ومجانبة الحق والانقياد للهوى، فحرفوه وأفسدوه وفسروه بغير معانيه.
١٧٧- لقد أكثر الناسُ الكلام في أمر القبلة كأنها هي وحدها الخير، وليس هذا هو الحق، فليس استقبال جهة معينة في المشرق أو المغرب هو قوام الدين وجماع الخير، ولكن ملاك الخير عدة أمور بعضها من أركان العقيدة الصحيحة، وبعضها من أمهات الفضائل والعبادات، فالأول هو : الإيمان بالله ويوم البعث والنشور والحساب وما يتبعه يوم القيامة، والإيمان بالملائكة وبالكتب المنزلة على الأنبياء وبالأنبياء أنفسهم. والثاني هو : بذل المال عن رغبة وطيب نفس للفقراء من الأقارب واليتامى، ولمن اشتدت حاجتهم وفاقتهم من الناس، وللمسافرين الذين انقطع بهم الطريق فلا يجدون ما يبلغهم مقصدهم، وللسائلين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، ولغرض عتق الأرقاء وتحرير رقابهم من الرق. والثالث : المحافظة على الصلاة. والرابع : إخراج الزكاة المفروضة. والخامس : الوفاء بالعهد في النفس والمال. والسادس : الصبر على الأذى ينزل بالنفس أو المال، أو وقت مجاهدة العدو في مواطن الحروب فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صَدَقوا في إيمانهم، وهم الذين اتقوا الكفر والرذائل وتجنبوها.
١٧٨- ومن الشرائع التي فرضناها على المؤمنين أحكام القتل العمد، فقد فرضنا عليكم القصاصَ بسبب القتل، ولا تأخذوا بظلم أهل الجاهلية الذين كانوا يقتلون الحر غير القاتل بالعبد، والذكر الذي لم يقتل بالأنثى، والرئيس غير القاتل بالمرءوس القاتل دون مجازاة القاتل نفسه، فالحر القاتل يقتل بالحر المقتول، وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فأساس القصاص هو دفع الاعتداء في القتل بقتل القاتل للتشفي ومنع البغي، فإن سَمَت نفوس أهل الدم ودفعوا بالتي هي أحسن فآثروا العفو عن إخوانهم وجب لهم دية قتيلهم، وعلى أولياء الدم اتباع هذا الحكم بالتسامح دون إجهاد للقاتل أو تعنيف، وعلى القاتل أداء الدين دون مماطلة أو بخس، وفى حكم القتل الذي فرضناه على هذا الوجه تخفيف على المؤمنين بالنسبة إلى حكم التوراة الذي يوجب في القتل القصاص، كما فيه رحمة بهم بالنسبة إلى الذين يدعون إلى العفو من غير تعرض للقاتل، فمن جاوز هذا الحكم بعد ذلك فله عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
١٧٩- وإن رحمة الله بكم لعظيمة في فرض القصاص عليكم، فبفضل القصاص عليكم تتحقق للمجتمع حياة آمنة سليمة. وذلك أن من يهم بالقتل إذا علم أن في ذلك هلاك نفسه لم ينفذ ما هَمَّ به، وفى ذلك حياته وحياة من هَمَّ بقتله، وإذا قتل الرئيس بالمرءوس وغير المذنب بالمذنب - كما هو شأن الجاهلية - كان ذلك مثاراً للفتن واختلال النظام والأمن. فلْيتدبر أولو العقول مزية القصاص فإن ذلك يحملهم على إدراك لطف الله بهم إلى سبيل التقوى وامتثال أوامر الله سبحانه.
١٨٠- وكما شرع الله القصاص لصلاح الأمة وحفظ المجتمع، كذلك شرع الله شريعة فيها صلاح الأسرة وحفظ كيانها وهي شريعة الوصية، فعلى من ظهرت أمامه إمارات الموت وعلم أنه ميت لا محالة، وكان ذا مال يعتد به أن يجعل من ماله نصيباً لمن يدرك من والديه وأقاربه - الأقربين غير الوارثين - وليراع في ذلك ما يحسن ويقبل في عرف العقلاء فلا يعطى الغنى ويدع الفقير، بل يؤثر ذوي الحاجة ولا يسوي إلا بين المتساوين في الفاقة، وكان ذلك الفرض حقاً واجباً على من آثر التقوى واتبع أوامر الدين.
١٨١- وإذا صدرت الوصية عن الموصي كانت حقاً واجباً لا يجوز تغييره ولا تبديله، إلا إذا كانت الوصية مجافية للعدل، فمن بدّل هذا الحق فغيَّر الوصية العادلة القويمة بعد ما علم هذا الحكم وثبت عنده فقد ارتكب ذنباً عظيماً ينال عقابه، وقد برئ الموصي من تبعته، ولا يظن أحد أن يفعل ذلك ولا يجازى عليه، فإن الله سميع عليم لا تخفى عليه خافية.
١٨٢- أما إذا كانت الوصية زائغة عن العدل وعن الصراط القويم الذي بَيَّنَّاه بأن حَرَم الموصِى الفقيرَ وأعطى الغني، أو ترك الأقربين وراعى الفقراء غير الوارثين الأجانب، فسعى ساع في سبيل الخير وأصلح بين الموصي إليهم ليرد الوصية إلى الصواب، فلا إثم عليه فيما يحدثه من تغيير الوصية وتبديلها على هذا الوجه، ولا يؤاخذه الله على ذلك، فإن الله غفور رحيم.
١٨٣- وكما شرع الله لكم القصاص والوصية لصلاح مجتمعكم، والحفاظ على أسركم، شرع الله كذلك فريضة الصيام تهذيباً لنفوسكم، وتقويماً لشهواتكم، وتفضيلا لكم على الحيوان الأعجم الذي ينقاد لغرائزه وشهواته، وكان فرض الصيام عليكم مثل ما فرض على من سبقكم من الأمم، فلا يشق عليكم أمره. لأنه فرض على الناس جميعاً، وكان وجوب الصيام والقيام به، لتتربى فيكم روح التقوى، ويقوى وجدانكم، وتتهذب نفوسكم.
١٨٤- وفرض الله عليكم الصيام في أيام معدودة قليلة لو شاء سبحانه لأطال مدته ولكنه لم يطلها، ولم يكلفكم في الصوم ما لا تطيقون، فمن كان مريضاً مرضاً يضر معه الصوم، أو كان في سفر، فله أن يفطر ويقضي الصوم بعد برئه من المرض أو رجوعه من السفر، أما غير المريض والمسافر ممن لا يستطيع الصوم إلا بمشقة لعذر دائم كشيخوخة ومرض لا يرجى برؤه فله الفطر حينئذٍ، وعليه أن يطعم مسكيناً لا يجد قوت يومه، ومن صام متطوعاً زيادة على الفرض فهو خير له، لأن الصيام خير دائماً لمن يعلم حقائق العبادات.
١٨٥- وهذه الأيام هي شهر رمضان الجليل القدر عند الله، لقد أنزل فيه القرآن يهدي جميع الناس إلى الرشد ببيِّاناته الواضحة الموصلة إلى الخير، والفاصلة بين الحق والباطل على مَرِّ العصور والأجيال، فمن أدرك هذا الشهر سليماً غير مريض، مقيماً غير مسافر فعليه صومه، ومن كان مريضاً مرضاً يضر معه الصوم، أو كان في سفر، فله أن يفطر وعليه قضاء صيام ما أفطره من أيام الصوم، فإن الله لا يريد أن يَشُقَّ عليكم في التكاليف وإنما يريد لكم اليسر، وقد بين لكم شهر الصوم وهداكم إليه لتكملوا عدة الأيام التي تصومونها وتكبروا الله على هدايته إياكم وحسن توفيقه.
١٨٦- وإني مطلع على العباد، عليم بما يأتون وما يذرون، فإذا سألك - يا محمد - عبادي قائلين : هل الله قريب منا بحيث يعلم ما نخفي وما نعلن وما نترك ؟ فقل لهم : إني أقرب إليهم مما يظنون، ودليل ذلك أن دعوة الداعي تصل في حينها، وأنا الذي أجيبها في حينها كذلك، وإذا كنت استجبت لها فليستجيبوا هم لي بالإيمان والطاعة فإن ذلك سبيل إرشادهم وسدادهم.
١٨٧- أحَلَّ الله لكم ليلة الصوم إتيان نسائكم لاختلاطكم بهن واختلاطهن بكم في النهار والمبيت، ولعسر ابتعادكم عنهن وتخفيفاً عليكم. وقد علم الله أنكم كنتم تنقصون حظ نفوسكم وتظلمونها، فتحرمون عليها إتيان النساء في ليل رمضان فتاب عليكم من الغلو وعفا عنكم، والآن وقد تبين لك حِلُّ ذلك فلا تتحرجوا من مباشرتهن، وتمتعوا بما أباحه الله لكم وكلوا واشربوا في ليل رمضان حتى يظهر لكم نور الفجر، متميزاً من ظلام الليل، كما يتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وإذا ظهر ذلك فصوموا وأتموا الصيام إلى غروب الشمس.
وإذا كان الصيام من العبادات التي يجب التفرغ لها والتجرد فيها من شهوات النفس ومقاربة النساء في نهار الصوم، فكذلك عبادة الاعتكاف في المساجد وملازمتها توجب الخلوَّ لها وعدم التمتع بالنساء ما دام المرء ملتزماً بها. وما شرع الله لكم في الصوم والاعتكاف حدود وضعها الله لكم فحافظوا عليها ولا تقربوها لتتجاوزوا أوامرها، وقد أوسع الله في بيانها للناس على هذا النحو ليتقوها ويتجنبوا تبعاتها.
١٨٨- وقد حرَّم الله عليكم أكل مال غيركم دون وجه من الحق دائماً، فلا يستحل أحدكم مال غيره إلا بوجه من الوجوه التي شرعها الله كالميراث والهبة والعقد الصحيح المبيح للملك، وقد ينازع أحدكم أخاه في المال وهو مبطل، ويرفع أمره إلى الحاكم أو القاضي ليحكم له وينتزع من أخيه ماله بشهادة باطلة أو بينة كاذبة، أو رشوة خبيثة، فبئس ما يفعل وما يجرُّ على نفسه من سوء الجزاء.
١٨٩- ويسألك قوم عن الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يكتمل ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس. فما وراء هذا التغير، حتى صار في كل شهر هلال وصارت هناك أهلة ؟. فقل لهم : إن لتكرار هذه الأهلة واختلاف نموها حِكَماً ومصالح دينية ودنيوية، فهي أمارات تحدد أوقات المعاملات في معاشكم، وتعيِّن أوقات الحج الذي هو من أركان دينكم، ولو استقر الهلال على حاله كالشمس ما استقام لكم توقيت معاشكم وحجكم، وليس جهلكم بحكمة اختلاف الهلال مدعاة للشك في حكمة الخالق، وليس من البر أن تأتوا البيوت من ظهورها، متميزين بذلك عن الناس، ولكن البر هو تقوى القلوب وإخلاصها وأن تأتوا البيوت من أبوابها كما يأتي كل الناس، وأن تطلبوا الحق والدليل المستقيم، فاطلبوا رضا الله، واتقوا عذابه، وارجوا بذلك فَلاَحَكُمْ وفوزكم ونجاتكم من عذاب النار.
١٩٠- ومن تقوى الله تحمل المشاق في طاعته، وأشد المشاق على النفس هو قتال أعداء الله ولكن إذا اعتدى عليكم فقاتلوا المعتدين، وقد أذن لكم برد اعتداءاتهم، ولكن لا تعتدوا بمبادأتهم أو بقتل من لا يقاتل ولا رأى له في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
١٩١- واقتلوا أولئك الذين بدأوكم بالقتال حيث وجدتموهم، وأخرجوكم من مكة وطنكم الذي حملوكم على الخروج منه، ولا تتحرجوا من ذلك فقد فعلوا ما هو أشد من القتل في المسجد الحرام إذ حاولوا فتنة المؤمنين عن دينهم بالتعذيب في مكة حتى فروا بدينهم من وطنهم، ولكن للمسجد الحرام حرمته فلا تنتهكوها إلا إذا انتهكوها هم بقتالكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم وأنتم الغالبون بفضل الله، وكذلك جزاء الكافرين يفعل بهم ما يفعلونه بغيرهم.
١٩٢- فإن رجعوا عن الكفر ودخلوا في طاعة الإسلام، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله، والله يغفر لهم ما سلف من كفرهم بفضل منه ورحمة.
١٩٣- وقاتلوا هؤلاء الذين حاولوا قتلكم وصدكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب، حتى تستأصل جذور الفتنة ويخلص الدين لله. فإن انتهوا عن كفرهم فقد نجوا أنفسهم وخلصوا من العقاب، فلا ينبغي الاعتداء عليهم حينئذٍ وإنما العدوان على من ظلم نفسه وأوبقها بالمعاصي وتجاوز العدل في القول والفعل.
١٩٤- فإذا اعتدوا عليكم في الشهر الحرام فلا تقعدوا عن قتالهم فيه فإنه حرام عليهم، كما هو حرام عليكم، وإذا انتهكوا حرمته عندكم فقابلوا ذلك بالدفاع عن أنفسكم فيه، وفى الحرمات والمقدسات شرع القصاص والمعاملة بالمثل، فمن اعتدى عليكم في مقدساتكم فادفعوا هذا العدوان بمثله، واتقوا الله فلا تسرفوا في المجازاة والقصاص، واعلموا أن الله ناصر المتقين.
١٩٥- جهاد الكفار يكون ببذل النفس كما يكون ببذل المال، فأنفقوا في الإعداد للقتال، واعلموا أن قتال هؤلاء في سبيل الله، فلا تقعدوا عنه، وابذلوا الأموال فيه فإنكم إن تقاعدتم وبخلتم ركبكم العدو وأذلكم فكأنما ألقيتم أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، فافعلوا ما يجب عليكم بإحسان وإتقان، فإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يحسنه.
١٩٦- وأدوا الحج والعمرة لله على وجه التمام والكمال قاصدين بهما وجه الله، ولا تقصدوا بهما إصابة عَرَض دنيوي من شهرة ونحوها. وإذا قصدتم الحج والعمرة وأحرمتم بهما فمنعكم عدو في الطريق فلكم أن تتحللوا من إحرامكم بحلق رءوسكم، ولكن عليكم قبل ذلك ذبح ما تيسر لكم - من شاة أو بعير أو بقرة - والتصدق به على المساكين، ولا تحلقوا رءوسكم حتى تقوموا بهذه النسك، ومن كان مُحْرِماً وأذاه شعر رأسه لمرض أو هوام في رأسه فلا بأس أن يحلق رأسه، وعليه حينئذٍ أن يفدى عن ذلك بصيام ثلاثة أيام، أو التصدق على ستة مساكين بقوت يوم، أو ذبح شاة والتصدق بها على الفقراء والمساكين. وإذا كنتم في دار الأمان والسلم ولم يعترض طريقكم عدو، وقصدتم الحج والعمرة وتمتعتم أولا بالعمرة إلى أن يحين وقت الحج فتحرموا، فعليكم ذبح شاة لمساكين الحرم وفقرائه، فمن لم يجد شاة أو لم يقدر على ثمنها صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله، وهذا على من لم يكن من أهل مكة، فمن كان من أهلها فلا شيء عليه إذا تمتع.
١٩٧- والحج يقع في أشهر معلومة لكم، إذ كان أمره معروفاً عندكم من عهد إبراهيم - عليه السلام - وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن فرض الحج على نفسه في هذه الأشهر ودخل فيه فليراع آدابه، ومن آداب الحج أن يتنزه المحرم عن مباشرة النساء، وعن المعاصي من السباب وغيره، وعن الجدل والمراء مع غيره من الحجيج، وعن كل ما يجر إلى الشحناء والخصام حتى يخرج المحرم مهذب النفس، وليجتهد في فعل الخير، وطلب الأجر من الله بالعمل الصالح فإن الله عليم بذلك ومجاز عليه، وتزودوا لآخرتكم بالتقوى والائتمار بأوامر الله واجتناب نواهيه، فإن ذلك خير الزاد، واستشعروا خشية الله فيما تأتون وما تذرون كما هو مقتضى العقل والحكمة، فلا تشوبوا أفعالكم بدواعي الهوى والغرض الدنيوي.
١٩٨- ولقد كان منكم من يجد حرجاً في مزاولة التجارة وابتغاء الرزق في موسم الحج، فلا حرج عليكم في ذلك، بل لكم أن تزاولوا التكسب بطرقه المشروعة وتبتغوا فضل الله ونعمته، وإذا صدر الحجاج راجعين من عرفات بعد الوقوف بها، ووصلوا المزدلفة ليلة عيد النحر فليذكروا الله عند المشعر الحرام - وهو جبل المزدلفة - بالتهليل والتلبية والتكبير، وليمجدوه وليحمدوه على هدايته إياهم إلى الدين الحق والعبادة القويمة في الحج وغيره، وقد كانوا من قبل ذلك في ضلال عن صراط الهدى والرشاد.
١٩٩- وقد كان قوم من العرب - وهم قريش - لا يقفون مع الناس في عرفات مع علمهم أنه موقف أبيهم إبراهيم، وذلك ترفعاً أن يساووا غيرهم وهم أهل بيت الله وقطان حرمه، وزعماً منهم أن ذلك تعظيم للحرم الذي لا يريدون الخروج منه إلى عرفات، وهي من الحلال لا من الحرام، فطالبهم الله بأن يقلعوا عن عادات الجاهلية ويقفوا بعرفات ويصدروا عنها كما يصدر جمهور الناس، فلا فضل لأحد على الآخر في أداء العبادة، وعليهم أن يستغفروا الله في هذه المواطن المباركة فذلك أدعى أن يغفر الله لهم ما فرط منهم من الذنوب والآثام ويرحمهم بفضله.
٢٠٠- وإذا فرغتم من أعمال الحج وشعائره فدعوا ما كنتم عليه في الجاهلية من التفاخر بالآباء وذكر مآثرهم، وليكن ذكركم وتمجيدكم لله فاذكروه كما كنتم تذكرون آباءكم، بل اذكروه أكثر من ذكر آبائكم لأنه ولي النعمة عليكم وعلى آبائكم، ومواطن الحج هي مواطن الدعاء وسؤال الفضل والخير والرحمة من عند الله، وقد كان فريق من الحجاج يقصر دعاءه على عرض الدنيا وخيراتها ولا يلقي بالاً للآخرة فهذا لا نصيب له في الآخرة.
٢٠١- ومن الناس من وفَّقه الله فاتجه بقلبه إلى طلب خيري الدنيا والآخرة، ودعا الله أن يجنبه شر النار وعذابها.
٢٠٢- فهؤلاء يعطون ما قُدِّر لهم مما كسبوه بالطلب والركون إلى الله. والله يجزى كلاً بما يستحق، وهو سريع الحساب والجزاء.
٢٠٣- واذكروا الله بالتكبير والتهليل والتحميد في أيام معدودات هي أيام رمى الجمار بمنى وهى : الحادي عشر. والثاني عشر. والثالث عشر. وليس بلازم لأن قوام الخير تقوى الله لا مقدار العدد، واتقوا الله دائماً واعلموا أنكم إليه تحشرون مسئولون عن أعمالكم.
٢٠٤- وإذا كانت تقوى الله هي الأساس فالخسران لفريق من الناس يختلف الذي تضمره قلوبهم عن الذي تنطق به ألسنتهم، أوتوا حلاوة في صوغ الكلام، يعجبك قولهم فيما يحتالون به على جلب المنفعة في الحياة الدنيا، ويؤيدون لك بزعمهم بأن الله يعلم صدق قلوبهم فيما تقوله ألسنتهم، وإنهم لأشد الناس خصومة لك وأقساهم عليك.
٢٠٥- وإذا تولى ولاية يكون له فيها سلطان لا يكون سعيه للإصلاح، بل للإفساد وإهلاك الزرع والنسل، والله لا يحبه، لأن الله تعالى لا يحب الفساد.
٢٠٦- وإذا نصحت له حينئذٍ بالخوف من الله ثارت في نفسه الحمية وظن ذلك هدماً لعزته، وحمله على ارتكاب الإثم فيما نهيته عنه لجاجة وعناداً، فحسبه على ذلك عذاب جهنم ولبئس المستقر.
٢٠٧- فما أبعد الفرق بين هؤلاء المنافقين وبين المؤمنين الصادقين الذين يبيع أحدهم نفسه في سبيل مرضاة الله، وإعلاء كلمة الحق، ويكون هذا النوع من الناس مقابلا للنوع الأول، ويكون تولية أمراً من أمور الناس من رأفة الله بعباده، والله تعالى يرحمهم بجعل الولاية لهؤلاء ليدفع بهم أذى الأشرار.
٢٠٨- يا أيها الذين آمنوا كونوا جميعاً مسالمين فيما بينكم، ولا تثيروا العصبيات الجاهلية وغيرها من أسباب النزاع والخلاف، ولا تسيروا في طريق الشيطان الذي يدفعكم إلى الشقاق فإنه لكم عدو مبين.
٢٠٩- فإن انحرفتم عن هذا الطريق الذي دعيتم إليه جميعاً من بعد ظهور الحجج القاطعة على أنه طريق الحق، فاعلموا أنكم مؤاخذون بهذا الانحراف لأن الله عزيز يعاقب من يعرض عن سبيله، حكيم يقدر العقوبة بقدرها.
٢١٠- وهل ينتظر هؤلاء المعرضون عن الإسلام ليقتنعوا أن يروا الله تعالى جهرة في غمامٍ مع الملائكة وقد قضي الأمر بقطع مطامعهم، لأن الشئون جميعاً في قبضة الله يصرفها هو حيث يشاء وقد قضي فيها قضاءه الذي سينفذ لا محالة.
٢١١- سل بني إسرائيل كم سقنا إليهم الأدلة القاطعة على صدق الرسول، وفى ذلك نعمة هدايتهم إلى الله، فكفروا بهذه الأدلة، وعمدوا بتكذيبهم لها إلى تبديل الغرض منها، فبعد أن كانت هذه الآيات للهداية أصبحت بالنسبة لكفر هؤلاء بها سبباً في زيادة ضلالهم وإثمهم، ومن يبدل نعم الله بهذه الصورة يحق عليه العذاب لأن الله شديد العقاب.
٢١٢- وإنّ السبب في الانحراف والكفر هو طلب الدنيا، فقد زين للذين كفروا شهوات الحياة الدنيا فمضوا يسخرون من الذين آمنوا لانشغالهم بالحياة الآخرة، والله جاعل الذين آمنوا أعلى مكاناً منهم في الآخرة. فأما توفر المال وزينة الحياة الدنيا لدى الكفار فلا تدل على أفضليتهم، لأن رزق الله لا يُقدَّر على حساب الإيمان والكفر بل يجرى تبعاً لمشيئته، فمن الناس من يزاد له في الرزق استدراجاً ومنهم من يقتر عليه اختباراً.
٢١٣- وإنَّ الناس طبيعة واحدة فيها الاستعداد للضلالة، ومنهم من تستولي عليه أسباب الهداية، ومنهم من تغلب عليه الضلالة، ولذلك اختلفوا، فبعث الله إليهم الأنبياء هداة ومبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب مشتملة على الحق، لتكون هي الحكم بين الناس فينقطع التنازع، ولكن الذين انتفعوا بهدى النبيين هم الذين آمنوا فقط، والذين هداهم الله في موضع الاختلاف إلى الحق، والله هو الذي يوفق أهل الحق إذا أخلصوا.
٢١٤- فهل حسبتم أن تدخلوا الجنة بمجرد إقراركم بكلمة الإسلام بدون أن تصابوا بمثل ما أصاب الذين من قبلكم، فقد أصابتهم الشدائد والنوازل وزلزلوا حتى بلغ بهم الأمر أن قال رسولهم نفسه وقالوا معه : متى نصر الله ؟ فَيبِرُّ ربهم بوعده فيجابون عندئذٍ بأن نصر الله قريب.
٢١٥- يسألك المؤمنون في شأن الإنفاق فقل لهم : إن الإنفاق يكون من المال الطيب، ويعْطَى للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين ومن انقطع عن ماله وأهله، وما تفعلوا من عمل خير فإن الله يعلمه وهو يثيبكم عليه.
٢١٦- فإذا كان في الإنفاق على اليتامى والمساكين وغيرهم حماية للمجتمع في داخله فإن القتال حماية له من أعدائه في الخارج، ولذلك فرض عليكم - أيها المسلمون - القتال لحماية دينكم والدفاع عن أنفسكم، وأن نفوسكم بحكم جبلتها تكره القتال كرهاً شديداً، ولكن ربما كرهتم ما فيه خيركم وأحببتم ما فيه شركم، والله يعلم ما غاب من مصالحكم عنكم، وأنتم لا تعلمون فاستجيبوا لما فرض عليكم.
٢١٧- وقد كره المسلمون القتال في الشهر الحرام فسألوك عنه، فقل لهم : نعم إن القتال في الشهر الحرام إثم كبير، ولكن أكبر منه ما حدث من أعدائكم من صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراج المسلمين من مكة، وقد كان إيذاؤهم للمسلمين لإخراجهم من دينهم أكبر من كل قتل، ولذلك أُبيح القتال في الشهر الحرام لقمع هذه الشرور، فهو عمل كبير يُتقي به ما هو أكبر منه. واعلموا - أيها المسلمون - أن سبيل هؤلاء معكم سبيل التجني والظلم، وأنهم لا يقبلون منكم العدل والمنطق، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يضعف أمام هجماتهم ويرتد عن دينه حتى يموت على الكفر فأولئك بطلت أعمالهم الصالحة في الدنيا والآخرة، وأولئك أهل النار هم فيها خالدون.
٢١٨- وإن الذين آمنوا إيماناً صادقاً دفعهم إلى الهجرة لنصرة الدين والجهاد لإعلاء كلمته فأولئك ينتظرون عظيم ثواب الله لهم، وإن قصروا في شيء، لأن الله غفور يغفر الذنوب، رحيم يرحم عباده بالهداية والثواب.
٢١٩- ويسألونك - يا محمد - عن حكم الخمر والقمار، فقل : إن فيهما ضرراً كبيراً من إفساد الصحة وذهاب العقل والمال وإثارة البغضاء والعدوان بين الناس، وفيهما منافع وبعض المنافع الصحية والربح السهل، ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما. ويسألونك عمَّا ينفقون، فأجبهم أن ينفقوا في ذات الله السهل اليسير الذي لا يشق عليكم إنفاقه، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فيما يعود عليكم من مصالح الدنيا والآخرة.
٢٢٠- ويسألونك بشأن اليتامى والذي يوجبه الإسلام حيالهم، فقل : إن الخير لكم ولهم في إصلاحهم، وأن تضمُّوهم إلى بيوتكم، وأن تخالطوهم بقصد الإصلاح لا الفساد، فهم إخوانكم في الدنيا يستدعون منكم هذه المخالطة، والله يعلم المفسد من المصلح منكم فاحذروا. ولو شاء الله لشق عليكم، فألزمكم رعاية اليتامى من غير مخالطة لهم، أو تركهم من غير بيان الواجب لهم، فيربون على بغض الجماعة ويكون ذلك إفساداً لجماعتكم وإعناتاً لكم، إذ إن قهرهم وذلهم يجعل منهم المبغضين للجماعة المفسدين فيها، وإن الله عزيز غالب على أمره، ولكنه حكيم لا يشرع إلا ما فيه مصلحتكم.
٢٢١- وإذا كانت مخالطة اليتامى لا حرج فيها فإن الحرج في مخالطة أهل الشرك، فلا ينكح المؤمن مشركة لا تدين بكتاب سماوي، ولا يحمل المرء منكم على زواج المشركة مالها وجمالها وحسبها ونسبها. فالمؤمنة التي وقع عليها الرق خير من المشركة الحرة ذات المال والجمال والحسب والنسب، ولا يزوج المرء منكم من له عليه ولاية من النساء مشركاً لا يؤمن بالكتب السماوية، ولا يبعث أحدكم على إيثار المشرك غناه وشرفه، فخير منه العبد المؤمن، فأولئك المشركون يجتذبون عشراءهم إلى المعصية والشرك فيستوجبون النار. والله إذ يدعوكم إلى اعتزال المشركين في النكاح يدعوكم إلى ما فيه صلاحكم ورشادكم لتنالوا الجنة والمغفرة، وتسيروا في طريق الخير بتيسيره، والله يبين شرائعه وهديه للناس لعلهم يعرفون صلاحهم ورشادهم.
٢٢٢- ويسألونك عن إتيان الزوجات زمن المحيض، فأجبهم : أن المحيض أذى فامتنعوا عن إتيانهن مدته، ولا تأتوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن في المكان الطبيعي، ومن كان وقع منه شيء من ذلك فليتب، فإن الله يحب من عباده كثرة التوبة والطهارة من الأقذار والفحش.
٢٢٣- زوجاتكم هن موضع النسل كموضع البذر ينبت النبات، فيباح لكم أن تأتوهن على أية طريقة تشاءون إذا كان ذلك في موضع نسل، واتقوا الله أن تعصوه في مخالطة المرأة، واعلموا أنكم ملاقوه ومسئولون عنده، والبشرى للذين يقفون عند حدوده تعالى فلا يتعدونها.
٢٢٤- لا تجعلوا اسم الله معرَّضاً لكثرة الحلف به، لأن ذلك ينافى تعظيم اسم الله، وأن الامتناع عن كثرة الحلف باسم الله يؤدي إلى البر والتقوى والقدرة على الإصلاح بين الناس، إذ يكون الممتنع جليل القدر في أعين الناس موثوقاً به بينهم فيقبل قوله، والله سميع لأقوالكم وأيمانكم، عليم بنياتكم.
٢٢٥- عفا الله عنكم في بعض الأيمان، فما جرى على الألسنة من صور الأيمان ولم يصحبه قصد ولا عقد قلب، أو كان يحلف على شيء يعتقده حصل وهو لم يحصل فإن الله لا يؤاخذ عليه، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم من عزم على إيقاع فعل أو عدم إيقاعه. وعلى الكذب في القول مع التوثيق باليمين، فالله غفور لمن يتوب، حليم يعفو عما لا يكتسبه القلب.
٢٢٦- وهؤلاء الذين حلفوا ألا يقربوا نساءهم يُمْهَلُونَ أربعة أشهر، فإن أتوا نساءهم في أثنائها استمر الزواج وعليهم كفارة اليمين وغفر لهم وتقبل منهم الكفارة رحمة بهم.
٢٢٧- وإن لم يأتوا نساءهم في هذه المدة كان ذلك إضراراً بالمرأة، فليس إلا الطلاق، والله سميع لأيمانهم عليم بأحوالهم ومحاسبهم على ذلك يوم القيامة.
٢٢٨- وعلى المطلقات أن ينتظرن دون التطلع إلى زواج يستأنف مدة ثلاث حيضات، استبراء للرحم، وفسحة لاحتمال المراجعة، ولا يحل لهنَّ أن يكتمن ما يكون في أرحامهن من جنين أو دم حيض، وذلك شأن المؤمنات بالله ولقائه في اليوم الآخر، وأزواجهن لهم الحق في إرجاعهن للزوجية ثانياً مدة العدة، وعلى الأزواج عند استعمال هذا الحق أن يقصدوا إلى الإصلاح لا المضرة، وللزوجات من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات بما لا ينكره الشرع الشريف، وللرجال عليهن درجة الرعاية والمحافظة على الحياة الزوجية وشئون الأولاد والله سبحانه فوق عباده يشرع لهم ما يتفق مع الحكمة.
٢٢٩- الطلاق مرَّتان يكون للزوج بعد كل واحدة منها الحق في أن يمسك زوجته برجعتها في العدة أو إعادتها إلى عصمته بعقد جديد، وفي هذه الحال يجب أن يكون قصده الإمساك بالعدل والمعاملة بالحسنى، أو أن ينهي الحياة الزوجية مع المعاملة الحسنة وإكرامها من غير مجافاة. ولا يحل لكم - أيها الأزواج - أن تأخذوا مما أعطيتموهن شيئا إلا عند خشية عدم إقامة حقوق الزوجية التي بينها الله سبحانه وتعالى وألزم بها. فإن خفتم - يا معشر المسلمين - ألا تؤدِّي الزوجات حقوق الزوجية سليمة كما بينها الله فقد شرع للزوجة أن تقدم مالا في مقابل افتراقها عن زوجها، وهذه هي أحكام الله المقررة فلا تخالفوها وتتجاوزوها لأن من يفعل ذلك ظالم لنفسه وظالم للمجتمع الذي يعيش فيه.
٢٣٠- فإن طلق الزوج امرأته مرة ثالثة بعد التطليقتين السابقتين فلا تحل له حينئذ إلا بعد أن تتزوج زوجاً غيره ويدخل بها، فإن طلقها من بعد ذلك الزوجُ الثاني وصارت أهلاً لأن يعقد عليها عقداً جديداً فلا إثم عليها ولا على زوجها الأول في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة بعقد جديد، وعليهما أن يعتزما إقامة حياة زوجية صالحة تراعى فيها كل الأحكام الشرعية التي حددها الله سبحانه وتعالى، وقد بُيِّنَتْ هذه الحدود لمن يؤمن بالشرع الإسلامي ويريد العلم والعمل به.
٢٣١- وإذا طلقتم النساء فشارفن انتهاء عدتهن، فلكم أن تراجعوهن قاصدين إقامة العدل وحسن الصحبة وعدم المضارة، ولكم أن تتركوهن لتنقضي عدتهن ملاحظين المعاملة اللائقة عند الفراق من غير جفوة، ولا يجوز أن يكون القصد من المراجعة مضارة المرأة وتطويل عدتها، ومن يفعل ذلك فقد حَرَم نفسه سعادة الحياة الزوجية وثقة الناس به واستحق سخط الله عليه، ولا تتخذوا أحكام الله في الأسرة - التي جاءت بها الآيات وجعلت زمام الأسرة بيد الوكيل - سخرية ولهواً وعبثاً، تطلِّقون لغير سبب وترجعونها مضارة وإيذاء. واذكروا نعمة الله عليكم بتنظيم الحياة الزوجية تنظيماً عالياً، وبما أنزل عليكم من كتاب مبين للرسالة المحمدية والعلوم النافعة والأمثال والقصص التي بها تتعظون وتهتدون، واتخذوا بينكم وبين غضب الله وقاية واعلموا أن الله يعلم سركم وجهركم ونياتكم وأعمالكم وهو مجازيكم بما كنتم تعملون.
٢٣٢- وإذا طلقتم النساء وأتممتم عدتهن، وأرادت إحداهن أن تستأنف زواجاً جديداً من المطلق أو من رجل آخر غيره، فلا يحل للأولياء ولا للزوج المطلق أن يمنعوهنَّ من ذلك إذا تراضى الطرفان على عقد جديد وإرادة حياة كريمة تؤدى إلى حسن العشرة بينهما، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله وباليوم الآخر، ذلكم أدعى إلى تنمية العلاقات الشريفة في مجتمعكم وأطهر في نفوسكم من الأدناس والعلاقات المريبة، والله يعلم من مصالح البشر وأسرار نفوسهم ما يجهلون الوصول إليه.
٢٣٣- وعلى الأمهات أن يقمن بإرضاع أولادهن مدة عامين تامين مراعاة لمصلحة الطفل، إذا طلب أحد الوالدين أو كلاهما استيفاء مدة الرضاعة تامة لاحتياج الولد إليها، ويلزم الوالد - باعتبار الولد منسوباً إليه - بالإنفاق على الأمهات حينئذٍ بإطعامهن وكسوتهن على قدر طاقته بلا إسراف ولا تقتير. ولا ينبغي أن يُهضَم حق الأم في نفقتها أو حضانة ولدها، كما لا ينبغي أن يكون الولد سبباً في إلحاق الضرر بأبيه بأن يكلف فوق طاقته أو يحرم حقه في ولده، وإذا مات الأب أو كان فقيراً عاجزاً عن الكسب كانت النفقة على وارث الولد لو كان له مال، فإن رغب الوالدان أو كلاهما في فطام الطفل قبل تمام العامين وقد تراضيا على ذلك ونظرا إلى مصلحة الرضيع فلا تبعة عليهما، وإذا شئتم - أيها الآباء - أن تتخذوا مراضع للأطفال غير أمهاتهم فلا تبعة عليكم في ذلك، ولتدفعوا إليهن ما اتفقتم عليه من الأجر بالرضا والمحاسنة، وراقبوا الله في أعمالكم، واعلموا أنه مطلع عليها ومجازيكم بها.
٢٣٤- والذين يُتَوفَّوْن منكم من الرجال ويتركون زوجات لهم غير حوامل فعليهن أن يمكثن بعدهم دون تعرض للزواج مدة أربعة أشهر هلالية وعشر ليال بأيامها استبراء للرحم. فإذا انتهت هذه المدة فلا تبعة عليكم أيها الأولياء لو تركتموهن يأتين من شريف الأعمال التي يرضاها الشرع ليصلن بها إلى الزواج. فلا ينبغي أن تمنعوهن من ذلك ولا يجوز لهن أن يأتين من الأعمال ما ينكره الشرع ويأباه، فإن الله مطلع على سرائركم ويعلم أعمالكم فيحاسبكم على ما تعملون.
٢٣٥- ولا إثم عليكم - أيها الرجال - في مدة العدة إذا ألمحتم للمعتدات من وفاة بالزواج وأضمرتم ذلك في قلوبكم، فإن الله يعلم أنكم لا تصبرون عن التحدث في شأنهن لميل الرجال إلى النساء بالفطرة، ولهذا أباح لكم التلويح دون التصريح، فلا تعطوهن وعداً بالزواج إلا أن يكون ذلك إشارة لا نكر فيها ولا فحش، ولا تبرموا عقد الزواج حتى تنقضي العدة، وأيقنوا أن الله مطلع على ما تخفونه في قلوبكم، فخافوا عقابه ولا تقدموا على ما نهاكم عنه، ولا تيأسوا من رحمته إن خالفتم أمره فإنه واسع المغفرة يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، كما أنه حليم لا يعجل بالعقوبة لمن انتهك المحرمات.
٢٣٦- ولا إثم عليكم - أيها الأزواج - ولا مهر إذا طلقتم زوجاتكم قبل الدخول بهن وقبل أن تُقدِّروا لهن مهرَا، ولكن أعطوهن عطية من المال يتمتعن بها لتخفيف آلام نفوسهن، ولتكن عن رضا وطيب خاطر، وليدفعها الغنى بقدر وسعه والفقير بقدر حاله، وهذه العطية من أعمال البر التي يلتزمها ذوو المروءات وأهل الخير والإحسان.
٢٣٧- وإذا طلقتم النساء قبل الدخول بهنَّ بعد تقدير مهورهن، فقد وجب لهن نصف المهر المقدر ويدفع إليهن، إلا إذا تنازلت عنه الزوجة، كما أنَّهُنَّ لا يعطين أكثر من النصف إلا إذا سمحت نفس الزوج فأعطاها المهر كله، وسماحة كل من الزوجين أكرم وأرضى عند الله وأليق بأهل التقوى فلا تتركوها، واذكروا أن الخير في التفضل وحسن المعاملة، لأن ذلك أجلب للمودة والتحاب بين الناس، والله مطلع على ضمائركم وسيجازيكم على ما تتفضلون.
٢٣٨- احرصوا على إقامة الصلوات كلها، وداوموا عليها، واحرصوا على أن تكون صلاتكم هي الصلاة الفضلى بإقامة أركانها والإخلاص الكامل لله فيها، وأتموا طاعة الله تعالى وذكره مخلصين له خاشعين لجلاله، والصلاة الوسطى هي صلاة الفجر أو العصر على خلاف في الاجتهاد.
٢٣٩- فإذا أدركتم الصلاة وأنتم خائفون فلا تتركوها بل صلوا كما استطعتم مشاة أو راكبين، فإذا زال الخوف عنكم فصلُّوا الصلاة مستوفية الأركان كما علمتموها ذاكرين الله فيها شاكرين له ما علَّمكم إياه وما منَّ به عليكم من نعمة الأمن.
٢٤٠- والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات لهم، فقد أوصى الله بهن أن يقمن في بيت الزوجية عاماً كاملاً مواساة لهن وإزالة لوحشتهن. ولا يحق لأحد أن يخرجهن، فإن خرجن بأنفسهن في أثناء العام فلا إثم عليكم - أيها الأولياء - أن تتركوهن يتصرفن في أنفسهن بما لا ينكره الشرع الشريف عليهن، وأطيعوا الله في أحكامه واعملوا بما شرع لكم فإنه قادر على أن ينتقم ممن يخالف أمره، وهو ذو حكمة بالغة لا يشرع لكم إلا ما فيه المصلحة وإن غابت حكمتها عن علمكم.
٢٤١- وللنساء اللاتي يطلقن بعد الدخول حق في أن يعطين ما يتمتعن به من المال جبراً لخاطرهن، يدفع إليهن بالحسنى على قدر غنى الزوج وفقره لأن ذلك مما توجبه تقوى الله ويلزم به أهل الإيمان.
٢٤٢- بمثل هذه البيانات والتشريعات الواضحة المحققة للمصلحة، يبين الله لكم أحكامه ونعمه وآياته لتتدبروها وتعملوا بما فيها من الخير.
٢٤٣- تنبه أيها النبي إلى القصة العجيبة واعلمها، وهى حالة القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد خشية الموت فيه وهم ألوف كثيرة فقضى الله عليهم بالموت والهوان من أعدائهم، حتى إذا استبسلت بقيتهم وقامت بالجهاد أحيا الله جماعتهم به، وإن هذه الحياة العزيزة بعد الذلة المميتة من فضل الله الذي يستوجب الشكران، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
٢٤٤- وإذا علمتم أن الفرار من الموت لا ينجى منه، فجاهدوا وابذلوا أنفسكم لإعلاء كلمة الله، وأيقنوا أن الله يسمع ما يقول المتخلفون وما يقول المجاهدون، ويعلم ما يضمر كُلٌّ في نفسه فيجازى بالخير خيراً وبالشر شرا.
٢٤٥- والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى المال فقدموا أموالكم، فأي امرئ لا يبذل أمواله لله طيبة بها نفسه وقد وعده الله أن يردها عليه مضاعفة أضعافاً كثيرة ؟ والرزق بيد الله فيضيق على مَن يشاء ويوسع لمن يشاء لما فيه مصلحتكم، وإليه مصيركم فيجازيكم على ما بذلتم، ومع أن الرزق من فضل الله وعنايته وأنه هو الذي يعطي ويمنع، سمي المنفق مقرضاً للحث على الإنفاق والتحبيب فيه، وتأكيد الجزاء المضاعف في الدنيا والآخرة.
٢٤٦- تنبه إلى النبأ العجيب عن جماعة من بني إسرائيل بعد عهد موسى طلبوا من نبيهم في ذلك الوقت أن يجعل عليهم حاكماً يجمع شملهم بعد تفرق ويقودهم تحت لوائه إعلاء لكمة الله واسترداداً لعزتهم، سألهم ليستوثق من جدهم في الأمر : ألن تجبنوا عن القتال إذا فرض عليكم ؟.. فأنكروا أن يقع ذلك منهم قائلين : وكيف لا نقاتل لاسترداد حقوقنا وقد طردنا العدو من أوطاننا ؟.. فلما أجاب الله رغبتهم وفرض عليهم القتال أحجموا إلا جماعة قليلة منهم، وكان إحجامهم ظلماً لأنفسهم ونبيهم ودينهم، والله يعلم ذلك منهم وسيجزيهم جزاء الظالمين.
٢٤٧- وقال لهم نبيهم : إن الله استجاب لكم فاختار طالوت حاكماً عليكم. فاعترض كبراؤهم على اختيار الله قائلين : كيف يكون ملكاً علينا ونحن أولى منه، لأنه ليس بذي نسب ولا مال، فرد عليهم نبيهم قائلا : إن الله اختاره حاكماً عليكم لتوافر صفات القيادة فيه، وهى سعة الخبرة بشئون الحرب، وسياسة الحكم مع قوة الجسم ؛ والسلطان بيد الله يعطيه من يشاء من عباده ولا يعتمد على وراثة أو مال، وفضل الله وعلمه شامل، يختار ما فيه مصالحكم.
٢٤٨- وقال لهم نبيهم : إن دليل صدقي على أن الله اختار طالوت حاكماً لكم هو أن يعيد إليكم صندوق التوراة الذي سلب منكم تحمله الملائكة، وفيه بعض آثار آل موسى وآل هارون الذين جاءوا بعدهما، وفى إحضاره تطمئن قلوبكم، وإن في ذلك لدليلا يدفعكم إلى اتباعه والرضا به إن كنتم تذعنون للحق وتؤمنون به.
٢٤٩- فلما خرج بهم طالوت قال لهم : إن الله مختبركم بنهر تمرُّون عليه في طريقكم فلا تشربوا منه إلا غرفة، فمن شرب منه أكثر من ذلك فليس من جيشنا ولا من جمعنا لخروجه عن طاعة الله، ولن يصحبني إلا من لم يشرب منه أكثر من غرفة، فلم يصبروا على هذا الاختبار وشربوا منه كثيراً إلا جماعة قليلة، فاصطحب هذه القلة الصابرة واجتاز بها النهر، فلما ظهرت لهم كثرة عدد عدوهم قالوا : لن نستطيع اليوم قتال جالوت وجنوده لكثرتهم وقلتنا. فقال نفر منهم - ثبت الله قلوبهم لرجائهم في ثواب الله عند لقائه - لا تخافوا فكثيراً ما انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، فاصبروا فإن نصر الله يكون للصابرين.
٢٥٠- ولما تقدم المؤمنون لقتال جالوت وجيشه اتجهوا إلى الله ضارعين داعين له : أن يملأهم بالصبر، ويقوي عزائمهم ويثبتهم في ميدان القتال، وأن ينصرهم على أعدائهم الكافرين.
٢٥١- فهزموا عدوهم بإذن الله تعالى وقتل داود - وهو أحد جنود طالوت - جالوت قائد الكفار، وأعطاه الله الحكم بعد طالوت والنبوة والعلم النافع وعلمه مما يشاء، وسنة الله أن ينصر الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، ولولا أن الله يسلط جنوده على المفسدين لمحو فسادهم، ويسلط الأشرار بعضهم على بعض، ما عمرت الأرض، ولكن الله دائم الإحسان والفضل على عباده.
٢٥٢- تلك القصة من العبر التي نقصّها عليك بالصدق لتكون أسوة لك ودليلا على صدق رسالتك، ولتعلم أننا سننصرك كما نصرنا من قبلك من الرسل.
٢٥٣- هؤلاء الرسل الذين ذكرنا فريقاً منهم وقد فضلنا بعضهم على بعض. فمنهم من كلمه الله دون سفير كموسى، ومنهم من رفعه الله درجات فوق درجاتهم جميعاً وهو محمد الذي اختص بعموم الرسالة، وكمال الشريعة، وختمه الرسالات. ومنهم عيسى ابن مريم الذي أمددناه بالمعجزات كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وأيدناه بجبريل روح القدس. وقد جاء هؤلاء الرسل بالهدى، ودين الحق، والبينات الهادية، وكان مقتضى هذا أن يؤمن الناس جميعاً، ولا يختلفوا ولا يقتتلوا، ولو شاء الله ألا يقتتل الناس من بعد مجيء الرسل إليهم بالآيات الواضحة الدالة على الحق ما حدث اقتتال ولا اختلاف، ولكن الله لم يشأ ذلك، ولهذا اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولا اختلفوا بل يكونون جميعاً على الحق، ولكنه يفعل ما يريد لحكمة قدّرها.
٢٥٤- يا أيها المؤمنون بالله وباليوم الآخر أنفقوا بعض ما رزقكم الله في وجوه الخير، وبادروا بذلك قبل أن يأتي يوم القيامة الذي يكون كله للخير ولا توجد فيه أسباب النزاع، لا تستطيعون فيه تدارك ما فاتكم في الدنيا، ولا ينفع فيه بيع ولا صداقة ولا شفاعة أحد من الناس دون الله، والكافرون هم الذين يظهر ظلمهم في ذلك اليوم، إذ لم يستجيبوا لدعوة الحق.
٢٥٥- الله هو الذي يستحق أن يُعبد دون سواه، وهو الباقي القائم على شئون خلقه دائماً، الذي لا يغفل أبداً، فلا يصيبه فتور ولا نوم ولا ما يشبه ذلك لأنه لا يتصف بالنقص في شيء، وهو المختص بملك السماوات والأرض لا يشاركه في ذلك أحد، وبهذا لا يستطيع أي مخلوق كان أن يشفع لأحد إلا بإذن الله، وهو - سبحانه وتعالى - محيط بكل شيء عالم بما كان وما سيكون، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئاً من علم الله إلا ما أراد أن يعلم به من يرتضيه، وسلطانه واسع يشمل السماوات والأرض، ولا يصعب عليه تدبير ذلك لأنه المتعالي عن النقص والعجز، العظيم بجلاله وسلطانه.
٢٥٦- لا إجبار لأحد على الدخول في الدين، وقد وضح بالآيات الباهرة طريق الحق، وطريق الضلال، فمن اهتدى إلى الإيمان وكفر بكل ما يطغى على العقل، ويصرفه عن الحق، فقد استمسك بأوثق سبب يمنعه من التردي في الضلال، كمن تمسك بعروة متينة محكمة الرباط تمنعه من التردي في هوة، والله سميع لما تقولون، عليم بما تفعلون ومجازيكم على أفعالكم.
٢٥٧- الله متولي شئونِ المؤمنين وناصِرُهم، يخرجهم من ظلمات الشك والحيرة إلى نور الحق والاطمئنان، والكافرون بالله تستولي عليهم الشياطين ودعاة الشر والضلال، فهم يخرجونهم من نور الإيمان الذي فطروا عليه والذي وضح بالأدلة والآيات إلى ظلمات الكفر والفساد، هؤلاء الكافرون هم أهل النار مخلدون فيها.
٢٥٨- ألم تر إلى من عمي عن أدلة الإيمان وجادل إبراهيم خليل الله في ألوهية ربه ووحدانيته، وكيف أخرجه غروره بملكه - الذي وهبه ربه - من نور الفطرة إلى ظلام الكفر فعندما قال له إبراهيم : إن الله يحيي ويميت، بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منه، قال : أنا أحيي وأميت بالعفو والقتل، فقال إبراهيم ليقطع مجادلته : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب إن كنت إلها كما تدعى. فتحير وانقطع جدله من قوة الحُجة التي كشفت عجزه وغروره، والله لا يوفق المصرِّين المعاندين لاتباع الحق.
٢٥٩- ثم تَدَبَّرْ في مثل هذه القصة العجيبة، قصة الذي مرَّ على قرية متهدمة سقطت سقوفها وهدمت حيطانها وهلك أهلها، فقال : كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم ؟ فأماته الله وأبقاه على موته مائة عام ثم بعثه ليظهر له سهولة البعث ويزول استبعاده، ثم سئل أي مدة مكثتها ميتاً ؟ قال - غير شاعر بطول المدة - : يوماً أو بعض يوم، قيل له بل مكثت على هذه الحالة مائة عام، ثم لفت الله نظره إلى أمر آخر من دلائل قدرته فقال له : فانظر إلى طعامك لم يفسد، وإلى شرابك لم يتغير، وانظر إلى حمارك أيضاً، وقد فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدته من إحياء بعد الموت ولنجعلك آية ناطقة للناس تدل على صدق البعث، ثم أمره الله أن ينظر إلى عجيب خلقه للأحياء، وكيف يركِّب عظامها، ثم يكسوها لحما، ثم ينفخ فيها الروح فتتحرك، فلما وضحت له قدرته وسهولة البعث، قال : أعلم أن الله قادر على كل شيء.
٢٦٠- واذكر كذلك قصة إبراهيم إذ قال إبراهيم : رب أرني كيفية إحياء الموتى، فسأله ربه عن إيمانه بإحياء الموتى ليجيب إبراهيم بما يزيل كل الشك في إيمانه، فقال الله له : أو لم تؤمن بإحياء الموتى ؟ قال : إني آمنت ولكني طلبت ذلك ليزداد اطمئنان قلبي. قال : فخذ أربعة من الطير الحي فضمها إليك لتعرفهنَّ جيداً، ثم جَزِّئهن بعد ذبحهن، واجعل على كل جبل من الجبال المجاورة جزءا منهن، ثم نادهنَّ فسيأتينك ساعيات وفيهنَّ الحياة كما هي، واعلم أن الله لا يعجز عن شيء، وهو ذو حكمة بالغة في كل أمر.
٢٦١- إن حال الذين يبذلون أموالهم في طاعة الله ووجوه الخير، وينالون على ذلك ثواب الله المضاعف أضعافاً كثيرة، كحال من يبذر حبة في الأرض طيبة فتنبت منها شجيرة فيها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وهذا تصوير لكثرة ما يعطيه الله من جزاء على الإنفاق في الدنيا، والله يضاعف عطاءه لمن يشاء فهو واسع الفضل، عليم بمن يستحق وبمن لا يستحق.
٢٦٢- إن الذين ينفقون أموالهم في وجوه البر المشروعة دون مَنٍّ أو تفاخر أو تطاول على المحسن إليه. لهم أجرهم العظيم الموعود به عند ربهم، ولا يصيبهم خوف من شيء ولا حزن على شيء.
٢٦٣- قول تطيب به النفوس وتستر معه حال الفقير فلا تذكره لغيره، خير من عطاء يتبعه إيذاء بالقول أو الفعل، والله - سبحانه وتعالى - غنى عن كل عطاء مصحوب بالأذى، ويمكِّن الفقراء من الرزق الطيب، ولا يعجل بعقوبته من لا يعطى رجاء أن يهتدي إلى العطاء.
٢٦٤- لا تضيعوا ثواب صدقاتكم - أيها المؤمنون - بإظهار فضلكم على المحتاجين وإيذائهم فتكونوا كالذين ينفقون أموالهم بدافع الرغبة في الشهرة وحب الثناء من الناس، وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإن حال المرائي في نفقته كحال حجر أملس عليه تراب، هطل عليه مطر شديد فأزال ما عليه من تراب.. فكما أن المطر الغزير يزيل التراب الخصب المنتج من الحجر الأملس، فكذلك المن والأذى والرياء تبطل ثواب الصدقات.. فلا ينتفع المنتفعون بشيء منها، وتلك صفات الكفار فتجنبوها، لأن الله لا يوفق الكافرين إلى الخير والإرشاد.
٢٦٥- حال الذين ينفقون أموالهم طلباً لمرضاة الله وتثبيتاً لأنفسهم على الإيمان، كحال صاحب بستان بأرض خصبة مرتفعة يفيده كثير الماء وقليله، فإن أصابه مطر غزير أثمر مثلين، وإن لم يصبه المطر الكثير بل القليل فإنه يكفي لإثماره لجودة الأرض وطيبها، فهو مثمر في الحالتين، فالمؤمنون المخلصون لا تبور أعمالهم، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
٢٦٦- إنه لا يحب أحد منكم أن يكون له بستان من نخيل وأعناب تجري خلالها الأنهار وقد أثمر له البستان من كل الثمرات التي يريدها، وأصابه ضعف الكبر وله ذرية ضعاف لا يقدرون على الكسب ولا يستطيع هو لكبره شيئاً، وجفَّ بستانه في هذه الحال العاجزة بسبب ريح شديدة فيها نار فأحرقته، وصاحبه وذريته أحوج ما يكونون إليه، وكذلك شأن من ينفق ويتصدق ثم يعقب النفقة والصدقة بالمن والأذى والرياء فيبطل بذلك ثواب نفقته ولا يستطيع أن يتصدق من بعد ذلك طيبة نفسه، ومثل هذا البيان يبين الله لكم الآيات لتتفكروا فيها وتعملوا بها.
٢٦٧- يا أيها المؤمنون أنفقوا من جيِّد ما تحصلونه بعملكم، ومما يتيسر لكم إخراجه من الأرض من زروع ومعادن وغيرها، ولا تتعمدوا الإنفاق من رديء المال وخبيثه أنكم لن تقبلوا هذا الخبيث لو قُدِّمَ إليكم إلا على إغماض وتساهل صارفين النظر عما فيه من خبث ورداءة، واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم، مستحق للحمد بما أرشدكم إليه من خير وصلاح.
٢٦٨- الشيطان يخوفكم الفقرَ ويثبطكم عن كل عمل صالح لتنصرفوا عن الإنفاق في وجوه الخير ويغريكم بالمعاصي، والله واسع المغفرة قادر على إغنائكم، لا يخفى عليه شيء من أموركم.
٢٦٩- يعطي صفة الحكمة من إصابة الحق في القول والعمل من يشاء من عباده، ومن أُعْطِي ذلك فقد نال خيراً كثيراً لأن به انتظام أمر الدنيا والآخرة، وما ينتفع بالعظة والاعتبار بأعمال القرآن إلا ذوو العقول السليمة التي تدرك الحقائق من غير طغيان الأهواء الفاسدة.
٢٧٠- وما أنفقتم من نفقة في الخير أو الشر، أو التزمتم بنفقة في طاعة فإن الله يعلمه وسيجزيكم عليه، وليس للظالمين الذين ينفقون رياء أو يؤذون في نفقتهم أو ينفقون في المعاصي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله في الآخرة.
٢٧١- إن تظهروا صدقاتكم خالية من الرياء فذلك محمود لكم مرضى منكم، ممدوح من ربكم، وإن تعطوها الفقراء سراً منعاً لحرجهم وخشية الرياء فذلك خير لكم، والله يغفر لكم من ذنوبكم بسبب إخلاصكم في صدقاتكم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ويعلم نياتكم في إعلانكم وإخفائكم.
٢٧٢- ليس عليك - يا محمد - هداية هؤلاء الضالين أو حملهم على الخير، وإنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وما تبذلونه من معونة لغيركم ففائدته عائدة عليكم، والله مثيبكم عليه، وهذا إذا كنتم لا تقصدون بالإنفاق إلا رضاء الله، وأي خير تنفقونه على هذا الوجه يعود إليكم، ويصلكم ثوابه كاملا دون أن ينالكم ظلم.
٢٧٣- وذلك الإنفاق والبذل يكون للفقراء الذين كانوا بسبب الجهاد في سبيل الله غير قادرين على الكسب، أو لأنهم أصيبوا في الجهاد بما أقعدهم عن السعي في الأرض، وهم متعففون عن السؤال يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء، ولكنك إذا تعرفت حالهم عرفت هذه الحالة بعلامتها. وما تبذلونه من معروف فإن الله عليم به، سيجزيكم عليه الجزاء الأوفى.
٢٧٤- الذين من طبعهم السخاء تطيب نفوسهم للإنفاق في الليل والنهار وفى العلانية والسر، لهم جزاؤهم عند ربهم، لا ينالهم خوف من أمر مستقبلهم، ولا حزن على شيء فاتهم.
٢٧٥- الذين يتعاملون بالربا لا يكونون في سعيهم وتصرفهم وسائر أحوالهم إلا في اضطراب وخلل، كالذي أفسد الشيطان عقله فصار يتعثر من الجنون الذي أصابه، لأنهم يزعمون أن البيع مثل الربا في أن كلا منهما فيه معاوضة وكسب. فيجب أن يكون كلاهما حلالا، وقد رد الله عليهم زعمهم فبين لهم أن التحليل والتحريم ليس من شأنهم، وأن التماثل الذي زعموه ليس صادقاً، والله قد أحل البيع وحرم الربا، فمن جاءه أمر ربه بتحريم الربا واهتدى به، فله ما أخذه من الربا قبل تحريمه، وأمره موكول إلى عفو الله. ومن عاد إلى التعامل بالربا باستحلاله بعد تحريمه، فأولئك يلازمون النار خالدين فيها.
٢٧٦- إن الله يُذهب الزيادة المأخوذة من الربا، ويبارك في المال الذي تؤخذ منه الصدقات، ويثيب عليها أضعافاً مضاعفة. والله لا يحب الذين يصرون على تحليل المحرمات كالربا، ولا الذين يستمرون على ارتكابها.
٢٧٧- إن الذين آمنوا بالله، وامتثلوا أوامره فعملوا الصالحات التي أمر بها، وتركوا المحرمات التي نهى عنها، وأدوا الصلاة على الوجه الأكمل، وأعطوا الزكاة لأهلها، لهم ثوابهم العظيم المدخر عند ربهم، ولا خوف عليهم من شيء في المستقبل، ولا هم يحزنون على شي فاتهم.
٢٧٨- يا أيها الذين آمنوا خافوا الله واستشعروا هيبته في قلوبكم، واتركوا طلب ما بقى لكم من الربا في ذمة الناس إن كنتم مؤمنين حقاً.
٢٧٩- فإن لم تفعلوا ما أمركم الله به من ترك الربا فكونوا على يقين من أنكم في حرب من الله ورسوله لمعاندتكم لأمره، فإن أردتم توبة مقبولة فلكم رءوس أموالكم فلا تأخذوا زيادة عليها قلَّت أو كثرت وأيا كان سبب الدين ومصرفه، لأن الزيادة التي تأخذونها ظلم لغيركم، كما أن ترك جزء من رءوس الأموال ظلم لكم.
٢٨٠- وإن وُجد ذو عسرة فأعطوه وأمهلوه عند انقضاء أجل الدين إلى وقت ميسرته، وتصدقكم عليه بالتنازل عن الدين أو بعضه خير لكم إن كنتم من أهل العلم والفهم لخطاب الله الذي يعلمكم المروءة والإنسانية.
٢٨١- وخافوا أهوال يوم تعودون فيه إلى الله، ثم تستوفى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر.
٢٨٢- يا أيها الذين آمنوا إذا داين بعضكم بعضا بَدْينٍ مؤجل إلى أجل، ينبغي أن يكون الأجل معلوماً، فاكتبوه حفظاً للحقوق تفادياً للنزاع، وعلى الكاتب أن يكون عادلا في كتابته، ولا يمتنع عن الكتابة، شكراً لله الذي علمه ما لم يكن يعلم، فليكتب ذلك الدين حسب اعتراف المدين وعلى المدين أن يخشى ربه فلا ينقص من الدين شيئاً، فإن كان المدين لا يحسن التصرف ولا يقدر الأمور تقديراً حسناً، أو كان ضعيفاً لصغر أو مرض أو شيخوخة، أو كان لا يستطيع الإملاء لخرس أو عقدة لسان أو جهل بلغة الوثيقة، فَلْيُنِبْ عنه وليه الذي عينه الشرع أو الحاكم، أو اختاره هو في إملاء الدين على الكاتب بالعدل التام. وأشهدوا على ذلك الدين شاهدين من رجالكم، فإن لم يوجدا فليشهد رجل وامرأتان تشهدان معاً لتؤديا الشهادة معاً عند الإنكار، حتى إذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى، ولا يجوز الامتناع عن أداء الشهادة إذا ما طُلب الشهود، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً كان أو كبيراً ما دام مؤجلا لأن ذلك أعدل في شريعة الله وأقوى في الدلالة على صحة الشهادة، وأقرب إلى درء الشكوك بينكم، إلا إذا كان التعامل على سبيل التجارة الحاضرة، تتعاملون بها بينكم، فلا مانع من ترك الكتابة إذ لا ضرورة إليها. ويطلب منكم أن تشهدوا على المبايعة حسماً للنزاع، وتفادوا أن يلحق أي ضرر بكاتب أو شاهد، فذلك خروج على طاعة الله، وخافوا الله واستحضروا هيبته في أوامره ونواهيه، فإن ذلك يلزم قلوبكم الإنصاف والعدالة، والله يبين ما لكم وما عليكم، وهو بكل شيء - من أعمالكم وغيرها - عليم.
٢٨٣- وإذا كنتم في سفر فلم تجدوا من يكتب لكم الدين، فليكن ضمان الدين رهناً يأخذه الدائن من المدين. وإذا أودع أحدكم عند آخر وديعة تكون أمانة عنده، وقد اعتمد على أمانته، فليؤد المؤتمن الأمانة عند طلبها، وليتق عقوبة الله له إن خان الأمانة أو غش في الشهادة. ولا تكتموا الشهادة عند طلبها، ومن يكتمها فهو آثم خبيث القلب، والله بما تعملون عليم، سيجزيكم عليه بحسب ما تستحقون.
٢٨٤- واعلموا أن لله ما في السماوات وما في الأرض قد أحاط به قدرة وعلما، وسواء أظهرتم ما في أنفسكم أو أخفيتموه فإن الله عليم خبير، سيحاسبكم عليه يوم القيامة فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو تعالى على كل شيء قدير.
٢٨٥- إن ما أُنزل إلى الرسول - محمد - هو الحق من عند الله، وقد آمن به وآمن معه المؤمنون كل منهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهم يسوُّون بين رسل الله في الإيمان بهم وتعظيمهم قائلين : لا نفرق بين أحد من رسله، وأكدوا إيمانهم القلبي بقولهم اللساني متجهين إلى الله في خطابهم : ربنا سمعنا تنزيلك المحكم واستجبنا لما فيه، فامنحنا اللهم مغفرتك، وإليك - وحدك - المصير والمرجع.
٢٨٦- إن الله لا يكلف عباده إلا ما يستطيعون تأديته والقيام به، ولذلك كان كل مكلف مجزياً بعمله : إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فاضرعوا إلى الله - أيها المؤمنون - داعين : ربنا لا تعاقبنا إن وقعنا في النسيان لما كلفتنا إياه، أو تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ، ربنا ولا تُشدِّد علينا في التشريع كما شددت على اليهود بسبب تعنتهم وظلمهم، ولا تكلفنا ما لا طاقة لنا به من التكاليف، واعف عنا بكرمك، واغفر لنا بفضلك، وارحمنا برحمتك الواسعة. إنك مولانا، فانصرنا يا رب - من أجل إعلاء كلمتك ونشر دينك - على القوم الجاحدين.