تفسير سورة الأنعام

اللباب
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
وهي مائة وستون وخمس آيات، وكلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة، وحروفها اثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا.
نزلت ب " مكة " [ المشرفة ]١ جملة ليلا، معها سبعون ألف ملك، قد سدّوا الخافقين لهم، وهل بالتسبيح، والتحميد والتمجيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم [ وبحمده الكريم ]٢ وخرّ ساجدا٣.
وروي عنه مرفوعا " من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره " ٤.
وقال الكلبي رحمه الله تعالى : عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت سورة الأنعام ب " مكة " إلا قوله :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] إلى آخر ثلاث آيات، وقوله تعالى :﴿ قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] إلى قوله تعالى :" تتقون " ٥ فهذه الست آيات مدنيات.
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وما نزلت عليّ سورة من القرآن جملة واحدة غير سورة الأنعام " ٦ [ وما جمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها، ولقد بُعث بها إلي مع جبريل عليه السلام ومعه خمسون ملكا أو خمسون ألف ملك ترفعها أو تحفها حتى أقرّوها في صدري كما أقرّ ماء في الحوض، ولقد أعزّني الله بها وإياكم بها عزا لا يذلّنا بعده أبدا وبها دحض حجج المشركين وعد من الله لا يخلفه.
وعن المنكدر لما نزلت سورة " الأنعام " سبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال :" لقد شيّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق ".
قال الأصوليون : وسبب هذه الفضيلة أنها اشتملت على دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الرفعة ]٧.
١ سقط في أ..
٢ سقط في أ..
٣ أخرجه الطبري في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (٧/٢٣) وقال الهيثمي رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي ولم أعرفهما.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣) وزاد نسبته لأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان" والسلفي في الطيوريات عن أنس بن مالك..

٤ أخرجه الثعلبي في "تفسيره" كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (١/٤٥٠ ـ ٤٥١) من طريق ابن عصمة عن زيد العمي عن أبي نضرة عن ابن عباس عن أبي بن كعب مرفوعا بلفظ: أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة. وقال الحافظ في "تخريج الكشاف": وفيه أبو عصمة وهو متهم بالكذب..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٦/٢٤٦) وعزاه لقتادة وابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٤) عن الكلبي وعزاه لأبي الشيخ..
٦ أخرجه أبو نعيم في "تاريخ أصفهان" (١/١٨٩) وللحديث شاهد عن أسماء بنت يزيد رواه الطبراني كما في "مجمع الزوائد" (٧/٢٣) وقال الهيثمي: وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق..
٧ سقط في أ..

قَالَ كَعْبُ الأحْبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هذه الآيةُ [الكريمة] أوَّلُ آية في التوراة، وآخرُ آية في التوراة قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك﴾ [الإسراء: ١١١] الآية الكريمة.
قال ابنُ عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: فَتَحَ اللَّهُ بالحَمْدّ، فقال: «الحَمْدُ اللَّه الذي خلق السَّموات والأرضَ»، وخَتَمَهُمْ بالحَمْدِ، فقال: «وقَّضَى بَيْنُمُ بالحقِّ»، وقيل: ﴿الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الرمز: ٧٥].
فقوله: «الحمدُ لِلِّهِ» فحمد اللِّهُ نَفْسَهُ تعليماُ لعباده، أي: احمدوا اللِّهَ الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ خصمها بالذِّكر؛ لأنَّهما أعْظَمُ المَخْلُوقَات فيما يرى العِبَادُ، وفيهما العبرةُ والمنافعُ للعباد.
وأعلم أنَّ المَدْحَ أعَمُّ من الحَمْدِ، والحَمْدُ أعَمُّ من الشكرِ؛ لأنَّ المْدْحَ يَحْصُلُ للعاقل وغي العاقلِ، فكما يُمْدَحُ الرَّجُلُ العاقلُ بفضله، كذلِك يُمْدَحُ اللُّؤلُؤ لحُسْنِ
4
شَكْلِهِ، ولَطَافَة خِلْقَتِهِ، ويُمْدَحُ اليَاقُوتُ لِصَفَائه وضقَالِته.
وأمَّا الحمْدُ فلا يحصلُ إلاَّ للفعال المُخْتَارِ على ما يَصْدُرُ عنه من الإنعام، وإنَّما كونُ الحَمْدِ أعم من الشُّكْر؛ فلأنَّ الحّمْد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك.
وأمَّا الشُّكْرُ فهو عِبَارةٌ عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليكَ، وإذا عُرِفَ ذلك، فإنَّمَا لَمْ يَقُلْ: المَدْحُ لله تبارك وتعالى لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ المَدحَ كما يَحَصُلُ للفاعل المختار، فقد يَحْصُلُ لغيره.
وأمَّا الحَمْدُ فلا يَحْصُلُ إلا للفاعل المختار، وإنَّما لم يَقُلْ: «الشُّكر لِلَّهِ» لَمَا بَيَّنَّا أنَّ الشُّكْرَ عبارة عن تعظيم تسبب إنعام صدر منه، فيكون المطلوب الأصلي، وقبول النعمة إليه، وهذه دَرَجَةٌ حقيرةٌ.
وقوله: «الحَمْدُ لِلَّهِ» يَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ حَمَدَهُ لأجل كونه مستحقاً للحمدِ، لا لخصوص كونه - تعالى - أوْصَلَ النَّعْمَةَ إليه فَيَكُونُ الإخلاصُ.

فصل في بيان لفظ الحمد


قوله: «الحَمْدُ» لفظٌ محلَّى بالألف واللام، فيفيد أنَّ هذه الماهية للَّهِ، وذلك يَمْنَعُ من ثبوت الحَمْدِ لغير الله، وهذا يقتضي أنَّ جميع أقْسَام الحَمْدِ والثناء والتعظيم ليس إلاَّ للَّهِ تبارك وتعالى، فإن قيل: إنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ واحب مِثلَ شُكْرِ الأسْتَاذِ على
5
تعليمه، وشُكرِ السلطانِ على عَدْلَه، وشكر المُحسِن على إحسانه، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» فالواجبُ أنَّ المَحْمُودَ والمَشْكُورَ في الحقيقة هو اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ صدور الإحسان من [قلب] العَبْدِ يتوقف على حُصُول داعية الإحسان في قلب العبد، وحصول تلك الدَّاعية في القلب ليس من العَبْدِ، وإلاَّ لافْتَقَرَ في حصولها إلى داعيةِ أخْرَى، ولَزِمَ التَّسلسُلُ، بل حصولها ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى، فتلك الدَّاعِيةُ عند حصولها يجب الفعلِ، وعند زوالها يَمْتَنعُ الفِعْلُ فيكون المحسنُ في الحقيقة لَيْسَ إلاَّ اللَّه تبارك وتعالى، فيكون المُسْتَحِقُّ لكُلِّ حَمْدٍ في الحقيقةِ هو اللَّه تعالى.
وأيضاً فإنَّ إحْسَانَ العَبْدِ إلى الغَيْرِ لا يَكْمُلُ إلاَّ بواسطة إحْسَانِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لولا أنَّ اللَّهَ - تعالى - خَلَقَ أنواع النِّعَمِ، وإلاَّ لم يقدر الإنسانُ على إيصالِ تلك الحِنْطَةِ والفواكه إلى الغَيْرِ، فظهر أنَّه لا محسن في الحقيقة إلاِّ اللَّهُ تعالى، ولا مُسْتَحِقَّ للحمد في الحقيقة إلا الله، فلهذا قال: «الحمد لله».

فصل في بيان قوله: «الحمد لله» بالألف واللام


وإنَّما قال: «الحَمْدُ للَّهِ» ولم يقل: أحْمَدُ اللَّهَ؛ لأنَّ الحَمْدَ صفةُ القلب، فرُبَّمَا احْتَاجَ الإنسان إلى أن يذكر هذه الَّفْظَة حال كونه غافلاً عند اسْتِحْضَارَ معنى الحَمْدِ، فلو قال وقت غَفْلَتِهِ: أحْمَدُ الله [تبارك وتعالى] كان كَاذِباً، واسْتَحقٌّ عليه الذَّنْب والعِقَاب حيثُ أخبر عن وجود شيءٍ لم يُوجَدْ، فإذا قال: الحَمْدِ لله، فمعناه أنَّ ماهيَّةَ الحَمْدِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا حقٌّ وصدقٌ، سواء كان معنى الحَمْدِ حَاضراً في قَلْبِه، أو لم يَكُنْ، وكان الكلام عِبَادَةٌ شَرِيفةً وطاعةً، وظَهرَ الفَرْقُ، واللَّهُ أعلمُ.
6

فصل


هذه الكلمة مذكورة في أوائل خَمْسَةٍ، أوَّلهَا سورةُ «الفاتحة» ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢].
وثانيها: هذه السورة ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ١] والأول أعَمُّ، لأنَّ العالمَ عبارةُ عن كل موجود سوى اللُّه تعالى.
وقوله: ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ لا يَدْخُلُ فيه إلاَّ خَلْقُ السماوات والأرض، والظُّلُمَات والنور، ولا يدخل فيه سَائِرُ الكائنات، فكان هذا بَعْض الأقسام الداخلة تحت التَّحْمِيدِ المذكور في سورة «الفاتحة».
وثالثها: سورةُ الكَهْفِ: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب﴾ [الكهف: ١].
وهذا أيضاً تحميدٌ مخصوصٌ بنوع خاصٍ من النعمة وهي نعمة العلم والمعرفَةِ والهِدايَةِ والقرآن، وبالجملة النعمُ الحاصلةٌ بسَبَب بَعْنَةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام.
وراربعها: «سبأ» :﴿الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [الآية: ١].
وهذا أيضاً تحميدُ على كَوْنِهِ مَالِكاً لِكُلِّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وهو قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ في قوله: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢].
وخامسها: سورةُ «فاطر» ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ [الآية: ١].
وهو أيضاً قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ تحتَ قوله تبارك وتعالى: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢].
فإن قيل: ما الفرقُ بين الخالق وبين الفاطرِ والرَّبِّ. وأيضاً لم قال هَاهُنا: «خَلَق السَّمواتِ والأرْضَ» بصيغة فعل الماضي، وقال في سورة «فاطر» :«الحَمْدُ للَّهش فاطر السَّمواتِ» بصيغة اسم الفاعل؟.
فالجواب عن الأول، أنَّ الخَلْقَ عبارة عن التَّقديرِ، وهو في حقِّ الله - تعالى - عبارةٌ عن علمه النَّافِذِ في جميع الكُلِّيات والجزئيات، وأمَّا كونُه فاطراً فهو عبارةٌ عن الإيجاد
7
والإبداع، فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى رَبَّا ومُرَبياً على الأمْرَيْنِ فكان ذلك أكمل.
وأمَّا الجَوابُ عن الثَّاني، فالحق أن الخَلْقَ عبارة عن التَّقدير، وهو في حقِّ الله - تعالى عبارةٌ عن علمه بالمَعْلُومَاتِ، والعلم بالشيء يصحُّ تقدُّمُهُ على وجود المَعْلُومِ؛ لأنه لا يمكن أن يعلم الشيء قَبَلَ وجوده، وأمَّا إيجادُ الشيء، لا يَحْصُل إلاَّ حالَ وجوده.

فصل في قوله: «الحمد لله»


قوله: «الحَمْدٌ للَّهِ» فيه قولان:
الأول: المرادُ احْمَدُوا اللَّهَ، وإنَّما جاء على صِفَةِ الخَبَرِ لوجوده:
أحدهما: أن قوله: «الحَمْدُ للَّهِ» يفيد تَعْظِيم اللفظ والمعنى، ولو قال: «احمدوا» لم يحصل مجموع هاتين الفاَئدتَيْن.
وثانيهما: أنه يُفيدُ كونه - تعالى - مُسْتحقّاً للحَمْدِ سَوَاءً حَمِدّهُ حَامدٌ أو لم يَحْمَدْهُ.
وثالثها: أنَّ المَقْصُودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة فّذكْرُهُ بصيغة الخَبَرِ أوْلَى.
والقول الثاني: أن المراد منه تعليم العِبَادِ، وهو قولُ أكثره المفسرين.
قوله: ﴿الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ فيه ثلاث سؤالات:
السؤال الأول: قوله: ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ جار مجرى قولك: «جاءني الرَّجُلُ الفَقِيهُ» فإن هذا يدلُّ على وجود رَجُل آخر ليس لفقيه، وإلاَّ لم يكن لِذِكْر ذلك فَائِدةٌ، وكذا هاهنا قوله: ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ يوهم أن هناك إلهاً لم يَخْلُق السماوات والأرض، وإلاَّ فأيُّ فائدة في ذِكْرِ هذه الصِّفَةِ. والجواب: أنا بَيَّنَّا أن قوله: «الله» جِارٍ مجرى اسم العلم، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوَصْفش التمييز، بل تعريف كون ذلك الُسَمَّى مَوْصُوفاُ بتلك الصِّفَةِ. مثاله: إذا قلنا: الرِّجُلُ اسمٌ للمَاهِيَّةِ، فيتناول الأشخاص الكثيرين، فكان المقصود هاهنا من ذِكر الوصفِ تَمْييز هذا الرجل عن سَائِرِ الرجال بهذه الصفة. أمَّا إذا قلنا: زيدٌ العالم، فلفظُ «زيد» اسم عَلَم، وهو لا يُفيد إلا هذه الذَّات المُعَيَّنَة؛ لأنَّ أسماء الأعلام قائمة مَقَام الإشَارَاتِ، فإذا وَصَفْنَاهُ بالعلمية امتنع أنْ يكون المقصودٌ منه تَمْييز ذلك الشخص عن غيره، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المُسمى
8
مَوْصُوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ «الله» من باب أسماء الأعلام لا جِرَم كان الأمر على ما ذكرناه. السؤال الثاني: لم قَدِّمَ «السَّمَاء» على «الأرضِ» مع أنَّ ظاهر التنزيل يَدُلُّ على أنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُقدَّمٌ على خَلْقِ السماءِ. فالجواب: أنَّ السَّمَاءَ كالدَّائرة، والأرْض كالمركز، وحُصُولُ الدَّائرة يوجبُ تعيين المَرْكَزِ، ولا يَنْعَكِسُ، فإنَّ حصول المَرْكَزِ لا يوجبُ تعيين الدَّائرةِ لإمْكَانِ أنْ يُحيطَ بالمركز الواَحِدِ دَوَائِرُ لا نهاية لها، فلمَّا تَقَدَّمت السماءُ على الأرضِ بهذا الاعتبارِ، وجب تقديم ذِكْرِ السماءِ على الأرض، وعلى قوله من قالَ: إنَّ السمواتِ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الأرضِ، وهو قول قتادَةَ، فالسُّؤال زائدٌ.
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجَمْع، والأرض بصيغة الواحدِ، مع أنِّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله: ﴿وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢] ؟. فالجوابُ: أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل، والأرض مجرى القابل، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرٌ، وذلك يخلُّ بمصَالِح هذا العَالَمِ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالاَتُ الكَوْكَبِيَّةُ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح [هذا] العالم. أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ، والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول.
قوله: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾.
«جَعَلَ» هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى «خَلَقَ»، هكذا عِبَارةُ النحويين، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ، إلاَّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال: «والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلض معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلهِ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلُ التَّصْييرِ كإنشاء شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان، ومن ذلك ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩]، ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ ؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامَ المُتَكَاثِفَةِ، والنُّور مِنَ النَّارِ».
وقال الطَّبرِيُّ: «جَعَلَ» هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام، كما تقول: «جَعَلْتُ أفعل كذا».
فكأنه قال: «جَعَلَ إظلامها وإنارتها»، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان، ولكونها
9
عند الزمخشري لَيْست بمعنى «خَلَقَ» فسَّرها هُنا بمعنى «أحدث» و «أنشأ».
وكذا الراغب جعلها بمعنى «أوْجَدَ».
ثم إنَّ أبَا حيَّان اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا اسْتَطْرَدَ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩]. فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صَيَّر في قوله ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة﴾ [الزخرف: ١٩] لا يصحُّ؛ لأنهم لم يُصَيِّروهم إناثاً وإنما بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى «سمَّى».
قال شهابُ الدين: ليس المُرَادُ بالتصيير بالفعل، بل المُراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد ظهر الفرقُ بين تخصيص السَّمواتِ والأرض بالخَلْقِ، والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري.

فصل


قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه:
الأول: بمعنى «خلق» قال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة﴾، وقوله ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا﴾ [فصلت: ١٠]، وقوله: ﴿جَعَلَ الليل والنهار﴾ [الفرقان: ٦٢].
والثاني: بمعنى «بعث» قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرا﴾ [الفرقان: ٦٢].
والثالث: بمعنى «قدره» قال تعالى ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً﴾ [الزمر: ٨] وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاَّ﴾ [الزخرف: ١٩] وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً﴾
[فصلت: ٩] أي تقولون.
الرابع: بمعنى «بَيّن» قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ﴾ [الزخرف: ٣] أي: بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ.
الخامس: بمعنى «صَيَّرَ» قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة﴾ [الإسراء: ٤٦] أي: صيرنا، وقوله ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾ [التوبة: ١٩]، وقوله ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين﴾ [النمل: ٦١]، وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِم﴾ [يس: ٨].
فإن قيل: لِم وَحًّد النُّور، وجمعَ الظُّلمَاتِ. فالجواب من وجوه:
10
أحدهما: إنْ قُلْنَا: إنَّ الظُّلُمَاتِ هي الكُفُرُ، والنُّور هو الإيمان فظاهرٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ، والباطِلُ كثيرٌ.
وإنْ قٌلنا: إنَّ الظُّلْمَة الكيفية المحسوسة، فالنُّور [عبارة] عن تلك الكَيْفِيَّةِ الكَامِلَةِ القَويَّةِ وكذلك الظُّلْمةُ الكاملة القوية، ثمَّ إنَّها التَّناقٌض [قليلاً] وتلك المَرَاتَبُ كثيرة، فلهذا عَبَّرَ عن الظُّلُمَاتِ بصيغة الجَمْع.
وثانيها: أنَّ النُّور من جِنْسٍ واحِدٍ، وهو النار، والظُّلُمَاتِ كثيرة، فإنَّ مَا مِن جرْمٍ إلاَّ وله ظِلٌّ وظُلْمَةٌ.
وثالثها: أنَّ الصِّلَةَ التي قبلها تقدمَّ فيها جَمْعٌ ثُمَّ مفردٌ، فعطفت هذه عليها كذلك، وقَدْ تقَّدمَ في «البقرة» الحِكْمَةُ في جَمْع السماوات، وإفراد الأرض.
فإنْ قيل: لِمَ قُدِّمت الظُّلُمات [على النور] في الذكر؟.
فالجوابُ: لأنه مُوَافِقٌ في الموجودِ؛ إذا الظُّلمة قَبْلَ النُّور عِنْدَ الجمهور.

فصل في المراد بالظلمات والنور


قال الوَاقِدِيُّ: كُلُّ مَا في القرآنِ من الظُّلُمَاتِ والنُّورِ هو الكُفْرُ والإيمان، إلاَّ في هذه الآية، فإنَّهُ يُريُد به اللَّيْلَ والنَّهَارَ.
وقال الحسنُ: المُرَادُ الكُفْرُ والإيمان.
وقيل: المرادُ بالظُّلمات الجَهْلُن وبالنُّور العِلْمُ.
وقال قتادة: يعني الجَنَّةَ والنَّار.
11
وقيل: معناها خَلْقُ السموات والأرض، وقد دجَعَلَ الظلمات والنُّور؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السموات والأرضِ.
قال قتادة: خلق الله السَّمواتِ قَبْلَ الأرض، وخَلَقَ الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ، والجنَّة قبل النَّار.
وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ عَلَيُهِم مَنْ ذّلِكَ اهْتَدَى، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ».
قوله تعالى: ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ﴾.
«ثُمَّ» هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ، وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله: «الحمدُ لله»، وإمَّا على قوله: «خَلَقَ السَّمواتِ».
قال الزمخشري: «فإن فما معنى» ثم «؟ قلت: استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وكذلك» ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ «استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّهث مُحْييهمْ، ومُميتُهُمْ وباعثهم».
وقال ابن عطية: «ثُمَّ» دَالَّةٌ على قُبْحِ فَعْلِ الذين كَفَرُوا، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنُعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره.
قال أبو حيَّان: ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح؛ لأنها لم تُوضع لذلك، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من «ثُمَّ»، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل «ثمَّ» هنا للمُهْلَةٍ في الزَّمَانِ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [على جملةٍ اسميةٍ] يعني على «الحَمْدُ للِّهِ».
ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه أن تكون معطوفةً على «خَلَقَ» [لأنَّ «
12
خَلَقَ» ] صِلَةٌ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها، ولكن ليس ثم رابطٌ يعودٌ [منها] على الموصول.
ثُمَّ قال: «إلاَّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم:» أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري «وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ».
قال شهابُ الدين: إنَّ الزمخشري إنَّما يريدٌ العَطْفَ ب «ثم» لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد صَرَّحَ به هو، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط؟.
وكيفَ يتخيل كونها لِلمُهْلَة في الزمان كما أبو حيان.
قوله: «بربِّهمْ» يجوز أن يتعلَّق ب «كَفَرُوا»، فيكون «يَعْدلُون» وقدِّم للفَوَاصِلِ، وفي «الباء» حينئذٍ احتمالان:
أحدهما: أن تكون بمعنى «عن» و «يَعْدلون» مِنَ العدول أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره.
والثاني: أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين الشَّيْئَيْنِ، أي: ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ بربَّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ، فيكون المَفْعُولُ محذوفاً.
وقيل معنى الآية كقول الفائل «أنْعَمْتُ عليكم بكذا، وتَفَصَّلْتُ عليكم بكذا، ثُم تكفرون نعمتي».
13
أعلم أنَّ هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون الماد منه ذكرُ الدليل على صحة المعاد وصحة الحَشْرِ.
أمَّا الأول فتقريره: أنَّهُ - تعالى - لمَّا اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ السَّمواتِ وتَعَاقُبِ الظُّلماتِ والنُّور على وجود الصَّانع الحكيم أتْبَعَهُ الاسْتِدلالِ بخلقه الإنسان على إثبات هذا المَطْلُوب، فقال: «هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ»، والمراد منه خلق آدم [الأن آدَمَ
13
خلق] من طِين، وهو أبو البَشَرِ، ويُحتملُ أنَّ [يكون] المراد كَوْنَ الإنسان مَخْلُوقاً من المَنيَّ، ومن دَمِ الطَّمْثِ، وهما يَتَولدَان من الدَّم، والدَّمُ وإنَّما يَتَولَّدث من الأغْذِية [والأغذية] إمَّا حيوانية أو نَبَاتيَّة، فإن كانت حَيوانِيَّةَ كان الحالُ في [كيفية] تولُّد ذلك [الحيوان كالحال في كيفية تَوَلُّدِ الإنسان مخلوفاً من الأغدية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين.
إذا عرفت هذا فتقول: هذا الطِّينُ قد تَوَلدُّت النُّطفة منه بهذا الطريق المذكور.
ثم تولّد من النُّطفَة أنواع الأعضاء المختلفة في الصِّفة، والصورة، واللون، والشكل] مثل القلب والدِّماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطةِ كالعظام والغَضاريفِ والرِّبَاطَاتِ والأوتار تولد الصفات المختلفة في المادة المُتَشَابِهَةِ، وذلك لا يمكنُ إلاَّ بتقْدير مُقدِّرِ حكيم.
وإن قلنا: المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فلأن خَلْقَ بَدَنِ الإنسان وترتيبه على هذه الصفات المختلفة إنَّما حَصَل بقُدْرَةِ فاعل حكيم، وتلك الحكمة والقدرة باقيةٌ بعد موت الحَيَوانِ، فيكون قادراً على إعَادتِهَاّ وإعَادَةِ الحياة فيها؛ لأنَّ القادِرَ على إيجادها من العَدَم قادرٌ على إعَادَتِهَا بطريق الأوْلَى.
قوله: «مِنْ طينٍ» فيه وَجْهَان:
أظهرهما: أنه متعلّق ب «خَلَقَكُمْ»، و «مِنْ» لابتداء الغَايَةِ.
أظهرهما: أنه متعلّقٌ بمحذوف على أنه حَالٌ، وهل يحتَاج في هذا الكلام إلى حذف مضاف أم لا؟ فيه خلاف.
ذهب [جماعة] كالمهدويِّ ومكي، إلى أنه لا حَدْفَ، وأنَّ الإنسان مَخْلُوقٌ من الطين.
وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ مَولُودٍ يُولَدٌ إلاَّ ويُذّرُّ على النُّطْفَةِ مِنْ تُرَابِ حٌفْرَتِهِ».
14
وقيل: إنَّ النُّطْفَةَ أصْلُهَا الطِّينٌ كما تقدَّم.
وقال أكْثرٌ المُفَسِّرينَ: ثَمَّ محذوفٌ، أي: خَلَقَ أصْلكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقَصَّتُهُ مشهورة.
وقال امرؤ القيس: [الوافر]
٢١٠٢ - إلَي عِرْقِ الُّثرَى رَسَخَتْ عُرُوقِي وهَذَا المَوْتُ يَسْلُبُنِي شَبَابِي
قالوا: أراد بعِرْقِ الثَّرى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنَّه أصلُه.

فصل في بيان معنى «خلقكم من طين»


قوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ﴾ [يعني أباكم] آدم خاطبهم به، إذ كانوا من ولدِهِ.
قال السُّديُّ: بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلى الأرض لِيأتِيَهُ بطَائفةٍ منها، فقالت الأرْضُ: إنِّي أعُوذُ باللُّهِ منك أنْ اتنقضي مني، فرجع جبريل، ولم يأخذن قال يَا رَبَّ: إنَّها عَاذَتْ بِكَ، فبعث مِيكَائيل فاسْتَعَاذَتْ، فرجع، فبعث ملك الموت، فَعَاذَتْ منه باللِّهِ، فقال: وأنا أعوذُ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، ثُمَّ عَجَنَهَا بالماء العَذْبِ والمِلْح والمُرّ، فلذلك اختلفت أخلاقهم، فقال اللَّهُ لِمَلكِ الموت:
«رحم جبريل وميكائيلُ الأرْضَ، ولم ترحمهما لا جَرَمَ أجعل أرواح من خُلِقَ من هذا الطِّين بَيَدِكَ».
وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «خَلَقَ اللِّهُ آدَمَ من أرضِ يقالُ لها دَجْناء».
قال الحسن: «وخَلقَ حُؤجُؤهُ من ضَرِيَّة»
قال الجوهري: «ضَرِيَّة» قرية لبني كِلاب على طريق «البصرة»، وهي إلى «مَكَّةَ» أقربُ.
وعن ابن مسعود قال: إنَّ الله بعث إبليس، فأخَذَ من أديم الأرْضِ عَذْبِها
15
وملحها، فخلقَ منه آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكلُّ شيء خلقه من عَذْبها، فهو صائرٌ إلى الجَنَّةِ، وإن كان ابن كافر، وكُلُّ شيء خَلَقَهُ من ملحها فهو صائرٌ إلى النَّارِ وإنْ كان ابن تِقيِ؛ فَمنْ ثمَّ قال إبليسُ: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١] ؛ لأنَّه جاء بالطينة؛ فسمي آدم، خُلِقَ من أديم الأرض.
وعن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة.
وعن عبد الله بن عباس قال: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَم كان رأسُه يَمَسْ السماءِ - قال - فوطده إلى الأرض حتَّى صار ستِّينَ ذِرَاعاً في سَبْعَةِ أذْرُعٍ عَرْضاً».
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في حديث فيه طول: وحَجَّ آدمُ - عليه السلام - من «الهِنْد» أربعين حجَّةُ على رِجْلَيْهِ، وكان آدمُ حين أُهبط تمسح رأسه السَّمَاء فمن ثَمَّ صَلَعَ، وأوْرثَ ولَدُهُ الصَّلعَ، ونفَرَت من طوله دواب الأرض، فصارت وحشاً من يومئذٍ، ولَمْ يَمُتْ حتىَّ بلغ ولده وولدُ ولدِه أربعين ألفاً وتوفي على ثور الجَبَلَ الذي أنزل؛ فقال شيث لجبريل: «صَلَّ عَلَى آدَمَ» فقال له جبريلُ: تقدَّم أنْتَ فصلِّ على أبيك كبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس فهي الصلاة، وخمس وعشرون تفضيلاً لآدم.
وقيل: وكبِّرْ عليه أربعاً، فجعل أبو شيث آدم في مَغَارةٍ، وجَعَلوا عليها حافظاً لا يَقْربُهُ أحدٌ من بين قابيل، وكان الذين يأتونه ويَسْتَغْفِرُون له «بنو شيث» وكان عُمْرُ آدم تسعمائة سنة وستاً وثلاثين سنة.
قوله: «ثُمَّ قَضَى» إذا كان «قَضَى» بمعنى أظهر ف «ثُمَّ» للترتيبِ الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخِرٌ عن خَلْقِنا، وهي صفة فعل، وإن كان بمعنى «كَتَب» و «قَدَّر» فهي للترتيب في الذِّكرِ؛ لأنَّها صِفَةُ ذاتٍ، وذلك مُقدَّمّ على خَلْقِنا.
قوله: ﴿وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ مبتدأ وخبر، وسوِّغَ الابتداء هنا شيئان:
أحدهماك وَصْفُهُ، كقوله: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِن﴾ [البقرة: ٢٢١].
والثاني: عَطْفُهُ ب «ثمَّ» والعطفُ من المُسَوِّغَاتِ.
قال الشاعر: [البسط]
٢١٠٣ - عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلْتِي فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤّ سَمِعَا؟
والتنكير في الأجلين لإبهام، وهنا مُسَوَّغُ آخر، وهو التفصيل كقوله: [الطويل]
16
ولم يَجِبْ هُنا تقديمُ إن كان المبتدأ نكرةً، والخبرُ ظرفاً، قال الزمخشري:
«لأنَّه تخصَّصَ بالصفة فقاربَ المعرفة».
قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذَكَر من كَوْنِهِ مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا تتعيَّنُ، لجواز أنْ يكونَ المُسَوِّغُ التفصيلَ» ثُمَّ أنشد البيت:
- ٢١٠٥ إذَا مَا بَكَى..............................................................
قال شهابُ الدين: والمزخشري م يَقُلْ: إنَّهُ تعيَّن ذلك حتَّى يُلْزِمَهُ به، وإنَما ذكر أشْهَرَ المسَّوغات فإنَّ العطف والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات.
قال الزمخشري: «فإنْ قٌلت: الكلامُ السَّائِرُ أن يُقال:» عندي ثَوْبٌ جيَّدٌ، ولي عبدٌ كَيِّسٌ «فما أوجب التقديم؟.
قلت: أوجبه أنَّ المعنى: وأيُّ أجَلٍ مسمى عنده، تعظيماً لشأن الساعة، فلمَّا جرى فيها هذا المعنى أوجب التقديم»
.
قال أبو حيان: وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير: وأيُّ أجلٍ مسمى عنده كانت «أي» صفة لموصوف محذوف تقديره: وأجل مسمى عنه ولا يجوز حذفُ الصفةِ إذا كانت «أيّا» ولا حَذْفٌ موصوفها وإبقاؤها.
لو قلت: «مررتُ بأيِّ رجل» تريدُ برجلٍ أيِّ رجل م يَجُزْ.
قال شهاب الدين: ولم أدْرِ كيف يؤاخَدُ من فَسَّر معنّى بلفظٍ لم يَدِّع أن ذلك اللًّفْظَ هُوَ أصْلُ كلام المفسر، بل قال: معناه كيت وكيت؟ فكيف يلزمه أنْ يكَون ذلك الكلام الذي فَسَّر به هو أصْل ذلك المُفَسِّر؟ على أنَّه قَدْ وَرَدَ حَذْفُ موضوف «أيّ» وإبقاؤها كقوله: [المتقارب]
٢١٠٤ - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَه ُ بِشِقِّ وَشِقٌ عِنْدّنَا لَمْ يُحَوَّل
٢١٠٦ - إذا حَارَبَ الحَجَّاجُ أيَّ مُنَافِقِ عَلاَهُ بِسَيفٍ كُلمَّاً هَزَّ يَقْطَعُ
قوله: «ثُمَّ» أنْتُم تَمْتَرُونَ «قد تقدَّم الكلامُ على» ثُمَّط هذه. و «تمترون» تَفْتَعُون من المِرْيَةِ، وتقدَّم معنها في «البقرة» عند قوله: ﴿مِنَ الممترين﴾ [البقرة: ١٤٧].
وجعل أبو حيَّان هذا من باب الاتْتِفَاتِ، أعني قوله: «خَلَقكُمْ ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون»، يعني أنَّ قوله: «ثُمَّ الذين كفروا» غائبٌ، فالْتَفَتَ عنه إلى قوله: «خَلَقكُمْ ثُمَّ أنْتُم» ثُمَّ كأنَّه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يَخْتَصُّ به الكُفَّار، بل المؤمنون مِثْلُهم في ذلك.
17
وأجاب بأنِّه إنَّما قَصَدَ الكُفَّار تَنْبِيهاً لهم على خَلْقِهِ لهم وقُدرَتِهِ وقضائه لآجالهم.
قال: «وإنِّما جَعَلْتُه من الالِتفَاتِ؛ لأن هذا الخطابَ، وهو» ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون «لا يُمِكن أنْ يَنْدَرجَ فيه مَن اصْطَفاَهُ الله تعالى بالنبوَّة والإيمان» وأجَلٌ مسمَّى «مُسَمَّو؛ لأنه من مادة الاسم، وقد تقدَّم ذلك، فقُلبت الواوُ ياءً، ثم الياء ألفاً».
وتمرتون أصله «تَمْتَرِيُون» فَأعِلَّ كنَظَائِرِه.

فصل في معنى «قضى»


والقضاء قد يَرِدُ بمعنى الحكم، والأمر قال تعالى: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] وبمعنى صفة الفعل إذا تَمَّ، قال تعالى: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب﴾ [الإسراء: ٤] وبمعنى صفة الفعل إذا تَمَّ، قال تعال: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات﴾ [فصلت: ١٢] ومنه قولهم: «قضى فلان حاجةَ فلانٍ».
وأمَّا الأجَلُ فهو في اللُّغَةِ عبارةٌ عن الوَقْتِ المضروب لإنقضاء المُدَّةِ، وأجَلُ الإنسان هو المؤقت المضروب؛ لانقضاء عُمْرِهِ. وأجَلُ الدَّيْنِ: مَحلُّهُ لانْقِضَاءِ التأخير فيه، وأصْلُهُ من التَّأخيرِ يُقال: أجلَ الشَّيء يَأجَلُ أجُولاً وهو آجلٌ إذا تأخَّرَ، والآجلُ نقيض العَاجِلِ، وإذا عُرِفَ هذا فقوله، «ثُمَّ قَضَى أجَلاً» معناه: أنَّهُ - تعالى - خَصَّصَ موت كُلَّ واحَد بوقتٍ مُعَيَّنٍ، «وأجلٌ مُسَمَّى عِنْدهُ» قال الحَسَنُ: وقتادة، والضحَّاكُ: الأجَلُ الأوّل من الولادَةِ إلى الموت. والأجَلُ الثاني: مِنَ الموتِ إلى البَعْثِ، وهو البَرْزَخُ وروي عن ابن عبَّاس، وقال: لِكُلِّ أحَدٍ أجلان أجل من الولادة إلى الموت أدنى البعث في أجل العُمر، فإن كان بالعكس قاطِعاً للرحَّمِ نُقِصَ من أجَل العُمر وزيد في أجَلِ البَعْثِ مخافة.
[وقال مجاهد] وسعيد بن جُبَيْرٍ: الأجَلُ الأوَّلُ أجَلُ الدنيا، والثَّاني أجَلُ الآخرة.
وقال عطيةُ عن ابن عبَّاس: الأجَلُ الأوَّل: النَّوم، والثاني: الموتُ. وقال أبو
18
مُسلِم: المرادُ بالأجَلِ الأوَّلٍ: آجال الماضين من الخَلْقِ وقوله: «وأجَلٌ مُسَمَّى عِنْدَهُ» :
المرادُ منه آجَالُ الباقين، فخضَّ هذا الأجل الثاني، بكونه مُسَمَّ عِندهُ؛ لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهُمْ معلومة، فلهذا المعنى قال: «وأجل مسمى عنده» وقيل: الأجَلُ الأوَّلُ: الموت، والأجَلُ المُسَمَّى عِنْدَ الله تعالى هو أجَلُ القيامة لأن مُدَّة حياتهم في الآخرة، لا آخِرَ لها ولا انْقِضَاءَ، ولا يَعْلَمُ أحد كيفية الحالِ في هذا الأجَلِ إلاَّ الله تعالى.
وقيل: الأجَلُ مقدار ما يُقضى من عمر كُلّ واحدٍ، والثاني: مقدارُ ما بَقِيَ من عمر كُلِّ أحدٍ.
وقيل: هما وَاحِدٌ - يعني «جعل لأعمارهم مُدَّة تنتهون إليها».
وقوله: «وأجَلٌ مُسَمَّى عنده» يعني: وهو أجلٌ مُسَمَّى عنده لا يعلمهم غيره. قال حكماءُ الإسلام: إنَّ لكل إنسان أجَلَيْنِ:
أحدهما: الطبيعي.
والثاني: الآجالُ الاخْتِرامِيَّةُ، فالطَّبيعيُّ هو الذي لو بَقِيَ ذلك المِزَاجُ مَصُوناً من العوَارض الخارجية، لانْتَهَتْ مدّةُ بَقَائِه إلى الأوْقَات الفلانية، وأمَّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصلُ بسبب من الأسباب الخارجية كالغَرَقِ، والحَرْقِ، ولَدْغِ الحشرات وغيرها من الأمور المُعْضِلَةِ.
وقوله: «ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ» أي: تشكُّون في البَعْثِ.
وقيل: تمترون في صحة التوحيد.
19
أعلم أنَّا إذا قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمة إقَامَةُ الدليل على وجود الصَّانع القادر المُخْتَارِ، فالمُرادُ من هذه الآيَةِ إقامَةُ الدليل على كونه عَالِماً بجميع المَعْلُومَاتِ؛ لأنها تَدُلُّ على كمالِ العلم.
وإن قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمةِ إقامَةُ الدليل على صِحِّة المَعَادِ، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان؛ لأنَّ مُنكِري المعاد إنَّما يُنْكِرُونَهُ لأمرين:
19
أحدهما: أنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ المؤثّر في حدوث بَدَن الإنسان هو امْتِزَاجُ الطَّبائِعِ، وإنْ سلَّموا كون المؤثّر فيه قَادِراً مختاراً، فإنَّهم يَقُولُونَ: إنِّهُ [غير] عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تَمْييزث المُطيعِ من العَاصِيِ، ولا تمييز أجزاء بَدَنِ زيد عن أجْزاءِ بَدَن عن أجزاء بَدَنِ عمرو.
قوله: «وهُوَ اللِّهُ في السَّمواتِ» في هذه الآية أقْوالٌ كثيرة، وقد لُخِصَّتْ في اثْنَيْ عشر وَجْهاً؛ وذلك أن «هو» فيه قولان:
أحدهما: هو ضمير اسم الله - تعالى - يعودُ على ما عَادَتْ عليه الضَّمائِرُ قبله.
الثاني: أنَّهُ ضميرُ القِصَّةِ، قال أبو عليَّ.
قال أبو حيَّان: وإنَّما فرَّ إلى هذا؛ لأنه لو أعاد على اللِّهِ لَصَارَ التقديرُ: اللَّهُ اللَّهُ، فتركَّب الكلام من اسمين مُتَّحِدَيْنِ لفظاً ومعنى لا نِسْبَةَ بينهما إسنادية.
قال شهاب الدين: الضَّميرُ إنما هو عَائِدٌ على ما تقدَّمَ من المَوْصُوفِ بتلك الصِّفات الجلية، وهي خَلْقُ السَّموات والأرض، وجعل الظُّلُماتِ والنُّور، وخَلْق النَّاس من طين إلى آخرها، فصَارَ في الإخبار بذلك فَائِدَةٌ من غير شَكِّ، فعلى قولِ الجُمْهُورِ يكون «هو» مبتدأ، و «اللَّهُ» خبره، و «في السَّمَوَات» متعلقٌ بنفس الجلالة لمَّا تَضمَّنّتْهُ من معنى العِبَادةِ، كأنَّهُ قيل: وهو المَعْبُود في السَّموات، وهذا قول الزَّجَّاج، وابن عطيَّة، والزمخشري.
قال الزَّمخشري: «في السَّمَوَات متعلِّقٌ بمعنى اسم اللَّهِ، كأنَّهُ قيل: هو المَعْبُود فيها، ومنه: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله﴾ [لزخرف: ٨٤] أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهيّة فيها، أو الذي يُقَالُ له» اللَّه « [لا يشركه في هذا الاسم غيره].
وقال شهابُ الدين: إنما قال: أو هو المَعْرُوفُ، أو هو الذي يُقال له: اللَّهُ؛] لأنَّ الاسم الشَّريف تقدَّم فيه خلافٌ، هل هو مُشْتَقٌ أوْ لا؟ فإن كان مُشْتقاً ظَهَرَ تلُّق الجَارِّ بِهِ، وإنْ كان لَيْسَ بمشتقِّ، فإمَّا أن يكون يتأوّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة.
فقوله:»
المَعْبُود «راجعٌ للاشتقاقِ، وقوله:» المَعْرُوف «راجع لكونه عَلماً مَنْقُولاً،
20
وقوله:» الَّذي يُقَال له: اللَّهُ «راجع إلى كونه مُرْتجلاً، وكأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَشْعَرَ بالاعتراض المذكور.
والاعْتِراضُ مَنْقُولٌ عن الفَارسيَّ.
قال:»
وإذا جَعَلْتَ الظَّرْفَ متعلّقاً بام اللِّهِ جَازَ عندي على قياس مَنْ يقول: إنَّ الله أصْلُه «الإله» ومن ذَهَبَ بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب ألاَّ يتعلٌّق به «عنده» إلاَّ أنْ تُقدِّر فيه ضَرْباً من معنى الفِعْلِ «، نقل عن أبي عليّ أنه لا يتعلَّقُ» في «باسم اللَّهِ؛ لأنَّه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى:
﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا﴾ [مريم: ٦٥] فظاهرُ هذا النقل أنه بمنعُ التعلُّق به وإنْ كاني في الأصْل مُشْتَقاً.
وقال الزَّجَّاج: «وهو مُتَعَلِّقٌ بما تَضَمَّنَهث اسْمُ من المَعاَاني، كقولك: أميرٌ المؤمنين الخَلِيفَة في المَشْرِق والمغْرِبِ»
.
قال ابن عطيّة: «هذا عندي أفْضَلُ الأقوالِ، وأكثرها إحْرَازاً لفَصَاحَةِ اللَّفْظِ، وجَزَالَةِ المعنى.
وإيضاحُهُ أنَّهُ أراد أنْ يَدُلَّ على خَلْقِهِ وآثَارِ قُدْرتِهِ وإحاطتِهِ واستيلائه، ونحو الصفات، فجمع هذه كُلَّها في قوله:»
وَهُوَ اللَّهُ «؛ أي: الذي له هذه كُلُّها في السَّموات، وفي الأرضِ كأنه قال: وهو الخالق، والرازق، والمحيي، والمحيط في السموات وفي الأرض كما تقول: زيد السُّلطانُ في» الشام «و» العراق «فلو قصدت ذات زَيْدٍ لكان مُحَالاً، فإذا كان مَقْصِدُ قولك [: زيد] الآمر النّاهي الذي يُوَلِّي ويَعْزلُ كان فَصِيحاً صَحِيحاً، فأقمت السَّلطَنَةَ مَقَامَ هذه الصِّفَاتِ، كذلك في الآية الكريمة أقَمْتَ» الله «مقام تلك الصِّفات».
قال أبو حيَّان: ما ذكره الزَّجَّاجُ، وأوضحه ابن عطيَّةَ صحيحٌ من حيث المعنى، لكنَّ صَنَاعَةَ النحو لا تُسَاعِدُ عليه؛ لأنهما زَعَمَا أن «في السموات» متعلِّقٌ باسم الله؛ لما تَضَمَّنَهُ من تلك المعاني، ولو صَرَحَّ بتلك المعاني لم تَعْمَلْ فيه جَمِيعُهَا، بل العَمَلُ من حيث اللفظُ لواحد منها، وإن كان «في السموات» متعلّقاً بجميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يتعلَّق بلفظ «الله» لما تَضَمَّنَهُ من معنى الألُوهِيَّة، وإن كان عَلَماً؛ لأن العَلَمَ
21
يَعْمَلُ في الظَّرْفِ لما يتضمنه من المعنى كقوله: [الزجر]
٢١٠٧ -... أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَانْ
لأنَّ «بَعْضَ» نُصَبَ بالعَلَمِ؛ لأنَّه في معنى أنا المشهور.
عَمَلُهَا على سبيل التَّنَازُع، مع أنه لو سَكَتَ عن الجواب واضحاً. ولما ذكر أبو حيَّان ما قاله الزَّمخْشَريُّ قال: «فانظر كيف قدّرَ العامِلَ فيها واحِداً لا جميعها».
يعني: أنَّهُ اسْتنْصَرَ به فيما ردَّ على الزَّجَّاج، وابن عطية.
الوجه الثاني: أن «في السَّمَوَات» متعّلق بمحذوفِ هو صِفَةٌ لله تعالى حُذِفت لفهم المَعْنَة، فقدَّرها بعضهم: وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو اللَّهُ المُدَبِّرُ، وحذفُ الصِّفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلاَّ مواضع يسيره على نَظَرٍ فيها، فمنها ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾ [الأنعام: ٦٦] أي: المعاندون، ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] أي: النَّاجين، فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه.
الوجه الثالث: قال النَّحَّاس - وهو أحْسَنُ ما قيل فيه -: إنَّ الكلام تَمَّ عند قوله: «وَهُوَ اللِّهُ» والمَجْرُور متعلِّقٌ بمفعول «يَعْلَمُ»، وهو «سِرَّكم وجَهْرَكُم» أي: يَعْلَمُ سِرَّكُم، وجَهْرَكُم فيهما.
وهذا ضعيفٌ جداً لما فيه من تَقْدِيمِ مَعْمُولِ المصجر عليه، وقد عرف ما فيه.
الوجه الرابع: أنَّ الكلامَ تَمَّ أيضاً عند الجلالةِ، وتعلِّق الظرفُ بنفس «يَعْلَمُ» وهذا ظاهِرٌ، و «يَعْلَمُ» على هذين الوَجْهَيْنِ مُسْتَأنَفٌ.
الوجه الخامس: أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قوله: «في السموات» فيتعلَّق «في السموات» باسم الله على ما تقدَّمَ، ويتعلَّقُ «في الأرض» ب «يعلم» وهو قول الطَّبري.
وقال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ؛ لأنِّ اللَّهَ - تعالى - مَعْبودٌ في السَّمَوات وفي الأرض، ويَعْلمُ ما في السَّموات، وما في الأرض، فلا تتخصَّصُ إحْدى الصِّفَتَيْنِ بأحَدِ الظرفين». وهخو رَدٌ جميلٌ.
الوجه السادس: أنَّ «في السموات» متعلِّقٌ محذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «سِرَّكم»، ثُمَّ قُدِّمَتِ الحالُ على صَاحبهَا، وعلى عاملها.
22
السابع: أنه متعلّق ب «يَكْسِبُونَ»، وهذا فَاسِدٌ من جهة أنه يَلْزَمُ منه تقديم مَعْمُولِ الصِّلةِ على الموصول؛ لأن «ما» مَوْصُولةٌ اسمية، أو حرفيةٌ، وأيضاً فالمُخَاطبُونَ كيف يكيبون في السموات؟ ولو ذهب هذا القائلُ إلى أنَّ الكلام تَمَّ عند قوله: «في السموات» وعلّق «في الأرض» ب «يَكْسِبونَ» لسَهُل الأمْرُ من حيث المعنى لا من حَيْثٌ الصناعيةُ.
الوجه الثامن: أنَّ «الله» خَبَرٌ أوَّلُ، و «في السموات» خبر ثانٍ.
قال الزمخشري: «على معنى: أنَّه الله، وأنَّهُ في السموات وفي الأرض، وعلى معنى: أنَّهُ عالمٌ بما فيهما لا يَخْفَى عليه شيءٌ، كأنَّ ذَاتَهُ فيهما».
قال أبو حيَّان: «وهذا ضعيفٌ؛ لأن المجرور ب» في «لا يّدُلُّ على كونٍ مُقَيَّدٍ، إنما يَدُلُّ على كونس مُطْلَقٍ، وتقدَّم جوابه مراراً».
الوجه التاسع: أنْ يكون «هو» مبتدأ، و «اللَّهُ» بَدَلٌ منه، و «يَعْلَمُ» خبره و «في السموات» على ما تقدَّم.
الوجه العاشر: أنْ يكون «اللًّهُ» بَدَلاً أيضاً، و «في السموات» الخبرُ بالعنى الذي قاله الزمخشري.
الحادي عشر: أنَّ «هو» ضمير الشَّأنِ في مَحَلِّ رفع بالابتداء، والجلالةً مبتدأ ثانٍ، وخبرها «في السموات» بالمعنى المتقدَّمِ، أو «يَعْلَمُ»، والجملة خبر الأول مفسرة له وهو الثاني عشر.
وأمَّا «يَعْلَمُ» فقد عرفت من تَفَاصِيلٍ ما تقدَّمَ أنَّه يَجُوزُ أن يكون مُسْتَأنَفاً، فلا مَحَلَّ له، أو في مَحَلِّ رفع خبراً، أو في مَحَلِّ نَصْبِ على الحال، و «سِرَّكم وجَهْرَكم» :
يجوز أن يَكُونَا على بابهما من المَصْدَرِيّة، ويكونان مضافين إلى الفاعل.
وأجاز أبو البَقَاء أن يكونا وَاقِعَيْنِ المفعول به، أي: مُسَرَّكم ومجهوركم، واسْتَدَلَّ بقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] ولا دَلَيلَ فيه، لأنه يجوز «ما» مصدرية وهو الألْيَقُ لمُنَاسَبَةِ المصدرين قبلها، وأن تكون بمعنى «الذي».

فصل في معنى الآية


«وهو الله في السموات والأرض» كقوله: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله﴾ [الزخرف: ٨٤].
23
وقيل: هو المعبود في السَّمواتِ والأرض.
وقال محمد بن جرير: معنيان: وهو اللَّهُ يعلمُ سرّكم وجهركم في السموات والأرض، يعلمُ ما تَكْسِبُونَ من الخيرِ والشَّر.

فصل في شبكة إنكار الفوقية


استدلَّ القائلون بأنَّ الله في السموات بهذه الآية.
قالوا: ولا [يلزمنا] أن يقال: فيلزم أن يكون في الأرض لقوله: «في الأرض» وذلك يقتضي حُصُولهُ في مكانين مَعاً، وهو مُحَالٌ؛ لأنَّا نقول: أجمعنا على أنه لَيْسَ مَوْجُوداً في الأرْضِ، ولا يَلْزمُ من ترك العَمَل بأحد الظَّاهرين ترك العمل بالظَّاهر الآخر من غير دليلٍ، فوجبَ أن يبقى قوله: ﴿وَهُوَ الله فِي السماوات﴾ على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله: ﴿وَهُوَ الله فِي السماوات﴾، ثم يبتدئ فيقول: «وفي السموات والأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ»، والمعنى أنه تعالى يعلمُ سَرَائِرَكُمْ الموجودة في الأرْضِ، فيكون قوله: «وَفي الأرْضِ» صِلَةٌ لقوله: «سِرَّكُمْ».
قال بان الخطيب: والجوابُ: أنَّا نُقِيمُ الِّدلالة أوّلاً على أنه لا يُمْكِنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظَاهِرِهِ، وذلك من وجوه.
أحدهما: أنَّهُ قال في هذه السورة: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢] فَبَيَّن أنَّ كُلَّ ما في السموات والأرض، فهو مِلْكٌ لله تعالى ومملوك له فلو كان اله أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملك نفسه، وذلك مُحَالٌ وكذا قوله: في «طه» ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [طه: ٦]. فإن قالوا: كلمة [ «ما» ] مختصَّةٌ [بمن لا يعقل] فلا يدخل فيها ذاتُ اللَّهِ.
قلنا: لا نُسَلِّمُ بدليل قوله: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: ٥ - ٧].
وقوله: ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُد﴾ [الكافرون: ٣] والمراد بكلمة «ما» ها هنا «هو اللَّهُ تعالى».
وثانيها: أنَّ قوله: «وهُوَ الله في السمواتِ» إمَّا أنْ يكون المُرَادُ منه أنَّهُ مَوْجُودٌ في جميع السمواتِ، أو المراد أنَّهُ مَوْجُودٌ في سماء واحدة.
والثاني ترك للظِّاهِر، والأوَّلُ على قسمين، لأنَّهُ إما أن يكون الحاصل منه -
24
تعالى - في أحد السَّمواتِ عين ما حصل منه في سائ السَّمواتِ أو غيره، والأوَّل يقتضي حُصُكول المتحيّز الواحد [في مَكَانَيْنِ، وهو باطلٌ ببديهَةِ العَقْلِ].
والثاني يقتضي كونه - تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبْعَاضِ، وهو مُحَالٌ.
وثالثها: أنَّهُ لو كان مَوْجُوداً في السَّموات لكان مَحْدُوداً متناهياً وكُلُّ ما كان كذلك كان قَبُولُهُ للزيادة والنُّقْصَانِ مُمْكناً، وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ.
ورابعها: أنَّهُ لو كان في السَّمواتِ، فهل يَقْدرُ على خَلْقِ عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يَقْدِر؟ وذلك من وجهين:
والثاني يوجبُ وهو مُحَالٌ والأول يقتضي أنَّهُ - تعالى - لو فعل ذلك لحَصلَ تَحْتَ ذلك العالم، والقوم منكرون كونه تحت العالم.
وخامسها: أنه تعالى قال: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: ٨٤] وقال ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦].
وقال: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض﴾ [الزخرف: ٨٤] وقال: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥] وكُلُّ ذلك يُبْدِلُ القولَ بالمَكَانِ والجهة، وإذا ثبت بهذه الدَّلائلِ أنَّهُ لا يمكنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظاهره، وجَبَ التَّأويلُ، وهو من وجوه:
الأول: أنَّ قوله: ﴿وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض﴾، أي: في تدبير السمواتِ والأرض، كما يقال: «فلانٌ في أمْرِ كذا» أي: في تدبيره، وإصْلاحِ مُهِمَّاتِهِ، كقوله: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله﴾ ٨٤].
الثاني: أنَّ قوله: [تَمَ] عند قوله: «وهُوَ اللَّهُ» ثُمَّ ابتدأ، فقال: «في السَّمواتِ وفِي الأرْض يَعْلمُ سِرَّكم وجهْرَكُم»، أي: يَعْلمُ ما في السَّمواتِ الملائكة، وفي الأرض يعلمُ سَرائِرَ البَشَرِ الإنْس والجن.
الثالث: أنْ يكون الكلامُ على التقديم والتأخير، وهو «اللَّهُ يَعْلَمُ ما في السموات، وما في الأرض سِرَّكُم وجهركم».

فصل في بيان معنى «ما تكسبون»


قوله: «ويَعْلمُ ما تكسبون» فيه سؤال، وهو أنَّ الأفعال إمَّا أفعال القُلُوبِ، وهو المُسَمَّى بالسِّرِّ، وإمِّا أعمال الجَوَارحِ، وهي المُسَمَّاةُ بالجَهْرِ، فالأفعالُ لا تخرجُ عن السِّرِّ والجهر.
25
فكان قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون﴾ يقتضي عَطْفَ الشيء على نفسه، وإنَّهُ فاسدٌ.
والجوابُ يجبُ حَمْلُ قوله: «مَا تَكْسِبُونَ» على ما يتسحقُّهُ الإنسانُ على فِعْلِه من ثوابٍ وعقابٍ.
والحاصلُ أنَّهُ مَحْمُلٌ على المُكْتَسَبِ كما يُقَالُ: «هذا كَسْبُ فلان»، أي: مُكْتَسَبُهُ، ولا يجوز حَمْلُهُ على نفس الكَسْبِ؛ لأنَّهُ يلزم منه عَطْفُ الشيء على نفسه والآية تدل على كون الإنسان مكتسباً للفعل، والكَسْبُ هو الفعلُ المُفْضِي إلى اجْتِلاَبِ نَفْع، أو دَفْع ضَرَرٍ، ولا يوصف فعلُ اللِّهِ بأنه كَسْبٌ لكونه - تعالى - مُنَزَّهٌ عن جَلْبِ النَّفْعِ، ودَفْعِ الضرر.
26
«فاعل زيدت فيه» مِنْ «لوُجُودِ الشرطين، فلا تَعَلُّقَ لها.
و»
من آيات «صفة ل» آية «، فهي في مَحَلِّ جرٍ على اللَّفْظِ، أو رفعٍ على الموضع.
وقال الوَاحِدِيِّ:»
مِنْ «في قوله:» مِنْ آية «صفةٌ ل» آية «أي: آية لاستغراق الجنْسِ الذي يقع في النَّفيِ، كقولك: ما أتاني من أحدٍ».
والثانية: في قوله: «من آياتِ رَبِّهِم» للتبعيض.
والمعنى: وما يظهر لهم دَلِيلٌ قط من الدَّلائِل التي جيب فيها النَّظَرُ والاعتبار، إلاَّ كانوا عنها مُعْرِضينَ، والمُرادُ بهم أهل «مكة»، والمرادُ بالآيات: إنْشِقاقُ القمر وغيره.
وقال عطاء: يريد: من آيات القرآن.
قوله: «إلاَّ كَانُوا» هذه الجملة الكَوْنِيَّةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما أنَّهُ الضميرُ في «تأتيهم».
و «تأتيهم» يحتمل أن يكون ماضي المعنى لقوله: «كَانُوا»، ويحتمل أنْ يكون مُسْتّقْبَلَ المعنى؛ لقوله «تَأتيهِمْ».
واعلم أنَّ الفعْلَ الماضي لا يَقَعُ بَعْدَ «إلاَّ» بأحد شَرْطَيْنِ: إمَّا وقوعه بَعْدَ فِعْلٍ
26
كهذه الآية، أو يقترن ب «قد» نحو: «ما زيدٌ إلاَّ قد قام» وهنا الْتِفَاتٌ من خطاه بقوله «خلقكم» إلى آخره إلى الغيبةِ بقوله: «وَمَا تَأتِيهم».
27
«الفاء» هنا للتَعْقِيب، يعني: أنَّ الإعْرَاض عن الآيات أعْقَبَهُ التَّكْذِيبُ.
وقال الزمخشري: «فَقَدْ كَذَّبوا» مردودٌ على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها.
وقال أبو حيان: ولا ضرورة تدعو إلى في انتظام الكلام وقوله: «بالحق» من إقامة الظاهر مقام المُضْمَرِ، إذ الأصل: فقد كذبوا بها أي: بالآية.

فصل في بيان المراد «بالحق»


والمُرَادُ بالحقِّ ها هنا القرآن.
وقيل: [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل:] جميع الآيات.

فصل


واعلم أنَّهُ - تعالى - رتّبَ أمورَ هؤلاء الكُفَّارِ على ثلاث مراتب:
أولها: كونهم معرضين عن التأمُّلِ والتَّفَكُّرِ في الدَّلائل [والبَيِّنَات].
والمرتبة الثانية: كونهم مكذّبين بها، وهذه أزْيّدُ مما قَبْلَهَا؛ لأنَّ المُعْرِضَ عن الشِّيء قد لا يكون مكذباً به، بل قد يكون غَفِلَ عنه؛ صَارَ مُكَذِّباً به، فقد زاد على الإعْرَاضِ.
والمرتبة الثالثة: كونهم مُسْتَهْزِئينَ بها؛ [لأن المكذب] بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدِّ الاسْتِهْزَاءِ، فإذا بلغ إلى هذا الحَدَّ، فقدْ بَلَغَ الغَايَة القُصْوَى في الإنكار، [ثُم] بَيَّن - تعالى أنَّ أولئك الكُفَّار وصلوا في هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب.
قوله تعال: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾.
«الأنبياء جمع» نبأ «وهو ما يعظم وقعه من الأخبار، وفي الكلام حَذْفٌ، أي: يأتيهم مَضْمونُ الأنباء، و» به «متعلّق بخبر» كانوا «.
27
و» لمّا «حرف وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه» كذبوا «
و»
ما «يجوز أن تكون موصولةٌ اسميةً، والضميرُ في» به «عائد عليها، ويجوز أن تكون مصدرية.
قال بان عطيّة: أي: أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضميرُ لا يعودُ عليها؛ لأنها حرفية؛ بل تعود على الحقِّ، وعند الأخفش يعود عليها؛ لأنها اسم عنده.
ومعنى الآية: وسوف يأتيهم أخبارُ اسْتِهْزَائهِمْ وجَزَاؤهُ، أي: سيعلمون عاقبة اسْتهْزَائِهِمْ إذا عُذِّبُوا، فقيل: يوم»
بدر «وقيل: يوم القيامة.
28
قوله تعالى: ﴿َلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيب، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد، أتْبَعَهُ بما يجري المَوْعِظةِ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية.
و «كم» يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً، وفي كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى اسْتِفْهاميَّةِ في ذلك، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ، ويضعف كونها بصرية، وعلى ككلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل؛ لأنَّ البصرية تجر مجراها، فإن كانت عِلْمِيَّةً ف «كم» وما في حيَّزها سادَّة مسدَّ مفعولين، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد.
و «كم» يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص، فتكون مفعولاً بها، نَاصِبُهَا «أهْلَكْنا» أي: إهلاكاً، و «من قرنٍ» على هذا صِفَةٌ لمفعول «أهَلكْنَا» أي: أهلكنا قوماً، أو فوجاً من القُرُونِ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ، و «مِنْ» تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية.
وقال الحُوفي: «من» الثانية بَدَلٌ من «مِنْ» الأولى، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ، ويحوز أن تكون «كم» عبارة عن الزَّمَانِ، فتنتصبُ على الظرف.
قال أبو حيان: تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها.
28
وجعل أبو البقاء على هذا الوجه «مِنْ قَرْن» هو المفعول به، و «منْ» مَزيدَةٌ فيه، وجاز ذلك؛ لأن الكلام غير موجب، والمجرور نكرة، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت: «كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً» أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة «مِنْ» لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام، إلاَّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى.
قال شهابُ الدِّين: وجوابه لا يسلم.
و «قَرْن» الجماعة من النَّاسِ وجمعه «قرون».
وقيل: القَرْنُ مُدَّة من الزمان، يقال: ثمانون سنةً، [ويقال: ستُّون سَنَةً] ويُقال: أربعون سَنَةً، ويقال: ثلاثون سَنَةً، ويقال: مائة سنة؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ - قال لعبد الله بن بشر المازني: «تَعِيْشُ قَرْناً» فعاش مائة سَنَةٍ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [اعتقاد] أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية.
قوله: «مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ» في موضع جرِّ صفة ل «قرن»، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه.
قاله أبُو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، والحوفي رَحِمَهُ اللَّهُ. وضعَّفه أبو حيان بأن «من قرن» تمييز ل «كم»، ف «كم» هي المُحَدَّثُ عنا بالإهلاكِ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا؛ إذ «من قرن» يجري مجرى التَّبْينِ، ولم يُحَدَّث عنه.
وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى - أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ، قال: كأنَّه قيل: ما كان من حَالِهِمْ؟ فقيل: مَكَّنَّاهم، وجعله هو الظَّاهر، وفيه نظرٌ، فإنَّ النكرة مُفْتِقِرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى: ﴿مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض﴾ وقوله: ﴿مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ [أن «مكنة في كذا] أثبته فيها، ومنه {وَلَقَدْ
29
مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ} [الأحقاف: ٢٦] وأما مكنَّا جعل له مكاناً، ومنه: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض﴾ [الكهف: ٨٤] ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ﴾ [القصص: ٥٧].
ومثله» أرضٌ له «أي: جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وأما أبو حيَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه التَّسْوِيّةُ بيهما، فإنَّهُ قال: وتعدِّي» مَكَّن «هنا للذَّوَات بنفسه وبحرف الجَرِّ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [نحو] ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: ٢١] ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ﴾ [الكهف: ٨٤]، ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ﴾ [القصص: ٥٧].
وقال أبُو عُبَيْدَة:»
مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم: لغتانِ فصيحتان، نحو: نَصَحْتُه، ونَصَحْتُ له «وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ.
قوله:»
ما لم نُمكِّنْ لكم «في» ما «هذه همسة أوجه:
أحدهما: أنْ تكون مَوْصُولةَ بمعنى»
الذِّي «، وهي حينئذٍ صفةٌ لموصوف محذوف، [والتقديرُ: التميكن الذين لم نُمَكِّنْ لكم، مَحْذُوفٍ تقديره: تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ.
الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره: ما لم نُمَكِّنْهُ لكم، ذكرهما الحُوفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
وردَّ أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - الأوَّلَ بأنَّ»
ما «بمعنى» الذي «لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ، وإن كان» الذي «يقع صِفَة لها، لو قلت:» ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ «تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ، لم يَجُرْ، فإن قلت:» الضَّرْبَ الذي ضربه زيد «جاز.
وَرَدَّ الثاني بأن»
ما «النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا يجوزُ حَذْفُ موضوفها، لو قلت:» قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا «وأنت تعني: قُمْتُ قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ.
الثالث: أن تكون مَفْعُولاً بها ل»
مَكَّنَ «على المعنى، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبُو البقاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال أبُو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -:»
هذا تَضْمِينٌ، لا يَنْقَاسُ «.
الرابع: أن تكون»
ما «مَصْدريَّةً، والزَّمَان محذوف، أي: مُدَّة ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم.
30
الخامس: أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة بعدها، والعائد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في الأخير:» وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ «.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولو قدَّره أبو البقاءِ بخاصِّ لكان أحْسَنَ من تقديرِه بلفظ «شيء»
، فكان يقول: مَكَّنَّاهُمْ تمكيناً لم نمكّنه لكم.
والضمير في «يروا» قيل: عائدٌ على المُسْتَهْزِئين، والخطابُ في «الكم» راجعٌ إليهم أيضاً، فيكون على هذا التِفَاتاً فائدتُهُ التَّعْريض بقلَّةِ تمكُّنِ هؤلاء، ونَقْصِ أحوالهم عن حَالِ أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهَلاَكُ، فكيف وأنتم أقَلُّ منهم تمكيناً وعدداً؟.
وقال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «والمُخَاطَبَةُ في» الكم «هي للمؤمنين ولجميع المُعَاصرين لهم ولسائِرِ النَّاس كافَّةً، كأنه قيل: لم نُمَكِّن يا أهل هذا العَصْرِ لكم، ويحتمل أن يُقدَّر معنى القول لهؤلاء الكَفَرَةِ، كأنه قال: يا مُحَمَّدُ قُل لهم:» ألَمْ يَرَوا كَمْ أهْلَكْنَا «الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أمَرْتَ أن يُقال - فلك في فَصيح كلام العرب أن تحكي الألْفَاظَ المَقُولَةَ بعينها، فتجيءَ بلفظ المُخَاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغَيْبَةِ دون الخطاب» انتهى.
ومثاله: «قُلْتُ لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه».
و «القَرْنُ» يقع على مَعَانٍ كثيرةن فالقرن: الأمَّةُ من النَّاس، سُمُّوا بذلك لاقُتِرَانهِمْ في مُدَّةٍ من الزَّمانِ، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «خَيِْرُ القُرونِ قَرْنِي»
وقال الشاعر [في ذلك المعنى:] [الطويل]
-... ٢١٠٨أخَبِّرُ أخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ
أدِبُّ كَأنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ... وقال قَسُّ بنُ سَاعِدَةَ: [مجزوء الكامل]
٢١٠٩ -... فِي الذَّاهبينَ الأوَّلِي
نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِر... وقيل: أصله الاتفاعُ، ومنه قَرْنُ الثَّوْرِ وغيره، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السِّنِّ.
31
وقيل: لأنَّ بعضهم يُقْرَنُ ببعض، ويُجْعَلُ مجتمعاُ معه، ومنه القرنُ للحَبْلِ يُجْمَعُ به بين البَعيريْنَ، ويُطلَقُ على المُدَّة من الزَّمان أيضاً.
وهل إطلاقُهُ على النَّاسِ والزَّمان بطريق الاشْتَرَاكِ، أو الحقيقة والمجاز؟ يُرَجَّعُ الثَّاني؛ لأنَّ المجَازَ خيرٌ من الاشْتِرَاكِ.
وإذا قُلنا بالراجح، فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القَوْمُ؛ لأنَّ غالب ما يُطْلَقُ عليهم، والغَلَبَةُ مُؤذِنّةٌ الأصَالَةِ غالباً.
32
وقال ابنُ عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: - القَرْنُ أنْ يكون وفاةُ الأشيخ وولادَةُ الأطفال، ويَظْهَرُ ذلك من قوله تعالى: ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِين﴾ [الأنعام: ٦] فجعله مَعْنّى، وليس بواضح وقيل: القَرْنُ: النَّاسُ المجتمعون كما تقدَّم، قلّت السِّنُون أو كثُرتْ، واستدلُّوا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي» وبقوله: [مجزوء الكامل]
٢١١٠ - فِي الذَّاهبين الأوَّلي نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِر
وبقول القائل في ذلك: [الطويل]
٢١١ - إذَا ذَهَبَ القَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمُ وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنِ فَأنْتَ غَرِيبُ
فأطلقوه على النَّاسِ ليفيد الاجتماع.
ثم اختلفت النَّاسِ في كميةِ القَرْنِ حالة إطلاقه على الزَّمان، فالجمهور على أنَّهُ مائة سنة، واستدلُّوا له بقوله عليه السلام: «تَعيشُ قَرْناً» فعاش مائة سَنَةٍ، وقيل: مائة وعشرون سنة، قاله إيَاسُ مُعَاويَةَ، وزارة بن أبي أوفى.
وقيل: ثمانون نقله أبو صالح عن ابن عبَّاسٍ.
وقيل: سبعون؛ قاله الفرّاء.
وقيل: ستُّون لقوله عليه السلام: «مُعْتَرَكُ المنَايَا ما بَيْنَ السِّتِّنَ إلى السِّبعينَ»
وقيل: أربعُون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلامُ، وكذلك الزَّهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: ثلاثون حكاهُ النَّفَّاش عن أبي عُبَيْدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة.
33
وقيل: عشرون سنةً، وهو رأي الحَسَنِ البصري.
وقيل: ثمانية عشر عاماً.
وقيل: المقدار الوَسَطُ مثل أعمار أهل ذلك الزمان، واسْتُحْسِنَ هذا بأنَّ أهل الزَّمَنِ القديم كانوا يعيشون أربعمائة سَنَةً، وثلاثمائة سنة، وألفاً وأكثر وأقلَّ.
ومعنى الآية: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ.
وقال ابن عبَّاسٍ: أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعادٍ وثمود.
قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً﴾ يعني المَطَرَ «مِنفْعَال» من الدَّرِّ و «مِدْرَاراً» حالٌ من «المساء» إنْ أُريد بها السحاب، فإن السحاب يوصف بكثرةِ التَّتَابُع أيضاً.
قال ابنُ عبَّاسٍ: مِدْرَاراً مُتَتَبابِعاً في أوْقاتِ الحَاجَاتِ، وإن أُريَد بها الماء فكذلك، ويَدُلُّ على أنه يُرَادُ به المَاءُ قوله في الحديث: «في أثر سماءٍ كَانَتْ من اللَّيلِ» ويقولون: ما زلنا نَطَأُ السماء حتى أتيناكم، ومنه: [الوفر]
٢١١٢ - إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِِ قَوْم رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابا
أي: رَعَيْنَا ما نيشأ عنه، وإن أُريدَ بها هذه المِظَلَّةُ، فلا بُدّ من حذف مُضافٍ حينئذٍ، أي: مَطَر السماء، ويكون «مِدْرّاراً» حالاً منه.
و «مِدْرَاراً» مِفعال للمُبالغةِ كامرأة مِذْكارِ ومئناث.
قالوا: وأصله من «دَرَّ اللَّبَن» وهو كَثْرةُ ورودِه على الحالِبِ.
ومنه: «لا دَرَّ دَرُّهُ» في الدُّعَادءِ عليه بقلَّةِ الخير.
وفي المَثَلِ «سَبَقَتْ درَّتُه غِزَارَهُ» وهي مثلُ قولهم: «سَبَقَ سَيْلُهُ مَطَرَه» و «استدَّرت المِعْزَى» كناية عن طلبها الفَحْلَ.
34
قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّتْ.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾ إن جعلنا «جَعَلَ» تَصْييريةً كان «تجري» مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادِيَّةً كان حالاً.
و «من تحتهم» يجوز فيه أوجه:
أن يكون متعلّقاً ب «تجري»، وهو أظهرها، وأن كون حالاً، إمَّا من فاعل «تجري»، أو من «الأنهار»، وأنْ يكون مفعولاً ثانياً «جَعَلْنَا» و «تجري» على هذا حالٌ من الضمير في الجَازَّ، وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل المَعْنَوِيّ، ويجوز أن يكون «من تحتهم» حالاً من «الأنْهَار» كما تقدَّم، و «تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه، الضَّعْفُ المتقدّمُ.

فصل


المُرَادُ من قوله: ﴿وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾ كَثْرَةُ البَسَاتيِن، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ «مكَّة»
المشرفة، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ، وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم، وهذا يوجب الاعتبار.
فإن قيل: ليس في هذا الكلام إلاَّ أن الإهلاك غي مختصّ بهم، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد لهكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أ، هـ يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ؟.
فالجوابُ: ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ، والهلاك، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدَّينَ بالدنيا؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ عن الإيمان، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن.
فإن قيل: كيف قال: «أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا» مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يخبر به عنه، وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة؟
فالجواب: أنَّ [أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار.
فإن قيل: أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟
فالجواب: أن] فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعِّمرُ بهم بلاده، كقوله: ﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس: ١٥].
35
و «من بعدهم» متعلِّق ب «أنشأنا».
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون حَالاً من «قرن» ؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني: أنه منه؛ لكنه منعن ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في «البقرة» عند قوله تعالى: ﴿والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] و «آخرين» صِفَةٌ ل «قَرْن» ؛ لأنه اسم جَمْع ك «قوم» و «رهط»، فذلك اعْتُبِر معنها، ومن قال: إنَّهُ قدَّرَ مُضَافَاً، أي: أهل قرن آخرين، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ، واللَّهُ أعلم.
36
قال الكلبي ومقاتل: تزلت هذه الآية في النَّضْرِ بن الحَرْثِ، وعبد الله بن أبي أميَّةَ، ونوفل بن خُوَيْلدٍ قالوا: يا محمد لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تأتينا بكتاب من عندِ اللَّهِ، ومعه أربعةٌ من الملائكة يَشْهدُونَ معه أنَّهُ من عند الله، وأنَّك رسوله، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ﴾ مكتوباً من عنده «فَلَمَسُوه بأيديهم» أي: عَايَنُوهُ ومَسُّوهُ بأيديهم، وذكر اللَّمْسَ ولم يذكر المُعَايَنَةَ، لأن اللَّمْسَ أبْلَغُ في إيقاع العِلْمِ من الرؤية، ولأنّ السِّحْر يجري على المرئي، ولا يجري على الملموس.
قوله: «فِي قِرْطَاسٍ» يجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ ل «كتاب»، سواء أريد ب «كتاب» المصدرُ، أم الشيْ المكتوب، ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله: [الطويل]
٢١١٣ -.................. صَحِيفَة... ً أتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
ومن النَّاس من جعل «كتاباً» في الآية الكريمة مَصْدَراً؛ لأن نَفْسَ الكُتُبِ لا تُوصَفُ والقِرْطاس: الصَّحِيفة يُكتبُ فيها تكُون من رقِّ وكَاغِدٍ، بكسر القاف وضمها، والفصيح الكسر، وقرئ بالضّم شاذّاً نَقَلَهُ أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -
36
والقِرْطَاسُ: اسم أعْجِمِيُّ مُعَرَّبٌ، ولا يقال: قِرْطَاس إلاَّ إذا كان مكتوباً، وإلاَّ فهو طِرْسٌ وكَاغِدٌ، وقال زهير: [البسيط]
٢١١٤ -... - لَهَا أخَادِيدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِها
كَمَا تَردَّدِ فِي قِرْطَاسِهِ القَلَم... قوله: «فَلَمَسُوهُ» الضمير المنصوب يجوز أن يَعُودَ على «القِرْطاس»، وأن يعود على «كتاب» بمعنى مَكْتُوب.
و «بأيديهم» متعلِّق ب «لَمَسَ».
و «الباء» للاستعانة كعملت بالقَدُّوم. و «لَقَال» جواب «لو» جاء على الأفصح من اقتران جوابها المُثْبَتِ باللام.
قوله: «إنْ هذا» [و] و «إنْ» نافية، و «هذا» و «إلاَّ سحرٌ» خبره، فهو استثناء مُفَرَّغٌ، والجُمْلَة المَنْفِيَّةُ في مَحَلِّ نصب بالقولِ، وأوقع الظَّاهرَ مَوْقَعَ المضمر في قوله: «لَقَالَ الذين كَفَرُوا» شَهادَةً عليهم بالكُفْرِ، والجملة الامتنَاعِيَّةُ لا مَحَلَّ لها من الإعراب لاستئنافها.
ومعنى الآية الكريمة: أنَّهُ لا يَنْفَعُ معهم شيءٌ لما سبق فيهم من علمي، واللَّهُ أعلم.
37
وهذه شبهٌ ثالثةٌ من شُبَهِ النُّبوة، فإنهم يقولون: لو بَعَثَ اللَّهُ إلى الخَلْق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرَّسُولُ إذا أراد تحصيل مُهِّم، فإنما يَسْتعَعِينُ في تحصيله بمَنء هو أقْدّرُ على تحصيله، وإذا كان وقوع الشُّبُهَاتِ في نُبُوَّةِ الملائكة أقَلَّ وَجَبَ تعنُّتِهم وتَصَلُّبِهِم في كُفْرهم.
قيل: ويجوز أن تكون مَعْطُوفة على جواب «لو»، أي: لو نزَّلْنَا عليك كتاباً لَقَالُوا كذا وكذا، ولقالوا: لو أُنزِ عليه مَلَكٌ.
وجيء بالجواب على أحد الجائزين، أعني حذف «اللام» من المثبت، وفيه بُعْد؛
37
لأن قولهم «لولا نُزِّلَ» ليس مُتَرَتِّباً على قوله: «لولا نَزَّلْنَا» و «لولا» هنا تخضيضِيَّةٌ، والضميرُ في «عَلَيْه» الظَّاهرُ عَوْدُهُ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: يجوز أن يَعُودَ على الكتاب أو القِرْطَاسِ.
والمعنى: لولا أنْزِلَ مع الكتاب مَلَكٌ يشهدُ بِصحَّتِهِ، كما يُرْوَى في القِصَّةِ أنه قيل له: لن نؤمن لك حتى تَعْرُج فتأتي بكتاب، ومعه أربعة ملائكة يشهدون، فهذا يَظْهَرُ على رأي من يقولك إنَّ الجملة من قوله: «وقالوا: لولا أنْزِلَ» معطوفةٌ على جواب «لواء»، فإنَّهُ تعلّق به من حيث المعنى حينئذٍ.

فصل في دحض شبهة منكري النبوة


واعلم أنَّ الله - تبارك وتعالى - أجاب عن هذه الشُّبْهَةِ بوجهين:
أحدهما: قوله: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر﴾ ومعنى القضاء: الإتمام والإلزام، والمعنى: ولو أنزلنا ملكاً لم يؤمنوا، وإذا لم يؤمنوا اسْتُؤصِلُوا بالعذاب، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في الكُفَّار.
والوجه الثاني: أنَّهم إذا شاهدوا الملك زَهَقَتْ أرْوَاحُهُمْ من هَوْل ما يشاهدون؛ لأنَّ الآدمي إذا رأى الملك، فإمَّا أنْ يراه على صورتِهِ الأصْلِيَّةِ، أو على صورة البَشَرِ، فإن رآه على صورته الأصليَّةِ غُشِيَ عليه، وإنْ رآه على صورة البَشَرِ، فحينئذ يكونُ المَرْئيُّ شخصاً على صورة البشر عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط، وخصَّهم دَاوُد وجبريل حيثُ تَخَيَّل لمريم بَشَراً سَوِياً.
واعلم أنَّ عدم إرسال الملك فيه مصالح:
أحدهما: إن رؤية إنزال الملكِ على البشرِ آية قاهرةٌ فبتقدير نزوله على الكُفَّارِ، فرُبَّما لم يؤمنوا، كا قال الله تبارك وتعالى ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة﴾ [الأنعام: ١١١] إلى قوله: ﴿مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الأنعام: ١١١]، وإذا يؤمنوا وجب إهلاكهُمْ بعذاب الاسْتئِصَالِ.
وثانيها: ما ذكرناه من عَدَمِ قُدْرِتِهِمْ على رية الملائكة.
وثالثها: إنَّ إنزال الملك معجزةٌ قاهِرةٌ جاريةٌ مجرى الإلْجْاءِ، وإزالة الاختيار، وذلك يخلُّ بمصلحة التكليف.
ورابعها: أنَّ إنزال المَلكِ وإن كان يّدْفَعُ الشُّبُهَاتِ من الوجوه المذكورة، لكنَّهُ يُقوِّي الشُّبْهَةَ من هذه الموجوه.
38
والمراد من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لاَ يُنظَرُون﴾ فالفائدة في «ثم» التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ مُضِيَّ الأمر؛ لأن المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة.
قال قتادة: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً﴾ ثمَّ لم يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنِ.
وقال مجاهد: «لقضي الأمر»، أي: لقامت القيامة.
وقال الضحَّاك: لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا.
قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً﴾ يعني: لو أرسلناه إليهم مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً يعني في صورة رجلٍ آدمي؛ لأنهم لا يستطيعون النَّظَرَ إلى الملائكةِ، كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صورة دِحْية الكلبي وجاء الملكان إلى دَاوُد عليه السلام في صورةِ رَجُلّيْنِ، ولأن الجنس إلى الجنس أميلُ وأيضاً فإنَّ طَاعَة الملائكة قَوِيَّةٌ، فَيَسْتحْقِرُونَ طَاعَاتِ البَشَرِ، ورُبَّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي.
قوله تعالى: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون﴾ في «ما» قولان:
أحدهما: أنها مَوْصولةٌ بمعنى «الذي»، أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، أو على غيرهم، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وتكون «ما» حينئذٍ مفعولاً بها.
الثاني: أنَّها مَصْدَريَّةٌ، أي: ولَلَبْسنا عليهم مَثْلَ ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم، والمعنى شَبَّهوا على ضعفائهم فشُبِّهَ عليهم.
قال ابن عباس: هُمْ أهْلُ الكتاب، فَرَّقُوا دينهم وحَرَّفُوا الكَلِمَ عن مَوَاضَعِه، فَلَيَسَ اللَّهُ عليهم ما يلبسون.
وقرأ ابن مُخَيْصِن: «وَلَبَسْنا» بلام واحدة هي فاء الفَعْلِ، ولم يأت بلامٍ في الجواب اكْتِفَاءَ بها في المَعْطُوف عليه.
وقرأ الزهري: «ولَلَبَّسْنا» بلامين وتشديد الفعل على التَّكْثيرِ.
قال الواحدي: يقال لَبَّسْتُ الأمْرَ على القَوْمِ ألبَّسُهُ إذا شَبَّهْته عليهم،
39
وجعلته مُشْكلاً، وأصله من التَّستُّرِ بالثوب، ومنه لُبْسُ الثوبِ، لأنه يُفيد سَتْرَ النفسِ، والمعنى: إذا جَعَلْنَا الملكَ في صيورة البَشَرِ، فهم يظنون أن ذلك المَلَكَ بَشَراً، فيعود سؤالهم أنَّا لا نرضى برسالة هذا الشَّخْصِ، واللَّهُ أعلم.
40
قوله :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً ﴾ يعني : لو أرسلناه إليهم مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً يعني في صورة رجلٍ آدمي ؛ لأنهم لا يستطيعون النَّظَرَ إلى الملائكةِ، كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي وجاء الملكان إلى دَاوُد عليه السلام في صورةِ رَجُلَيْنِ، ولأن الجنس إلى الجنس أميلُ وأيضاً فإنَّ طَاعَة الملائكة قَوِيَّةٌ، فَيَسْتحْقِرُونَ طَاعَاتِ البَشَرِ، ورُبَّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي.
قوله تعالى :﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون ﴾ في " ما " قولان :
أحدهما : أنها مَوْصولةٌ بمعنى " الذي "، أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، أو على غيرهم، قاله أبو البقاء١ - رحمه الله تعالى - وتكون " ما " حينئذٍ مفعولاً بها.
الثاني : أنَّها مَصْدَريَّةٌ، أي : ولَلَبْسنا عليهم مَثْلَ ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم، والمعنى شَبَّهوا على ضعفائهم فشُبِّهَ عليهم.
قال ابن عباس : هُمْ أهْلُ الكتاب، فَرَّقُوا دينهم وحَرَّفُوا الكَلِمَ عن مَوَاضِعِه، فَلَبَسَ اللَّهُ عليهم ما يلبسون٢.
وقرأ ابن٣ مُحَيْصِن :" وَلَبَسْنا " بلام واحدة هي فاء الفِعْلِ، ولم يأت بلامٍ في الجواب اكْتِفَاءً بها في المَعْطُوف عليه.
وقرأ الزهري٤ :" ولَلَبَّسْنا " بلامين وتشديد الفعل على التَّكْثيرِ.
قال الواحدي٥ : يقال لَبَّسْتُ الأمْرَ على القَوْمِ ألبِّسُهُ إذا شَبَّهْته عليهم، وجعلته مُشْكلاً، وأصله من التَّستُّرِ بالثوب، ومنه لُبْسُ الثوبِ، لأنه يُفيد سَتْرَ النفسِ، والمعنى : إذا جَعَلْنَا الملكَ في صورة البَشَرِ، فهم يظنون أن ذلك المَلَكَ بَشَراً، فيعود سؤالهم أنَّا لا نرضى برسالة هذا الشَّخْصِ، واللَّهُ أعلم.
١ ينظر: الإملاء ١/٢٣٦..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٥/١٥٣) عن ابن عباس..
٣ ينظر: الشواذ ٤٢، البحر المحيط ٤/٨٤، الكشاف ٢/٨، الدر المصون ٣/١٤..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٨، البحر المحيط ٤/٨٤، الدر المصون ٣/١٤..
٥ ينظر: الرازي ١٢/١٣٤..
قرأ حمزة، وعاصمٌ، وأبو عمرو بكشر الدَّال على أصل الْتِقَاءِ السَّكِنَيْنِ، والباقون بالضمن على الإتباع، ولم يبالِ بالساكن؛ لأنه حَاجِزٌ غير حصين وقد تَقَرَّرَتُ هذه القاعدة بدلائلها في سورة «البقرة» عند قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضطر﴾ [الآية: ١٧٣] و «برسلٍ» متعلّق ب «استهزئ» و «منْ قبلك» صفة ل «رسل»، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع «من قبل» صلة.
والمرادُ من الآية: التَّسْلية لِقَلْبِ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: أن هذه الأنواع الكثيرة التي يعاملونك بها كنت موجودة في سائِر القرون.
قوله: «فحاق بالذين سخِروا» ن فاعل «حاق» :«ما كانوا»، و «ما» يجوز أن تكون موصُولةٌ اسميةً، والعائد «الهاء» في «به» و «به» يتعلَّق ب «يستهزئون»، و «يستهزئون» خبر ل «كان»، و «منهم» متعلّق ب «سخروا» على أنَّ الضمير يعود على الرُّسل، قال تبارك وتعالى: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ [هود: ٣٨].
ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو: سَخِرْت به، ويجوز أن يتعلّق «منهم» بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من فاعل «سَخِروا» والضمير في «منهم» يعود على الساخرين.
وقال أبو البقاء: «على المستهزئين».
وقال: الحوفي: «على أمَمِ الرسل».
وقد رَدَّ أبو حيَّان على الحوفي بأنه يَلْزَمُ إعادته على غير مذكور.
وجوابُهُ في قوة المذكور، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى: فحاق بالذين سَخِرُوا كائنين من المستهزئين، فلا حَاجَة إلى هذه الحال؛ لأنها مفهومةٌ من قوله: «سخروا» وجوَّزوا أن تكون «ما» مصدريَّةً، ذكره أبو حيَّانَ ولم يتعرض للضمير في «به».
40
والذي يظهر أنه يعود على الرسول الذي يَتَضَمَّنُهُ الجَمْعُ، فكأنه قيل: فَحَاقَ بهم عَاقِبَةُ استهزائهم بالرسول المُنْدَرجِ في جملة الرُّسُلِ، وأمَّا على رأى الأخْفَشِ، وابن السراج فتعود على «ما» المصدريّة؛ لأنها اسم عندهما.
و «حاق» ألفه مُنْقَلِبَةٌ عن «ياء» بدليل «يَحِيق» ن ك «باع» «يبيع»، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان.
وزعم بعضهم أنه من «الحَوْق»، والمستدير بالشيء، وبعضهم أنه من «الحقّ»، فأبدلت إحدى القافين ياءً كَتَظَنَّنتُ، وهذان لَيْسَا بشيء.
أمَّا الأول فلاختلاف المَادَّةِ، إلاَّ أن يريدوا الاشتقاق الأكبر.
وأما الثاني: فلأنها دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ من غير دليلٍ، ومعنى «حاق» أحاط.
وقيل: عاد عليه وبَالُ مَكْرهِ، قاله الفراء.
وقيل: دَارَ.
41
وقال الربيع بن أنس: نَزَلَ.
وقال عطاء: حَلَّ، والمعنى يدور على الإحاطة والشمول، ولا تستعمل إلا في الشر.
قال الشاعر: [الطويل]
٢١١٥ -... - فأوْطَأ جُرْدَ الخَيْلْ عُقْرَ دِيَارِهِمْ
وَحَاقَ بِهِمْ مِنْ بأسِ ضَبَّةَ حَائِقُ... وقال الراغب: «قيل: وأصله: حَقَّ، فقلب نحو» زَلَّ وزَال «وقد قرئ» فأزلهما وأزلَهُمَا «وعلى هذا ذَمَّهُ وذّامه».
وقال الأزهري: «جعل أبو إسحاق» حاق «بمعنى» أحاط «، كأنَّ مَأخَذَهُ من» الحَوْق «وهو ما اسْتَدَارَ بالكَمَرَة».
قال: «وجائز أن يكون الحَوْق فِعْلاً من» حاق يحيق «، كأنه في الأصل: حُيْق، فقلبت الياء واواً لانْضِمَامِ ما قلبها».
وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل «ما كانوا» ؟
نقل الوَاحِدِيُّ عن أكثر المفسرين ذلك، أي: عقوبة ما كانوا، أو جَزَاء ما كانوا، ثم قال: «وهذا إذا جعلت» ما «عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن جعلْتَ» ما «عبارة عن العذاب الذي كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُوعدهم به إن لم يؤمنوا استَغْنَيْتَ عن تقدير المضاف، والمعنى: فَحَاقَ بهم العذابُ الذي يستهزئون به، وينكرونه».
والسُّخْرِيَةُ: الاسْتِهْزَاءُ والتهَكُّمُ؛ يقال: سِخِرَ منه وبه، ولا يُقَالُ إلاَّ اسْتَهْزَاءً به فلا يَتَعَدَّى ب «مِنْ».
وقال الراغب: «سَخَرْتُهُ إذا سِخَّرْتَهُ للهُزْءِ منه، يقال: رجل سُخَرَةٍ بفتح الخاء إذا كان يَسْخَرُ من غيره، وسُخْرَة بِسُكُونها إذا كان يُسْخَر منه ومثله:» ضُحَكة وضُحْكة «، ولا ينقاس».
وقوله: ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً﴾ [المؤمنون: ١١٠] يحتمل أن يكون من التسخير، وأن يكون من السُّخْرية.
وقد قرئ سُخْرياً وسِخْرياُ بضم السين وكسرها.
وسيأتي له مزيدُ بيان في موضعه إن شاء اللَّهُ تعالى.
42
قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض﴾ كما صبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الآية الأولى، حَذَّرَ القوم في الآية، وقال لرسوله: قل لهم: لا تغتروا بما وَصَلْتُمْ إليه من الدنيا ولذَّاتها، بل سيروا في الأرض لترعرفُوا صحة ما أخبركم الرسولُ عنه من نزول العذاب بمن كذب الرسل من الأمم السَّالفة قبلكم. يحذر كفار «مكّة»، ويحتمل هذا السير أنْ يكون بالعقول والفِكَرِ، ويحتمل السَّيْرَ في الأرضِ.
قوله: «ثُمَّ» انْظُرُوا «: عطف على» سِيرُوا «ولم يجئ في القرآن العطف في مثل هذا الموضوع إلاَّ بالفاء، وهنا جاء ب» ثم «فيحتاج إلى فَرْقٍ.
فذكر الزمخشري الفرق وهو: أنْ جَعَل النَّظَرَ مُسَبَّباً عن السَّيْرِ في قوله:»
فانْظُرُوا «كأنه قيل: سِيُروا لأجْلِ النظرِ، ولا تسيروا سَيْرَ الغافلين.
وهنا معناه إبَاحَةُ السَيَّرِ في الأرض للتجارة وغيرها من المَنَافِع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه عل ذلك ب»
ثمَّ «لِتَبَعُدِ ما بين الواجب والمباح.
قال أبو حيَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وما ذكر أوَّلاً مُتَنَاقض؛ لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السَّيْرِ، فكان السَّيْرُ سبباً للنَّظَرِ، ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجْلِ النَّظَرِ، فجعل السَّيْرَ مَعْلُولاً بالنَّظَرِ، والنَّظَرِ، سَبَبٌ له فَتَنَاقَضَا، ودعوى أن»
الفاء «سببيةٌ دعوى لا دَلِيلَ عليها وإنَّما مَعْنَاها التَّعْقِبُ فقط، وأمَّا» زَنَى ماعِز فَرُجم «فَفَهْمُ السببية من قَرِينَةٍ غيرها.
قال:»
وعلى تقدير [تَسْلِيم] إفادتها السَّبَبَن فَلِمَ كان السيرُ هنا سَيْرَ إباحةٍ، وفي غيره سَيْرَ إيجاب؟ «.
وهذا اعترض صحيح إلاَّ قوله:»
إنَّ «الفاء» لا تفيد السَّبِبِيَّةَ «فإنه غيرُ مُرْضٍ، [
43
ودليله في غير هذا الموضع] ومثُل هذا المكان في كون الزَّمَخْشَرِيّ جعل شيئاً عِلَّةً، ثم جعله مَعْلولاً، كما سيأتي إن شاء الله - تعالى - في أوَّلِ» الفتح «ويأتي هناك جوابه.
قوله:»
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ «كَيْفَ» خبرٌ مقدَّمٌ، و «عاقبة» اسمها، ولم يُؤنَّثْ، فعلْها؛ لأنَّ تأنيثها غير حقييقي؛ ولأنها بتأويل المآلِ والمُنْتَهَى، فإنَّ العاقبة مَصْدَرٌ على وزن «فاعلة» وهو محفوظ في ألْفَاظ تقدَّمَ ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يَصيرُ إليه.
والعاقبةُ إذا أطْلِقَتْ اختصت بالثواب قال تعالى: ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨] وبالإضافة قد تستعمل في العُقُوبةِ كقوله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى﴾ [الروم: ١٠]، ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [الحشر: ١٧] فَصَحَّ أن تكون اسْتِعَارةً من ضدَّهِ كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١].
و «كَيْفَ» مُعَلِّقة للنظر، فهي في مَحَلِّ نصبٍ على إسْقَاط الخافضح لأنَّ معناه هنا التَّفَكُّرُ والتدبُّرُ. والله أعلم.
44
«لِمَنْ» خَبَرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم، لاشْتِمَالهِ على مَا لهُ صَدْرُ الكلام، فإنَّ «مَنْ» استفهامية [والمبتدأ «ما» وهي بمعنى «الذي» ]، والمعنى: لمن اسْتَقَرَّ الذي في السموات.
وقوله: «قُلْ للَّهِ» قيل: إنَّمَا أمَرَه أن يجيب، وإن كان المقصود أن يُجِيبَ غيره؛ ليكون أوَّل من بَادرَ بالاعتراف بذلك.
وقيل: لمَّا سِألَهُمْ كأنَّهم قالوا: لمن هو؟ فقال اللَّهُ: قُلْ للَّهِ، ذكره الجُرْجَانِيُّ فعلى هذا قوله: «قُلْ للِّه» جوابٌ للسؤال المُضْمَرِ الصَّادِرِ من جهة الكُفَّارِ، وهذا بَعِيدث؛ لأنهم لم يكونوا يَشكُّون في أنَّهُ للَّهِ، وإنما هذا سؤالُ تَبْكِيتٍ وتَوبِيخٍ، ولو أجابو الم يَسَمْهُمْ أن يُجيبوا إلاَّ بذلك.
وقال ابن الخَطيبِ: إنَّ اللَّهَ - تبارك وتعالى - أمَرَهُ بالسُّؤالِ أوَّلاً، ثمَّ بالجواب ثانياً، وهذا إنَّما يَحْسُنُ في المَوْضِعِ الذي يكونُ جوابُهُ قد بَلَغَ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره مُنْكِرٌ، ولمَّا كانت آثار الحدوث والإمْكان ظاهرة في ذَوَاتِ جميع
44
الأجْسَامِ، وفي جميع صفاتها، ولا جَرَمَ كان الاعْتِرَافُ بأنها بأسرها للَّه تعالى، ومِلْكٌ له، ومَحَلُّ تَصَرُّفِهِ وقُدرَتِهِ، لا جَرَمَ أمره بالسُّؤالِ أوّلاً، ثم بالجواب ثانياً لِيَدُلَّ ذلك على الإقْرَارَ بهذا المعنى ممَّا لا سبيل إلى دفعه ألْبَتَّةَ، كما قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] وقوله: «اللَّه» خبر مبتدأ محذوف أي: هو اللَّهُ.

فصل في المراد بالآية


والمقصودُ من هذه الآية الكريمة تَقْرِيرُ إثْبَاتِ الصَّانع، وتقرير المعاد، وتقرير النُّبُوَّةِ، أما تقدير إثبات الصَّانِع، فلأن أحوال العالم العُلْوِيّ والسُّفْلي تدلُّ على أنَّ جميع هذه الأجْسَام موضوفةٌ بصفات كان يجوز عليها اتَّصَافُها بأضْدَادِهَا، وإذا كان كذلك كان اخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْسِ منها بصفة مُعَيَّنَةٍ لابُدَّ وأن يكون لأجل أنَّ الصانعَ الحكيم القَادِرَ المُخْتَارَ خَصَّهُ بتلك الصِّفَةِ المعنية، وهذا يَدُلُّ على أن العَالَم مع كل ما فيه مَمْلُوكٌ للَّهِ تعالى، وإذا ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادٍراً على الإعَادَةِ والحَشْر والنَّشْرِ؛ لأن التركيب الأوَّل إنما حَصَلَ لكونه - تبارك تعالى - مَلِكٌ مُطَاع، والمَلِكُ المُطاع مَنْ لَهُ الأمْرُ والنهي على عَبِيدهِ، لا بُدَّ من مُبَلِّغ، وذلك يَدُلُّ على أن بعْثَةَ الأنبياء والرُّسُلِ عليهم الصّلاة والسَّلام من اللَّهِ إلى الخَلْقَ غير ممتنع، فدَلَّت هذه الآية الكريمة على هذه المطالب الثلاثة، ولما سَبَقَ ذِكْرُ هذه المَسَائِلِ الثلاثةً ذكر اللَّهُ - تبارك وتعالى - بعدها هذه الآية لتكون مَقْرُنةً بمجموع تِلْكِ المَطَالِبِ.
قوله: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ» أي: قَضَى وأوْجَبَ إيجَابَ تَفَضُّلٍ، لا تضمَّن من معنى القَسَمِ، وعلى هذا فلا توقُّف على قوله: «الرَّحْمَة».
وقال الزجاج: إن الجملة في قوله: ليجمعنَّكم «في محل نصب على أنها بَدَلٌ من الرحمةِ؛ لأنه فسَّرَ قوله تعالى:» ليجمعنَّكم «بأنه أمْهَلَكم وأمَدَّ لكم في العُمْرِ والرِّزْقِ مع كُفْركم، فهو تفسيرٌ للرحمة.
وقد ذكر الفَرَّاء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عن قوله تعالى: «الرَّحْمَة»، أو أنَّ «ليجمعنَّكُمْ» بَدَلٌ منها، فقال: إن شئت جعلت الرَّحْمَةَ غَايَة الكلام، ثم
45
اسْتَأنَفْتَ بعدها «لَيَجْمَعَنَّكُمْ» وإن شئت جَعَلْتَهَا في موضع نصبٍ كما قال: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: واسْتِشْهَادَهُ بهذه الآية الكريمة حَسَنٌ جداً.
ورَدَّ ابن عطيَّة هذا بأنه يَلْزَمُ دخول نون التوكيد [في الإيجاب قال: وإنما تدخل على الأمْر والنهي، وجواب القَسَمِ، ورد أبو حيان حصر ابن عطيَّة ورود نون التوكيد] فيما ذكر صحيحٌ، وردَّ كون «ليجمعنَّكم» بدلاً من الرحمة بِوَجْهٍ آخر، وهو أنَّ «ليجعنكم» جوابُ قَسَم، وجملةُ الجوابِ وَحْدَهَا لا موضوع لها من الإعراب، إنما يُحْكمُ على مَوْضع جملتي القَّسِمِ والجواب بمحلِّ الإعراب.
قال شهابُ الدين: وقد خلط مَكِّي المَذْهَبَيْنِ، وجعلهما مذهباً واحداً، فقال: «لَيَجْمَعنَّكُمْ» في موضع نصبٍ على البَدَلِ من «الرحمة» واللام لام القَسَمِ، فهي جواب «كَتَبَ» ؛ أنه بمعنى: أوْجَبَ ذلك على نَفْسِهِ، ففيه معنى القَسَم، وقد يظهر جوابٌ عما أوْرَدَهُ أبُو حيَّانَ على غير مكي، وذلك أنهم جَعَلُوا «لَيَجْمَعَنَّكُم» بَدَلاً من الرَّحْمَةِ - يعني هي وقَسِيمها المحذوف، واستغنوا عن ذك القَسَمِ، لا سيما وهو غير مذكور.
وأمَّا مكِّي فلا يظهر هذا جواباً له، لأنَّه نَصَّ على أنَّهُ جواب ل «كتب»، فمن حَيْثُ جَعَله جَوَاباً ل «كَتَبَ» لا مَحَلَّ له، ومن حَيْثُ جعله بَدَلاً كان مَحَلُّه النَّصْبَ، فَتَنَافَيَا، والذي ينبغي في هذه الآيةِ الكريمةِ أنْ يكون الوَقْفُ عند قوله: «الرحمة».
وقوله: «ليجمعنَّكم» جوابُ قَسَم محذوف أي: «واللَّهِ ليجعنَّكُم»، والجملة القَسِمِيَّةُ لا مَحَلَّ لها بما قبلها من حَيْثُ الإعْرَاب، وإنْ تعلَّقت به من حَيْثُ المعنى.
و «إلى» على بابها، أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة.
وقيل: هي بمعنى «اللاَّمط كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ﴾ [آل عمران: ٩] وقيل: بمعنى» في «أي: لَيَجمعنَّكُمْ في يوم القيامة.
وقيل: هي زائدة، أي: ليجمعنكم يوم القيمامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ ﴿تهوي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧] بفتح»
الواو «إلاَّ أنه لا ضرورةَ هنا إلى ذلك.
وتقدَّمَ الكلامُ في ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى﴾ في أول»
البقرة « [البقرة: ٢] والجملة حالٌ من» يوم «والضمير في» فيه «يَعُودُ على» اليوم «.
وقيل: يَعُودُ على الجَمْعِ المدلول عليه بالفَعْلِ؛ لأنه رَدٌّ على منكري القيامة.
46

فصل في الكلام على الآية


قال بعضهم: هذا كلامُ لا تَعَلُّق له بما قبله، فيه تصريح بكمال إلهيته سبحانه تعالى بقوله: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ﴾ ثم بَيَّن - تبارك وتعالى - أنه يرحمهم بالإمْهَالِ، ورفع عذاب الاستئصالن وبيَّنَ أنَّهُ يجمعهم إلى يوم القَيَامَةِ.
فقوله: ﴿كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة﴾، أي: يمهلمهم.
وقوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ أنَّهُ لا يمهلهم بل يحشرهم ويُحَاسِبُهم بِكُلِّ ما فعلوا.
وقال آخرون: إنه متعلّق [بما قبله]، والتقدير: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحَمْةَ ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة﴾.
وقيل: إنه لمَّا قال: كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: إنَّهُ تبارك وتعالى «ليجمعنكم» [إلى يوم القيامة «وذلك لأنَّهُ خَوْفُ العذاب لحصل الهَرَجُ والمَرَجُ فصار يوم القيامة من أعظم أسْبَابِ الرحمة، فكان قوله: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾. كالتفسير لقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ [الأنعام: ٥٤].

فصل في المراد بهذه الآية


اختلفوا في المُرادِ بهذه الرَّحْمَةِ، فقيل: إنَّهُ -[تبارك وتعالى]- يُمْهِلهُمْ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ، ويدفعُ عنهم عَذَابَ الاسْتِئْصَالِ، ولا يعاجلهم بالعُقُوبَةِ [في الدنيا].
وقيل: المُرَادُ»
كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَةَ «لمن ترك التَّكْذِيِبَ بالرُّسُلِ، وقبل شريعتهم وتاب.

فصل في الإخبار عن سعة رَحِمَهُ اللَّهُ


ورى أبو هرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ كَتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي «.
وروى أبو الزّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة:»
إنَّ سِبَقِتْ غَضَبي «.
47
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ للِّهِ مِائَة رَحْمةٍ وَاحِدةٌ منها بَيْنَ الجِنِّ والإنْس والبَهَائِم والطير والهَوَامِّ فِيْهَا يتعاطفون وبها يَتَراحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أوْلادِهَا وأخَّر تِسْعاً وتسعين رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهاَ عِبَادةُ يَوْمَ القِيَامَةِ «.
وعن عمر بن الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:»
قَدِمَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسملم صَبِيُّ، فإن امرأةٌ من السَّبْي قَدْ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا لِسَقْي إذ وَجَدَتْ صبياً في السَّبْي، فأخَذَتُهُ فألصَقَتْهُ بِبطْنِهَا وَأرْضَعتْهُ فَقَال لَنَا رَسُولُ اللِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتَرَونَ هَذِهِ طَارحَةً وَلَدهَا في النَّارِ. قُلْنَا: لا وهِي تَقْدِرُ عَلَى أنْ تَطْرَحَهُ، فقالَ: لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِباَدِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلدهَا «.
قوله:»
الَّذِينَ خَسِرُوا «فيه ستَّة أوجه:
أحدهما: أنه مَنْصُوبٌ بإضمار»
أذُمُّ «ن وقَدَّره الزَّمخشري ب» أريد «، وليس بِظَاهرٍ.
الثاني: أنه مبتدأ أخْبِرَ عنه بقوله:»
فهم لا يُؤمِنُون «، وزيدت الفاءُ في خبره لِمَا تَضَمَّنَ من معنى الشَّرْطِ، قاله الزجاج، كأنه قيل: مَنْ يَخْسَرْ نَفْسَهُ فهو لا يومن.
الثالث: أنه مجرور على أنه نَعْتٌ للمكذِّبين.
الرابع: أنه بَدَلٌ منهم، وهذان الوَجْهَانِ بعيدان.
الخامس: أنه مَنْصُوبٌ على البَدَلِ من ضمير المُخَاطب، [وهذا] قد عرفت ما فيه غير مَرَّةٍ، وهو أنه يُبْدَل من ضمير الحَاضِر بَدَل كُلِّ من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟
ومذهبُ الأخفشِ جوازه، وقد تقدَّم دَلِيلُ الفَريقَيْنِ، وردَّ المبردُ عليه مَذْهَبَهُ، بأنَّ البَدَلَ من ضمير الخطابِ لا يجوز، كما لا يجوز: «مررتُ بَكَ زيد»
وهذا عجيب؛ أنه اسْتِشْهَادٌ بمحلِّ النزاع، وهو «مَرَتُ بك زيدٍ»، وردَّ ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ردَّه فقال: «ما في الآية مُخَالِفُ للمثال؛ لأنَّ الفائدة في البدل مُتَرتِّبَةٌ من الثاني، فأمَّا في» مررتُ بك زيدٍ «فلا فائدة في الثاني.
وقوله:»
لِيَجمَعَنَّكُمْ «يَصْلُحُ لِمُخَاطَبةِ النَّاس كافَّةً، فيفيدنُا إبدال» الَّذينَ «من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخِطَابِ، وخُصُّوا على جهة الوَعيدِ، ويجيءُ هذا إبْدال البعضِ من الكُلِّ».
48
قال أبو حيَّان: «هذا الرَّدُ ليس بِجَيِّدٍ؛ لأنه إذا جعلنا» لِيَجْمَعَنَّكُم «صالحاً لخِطَابِ جميع النَّاس كان» الَّذين «بَدَلَ بعض، ويحتاج إذا ذالك إلى ضميرٍ، تقديره: خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فِيْهُمْ وقوله:» فيفيدنا إبْدَال الذين من الضمير أنهم هم المُخْتَصُّون بالخَطَابِ، وخُصُّوا على جِهَةِ الوعيدِ «وهذا يقتضي أن يكون بدل كلّ، فتناقَضَ أوَّل كلامه مع آخره؛ لأنه من حَيْثُ الصَّلاحِيّةُ بدل بعض، ومن حيث اخْتِصاص الخِطَابِ بهم يكون بدلَ كُلّ، فَتَنَاقَضَا».
قال شهابُ الدِّينِ: ما أبْعَدَهُ عن التَّنَاقُضِ، لأن بدل البعض من الكُلِّ من حملةِ الخصِّصَات، كالتخصيص بالصِّفةِ والغاية والشرط، نصَّ العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -
49
على ذلك فإذا تقرَّرَ هذا، فالمُبْدَلُ منه بالنسبة إلى اللَّفظِ في الظاهرِ عامُّ، وفي المعنى ليس المُرَادُ به إلاَّ ما أرَادَهُ المتكلِّم، فإذا وردَ: «واقتلوا المُشركين بين فلان» مثلاً، فالمشركون صالحٌ لكُلِّ مُشْرِكٍ من حيثُ اللَّفظِ، ولكنَّ المُرادَ به بَنُو فلان، فالعموم في اللفظ والخُصُوص في المعنى، فكذا قَوْلُ أبي مُحَمَّدٍ لمُخَاطَبةِ الناس، معناه أنه يَعُمُّهُمْ لَفْظاً.
50
وقوله «فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره» هذا هو المُخَصِّص فلا يجيء تناقُقَ ألْبَتَّة، وهذا مقرر في «أصول الفقه».
السادس: أنه مَرْفُوعٌ على الذَّمِّ، قاله الزَّمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول: «نَصْبٌ على الذم أو رَفْعٌ، أي: أريد الذين خَسِرُوا أنفسهم، أو أنتم الذين خَسِرُوا أنفسهم» انتهى.
قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «إنما قَدَّر المبتد» أنتم «ليرتبط مع قوله:» ليجمعنَّكم «، وقوله:» خسروا أنفسهم «من مُراعاةِ الموصول، ولو قال:» أنتم الَّذين خسروا أنفسكم «مُراعَاةً للخطابٍ لجَازَ، تقول: أنت الذي قَعَدَ وإن شئت: قَعَدْت».
فإن قيل: ظَاهِرُ اللَّفظِ يَدُلُّ على أنّ خُسْرَانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر على العكس؟
فالجواب: أنَّ هذا يَدُلُّ على أن سَبْقَ القضاء بالخُسْرَانِ والخِذْلانِ هو الذي حملهم على الامْتَنَاعِ من الإيمان، وهو مذهب أهْلِ السُّنَّة.
51
قوله: «ولَهُ مَا سَكَن» : جملة من مُبْتَدَأ وخبر، وفيها قولان:
أظهرهما: أنها اسْتَئْنَافُ إخبار بذلك.
والثاني: أنها في مَحَلّ نَصْبٍ نَسَقاً على قوله: «الله»، أي: على الجملة المَحْكيَّةِ ب «قل» أي: قل: هو الله، وقل: له ما سَكَنَ.
و «ما» موصولة بمعنى «الذي»، ولا يجوز غَيْرُ ذلك.
و «سَكَنَ» قيل: معناه ثَبَتَ واسْتَقَرَّ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
كقولهم: فلان يسكنُ بَلْدَة كذا، ومنه قوله تبارك وتعالى ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُم﴾ [إبراهيم: ٤٥].
وقيل: هو مِنْ «سَكَنَ» مقابل «تَحَرَّك»، فعلى الأوَّل لا حذف في الآية الكريمة.
قال الزمخشري: وتعدِّية ب «في» كما في قوله: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُم﴾ [إبراهيم: ٤٥]، ورجَّع هذا التفسير ابن عطية.
وعلى الثَّاني اخْتَلَفُوان فمنهم من قال: لا بُدَّ من محذوفٍ لِفَهْمِ المعنى، وقدَّر ذلك
51
المحذوف معْطُوفاً، فقال: تقديره: لوه ما سَكَنَ وما تحرك، كقوله في موضع آخر: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبَرْد وحذف المعطوف فاشٍ في كلامهم، وأنشد القائل في ذلك:
٢١١٦ - كَأنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمَامِهَا وإذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا
وقال الآخر: [الطويل]
٢١١٧ - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً أبُو حُجُرِ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
يريد: رِجْلَهَا ويدها، وبين الخير وبيني.
ومنهم من قال: لا حَذْفَ؛ لأنَّ كُلَّ متحرك قد يسكن.
وقيل: لأنَّ المُتَحرِّكَ أقَلُّ، والساكن أكثرُ، فلذلك أوثِرَ بالذِّكْرِ.
وقيل: إنما خصَّ السُّكون بالذِّكْرِ، لأن النعمة فيه أكثر.

فصل في نظم الآية


قال أبو مسلم: وجه نَظْمَ الآية الكريمة أنه - تبارك وتعالى - ذَكَرَ في الآية الأولى: السَّمَوَات والأرضِ؛ إذ لا مكانَ سِوَاهُمَا، وفي هذه الآية الكريمة ذكر الليل والنَّهار، إذ لا زمان سواهما، فالزَّمَان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر - تبارك وتعالى - أنه مَالِكٌ للمكان والمَكَانِيَّاتٍ، ومالك للزَّمانِ والزَّمانِيَّاتِ.
قال محمد بن جرير: كُلُّ ما طلعت عليه الشَّمْسُ وغَرَبَتْ، فهو من مَسَاكن اللَّيل والنَّهَار، والمراد جميع ما في الأرض.
وقيل: مَعْنَاه له ما يمرُّ عليه اللَّيْلُ والنَّهَارُ، وهو السميعُ لأصواتهم، العَلِيمُ بأسْرَارِهِمْ.
52
أغَيْرَ اللَّهِ «مفعول أوّل ل» أتَّخِذُ «و» لياً «مفعولٌ ثانٍ، وإنما قدَّم المفعول الأوَّل على فعله لمعنى، وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غَيْرَ اللَّهِ وليّاً لا اتّخَاذ الوليّ، ونحوه قولك لمن يُهِينُ زيداً وهو مستحقٌّ للإكرام:» أزيداً أهّنْتَ «؟! أنْكَرْتَ أن يكون مَثْلَهُ مُهَاناً.
وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦]، ومثله: ﴿أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً﴾ [الأنعام: ١٦٤]، ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤] {ءَآللَّهُ أَذِنَ
52
لَكُمْ} [يونس: ٥٩] ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾ [الأنعام: ١٤٣] وهو كثيرٌ، ويجوز أن يكُونَ» أتخذ «متعدّياً لواحدٍ، فيكون» غير «مَنْصُوباً على الحال من» ولياً «؛ لأنه في الأصل صِفَةٌ له، ولا يجوز أن يكُونُ استثناءً ألْبَتَّةَ، كذا منعه أبو البقاء، ولم يُبَيَّنْ وجهه.
والذي يظهر أنَّ المَانِعَ تقدُّمه على المستثنى منه في المعنى، وهو»
وَلياً «.
وأمَّا المعنى فلا يَأبى الاستثناء؛ لأن الاستفهام لا يُرَادُ به حقيقته، بل يُراد به الإنْكَار، فكأنه قيل: لا أتَّخذُ وليَّا غير اللَّه، ولو قيل كذا لكان صحيحاً، فظهر أنَّ المانع عنده إنما هو التَّقْديِمُ على المستثنى منه، لكن ذلك جائز وإن كان قليلاً، ومنه: [الطويل]
٢١١٨ - ومَا لِي إلاَّ آل أحْمَدَ شِيعَةٌ وَمَا لِيَ إلاَّ مَشْعَبَ الحَقَّ مشْعَبُ
وقرأ الجمهور»
فَاطرِ «بالجر، وفيها تخريجان:
أحدهما - وبه قال الزخشريّ والحوفيّ وابن عطيّة -: صفة للجلالة المجرورة ب»
غير «، ولا يَضُرُّ الفَضْلُ بين الصِّفَةِ، والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبيةٍ، إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف.
الثاني - وإليه نَحَا أبو البقاء -: أنه بَدَلٌ من اسم اللَّهِ، وكأنه فَرَّ من الفَصْلِ بين الصٍّفةِ وموصوفها.
فإن قيل: هذا لازمٌ له في البد، فإنه فَصَل بين التاَّبع ومتبوعه أيضاً، فيقال: إنَّ الفَصْلَ بين البدلِ والمبدل فيه أسهلح لأن البَدَلَ على نِيَّةِ تَكْرَارِ العمال، فهو أقربُ إلى الفَصْلِ، وقد يُرجَح تخريجه بوَجْهِ آخر، وهو أنَّ»
فاطر «اسم فاعل، والمعنى ليس على المُضِيِّ حتى تكون إضافته غير مَحْضَةٍ، فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنَّكرة؛ لأنه في نيَّةِ الانفصال من الإضافة، ولا يقال: اللَّهُ فَاطِرُ السموات والأرض فيما مضى، فلا يُرَادُ حالٌ ولا استقبالٌ؛ لأن كلام اللِّهِ - تبارك وتعالى - قديمٌ متقدّمٌ على خَلْقِ السموات، فيكون المراتد به الاسْتِقْبَال قطعاً، ويَدُلُّ على جواز كونه في نيَّة التَّنْوين ما يأتي ذكره عن أبي البَقَاءِ قريباً.
53
وقرأ ابن عَبْلَةَ برفعه، وتخريجه سَهْلٌ، وهو انه خبر مبتدأ محذوف.
وخرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ، فيحتاج إلى تقدير خَبَرِ، والدلالَةُ عليه خفيَّةٌ بخلاف تقدير المبتدأ، فإنه ضمير الأول، أي:» هو فاطر «. وقرئ شاذاً بنصبه، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين:
أحدهما: أنه بَدَلٌ من»
ولياً «قال:» والمعنى على هذا أجْعَلُ فاطر السموات والأرض غير اللِّهِ «، كذا قدَّرَهُ، وفيه نظر، ؛ لأنه جعل المفعول الأول، وهو» غير الله «مفعولاً ثانياً، وجعل البدل من المفعول الثاني معفولاً أوَّل، فالتدقير عَكْسُ التركيب الأصلي.
والثاني: أنه صِفَةٌ ل «ولياً»
قال: ويجوز أن يكون صَفَةٌ ل «وَليّاً» والتنوين مُرَادٌ.
قال شهاب الدين: يعني بقوله: «التنوين مُرَاد» أنَّ اسم الفاعل عاملٌ تقديراً، فهو في نِيَّةِ الانْفَصَالِ، ولذلك وقع وَصْفاً للنكرة كقوله: ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤].
وهذا الوجه لا يَكَادُ يَصِحُّ، إذ يصير المعنى: أأتَّخِدُ غير اللَّهِ وليّاً فاطر السموات الحال من الجلالةِ، كما كان «فاطر» صفتها في قراءة الجمهور.
ويجوز على رأي أبي البقاءِ أن تكون صَفَةٌ ل «وليَّاً»، ولا يجوز أن تكون صَفَةً للجلالة؛ لأن الجملة نكرةٌ.
والفَطْرُ: الشَّقُّ مُطْلقاً، وقيَّدَهُ الرَّاغب بالشَّقِّ طولاً، وقيَّدّهُ الواحدي بشقِّ الشيء عند إبتدائه.
والفطرُ: إبداع وإيجاد شيء على غير مثال، ومنه ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾، أي: أوجدها على غير مثال يُجْتدى.
وعن ابن عبَّاس: ما كنتُ أدْرِي ما معنى فَطَر وفَاطِر، حتَّى اختصم إليَّ أعْرَابيَّان
54
في بِئرِ، فقال أحدهما: «إنا فَطَرتُهَا»، أي: أنْشَأتُهَا وابتدأتها.
ويقال: فَطَرْتُ كذا فَطْراً وفَطَر هو فُطوراً، وانْفَطَرَ إنْفَطَاراً وفَطَرْتُ الشَّاة: حَلَبْتُهَا بأصْبُعَيْنِ، وفَطرْتُ العَجينَ: خبرْته في وَقْتِهِ.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿فِطْرتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠] إشارة منه إلى ما فَطَرَ، أي: أبدع وركز الناس من معرفته [ما ركز]، ففطرة اللِّهِ ما رُكِّز من القُوِّةِ المُدْرِكة لمعرفته، وهو المُشَارُ إليه بقوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧].
وعليه: «كُلُّ مولودٍ يُوْلَدُ على الفِطْرَةِ» الحديث.
وهذه الآية الكريمة نزلت حين دعا إلى الله آباءه فقال تعالى: يا محمد ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ رباً معبوداً وناصراً ومعيناً.
قوله: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ القراءة المَشْهُرة ببناء الأوَّل للفاعل، والثَّاني للمعفول، والضمير للِّهِ تعالى، والمعنى: وهو يَرْزَق، وهو موافق لقوله تعالى: ﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٧].
وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد بن حبر، والأعمش، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، وأبو عمرو العلاء في رواية عنه: وَلاَ يَطْعَمُ «بفتح الياء والعين، والضميرُ في ولا يُطْعِم للولِيّ.
وقرأ يعقوب في رواية أبي المأمون:»
وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم «ببناء الأوَّل للمفعول، والثَّاني للفاعل، على عَكْسِ القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترين في الفعلين للولي فقط أي: وذلك الولي يُطعمه غيره، ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزِه.
وقرأ الأشْهَبُ:»
وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم «ببنائهما للفاعل.
55
وذكر الزمخشري فيهما تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال بعد أن حَكَى القراءة: وفُسِّر بأنَّ معناه وهو يُطْعِم ولا يِسْتطْعمِ.
وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى اسْتَطْعِمْتُ، ونحوه: أفّدْت، ويجوز أن يكون المعنى: هو يُعطْعِمُ، تارةٌ، ولا يُطْعم أخرى على حسب المَصَالِحِ، كقولك: هو يعطي ويمنع، ويَقْدر ويبسط ويغني ويُفْقر.
قال شهابُ الدين: هكذا ذكر أبو حيَّان هذه القراءات.
وقراءةُ الأشهب هي كقراءة ابن أبي عَبْلَةَ والعماني سواء لا تَخَالُفَ بينهما، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كُلِّهم، وإلاَّ يوهم هذا أنهما قِرَاءتانِ مُتغَايرَتَانِ، وليس كذلك.
وقُرئَ شاذّاً: «يَطْعَمُ» يفتح الياء والعين، «ولايُطعم» بضم الياء وكسر العين، أي: وهو يأكل، ولا يطعم غيره، ذكره هذه القراءة أبو البقاء قال: «والضميرُ راجع على الوَليّ الذي غَيْرُ اللِّهِ».
فهذه ست قراءات، وفي بعضها - وهو تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البَديع تَجنيسُ التشكيل، وهو أن يكون الشَّكْلُ فارقاً بين الكلمتين، وسمَّاهُ أسَامةُ بن منقذ تجنيس التَّحْريفِ، وهو تَسْمِيَةٌ فَظِيعَةٌ، فتسميتهُ بتجنيس التَّشْكيل أوْلَى.
قوله: ﴿قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ يعني من هذه الأمَّةِ، والإسلامُ بمعنى الاسْتِسْلام لأمرِ اللِّهِ تعالى.
وقيل: أسْلمَ أخْلَصَ، و «مَنْ» يجوز أن تكون نكرة موصوفةً واقعةً موقع اسم جمع أي: أوَّل فريق أسلم، وأن تكون موصولةً أي: أوَّل الفريق الذي أسْلَم، وأفرد الضمير في «أسلم» إمَّا باعتبار «فريق» المُقَدَّر وإمَّا باعتبار لَفْظِ «مَنْ»، وقد تقدَّم الكلام على «أول» وكيف يُضَاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في سورة البقرة.
قوله: «ولا تَكُونَنَّ» فيه تأويلان:
أحدهما: على إضمار القول، أي: وقيل لي: لا تكونن.
56
قال أبو البقاء: «ولو كان مَعْطُوفاً على ما قبله لَفظاً لقال: وأنْ لا أكون» وإليه نَحَا الزمخشري فإنه قال: «ولا تَكُونَنَّ: وقيل لي لا تكونَنَّ، ومعناه: وأُمرت بالإسْلامِ، ونُهيت عن الشِّرْكِ».
والثاني: أنه مَعْطُوفٌ على معلوم «قُلْ» حَمْلاً على المعنى، والمعنى: قل إني قيل لي: كُنْ مَنْ أسلمٍ، ولا تكوننَّ من المشركين، فهما جميعاً محمولان على القَوْلِ، لكن أتى الأوَّل بغير لفظ القول، وفيه معنهاه، فَحُمِلَ الثاني على المعنى.
وقيل: هو عَطْفٌ على «قل» أُمِرَ بأن يقول كذا، ونهي عن كذا.
57
قوله: ﴿قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ فعبدت غيره «عذاب يوم عطيم» أي عذاب يوم القيامة، و «إنْ عصيت» شرط حُذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان:
أحدهما: أنه معترضٌ بين الفِعْلِ، وهو «أخاف» وبين مفعوله وهو «عذاب».
والثاني: أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال.
قال أبو حيَّان: كأنه قيل: «إني أخافُ عَاصٍياً ربِّي» ن وفيه نظر؛ إذ المعنى يَأبَاهُ. و «أخَافُ» وما في حَيِّزِه خبر ل «إنَّ»، وإنَّ وما في حيِّزِهَا في مَحَلّ نصب ب «قل» وقرأ ابن كثيرِ، ونافع «إنِّيَ» بفتح الياء، وقرأ أبو عمرو، والباقون بالإرسال.
«مَنْ» شرطيةٌ، ومَحَلُّها يحتمل الرَّفْع والنصب، كما سيأتي بيانه.
وقرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم: «يَصْرف» بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل.
والباقون بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله.
فأمَّا في القراءة الأولى، ف «مَنْ» فيها تَحْتَمِلُ الرفع والنصب، فالرفعُ من وجهِ واحدٍ، وهو الابتداء، وخبرها فعل الشَّرطِ أو الجواب أو همان على حَسَبِ الخلاف، وفي مفعول «يَصْرِفط حينئذ احتمالان:
57
أحدهما: أنه مَذْكُورٌ وهو» يومئذ «، ولا بُدَّ من حَذْفِ مَضَافٍ، أي: من يَصْرِفِ اللَّ عنه هَوْلَ يومئذ أو عذابَ يومئذ - فقد رحمه - فالضمير في» يَصْرِف «ن يعود على اللَّهِ تعالى، ويدلُّ عليه قراءة أبَيِّ بن كعبٍ» مَنْ يَصْرِف اللَّهُ «بالتصريح به.
والضميران في»
عنه «و» رحمه «ل» مَنْ «.
والثاني: أنه محذوف لدلالِة ما ذكر عليه قَبْلَ ذلك، أي: مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذاب»
يومئذ «منصوب على الظرِف.
وقال مكيٌ:»
ولا يَحْسُنُ أن تٌقَدَّر هاء؛ لأنها إنما تُحْذَفُ من الصِّلاتِ «.
قتل شهابُ الدين: يعني أنه لا يُقَدَّر المَفْعُولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صِفَةٌ ل»
عَذَاب «، والعائِدُ منها محذوف، لكنَّ الحَذْفَ إنما يكون الجملة الشرطية عنده صَفَةٌ ل» عَذَاب «، والعائِدُ منها محذوف، لكنَّ الحَذْفَ إنما يكون من الصِّلَةِ لا من الصِّفَةِ، وهذا معنى قول الواحديّ أيضاً، إلاَّ أنَّ قَوْلَ مَكي» إنما يُحْذّفُ من الصِّلاتِ «يريدُ في الأحسن، وإلاَّ فيحذف من الصِّفاتِ والأخبار والأحوال، ولكنَّه دون الصِّلة.
والنصبُ من وجهين:
أحدهما: أنَّه مفعول مُقَدَّمٌ ل»
يَصْرِف «والضمير في» عنه ‘لى هذا يتعيَّنُ عودهُ على العذابِ المتقدمّ، والتقدير: أيَّ شخصٍ يصرفِ اللَّهُ عن العذاب.
والثاني: أنه مَنْصُوبٌ على الاشْتِغَالِ بفعل مُضْمَرٍ لا يبرز، يفسره هذا الظَّاهِرُ من معناه لا من لَفْظِهِ، والتقدير: مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرَف اللَّه.
والضمير في «عنه» للشرطية.
وأمَّا مفعول «يَصْرِفْ» على هذا فَيَحْتَمِلُ الوجهين المُتقدَّمينِ، أعني كونه مذكوراً، وهو «يومئذٍ» على حَذْفِ مُضافٍ، أو محذوفاً اختصاراً.
وأمَّا القراءة الثَّانية ف «مِنْ» تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها في مَحَلّ رفع بالابتداء، وخبره ما بعده على ما تقدَّم والفاعل المَحْذُوفُ هو اللَّهُ - تعالى يَدُلُّ عليه قراءةُ أبّي المُتقدِّمةُ وفي القائم مقامه أربعة أوجه:
أحدهما: أنه ضمير العذاب، والضمير في «عنهط يعود على» مَنْ «فقط، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه منصوب ب»
يصرف «.
58
والثاني: أنه منصوب بالعذاب، أي: الذي قام ضميره مقام الفاعل، قاله أبو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ويلزم منه إعْمَالُ المصدر مضمراً، وقدر يقال: يُغْتَفَرُ ذلك في الظروف.
الثالث: قال أبو البقاء: «إنه حالة من الضمير» - يعني الضمير الذي قامَ مقامَ الفاعل، وجازَ وقوع الحال ظَرْفَ زمان؛ معنّى لا عن جُثّة.
الثاني من الأوجه الأربعة: أن القَائِمَ مقام الفاعل ضميره «مَنْ» والضمير في «عنه» يعُود على العذاب، والظَّرف منصوب، إمَّا ب «يُصْرف» وإمَّا على الحالِ من هاء «عنه».
الثالث: أنَّ القائم مقام الفاعل «يومئذ» إمَّا على حذف مضاف أي: من يُصْرَف عنه فَزَعُ أو هَوْلُ يومئذ، وإمَّا على قيام الظروف دون مضاف، كقولك: «سير يوم الجمعة»، وإنما بُنِيَ «يومئذٍ» على الفَتْح لإضافته إلى غير مُتَمَكِّنِ، ولو قُرِئَ بالرفع لكان جِائَزاً في الكلام، وقد قرئ: ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ [هود: ٦٦] فتحاً وجراً بالاعتبارين، وهما اعتبارانِ مُتَغَايِرَان.
فإن قيل: يلزمُ على عدم تقدير حَذْفِ المضاف إقامةُ الظِّرْفِ غير التام مقام الفاعل، وقد نصُّوا على أنَّ الظَّرْفِ المقطُوعَ عن الإضافة لا يُخبَرُ به، ولا يقوم مقام فاعل، ولو قلت: «ضُرب قبلُ» لم يَجُزْ، والزرف هنا في حكم المقطوع عن الإضافة فلا يجوز هنا قيامه مقام الفاعل، إلاَّ على حَذْفِ مضاف، فالجواب أن هذا في قُوَّة الظَّرْفِ المضاف؛ إذ التنوين عِوَضٌ عنه، وهذا ينتهضُ على رَأي الجمهور أما الأخفش فلا، لأنَّ التنوين عنده تَنْوِنيُ صَرْفِ والكَسْرُ كَسْرُ إعراب.
والرابع: أنَّ القائم مقامَهُ «عنه»، والضميرُ في «عنه» يعودُ على «مَنْ»، و «يومئذٍ» منصوب على الظَّرْفِ، والعامل فيه «يُصْرَفْ»، ولا يجوز الوجهان الأخيران، أعني نَصْبَهُ على الحالِ، لأن الضمير لجُثَّة والزَّمَان لا يقع حالاً عنهما، كما لا يَقَعُ خبراً، وأعني كونه مَعْمُولاً للعذاب، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعلِ.
والثاني من وَجْهي «مِنْ» في مَحَلِّ نصب بفعل مُضْمَرٍ يفسّره الظاهرُ بعده، وهذا إذا جعلنا «عنه» في مِحَلِّ نصب بأنْ يُجْعَلَ القائم مقامَ الفاعل: إمَّا ضميرَ العذاب، وإمَّا «يومئذ».
59
والتقدير: مَنْ يكرم اللَّهُ، أو من يُنَجِّ يُصْرَفْ عنه العذابُ أو هولُ يومئذ، ونظيره: «زيدٌ به مُرُور حسن»، أقمت المصدر فبقي «عنه» منصوب المَحَلّ.
والتقدير: جاوزت زيداً مُرَّ به مُرُور حسن، وأمَّا جُعل «عنه» قائماً مقام الفاعل تعيَّنَ رفعهُ بالابتداء.
وأعلم أنه متى قلت: مَنْصُوبٌ على الاشتغال، فإنما يُقدَّر الفعل بعد «مِنْ» ؛ لأن لها صدر الكلام، ولذلك لم أظْهِره إلاَّ مؤخّراً، ولهذه العِلَّةِ منع بعضهم الاشتغال فيما له صَدْرُ الكلام كالاسْتِفهَامِ والشرط.
والتنوين في «يومئذٍ يكون الجزاء، وإنَّما قلنا ذلك؛ لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عَوَضاً منهان وقد تقدَّم خلافُ الأخفش.
وهذه الجملة الشَّرطيَّةُ يجوز فيها وجهان: الاستئناف، والوصف ل»
عذاب يوم «، فحيثُ جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم، إمَّا مِنْ» يُصَرف «، وإمَّأ مِنْ» عنه «جاز أن تكون صفةٌ وهو الظَّاهر، وأن تكون مُسْتأنفةً، وحَيْثُ لم نجعلُ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تعيَّنَ أن تكون مُسْتَأنَفَةً، ولا يجوز أن تكون صِفَةً لخلوِّها من الضمير.
وَرجَّع بعضهم إحْدى القراءَتَيْنِ على الأخرى، وذلك على عَادتِهِمْ، فقال أبو عَلِيِّ الفارسي: قراءة»
يَصْرِف «يعني المبنيَّ للفاعل أحْسَنُ لمناسبة قوله:» رحمه «، يعني: أنَّ كُلاَّ منهما مَبْنيُّ للفاعل، ولم يقل:» فقد رُحِمَ «واختارها أبو حَاتِم، وأبو عُبَيْد، ورجَّعَ بعضهم قراءة المبنى للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله: ﴿لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود: ٨] يعني في كونه أتى بصيفة اسم المَفْعُول المُسْنَدِ إلى ضمير العذابِ المذكور أوَّلاً.
ورجَّحَهَا محمد بن جرير بأنها أقَلُّ إضماراً، ومكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَلَعْثَم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين، وأتى بأمثلةٍ فَاسِدَةٍ في كتاب»
الهداية «له.
قال ابن عطية:»
وقد تقدَّمَ أوَّلَ الكتاب عن ثَعْلبٍ وغيره من العلماء أنَّ ترجيح إحدى القراءاتِ المتواترة على الأخرى بحيث تُضِعَّفُ الأخرى لا يجوز «.
والجملة من قوله:»
فقد رحمه «في محلّ جَزْمٍ على جواب الشرط والفاء واجبة.
قوله:»
وذلِكَ الفَوزُ «مبتدأ وخبر جيء بهذه الجُمْلَةِ مقرِّرةً لما تقدَّم من مضمون
60
الجملة قبلها، والإشارَةُ ب» ذلك «إلى المَصْدَرِ المفهوم من قوله:» يُصْرف «، أي: ذلك الصرف.
و»
المبين «يحتمل أن يكون مُتَعَدِّياً، فيكون المفعول مَحْذُوفاً، أي: المبين غيرَه، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين، وقد تقدَّمَ أنَّ» أبان «، يكون قاصراً بمعنى» ظَهَرَ «، ومتعدّياً بمعنى» أظهر «.
61
هذا دليل آخر في بَيَانِ أنه لا يجوز للعاقلِ أنْ يتّخذ ولياً غير الله.
و «الباء» في قوله: «بِضُرِّ» للتعدية، وكذلك في «بخير»، والمعنى: وإن يمسك اللَّهُ الضُّرَ، أي: يجعلك ماسَّاً له، وإذا مست الضر فقد مَسَّك، إلاَّ أن التَّعديَةَ بالباء في الفعل المُتَعَدِّي قليلةٌ جداً، ومنه قولهم: «صَكَكْتُ أحَدَ الحجرين بالآخر».
وقال أبو حيان: ومنها قولهك تعالى ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥١].
وقال الواحدُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إن قيل: إن المَسَّ من صِفَةِ الأجَسْامِ فكيف قال: وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ؟
فالجواب»
الباء «لتعدية، والباء والألف يتعاقَبَانِ في التَّعديَةَ، والمعنى: إن أمَسَّك اللَّهُ ضُرّاً، أي: جعله مَاسَّك، فالفعلُ للضُّرِّ، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسمِ اللَّهِ تعالى، كقولك:» ذهبَ زيدٌ بعمرو «، وكان الذَّهابُ فِعْلاً لعمرو، غير أن زيداً هو المُسَبِّبُ له والحاملُ عليه، كذلك هنا الميسُّ للضُرِّ، والله - تعالى - جعله مَاسّاً».
قوله: «فلا كاشف له» :«له» «: خبر» لا «، وثمَّ مَحْذُوفٌ تقديره: فلا كاشف له عنك، وهذا المحذوف لي متعلِّقاً ب» كاشف «، إذ كان يلزمُ تنوينه وإعرابه، بل يتعلَّق بمحذوف، أي: أغني عنه. و» إلاَّ هو «فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من مَحَلّ»
كاشف «فإن مَحَلَّه الرفع على الابتداء.
والثاني: أنه بَدَلٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ في الخبر، ولا يجوز أن يرتفع باسم الفاعل، وهو»
كاشف «؛ لأنه مطوَّلاً [ومتى كان مطوَّلاً] أعْرِبَ نَصْباً، وكذلك لا يجوز أن يكون بَدَلاً من الضمير المُسْتَكِنّ في» الكاشف «للعلَّةِ المتقدّمة؛ إذ يحلُّ مَحَلُّ مَحَلَّ المبدل
61
فإن قيل: المقابل للخير هو الشَّر، فكيف عدل عن لَفْظِ الشَّرِّ؟ والجواب أنه أراد تَغْلِيبَ الرحمة على ضِدِّهَا، فأتى في جانب الشَّرِّ بأخَصَّ منه وهو الضُّرُّ، وفي جانب الرَّحْمَةِ بالعام الذي هو الخَيْرُ تعليباً لهذا الجانب.
قال ابن عطية: نابَ الضُّرُ مَنَابَ الشِّرِّ، وإن كان الشِّرُّ أعَمَّ منه، فقابل الخير.
وهذا من الفصاحةِ عُدُولٌ عن قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مُتءترناً [بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مُضاهاة فمن ذلك] ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى﴾ [طه: ١١٨ - ١١٩] فجاءؤ بالجوع مع العُرْي، وبابه أن يكون مع الظَّمَأ.
ومنه قوله امرئ القيس: [الطويل]
٢١١٩ - كَأنِّيَ أرْكَبْ جَواداً لِلَذَّةِ وَلَمْ أتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَال
وَلَمْ أسْبإ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أقُلْ لِخَيْلِيَ كُرِّي كرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ
ولم يوضّح ابن عطيَّة ذلكن وإيضاحه في آية «طه» اشْتَرَاكُ الجوع والعُرْي في شيء خاص وهو الخلُوُّ، فالجوع خُلُوُّ وفراغٌ من الباطن، والعُرْيُ خُلُوِّ وفراغٌ من الظَّاهرِ واشتراك الظَّمَأ والضِّحَي في الاحتراق، فالظَّمَأُ احترافي في الباطن، ولذلك تقول: «بَرَّدَّ الماءُ حَرارةَ كبدي وأوام عطشي».
والضَّحَى: احْتِرَاقُ الظَّاهر.
وأمَّا البيتان، فالجامعُ بين الرُّكوب لِلذَّةِ وهو الصيد وتبطُّن الكَاعِب اشتراكهما في لَذَّةِ الاسْتِعْلاءِ، والقهر والاقْتِنَاصِ والظّفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هَنَ المرأة «رَكَباً»، بفتح الراء والكاف، وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كقوله: [الرجز]
٢١٢٠ - إنَّ لَهَا لَرَكَباً إرْزَبَّا كَأنَّهُ جِبْهَةُ ذَرَّي حَبَّا
وأمَّا البيت الثاني فالجامعُ بين سَبَأ الخمر، والرُّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذْل، فشراءُ الخَمْرِ بَذْلُ المال، والرجوع بعد الانهزام بَذْلُ الروح.
62
وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضُّرِّ الخير لمناسبة اتِّصالِ مسِّ الضُّر بما قبله من التَّرْهيبِ المدلول عليه بقوله تعالى: «إنِّي أخَافُ»، وجاء جواب الشَّرْط الأوَّل بالحَصْر إشارةً إلى اسْتِقلالِهِ بكشف الضُّرُ دون غيره، وجاء الثاني بقوله تعالى ﴿فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُير﴾ إشارةً قدرته الباهرة، فيندرج فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنَّه لو قيل: إنَّ جواب الثاني مَحْذُوفٌ لكان وَجْهاً أي: وإن يمسك بخيرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، للتصريح بمثله في موضع آخر.

فصل


روى ابن عبَّاسٍ - رضي اله عنهما - قال: «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَغْلَةٌ أهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى، فَرَكِبَهَا بِحَبْلِ مِنْ شَعْرِ، ثُمَّ أرْدَفَنِي خَلْفَهُن ثُمَّ صَارَ بي مَلِيَّاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إليَّ وقال: يا غُلامُ فَقُلتُك لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله فقال احْفَظِ اللَّهَ يَحْفظْكَ، احَفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وإذا سَألْتَ فَأسْألِ اللَّهَ، وإن اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهُ سبحانه لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ولوْ جَهدُوا أنْ يَضُرُّوكَ عَمَّا لَمْ يَكْتُب اللَّهُ عَلَيْكَ ما قَدَرُوا عَلَيْهِن فإن اسْتَطَعْتَ أنْ تَعْمَلَ بالصَّبْرِ مَعَ اليَقيْنِ فافْعَلْ، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فإنَّ في الصَّبْرِ على ما تَكْرَهُ خَيْرَاً كَثِيراً، واعْلَمْ أنَّ النَّصْر مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ مَعَ الكَرْبِ الفَرَجِ، وأنَّ مَعَ العُسْر يسْراً».
63
والمرادُ بالقاهر الغالب، وفي «القاهِرِ» زيادَةُ معنى على القدرةِ وهو منع غيره من بلوغ المُرَادِ.
وقيل: المنفرد بالتَّدْبير الذي يجبرُ الخَلْق على مُرَادِه.
قوله: «فوق» فيه أوجه:
أظهرها: أنه مَنْصُوبٌ باسم الفاعل قَبْلَهُ، والفوقيَّةُ هنا عبارةٌ عن الاسْتِعْلاءِ والغَلَبَة.
أحدهما: أنه قاهرٌ.
والثاني: أنه فوق عباده بالغَلَبَةِ.
والثالث: أنه بَدَلٌ من الخبر.
والرابع: أنه منصوبٌ على الحال من الضمير في «القاهرة» كأنهُ قيل: وهو القاهرُ
63
مُسْتَعْلِياً أو غالباً، ذكره المهدوي وأبو البقاء.
الخامس: أنها زائدةٌ، والتقديرُ: وهو القَاهِرُ عِبَادَةُ.
ومثله: ﴿فاضربوا فَوْقَ الأعناق﴾ [الأنفال: ١٢] وهذا مردود؛ لأن الأسماء لا تزاد.
ثم قال «وهو الحكيم» أي في أمره، «الخبيرُ» بأعمال عباده.
64
قال الكَلْبِيُّ: أتى أهْلُ «مكة» رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: أرِنَا من يشهد بأنك رسول اللَّهِ، فإنَّا لا نَرَى أحَداً يُصَدِّقك، ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عِنْدَهُمْ ذكرٌ، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادة﴾ أي: أعظم شهادة، فإن أجَابُوكَ، وإلاَّ فقل: ﴿الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُم﴾ على ما أقول لأني أوحي إليَّ هذا القُرْآن مُعَجزاً لأنكم أنتم البُلَغَاءُ والفصحاء، وقد عجزتم عن مُعَارضته، فكان مُعْجِزاً، وإذا كان مُعْجِزاً كان إظهار الله - تعالى - له على وَفْقِ دَعْواي شهادة من اللَّهِ على كوني صادقاً في دَعْوَاي.
قوله تعالى: ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ﴾ مبتدأ وخبرٌ، وقد تقدَّمَ أن «أيَّا» بعض ما تضاف إليه، فإذا كانت استفهامية اقتضى الظَّاهِرُ أن يكون مُسَمَّى باسم ما أضيف إليه.
قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا يُوجِبُ أن يُسَمّى اللَّهُ تعالى» شيئاً «، فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف [والتقدير: الله أكبر شَهَادَةً، و» شهيد «على هذين القولين خَبَرُ مبتدأ محذوف] أي: ذلك الشيء هو الله تعالى، ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف أي: هو شهيدٌ بيني وبينكم، والجملةُ من قوله:» قل اللَّه «على الوَجْهَيْنِ المتقدمين جواب ل» أي «من حَيْثُ اللفظ والمعنى، ويجوز أن تكون الجلالةُ مبتدأ، و» شهيد «خبرها، والجملة على هذا جواب ل» أيّ «من حيث المعنى، أي: إنها دالّةٌ على الجواب، وليست به.
قوله:»
شَهَادَةً «نَصْبٌ على التمييز، وهذا هو الذي لا يَعْرَفُ النحاةُ غيره.
وقال ابن عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ»
أكثر «على
64
التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذا ساقط جدّاً؛ إذ نصَّ النحويون على أان معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنّث وتُثَنَّى، وتُجْمَعُ، وأفعلُ مِنْ لا تُؤنَّثُ ولا تُثَنَّى ولا تُجْمَعُ، فلم يُشبه اسم الفاعل، حتَّى إنَّ أبا حيَّان نَسَبَ هذا الخِبَاطَ إلى النَّاسخِ دون أبي محمد.
قوله:» بيني وبينكم «متعلِّقٌ ب» شهيد «، وكان الأصل: قل اللَّهُ شهيدٌ بيننا، فكُرِّرت» بين «توكيداً، وهو نظير قوله: [الوافر]
٢١٢١ - فَأيِّي ما وأيُّكَ كَانَ شَرًّا فَسيقَ إلى المَقَامَةِ لا يَرَاهَا
وقوله: [الرجز]
٢١٢٢ - يَا ربَّ مُوسَى أظْلَمِيَ وأْظْلَمِيَ وأظْلَمُه ْ أرسل عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ
وقوله: [الكامل]
٢١٣٣ - فَلَئِنْ لَقيتُكَ خَالِيَتْنِ لَتَعْلَمَنْ أيِّي وَأيُّك فَارِسُ الأحْزَابِ
والجامع بينهما: أنَّهُ لمَّا أضاف إلى»
الياء «وَحْدَها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف.
ويجوزُ أبو البقاء أن يكون»
بيني «متعلّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل» شهيد «، فيكون في مَحَلّ رفع، والظاهر خلافُهُ.
قوله: «وأوْحِيَ»
الجمهور على بِنَائِهِ للمفعول، وحُذِف الفاعل للعمل به، وهو الله تبارك وتعالى.
و «القرآن» رفع به.
وقرأ أبو نهيك، والجحدري، وعكرمة، وابن السَّمَيْفَع: «وأوْحَىط ببنائه للفاعل،» القرآن «نَصْباً على المفعول به.
و»
لأنْذِرَكُمْ «متعلِّقٌ ب» أوحي «.
قيل: وثمَّ مَعْطُوف حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، أي: لأنذركم به وأبَشِّركم به، كقوله
65
تعالى: ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] ن وتقدم فيه نظائرُن وقيل: لا حاجة إليه، لأن المقام مَقَمامُ تخويف.

فصل في بيان معنى الآية


والمعنى: اللَّهُ شهيدٌ بيني وبينكم أنِّي قد أبلغكم وصدّقْتُ فيما قلته وادَّعْتُهُ من الرسالة، والقرآن أيضاً شَاهِدق بنبوتِّي لأنذركم به يا أهل» مكة «ن ومن بلغه القرآن العظيم.
قوله تعالى:»
ومَنْ بَلَغَ «فيه ثلاثةُ أقوال:
أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبِ عطفاً على المنصوب في»
لأنْذِرَكُمْ «، وتكون» مَنْ «موصولةٌ، والعائِدُ عليها من صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ.
أعني: ولأنذر الذي بلغه القرآن الكريم من العَرَبِ والعَجَمِ.
وقيل: من الثَّقَلَيْنِ.
وقيل: من بَلَغَهُ [من القرآن الكريم] إلى يوم القيامةِ.
وعن سعيد بن جبير:»
من بلغه من القرآن، فكأنما رأى مُحَمَّداً عليه الصَّلاة والسَّلامُ «.
الثاني: أنَّ في»
بَلَغَ «ضميراً مرفوعاً يَعُودُ على» مَنْ «، ويكون المفعول محذوفاً، وهو منصوب المَحَلّ أيضاً نَسَقاً على مَفْعُول» لأنذركم «والتقدير: ولأنذر الذي بَلَغَ الحُلُمَ، فالعَائِدُ هنا مُسْتَتِرٌ في الفعل.
الثالث: أنّ»
مَنْ «مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضَّميرِ المرفوع في» لأنذركم «، وجاز ذلك؛ لأنَّ الفصل بالمفعول والجارِّ والمجرور أغْنَى عن تأكيده، والتقديرُ: لأنذركمن به، ولينذركم الذي بَلَغَهُ القرآن.
قوله:»
أإنًّكُمْ «الجمهور على القراءة بهمزتين: أولاهما للاستفهام، وهو استفهامُ تَفْريعٍ وتوبيخ.
قال الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولم يَقُل آخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع
66
عليه التأنيث، كقوله: ﴿وَللَّهِ الأسمآء الحسنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] وقوله: ﴿فَمَا بَالُ القرون الأولى﴾ [طه: ٥١] [ولم يقل الأوّل، ولا الأولينن وكل ذلك صوابٌ] وقد تقدَّم الكلامُ في قراءاتٍ مثل هذا.
قال أبو حيَّان:» وبِتَسْهيلِ الثانية، وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المُسَهَّلَة، روى هذه الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو، ونافع «انتهى.
وهذا الكلام يؤذن بأنها قراءةٌ مُسْتَغْرَبَةٌ، وليس كذلك، بل المَرْوِيُّ عن أبي عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - المَدُّ بين الهَمْزَتَيْنِ، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك.
وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملةٌ للاستفهام، وإنَّما حُذِفَتْ لفهم المعنى، ودلالة القراءة الشهيرة عليها، وتحتمل الخبر المَحْضَ.
ثم هذه الجملة الاستفهامية، يحتمل أن تكون مَنْصُوبَةَ المَحَلّ لكونها في حَيَّزِ القول، وهو الظَّاهرن كأنه أُمِرَ أن يقول: أيُّ شيء أكْبَرُ شَهَادً’ وأن يقول أإنكم لتشهدون.
ويحتمل أن تكون داخلَةً في حيَّزه فلا مَحَلّ لها حينئذٍ، و «أخرى»
صفةٌ ل «آلهة» ؛ لأن ما لا يَعْقِل يُعَامَلُ جَمْعُهُ مُعاملةَ الوحداةِ المؤنّثة، كقوله: ﴿مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨]، و ﴿وَللَّهِ الأسمآء الحسنى﴾ [الأعراف: ١٨٠] كما تقدَّم.
قوله: «إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ» [يجوز] في «ما» هذه وجهان:
أظهرهما: أنها كافَّةٌ ل «إنَّ» عن عملها، و «هو» مبتدأ، و «إله» خبر، و «واحد» صفته.
والثاني: أنها مَوْصُولَةٌ بمعنى «الذي»، وهو مبتدأ، و «إله» خبره، وهذه الجملةُ صَلَةٌ وعائد، والموصول في مَحَلِّ نصب اسماً ل «إن» و «واحد» خبرها.
والتقدير: إنَّ الذي هو إله واحد، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيف، ويَدُلُّ على صِحَّةِ الوجه الأوَّلِ تعيُّنُه في قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١]، إذ لا يجوز فيه أن تكون مَوْصُولَةً لخلوِّ الجملة عن ضمير الموصول.
وقال أبو البقاء في هذا الوَجْهِ: وهو ألْيَقُ مما قبله.
قال شهابُ الدِّين: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ولا أدري ما وجه ذلك؟

فصل فيما تفيده الآية


أعملم أنَّ هذا الكلام دَلَّ على إيجاب التَّوحيدِ، والبراءةِ من الشِّرْكِ من ثلاثة أوجه:
67
أولها: قوله: «قُلْ لا أشْهَدُ» بما تذكرونه من إثبات الشّثرَكَاءِ.
وثانيها: قوله: «قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ»، وكلمة «إنَّمَا» تفيد الحَصْرَ، ولفظ الواحد صريحٌ في التوحيد، ونفي الشركاء.
وثالثها: قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾، وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشُّرَكَاءِ.
قال العلماء: يُسْتَحَبُّ لمن أسلم ابتداءً أن يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دينٍ سوى دين الإسلام.
ونصَّ الشَّافعي - رحمه اله تعالى - على استحباب ضَمَّ التَّبَرِّي إلى الشهادة، كقوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ عقيب التّصريح بالتوحيد.
68
اعلم أنَّ الكُفَّار لمَّا سألوا اليهود والنَّصَارى عن صَفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنكروا دلالة التَّوْرَاةِ والإنجيل على نُبُوًّتِهِ بَيَّنَ اللَّهُ - تعالى - في الآية الأولى أنَّ شهادةَ اللَّه على صِحًّةِ نُبُوَّتِهِ كافيةٌ في ثبوتها، ثُمَّ بَيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: لا نعرف محمداً، لأنهم يعرفونه بالنُّبُوًّةِ والرسالة، كما يعرفون أبناءهم.
روي أنه لما قدم رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «المدينة» قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل اللَّهُ على نبيِّه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمرُ لقد عرفته فيكم حين رَأيْتُهُ، كما أعرف ابني، ولأنا أشَدُّ معرفةٌ بمحمد منِّي بابني؛ لأني لا أدري ما صنعَ النساء وأشهدُ أنه حَقّ من الله تعالى.
قوله: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ الموصول مبتدأن و «يَعْرِفُونه» خبره، والضميرُ المَنْصُوبُ يجوز عَوْدُهُ على الرسول صلى اله عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى القرآن لتقدُّمهِ قوله: «وأوحِيَ إليَّ هذا القُرآنُ لأنذركُمْ بِهِ» أو على التوحيد لدلالة قوله: ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ [الأنعام: ١٩] أو على كتابهم، أو على جميع ذلك، وأفرد الضمير باعتبار المَعْنَى، كأنَّهُ قيل: يعرفون ما ذكرنا وقَصَصْنَا.
وقد تقدَّم إعْرَابُ هذه الجملة في «البقرة».
قوله: «الَّذينَ خَسِرُوا» في مَحَلّه أربعة أوجه:
68
أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره الجملة من قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، ودخلت «الفاء» لما تقدَّم من شهب الموْصُولِ بالشرط.
الثاني: أنه نَعْت للذين آتياناهم الكتاب. قاله الزَّجَّاج.
الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين خسروا.
الرابع: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ، وهذان الوجهان فَرْعَانِ على النعت؛ لأنهما مقطوعان عنه، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ من باب عطف جملة اسمية على مَثْلَهَا، ويجوز أن يكون عَطْفاً على «خَسِرُواط وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإيمان على خسرانهم، والظاهر أنَّ الخُسْرَانَ هو المترتب على عدم الإيمان وعلى الوجه الأول يكون» الذين خسروا «أعمُّ من أهل الكتاب الجاحدين والمشركين، وعلى غيره يكون خَاصّاً بأهل الكتاب، والتقدير: الذين خسروا أنفسهم منهم، أي: من أهْلِ الكتاب.
واسْتُشْكِلَ على كونه نَعْتاً الاستشهادُ بهم على كُفَّار قريش وغيرهم من العرب، يعني كيف يُسْتَشْهَدُ بهم، ويُذَمُّون في آيةٍ واحدة؟
فقيل: إنَّ هذا سيق للذَّم لا للاستشهاد.
وقيل: بل سِيقَ للاستشهاد، وإن كان في بعض الكلام ذَمٌّ لهم، لأنَّ ذلك بوجهين واعتبارين.
قال ابن عطية: فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه، وما ذُمُوا فيه، وأنَّ الذَّمَّ والاستشهاد ليسا من جِهِةٍ واحدةٍ.

فصل في بيان المراد من ظاهر الآية


ظَاهِرُ هذه الآية الكريمة يقتضي أن يكون علمهم بنُبُوَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علمهم بأبنائهم، وهنا سُؤالٌ - وهو أن يُقَالَ: المكتوب في التَّوْرَاةِ والإنجيل مُجَرَّدُ أنه سيخرج نَبِيٌّ في آخر الزمان يدعو الخَلْقَ إلى الحَقِّ، أو المكتوب فيه ذه االمعنى مع تعيين الزَّمَانِ والمكان والنَّسَبِ والصِّفَةٍ والحِلْيَةِ والشَّكْلِ، فإن كان الأول، فذلك القدر لا يَدُلُّ على أنَّ ذلك الشَّخْصَ هو مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يَصِحُّ أن يقال: علمهم بنوبته مثل علمهم ببنوَّةِ أبنائهم وإن كان الثاني وجب أن يكون [جميع] اليَهُودِ والنَّصَارَى عالمين بالضرورة بأنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَبِيُّ من عِنْدِ الله، والكَذِبٌ على الجَمْعِ العظيم لا يجوز، ولأنَّا نَعْلَمُ بالضرورة أن التوراة والإنجيل ما كانا مُشْتَمِلَيْنِ على هذه التفاصيل التَّامَّةِ الكاملة؛ لأن هذا التفصيل إمَّا
69
أن يُقَالَ: إنه كان بَاقِياً في التَّوْرَاةِ والإنجيل، أو كان مَعْدُماً في وَقْتِ طهوره، لأجل أن التَّحْريف قد تَطَرَّقَ إليهما قبل ذلك، والأول باطلٌ؛ لأنَّ إخْفاءَ مِثْلِ هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب مُمْتَنِعٌ.
والثاني: أيضاً باطل؛ لأن على هذا التقدير لم يكن يَهُودُ أهل ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزَّمان عالمين بنبُوِّة مُحَمِّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علهمهم بنبوِّةِ أنبيائهم، وحينئدٍ يَسْقُطُ هذا الكلام.
والجوابُ ان يقالك المراد ب «الذين آتيناهم الكتاب» اليهود والنَّصارىن وهم كانوا أهْلاً للنَّظَرِ والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصَّلاةُ والسِّلامُ، فعرفوا بوساطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند اللَّهِ تعالى، والمقصود بمعرفتهم هي المعرفةُ من طريق النَّظرِ، والاستدلال من طري النَّقْلِ.

فصل في المراد بالخسران


قال المفسرون: معنى هذا الخُسْران أنَّ الله - تبارك وتعالى - جعل لكلِّ آدمي مَنْزِلاً في الجنِّةِ ومَنْزِلاً في النَّار، فإذا كان يوم القيامة جعل اللَّه تبارك وتعالى للمؤمنين مَنَازِلَ أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنَّة في النَّار وذلك هو الخسران.
70
لمَّا بَيَّنَ خُسْرَانَ المنكرين في الآية الأولى بَيَّنَ في هذه الآية الكريمة سَبَبَ ذلك الخسران وهو أمران.
أحدهما: الافتراء على اللَّه كذباً، وهذا الافتراءُ يحتمل وجوهاً:
أحدهما: أن كُفَّار «مكة» المشرفة كانوا يقولون: هذه الأصنام شركاء الله، اللَّهُ أمرهم بعبادتها، وكانوا يقولون: الملائكة بَنَاتُ اللَّهِ.
وثانيها: أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يقولونك حصل في التَّوْراة والإنجيل أن هاتيْنِ الشريعيتين لا يَتَطَرَّقُ إليهما النَّسْخُ والتغييرُ.
وثالثها: ما حكاه تعالى عنهم بقوله: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف: ٢٨].
ورابعها: قوله اليهود: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُه﴾ [المائدة: ١٨] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا
70
النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: ٨٠] وقول جُهَّالِهِمْ: ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآء﴾ [آل عمران: ١٨١] ونحوه.
الأمرُ الثاني من أسباب خسارتهم؛ تكذيبهم بآيات الله تعالى: وقدحُهُمْ في معجزات محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنكارهم كون القرآن العظيم معجزةً قاهرةً منه، ثم إنَّه لمَّا حكى عنهم سبب هذين الأمرين قال: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾، أي: الكافرون - أي لا يَظْفَرُونَ بِمطَالِبهمْ في الدنيا ولا في الآخرة.
71
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾
فيه خمسة أوجه:
أحدهما: أنه منصوبٌ بفعل مُضْمَرٍ بعده، وهو على ظرفيَّتِهِ، أي: يوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِف ليكون أبْلَغَ في التَّخْويفِ.
والثاني: أنه معطوفق على ظرفٍ محذُوفٍ، ذلك الظرف معمول لقوله: ﴿لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ [الأنعام: ٢١] والتقدير: أنه لا يفلح الظَّالمونَ اليوم في الدنيا، ويوم نحشرهم، قاله محمد ابن جَريرٍ.
الثالث: أنه منصوبٌ بقوله: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ [الأنعام: ٢٤] وفيه بُعْدٌ لِبُعْدِهِ من عامله بكثرة الفواصِلِ.
الرابع: أنه مفعولٌ به ب «اذكر» مقدَّراً.
الخامس: أنه مفعولٌ به أيضاً، ونَاصِبُهُ: احذروا أو اتَّقُوا يوم نحشرهم، كقوله: ﴿واخشوا يَوْماً﴾ [لقمان: ٣٣] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً.
وقرأ الجمهور «نَحْشرهم» بنون العظمة، وكذا «ثم نقول»، وقرآ حميد، ويعقوب بياء الغَيْبَةِ فيهما، وهو أنه تبارك وتعالى.
والجمهورعلى ضم الشين من «نَحْشُرهم»، وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المُضَارع.
والضمير المنصوب في «نحشرهم» يعود على المفترين الكَذِبَ.
71
وقيل: على النَّاس كلهم، فيندرج هؤلاء فيهم، والتَّوْبيخُ مختصُّ بهم.
وقيل: يعود على المشركين وأصنَامِهِمْ، ويدلُّ عليه قوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: ٢٢].
و «جَمِيعاً» حالٌ نم مفعول «نحشُرهم» ن ويجوز أن يكون توكيداً عند من أثْبَتَهُ من النحويين ك «أجمعين».
وعطف هنا ب «ثُمَّ» للتراخي الحاصل بين الحَشْر والقَوْلِ.
ومفعولا «تزعمون» محذوفان للعلم بهما، أي: تزعمونهم شركاء، أو تزعمون أنهما شُفَعَاؤكم.
وقوله: «ثُمَّ نَقُولُ للَّذينَ» إن جعلنا الضمير في «نَحْشُرهم» عائداً على المفترين الكذبَ، كان ذلك من باب إقامةِ الظَّاهرِ مقامَ المُضْمَرَ، إذ الأصل: ثم نقول لهم، وإنما أظْهِرَ تنبيهاً على قُبْحِ الشرك.
وقوله: ﴿أيْنَ شُرَكاؤكُمْ﴾ ؟ سؤالُ تَقْريع وتوبيخ وتَبْكيتٍ.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «كُلُّ زَعْمِ في كتاب الله فالمُرادُ به الكذبُ».
72
قرأ حمزة والكسائي: «يَكُنْ» بالياء من تحت، «فتنتهم» نَصْباً.
وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تَكُنْ» بالتاء من فوق، «فَتْنَتُهُمْ» رفعاً.
والباقون بالتاء من فوق أيضاً، «فِتنتَهم» نصباً.
فأمَّا قراءة الأخويْنِ فهي أفْصَحُ هذه القراءات لإجرائِهَا على القواعد من غير تأويل، وَوَجْهُهَا أنَّ «فتنتهم» خبر مقدَّمٌ، وإن قالوا بتاويل اسم مؤخر.
والتقدير: «ثم لم تكن فِتْنَتهُمْ إلاَّ قولُهم». وإنما كانت أفصحٍ؛ لأنه إذا اجتمع اسْمَانِ: أحدهما أعرفُ، فالأحْسْنُ جعله اسماً مُحَدَّثاً عنه، والآخر خَبَراً حديثاً عنه.
72
و «أن قالوا» يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف، وهذه القراءة جُعِلَ الأعرفُ فيها اسْماً ل «كان» وغير الأعرافِ خبرها، ولم يؤنّث الفعل لإسناده إلى مذكر.
قال الواحدي: والاختبارُ قراءة من جعل «أن قالواط الاسم ذوي الخبر؛ لأنه إذا وصلت بالفعل لم تُوصَفْ، فأشبهت بامتناع وَصْفِهَا المُضْمَرِ، فكما أنَّ المُضْمَرَ، والمظهر إذا اجتمعا كان جَعْلُ المضمر اسماً أوْلَى من جعله خبراً، تقول: كنت القائم.
وأما قراءة ابن كثير ومن معه ف»
فتنتهم «اسْمُهَا، ولذلك أنِّثَ الفِعلُ لإسناده إلى مؤنُّ، و» إلاَّ أنْ قالوا «خَبَرُهَا، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماًن والأعرف خبراً، فليست في قُوَّةِ الأولَى.
وأمَّا قراءةُ الباقين ف»
فتنتهم «خبر مقدمٌن و» إلاَّ أن قالوا «اسم مؤخَّرٌ، وهذه القراءةُ وإن كان فيها جَعْلُ الأعْرَفِ اسْماً - كالقراءة الأولى، إلا أنَّ فيها لِحَاقُ علامَةِ تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل، ولكنه بتأويل.
فقيل: لأنه قوله:»
إلاَّ أنْ قالوا «في قوة مقالتهم.
وقيل: لأنه هو الفِتْنَةُ في المعنى، وإذا أخبر عن الشَّيءِ بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً، فعومل مُعامَلتهُ.
وجعل أبو علي منه ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] لمَّا كانت الأمْثَالُ هي الحَسَنَاتُ في المعنى عُومِلَ مُعَامَلَة المُؤنَّثِ، فسقطت»
التاء «من عَدَدِهِ، ومثلُ الآية قوله: [الطويل]
٢١٢٤ - ألَمْ يَكُ غَدْراً مَا فَعَلْتُمْ بسَمْعَلٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سِرِيرتَه الغَدْرُ
ف»
كانت «مُسْند إلى» الغَدْرِ «وهو مذكَّر، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعلَه.
ومثله قول لَبيدٍ: [الكامل]
٢١٢٥ - فَمَضَ وَقَدَّمِهَا وَكَانَتْ عَادَةً مِنْهُ إذَا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدَامُهَا
قال أبو عَلِيّ: فأنَّث الإقدام لما كان كالعادة في المعنى قال: وقد جاء في الكلام:»
ما جاءَتْ حَاجَتُكَ «فأنّث ضمير» ما «حيث كانت كالحاجة في المَعْنَى، ولذلك نصب» حاجتك «.
وقال الزمخشري:»
وإنما أنَّث « [أن] قالوا» لوُقُوعِ الخبر مؤنّثاً كقولهم: من كانت أمَّك «.
73
قال أبو حيَّان: وكلام الزَّمخشري ملفقٌ من كلام أبي عَلِيّ، وأمَّا» من كانت أمك «فإنه حَمَلَ اسمَ» كان «على معنى» مَنْ «ن فإنَّ لها لَفْظاً مُفرداً مذكّراً، ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتَثنيٍة وجَمْعِ وتذكير وتأنيثٍ، وليس الحَمْلُ على المعنى لِمْرعَاةِ الخَبَرِ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر، كقوله:
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٢].
وقوله: [الطويل]
٢١٢٦ -... -..............
تكُنْ مَثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ... قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ليت شِعْري، ولأي معنى خصَّ الزمخشري بهذا الاعتراض، فإنه وَارِدٌ على أبي عَلِيِّ أيضاً؟ إذ لقائل أن يقول: التأنيثُ في «جَاءَتْ»
لحمل على معنى «ما» وإنْ لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مَثْل «مَنْ» ن على أنه يقال: للتأنيث عِلَّتانِ، فذكر [إحداهما، ورجَّح] أبو عُبيدة قراءة الأخويْ ن بقراءة أبَيّ، وابن مسعود: «وما كان فتنتهم إلاَّ أن قالوا» فلم يُلْحِق الفعل علامة تأنيثٍ، ورجَّحها غيره بإجماعهم على نَصْبِ «حُجَّتهم» من قوله تبارك وتعالى: ﴿كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الجاثية: ٢٥].
وقرئ شاذاً «ثم لم يكن فتنتهم إلا أنه قالوا» بتذكير «يكنْ»، ورفع «فتنتهم».
ووجه شُذُوذِهَا سقوط علامةِ التأنيث، والفاعل مؤنّث لَفْظاً، وإن كان غير حَقيقيِّ، وجَعْلُ غير الأعْرَفِ اسماً، والأعرف خبراً، فهي خبراً، فهي عَكْسُ القراءة الأولى، من الطَّرَفَيْنِ، و «أن قالوا» مما يجب تأخيره لِحصْرِهِ سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً.

فصل في معنى الفتنة في الآية


معنى قوله: «فتنتهم»، أي: قولهم وجوابهم.
وقال ابن عبَّاس، وقتادة: معذرتهم، والفِتْنَةُ التِّجْرِبةٌ، فلمَّا كان سؤالهم تَجْرِبَةً لإظهار ما في قلوبهم قيل: فَتْنَة.

فصل في بيان لطيفة في الآية


قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ - «لم تَكُنْ فتنتهم» معنى لَطِيفٌ، وذلك لأنَّ الله - تبارك وتعالى - بيَّن أنَّ المشركين مَفْتُونُونَ بِشِرْكِهِمْ متهالكين على حبّه، فأعلم
74
في هذه الآية الكريمة أنه لم يَكُنْ افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه إلاَّ أن تَبَرَّأوا عنه وتباعَدُوا، فَحَلفُوا أنهم ما كانوا مشركين، ومثاله أن ترى إنساناً ما يُحِبُّ طريقةً مذمومة، فإذا وقع في فِتْنَةٍ بسببه تَبَرَّأ منه، فيقال له: «ما كانت محبتك لفلان إلاَّ أن فَرَرْتَ منه»، فالمُرَادُ بالفتنة هنا افْتَتَانُهُمْ بالأوْثَانِ، ويتأكد بما روى عَطَاءٌ عن ابن عباس أنه قال: «لم تكن فتنتهم» معناه: شركهم في الدنيا، وهذا القولُ راجعٌ إلى حذف المضاف؛ لأن المعنى ثُمَّ لم تكن عَاقِبَةُ أمرهم فتنتهم إلاَّ البَرَاءة.
قوله: «واللَّهِ رَبَّنَا» قرأ الأخوان: «ربَّنا» نَصْباً، والباقون جراً.
ونصبه: إمَّا على النِّداء، وإمَّا على النِّداء، وإمَّا على المَدْح، قاله ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإمَّا على إضْمَار «أعني»، قاله أبو البقاء، والتقدير: يا ربنا.
وعلى كُلِّ تقدير فالجملة مُعْتَرضَةٌ بين القسم وجوابه، وهو قوله ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وخفضه من ثلاثة أوجه: النعت، والبدل، وعطف البَيان.
وقرأ عكرمة، وسلام بن مسكين: «واللَّهُ رَبُّنا» برفعهما على المبتدأ والخبر.
قال ابن عطية: «وهذا على تَقدِيمٍ وتأخيرٍ، كأنهم قالوا: واللَّهِ ما كُنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنَا» يعني: أن ثَمَّ قَسَماً مُضْمَراً.

فصل في الكلام على الآية


ظاهرُ الآية الكريمة يقتضي أنهم حَلَفُوا في القيامة أنهم كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقْدَامَهُمْ على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان:
الأول: وهو قول أبي عباس على الجبائي والقاضي -: أنه أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتج عليه بوجوه:
الأول: أن أهل القيامة يعرفون الله بالاضطرار وأنهم لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دَاَرَ تكُليفٍ، وذلك باطلٌ، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار
75
وجب أنْ يكونوا مُلْجئين على ألاَّ يفعلوا القبيح، وذلك يقتضي ألاَّ يقدم أحَدٌ من أهل القيامة على الكذبِ، فإن قيل: لم لا يجوز أن يُقالَ: إنهم أقدموا على فعل القَبيح؛ لأنهم لمَّا عَايَنُوا أهْوَال يوم القيامة اضطربت عُقُولُهُمْ، فقالوا هذا الكذب عند اخْتِلاَلِ عقولهم، أو يقال: إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا؟
فالجواب عن الأوَّل: أنه لا يجوزأن يحشرهم ويوبخهم بقوله: ﴿أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُون﴾ [الأنعام: ٢٢] ثم يحكي اعتذارهم مع أنهم غي عُقلاء، هذا لا يليقُ بحمة اللِّه تعالى.
وأيضاً فلا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم فيما يعاملهم اللَّهُ به غير مظلومين. والجوابُ على الثاني: أنَّ نِسْيَانَهُمْ لما كانوا عليه طُول عمرهم في دار الدنيا مع كمال العقل [بعيدٌ]، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور.
الوجه الثاني: أنَّ هؤلاء الذين أقْدَمُوا على الكذب إمَّا أن يُقال: إنهم عُقَلاءُ أو غيرعقلاء، فالثاني باطلٌ، لأنه لا يليق بحكمةه الله تعالى أن يحكي كلام المجَانين في معرض تميهيد العُذْرِ وإن كانوا عقلاء يعلمون أنَّ كانوا عقلاء يعلمون أنَّ اللَّهَ عالمٌ أحْوَالَهُمْ مُطَّلِعٌ على افعالهم، ويعلمون أنَّ تجويز الكذب على اللَّهَ - تعالى - مُحَالٌ، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلاَّ زيادة المَقْتِ والغَضَبِ، وإذا كان كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب.
الوجه الثالث: أنهم لو كذبوا في مَوْقِفِ القيامة، ثُمَّ حَلَفُوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقْدَمُوا على نوعين من القَبيح، فإن قلنا: إنهم يستحُّون بذلك العقابَ، صارت الدار الآخرة دَارَ تكليف، وأجمعوا على أنَّ الأمْرَ ليس كذلك.
وإن قلنا: إنَّهم لا يستحقُّون على ذلك الكذب، ولا على ذلك الحلف الكاذب عَقَاباً، فهذا يقتضي حُصُول الإذن من اللَّهِ - تعالى - في ارتكاب القَبَائِِحِ، وذلك باطلٌ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدَامُ أهل القيامة على القبيح والكذبِ، وإذا ثبت هذا فَيُحْمَلُ قولهم: «واللَّهِ ربَّنَا ما كنا مشركين» في اعتقادنا وظُنُوننا؛ لأن القوم يعتقدون ذلك.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير يكنون صادقين في قولهم، فماذا قال تبارك وتعالى ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ فالجواب أنه ليس يجب من قوله: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ انهم كذبوا فيها تقدَّم ذِكْرُهُ من قولهم: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين﴾، بل يجوز أن يكون المراد ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ في دار الدُّنْيَا في أمور يخبرون عنها بأنَّ ما هم عليه لَيْسَ بشرْكٍ، وأنهم على صواب ونحوه، فالمقصود من قوله تعالى: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ اخْتِلافُ الحالتين، وأنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون، وأنهم في الآخرة يتحرَّزُون عن الكذب،
76
ولكن حيث لا ينفعهم الصِّدْقُ، فلتعلّق أحد الأمرين بالآخر، أظهر الله - تعالى - للرسول ذلك.
القول الثاني: قول جمهور المفسرين -: أن الكفار يكذبون في القيامة واسْتَدلُّوا بوجوه:
أحدهما: ما حكى اللَّهُ - تعالى - عنهم أنهم يقولون: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون﴾ [المؤمنون: ١٠٧] مع أنه - تعالى أخر عنهم بقول: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨].
وثانيها: قوله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون﴾ [المجادلة: ١٨] بعد قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب﴾ [المجادلة: ١٤] فَشَبَّهَ كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدينا.
وثالثها: ما حَكَاهُ - تعالى - عنهم: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩].
والجوابُ عما قاله الجُبَّائي بان يُحْمَلَ قولهم ما كانوا مشركين في ظُنُونهم، هذا مُخَالفٌ للظَّاهرِ، ثّمَّ قوله بعد ذلك: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ بأنه مَحْمُولٌ على كذبهم في الدنيا يوجبُ تفكيك نَظْمِ الآية، وصَرْفََ أول الآية إلى أحوال القيامة، وصَرْفَ آخرها إلى أحوال الدنيا، وهو في غاية البُعْدِ.
وقولهم: كذبوا في حال كَمَالِ العَقْلِ، وحال نُقْصَانِهِ، فنقول: لا يبعد أنهم حَالَ ما عَايَنُوا أهوال القيامة، وشاهدوا مُوجِبَاتِ الخوف الشديد أخْتَلَّتْ عقولهم، فذكروا هذا الكلام.
قولهم: كيف يَلِيقُ بحكمة اللَّهِ - تعالى - أن يحكي عنهم ما ذكروه في حال اضْطَرَابِ العقول؟
فالجوابُ: هذا يوجب الخوف الشديد وذلك في دار الدنيا وأمَّا قولهم: إنَّ المكلفين لا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقو: اخْتلالُ عقولهم سَاعةً واحدة حالة ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمالِ عقولهم في سِائرِ الأوقات.
قوله: ﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ «كيف» مَنْصُوبٌ على حدِّ نصبها في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: ٢٨] وقد تقدَّم.
و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» ؛ لأنها معلقةٌ لها عن العملِ، و «كّذَبُوا»
77
وإن كان معناه مُسْتَقْبلاً، لأنه في يوم القيامة، فهو لَتحَقُّقِهِ أبرزه في صورة الماضي.
وقوله: «وضَلَّ» يجوز أن يكون نَسَقاً على «كذبوا»، فيكون داخلاً في حيَّز النَّظَرِ، ويجوز أن يكون اسْتِئنْافَ إخبارٍ، فلا يندرج في حيَّز المنظور إليه.
قوله: ما كانُوا «يجوز في» ما «أن تكون مصدريةً، أي: وضَلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قول ابن عطية ويجوز أن تكون موصولة اسمية أي: وضل عنهم الذي كانوا يفترونه، فعلى الأول يحتاج إلى ضمير عائدٍ على» ما «عند الجمهور، وعلى الثاني لا بُدَّ من ضمير عند الجميع.
ومعنى الآية: انظر كيف كذبُوا على أنفسهم باعْتِذَارهم بالباطل وتَبرِّيهمْ عن الشرك.
و»
ضلَّ عنهم «: زَالَ وذهب ما كانوا يفترون من الأصنام، وذلك أنهم كانوا يَرْجُونَ شَفَاعَتَهَا نُصْرَتَهَا، فبطل ذلك كله.
78
قوله :﴿ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ ﴾ " كيف " مَنْصُوبٌ على حدِّ نصبها في قوله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وقد تقدَّم.
و " كيف " وما بعدها في محل نصب ب " انظر " ؛ لأنها معلقةٌ لها عن العملِ، و " كَذَبُوا " وإن كان معناه مُسْتَقْبلاً، لأنه في يوم القيامة، فهو لتَحَقُّقِهِ أبرزه في صورة الماضي.
وقوله :" وضَلَّ " يجوز أن يكون نَسَقاً على " كذبوا "، فيكون داخلاً في حيِّزِ النَّظَرِ، ويجوز أن يكون اسْتِئنْافَ إخبارٍ، فلا يندرج في حيِّز المنظور إليه.
قوله : ما كانُوا " يجوز في " ما " أن تكون مصدريةً، أي : وضَلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قول ابن عطية ويجوز أن تكون موصولة اسمية أي : وضل عنهم الذي كانوا يفترونه، فعلى الأول يحتاج إلى ضمير عائدٍ على " ما " عند الجمهور، وعلى الثاني لا بُدَّ من ضمير عند الجميع.
ومعنى الآية : انظر كيف كذبُوا على أنفسهم باعْتِذَارهم بالباطل وتَبرِّيهمْ عن الشرك.
و " ضلَّ عنهم " : زَالَ وذهب ما كانوا يفترون من الأصنام، وذلك أنهم كانوا يَرْجُونَ شَفَاعَتَهَا ونُصْرَتَهَا، فبطل ذلك كله.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْك﴾
راعى لفظ «مَنْ» فأفرد، ولو رَاعَى المعنى لجمع، كقوله في موضع آخر: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ﴾ [يونس: ٤٢].
وقوله: ﴿على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ إلى آخره، حمل على معناها قوله: «وَجَعلْنَا» «جعل» هنا يحتمل أن يكون للتَّصْييرِ، فيتعدّى لاثنين، أوَّلُهُمَا: «أكنَّه» والثاني: الجار قبله، فيتعلّق بمحذوف، أي: صيَّرنا الأكِنَّة مستقرّة على قلوبهم، ويحتمل أن يكون بمعنى «خلق»، فيتعدى لواحد، ويكنون الجار قبله حالاً فيتعلق بمحذوف؛ لأنه لو تأخر لوقع صفة ل «أكِنَّة».
ويحتمل أن يكون بمعنى «ألقى» فتتعلّق «على» بهان كقولك: «ألقيتُ على زيد كذا» ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ [طه: ٣٩].
وهذه الجملة تحتمل وجهين:
أظهرهما: أنها مُسْتأنَفَةٌ سيقت للإخبار بما تضَّمنَتْهُ من الخَتْمِ على قلوبهم وسمعهم. حال كونه مَجْعُولاً على قلبه كنانٌ، وفي أذنه وقرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملة فعلية على اسمية، وعلى الثاني: تكون الواو للحال، و «قد» مضمرة بعدها عند مَنْ يُقَدِّرَها قبل الماضي الواقع حالاً.
78
والأكِنَّةُ: جمع «كِنَان»، وهو الوعَاءُ الجامع.
قال الشاعر:
٢١٢٧ - إذَا ما انْتَضَوْهَا فِي الوَغَى مِن أكِنَّةٍ حَسِبْتَ بُرُوقَ الغَيْثِ تَأتِي غُيُومُهَا
وقال بعضهم: «الكِنُّ» - بالكَسْرِ - ما يُحْفَظُ فيه الشَّيء، وبالفتح المصدر. يقال: كَننْتهُ كِنّاً، أي: جعلته في كِنِّ، وجُمِعَ على «أكنان» قال تبارك وتعالى: ﴿مِّنَ الجبال أَكْنَاناً﴾ [النحل: ٨١].
والكِنَانُ: الغِطَاءُ السَّاتِرُ، والفعل من هذه المادة يُسْتعمل ثلاثياً ورُبَاعيَّاً، يقال: كَنَنْتُ الشَّيء، وأكنَنْتُه كنَّا وإكناناً، إلاَّ أن الراغب فَرَّق بين «فَعَلَ» و «أفْعل»، فقال: «وخُصَّ كننت بما يستُر من بيت، أو ثوب، أو غير ذلك من الأجسام»، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون﴾ [الصفات: ٤٩] وأكننت بما يستر في النفس، قال تعالى: ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٥].
ويشهد لما قال قوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾ [الواقعة: ٧٧ - ٧٨] وقوله تعالى: ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ [القصص: ٦٩]. و «كِنَان» يُجمع على «أكِنَّة» في القِلٌّةِ والكَثْرَةِ لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمَعُ في القِلَّةِ على «أفْعِلة» ك «أحمرة» و «أقْذِلَة»، وفي الكَثْرَةِ على فُعُل ك «حُمُر»، و «قُذُل»، إلاَّ أن يكون مُضاعفاً ك «بَتَات» وكِنَان «، أو معتل اللام ك» خباء و «قباء»، فيلتزم جمعه على «أفْعِلَة»، ولا يجوز على «فُعل» إلاَّ في قليلٍ من الكلام كقولهم: «غُنُن»، و «حُجُج» في جمع «عِنان» و «حجاج».
قال القرطبي: والأكِنَّةُ: الأغْطِية مثل: الأسنَّة والسَّنَان، والأعنَّة والعِنَان، كَنَنْتُ الشيء في كِنَّةٍ إذا صُنْتهُ فيه، وأكْنَنْت الشَّيء أخْفَيْتُهُ، والكِنَانَةُ معروفة، والكَنَّة - بفتح الكاف والنون - امرأة أبيك، ويقال: امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنة.
قوله: «أنْ يَفْقَهُوهُ» في مَحَلِّ نَصْبٍ على المفعول من أجْلِهِ، وفيه تأويلان سَبَقَا.
أحدهما: كَرَاهَةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين.
والثاني: حَذْفُ «لا»، أي: أن لا يَفْقَهُوهُ، وهو رأيُ الكوفيين.
قوله: «وَقْراً» عطفٌ على «أكِنَّة» فَيَنْتَسِبُ انْتَصَابَهُ، أي: وجعلنا في آذانهم وقرأ و «في آذانهم» كقوله: «عَلَى قُلُوبِهِمْ».
وقد تقدَّمَ أنَّ «جَعَل» يحتمل معاني ثلاثة، فيكون هذا الجار مبنيَّاً عليها من كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلّقاً بها نفسها أو حالاً.
79
والجمهور على فتح الواو من «وَقراً».
وقرأ طَلحةُ بن مُصَرفٍ بكسرها، والفرق بين «الوَقْر» و «الوِقْر» أنَّ المفتوح هو الثِّقَلُ في الأذُنِ، يُقال منه: وَقَرتْ أذنه يفتح القاف وكسرها، والمُضارع تَقِرُ وتَوْقَر، بحسب الفعلين ك «تعد» و «تَوْجَل».
وحكى أبو زيد: أذُنٌ مَوْقُورة، وهو جَارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أنَّ «وَقَرَ» الثلاثي يكون متعدياً، وسُمِع «أذنٌ مَوْقُورةٌط والفعل على هذا» أوْقَرْتُ «رباعياً ك» أكرم «.
و»
الوِقْر «- بالكسر - الحِمْلُ للحمار والبَغْلِ ونحوهما، كالوَسْق للبعير.
قال تعالى: ﴿فالحاملات وِقْراً﴾ [الذاريات: ٢] فعلى هذا قراءة الجموهور واضحةٌ، أي: وجعلنا في آذانهم، ثِقَلاً، أي: صَمَاً.
وأمَّا قراءة طَلْحَةَ، فكأنه جعل آذانهم وقَرَتْ من الصمم كما تُوقَرُ الدَّابَّةُ بالحِمْلِ، والحاصلُ أنَّ المادة تَدُلُّ على الثَّقَلِ والرَّرانة، ومنه الوَقَارُ للتُّؤدَةِ، والسَّكينة، وقوله تعالى: ﴿وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ فيه الفَصْلُ بين حَرْفِ العَطْفِ وما عطفه بالجار مع كون العاطف [على حرف واحد] وهي مسألة خلاف تقدَّم تَحْقِيقُهَا في قوله: ﴿أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨].
والظاهِرُ: أن هذه الآية ونظرئرها مثل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] ليس مما فُصِلَ فيه بين العاطف ومعطوفه كما تقدَّم.

فصل في بيان سبب نزول الآية


قال الكَلْبِيُّ عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: اجتمع أبو سفيان بن حَرْبٍ، وأبو جهل بن هِشَام، والوليدُ بن المُغيرَةِ، والنضر بن الحارث، وعُتْبَةُ وشَيْبةَ ابنا رَبِيعة، وأميَّة وأبَىُّ ابنا خلفّ والحرث بن عامرٍ يستمعون القرآن العظيم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة: ما يقول محمد؟ قال ما أدري ما يقول إلاَّ أنه يُحَرِّكُ لِسَانُه وشَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بأسَاطِير الأوَّلين مثل ما كنت أحَدِّيَكُم عن القرون الماضية، وكان النَّضر كَثِرَ الحديث عن القُرونِ وأخبارها، فقال أبو سفيان: أبي لأرى بَعْضَ ما يقول حقاً.
فقال أبو جَهْلِ: كَلاّ، لا تقرّ من هذا، وفي رواية: للموتُ أهونُ علينا من هذا، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ أي: إلى كلامك، «وجَعَلْنَا علَى قُلُوبِهِمْ
80
أكِنَّةً» أغْطِيَةً جمع «كِنَان»، كالأعِنَّة جمع «عِنَان» «أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانْهِمْ وَقْراً» أي: صَمَاً وثقلاً.

فصل بيان الدلالة من الآية


احتج أهْلُ السُّنةِ بهذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يَصْرِفُ عن الإيمان، ويَمْنَعُ منه؛ لأنه - تعالى - جعل القَلْبَ في الكِنَانِ الذي يمنعه عن الإيمان.
قالت المعتزلة: لا يمكن إجْراءُ هذه الآية على ظَاهرِهَا لوجوهٍ.
أحدهما: أنه - تبارك وتعالى - وإنَّما أنزل القرآن العظيم حُجَّةً للرُّسُلِ على الكُفَّارِ، لا ليكون حُجَّةً للكُفِّارِ على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو كان المرادُ من هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - منع الكُفَّارَ عن الإيمان، لكان لهم أن يقولوا لرسول عليه الصَّلاة والسَّلامُ لما حكم بأنه منعنا من الإيمان فلم يَذِمَّنَا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان.
وثانيها: أنه تبارك وتعالى لو مَنَعَهُمْ من الإيمان، ثم دَعَاهُمْ إليه لكان ذلك تكليفاً لِلْعَاجِزِ، وهو مَنْفِيِّ بصريح العَقْلِ، وبقوله تبارك وتعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وثالثها: أنه - تعالى - حكى ذلك الكلام عن الكُفَّارِ في معرض الذَّم، فقال تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: ٥] وقال في آية أخرى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُون﴾ [البقرة: ٨٨].
وإذا كان قد حَكَى عنهم هذا المَذهَبَ في معرض الذَّم لهم امتنع أن يكون ذكره هنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقُضُ.
ورابعها: أنه لا نَزَاعَ في أنَّ القَوْمَ كانوا يَفْقَهُوَن، ويَسْمَعُونَ، ويعقلون.
وخامسها: أنَّ هذه الآية وَرَدَتْ في معرض الذَّمِّ على ترك الإيمان، وإذا كان هذا الصَّدُّ، والمَنْعُ من قِبَلِ الله - تعالى - لما كانوا مَذْمُمينَ، بل كانوا معْذُورينَ.
وسادسها: أن قوله: ﴿حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ يَدُلُّ على أنهم كانوا يفقهون، ويُمَيِّزُونَ الحَقَّ من الباطل، وعند هذا فلا بُدَّ من التأويل وهو من وُجُوه:
الأول: قال الجُبَّائِيُّ: إنَّ القوْمَ كانوا يَسْتَمِعُونَ قِراءةَ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لِيَتَوَصَّلُوا بسمامع قراءته إلى مَعْرِفةِ مكانه باليل، فيقصدوا قَتْلَهُ وإيذَاءهُ، فكان اللَّهُ - تبارك وتعالى - يلقي في قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنَّةِ ويثقل أسْماعَهُمْ عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النَّوْمِ، وهو المراد من قوله: ﴿وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾.
81
الثاني: أن الإنسان الذي عَلِمَ الله - تعالى - منه أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكُفْرِ، فإنه - تبارك وتعالى - يَسِمُ قَلبهُ بعلامة مَخْصُوصَةٍ يستدلُ الملائكة برؤيتها على أنهم لا يُؤمِنُونَ، فلا يَبْعُدُ تلك العلامةِ بالكَنَانِ والغَطاءِ المانع، وتلك العلامَةُ في نفسها ليست مَانِعَةً عن الإيمان.
الثالث: أنَّهم لمَّا أصًرُّوا على الكُفْرِ، وصَمَّمُوا عليه صار عدولهم عن الإيمان، والحالة هذه كالكِنَانِ المانِعِ عن الإيمان، فذكر الله تبارك وتعالى الكَنَانَ كِنَايَةٌ عن هذا المعنى.
الرابع: إنه تعالى لما منعهم الألطاف التي يفعل بمَنْ اهتدى، فأخْلاهُمْ منها، وفوَّضَ أمورهم إلى أنفسهم لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾.
الخامس: أن يكون الكلامُ وَرَدَ حِكَاية لما كانوا يذكرونه من قولهم: «قلوبنا غُلْفٌ»، وقالوا: ﴿قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: ٥].
فالجواب: أن العَبْدَ الذي أتى بالكُفْرِ إن لم يقدِرْ على الإتيان بالإيمان فقد صَحَّ قولنا: بأنه تبارك وتعالى - هو الذي حمله على الكُفْرِ [وصَدَّهُ عن الإيمان، وإن كان القادر على الكُفْر قَادراً على الإيمان فيمتنع صيرورة تلك القدجرة مَصْدراً للكُفْرِ] دون الإيمان إلاَّ عند انْضْمَام تلك الدَّاعية، وقد تقدَّم أنَّ مجموع القُدْرَةِ مع الدَّاعي يوجب الفِعْل، فيكون الكُفْرُ علَى هذا التقدير من اللَّهِ تعالى، وتكون الدَّاعية الجارة إلى الكُفر كِنَاناً للقلب عن الإيمان، ووقراً للسَّمع عن اسْتِمَاع دَلائِلَ الإيمان، فإذا ثبت في الدَّليلِ العَقْليِّ صِحَّةُ ما دَلَّ عليه ظَاهِرُ الآية الكريمة وجب حَمْلُهَا عليه عَمَلاً بالبرهان، وظاهر القرآن.
قوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة﴾ أي من المُعْجِزَاتِ والدَّلالاتِ ﴿لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ تأويل الجُبَّائي؛ لأنه لو كان المراد بالأكِنَّةِ إلْقاء النوم على قلوب الكُفَّار لئلا يمكنهم التَّوصُّل بسمامع صوْتِهِ إلى وجدان مكانه، لما كان قوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ لائقاً بذلك الكلام، ولوجب أن يُقالَ: وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً أنْ يسمعوه؛ لأن المقصود الذي ذكره الجُبَّائي إنما يَحْصُلُ بالمَنْعِ من سماع الصَّوتِ، أمَّا المَنْعُ من الفِقْهِ لكلامه فلا تعلُقَ له بما ذكره الجبائي.
قوله: «حَتَّى إذَا جَاءُوكَ» قد تقدَّم الكلامُ في «حتَّى» الداخلة على «إذا» في أول «النساء».
82
وقال: أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هنا «إذا» في موضع نَصْبٍ بجوابها، وهو «يقول» وليس ل «حتَّى» غايةٌ و «يجادلونك» حال، و «يقول» جواب «إذا»، وهو العامل في «إذا».
وقال الزمخشري: [وهي] «حتى» التي تقع بعدها الجُمَلُ، والجملة قوله: «إذا جَاءُكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ»، و «يُجَادِلُونَكَ» في موضع الحَالِ، ويجوزُ أن تكون الجارةَ، فيكون «إذا جاءوك» في مَحَلِّ الجر، بمعنى «حتَّى» وقت مجيئهم، و «يجادلونك» حالٌ،.
وقوله: ﴿يَقُولُ الذين كَفَرُوا﴾ تفسيرٌ له، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويُنَاكِرُونَكَ.
وفسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بأنهم يقولون: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ قال أبو حيَّان: «وقد وُفَّقَ الحوفي، وأبو البقاء، وغيرهما للصواب في ذلك» ثمَّ ذكر عِبَارَةَ أبي البقاء والحوفي، وقال أيضاً: و «حتى» إذا وقع بعدهما «إذا»، يُحْتمل أن تكون بمعنى «الفاء»، ويحتمل أن تكون بمعنى «إلى أن»، فيكون التقديرُ: فإذا جَاءُوك يُجَادِلُونَكَ يقول، أو يكون التقدير: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة، وكذا إلى أن قالوا: إن هذا إلاَّ أساطير الأوَّلين، وقد تقدَّم أن «يُجَادِلُونك» حالٌ من فاعل «جَاءُوكَ»، و «يقول» : إمَّا جواب: «إذا» وإمَّا مفسَّرةٌ للمجيء، كما تقدَّم تقريره.
و «أساطير» فيه أقوال:
أحدهما: أنه جمع لواحد مُقَدَّرٍ، واخْتُلِفَ في ذلك المُقَدَّرٍ، فقيل: أسْطُورة، وقيل: أسْطَارة، وقيل أسْطُور، وقيل: أسْطَار، وقيل إسْطِيرة وقال بعضهم: بل لُفِظَ بهذه المفردات.
والثاني: أنه جَمْعٍ ف «أساطير» جمع «أسْطار»، و «أسطار» جمع «سَطَر» بفتح الطاء، وأمَّا «سَطْر» بسكونها فَجَمْعُهُ في القِلَّةِ على «أسْطُر»، وفي الكثرة على «سطور» ك «فَلْس» و «أفْلُس» و «فُلُوس».
والثالث: أنه جَمْعُ الجَمْعِ ف «أساطير» جمع «أسْطَار»، و «أسطار» جمع «أسْطُر»، و «سَطْر» جمع «سَطر» وهذا مرويُّ عن الزَّجَّاج، وليس بشيء فإنَّ «أسْطَار» ليس جمع «أسْطر»، بل هما مِثَالاً جَمْع قلَّة.
الرابع: أنه اسم جمع.
83
قال: ابن عطية: «هو اسمُ جمع لا واحد له من لفظه» وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنه كان على صيغةٍ تَخُصُّ الجُمُوع لم يُسمُّوه اسم جمع، بل يقولون: هو جمع ك «عَبَاديد» و «شَمَاطِيط»، فظاهر كلام الرَّاغب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أن «أساطير» جمع «سَطَر» بفتح الطاء، فإنه قال: وجمع «سَطَر» - يعين بالفتح - «أسطار» و «أساطير».
وقال المُبَرَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هي جمع «أسْطُورة» نحو: «أرْجُوحَة» و «أراجيح» و «أحْدُوثَة» و «أحاديث».
ومعنى «الأساطير» : الأحاديث الباطلة والُّرَّهَات ممَّا لا حَقيقَةَ له.
وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: - أصلُ «الأسَاطير» من «السَّطْر» وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مُؤلَّفاً، ومنه سَطْرُ الكتاب، وسطر من شجر مفروش.
قال ابن السكيت: يقال سَطْرٌ وسِطْرٌ، فمن قال: «سَطْر» فجمعه في القليل «أسْطُر»، والتكثير «سْطُور»، ومن قال: «سِطْر» فجمعه «أسْطَار»، و «الأساطير» جمع الجمع.
وقال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: واحدُ الأساطير «أسْطُور» و «أسطورة» و «إسطيرة».
قال جمهور المفسرين: أساطير الأولين ما سَطَّرَهُ الأوَّلون.
وقال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها، أي: يَكْتُبُونَهَا.
84
قوله: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ في الضميرين - أعني «هم» وهاء «عنه» - أوجه:
أحدهما: أن المرفوع يعود لعى الكُفَّارِ، والمجرور يعود على القرآن الكريم، وهو أيضاً الذي عَادَ عليه الضَّميرُ المَنْصُوب من «يَفْقَهُوه»، والمُشَارُ إليه بقولهم: «إنْ هَذَا».
والثاني: أنَّ «هم» يعود على من تَقدَّمَ ذكرهم من الكُفَّار، وفي «عنه» يعود على الرسول، وعلى هذا ففيه الْتَفَاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ، فإن قوله: ﴿جَاءُوَكَ يُجَادلونك﴾ خطابٌ للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبَةَ.
وقيل: يعود المرفوع على أبي طالب وأتْبَاعِهِ.
وفي قوله: «يَنْهَوْنَ» و «يَنْأوْنَ» تَجْنِيسُ التصريف، وهو عِبَارةٌ عن انفراد كل كلمة
84
عن الأخرى بحرف ف «ينهون» انفردت بالهاء، و «يَنْأوْن» بالهمزة، ومثله قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ﴾ [الكهف: ١٠٤] ﴿بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون﴾ [غافر: ٧٥].
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيْهَا الخَيْرُ»، وبعضهم يسميه «تجنيس التَّحْريف» وهو الفرق بين كلمتين بحرف وأنشدوا في ذلك قول القائل: [الكامل]
٢١٢٨ - إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهابِ نُفُسِ
وذكر غيره أن «تجنيس التحريف» هو أن يكون الشَّكْلُ، فرقاً بين كلمتين، وجعل منه «اللُّهِى تفتح اللَّهى» وقد تقدَّم تحقيقه.
وقرأ الحسن و «يَنَوْن» بإلقاء حركة الهمزة على النونه وحذفها، وهو تخفيف قياسي.
و «النَّأيُ» : البُعْدُ، قال: [الطويل]
٢١٢٩ - إذَا غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَزَل ْ رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةً يبْرَحُ
وقال الآخر في ذلك، فأجَادَ، [الطويل]
٢١٣٠ - ألاَ حَبَّذا هِنْد وأرْضٌ بِهَا هِنْدُ وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّايُ والبُعْدُ
عطف الشيء على نفسه للمُغَايَرَةَ اللَّفْظيَّة يقال: نَأي زيد يَنْأى نَأياً، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أنْأيْتُهُ، ولا يُعَدِّى بالتضعيف، وكذا كل ما كان عينه همزةً.
ونقل الواحدي أنه يقال: نَأيْنُهُ بمعنى نَأيْتُ عنهُ.
وأنشد المُبَرِّدُ: [الطويل]
85
أي: نَأى عَنَّي.
وحكى اللَّيْثُ: «نَأيْثُ الشيء»، أي: أبْعَدْتُهُ، وأنشد: [الطويل]
٢١٣١ - أعَاذِلُ إنْ يُصْبِحْ صَدَاي بِقَفْرَةٍ بَعيداً نآنِي صَاحِبِي وَقَريبِى
٢١٣٢ - إذَا مَا الْتَقَينا سَالض مِنْ عَبَرَاتِنَا شَآبيبُ يُنْأى سِيْلُهَا بالأصَابِع
فَبَنَاهُ للمفعول، أي: يُنَحِّى ويُبْعَدُ.
والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على البُعْدِ، ومنه أتَنَأى أي: أفْعَلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيدُ.
قال النابغة: [الطويل]
٢١٣٣ - فَإنَّكَ كالمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي وَإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ وَاسِعُ
و «تَنَاءَى» أي: تباعد، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرَةِ التي حول الخِبَاءِ لتبعد عنه الماء.
وقُرِئ: ﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ [فصلت: ٥١] وهو مَقْلُوبٌ من «نأى»، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ الأصل هو المَصْدَرُ وهو «النَّأيُ» بتقديم الهمزة على حرق العِلِّة.

فصل في المراد بالآية وسبب نزولها


معنى الآية الكريمة أنهم يَنْهَوْنَ النَّاسَ عن اتِّبَع مُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويَنْأوْنَ عنه، أي: يبتاعدون عنه بأنفسهم نزلت هذه الآية في كُفَّار «مكة» المشرفة، قال محمد بن الحَنَفِيَّةِ والسُّدي والضَّحاك، وقال قتادةُ: يَنْهَوْنَ عن القرآن، وعن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويتباعدون عنه.
واعلم أنَّ النهي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُحَلٌ فلا بد أن يكون النهي عن فعل يتعلَّقُ به، فذكروا فيه قولين:
الأول: ينهون عن تَدَبُّرِ القُرْآنِ واستمامعه، وعن التَّصديقِ بنبوة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والإقرار برسالته.
الثاني: قال ابن عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى النَّاس عن أذَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويمعنهم ويَنْأى عن الإيمان به أي: يَبْعَدُ، حتى روي أنه اجتمع
86
إليه رؤوس المشركين، وقالوا: تَخَيَّرْ من أصْبَحِنَا وَجْهاً وادْفَعْ إلينا محمداً، فقال أبو طالب: ما أنْصَفْتُمُونِي أدْفَعُ إليكم ولدي لِتَقْتُلُوهُ وأرَبِّي وَلَدَكُمْ.
وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَعَاهُ إلى الإيمان فقال: لولا أن تُعِيِّرُني قُرَيْشٌ لأقرت بها عَينكَ، ولكن أذُبُّ عنك ما حييتُ، وقال فيه أبياتاً: [الكامل]
٢١٣٤ - واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بجَمْعِهِم ْ حَتّى أوَسَّدَ فِي التُّرابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وابْشِرْ وَقَرَّ بِذاكَ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَعَرفْتُ أنَّكَ نَاصِحي وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا
وَعرَضْتَ دِنيا قَدْ عَلِمْتُ بأنَّهُ مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الملامَةُ أو حذارُ مَسَبَّة ٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
واعلم أنَّ القول الأوَّلَ أشبه لوجهين: د
أحدهما: أنَّ جميع الآيات المتقدمة في ذَمِّ طريقتهم، فلذلك كان يبغي أن يكون قولهم: «وهم ينهون عنه» مَحْمُولاً على أمْرٍ مذموم، وإذا حملناه على أنَّ أبا طالبٍ كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النَّظْمُ.
وثانيهما: قوله تبارك وتعالى بعد ذلك: ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾ يعني به ما تقدم ذكره، ولا يَليقُ ذلك النهي عن أذِنَّيِهِن لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك.
فإن قيل: إنَّ ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾ يرجع إلى قوله: ﴿يَنْأوْنَ عَنْهُ﴾ لا قوله: «ينهون عنه» ؛ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمُفَارَقَةِ دينه وترك موافقته وذلك ذَمٌّ.
فالجوابُ أن ظاهر قوله: ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾ يرجعُ إلى كل ما تقدَّمَ ذِكْرُهُ، كما يقال: «فلان يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه، ولا يَضُرُّ بذلك إلاَّ نفسه»، فلا يكون هذا الضرر متعلّقاً بأحد الأمرين دون الآخر.
87
قوله: «وإن يهلكون» «إنْ» نافية كالتي في قوله: ﴿إِنْ هاذآ﴾ [الأنعام: ٢٥] و «أنفسهم» مفعولٌ، وهو استثناءُ مُفَرَّغٌ، ومفعول «يَشْعرون» محذوف: إمَّا اقتصاراً، وإمّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم بتماديهم في الكُفْرِ وغُلُوِّهِمْ فيه، قاله ابن عباس.
88
لمَّا بيَّن أنهم يهلكون أنْفُسَهُمْ شَرَحَ كَيْفِيَّة ذلك الهلاك فقال: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار﴾، وبجواب «لو» محذوف لفهم المعنى، والتقدير: «لرأيت شيئاً عظيماً وَهَوْلاً مُفْظَعْاً».
وحذف الجواب كثر في التَّنْزِيلِ، وفي النظم كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً﴾ [الرعد: ٣١].
وقول الآخر [في ذلك:] [الطويل]
٢١٣٥ - وَجَدِّكَ لَوْ شَيءٌ أتَانَا رَسُولُهُ... سِوَاكَ ولَكِنْ لَمْ نَجَدْ لَكَ مَدْفَعاَ
وقوله: [الطويل]
٢١٣٦ -... - فَلَوْ أنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَة
َ ولَكنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا... وقله الآخر فأجاد: [الكامل]
٢١٣٧ - كَذَبَ العَوَاذِلُ لَوْ رَأيْنَ مُنَاخَا... بِحَرْيزِ رَامَهض والمَطِيُّ سَوَامِي
وحذفُ الجواب أبْلِغُ [قالوا:] لأن السَّامِعَ تذهب نَفْسُهُ كل مذهب، ولو صرَّح له بالجواب وطَّنَ نفسه عليه فلم يحسن منه كثيراً، ولذلك قال كثير في ذلك: [الطويل]
٢١٣٨ - فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ... إذَا وطِّنَتْ يَوْماً لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ
وقوله: «ترى» يجوز أن تكون بصريسةً، ومفعولها محذوف، أي: ولو ترى حالهم،
88
ويجوز أن تكون القَلْبِيَّةَ، [والمعنى:] ولو صرفتع فكرك الصحيح لأنْ تَتَدَبَّرَ حَالَهُمْ لازْدَدْتَ يقيناً.
وفي «لو» [هذه] وجهان:
أظهرهما: أنها الامتناعية، فينصرف المُضَارعُ بعدها للمُضِيَّ، ف «إذا» باقيةٌ على أصلها من دلالتها على الزَّمِنِ الماضي، وهذا وإن كان لم يقع بعدُ؛ لأنه سيأتي يوم القيامة، إلاَّ أنه أبرز في صورة الماضي لتحقُّقِ الوَعْدِ.
والثاني: أنها بمعنى «أنْ» الشَّرطيَّة، و «إنْ» هنا تكون بمعنى «إذا»، والذي حمل [هذا] القائل على ذلك كَوْنُهُ لم يقع بعد وقد تقدَّمَ تأويله.
وقرأ الجمهور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: - «وُقِفُوا» مبنيَّا للمفعول من «وقف» ثلاثياً [و «على» يحتمل أن تكون على بابها وهو الظاهر أي: حبسوا عليها، أو عرضوا عليها، وقيل: يجوز] أن تكون بمعنى «في»، أي في النَّار، كقوله: «» عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ «، اي: في ملك سليمان.
وقرأ ابن السَّمَيْفَعِ، وزيد بن علي:»
وَقَفُوا «مبيناً للفاعل.
و»
وَقَفَ «يتعدَّى ولا يتعدَّىن وفرَّقَتِ العَرَبُ بينهما بالمَصْدَرِ، فمصدر اللازم على» فُعُول «، ومصدر المُتعدِّي على» فَعْل «ولا يقال: أوْقَفْتُ.
قال أبو عمرو بن العلاء:»
لم أسْمَعْ شيئاً في كلام العرب: «أوقفت فُلاناً»، إلاَّ أنِّي لو رأيت رَجُلاً وافقاً فقلت له: «ما أوقفك هاهنا» لكان عندي حَسَناً «وإنما قال كذلك؛ لأنَّ تعدِّي الفِعْل بالهمزة مقيسٌ نحو: ضحك زيدٌ وأضحكته أنا، ولكن سَمِعَ غيره في» وقف «المتعدي أوقفته.
قال الراغب:»
ومنه - يعني من لفظِ وقفتُ القوم - اسْتُعِيرَ وقفت الدَّابَّة إذا سَبلْتَهَا «فجعل الوقف حقيقةٌ في مَنْع المشي، وفي التَسْبِيلِ مَحَازاً على سبيل الاسْتِعَارَةِ، وذلك أن الشَّيْءَ المُسْبَلَ كأنه ممنوعٌ من الحركةن والوقف لفظٌ مشترك بين ما تقدَّمَ وبين سوارٍ من عاجٍ، ومنه: حمار مُوقَّفٌ بأرْسَاغِهِ مِثْلُ الوقْفِ من البَيَاضِ.

فصل في معنى الوقوف على النار


وقال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ومعنى وقفوا على النَّار يحتمل ثلاثة أوجه:
89
الأول: يجوز أن يكون قد وفقوا عندها وهم يُعَاينُوها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار.
الثاني: يجوز أن يكون وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النَّار على الصِّراطِ، جِسْرٌ فوق جَهَنَّمَ «على النَّار».
[الثالث:] معناه: أنهم عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك: «وقَّفْتُ فلاناً على كلام فلان» أي: عَلَّمتُهُ معناه وعرَّفته، وفيه الوجه المتقدِّم، وهو أن يكون «على» بمعنى «» في «، والمعنى أنهم يكونون غَائِصينَ في النَّارِ، وإنَّما صحَّ على هذا التقدير أن يقول: وقفوا على النَّار، لأن النَّار دَرَكَاتٌ وطَبَقَاتٌ بعضها فوق بعض، فيصح هناك معنى الاسْتِعْلاَء.
قوله:»
يا لَيْتنا «قد تقدَّم الكلام في» يا «المُبَاشرة للحرف والفعل.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي»
ولا نثكَذِّبُ «و» نكون «برفعهما وبنَصْبهمَا حمزة، وحفصُ عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر، وأبو بكر.
ونقل أبو حيَّان عن ابن عامرٍ أنَّهُ نصب الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل: عن ابن عامر:»
ولا نكذِّب «بالرفع، و» نكون «بالنصب، فأمَّا قراءة الرفع فيهما، ففيها ثلاثةُ أوجه:
أحدهما: أن الرفع فيهما على العَطْفِ على الفِعْلِ قبلهما، وهو»
نُرَدُّ «، ويكونون قد تَمَنَّوا ثلاثة أشياء: الرَّدّ إلى دار الدنيا، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين.
والثاني: أن»
الواو «واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مُضْمَرٍ، والجُمْلَةُ الاسمية في مَحَلِّ نصب على الحال من مرفوع» نُرَدُّ «.
والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذَّبين وكائنين [من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيداً
90
بهاتين الحالين، فيكون الفعلان] أيضاً داخلين في التمنّي.
وقد اسْتَشْكَلَ الناسُ هذهين الوجهين، بأن التَّمَنِّي إنشاءن والإنْشَاءُ لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، وإنما يدخلان في الأخبار، وهذا قد دَخَلَهُ الكَذِبُ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه:
أحدهما: ذكره الزمخشري - قال: هذا تَمَنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة، فجاز أن يدخله التَّكْذِيبُ كما يقول الرَّجُلُ:» ليت اللَّه يرزقني مالاً فأحْسِن إليك، وأكَافِئَكَ على صَنيعِكَ «فهذا مُتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِقَ مالاً ولم يُحْسِنَ إلى صاحبه، ولم يكافئه كذب، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني اللَّهُ مالاً أحسنتُ إليك.
والثاني: أن قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾ [الأنعام: ٢٨] ليس متعلّقاً بالمتمني، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تبارك وتعالى، بأنهم دَيْدَنهم الكَذِبُ وهجيراهم ذلك، فلم يَدْخُلِ الكذبُ في التمنِّي، وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.
والثالث: أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ التمنِّي لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِيَ ذلك إلى عيسى بن عُمَرَ، واحتج على ذلك بقول الشاعر [حيث قال] :[الطويل]
٢١٣٩ - مُنَى إنْ تَكُنْ حَقَّا تَكُنْ أحْسنَ المُنَى وإلاَّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنا رَغْدَا
قال: «وإذا جاز أن تُوصَفَ المُنَى بكونها حَقّاً جاز أن تُوصَفَ بكونها باطلاً وكذباً»
.
وهذا الجواب سَاقِطٌ جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحَقِّ إنما هو المُنَى، و «المنى» : جمع «مُنْيَة» و «المُنْيَةُ» تُوصَفُ بالصِّدقِ والكذب مجازاً، لأنها كأنها تَعِدُ النَّفْسَ بوقوعها، فيقال لما وقع منها: صَادِق، ولِمَا يَقَعْ منها: كاذب، فالصِّدْق والكذب إنما دَخَلا في المُنْيَةِ لا في التمني.
والثالث من الأوجه المتقدمة: أن قوله: «ولا نُكَذِّبُ» خبر لمبتدأ محذوف، والجملة اسْتئنَافِيَّةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجلمة المُشْتملة على أدَاةِ التمني وما في حيِّزهَا، فليستْ داخلةً في التَّمَنِّي أصلاً، وإنما أخبرَ الله - تبارك وتعالى - عنهم أنهم أخْبَرُوا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربِّهم، وأنَّهُمْ يكونون من المُؤمنينَ، فتكون هذه الجملة وما عُطِفَ عليها في مَحَلِّ نصبٍ بالقول، كأنَّ التقدير: فقالوا: يَا لَيْتَناَ نُرَدُّ وقالُوا: نحن لا نُكَذِّب ونكُون من المؤمنين.
91
واختار سيبويه هذا الوجه وشبَّهَهُ بقولهم: «دَعْنِي ولا أعُودُ»، أي: وأنا لا أعود تَرَكْتَنِي أو لم تتركني، أي: لا أعود على كُلِّ حالٍ، كذلك معنى الآية: أخْبروا أنهم لا يُكَذِّبُون بآيات ربهم، وأنهم يَكُونُون من المؤمنين على كل حالٍ، رُدُّوا أوة لم يُرَدُّوا.
وهذا الوجهُ وإن كان النَّاسُ قد ذكروه ورجَّحثوه، وأختار سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما مَرَّ، فإن بعضهم اسْتَشْكَلَ عليه إشْكَالاً، وهو: أنَّ الكَذِبِ لا يَقَعُ في الآخرة، فكيف وُصِفُوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم «ولانُكَذِّب ونكون» ؟
وقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أن قوله ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾ [الأنعام: ٢٨] اسْتيثَاقٌ لذَمِّهِمْ بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّمَ ذلك آنفاً.
والثاني: أنهم صَمَّوا في تلك الحَالِ على أنهم لو رُدُّوا لما عادوا إلى الكُفْرِ لما شَاهَدُوا من الأهْوالِ والعقوبات، فأخبر اللَّهُ - تعالى - أنَّ قولهم في تلك الحَالِ: «ولا نكذِّبُ» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الرَّدِّ، ووقوع العَوْدِ، فيصير قولهم: «ولا نكذّب» كذباً، كما يقول اللِّصُّ عند ألم العقوبة: «لا أعود» ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّصَ وعاد كاذباً.
وقد أجاب مَكّي أيضاً بجوابين:
أحدهما [قريب] مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال - أي لكاذبون في الدُّنْيَا في تكذيبهم الرُّسُلَ، فإنكارهم البَعْثَ للحال [التي] كانوا عليها في الدُّنْيَا، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وُقُوعَ التكذيب في الآخرة، لأنهم ادَّعَوْا أنهم لو رُدُّوا لم يُكَذَّبوا بآيات الله، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكدَّبوا بآيات اللِّهِ، فأكذبهم اللَّهُ في دَعْوَاهُمْ.
وأمَّا نَصْبُهُمَا فبإضمار «أنْ» بعد الواو التي بمعنى «مع»، كقولك: «ليت لي مالاً وأنْفِقَ منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن»، و «أنْ» مصدرية ينسبِكُ منها ومن الفعل بعدها مَصْدرٌ، و «الواو» حرف عَطْفٍ، فيستدعي معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلاَّ فعل، فكيف يُعْطَفُ اسْمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنْ نقدِّر مصدراً متوهّماً يُعْطَفُ هذا المصدر المُنْسَبكُ من «أنْ» وما بعدها عليه، والتقديرُ: يا ليتنا لنا رَدُّ، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكَوْنُ من المؤمنين أي: ليتنا لنا ردٌّ مع هذين الشيئين، فيكون عدم التكذيب والكَوْنُ من
92
المؤمنين مُتَمَنَّيْيْنَ أيضاً، فهذه ثلاثة أشياء أعني الرَّدَّ وعدم التكذيب، والكون من المؤمنين مُتَمَنَّاةٌ بقيد الاجماع، لا أنَّ كُلَّ واحدٍ مُتَمَنَّي وَحْدَهُ؛ لما تقدَّم من أنَّ هذه «الواو» شرط إضمار «أنْ» بعدها: أن تصلح «مع» في مكانها، فالنصبُ يُعِّنُ أحد مُحْتَمَلاتِهَا في قولك: «لا تأكل السَّمَكَ وتشرب اللبن» وشبهه، والإشكال المتقدِّم وهو إدخال التكذيب على التمين ورادٌ هنا، وقد تقدم جوابه إلاَّ أن بَعْضَهُ يُتَعذَّر هنا، وهو كون «لا نكذِّبُ، ونكونُ» مُسْتَانَفَيْنِ سِيْقا لمجرد الإخبار، فبقي: إمَّا لكون المتني دَخَلَهُ معنى الوَعْدِ، وإمَّا أن قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾ [الأنعام: ٢٨] ليس رَاجِعاً إلى تَمَنِّيهِمْ، وإمَّا لأنَّ التمِّني يدخله التكذيب، وقد تقدَّم فسادُهُ.
وقال ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أكْذَبَهم في معننى التَّمَنِّي، لأن تَمَنِّيهم راجعٌ إلى معنى:» نحنث لا نكذِّب إذا رُدِدْنا «فَغَلَّب عزَّ وجلَّ الكلام فَأكذَبَهُمْ، ولم يستعمل لفز التَّمنِّي». وهذا الذي قاله ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - تقدَّم معناه بأوضح من هذا.
قال أبو حيَّان: وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه «الواو» المنصوب بعدها هو على جواب التَّمَنِّي، كما قال الزمخشري: وقرئ: «ولا نكذِّبَ، ونكون» بالنصب بإضمار «أنْ» على جواب التمين، ومعناه إنْ رُدِدْنا لم نُكَذِّبْ، ونكن من المؤمنين.
قال: وليس كما ذَكَرَ، فإن نَصْبَ الفعل بعد «الوارو» ليس على جهة الجواب؛ لأن «الواو» لا تقعُ جواب الشَّرْط، فلا يَنْعَقِدُ ممَّا قبلها، ولا ممَّا بعدها شَرْطٌ وجواب، وإنما هي واو «مع» يُعْطَفُ ما بعدها على المَصْدَر المُتَوَهِّم قبلها، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النَّصْبِ أحدُ مَحَامِلِهَا الثلاثة: وهي المعيَّةُ ويميِّزها من «الفاء» تقديرُ «مع» موضعها، كما أنَّ فاء الجواب إذا كان بعدها فِعْلٌ منصوبٌ ميَّزَهَا تقديرٌ شرْط قبلها أو حَالٌ مكانها وشُبْهَةُ من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها «الفاء»، فتوهَّم أنها جواب.
وقال سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انْتَصَبَ ما بعد «الفاء»، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى قوله: [الكامل]
٢١٤٠ - لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَاتِيَ مِثْلَهُ.............................
93
لو دخلت «الفاء» هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النَّهْيَ والإتيان وتقول: «لا تأكل السِّمَكَ وتشرب اللبن» لو أدخلت الفاء هنا لفسد المعنى.
قال أبو حيَّان: ويوضِّح لك أنها ليست بجواب أنْفِرَادُ «الفاء» دونها، فإنها إذا حذفت انْجَرمَ الفعل بعدها بما قبلها لما تَضَمَّنَهُ من معنى الشَّرْطِ إلاَّ في النفي، فإن ذلك لا يجوز.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزَّجَّاج، قال أبو إسحاق: نصب على الجواب بالواو في التَّمَنِّي كما تقول: «ليتك تَصِيرُ إليْنَا ونُكْرِمَكَ».
المعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، ويكون المعنى: «ليت رَدَّنا وقع وأن لا نكذِّب».
وأمَّا كون «الواو» ليست بمعنى «الفاء» فَصَحِيحٌ، على ذلك جُمْهُورُ النحاة، إلاَّ أنِّي رأيتُ أبا بكر بن الأنْبَارِيّ خَرَّجَ النَّصْبَ على وجهين:
أحدهما: أنَّ «الواو» بمعنى «الفاء»، والتقدير: يا يلتنا نُردُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون «الواو» هنا يمنزلة «الفاء» في قوله: ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين﴾ [الزمر: ٥٨]. يؤكد هذا قراءةُ ابن مسعود، وابن أبي اسحاق «يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذبَ» بالفاء [منصوباً].
والوجه الآخر: النَّصْبُ على الصرف، ومعناه الحال، أي: يا ليتنا نُردُّ غي مكذِّبين.
أمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأوَّل ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأن الأول يرتفع على حَدِّ ما تقدم من التأويلات، وكذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التَّمَنِّي أو إسْتَأنَفَهُ، إلاَّ أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تَمَام قوله: «نُرَدُّ» أي: تَمنَّوا الرَّدَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظَاهِرٌ إذا جعلنا: «ولا نكذب» مَعْطُوفاً على «نُرَدّ» أو حالاً منه.
وأمَّا إذا جعلنا «ولا نكِّب» مستأنفاً، فيجوز ذلك أيضاً، ولكن على سبيل الاعتراضِ، ويحتمل أن يكون من تمامِ «ولا نكذٍّب» أي: لا يكونُ منّا تكذيب مع كوننا
94
من المؤمنين في التمني، أو أستأنفه ويكون قوله: «ولا نكذب» حينئذٍ على حَالِهِ، أعني من احتماله العَطْفَ على «نُرَدُّ» أو الحاليّة، أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخول كونهم مع المؤمنين في التَّمَنِّي وخروجه منه بما تقدَّم تقريره.
وقُرئ شاذّاً عكس قراءة ابن عامرٍ، بِنَصْبِ «نكذبَ»، ورفع «نكون»، وتخريجها على ما تقدَّمَ إلاّ أنها يضعف فيها جَعْلُ «ونكونُ من المؤمنين» حالاً لكونه مُضَارعاً مثبتاً إلا بتأويل بَعيِيدٍ، كقوله: [المتقارب]
٢١٤١ -..................... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي: وأنا أرْهَنُهُمْ، وقولهم: «قمت وأصكُّ عَيْنَهُ»، ويدلُّ على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أبيِّ: «ونحن نكونُ من المؤمنين».

فصل في تحرير معنى الرد


معنى الآية الكريمة: أنهم تَمَنَّوا الرَّدَّ إلى حالة التكليف، لأن لَفْظَ «الرَّدَّ» إذا استعمل في المُسْتَقْبَلِ في حالٍ إلى حالٍ، فالمعهود منه الرَّدُّ إلى الحالة الأولى، فإن الظَّاهِرَ مَنْ صدر عنه تَقْصِيرٌن ثمَّ عاين الشَّدائد والأهْوَال من ذلك التقصير أنه يتمنى الرَّدَّ إلى الحالة الأولى؛ ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصِيرَاتِ، وذلك التدارك لا يحصل بالعَوْدِ إلى الدنيا فقط ولا بترك التكذيب فقط، ولا بعمل الإيمان، بل إنَّما يَحْصُلُ التدارُكُ بمجموع هذه الأمور الثلاثة، فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني.
فإن قيل: كيف يحسنُ تمني الرد مع أنهم يعلمون أنَّ الرَّدَّ لا يحصل ألْبَتَّةَ؟
والجوابُ من وجهين:
أحدهما: لعلهم [لم] يعلموا أن الردَّ لا يحصل [ألبتة] ؟
والثاني: أنهم وإن علموا أن ذّلِكَ لا يَحْصُلُ إلاَّ أن هذا العلم لا يمنع من حصول إراة الرَّدِّ، كقوله تبارك وتعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ [المائدة: ٣٧] وقوله تعالى: ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ [الأعراف: ٥٠] فلمّا صَحَّ أن يريدوا هذه الأشياء مع العِلْمِ بأنها لا تحصل، فبأن يتمنونه أقْرَبُن لأن باب التمني أوْسَعُ.
95
«بل» هنا للانْتِقَال من قِصَّةٍ إلى أخرى، وليست للإبطال، وعبارةُ بعضهم تُوهمُ أنَّ فيها إبْطالاً لكلام الكَفَرةِ، فإنه قال: «بل» رَدٌّ لِما تمنَّوْهُ أي: ليس الأمْرُ على ما قالوه؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رَغْبَةً منهم في الإيمان، بل قالوه إشْفَاقاً من العذابِ وطَمَعاً في الرَّحْمَةِ.
قال أبو حيَّان: «ولا أدْرِي ما هذا الكلام».
قال شهاب الدِّين: ولا أدري ما وَجْهُ عدم الدِّرَايَةِ منه؟ وهو كلامٌ صحيح ف نفسهن فإنهم لمَّا قالوا: ياليتنا كأنهم قالوا تَمَنَّيْنَا، ولكن هذا التمني ليس بصحيحٍ، لأنهم إنما قالوه تَقِيَّةً، فق يتمنى الإنسانُ شَيْئاً بلسانه، وقَلْبُهُ فَارغٌ منه.
وقال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «بل» هنا استداركٌ وإيجابُ نَفْيِ، كقولهم: «ما قام زيد بل قام عمرو».
وقال أبُو حيَّان: «ولا أدري ما النَّفْيُ الذي سَبَقَ حتى توجبه بل» ؟ قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: الظَّاهِرُ أن النفي الذي أراده الزَّجَّاج هو الذي في قوله: «ولا نكذِّبُ بآيات ربنا» إذا جعلناه مُسْتَأنفاً على تقدير: ونحنُ لا نُكَذِّبُ، والمعنى: بل إنهم مُكَدِّبُون.
وفاعلُ «بَدَا» قوله: «ما كانوا»، و «ما» يجوز أ، تكون مَوْصُلةً اسميةً وهو الظَّاهرُ، أي: ظهر لهم الذي كانوا يُخْفُونَهُن والعائدُ محذوف، ويجوز أن تكون مصْدريَّةً، أي: ظهر لهم إخْفَاؤهُمْ، أي: عاقبته، أو أطْلِق المَصْدَرُ على اسم المفعول، وهو بَعِيدٌ، والظَّاهرُ أن الضميرين: أعني المجرور والمرفوع في قوله: ﴿بَدَا لَهُمْ ما كَانُوا يُخْفُونَ﴾ عائدان على شيء واحدٍن وهم الكُفَّار أو اليهود والنصارى خاصة.
وقيل: المجرور للأتْبَاعِ والمرفوعُ للرُّؤسَاءِ، أي: بل بدا للأتْبَاعِ ما كان الوُجَهَاءُ المتبوعون يُخْفُونَهُ.

فصل في معنى " يخفون "


واختلفوا في ذلك الذي أخفوه، فقال أبو روق: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك، فيقولون: " والله ربنا ما كنا مشركين " فينطق الله جوارحهم،
96
فتشهد عليهم بالكُفْرِ، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل.
قال الواحديّ: وعلى هذا القول أهل التفسير.
وقال المُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ وبَالُ عقائدهم وأعمالهم وسُوءُ عاقبتها.
وقال الزجاج: بَدَا للأتْبَاعِ ما أخْفَاهُ الرؤساء عنهم من أمْرِ البعث والنشور، قال: ويدلُّ [على ذلك] أنه - تبارك وتعالى٠ ذكر عَقِيبَهُ: وقالوا ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [المؤمنون: ٣٧] وهذا قول الحَسَنِ.
وقال بعضهم: هذا في المُنَافِقِينَ كانوا يُسِرُّون الكُفْرَ، ويظهرون الإسلام، وبدا لهم يوم القيامة، وهو ما كانوا يخفون من قبل.
وقيل: بَدَا لَهُمْ ما كان علماؤهم يخفون من جَحْد نبوة الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ونعته والبِشَارِةِ به، وما كانوا يُحَرِّفُونَ من التوراة.
قوله: «ولو رُدُّوا» قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً.
وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وإبراهيم: «رِدُّوا» بكسرها خالصاً.
وقد مَرَّ أن الفَعْلَ المُضَاعَفَ العين واللام يحوز في فائه إذا بُنِيَ للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في «فاء» الثلاثي المُعْتَلِّ العين إذا بُنِيَ للمفعول، نحو: قِيلَ وبيعَ، وقد تقدَّم [ذلك].
وقال الشاعرُ: [الطويل]
٢١٤٢ - وَمَا حِلَّ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ
بكسر الحاء.
قوله: «وإنهم لكاذبون» تقدمَّ الكلامُ على هذه الجملة: هل هي مُسْتَأنَفَةٌ أو راجعة إلى قوله: «يا ليتنا نُرَدُّ» ؟.

فصل


والمعنى أنه - تبارك وتعالى - لو رَدَّهُمْ لم يحصل منهم تَرْكُ التكذيب وفَعْلُ الإيمان، بل كانوا يَسْتَمِرُّون على طريقتهم الأولى.
فإن قيل: إن أهْل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة [وشاهدو أنواع] العقاب، فمع
97
هذه الأهوال كيف [يمكن] أن يقال: إنهم يَعُودُونَ إلى الكُفْرش والمعصية.
فالجواب: قال القاضي: تقديره: ولو رُدُّوا إلى حَالةِ التكليف، وإنَّما يَحْصُلُ الردُّ [إلى] هذه الحالة، إذا لم يحصل في القيامةِ مَعْرِفَةُ االلِّهِ بالضرورة، ولم يحصل هناك مُشَاهَدَةُ الأهوال وعذابُ جَهَنَّم، فهذا الشرط يكون مضمراً لا مَحَالَة.
وهذا الجوابُ ضعيفٌ، لأن المقصود من الآية الكريمة بَيَانُ غُلُوهِمْ في الإصرار على الكُفْرِ، وعدم رغبتهم في الإيمان، فلو قَدَّرْنَا عدمَ معرفة الله في القيامة وعدمَ مشاهدة الأهوال لم يكون إصْرَارُهُمْ على كفرهم الأول مزيد تَعجُّبٍ، وإذاً لم يكن اعتبار هذا الشَّرطِ الذي ذكره القاضي.
وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هذه الآية الكريمة من أظْهَرِ الدلائل على فساد قول المُعتزلةِ؛ لأن الله تبارك وتعالى - بيَّن أنهم لو شاهدوا النَّار والعذابَ، ثم سألوا الرَّجْعَةَ ورُدُّوا إلى الدنيا لَعَادُوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السَّابق فيهم، وإلاَّ فالعَاقِلُ لا يَرْتَابُ فيما شاهد.
قال القرطبي: وقد عَايَنَ إبليس ما عاينَ من آيات الله تبارك وتعالى ثم عَانَدَ.
قوله
: {وقالوا
98
} هل هذه الجملة مَعْطُوفة على جواب «لو» والتقدير ولو رُدُّوا لعادوا [ولقالوا]، أو هي مُسْتأنَفَةٌ ليس دَاخِلَةٌ في خبر، أو هي معطوفة على قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾ [الأنعام: ٢٨] ثلاثة أوجه:
ذكر الزمخشري الوجهين الأوَّل والأخير، فإنه قال: «وقالوا» عطف على «لعادوا»، أي لو رُدُّوا لكفروا، ولقالوا: إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل مُعايَنةِ القيامة، ويجوز أن يُعْطَفَ على قوله: «وإنهم لكاذبون» [على معنى: وإنهم لَقَوْمٌ كاذبون] في كل شيء.
والوجه الأول منقول عن ابن زيد، إلاَّ أن ابن عَطِيَّة ردَّهُ فقال: وتوقِيفُ الله - تعالى - لهم في الآية بَعدها فيه دلالةٌ على البَعْثِ والإشارة إليه بقوله: «أليس هذا بالحقِّ» يردُّ على هذا التأويل، وقد يُجَابُ عن هذا باختلاف حالين: فإنَّ إقرارهم بالبعث حقيقة، إنما هو في الآخرة، وإنكارهم ذلك إنما هو في الدنيا بتقدير عَوْدهمْ إلى الدنيا، فاعرافهم به في الدار الأخرة غَيْرُ مُنَافٍ لإنكارهم إيَّاهُ في الدينا.
98
قوله: ﴿إنْ هيَ إلا حَيَاتُنَا﴾ «إن» نافية، و «هي» مبتدأ و «حَيَاتُنَا» خبرها، ولم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفي وإثباتٍ، و «هي» ضمير مُبْهَمٌ يفسِّره خبره، أي: ولا نعلم ما يُرَادُ به إلاَّ بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة وقد تقدم ذلك عند قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٩] وكون هذا مما يفسره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظر، إذ لقائل أن يقول: «هي» تعود على شيء دلَّ على سياقِ الكلام، كأنهم قالوا: إنَّ العادة المستمرة، أو إن حَالَتَنَا وما عَهِدْنَا إلاِّ حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قول الزَّمخشري: «هذا ضميرٌ لا يُعْلمَمُ ما يُرَادُ به إلاَّ بذكر ما بعده».
ومثَّل الزمخشري بقول العرب «هِيَ النَّفْسُ تَتَحَمَّلُ ما حُمَّلَتْ» و «هي العرب تقول ما شاءت». وليس فيما قاله الزمخشري دَلِيلٌ على أن الخبر مُفَسِّرٌ للضمير.
ويجوز أن يكون المعنى: إن الحَيَاة إلا حياتنا الدُّنْيَا، فقوله «إلا حياتنا الدنيا» دالٌّ على ما يُفَسِّرُ الضمير، وهو الحَيَاةُ مُطْلقاً، فصدق عليه أنه لا يعلم ما يُرَادُ ما يعود عليه الضمير إلاَّ بذكر ما بعده من هذه الحَيْثِيَة لا من حيثيَّة التفسير، ويَدُلُّ على ما قلنا قول أبي البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هي كِنَايَةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضمير القِصَّة.
قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أمَّا أوَّل كلامه فصحيح، وأمَّا آخره وهو قوله: «إن هي ضمير القصّة» فليس بشيء؛ لأن ضمير القصِّة لا يفسَّرُ إلاَّ بجملةٍ مُصَرَّحٍِ بجزْأيْهَا.
فإن قيل: الكوفي يجوزُ تفسيره بالمفرد، فيكون نَحَا نَحْوهُمْ؟
فالجواب أنَّ الكوفيَّ إنما يُجَوِّزهُ بمفرد عامل عمل الفعل، نحو: «إنه قائم زيد» و «ظَنَنْتُهُ قائماً زيدٌ» لأنه في صورة الجملة إذ في الكلام مُسْنَدٌ ومُسْنَدٌ إليه.
أما نحو «هو زيد» فلا يجيزه أحدٌ، على أن يكون «هو» ضمير شأن لا قصّة، والدنيا صفة الحياة، وليست صِفَةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني: أن ثَمَّ حياةً غير دنيا يُقرُّون بها؛ لأنها لا يعرفون إلاَّ هذه، فيه صَفَةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويعنون بذلك أنها لا مَفْهُومَ لها، وإلاَّ قحقيقةُ التوكيد غَيْرُ ظاهرةٍ بخلاف ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة: ١٣].
و «الباء» في قوله: «بمبعوثين» زائدةٌ لتأكيد الخبر المفني، ويحتمل مجرورها أن يكون مَنْصُوبَ المَحَلِّ على أنَّ «ما» هاهنا حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية.
99
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ﴾ الآية الكريمة [الأية: ٣٠] تَمَسَّكَ بعضُ المُشَبِّهَةِ بهذه الآية، فقال ظاهرها يَدُلُّ على أن أهل القيامة يَقِقُون عند الله - تبارك وتعالى - بالقُرْبِ منه، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تبارك وتعالى [بحيث يحضر في مكان تارة، ويغيب عنه أخرى، وهذا خطاب؛ لأن ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى] يوقفُ عليه، كما يقف أحدنا على الأرْضِ، وذلك كونه مُسْتَعْلياً على ذات الله تعالى، وأنه بَاطِلٌ بالاتِّفاق، فوجب تأويله، وهو من وجهين:
الأول: أنه من باب الحَذْفِ، تقديره: على سؤال رَبَّهِمْ أو ملك ربهم، أو جزاء ربهم، أو على ما أخبرهم به من أمر الآخرة.
الثاني: أنه من باب المَجَازِ؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ، كما يوقفُ العَبْدُ بين يَدَيْ سَيَّدِهِ ليُعَاتِبَهُ، ذكر ذلك الزمخشري، أو يكون المراد بالوقوف المَعْرِفَةَ، كما يقول الرجل لغيره: «وَقَفْتُ على كلامك» أي: عرفته، ورجَّح الزمخشري المَجَازَ على الحَذْفِ؛ لأنه بدأ بالمجاز، ثم قال: وقيل وقفوا على على حزاء ربهم وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر وفيه ثلاثة مذاهب:
أشهرها: ترجيح المجاز على الإضمار.
والثاني: عكسه.
والثالث: هاهنا سواء.
قوله: «قال: ألَيْسَ» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها اسْتِفْهَاميةٌ أي: جواب سؤال مُقّدَّر، قال الزمخشري: «قال» مَرْدُودٌ على قولِ قائلٍ.
قال: ماذا قال لهم ربُّهُمْ إذْ أوقفُوا عليه؟ فقيل: قال لهم: أليس هذا بالحقِّ.
والثاني: أن تكون الجملة حَالِيَّةً، وصاحب الحال «ربُّهم» كأنه قيل: وُقِفوا عليه قَائِلاً: أليس هذا بالحقٌ؟ والمُشَارُ إليه قيل: هو ما كانوا يكذبون به من البَعْثِ.
وقيل: هو العَذَابُ يَدُلُّ عليه «فذوقوا العذاب».
وقوله: «بما كنتم» يجوز أن تكون «ما» مَوْصُولةً أسميةً، والتقدير: تَكْفُرُونَهُ، والأصل: تكفرون به، فاتَّصَلَ الضمير بالفعل بعد حذف الواسطة، ولا جائز أن يُحذف،
100
وهو مجرورٌ بحاله، وإن كان مجرواً بحرف جُرَّ بمثله الموصول لاختلافِ المتعلِّق، وقد تقدَّم إيضاحه.
والأوْلى أن تُجْعَلَ «ما» مصدريَّة، ويكون متعلَّق الكُفْرِ محذوفاً، والتقدير: بما كنتم تكفرون بالبَعْثِ، أو بالعذاب، أي: بكفرهم بذلك.
فإن قيل: قد قال تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ [آل عمران: ٧٧]، وها هنا قد قال [لهم] :«أليس هذا بالحقِّ» ؟ فما وَجْهُ الجمع؟.
فالجواب: لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.
قال ابن عباس: هذا في موقف، وقولهم: «واللَّه ربنا ما كنا مشركين» في موقف آخر، والقيامةُ مواقف، في موقف يُقِرُّونَ، وفي موقف ينكرون.
قوله: ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ خَصَّ لفظ الذَّوْقِ، لأنهم في كل حال يجدونه وجدانَ الذَّائقِ.
101
قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله﴾ [الأية: ٣١] وصف أحوال منكري البَعْثِ بأمرين:
احدهما: حصول الخُسْرَانِ، أي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى اللَّهِ - تبارك وتعالى - وحُصُول العقاب.
قوله: ﴿حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَة﴾ في نصب «بَغْتَةً» أربعة أوجه:
أحدهما: أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل «جاءَتهم» بَغَتَتْهُمْ بغتة، فهو كقولهم: «أتيته رَكْضاً».
الثالث: أنَّها منصوبةٌ بفعل محذوف من لفظها، أي: تبغتهم بَغْتَة.
الرابع: بفعل [من غير لفظها، أي: أتتهم بغتة، والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من] غير اعتدادٍبه، ولا جَعْلِ بالٍ منه حتَّى لو استشعر الإنسانُ به، ثم جاء
101
بسرعة من غير اعتدادٍ به لا يُقَالُ فيه: بَغْتَة، وكذلك قول الشاعر في ذلك: [الطويل]
٢١٤٤ - إذَا بَغَتَتْ أشْيَاءُ قَدْ كَانَ قَبْلَهَا قَدِيماً فَلاَ تَعْتَدَّهَا بَغَتَاتِ
والألف واللام في «السَّاعة» للغَلَبِة كالنَّجْم والثُّرَيَّا؛ لأنها غلبت على يوم القيامة، وسِّمَيتِ القيامَةُ سَاعةً لسرعة الحِسَابِ فيها على الباري تبارك وتعالى.
وقيل: لأنَّ السَّاعة من الوَقْتِ الذي تقوم فيه القيامة؛ لأنها تَفْجأ الناس في ساعة لا يعلمها [أحدٌ] إلاَّ اللَّهُ تعالى. وقوله: «قالوا» هو جواب «إذا».
قوله: «يَا حَسْرَتَنَا» هذا مجازٌ؛ لأن الحَسْرَةَ لا يتأتى منها الإقْبَالُ، وإنَّما المعنى على المُبَالغَةِ في شِدَّةِ التَّحَسُّرِ، وكأنهم نادوت التحسُّر، وقالوا: إن كان لك وَقْتٌ، فهذا أوانُ حضورك.
ومثله: «يا ويلتا» والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي، حيث ترك ما أحْوَجَهُ تركه إلى نداء هذه الأشياء.
قال سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيكون المنادي هو نفس الحَسْرَةِ، والمُراَدُ بالحَسْرَةِ النَّدَامَةُ.
قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هذا النِّدَاءُ ينبِّهُ الناس على ما سيحصل لهم من الحَسْرَةِ، والعربُ تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور باللَّفظَةِ كقوله تبارك وتعالى: ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠] ﴿ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ [الزمر: ٥٦] ﴿ياويلتا أَأَلِدُ﴾ [هود: ٧٢] و ﴿ياأسفا﴾ [يوسف: ٨٤] والمعنى: يا أيها النَّاس تَنَبَّهُوا على ما وَقَعَ من الأسَفِ، فوقع النداءُ على غير المنادى في الحقيقة.
قوله: «عَلَىَ مَا فَرَّطْنَا» متعلّق بالحسرة و «ما» مَصْدريَّةٌ، أي: على تفريطنا، والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على السَّاعِةِ، ولا بد من مضاف، أي في شأنها والإيمان بها، وأن يعود على الصِّفَقَةِ المتضمِّنة في قوله: ﴿قّدْ خَسِرَ الَّذين﴾، قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدينا، وإن لم يَجْرِ لها ذِكُرٌ لكونها مَعْلُومَةَ، قاله الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -.
وقيل: يعود على مَنَازِلِهْم في الجنَّةِ إذا رأوها، وهو بَعِيدٌ.
والتفريطُ: التقصير في الشيء مع القُدْرَةِ على فعله.
وقال أبو عُبَيْدِ هو التَّضْييعُ.
102
وقال ابن بَحْرِ: وهو السَّبْقُ ومنه الفارط، أي: السَّبق للقوم، فمعنى فَرَّط بالتشديد خَلَّى السَّبْقَ لغيره، فالتضعيف فيه للسَّلْبِ، ك «جلَّدت البعير» ومنه ﴿فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ [الإسراء: ٧٩].

فصل في تحرير معنى الخسران


اعلم أن [كلمة «حتى» ] غاية [لقوله: «كذبوا» ] لا لقوله: «قد خَسِرَ»، لأن خسرانهم لا غَايَةَ له، ومعنى «حتى» ها هنا أنَّ مُنْتَهَى تكذيبهم الحَسْرةُ يوم القيامة والمعنى: أنهم كذبوا بالبَعْثِ إلى أن ظهرت السَّاعةُ بَغْيَةً، فإن قيل: إنما يَتَحَسَّرُونَ عن موتهم.
فالجواب: بما كان المَوْتُ وُقُوعاً في [أحوال الآخرة] ومقدماتها جُعِلَ من جنس السَّاعة، وسُمِّيَ باسمها، فلذلك قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» والمراد بالساعة: القيامة.
قوله: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ» «الواو» للحال، وصَاحِبُ الحال «الواو» في «قالوا» أي: قالوا: يا حَسْرَتَنَا في حالةِ حَمْلِهِمْ أوْزَارَهُمْ.
وصُدِّرت هذه الجملة بصمير مبتدأ؛ ليكون ذِكْرُهُ مَرَّتين فهو أبْلَغُ.
والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مُقََاساتِهِمُ العذابَ الذي سَبَبُهُ الأوْزَارُ.
[قال الزَّجَّاجُ: كما يُقَال: «ثقل عليّ كلام فلان» ] والمعنى: كرهته.
وقيل: هو حقيقة وفي الحديث: «إنَّهُ يُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ بِصُورَةٍ قَبِيْحَةٍ مُنْتِنَةِ الرِّيح فَيَحمِلُها» وهو قول قتادَةَ، والسُّدي، وخُصَّ الظَّهْرُ، لأنه يُطيق [من الحَمْل] ما لا يُطِيقُهُ غيره من الأعْضَاءِ كالرأس والكَاهِل، وهذا كما تقدم في قوله: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: ٧]، ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٨٧] لأن اليد أقوى في الإدراك اللَّمْسِيِّ من غيرها.
والأوزَارُ: جمع «وِزْر» ك «حِمْل» وعِدْل وأعْدَال.
والوِزْر في الأصل الثقل، ومنه،: وَزَرْتُهُ، أي: حَمَّلته شَيْئاً قليلاًن ووزير الملك من هذا؛ لأنه يَتَحَمَّلُ أعْبَاء ما قَلَّدّهُ المَلِكُ من مئونة رعيَّته وحَشَمَتِه ومنه أوْزَارُ الحرب لسلاحها وآلاتها، قال [القائل في ذلك] :[المتقارب]
103
٢١٤٥ - وأعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أوْزَارَهَا رِمَاحاً طِوَالاً وخِيْلاً ذُكُورَا
وقيل: الأصل في ذلك الوَزَرُ بفتح الواو والزاي، وهو المَلْجأ الذي يُلْتَجَأُ إليه من الجَبَلَ، قال تعالى: ﴿كَلاَّ لاَ وَزَر﴾ [القيامة: ١١] ثمَّ قيل للثقل: وَزْرٌ تَشْبيهاً بالجَبَلِ، ثم اسْتُعِيرَ الوِزْرُ إلى الذَّنْبِ تشْبيهاً به في مُلاقَاةِ المَشَقَّةِ، والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزَانَةِ والعَظَمَةِ.
قوله: ﴿ألا سَاءَ ما يزِرُونَ﴾ «ساء» هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة:
أحدهما: أنها «ساء» المُتَصَرِّفَةُ المتعدِّيَةُ، ووزنها حينئذٍ «فَعَل» بفتح العين، ومفعولها حينئذٍ محذوفٌ، وفاعلها «ما».
و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه:
أن تكون موصولةً اسميةً، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، وهو بعيد، [وعلى جعلها اسمية أو نكرة موصوفة تقدّر] لها عائداً، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور.
والتقدير: ألا سَاءهُمُ الذي يَزِرُونَهُ، أو شيء يزرونه، أو وزْرُهُمْ [وبدأ ابن عطية بهذا الوجه؛ قال: كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله: [البسيط]
٢١٤٦ - رَضيتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غَيْرَ طَائِلَةٍ فَسَاءَ هَذَا رِضّى يا قَيْسَ عَبْلانَا
قال أبو حيان: ولا يتعين أن تكون «ما» في البيت خبراً مجرداً، بل تحتمل الأوجه الثلاثة] وهو ظاهر.
الثاني: أن يكون للتعجُّب، فتنتقل من «فَعَل» بفتح العين [إلى] «فعُل» بضمها، فتعطى حكم فعل التَّعَجُّب من عدم التصرف، والخروج من الخبر المَحْضِ إلى الإنشاء إن قلنا: إن التعجُّب إنشاء، وهو الصحيح، والمعنى: ما أسْوَأ، أي: أقبح الذي يزرونه، أو شيئاً يزرونه، أو وِزْرُهم.
الثالث: أنها بمعنى «بئس» فتكون للمُبَالَغَةِ في الذَّمِّ فتعطى أحكامها أيضاً، ويجري الخِلافُ في «ما» الواقعِة بعدها حَسْبَما ذكر في ﴿بِئْسَمَا اشتروا بِهِ﴾ [البقرة: ٩٠] وقد ظهر الفَرقُ بين الأوجه الثلاثة، فإنها في الأوَّل متعدّية متصرّفة، والكلام معها خَبَرٌ مَحْضٌ، وفي الأخيرين قَاصِرَةٌ جامدة إنشائية.
والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْتَرَطُ في فاعلها ما يشترط في فاعل «بئس».
104
وقال أبو حيَّان: والفَرْقُ بين هذا الوجه يعني كونها بمعنى «بئس»، والوجه الذي قبله - يعني كونها تعجبيَّةً - أنه لا يُشْتَرَطُ فيه ما يشترط في فاعل «بئس» من الأحكام، ولا هو جملةٌ منعدةٌ من مبتدأ وخبر، [إنما هو منعقد من فعل أو فاعل انتهى، وظاهره لا يظهر إلاَّ بتأويل، وهو أن الذم لا بد فيه مَن مَخْصوص بالذَّمِّ، وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقده من هذه الجملة مبتدأ وخبر].
إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول: إنما يَتَأتَّى هذا على أحَدِ الأعَارِيبِ في [المخصوص] وعلى تقدير التَّسْليم، فلا مَدْخَلَ للمخصوص بالذَّمِّ في جملة الذَّمِّ بالنسبة إلى كونها فَعْلِيَّة، فحينئذٍ لا يظهر فَرْقٌ بينها وبين التَّعجبية في أنَّ كُلاَّ منهما منعقدةٌ من فَعلٍ وفاعل.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: بئْسَ الحمْلُ حَمَلُوا «.
105
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِب﴾ يجوز أن يكون من المُبَالَغَةِ جَعْلُ الحَيَاةِ نَفْسَ اللَّعِبِ واللَّهوِ كقول [القائل] :[البسيط]
٢١٤٧ -....................... فَإنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ
وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حَذْفٌ، أي: وما أعمال ﴿وما أهْلُ الحياة الدنيا إلاَّ أهل لَعِب﴾ فقدَّر شيئين محذوفين.
واللَّهْوُ: صَرْفُ النَّفْسِ عن الجِدِّ إلى الهَزَلِ، ومنه لَهَا يَلْهُو.
وأمَّا لَهِيَ عن كذا فمعناه صَرَفَ نَفْسَهُ، والمَادَّةُ واحد انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، نحو: شَقِيَ ورَضِيَ.
وقال المهدوي: «الذي معناه الصَّرْفُ لامُه ياء، بدليل قولهم:» لَهْيَان «، ولام الأول واو».
قال أبو حيَّان: «وليس بشيء؛ لأن» الواو «في التثنية انْقَلَبَتْ ياءً، فيس أصلها الياء ألا ترى تثنية» شَجِ «:» شجيان «وهو من الشَّجْوِ» انتهى.
يعني: أنهم يقولون في اسم فاعله: «لهٍ» ك «شَجٍ» والتثنيةُ مَبْنيَّةٌ على المفرد، وقد انقلبت في المُفْرَدِ فلتنقلب في المثنى.
105
قال شهابُ الدين: فلنا فيه بحث حَسَنٌ أوْدَعْنَاهُ «التفسير الكبير» ولله الحمد [قال: وبهذا] يظهر فَسَادُ ردِّ المهدوي على الرُّمَّاني، فإنَّ الرُّمَّاني قال: «اللَّعِبُ عَمَلٌ يُشْغِلُ النفس عما تنفعُ به، واللَّهْوُ صَرْقُ النفس من الجدِّ إلى الهَزَل، يقال: لَهَيْتُ عنه، أي صَرَفْتُ نفسي عنه».
قال المهدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وفيه ضَعْفٌ وبُعْدٌ، لأنَّ الذي فيه معنى الصَرِفِ لامه ياء، بدليل قولهم في التَّثْنية لَهْيَان» انتهى.
وقد تقدَّم فَسَادُ هذا الرَّدِّ.
وقال الراغب: «اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإنسانَ عما يَعْنيهِ ويَهُمُّهُ، يقال: لَهَوْتُ بكذا أوْ لَهَيْتُ عن كذا: استغلْتُ عنه بِلَهْوٍ». وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حمل المهدوي على التَّفْرِقَةِ بين المَادَّتَيْنِ.

فصل في ذم الحياة الدنيا


اعلم أن منكري البعث تعْظُمُ رغبتهم في الدُّنيا، فَنَبَّه اللَّهُ - تعالى - في هذه الآية تصح إلا فيها، فلهذا السبب حصل في تفسير الآية قولان:
الأول: قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد حَيَاةَ أهل الشرك والنفاق؛ لأن حياة المؤمن يحصل فيها أعْمَالٌ] صالحة.
والثاني: أنه عَامٌ في حياة المؤمن والكافر وإنما سماها باللعب واللَّهْوِ؛ لأن الإنسان حال اشتغاله باللَّعِبِ واللهو، فإنه يَلْتَذُّ به، وعند انْقَضَائها إلاَّ النَّدامَةُ]، وفي تسمية هذه الحياة باللعب واللَّهْوِ وجوه:
أحدهما: أن مُدَّة اللَّعِبِ واللَّهْوِ قليلةٌ سريعةُ الانقضاء، وكذلك هذه الحياة الدنيا.
وثانيها: أنَّ اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ عند الاغتِرَارِ بَظَوَاهِرِ الأمور، وأمَّا عند التَّأمُّلِ التَّامِّ لا يبقى اللعب واللهو أصْلاً، وكذلك فإن اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ للصِّبْيَان والجُهَّال والمُغَفَّلِينَ.
106
وأمَّا العقلاءُ والحُصفَاء فَقلّما يحصلُ لهم خوضٌ في اللعب واللهو وكذلك الالتذَادُ بطيبات الدنيا لا يحصل إلا للمغفّلين الجُهَّال بحَقَائق الأمور.
وأما المحققون فإنهم أن كل هذه الخيرات غُرُورٌ وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرةٌ.
قوله: «وللدَّارُ الآخرةُ» قرأ الجمهور بلامين، الأولى لام الابتداء، والثانية للتعريف، وقرأوا «الآخرةُ» رفعاً على أنها صَفَةٌ ل «الدار» و «خَيْرٌ» خبرها.
وقرأ ابن عامر: «ولَدَارُ» بلامٍ واحدة هي لام الابتداء، و «الآخرةِ» جرُّ بالإضافة، وفي هذا القراءة تأويلان:
أحدهما: قول البصريين، وهو [أنه] من باب حَذْفِ الموصوف، وإقامة الصفة مُقَامَهُ، والتقدير: ولَدَارُ السَّاعةِ الآخرة، أو لَدَارُ الحياة الآخرة، يِدُلُّ عليه ﴿وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ومثله قولهم: جَبَّةُ البَقْلَةِ الحَمْقَاءِ، ومَسْجِدُ المَكَانِ الجَامِعِ، وصلاةُ السَّاعَةِ الأولَى، ومكانُ الجَانِبِ الغَرْبِيّ].
وحَسَّن ذلك ايضاً في الآية الكريمة كونُ هذه الصفة جَرَتْ مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيراً، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّمَ فيه إضَافَةُ الموصوف إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك [كثيرا لئلا يلزم] إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنعٌ؛ لأن الإضافة إمَّا للتعريف، أو للتخصيص، والشيء [لا يعرف نفسه] ولا يُخَصِّصُهَا، وهذا مَبْنِيُّ على أنَّ الصِّفَةَ نفس الموصوف، وهو مشكلن لأنه لا يعقل تصور المصوصوف وصَفَتُهُ جازت إضافته إليها، وأوردوا ما قدَّمْتُهُ من الأمثلة.
قال الفرَّاء: هي إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك: «بَارِحَةُ الأولى» و «يوم الخميس» و «حَقُّ اليقين»، وإنما يجوز عند اختلاف اللَّفظَيْنِ وقراءة ابن عامر موافقة لمُصْحَفِهِ، فإنها رسمت في مصاحق الشَّاميين بلامٍ واحدة.
107
واختارها بضعهم لموافقتها لما أُجْمَعَ عليه في «يوسف» ﴿وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ﴾ [يوسف: ١٠٩]، وفي مَصَاحِفِ غيرهم بلامين. و «خَيْرٌ» يجوز أن يكون للتفضيل، وحُذِفَ المُفَضَّلُ عليه لِلْعِلْم به، أي: خَيْرٌ من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكون لِمُجَرَّدِ الوَصْفِ بالخيرية كقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً﴾ [الفرقان: ٢٤] و «للذين يتَّقون» متعلّق بمحذوف؛ لأنه صَفَةٌ ل «خير» والذي ينبغي -[أو يتعيَّن]- أن تكون «اللام» للبيان، أي: أعني للذين، وكذا كُلُّ ما جاء من نَحْوِهِ، نحو: ﴿خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ [الضحى: ٤].

فصل في معنى الخيرية


ذكروا في وَجْهِ هذه الخَيْريَّةِ وجوهاً:
أحدهما: أنَّ خيرات الدينا [خسيسة وخيرات الآخرة شريفة وبيان ذلك في وُجُوه:
الأوَّل: أن خيرات الدنيا] ليس إلاَّ قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ، وهي في نهاية الخَسَاسَةٍ؛ لأن الحيانات الخَسِيسَة تشارك الإنسان فيها، بل ربما [كان] أمرُ تلك الحيوانات فيها أكْمَلَ من أمْرِ الإنسان، فالجَمَلُ أكثر أكْلاً، والدِّيكُ والعصفور أكثر وقاعاً، والذِّئْبُ أقوى على الفَسَادِ ة والتَّمْزِيقِ، والعَقْرَبُ أقوى لعى الإيذَاءِ، ومما يَدُلُّ على خَسَاسَتِهَا أنها لو كانت شَرِيفةً لكان الإكثار منها يوجبُ زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان الذي أذهب عمره في الوِقَاعِ والأكْلِ أشْرَفَ الناس وأعْلاهُمْ دَرَجَةً، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمْرُ كذلك، بل مثلُ هذا الإنسان يكون [ممقوتاً] مُسْتَحْقَراً، يوصفُ بأنه بَهِيمَةٌ أو كَلْبٌ، أو أخَسُّ، وذلك لأن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال، بل يُخْفُونَهَا، ولذلك عادة العُقَلاءِ عند الاشتغل بالوقَاع يختفون عن النَّاسِ، وأيضاً فإن الناس إذا شَتَمَ بعضم بعضاً لا يذكرون فيه إلاَّ الألقَاظ الدَّالة على الوقَاع، وأيضاً فإن هذه [اللَّذات] سَرِيعَةُ الانْقِضَاءِ والاسْتِحَالَةِ، فثبت بهذه الوجود خَسَاسَةُ هذه المَلَذَّاتِ.
وأما السَّعادات الرُّوحانية، فإنها سعادات عالية شريفةٌ، باقيةٌ مُقَدَّسَةٌ، ولذلك فإن جميع الخَلْقِ إذا تَخَيَّلُوا في إنسان كثرة العِلْمِ والدِّين وشدِّة الانقباض عن اللِّذاتِ الجسمانية، فإنهم بالطَّبْعِ يجيبونه ويخدمومنه، ويعدونه [أنفسهم] عِبيداً لذلك الإنسان، وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يَدُلُّ عليه خَسَاسَةِ اللَّذاتِ الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.
الأمر الثاني: في [بيان] أنَّ خَيْرَاتِ الآخرة أفْضَلُ من خيرات الدُّنْيَا، وهو أن يقال:
108
هَبْ أنَّ هذين النوعين تَشَارَكَا في الفَضْلِ إلاَّ أن الوُصُولَ إلى الخيرات الموعودة في [غد القيامة معلوم قطعاً، وأمَّا الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد] الدنيا فغيرُ مَعْلوم، بل ولا مظنونٍ، فكم من سُلْطَانِ قاهر في بُكْرَةَ اليوم صار تحت التُّرَابِ في آخر ذلك [اليوم].
الأمر الثالث: هَبْ أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا إلاَّ أنه لا يَدْرِي هل يمكنه الانْتَفَاعُ بما جمعه من الأموال والطيبات واللَّذاتِ أم لا؟. أمَّا كل ما جمعه من السَّعادات، فإنه قَطْعاً أنه ينتفعُ به في الآخرة.
الأمر الرابع: هَبْ أنه ينتفع بتلك بها إلا أن انْتِفَاعَهُ بخيرات الدنيا لا يَخْلُو عن شَوَائِبِ المكروهات [والانتفاع بخيرات] الآخرة خالٍ [عن] شوائب المكروهات.
الأمر الخامس: هَبْ أنه ينتفع بتلك الأمْوَالِ والطيبات من غير شائبه إلا أن ذلك الانتفاع [مُنْقَرِضٌ] ذاهبٌ والمنافِعُ المُنَقَرِصَةُ تحزن الإنسان لمفارقتها، وكلما كانت تلك المَنَافِعُ أكمل وألَذّ، كانت [تلك] الأحزانُ الحاصلة عن انقراضها وانقطعها أقْوَى وأكمل.

فصل في المراد بقوله: «وللآخرة خير»


قال ابن عباس: المراد بالآخرة الجنَّة، وأنها خير لمن اتَّقَى الكُفْرِ والمعاصي.
وقال الحَسَنُ: المراد نفس دار الآخرة خَيْرٌ.
وقال الأصم: التمسُّكُ بِعَمَلِ الآخرة خير.
وقال آخرون: نعيم الآخرة خيْرٌ من نعيم الدنيا للذين يتَّقُون المعاصي والكبائر، فأمَّا الكَافِرُ والفَاسِق فلا [؛ لأن الدنيا] بالنسبة إليه خير من الآخرة لقوله عليه السلام: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ».
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾ قد تقدَّم الكلامُ في مِثْلِ هذه الهمزة الداخلة على «الفاء» وأختها «الواو» و «ثم».
وقرأ ابن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ونافع وحفص عن عاصم: «تَعْقِلُون» خطاباً لمن كان بحضرته - عليه السَّلام - وفي زمانه.
109
والباقون بياء الغَيْبَةِ ردَّاً على ما تقدَّمَ من الأسماء الغائبة، وحُذِفَ مفعول «تعقلون» للْعِلمِ به، أي: فلا تعقلون أنَّ الأمر كما ذكر فَتَزهَدُوا في الدنيا، أو أنها خَيْرٌ من الدنيا.
110
قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ﴾ «قد» هنا حرف تَحْقِيقٍ.
وقال الزمخشري والتبريزي: «قد نعلم» بمعنى رُبَّمَا التي تجيء لزيادة الفِعْلِ وكثرته، نحو قوله: [الطويل]
٢١٤٨ -..................... [وَلَكِنَّهُ] قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلهُهْ
قال أبو حيَّان: وهذا القول غَيْرُ مَشْهورٍ للنحاة، وإن قال به بعضهم مُسْتَدِلاً بقول [القائل] :[البسيط]
٢١٤٩ - قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ كَأنَّ أثْوَابَهُ مُجَّتُ بِفِرْصَادٍ
وقال الآخر في ذلك: [الطويل]
٢١٥٠ - أخِي ثِقَةٍ لا تُتْلِفُ الخَمْرُ مَالَهُ ولَكنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ
والذي يظهر أن التكثير لا يفهم من «قد»، وإنما فهم من سياق الكلام؛ إذ التمدُّح بقتل قرن واحد غيرُ طائل، وعلى تقدير ذلك فو متعذّر في الآية؛ لآن علمه - تبارك وتعالى - لا يَقْبَلُ التكثير.
قال شهابُ الدين: قَدْ يُحَابُ عنه بأن التكثير في متعلِّقات العِلْمِ لا في العِلْمِ، [ثم قال] : وقوله بمعنى «رُبَّمَا» التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهور أنَّ «رُبَّ» للتقليل لا للتَّكْثير، وزيادةُ «ما» عليها لا يخرجها عن ذلك بل هي مُهيِّئةٌ لدخولها على الفعِل، و «ما» المهيِّئةُ لا تزيل الكَلِمَة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل «
110
لَعَلَّ»، عن الترجي، ولا «كأنَّ» عن التشبيه، ولا «ليت» عن التمني.
وقال ابن مالك: «قد» ك «رُبَّمَا» في التقليل والصَّرفِ إلى معنى المضيّ، وتكون في حينئذٍ للتَّحقيق والتوكيد، نحو ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] ﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله﴾ [الصف: ٥].
وقوله: [الطويل]
٢١٥١ - وَقَدْ تُدْرَكُ الإنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ وَلَوْ كَاننَ تَحْتَ الأرْضِ سِبْعينَ وَادِيَا
وقد تخلو من التَّقليل، وهي صَارِفَةٌ لمعنى المُضِيَّ، نحو قوله: ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ [البقرة: ١٤٤].
وقال مكي: و «قد» هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء، وإيجابه، وتصديقه، و «نَعْلَمُ» بمعنى عَلِمْنَا.
وقد تقدم الكملام في هذه الحروف وأنها مُتَردِّدَةٌ بين الحَرْفيَّةِ والاسميَّةِ.
وقال أبو حيَّان: هُنَا «قَدْ» حرف تَوَقُّع إذا دخلت على مُسْتَقْبَلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلّم؛ كقولك: قد ينزل المَطَرُ شَهْر كذا، وإذا كان مَاضِياً وفَعْلَ حَالٍ بَمَعْنَى المضيّ كان التوقع عند السَّامِعِ.
وأمَّا المتكلِّم فهو مُوجب ما أخبر به، وعبَّر هنا بالمُضَارع إذ المُرادُ الاتِّصَافُ بالعِلْمِ واسْتِمْرَرُهُ، ولم يُلْحَظْ فيه الزمانُ كقولهم: «هو يُعْطِي ويَمْنَعُ».
«ليحزنك» سَادٌ مَسَدّ المفعولين، فإنها معلَّقَةٌ عن العمَل، وكُسِرَتْ لدخول «اللام» في حَيِّزهَا، وتقدَّم الكلامُ في «ليحزنك»، وأنه قُرِئَ بفتح الياءِ وضَمِّهَا من «حَزَنَهُ» و «أحْزَنَهُ» في آل عمران.
و «الَّذي يَقُولُون» فاعِلٌ، وعائدُهُ محذوفٌ، أي: الذي يَقُولونَهُ من نِسْبَتِهمْ له إلى ما لا يَليقُ به، والضَّميرُ في «إنه» ضمير الشَّأن والحديث والجُمْلَةُ بعدهُ خَبَرُهُ مُفَسِّرةٌ له، ولا يجوزُ في هذا المُضَارع أن يقدر باسم فاعلٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّر في قولك: «إن زيداً يقوم أبوه» لئلاَّ يلزمُ تفسيرُ ضمير الشأن بمفردٍ.
وقد تقدَّمَ أنه مَمْنوعٌ عند البصرييّنَ.

فصل في سبب نزول الآية


قال السُّدِّيِّ: التقى الأخْنَسُ بن شريق، وأبو جَهَل بن هشامٍ، فسأله الأخنس أبَا
111
جَهْلِ فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن مُحَمَّدٍ أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ها هنا أحَدٌ يسمعُ كلامك غيري؟.
فقال أبو جَهْلِ: والله إن محمَّداً لَصَادِقٌ، وما كذَب قَطّ، ولكن إذا ذَهّبَتْ بَنُو قُصَيَّ باللّوَاء والسٍّقاية والحِجَابَةِ والندْوةِ، والنُّبُوَّة، فماذا يكون لِسَائِرِ قريشٍ، فأنزر اللَّهُ هذه الآية.
وقال ناحيةُ بن كَعْبَ: قال أبو جَهْلِ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما نَتَّهِمُكَ ولا نُكذِّبُكَ، ولكنَّا نُكَذِّبُ الذي جئت به، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل: إنَّ الحارث بن عامر من قريشٍ قال: يا مُحَمَّدُ، والله إن اتَّبَعْنَالكَ نُتَخَطَّفُ من أرْضِنَا، فنحنُ لا نُؤمِنُ بك لهذا السَّببِ. واعلم أن فِرَقِ الكفار كانوا كثيرين، فمنهم من ينكر نُبُوَّتَهُ؛ لأنه ينكر أن يكون الرسولُ من البَشَرِ، وقد تقدَّمَ شُبْهَتُهُمْ، وأجابَ اللَّهُ عنها.
ومنهم من ينكر البَعْثَ، ويقول: إن محمَّداً يخبر بالحَشْرِ والنَّشْرِ بعد الموت، وذلك مُحَالٌ، فيطعن في رسالة محمَّدٍ من هذا الوَجْهِ، وقد ذكر الله شبههُمْ في هذه السُّورَةِ، وأجاب عَنْهَا.
ومنهم من كان يُشَافِهُهُ بالسَّفَاهَةِ وهُوَ المذكورُ في هذه الآية.
واختلفوا في ذلك المُخْزِنِ.
فقيل: كانوا يَقُولوُنَ: ساحرٌ، وشاعرٌ، كاهن، ومجنون وهو قول الحسن.
وقيل: كانوا يُصَرِّحُونَ بأنهم لا يؤمنون به.
وقيل: كانوا ينسبونه إلى الكذبِ.
112
قوله: «فإنهم لا يكذبُونَكَ».
قرأ نافع، والكسائي «لا يكذبونك» مُخَفَّفاً من «أكْذّب».
والباقون مثقَّلاً من «كذَّبَ» وهي قراءة عَلِيَّ، وابن عبَّاسٍ.
واختلق الناسُ في ذلك، فقيل: هُمَا بمعنَى واحدٍ، مثل: أكثر وكَثَّرَ وأنْزَلَ ونزَّلَ، وقيل: بينهما فَرْقٌ.
قال الكسائي: العَرَبُ تقول: كَذّبت الرجل بالتَّشْديدي إذا نُسِبَ الكذب إليه، وأكذبته إذا نِسَبْتَ الكذب إلى ما جَاءَ دُونَ أن تَنْسِبَهُ إليه، ويقولون أيضاً: أكذبت الرَّجُلَ إذا وجدته كَاذِباً، ك «أحْمَدْتُهُ» إذا وجدته محمُوداً، فَمَعْنِى لا يُكذبونك مُخَفَّفاً: لا يَنْسِبُون الكَذِبَ إلَيْكَ ولا يجدونك كاذباً وهو واضحٌ.
وأمَّا التَّشديد فيكون خبراً مَحْضاً عن عدم تكذيبهم ضَرْورَةً.
فالجوابُ من وُجُوه:
الأول: أنَّ وإن كان مَنْسُوباً إلى جميعهم أعْنِي عدم التكذيب، فهو إنما يُرَادُ بعضهم مجازاً، كقولك: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥] ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾ [الشعراء: ١٦٠] وإن كان فيهم من لم يكذبه، فهو عامُّ يرادُ به الخَاصُّ.
والثاني: أنه نفي للتكذيب لانْتَِفَاءِ ما يَتَرَتَّبُ عليه من المَضَارِّ، فكأنه قيل: فإنهم لا يكذبونك تكذيباً يُبَالَى به ويضرك؛ لأنك لِسْتَ بكاذبٍ، فتكذيبُهُمْ كلا تَكْذِيبٍ، فهو من نَفْيِ السَّبَبِ لانتفاء مسببه.
وقال الزمخشري: والمعنى أن تكذيبك أمْرٌ راجع إلى اللَّه تعالى؛ لأنك رسُولُهُ المصدَّق، فهم لا يكذبونك في الحقيقةِ، إنَّما يكذِّبون اللَّهَ بجحود آياته، فانْتَهِ عن حُزْنِكَ، كقول السَّيَّدِ لُغلامِهِ وقد أهَانَهُ بعض الناسِ لم يُهينوك وإنما أهَلانُونِي، فهو نظير قوله: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
الثالث: أن القوم ما كانوا يُكذِّبُون به في السِّرِّ كما تقدَّمَ في سبب النزول، فيكون تقدير الآية: فإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بقلوبهم، بل بظاهر قولهم.
113
ونظيره: قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤] في قصة موسى عليه الصلاة وا لسلام.
الرابع: أنهم لا يقولون: أنْتَ كَذَّابٌ؛ لأنهم جَرَّبُوكَ الدَّهْرَ الطويل وما وَجدُوا منك كذباً ألْبَتَّهَ، وسَمَوْك بالأمين، وإنما جَحَدُوا صِحِّةَ نُبُوَّتك؛ لأنهم اعْتَقَدُوا أنَّ محمَّداً عرض له نوع خَبَلٍ ونُقْصَانٍ، فلأجله تَخَيَّلَ في نفسه كونه رَسُولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلأى الكذبِ، بل هو أمينٌ في كُلِّ الأمورِ إلاَّ في هذا الوجهِ الواحد.
الخامس: قال ابن الخطيب: المرادُ أنَّهُمْ لا يخصُّونك بالتكذييب، بل ينكرُون دلالةَ المعجزة الظَّاهرة على الصدق مطلقاً لقوله: «ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون».
والمُرَادُ أنهم يقولون في كُلِّ معجزةِ: إنها سِحْرٌ، فالتقدير: أنهم لا يكذٍّبونك على التِّعيين، بل القَوْمُ يُكذِّبون جَمِيعَ الأنبياء والرُّسُلِ.
قوله: «بآيات اللَّهِ» يجوز في هذا الجَارِّ وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعَلِّقٌ ب «يجحدونَ» وهو الظِّاهر، وجوَّز أبُو البقاء أن يتعلق ب «الظَّالمين» قال: كقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإسراء: ٥٩] وهذا الذي قال لي يجيِّدٍ لأن «الباء» هناك سَبَبِيَّةٌ، أي: ظلموا بسببها، و «الباء» هنا معناها التعدية، وهنا شيء يتعلَّق به تعلُّقاً واضحاً، فلا ضَرُورَةَ تَدْعُوا إلى الخروج عَنْهُ، وفي هذه الآية إقامةُ الظاهر مُقَامَ المضمر، إذا الأصل: «ولكنهم يَجْدُونَ بآياتِ الله»، ولكنَّهُ نَبَّهَ على أن الظلم هو الحامل لهم على الجُحُودِ.
والجحود والجَحْدُ نفي ما في القَلْبِ ثَبَاُهُ، وأو إثْبَاتُ ما في القلبِ نَفْيُهُ.
وقيل: الجَحْدُ إنْكَارُ المعرفةِ، فليس مُرَادفاً للنفي من كُلِّ وجهٍ.
114
لما أزال الحُزْنَ عن قَلْبِ رسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الآية الأولى بأن بَيَّنَ أن تكذيبهم يَجْريِ مجرى تكذيب الله - تعالى ذكر في هذه الآية طريقاً آخر في إزالةِ الحُزْنِ عن قلبه وذلك بأنْ بَيَّنَ أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثلِ هذه المعاملة، وأن أولئك صَبَرُوا على تكذيبهم وإيذائهم حتى آتاهم الله النَّصْرَ والفَتْحَ والظَّفر، فوجب أن يقتدي بهم في هذه الطريقة.
قوله: «من قبلك» متعلّق ب «كَذَّبت».
ومنع أبو البقاء يكون صفة ل «رسل» ؛ لأنه زَمَانٌ، والزَّمَانُ لا تُوصَفُ به
114
الجُثَثُ، وقد تقدَّم البَحْثُ في ذلك في «البقرة»، وهنا عند قوله: ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً﴾ [الأنعام: ٦].
قوله: «وأوذُوا» يجوز فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه عَطْفٌ على قوله: «كُذِّبَتْ» أي: كُذِّبت الرُّسُولُ، فصربروا على ذلك.
والثاني: أنه مَعْطُوفٌ على «صَبَرُوا» أي: فَصَبَرُوا وأوذوا.
والثالث، وهو بَعِيدٌ: أن يكون مَعْطُوفاً على «كُذِّبوا»، فيكون دَاخِلاً في صلة الحرف المَصْدَرِيّ، والتَّقْدِير فيه: فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم.
والرابع: أن يكون مُسْتَأنفاً.
قال أبو البقاء: «ويجوز أن كون الوَقْفُ ثَمَّ على قوله:» كُذِّبوا «، ثم استأنف فقال: وأوذُوا».
وقرأ الجُمْهُور: «وأوذُوا» بواو بعد الهمزة؛ [من «آذى» «يؤذي» رباعياً.
وقرأ ابن عامر في رواية شاذّةِ: «وأذُوا» من غير واو بعد الهمزة] وهو من «أذَيْتُ» الرجل ثلاثياً لا من «آذيت» رباعياً.
قوله: ﴿حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ الظَّاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله: «فصبروا»، أي: كان غَايَةُ صَبْرِهمْ نَصْرَ الله إياهم، وإن جَعَلْنَا «وأوذُوا» عَطْفاً عليه غَايَةٌ لهما؛ وهو أوضح وإن جعلناه مُسْتَأنَفاً كانت غَايَةً له فقط، وإن جعلناه معطوفاً على «كَذَّبت» فتكون الغايةُ للثلاثة، و «النصر» مُضَافاً لفاعله ومفعوله مَحْذُوفٌ، أي: نَصْرُنَا أتَاهم، وفيه التِفَاتٌ من ضمير الغَيْبَةِ إلى ضمير المتكلِّم، إذ قَبْله «بآيات الله»، فلو جاء على ذلك لقيل «نصره».
وفائدة الالتِفَاتِ إسْنَادُ النصر إلى ضمير المتكلّم المشعر بالعظمة.
قوله: «ولا مُبَدِّل لِكلمَاتِ اللَّهِ» يعني أن وَعْدَ الله إيَّاك بالنصر حَقٌ وصدقٌ لا يمكن تَطَرُّقٌ الخُلْفِ والتبديل إليه، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ [الصافات: ١٧١، ١٧٢] وقوله: ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنّ﴾ [المجادبة: ٢١] وهذه الآية تَدُلُّ على قول أهل السُّنَةِ في خَلْقِ الأفعال؛ لأن كل كا أخبر الله عن وُقُوعِهِ، فذلك الخبرُ مُمْتَنِعُ التغيير، وإذا امتنع تَطَرُّقُ التغيير إلى ذلك الخبر امتنع [تطرق التغيير إلى المخبر عنه] فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يَمُوتُ على الكُفْرِ كان ترك الكفر منه مُحَالاً، فكان تَكْلِيفُهُ بالإيمان تَكْلِيفاً بما لا يُطَاقُ، واللَّهُ أعلمُ.
115
قوله: ﴿وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين﴾ أي: خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمَّرنا قومهم.
وفي فاعل «جاء» وجهان:
أحدهما: هو مُضْمرٌ، واختلفوا فيما يَعُودُ عليه هذا الضمير، فقال ابن عطية الصَّوابُ عندي أن يقدر «جلاء» أو بيان «.
وقال الرُّمَّاني: تقديره:»
نبأ «.
وقال أبو حيَّان:»
الذي يظهر لي أنَّهُ يعود على ما دلَّ عليه المعنى من الجملة السَّابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخَبَرُ من تكذيب أتْبَاع الرُّسُلِ للرُّسُلِ، والصَّبْر والإيذاء إلى أن نُصِرُوا «.
وعلى هذه الأقوال يكون»
من نبأ المرسلين «في مَحَلِّ نصب على الحال وعاملها هو» جاء «؛ لأنه عامل في صاحبها.
والثاني: أنَّ»
من نبأ «هو الفاعل. ذكر الفارسي، وهذا إنما يَتَمشَّى له على أري الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً، وهذا - كما رأيت - كلامٌ مُوجبٌ، والمجرور ب» مِنْ «معرفةٌ.
وضُعفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجئه كُلُّ نبأ للمرسلين؛ لقوله: ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨]، وزيادة»
مِنْ «تؤدِّي إلى أنه جاءه جميع الأنبياء؛ لأنه اسم جنس مُضَاف، والأمْرُ بخلافه. ولم يتعرّض الزمخشري للفاعل إلاَّ أنه قال:» ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أنبائهم وقصصهمْ «وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب؛ إذ» مِنْ «لا تكون فاعله، ولا يجوز أن يكون» من نبأ «صِفَةً لمخذوف هو الفاعل، أي: ولقد جاءكَ نبأ من نبأ المرسلين؛ لأن الفاعل لا يُحْذّفُ بحالٍ إلاَّ في مواضعَ ذُكِرَت، كذا قالوا.
قال أبو البقاء:»
ولا يجوز عند الجميع أن تكون «من» صفة لمحذوف، لأن الفاعل لا يُحْذَفُ، وحرف الجر إذا لم يكون زائداً لم يصحَّ أن يكون فاعلاً؛ لأن حرف الجر يُعَدّي كل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدِّ «.
يعني بقوله:»
لم يصح أن يكون فاعلاً «لم يصح أن يكون المجرور بذلك الحرف، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً ألْبَتَّةَ.
116
قوله: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ﴾ : هذا شَرْطٌ، جوابه «الفاء» الجاخلة على الشرط الثَّاني، وجواب الثَّاني محذوف، تقديره: فن استطعت أن تبتغي فافعل، ثم جُعِلَ الشَّرْطُ الثاني وجوابه جَواباَ للشَّرْط الأوَّل، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ﴾ [البقرة: ٣٨] إلاَّ أن جوابَ الثاني هناك مُظْهَرٌ.
و «كان» في اسمها وجهان:
أحدهما: أنه «إعراضهم»، و «كَبُرَ» جملةٌ فعلية في محل نصب خبراً مقدَّماً على الاسم، وهي مسألة خلاف: هل يجوزُ تقديمُ خبر «كان» على اسمها إذا كان فِعْلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟
وأمَّا إذا كان خبراً للمبتدأ، فلا يجوز ألْبَتَّةَ لئلاَّ يَلْتَبِسَ بباب الفاعل، والَّبْسُ هنا مَأمُونٌ.
ووَجْهُ المنع اسْتصْحَابُ الأصل، و «كَبُرَ» إذا قيل: إنه خبر «كان»، فهل يحتاج إلى إضمار «قَدْ» أم لا؟
والظاهر أنه لا يَحْتَاجُ؛ لأنه كَثُرَ وُقُوعُ الماضي خبراً لها من غير «قد» نَظْماً ونَثْراً، وبعضهم يخص ذلك ب «كان» ويمنعه في غيرها من أخوتها إلا ب «قد» ظَاهِرَةً أو مُضْمَرَةً، ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قَوْلُ النابغة: [البسيط]
٢١٢٥ - أمْسَتْ خَلاءً وأمْسَى أهْلُهَا احْتَمَلُوا أخْنَى عَلَيْهَا الَّذِي أخْنَى عَلَى لُبَدِ
والثاني: أن يكون اسمها ضمير الأمر والشأن، والجملة الفعلية مُفَسِّرٌ له في مَحَلِّ نصب على الخبر، فإعراضُهُمْ مرفوعٌ ب «كَبُر»، وفي الوجه الأول ب «كان»، ولا ضمير في «كَبُرَ» على الثاني، وفيه ضميرعلى الأول، ومثل ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا﴾ [الجن: ٤]، ف «فرعون» يحتمل أن يكون اسْماً، وأن يكون فاعلاً، وكذلك «سَفِيهُنَا»، ومثله أيضاً قولُ امرئ القيس: [الطويل]
٢١٥٣ - وإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
ف «خليقة» يحتمل الأمرين، وإظهار «قد» هنا يُرَجِّحُ قول من يشترطها، وهل يجوز
117
في مثل هذا التركيب التَّنَازعُ، وذلك أن كُلاًّ من «كان» وما بعدهام من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلة يطلب المَرْفُوعَ من جهة المعنى، وشروط الإعمال موجودة.
قال شهاب الدين: وكنت قديماً سألت الشيخ - يعني أبا حيَّان - عن ذلك، فأجاب بالمَنْعِ مُحْتَجّاً بأن شَرْطَ الإعمال ألاَّ يكون أحَدُ المُتنازِعَينِ مُفْتَقِراً إلى الآخر، وألاَّ يكون من تمام معناه و «كان» مُفْتَقِرةٌ إلى خبرها، وهو من تمام معناها، وهذا الذي ذكره من المَنْعِ، وترجيحه ظَاهِرٌ، إلاَّ أن النحويين لم يذكروه في شروطِ الإعمال.
وقوله: «وإن كان كَبُرَ» مُؤوَّلٌ بالاسْتِقْبَالِ، وهو التَّبَيُّنُ والظهور فهو كقوله: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦] أي: إن تَبَيَّنَ وَظَهَر، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قَدْ وَقَعَتْ وانقضت فكيف تَقَعُ شرطاً؟
وقد تقدَّم أنَّ المُبَرِّدَ يُبْقي «كان» خَاصَّةً على مُضِيِّهَا في المعنى مع أدوات الشِّرْطِ، وليس بشيء.
وأمَّا: «فإن استطعت» فهو مستقبل معنى؛ لأنه لم يَقَعْ، بخلاف كونه «كَبُرَ عليه إعراضهم»، وقدِّ القَمِيص، و «أن تبتغي» مفعول الاسْتِطَاعَةِ.
و «نفقاً» مفعول الابْتِغَاءِ.
والنَّقَقُ: السَّرَبُ النَّافِدُ في الأرض، وأصله من جحرة اليَرْبُوع، ومنه: النَّافِقَاءُ، والقَاصِعَاءُ، وذلك أن اليربوع يَحْفُرُ في الأرض سَرَباً ويجعل له بَابَيْنِ، وقيل: ثلاثة: النَّافِقَاءُ، والقَاصِعَاءُ والدَّبِقَاءُ، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض، فإذا نَابَهُ أمْرٌ دفع تلك القِشْرَةٌ الرقيقة وخرج، وقد تقدَّم اسْتِيفَاءُ هذه المادَّةِ عند قوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣]، و ﴿المنافقين﴾ [النساء: ٦١].
وقوله «في الأرض» ظاهرة أنه متعلقٌ بالفعل قَبْلَهُ، ويجوز أن يكون صِفَةً ل «نَفَقاً» فيتعلق بمحذوفٍ وهُوَ صِفَةٌ لمجرَّد التوكيد، إذ النَّفَق لا يكون إلاَّ في الأرض.
وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكون حالاً من فاعل «تبتغي»، أي: وأنت في الأرض. قال وكذلك في السماء. ويعني من جواز الأوجه الثلاثة، وهذا الوَجْهُ الثالث ينبغي ألاَّ يجوز لِخُلُوِّهِ عن الفائدة.
والسُّلَّمُ: قيل المِصْعَدُ، وقيل: الدَّرَجُ، وقيل: السَّبَبُ تقول العرب: أتَّخِدْني سُلَّماً لحاجتك، أي: سبباً.
قال كعب بن زهير: [الطويل]
118
٢١٥٤ - وَلاَ لَكُمَا مَنْجًى مِن الأرْضِ فَابْغِيَا بِهَا نَفَقاً أوْ السَّمواتِ سُلَّما
وهو مُشْتَقٌ من السَّلامة، قالوا: لأنه يسلم به إلى المصعد والسُّلَّم مُذَكَّرٍ، وحكى الفرَّاء تأنيثه.
قال بعضهم: ليس ذلك بالوَضْعِ، بل لأنه بمعنى المَرْقَاة، كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله: [البسيط]
٢١٥٥ -......................... سَائِلْ بَنِي أسَدٍ مَا هَذِهِ الصًّوْتُ
لمَّا كان في معنى الصَّرْخة.

فصل في نزول الآية


روى ابن عباس أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مَنَافٍ أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مَحْضَرٍ من قريش، فقالوا: يا محمد أئْتَنَا بآية من عند الله، كما كانت الآنبياء تفعل فإنا نصدق بك، فأبى أن يأتيهم بآية من عند الله، كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك، فأبى الله أن يأتيهم بآية، فأعرضوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَشَقَّ ذلك عليه، فنزلت هذه الآ ية.
والمعنى: وإن عَظُمَ عليك إعْرَاضُهُمْ عن الإيمان وشَقَّ ذلك عليك. وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يَحْرصُ على إيمان قومه أشَدَّ الحرص وكانوا إذا سألوا ىيَةً أحَبَّ أن يريهم اللَّهُ ذلك طَمَعاً في إيمانهم، فقال الله عزَّ وجلَّ: «فإن استطعت أن تبتغي» أي: تطلب وتتَّخِذَ نَفَقاً - سَرَباً - في الأرض فتذهب فيه، أو سُلَّماً دَرَجاً ومِصْعَداً في السماء فَتَصْعَدَ فيه فتأتيهم بآية فافعل، ولو شاء الله لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى فآمنوا كلهم، وهذا يَدُلُّ على أنه - تعالى - لا يريد الإيمان من الكافر، بل يريد إبقاءه على الكُفْرِ، وتقريره: أن قُدْرَةَ الكافر على الكُفْرِ إمَّا أن تكون صَالِحَةً للإيمان، أو غير صاحلة له، فإن لم تكن صَالِحَةً له، فإن لم تكن صَالِحَةً له فالقُدْرةُ على الكُفْرِ مُسْتَلْزِمةٌ للكفر وغير صالحة للإيمان، وخالق هذه القُدْرَةِ يكون قد أرادَ الكُفْرِ منه لا مَحَالَة، وأما إن كانت هذه القُدْرةُ كما أنها صاحلةٌ للكُفْرِ، فهي أيضاً صالحة للإيمان، فيكون نسبة القُدْرة إلى الطَّرفين مستويةً، فيمتنع رُجْحَانُ أحد
119
الطَّرَفَيْنِ على الآخر إلاّ لِدَاعِيةٍ مرجّحة، وحصول تلك الدَّاعية ليس من العبد، وإلاّ لزم التَّسَلْسُلُ، فثبت أن خالق تلك الدَّاعيةِ هو الله تعالى، وثبت أن مَجْمُوعَ القدرة مع الداية الخالصة ويجب الفِعْلَ، فثبت أن خالقَ مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مُريدٍ لذلك الإيمان.
قوله: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين﴾
نهي له عن هذه الحالة وهو قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى﴾ فإنَّ من يكفر لسابق علم الله فيه، وهذا النَّهْيُ لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كقوله: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ [الأحزاب: ١] لا يَدُلُّ على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أطاعهم وقَبِلَ دِينَهُمْ، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تَحَسُّرُكَ على تكذيبتهم، ولا تَجْزَع من إعراضهم عنك، إنَّك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل، والمقصُودُ تبعيده عن مثل هذه الحالة.
أعلم
أنَّه
بَيَّنَ
السَّبَبَ في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان، ولا يتركون الكفر فقال: «إنما يستجيب الذين يسمعون»، يعني: أن الذين تحرص على أن يُصَدِّقُوكَ بمنزلة المَوْتَى الذين لا يسمعون، وإنّما يستجيب من يَسْمَعُ كقوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ [النمل: ٨٠].
وقال عَلِيُّ بن عيسى: الفَرْقُ بين «يستجيب» و «يجيب» أن «يستجيب» فيه قَبُولٌ لما دُعِيَ إليه، وليس كذلك «يجيب» ؛ لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل: أتُوَافِقُ في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب: أخالف.
قوله: ﴿والموتى يَبْعَثُهُمُ الله﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيقَتْ للإخبار بقُدْرتِهِ، وأنَّ من قدرَ على بَغْثِ الموتى يقدر على إحياء قلوب الكَفَرةِ بالإيمان، فلا تَتَأسَّفْ على من كفر.
والثاني: أن المَوْتى مَنْصُوبٌ بفعلٍ مُضْمَر يُفَسِّرُهُ الظَّاهر بعده، ورجح هذا الوحه على الرَّفع بالابتداء لطعف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، فهو نظير: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الإنسان: ٣١] بعد قوله: ﴿يُدْخِلُ﴾ [الإنسان: ٣١].
والثالث: أنَّهُ مرفوع على الموصول قبله، والمراد ب «الموتى» الكفَّار أي: إما يستجيب المؤمنون السَّامِعُون من أوَّل وَهْلَةٍ، والكافرون الذين يجيبهم الله - تعالى - بالإيمان ويوفقهم له، فالكافرون يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وحينئذٍ يسمعون، وأمّا قبل ذلك فلا يسمعون ألْبَتَّةَ، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله: ﴿يَبْعَثُهُمُ الله﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ
120
على الحال، إلاّ أنْ هذا القول يبعده قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾، إلا أن يكون من ترشيح المجاز، وقد تقدَّم له نظائرُ.
وقرئ «يَرْجِعُونَ» من «رجع» الاَّزم.
اعلم أن الجَسَدَ الخالي [عن] الرُّوح يظهر منه النَّتنُ والصَّديدُ، وأصْلحُ أحْوَالِهِ أن يُدْفَنَ تحت التُّرَاب، والرُّوحُ الخاليَةُ عن العَقْلِ يكون صاحبها مَجْنُوناً يستوجب القَيْدَ والحَبْسَ، والعَقْلُ بالنسبة إلى الرُّوح كالرُّوحِ بالنسبة إلى الجَسَدِ، والعَقْلُ بدُونِ معرفة الله وطَاعَتِهِ كالضَّائِعِ الباطل، فِنِسْبَةُ التوحيد والمَعْرِفَةِ إلى العَقْلِ كنسبة العَقْلِ إلى الرُّوح، ونسبة الروح إلى الجِسَدِ؛ فمعرفة الله وَمَحَبَّتُهُ هي رُوحُ الرُّوح، فالنَّفْسُ الخالِيَةُ عن هذه المعرفة تكون كَصِفةِ الأموات، فلهذا السَّبَب وُصِفَ الكُفَّارُ بأنهم مَوْتَى.
121
وهذا من شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنهم قالوا: لو كان رَسُولاً من عند الله فَهَلاَّ أنْزِلَ عليه آيَةٌ قَاهِرةٌ.
روي أنَّ بعض المُلْحِدَةِ طعن فقال: لو كان مُحَمَّدٌ قد أُوتِيَ بآية مُعْجِزَةِ لما صَحَّ أن يقول أولئك الكُفَّار: لولا نُزِّل عليه آيَةٌ، ولما قال: «قُلْ إنَّ الله قادر على أن ينزل آية»
والجواب أن القرآن مُعْجِزَةٌ قاهرة وبَيِّنَةٌ باهرة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تَحَدَّاهُمْ به فَعَجَزُوا عن مُعَارضَتِهِ، فَدَّلَ على كونه مُعْجزاً.
فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف قالوا: «لولا أُنْزِلَ عليه آية من ربّه».
فالجواب من وجوه:
الأول: لَعَلَّ القوم طَعَنُوا في كَوْنِ القرآن مُعْجِزَةً على سبيل اللِّجَاجِ والعِنَادِ، وقالوا: إنه من جِنْسِ الكتب، والكتاب لا يكون من جِنْسِ المُعْجِزَاتِ كالتَّوْرَاةِ والإنجيل والزَّبُورِ، فلأحل هذه الشُّبْهَةِ طلبوا المُعْجِزَةَ.
الثاني: أنهم طلبوا مُعْجِزَاتٍ [قاهرة] من جِنْسِ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الأنبياء مثل «فلق البحر» و «إظْلال الجَبَل» و «إحْيَاء الموتى».
الثالث: أنهم طلبوا مَزيد الآياتِ على سبيل التَّعَنُّتِ واللِّجَاجِ مثل إنْزَالِ الملائكة، وإسْقاطِ المساء كِسَفاً.
الرابع: أن يكون المراد ما حَكَاهُ الله عن بعضهم في قوله: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
121
ثم إنّه - تعالى - أجابهم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَة﴾، أي: أنّه قادرٌ على إيجاد ما طَلَبْتُمُوهُ، وتحصيل ما اقْتَرَحْتُمُوهُ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
قوله: «من رَبِّه» فيها وجهان:
أحدهما: أنها متعلِّقة ب «نُزِّل».
والثاني: أنها متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنها صِفَةٌ ل «آية»، أي: آية [كائنة] من ربِّه.
وتقدَّم الكلامُ على «لَوْلاَ» وأنّها تَحْضِيضيَّةٌ.

فصل في المراد بالآية


معنى قوله تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: ما عليهم في إنزالها، واختلفوا في تفسيرها على وُجُوه:
أحدها: أن يكون المُرَادُ أنه - تعالى - لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة، وهي القرآن كان طلب الزيادة جارٍ التحكُّم والتَّعَنُّتِ الباطل، وهو أنه سبحانه له الحُكْمُ والأمر، فإن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل؛ لأن فَاعليَّتَهُ لا تكون إلا بحسب محض المَشِيئةِ على قول أهل السُّنَّة، أو على وفقِ المصْلَحَةِ على قوله المعتزلة، وعلى التقديرين فإنها لا تكون على وفْقِ اقْتِرَاحاتِ الناس ومُطالبَاتِهِمْ، فإن شاء أجابهم إليها، وإن شاء لم يُجِبْهُمْ.
الثاني: أنه لمَّا طهرت المعجزة القاهرةُ، والدلالة الكافية لم يَبْقَ لم عُذْرٌ ولا عِلَّةٌ، فبعد ذلك لو أجَابَهُمُ الله - تعالى - إلى اقتراحهم فَلَعَلَّهُمْ يقترحون اقْتِرَاحاً ثانياًُ وثالثاً ورابعاً إلى ما لا نهاية له، وذلك يفضي إلى ألاَّ يَسْتَقِرَّ الدليل ولا تَتِم الحجة، فوجب سَدُّ هذا الباب في أوَّلِ الأمر والاكتفاء بما سَبَقَ من المعجزة القاهرة.
الثالث: أنّه - تعالى - لو أعطاهم ما طَلَبُوا من المُعْجِزَاتِ القاهرة فلو لم يؤمنوا عند ظُهُورهَا لا سْتَحَقُّوا عذاب الاسْتِئْصَالِ، فاقتضت رَحْمَتُهُ صَوْنَهُمْ عن هذا البلاءِ، فما أعطاهم هذا المطلوب رَحْمَةً منه - تعالى - لهم، وإن كانوا لا يعلمون كَيْفِيَّةَ هذه الرحمة.
الرابع: أنَّه - تعالى علم منهم أن طَلَبَهُمْ هذه المعجزات لآجْل العنادِ لا لطلب فائدةٍ، وعلم أنه - تعالى - لو أعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ لم يؤمنوا، فلهذا السبب ما أعطاهم؛ لأنه لا فائجة في ذلك.
122
قوله: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ﴾ :«من» زائدة لوجود الشرطين، وهي مبتدأ، و «إلاَّ أمم» خَبَرُهَا مع ما عطف عليها.
122
وقوله: «في الأرض» صفة ل «دابة»، فيجوز لك أن تجعلها في مَحَلِّ جرِّ باعتبار اللفظ، وأ، تجعلها في محل رفع باعتبار الموضع.
قوله: «ولا طائر» الجمهور على جرِّه نَسَقاً على لفظ «دابةٍ».
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ برفعها نَسَقاً على موضعها.
وقرأ ابن عبَّاس «ولا طيرٍ» من غير ألف، وقد تقدَّم الكلام فيه، هل هو جَمْعٌ أو اسم جمع؟
وقوله: «يطير» في قراءة الجمهور يَحْتَمِلُ أن يكون في مَحَلِّ جرّ باعتبار لَفْظِهِ، ويحتمل أن يكون في مَحَلِّ رفع باعتبار موضعه.
وأمّا على قراءة ابن أبي عَبْلَةَ، ففي مَحَلِّ رفع ليس إلاّ.
وفي قوله: «وَلاَ طَائر» ذكر خاصّ بعد عامِّ؛ لأن الدَّابَّةَ تشتمل على كُلِّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره، فهو كقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٨] وفيه نظرح إذ المُقَابَلَةُ هنا تنفي أن تكون الدَّابة تشمل الطائر.
قوله: «بِجِنَاحَيْهِ» فيه قولان:
أحدهما: أن «الباء» متعلّقة ب «يطير»، وتكون «الباء» للاسْتِعَانَةِ.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، وهي حالٌ مؤكّدة كما يقال: «نظرت عيني»، وفيها رفع مجازٍ يُتَوَهَّمُ؛ لأن الطَّيرانَ يُسْتَعَارُ في السرعة قال: [البسيط]
٢١٥٦ - قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْةِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ ووُحْدَانَا
ويطلق الطَّيْرُ على العمل، قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣].
وقوله: «إلاّ أمم» خَبَرُ المبتدأ، وجُمِعَ وإن لم يتقدَّمهُ إلاَّ شيئان؛ لأن المراد بهما الجِنْسُ.
و «أمثالكم» صفة ل «أمم»، يعني في الأرزاقِ والآجالِ، والموت والحياة، والحشر والنشر والاقتصاص لمظلومها من طالمها.
وقيل: في معرفة الله وعبادته.
123
وقال مُجاهد: أصْنَافٌ مصنّفةٌ تُعْرَفُ بأسمائها، يريد أن كلّ جنسٍ من الحيوان أمَّةٌ: فالطير أمَّة، والدَّواوبُّ والسِّبَاع أمة تعرف بأسمائها مثل بَنِي آدَمَ يُعْرَفُون بأسمائهم، يقال: الإنس والناس، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أمَّةٌ من الأمَم لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فاقْتُلُوا مِنْهَا أسْوَدَ بهيمٍ».
وقيل: أمثالكم يَفْقَهُ بعضهم عن بعض.

فصل في وجه النظم


وجه النظم أنه - تعالى - بَيَّنَ في الآية أنَّه لو كان إنْزَالُ سائر المعجزات مَصْلَحَةً لهم لفعلها إلاَّ أنه لمَّا لم يَكُنْ إظهارها مَصْلَحَةً للمكلَّفين لم يظهرها، وهذا الجوابُ إنما يَتِمُّ إذا ثبت أنه تعالى يُرَاعي مصالحض المكلَّفين، ويَتفضَّلُ عليهم بذلك، فبيَّن ذلك وقرَّره بأن قال: «وما مِنْ دَابَّةٍ في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» في وصول فَضْلِ الله - تعالى وعنايتِهِ واصِلَةً إلى جميع الحيواناتِ، فلو كان إظهار هذه المُعْجِزَاتِ مَصْلَحةً للمكلفين لفعلها ولم يَبْخَلْ بها؛ لأنه لم يَبْخَلْ على شيءٍ من الحيوانات بمَصَالِحهَا ومَنَافعِهَا؛ يَدُلُّ ذلك على أنَّه - تعالى - لم يظهر تلك المعجزات؛ لأن إظهار يُخِلُّ بمصالح المكلّفين.
وقال القاضي: إنّه - تعالى - لمّا قَدَّمَ ذكر الكُفَّار وبيَّن أنهم يرجعون إلى الله، ويحشرون - بيَّن أيضاً بعدهُ - بقوله: «وما من دابَّة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» - في أنهم يحشرون، والمقصود بيان أن الحَشْرَ والبَعْثَ كما هو حَاصِلٌ في حقكم، كذلك هو حاصل في حق البَهَائِمِ.

فصل في أسئلة على الآية والإجابة عنها


حصر الحيوان في هاتين الصفتين، وهما: إمَّا أن يَدبّ، وإمّا أن يطير.
وفي الآيات سُؤالاتٌ:
124
الأول: من الحيوانات ما لا يَدْخُلُ في هذيْنِ القِسْمَيْنِ مثل حيتانِ البَحْرِ، وسائر ما يَسْبَحُ في الماءِ، ويعيش فيه.
والجواب لا بعد أنْ يُوضَفَ بأنها دَابَّةٌ، من حيث إنها تَدبُّ في الماء؛ لأن سَبْحَهَا في الماء كَسَبْحِ الطير في الهواءِ، إلا أن وَصْفَهَا بالدَّبِّ أقرب إلى اللُّغَةِ من وصفها بالطيران.
السؤال الثاني: ما الفَائِدَةُ في تقييد الدَّابَّةِ بكونها في الأرض؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّه خَصَّ ما في الأرض بالذِّكْرِ دون ما في السماء احْتِجَاجاً بالأظْهَرِ؛ لأن ما في السماء وإن كان مَخْلُوقاً مثلنا فغير ظَاهِرٍ.
والثاني: أن المقصود من ذِكْرِ هذا الكلام أن عناية الله لمَّا كانت حَاصِلَةً في هذه الحيوانات، فلو كان إظهارُ المعجزات القاهِرَةِ مَصْلَحَةً لما منع الله من إظهارها، وهذا المقْصُودُ إنما يَتِمُّ بذِكُرِ من كان أدْوَنَ مرتبة من الإنسان، لا بِذِكْرِ من كان أعْلَى حالاً منه، فلهذا المعنى قَيَّد الدَّابَّة بكونها في الأرض.
السؤال الثالث: ما الفائدة ف قوله: «يطير بجَنَاحَيْهِ» مع أن كل طائر فإنما يطير بجناحيه؟
والجواب: ما تقدَّم من ذِكْرِ التوكيد أو رفع تَوَهُّمِ المجازِ.
وقيل: إنه - تعالى [قال] في صفة الملائكة ﴿رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ [فاطر: ١]، فذكر [هاهنا] قوله: «بِجَنَاحَيْهِ» ليخرج عنه الملائكة، لِمَا بينَّا أن المقصود من هذا لاكلامِ إنما يَتمُّ بذكر من كان أدْوَنَ حالاً من الإنسان لا بِذِكًرِ من كان أعْلَى منه.
السؤال الرابع: كيف قال: «إلاَّ أممٌ» مع إفراد الدَّابَّةِ والطائر؟
والجواب: ما تقدَّم من إرادةِ الجِنْسِ.
قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء﴾ : في المراد ب «الكتاب» قولان:
الأول: المُرَاد به اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ»
وعلى هذا فالعموم ظاهرٌ، لأن الله - تعالى - أثْبَتَ ما كان وما يكون فيه.
والثاني: المراد به القرآن؛ لأنَّ الألف واللام إذا دخلا على الاسم المُفْرَدِ انْصَرَفَ إلى المفهوم السَّابق، وهو في هذه الآية القرآن.
125
وعلى هذا فهل العُمُومُ بَاقٍ؟ منهم من قال: نعم إن جميع الأشياء مُثْبَتَةٌ في القرآن إمَّا بالصريح، وإمَّا بالإيمَاءِ.
فإن قيل: كيف قال الله تعالى: «ما فرّطنا في الكتاب من شيء» مع أنه ليس فيه تَفَاصيل علم الطب وعلم الحِسَاب، ولا تَفَاصِيلُ كثيرٍ من المباحثِ والعلوم، ولا تفاصيل مذاهبِ النَّاسِ، ودلائلهم في علم الأصولِ والفروع؟
والجواب أن قوله «ما فرطنا في الكتاب من شيء» يجب أن يكون مَخْصُوصاً ببيانِ الأشياءِ التي يجب مَعْرَفَتُهَا والإحَاطَةُ بها، واعلم أن علم الأصُول مَوْجُودٌ بتمامه في القرآن على أبْلَغِ الوجوه، وأما تفاصِلُ الأقاويل والمذاهب، فلا حاجة إليها.
وأمّا تفاصيل الفروع فالعُلَمَاءُ قالوا: إن القرآن دَلَّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّةٌ في الشريعة، وإذا كان كذلك فَكُلُّ ما دَلَّ عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن قال تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «عِلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي».
وروي أن ابن مِسْعُودٍ كان يقول: «مَا لِي لاَ ألْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» يعني: الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، والوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، وري أنَّ امرأة قرأت جميع القرآن ثم أتَتْهُ فقالت: يا ابن أمّ عَبْدٍ، تَلَوْتُ البارحة ما بين الدَّفَّتيْنِ، فلم أحد فيه لَعْنَ الواشمة، والمستوشمة، فقال: لو تَلَوْتيه لوجدْتيهِ، قال تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧]، وإن مما أتانا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ».
وقال ابن الخطيب: يمكن وجدانُ هذا المعنى في كتاب الله في قوله تعالى في سورة «النساء» حين عَدَّدَ قبائح الشيطان قال: ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ [النساء: ١١٩] فَظَاهِرُ هذه الآية يقتضي أن تغيير الخَلْقِ يوجب اللَّعْنَ.
126
وذكر الواحدي أن الشَّافعي جلس ف يالمسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شَيْءٍ إلاّ أجبتكم فيه من كتاب الله، فقال رجل: ما تقول في المُحْرِمِ إذا قتل الزَّنْبُورَ؟، فقال: لا شَيْءَ عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟، فقال: قال الله تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧]، ثم ذكر سَنَداً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي» ثم ذكر إسْنَاداً إلى عُمَرَ أنه قال: «لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزَّنْبُورِ».
قال الواحديُّ: فأجابه من كتاب الله مُسْتنبطاً بثلاث درجات، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث العسيفِ:
«والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ» ثم قضى بالجَلْدِ والتَّغْرِيبِ على العسيفِ، وبالرجم على المَرْأةِ إذا اعترافت.
قال الواحدي: وليس لِلْجَلْدِ والتَّغْريبِ ذكرٌ في نَصِّ الكتاب، وهذا يَدُلُّ على
127
أن ما جاءكم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو عَيْنُ كتاب الله. قال تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، وعند هذا يَصِحُّ قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء﴾ والله أعلم.
وقال بعضهم: إن هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ، والمعنى ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ.
128
قوله: «من شيءٍ» فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدهما: أن «مِنْ» زائدة في المفعول به، والتقدير: ما فرَّطْنا شَيْئاً، وتضمن «فرطنا» معنى تركنا وأغفَلْنَا، والمعنى ما أغفلنا، ولا تركنا شيئاً.
والثاني: أن «مِنْ» تَبْعيضيَّةٌ، أي: ما تركنا ولا أغْفَلْنَا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المُكَلِّفُ.
الثالث: أن «من شيء» في مَحَلِّ نصب على المصدرِ، و «من» زائدة فيه أيضاً.
ولم يُجزْ أبو البقاء غيره، فإنه قال: «من» زائدة، و «شيء» هنا واقع موقع المصدرِ، أي تفريطاً.
وعلى هذا التَّأويل لا يبقى في الآيو حُجَّةٌ لمن ظنَّ أن الكتاب يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صَريحاً، ونظير ذلك: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ [آل عمران: ١٢٠].
ولا يجوز أن يكون ب «في»، فلا يتعدَّى بحرف آخر، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء؛ لأن المَعْنَى على خلافه، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى.
قوله: «يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صريحاً» لم يقل به أحدٌ؛ لأنه مُكَابرةٌ في الضروريات.
وقرأ الأعرج وعلقمة: «فَرَطْنَا» مُخَفَّفاً، فقيل: هما بِمَعْنَى وعن النقاش: فَرَطنا: أخَّرْنا، كما قالوا: «فرط الله عنك المرض» أي: أزاله.
قوله: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون﴾ : قال ابن عبَّاسٍ، والضحاك: حشرها موتها.
وقال أبو هريرة: يحشر الله الخَلْقَ كلهم يوم القيامةِ الإنس والجن والبهائم والدَّوَابَّ والطير وكُلَّ شيء، فيأخذ للجمَّاءِ من القَرْنَاءِ، ثم يقول كوني تُراباً، فحينئذٍ يَتَمَنَّى الكافر ويقول: ﴿ياليتني كُنتُ تُرَابا﴾ [النبأ: ٤٠]، ويتأكد هذا بقوله: ﴿وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ﴾ [التكوير: ٥].
129
قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ مبتدأ، وما بعده الخبر.
129
ويجوز أن يكون «صمُّ» خبر مبتدأ محذوف، والجملة خَبَرُ الأوَّل، والتقدير: والذين كذَّبوا بعضهم صُمٌّ، وبعضهم بُكْمٌ.
وقال أبو البقاء: «صُمٌّ وبُكْمٌ» الخبر مثل: «حُلْوٌ حَامِضٌ»، والواو لا تمنع من ذلك «.
وهذا الذي قاله لا يجوز من وجهين:
أحدهما: أن ذلك إنما يكون إذا كان الخبرانِ في معنى خبر واحد، لأنهما في معنى:»
مُزّ «، وهو» أعْسَرُ يَسَرٌ «بمعنى» أضْبَط «، وأمَّا هذان الخبرانِ فكل منهما مستقلٌّ بالفائدة.
والثاني: أن»
الواو «لا تجوز في مثل هذا غلا عند أبي عَلِيَّ الفارسي وهو وجه ضعيف.
والمراد بالآيات، قيل: جميع الدَّلائل والحججِ.
وقيل: القرآن ومحمد عليه السلام.
قوله:»
في الظلمات «فيه أوجهك
أحدهما: أن يكون خبراً ثانياً لقوله:»
والذين كَذَّبُوا «ويكون ذلك عبارة عن العَمَى ويصير نظير الآية الأخرى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] فَعَبَّر عن العَمَى بلازمه، والمراد بذلك عَمَى البَصِيَرَةِ.
الثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في الخبر، تقديره: ضالون حَالَ كونهم مُسْتقرِّين في الظلمات.
الثالث: أنه صَفَةٌ ل»
بكم «، فيتعلَّق أيضاً بمحذوف، أي: بكم كائنون في الظلمات.
الرابع: أن يكون ظَرْفاً على حقيقته، وهو ظَرْفٌ ل»
صم «، أو ل» بكم «.
قال أبو البقاء: أو لما ينوب عنهما من الفَعءلِ، أي: لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل.

فصل في بيان نظم الآية


في وجه النَّظْم قولان:
الأول: أنه - تعالى - لما بيَّن من حال الكُفَّار أنهم بلغوا في الكُفْرِ إلى حيث كانت قلوبهم قد صارت مَيِّتَةً عن قَبُولِ الإمان بقوله:»
إنما يَسْتجِيبُ الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله «فذكر هذه الآية تقريراً ذلك المعنى.
الثاني: أنه - تعالى - لمَّا ذكر في قوله: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: ٣٨] في كونها دالَّة على كونها تحت تدبير مُدَبِّرٍ قديمٍن وتحت تقدير مٌقدِّرٍ حكميم، وفي أنّ عناية الله مُحيطة بهمن ورحمته واصِلَةٌ إليهم - قال بعده: والمُكَذِّبُونَ بهذه الدَّلائل
130
والمنكرون لهذه العجائبِ صُمُّ لا يسمعون كلاماً، بُكْمٌ لا ينطقون بالحق، خَائِضونَ في ظلمات الكُفْرِ، غفلون عن تَأمُّلِ هذه الدلائل.
قوله: ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ﴾ في مَنْ» وجهان:
أحدهما: أنها مبتدأ، وخبرها ما بعدها، وقد عُرِفَ غير مَرَّةٍ.
ومفعول «يشأ» محذوف، أي: من يشأ الله إضلاله.
والثاني: أنه مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ يفسِّرُهُ ما بعده من حيث المعنى، ويقدِّر ذلك الفعل متأخّراً عن امس الشَّرْطِ لئلا يلزم خروجه عن الصَّدرِ.
وقد تقدَّمَ التَّنْبِيهُ على ذلك، وأن فيه خلافاً، والتقدير: من يُشْقِ اللَّهُ يَشَأ إضلاله، ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايتَهُ.
فإن قيل: هل يجوز أن تكون «من» مفعولاً مُقدِّماً ل «يشاء» ؟
فالجواب: أن الأخْفَشَ حكى عن العربِ أنَّ اسم الشَّرْطِ غير الظرف، والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجَزَاءِ ضَمِيرٌ يعود عليه، أو على أضيف إليهن فالضَّمير في «يضلله» و «يجعله» : إمّا أن يعود على المُضافِ المحذوف، ويكون كقوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ﴾ [النور: ٤٠].
فالهاء في «يغشاه» تعود على المُضاف، أي: كَذي ظلمات يَغْشَاهُ.
وإمَّا أن يعود على اسم الشرط [والأول ممتنع؛ إذ يصير التقدير: إضلالُ من يشأ الله يضلله، أي: يضلّ الإضلال، وهو فاسد.
والثاني أيضاً مُمْتَنَعٌ لخلو الجواب من ضَمِيرٍ يعود على المضاف إلى اسم الشرط].
فإن قيل: يجوز أن يكون المعنى: من يشأ الله بالإضلالِ، وتكون «من» مفعولاً مقدّماً؛ لأن «شاء» بمعنى «أراد»، و «أراد» يتعدَّى بالباء.
قال الشاعر: [الطويل]
٢١٥٧ - أرَادَتْ عَرَارًا بالهَوَانِ ومَنْ يُرِدْ عَرَاراً لَعَمْرِي بالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ
قيل: لا يلزم من كَوْنِ «شاء» بمعنى «أراد» أن يتعدَّى تعديته، ولذلك نَجِدُ اللفظ
131
الواحدَ تختلف تعديتُهُ باختلاف متعلّقة، تقول: دخلت الدَّارَ، ودخلت في الأمْرِ، ولا تقول: دخلت الأمر، فإذا كان في اللَّفظِ الواحد فَمَا بَالُكَ بلفظين؟ ولم يُحْفَظْ عن العَربِ تعديَةُ «شاء» بالباء، وإن كانت في معنى أراد.

فصل في أنّ الهداية والضلال من الله تعالى


احتج أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أن الهُدَى والضلال ليسا إلاَّ من الله - تعالى - لتصريح الآية بذلك.
وأجاب المعتزلة عن ذلك بوجوه:
الأول: قال الجُبَّائي: معناه أنّه - تعالى يحعلهم صُمَّاً وبُكماً وعُمْياً يوم القيامة عند الحَشْرِ، ويكنون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صُمَّا وبُكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجَنَّةِ، وعن طريقها، ويصيرهم إلى النار، وأكَّد القاضي هذا بأنه - تعالى - بيَّن في باقي الآيات أنه يحشرهم على وجوهم عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ.
الثاني: قال الجُبائي أيضاً: ويحتمل أنهم يكونون كذلك في الدنيا، فيكون توسّعاً من حيث أنهم جعلوا بتكذيبهم بآيات الله في الظلمات لا يهتدون إلى منافعِ الدينا فَشَبَّهَهُمْ من هذا الوجه بهم وأجرى بهم وأجرى عليهم مثل صَفَاتِهِمْ على سبيل التَّشْبِيهِ.
الثالث: قال الكَعْبِيُّ: قوله «صُمُّ وبُكْمٌ» قائم على الشَّتْمِ والإهانة، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة.
أمَّا قوله: ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ﴾ فقال الكعبي: ليس هذا على سبيل المجاز لأنه - تعالى - وإن أجْمَلَ القول فيه هَا هُنَا فَقَدْ فَسَّرَهُ في سائر الآيات، وهو قوله:
﴿وَيُضِلُّ الله الظالمين﴾ [إبراهيم: ٢٧] وقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ [البقرة: ٢٦].
وقوله: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧]، وقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ﴾ [المائدة: ١٦].
وقوله: ﴿يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت﴾ [إبراهيم: ٢٧] وقوله: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩].
فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال، وإن كانت مُجْمَلَةً في هذه الآية، إلاَّ أنها [مخصصة] مفصلة في سائر الآيات، فيحمل هذا المُجْمَلُ على تلك المُفصَّلاتِ. ثم إن المعتزلة ذكروا في تأويل هذه الآية وُجثوهاً:
132
أحدهما: قوله: ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ﴾ [الآية: ٣٩] مَحْمَوُلٌ على مَنْعِ الألْطَافِ، فصاروا عندها كالصُّمِّ والبُكم.
وثانيها: يضلله يوم القيامة عن طريق الجنة، وعن وجدانِ الثوابِ؛ لأنه ثبت بالدليل أنه - تعالى - لا يشاء هذا الإضلال إلاَّ لمن يستحقه عقوبة، كما لم يشأ الهُدَى إلاَّ للمؤمنين.
واعلم أن هذه الوجوه التي تكَلَّفَهَا المعتزلة إنما تَحْسُنُ لَوْ ثَبَتَ في العقل أنه لا يمكن إجْرَاءُ هذا الكلام على ظاهرة، وقد دللنا على أنَّ هذا الفعل لا يحصل إلاَّ عند حُصُول الداعي، وبيَّنَّا أنِّ خالق ذلك الداعي هو الله تعالى، وبيَّنَّا أن عند حصوله يجبُ الفعلُ في هذه المقدِّمَاتِ الثلاث، فوجب القَطْعُ بأن الكفر والإيمان من الله تعالى، وبتخليقه وتقديره وتكوينه، وقد تقدَّم إبطالُ هذه الوجوه عند قوله: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: ٧] وغيرها من الآيات، فلا حاجةَ إلى الإعادةِ.
133
يجوز نقل همزة حركة الاستفهام إلى لام «قُلْ»، وتُحْذَفُ الهمزةُ تخفيفاُ وهي قراءة وَرْشٍ، وهو تسهيل مُطَّرٍدٌ، و «أرأيتكم» هذه بمعنى «أخبرني»، ولها أحكامٌ تَخْتَصُّ بها، اضْطَرَبَتْ أقولا الناس فيها، وانتشر خلافُهُمْ، ولا بُدَّ من التَّعَرُّضِ لذلك، فنقول: أرأيت إن كان البصرية، أو العلمية الباقية على معناها، أو التي إصابة الرئة كقولهم: «رأيْتُ الطَّائِرَ»، أي: أصَبْتُ رئَتَهُ لم يَجُزْ فيها تخفيق الهمزة التي هي عَيْنُهَا، بل تُحَقَّقُ ليس إلاَّ، أو تُسَهَّلُ بَيْنَ من غير إبدالٍ ولا حذفٍ، ولا يجوز أن تلحقها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أوَّل، ويكون مُطَابقاً لما يُرَادُ به تَذْكِيرٍ وتأنيثٍ، وإفراد وتثنية وجمع، وإذا اتَّصلَتْ بها تاء الخطاب لزِمَ مُطَابَقتُهَا لما يُرَادُ بها مِمَّا ذُكِرَ، ويكون ضميراً فاعلاً، نحو: أرأيتم، أرأيتما، أرأيتما أرأيتُنَّ، ويدخلها التَّعْلِيقُ والإلْغَاءُ، وإن كانت العمليَّة التي ضُمِّنَتْ معنى «أخبرني» أختصَّتْ بأحكامٍ أخَرَ.
منها: أنه يجوز تَسْهِيلُ همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْويَّةٌ عن نافع من طريق
133
ورشٍ، والنُّحاة يَسْتَضْعِفْون إبدال هذه الهمزة ألفاً، بل المشهور عندهم تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ، وهي الرواية المشهورة عن نافع، لكنَّهُ قد نَقَلَ الإبدال المَحْض قُطْربٌ وغيرهُ من الللغويين قال بعضهم «هذا غَلَطٌ غُلِّط عليه»، أي: على نافعٍ، وسبب ذلك أنه يُؤدِّي إلى الجَمْعِ بين ساكنين، فإن «الياء» بعدها ساكنة.
ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافعٍ، وغيرهما من أهل «المدينة» أنهم يُسْقِطُونَ الهمزة، ويَدَّعُونَ أن الألف خلفٌ منها.
قال شهاب الدين: وهذه العبارةُ تُشْعِرُ بأنَّ هذه الألف ليست بدلاً من الهمزة، بل جيءَ بها عِوَضاً عن الهمزة السَّاقِطَةِ.
وقال مَكِّيُّ بْنُ أبي طالب: «وقد روي عن وَرْشٍ إبدالُ الهَمْزَةِ ألفاً؛ لأن الرِّواية عنه أنه يَمُدَّ الثانية، والمَدُّ لا يتمكن إلاَّ مع البدلِ، وحسَّنَ جوازَ البدلِ في الهمزة وبعدها سَاكِنٌ أنَّ الأوِّل حَرْفُ مدِّ ولينٍ، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقوم مقامَ حركةٍ يُتَوصَّلُ بها إلى النُّطْقِ بالساكن».
وقد تقدَّم شَيءٌ من هذا عند قوله: ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦].
ومنها: أن تُنحْذَفَ الهمزة التي هي عَيْنُ الكلمة، وبها قرأ الكسائي، وهي فاشية نَظْماً ونَثْراً فمن النظم قوله: [الرجز] أقَائِلُنَّ أحْضِرُوا الشُّهودَا... وقال الآخر: [الطويل]
٢١٥٨ - أرَيْتَ مَا جَاءَتْ بِهِ أمْلُودا مُرَجَّلاً وَيَلبسُ البُرُودَا
٢١٥٩ - أرَيْتَكَ إذْ هُنَّا عَلَيْكَ ألَمْ تَخَف ْ رَقِيباً وَحَوْلِي مِنْ عَدُوِّكَ حُضَّرُ
وأنشد الكسائي لأبي الأسود: [المتقارب]
٢١٦٠ - أرَيْتَ امْرَأ كُنْتُ لَمْ أبْلُهُ... أتَانِي فَقَالَ: اتَّخذنِي خَلِيلاً
134
وزعم الفرَّاءُ أن هذه اللُّغَةَ لُغّةُ أكثر العربِ.
قال: «في أرَأيْتَ لغتان ومعنيان:
أحدهما: أن يسأل الرجل: أرأيت زَيْداً، أي: أعَلِمْتَ، فهذه مهموزة.
وثانيهما: أن تقول: أرأيت بمعنى»
أخْبِرْني «، فهاهنا تترك الهمزة إن شِئْتَ، وهو أكثر كلام العرب بُؤمئ إلى تَرْكِ الهَمْزَةِ للفرق بين المَعْنَيَين». انتهى.
وفي كيفية حذف هذه الهمزة ثلاثة أوجه:
أحدها: - وهو الظَّاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجَمَعُ بين همزتين في فعلٍ اتَّصَلَ به ضَمِيرٌ، فَخَفَّفَهُ بإسقاط إحدى الهمزتَيْنِ، وكانت الثانية أولى، لأنها حصل بها الثِّقَل؛ ولأنَّ حذفها ثابِتٌ في مضارع هذا الفعل، نحو: أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخِلُّ بالتَّفَاهُمِ، إذ هي للاستفهام.
والثاني: أنه أبْدَلَ الهمزة ألِفاً، كما فعل نَافِعٌ في رواية ورش، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما وهو الألف.
والثالث: أنه أبْدَلَها ياءً، ثم سِكَّنَهَا، ثم حذفهها لالتقاء الساكنين، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ، ثم قال: «وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مُسْتَقْبَلِ هذا الفعل» يعني في يرى وبابه، ورجَّحَ بعضهم مذهبَ الكسائي بأن الهَمْزَةَ قد اجترىءَ عليها بالحذف، وأنشد: [الرجز]
٢١٦١ - إنْ لَمْ أقَاتِلْ فَالْبِسُونِي يُرْقُعَا... وأنشد لأبي الأسود: [الكامل]
٢١٦٢ - يَا بَا المُغيرةِ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ فَرَّجْتُهُ بِالمَكْرِ مِنَّي وَالدَّهَا
[وقولهم: «وَيْلُمِّهِ» ].
وقوله: [البسيط]
٢١٦٣ - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا فَجْعٌ وَوَلْعٌ وإخلافٌ وتَبْدِيلُ
وأنشد أيضاً: [الوافر]
٢١٦٤ - وَمَنْ رَا مِثْلَ مَعْدَانَ بْنِ سَعْدٍ إذَا مَا النِّسْعُ طَالَ عَلَى المَطِيِّه
أي: ومَنْ رأى.
135
ومنها: أنه لا يَدْخُلُهَا تَعْلِيقٌ، ولا إلغَاءٌ؛ لأنها [بمعنى] «أخبرني» لا يُعَلَّقُ عند الجمهور.
قال سيبويه: «وتقولُ: أرأيتك زَيْداً أبو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلاَّ النَّصْبُ في» زيد «، الا ترى لو قلت:» أرأيت أبو مَنْ أنت؟ «لم يَحْسُنْ؛ لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني» وقد خالف سيبويه غَيْرُهُ من النحويين، وقالوا: كثيراً ما تُعَلَّق «أرأيت» وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واْتَدَلُّوا بهذه الآية التي نَحْنُ فيها، وبقوله: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ﴾ [العلق: ١٣، ١٤]، وبقوله:
٢١٦٥ - أرَيْتَ مَا جَاءْتُ بِهِ أمْلُودَا وهذا لا يرد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً.
ومنها: أنها تَلْحَقُهَا «التاء» فَيُلْتَزَمُ إفْرَادُهَا وتذكيرها، ويُسْتَغْنَى عن لحاقِ علامة الفُرُوعٍ بها بِلحاقِهَا بالكافِ، بخلاف التي لم تُضَمَّنْ معنى «أخبرني» فإنها تُطَابِقُ فيها، كما تقدَّم ما يُرادُ بها.
ومنها: أنه يلحقها «كاف» هي حرف خطابٍ تُطابقُ ما يُرَادُ بها من إفرادٍ وتذكير وضِدَّيهما، وهل هذه «التَّاء» فاعل، و «الكاف» حرف خطاب [تبيَّن أحوال التاء، كما تبينه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب] و «الكاف» ضمير في موضع المفعول الأول؟
ثلاثةُ مذاهب مشهورة، الأوَّل: قول البصريين، والثاني: قول الفراء، والثالث: قول الكسائي، ولنَقْتَصِرْ على بعض أدلَّةِ كُلِّ فريق.
قال أبو علي: «قولهم:» أرَأيْتَكَ زَيْداً ما فعل «بفتح» التاء «في جميع الأحوال، فالكافُ لا يخلو أن يكون للخطاب مُجَرَّداً، ومعنى الاسمية مَخْلُوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالتهِ على الخطابٍ، ولو كان اسْماً لوجب أن يكُون الاسْمُ الذي بعده هو هو؛ لأن هذه الأفعال مفعولها الثَّاني هو الأوَّل في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّن أن يكون مَخْلُوعاً منه الاسميَّةُ، وإذا ثبت ا، هـ للخطَابِ مُعَرى من الاسمية ثَبَت أن» التاء «لا تكون لِمُجرَّدِ الخطابِ، ألا ترى أنه لا ينبغي أن يَلْحَقَ الكَلِمَةُ علامتَا خطاب، كما لا يحلقها علامتا تأنيث ولا علامتَا استفهامٍ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك أفرِدَت» التاءُ «في جميع الأحْوَالِ لمَّا كان الفِعْلُ لا بُدَّ من فاعلٍ، وجُعِلَ على لَفْظٍ واحد اسْتِغْنَاءً بما
136
يَلْحَقُ» الكاف «، ولو لحق» التاء «علامةُ الفروع علامتَانِ للخطاب مما كان يَلْحَقُ» التاء «، وممَّا كان يلحق» الكاف «، فلما كان ذلك يُؤدِّي إلى ما لا نَظِيرَ له رُفِضَ، وأجْرِي على ما عليه سِائِرُ كلامهم».
وقال الزَّجَّاج بعد حكايته مَذْهَبَ الفراء: «وهذا القَوْلُ لم يَقْبَلُهُ النحويون القُدَمَاءُ وهو خَطَأٌح لأنَّ قولك:» أرأيت زَيْداً ما شأنه «لو تعدَّتِ الرؤية إلى» الكاف «وإلى زيد لصار المعنى: أرَأتْ نَفْسُكَ زيداً ما شأنُهُ وهذا مُحَالٌ» ثم ذكر مذهب البصريين.
وقال مكِّي بن أبي طالبٍ بعد حكايته مَذْهَبَ الفرَّاءِ: «وهذا مُحَالٌ، لأنَّ» التاء «هي» الكاف «في» أرأيتكم «، فكان يجب أن تُظْهَرَ علامةُ جمع» التاء «وكان يجب أن يكون فاعلان لفعلٍ واحدٍ وهما لِشَيءٍ واحد، ويجب أن يكون معنى قولك:» أرأيتك زَيْداً ما صَنَعَ «: أرأيْتَ نَفْسَكَ زَيْداً ما صنع؛ لأن» الكاف «هو المُخَاطَبُ، وهذا مُحَالٌ في المعنى، ومُتَنَاقِضٌ في الإعراب والمعنى؛ لأنك تَسْتَفْهِمُ عن نفسه في صَدْرِ السُّؤال، ثم ترد السؤال إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائبٍ آخر، أو لأنه يَصِيرُ ثلاثة مفعولين ل» رأيت «، وهذا كله لا يَجُوزُ. ولو قلت:» أرأيتك عالماً بزيد «لكان كلاماً صحيحاً، وقد تعدَّى» رأى «إلى مفعولين».
وقال أبو البقاء بعدما حكا مذهب البصريين: «والدَّليلُ على ذلك أنها - أي» الكاف «- لو كانت اسْماً لكانت: إمَّا مَجْرُورةً - وهو باطلٌ إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مَرْفثوعَةٌ، وهو باطِلٌ أيضاً لأمرين:
أحدهما: أن»
الكاف «ليست من ضمائر الرفع.
والثاني: أنها لا رَافِع لها؛ إذا ليست فاعلاً؛ لأن «التاء»
فاعل، ولا يكون لفعل واحدٍ فاعلان، وإمَّا أن تكون مَنْصُوبةً، وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذا الفِعْلَ يتعدَّى إلى مَفْعُولينِ كقولك: «أرأيت زيداً ما فعلَ» فلو جعلت «الكاف» مفعولاً كان ثالثاً.
والثاني: أنه لو كان مَفْعُولاً لكان هو الفاعل في المَعْنَى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغَرَضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك، ولذلك قلت: أرأيتك زيداً وزيد غير المُخَاطَبِ، ولا هو بدل منه.
والثالث: أنه لو كان مَنْصُوباً على أنه مَفْعُولٌ لظَهَرتْ علامةُ التثنية والجمع والتَّأنيث في «التاء» فكنت تقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ «. ثم ذكر مَذْهَبَ الفرَّاءِ ثم قال:» وفيما ذكرنا إبطالٌ لمذهبه «.
137
وقد انْتَصَرَ أبو بكر بن الأنْبَاريّ لمذهب القرَّاء بأن قال:» لو كانت «الكافُ» توكيداً لوقَعت التَّثْنِيَةُ والجمع بالتاء، كما يَقَعَانَ بها عند عدم «الكاف»، فلمَّا فُتِحت «التاءُ» في خِطَابِ الجَمْعِ ووقع مِيْسَمُ الجمع لغيرها كان ذلك دَلِيلاً على أن «الكاف» غيرُ توكيد.
ألا ترى أن «الكاف» لو سَقَطَتْ لم يَصلُحْ أن يُقالَ لجماعة: أرأيت، فوضحَ بهذا انْصِرافُ الفِعْلِ إلى «الكاف»، وأنها واجبةٌ لازَمَةٌ مُفْتَقَرٌ إليها «.
وهذا الذي قاله أبُو بَكْرٍ بَاطِلٌ بالكاف اللاحِقَةِ لاسم الإشارة، فإنها يَقَعُ عليها مِيْسَمُ الجَمْعِ، ومع ذلك هي حرفٌ.
وقال الفراء:»
موضعُ «الكاف» نصب، وتأويلها رَفْعٌ؛ لأن الفعل يِتَحَوَّلُ عن «التاء» إليها، وهي بِمَنْزِلِةِ «الكاف» في «دونك» إذا أغْريَ بها، كما تقول: «دُونَكَ زيداً» فتجد «الكاف» في اللَّفْظِ خَفْضاً، وفي المعنى رفعاً؛ لأنها مَأمُورةٌ، فكذلك هذه «الكافُ» موضعُها نصبٌ، وتأويلها رفع «.
قال شهابُ الدين:»
وهذه الشُّبْهَةُ بَاطِلةٌ لما تقدَّم، والخلافُ في «دونك» و «إليك» وبابهما مَشْهُورٌ تقدَّم التَّنْبِيهُ عليه مراراً «.
وقال الفرَّاءُ أيضاً كلاماً حَسَناً [رأيت أن أذكره فإنه مُبِينٌ نَافِعٌ] قال: للعرب في»
أرأيت «لغتان ومعنيان:
أحدهما: رؤية العَيْنِ، فإذا رأيت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المُخَاطَبِ، ويتصرَّفُ سِائِرِ الأفعال، تقول للرجل:»
أرأيتك على غير هذه الحالِ «، تريدُ: هل رأيت نفسك، ثم تُثَنِّي وتَجْمَعُ فتقول:» أرَأيْتُمَاكُمَا، أرَأيْتُمُوكُمْ، أرَأيْتُكُنَّ «.
والمعنى الآخر: أن تقول:»
أرأيتك «وأنت تريد معنى» أخبرني «، كقولك: أرأيتك إنْ فَعَلْتُ كذا ماذا تَفْعَلُ، أي: أخبرني، وتترك» التاء «إذا أردت هذا المعنى مُوَحَّدةً؛ لأنهم كل حالٍ تقول:» أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ «، وإنما تركتِ العربُ» التاء «واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفِعْلُ واقعاً من المُخَاطَبِ على نفسه، فاكْتَفَوْا من علامةِ المُخاطبِ بذكره في المكان، وتركوا» التاء «على التذكير والتوحيد إذا لم يكون الفَعْلُ واقعاً، والرُّؤيَةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المُخَاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل: ظنتني ورأيتني، ولا يقولولن ذلك في الأفْعَالِ التَّامةِ، لا يقولون خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرَادُوا الفَصْلَ بين الفعلِ الذي قد يُلْغَى، وبين الفعل الذي لا يَجُوزُ إلْغَاؤهُ، ألا ترى أنك تقول:» أنا أضُنُّ خَارجٌ «فتلغي» أظن «وقال الله تعالى
﴿أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٧] ولم يَقُل: رأى نَفْسَهُ.
138
وقد جاء في ضرورة الشعر إجْرَاءُ الأفعال التامة مُجْرَى النواقص؛ قال جِرَانُ العَوْدِ: [الطويل]
٢١٦٦ - لَقَدْ كَانَ لِي عَنْ ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُنِي وَعَمَّا ألاَقِي مِنْهُمَا مُتَزَحْزحُ
والعربُ تقول: «عَدِمءتني ووَجَدْتُني» وليس بوجه الكلام. انتهى.
واعلم أنَّ النَّاس اختلفوا في الجلمة اللاستِفْهَامِيَّةِ الواقِعَةِ بعد المنصوب ب «أرأيتك» [نحو: أرأيتك] زَيْداً ما صنع؟
فالجموهور على أنَّ «زيداً» مفعول أوَّل، والجملة بعده في مَحَلِّ نصبٍ سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني.
وقد تقدَّم أنه لا يجُوزُ التَّعْلِيقُ في هذه، وإن جاز في غيرها من أخَوَاتِهَا نحو: علمت زيداً أبو مَنْ هو.
وقال ابن كَيْسَان: «إن هذه الجملة الا ستفهاميَّة في أرأيت زيداً ما صنع بَدَلٌ من أرأيتك».
وقال الأخْفَشُ: «إنه لا بُدَّ بعد» أرأيت «التي بمعنى» أخبرني «من الا سم المُسْتَخْبَرِ عنه، ويَلْزَمُ الجُمْلَةَ التي بعده الاستفهام؛ لأن» أخبرني «موافق لمعنى الاستفهام».
وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها، فتكون بمعنى «أما» أو «تنبَّه»، وحينيذٍ لا يكونُ لها مَفْعُولانِ، ولا مَفْعُولٌ واحدٌ، وجعل من ذلك: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت﴾ [الكهف: ٦٣].
وهذا يبغي ألاَّ يجوز؛ لأنه إخْرَاجٌ لِلَّفْظةِ عن موضوعها من غير دَاعٍ إلى ذلك.
إذا تقرَّرَ هذا فَيْلُرْجَعْ إلى الآية الكريمة فَنَقُولُ، وبالله التوفيق: اختلف النَّاسُ في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المفعول الأول، والجملة الاستفهامية التي سدَّت مسدَّ الثاني مَحْذُوفانِ لفهم المعنى، والتقديرُ: أرأيتكم عبادتكم الأصْنَامَ هل تنفعُكمُ؟ أو اتِّخَاذكُمْ غَيْرَ الله إلهاً هَلْ يِكشِفُ ضُركم؟ ونحو ذلك، ف «عِبَادَتَكُمْ» أو «اتِّخاذكم» مفعول أوّل، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مسدَّ الثَّاني، و «التاء» هي الفاعل، و «الكاف» حرف خطاب.
الثاني: أن الشَّرْطَ وجوابَهُ - وسيأتي بَيَانُهُ - قد سدَّا مَسَدَّ المفعولين؛ لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود، فلم يَحْتَجْ هذا الفعل إلى مَفْعُولٍ، وليس بشيء؛ لأن الشَّرْطَ وجوابه لم يُعْهَدْ فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي «ظَنَّ»، وكونُ الفاعلِ غيرَ مُحْتاجٍ لمفعول
139
إخْرَاجٌ له عن وضعه، فإن عنى بقوله: «سَدَّا مَسدَّهُ» أنَّهُمَا دَالاَّنِ عليه فهو المُدَّعَى.
والثالث: أن المفعول الأوَّل محذوفٌ، والمسألةُ من باب التَّنازُعِ بين «أرأيتكم وأتاكم»، والمُتنازعُ فيه لَفْظُ «العذاب» وهذا اختيرا أبي حيَّان، ولنُورِدْ كلامه ليظهر فإنه كلامٌ حسنٌ قال: «فنقول: الذي نَخْتَارُهُ أنها بَقِيَةٌ على حكمها في التعدِّي إلى اثنين، فالأوَّل منصوب، والثاني لم نَجِدْهُ بالاسْتِقْرَاءِ إلاَّ حملة استفهاميةً أو قَسِمِيَّةً.
فإذا تقرَّرَ هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية مَحْذُوفٌ، والمسألة من باب التَّنازُعِ، تنازع»
أرأيتكم «والشرط على» عذاب الله «فأعمل الثَّاني، وهُو» أتاكم «، فارتفع» عذاب «به، ولو أعمل الأوَّل لكان التَّرْكيب:» عذاب «بالنَّصْبِ، ونظير ذلك» اضرب إنْ جاءك زيد «على إعْمَالِ» جاءك «، ولو نصب لجاز، وكان من إعمال الأوَّل.
وأمَّا المفعول الثَّاني، فهو الجملة من الاستفهام»
أغَيْرَ الله تَدْعُونَ «والرَّابِطُ لهذه الجملة بالمعفول الأوَّل المحذوف مَحْذُوفٌ تقديره: أغَيْرَ الله تدعون لِكَشْفِهِ، والمعنى: قل: أرأيتكم عذابَ الله إن أتاكم - أو السَّاعة إن أتتكم - أغَيْرَ الله تَدْعُونَ لكشفه، أو لكشف نَوازِلها». انتهى.
والتقدير الإعْرَابيُّ الذي ذكره يَحْتَاجُ إلى بضع إيْضَاحٍ، وتقديره: قل: أرأيتكموه أو أريتكم إيَّاهُ إن أتاكم عَذابُ الله، فذلك الضمير هو ضَمِيرُ العذابِ لمَّا عَمِلض الثَّاني في ظاهره أعْطِيَ المُلْغَى ضَمِيرَهُ، وإذا أضْمِرَ في الأوَّل حُذِفَ ما لم كن مَرْفُوعاً، أو خبراً في الأصْلِ، وهذا الضمير ليس مَرْفُوعاً، ولا خبراً في الأصل، فلأجل ذلك حُذِفَ ولا يَثْبُتُ إلاَّ ضَرُورَةً.
وأمَّا جوابُ الشَّرْط ففيه خَمسةُ أوجهٍ:
أحدهما: أنه مَحْذُوفٌ، فقدَّرهُ الزمخشري: «إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون».
قال أبو حيَّان: «وإصْلاحُهُ أن تقول:» فَمَنْ تَدْعُون «بالفاء؛ لأن جواب الشَّرْطِ إذا وقع جُمْلَةً اسْتفهامِيَّةً فلا بُدَّ فيه من الفاء».
الثاني: أنه «أرأيتكم»، قاله الحُوفي، وهو فَاسِدٌ لوجهين:
أحدهما: أنّ جواب الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين، إنما جوَّزه الكوفيون، وأبو زيدٍ، والمُبَرِّدُ.
والثاني: أن الجملة المُصدِّرة بالهمزة لا تقعُ جواباً للشَّرْطِ ألْبَتَّةً، إنما يقع من الاسْتِفْهَامِ ما كان ب «هل» أو اسْم من أسْمَاءِ الاستفهام، وإنما لم تَقعِ الجُمْلَةُ المصدَّرةُ بالهمزة جواباً؛ لأنه لا يخْلُو: أن تأتي معها بالفاء، أو لا تأتي بها، لا جَائِز ألاَّ تأتي بهاح لأن كُلَّ ما لا يَصْلُحُ شرطاً يجب اقْتِرَانُهُ بالفاء إذا وقع جواباً.
ولا جَائِزَ أن تأتي بها؛ لأنك: إمَّا أن تأتي بها قَبْلَ الهمزة، نحو: «ن قمت فأزيد
140
مُنْطَلِقٌ»، أو بعدها نحو: «أفَزَيدٌ مُنْطَلِقٌ»، وكلاهما مُمْتَنِعٌ، أمَّا الأوَّل فلتَصَدُّرِ «الفاء» على الهمزة.
وأما الثَّاني، فإنه يُؤدِّي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجبُ فيه الإتْيَانُ بها وهذا بخلاف هل، فإنك تأتي بالفاءِ قبلها، فنقول: «إن قمت فهل زيد قَائِم» ؛ لأنه ليس لها تمامُ التصدير الذي تَسْتَحِقُهُ الهمزة، ولذلك تَصَدَّرتْ على بعض حروف العطفِ، وقد تقدَّم [مشروحاً] مراراً.
الثالث: أنه «أغير الله» وهو ظَاهِرُ عِبَارَةِ الزمخشري، فإنه قال: «ويجوز أن يتعلَّق الشَّرْطُ بقوله:» أغير اللَّهِ تدعون «، كأنه قيل: أغير الله تَدْعُون إن أتاكُمْ عَذابُ الله».
قال أبو حيَّان: ولا يجوز أن يتعلِّق الشرطُ بقوله: «أغير الله» ؛ لأنه لو تعلَّقَ به لكانَ جواباً له، لكنه لا يقع جواباً، لأن جواب الشَّرْط إذا كان اسْتِفْهاماً بالحرف لا يَقَعُ إلا ب «هل» وذكر ما قدَّمْتُه إلى آخره، وعزاه الأخفَشُ عن العرب، ثم قال: «ولا يجوز أيضاً من وجْهْ آخر؛ لأنَّا قد قرَّرْنَا أنَّ» أرأيتك «مُتعدِّيةٌ إلى اثنين؛ أحدهما في هذه الآية محذوفٌ، وأنه من باب التَّنازُعِ، والآخر وقعت الجُملةُ الاستفهَامِيَّةُ موقعه، فلو جَعَلْتَهَا جواب الشَّرْطِ لبقيت» أرأيتكم «مُتعدِّيَةً إلى واحدٍ، وذلك لا يجوز».
قال شهابُ الدين: وهذا لا يَلْزَمُ الزمخشري، فإنه لا يرتضي ما قاله من الإعراب المُشَارِ إليه.
قوله: «يلزم تعدِّيهَا لِوَاحِدٍ».
قلنا: لا نُسَلَّمُ، بل يتعدَّى لاثْنَيْنِ محذوفين ثانيهما جملة الاستفهام، كما قدَّره غَيْرُهُ: ب «أرأيتكم عبادتكم هل تنفعكم» ثم قال: «وأيضاً التزامُ العرب في الشَّرْط الجائي بعد» أرأيت «مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أنَّ جوابَ الشرط محْذُوفٌ، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلاَّ عند مُضِيَّ فِعْلِهِ، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله﴾ [الأنعام: ٤٧] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله﴾ [الأنعام: ٤٦] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله﴾ [القصص: ٧١] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ﴾ [يونس: ٥٠] ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٠٥] ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى﴾ [العلق: ٣١] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال الشاعر: [الرجز]
٢١٦٧ - أرَيْتَ إنْ جَاءَتُ بِهِ أمْلُودَا... وأيضاً مَجيءُ الجملة الاستفهاميَّةِ مصدَّرةً بمزة الاستفْهَامِ دليلٌ على أنها ليست جوابَ الشَّرْط، إذ لا يَصِحُّ وُقُوعُهَا جواباً للشرط»
انتهى.
141
ولمَّا جوَّز الزمخشري أن الشَّرْطَ مُتعلِّقٌ بقوله: «أغَيْرَ الله» سأل سؤالاً، وأجاب عنه، قال: «فإن قلت: إن علّقت الشِّرْط به، فما تصْنَعُ بقوله: ﴿فَيَكْشِفُ ما تَدْعُون إليه﴾ مع قوله: ﴿أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة﴾، وقوارعُ السَّاعةَ لا تُكْشَفُ عن المشركين؟
قلت: قد اشترط في الكَشْفِ المَشِيئِةَ وهو قوله:»
إنْ شَاءَ «إيذَاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وَجْهٌ من الحكمة، إلا أنه لا يَفْعَلُ لِوَجْهٍ آخرَ من الحكمة أرجح منه».
قال أبو حيَّان: «وهذا مَبْنِيُّ على أن الشَّرطَ متعلقٌ ب» أغير الله «وقد اسْتَدْلَلْنَا على أنه لا يَجُوزُ».
قال شهابُ الدين: ترك الشَّيخُ التَّنْبِيهَ على ما هو أهَمُّ من ذلكن وهو قوله: «إلاَّا أنه لا يقعل لوجهٍ آخر من الحِكْمَةِ أرْجَحَ منه» وهذا أصْلٌ فاسدٌ من أصُولِ المعتزلة يزعمون أن أفعاله - تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحكم، يترَّجحُ مع بعضها الفعلُ، ومع بعضها التركُ، ومع بضعها يَجبُ الفعلُ أو الترك، تعالى الله عن ذلك، بل أفْعِالُهُ لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض، ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل﴾ [الأنبياء: ٢٣]، كما تقرر في علم الأصول.
الرابع: أن جوابَ الشَّرْطِ محذوف تقديره: إن أتاكم عذابُ الله، أو أتتكم السَّاعَةُ [دَعَوْتُمْ] ودَلَّ عليه قوله: «أغير الله تدعون».
الخامس: أنه مَحْذُوفٌ أيضاً، ولكنه مُقدَّرٌ من جِنْسِ ما تقدَّم في المعنى، تقديره: إن أتاكم عذابُ الله، أو أتتكم السَّاعةُ فأخبروني عنه أتَدْعُونَ غير الله لِكَشْفِهِ، كما تقول: «أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به»، أي إن جاءك فأخْبِرْنِي عنه، فحذف الجوابُ لدلالة «أخبرني» عليه، ونظيرُهُ: أنت ظَالِمٌ إن فعلت، أي: فأنت ظَالِمٌ، فحذف «فأنت ضَالِمٌ» لدلالة ما تقدَّم عليه.
وهذا ما اختارَهُ أبو حيَّان.
قال: «وهو جارٍ على قواعدِ العربية» وادَّعى أنه لم يَرهُ لغيره.
قوله: ﴿أَغَيْرَ الله تَدْعُون﴾.
«غَيْرَ» مفعول مُقدَّمٌ ل «تَدْعون»، وتقديمُه: إمَّا للاخْتِصَاصِ كما قال الزمخشري: بَكَّتَهُمْ بقوله: أغير الله تَدْعُون، بمعنى: أتَخُصُّونَ آلهتكم بالدَّعْوةِ فميا هو عَادَتُكُمْ إذا أصَابَكُمْ ضُرُّ، أم تدعون الله دونها، وإمَّا للإنْكَارِ عليهم في دُعَائِهِمْ للأصْنَامِ، لأن المُنْكَرِ إنما هو دُعَاءُ الأصْنَام لا نَفْسُ الدُّعاء، ألا ترى أنك إذا قلت: «أزَيْداً تضربُ» إنما تُنْكِرُ كَوْنَ «زيد» محلاَّ للضَّرْب، [ولا تُنْكِرُ نَفْسَ الضرب،] وهذا من قَاعِدَةِ بَيَانِيَّةٍ قدمت التنبيه عليها عند قوله تعالى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني﴾ [المائدة: ١١٦].
142
قوله: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادقِينَ﴾ جوابه مَحْذُوفٌ لدلالة الكلام عليه، وكذلك مَعْمُولُ «صَادِقِنَ»، إن كنتم صَادِقينَ في دعْوَاكُمْ أنَّ غير الله إلهٌ، فهل تَدْعونه لِكَشْفِ ما يَحُلُّ بكم من العذابِ؟

فصل في المراد من الآية


معنى الآية: قال ابن عبَّاسِ: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتكم إن أتاكُمْ عذابُ الله قبل الموتِ، أرأيتكم السَّاعة يعني العذاب يوم القيامة، أترجعون إلى غير الله في دَفْعِ البلاء والضُّرِّ، أو ترجعون إلى الله في دَفْعِ البلاء والمِحْنَةِ لا إلى الأصنام والأوثانَ، وأراد الكُفَّارَ يدعون الله في أحْوالِ الاضْطِرَارِ كما أخبر اللَّهُ عنهم
﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [لقمان: ٣٢] لا جرم قال: «بَلْ إيَّاهُ تدعُونَ» «بل» حرفُ إضْرَابٍ وانتقال، لا إبطال لما عُرِفَ غير مَرَّةٍ من أنها في كلام اللَّهِ كذلك، و «إيَّاه» مفعول مُقدَّمٌ للاخْتِصَاصِ عند الزمخشري، ولذلك قال: بل تَخُصُّونه بالدُّعاءِ، وعند غيره للاعْتِنَاء، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاصٌ فمن قَرينةٍ أخرى، و «إياه» ضمير منصوبٌ مُنْفِصلٌ تقدَّم الكلامُ عليه في «الفاتحة».
وقال ابن عطية: «هنا» إيَّا «اسم مُضْمَرٌ أجري مجرى المظهرات في أنه مضاف أبَداً».
قال أبو حيان: وهذا خِلافُ مذهب سيبويه أن ما بعد «إيَّا» حرف يُبَيَّن أحْوالَ الضمير، وليس مُضَافاً لما بعده لئلا يَلْزَمُ تَعْرِيفُ الإضافة، وذلك يِسْتَدْعِي تنكيره، والضَّمَائِرُ لا تَقْبَلُ التنكير فلا تَقْبَلُ الإضافة.
قوله: «ما تَدْعُونَ» يجوز في «ما» أربعةُ أوجهٍ:
أظهرها: أنها موصولةٌ بمعنى «الذي»، أي: فيكشف الذي تَدْعُونَ، والعائدُ محذوف لاسْتِكَمَالِ الشروط، أي: تَدْعُونَهُ.
الثاني: أنها ظَرْفِيَّةٌ، قاله ابن عطية، وعلى هذا فيكون مَفْعُول «يكشفُ» مَحْذُوفاً تقدير: فيكشف العذابَ مُدَّة دعائكم، أي: ما دُمْتُمْ داعينه وقال أبو حيَّان: وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وصْلها بمضارعٍ، وهو قليلٌ جداً تقول: «لا أكَلِّمُكَ ما طلعت الشمسُ»، ويضعف: «ما تَطْلَعُ الشمس».
143
قال شهاب الدين: قوله: «بمُضارع» كان يبغي أن يقُول: «مثبت» ؛ لأنه متى كان مَنْفِيَّا ب «لم» كَثُرَ وصْلُهَا به، نحو قوله: [الطويل]
٢١٦٨ - وَلَن يَلْبَثَ الْجُهَّالُ أنْ [يَتَهَضَّمُوا] أخَا الحِلْمِ مَا لِمْ يِسْتَعِنْ بِجَهُولِ
ومِنْ وَصْلِهَا بمضارعٍ مثبتِ قوله: [الوافر]
٢١٦٩ - أطوِّفُ مَا أطَوِّفُ ثُمَّ آوِى إلَى أمَّى وَيَرْوينِي النَّقِيعُ
وقول الآخر: [الوافر]
٢١٧٠ - أطَوِّفُ ما أطَوِّفُ ثُمَّ آوِي إلَى بِيتٍ قَعِيدَتُهُ لكَاعٍ
ف «أطَوِّفُ» صِلَةٌ ل «ما» الظرفقية.
الثالث: أنها نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ ذكره أبو البقاء، والعِائِدٌ أيضاً مَحْذُوفُ أي: فيكشفُ شَيْئاً تَدْعُونه، أي: تَدْعُونَ كشْفَهُ والحَذْفُ من الصِّفَةِ أقَلُّ منه من الصلة.
الرابع: أنها مَصْدَرِيةٌ، قال ابن عطيَّة: «ويَصِحَّ أن تكون مَصْدَرِيَّةً على حذفٍ في الكلام».
قال الزجَّاج: وهو مثْل « ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
قال شهاب الدين: فيكشف سبب دعائكم وموجبه.
قال أبو حيَّان: وهذه دَعْوَى محذوف غير مُعَيّن، وهو خلافُ الظاهر.
وقال أبو البقاء:»
وليست مَصْدَرَيَّةً إلاَّ أن تَجْعَلَهَا مصدراً بمعنى المفعول «يعني
144
يصير تقديره: فيكشف مَدْعُوَّكُمْ، أي: الذي تَدْعُون لأجله، وهو الضُّرُّ ونحوه.
قوله:» إليه «فيما يتلَّق به وجهان:
أحدهما: أن تيعلَّق ب»
تَدْعون «، والضَّمير حينئذٍ يعود على» ماط الموصولة، أي: الذي تَدْعُون إلى كَشْفِهِ، و «دعا» بالنسبة إلى متعلّق الدعاء يتعدَّى ب «إلى» أو «اللام».
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله﴾ [فصلت: ٣٣] ﴿وَإِذَا دعوا إِلَى الله﴾ [النور: ٤٨].
وقال: [الطويل]
٢١٧١ - وإنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا..............................
وقال: [البسيط]
٢١٧٢ - وَإنْ [دَعَوْت] إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ يَوْماً سَرَاةِ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
وقال: [المتقارب]
٢١٧٣ - دَعَوْتُ لِمَا نَابِنِي مِسْوَراً فَلَبَّى فَلَبَّىْ يَدَيء مِسْوَرِ
والثاني: أن يتعلَّق ب «يكشفُ».
قال أبو البقاء: «أي: يرفعه إليه» انتهى.
والضميرُ على هذا عائدٌ على الله تعالى، وذكر أبو البقاء وَجْهَيِ التعلق ولم يَتَعَرَّضْ للضمير، [وقدْ عَرَفْتَهُ].
وقال ابن عطية: والضمير في «إليه» يَحْتَمِلُ أن يعُود إلى الله، بتقدير: فيكشف ما تدعون فيه إليه.
قال أبو حيَّان: وهذا ليس بِجَيدٍ؛ لأنَّ «دعا» يتعدَّى لمفعول به دون حَرْفِ جرِّ:
145
﴿ادْعُونِي اأَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠]، ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: ١٨٦] ومن كلام العرب: «دَعَوْتُ الله سِمَعاً».
قلت: ومِثْلُهُ: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُوا﴾ [الإسراء: ١١٠] ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعا﴾ [الأعراف: ٥٥] قال: «ولا تقولُ بهذا المعنى:» دعوت إلى اللهط بمعنى: دعوت الله، إلاَّ أنه يمكن أن يُصَحَّحَ كلامُهُ بمعنى التَّضْمِينِ، ضَمَّنَ «تدعون» معنى «تلجؤون فيه إلى الله» إلاَّ أنَّ التضمين ليس بقيسا، لا يُصَارُ إليه إلاَّ عند الضَّرُورَةِ، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا «.
قال شهاب الدين: ليس التضمين مَقْصُوراً على الضرورة، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَرَ، وقد تقدَّم منه جملة صَالِحَةٌ، وسيأتِي إن شاء الله - تعالى - مثلُهَا على أن قد يُقَال: تجويزُ أبي مُحَمَّدٍ عَوْدَ الضمير إلى الله - تعالى - مَحْمُولٌ على أن»
إليه «مُتَعَلِّقٌ ب» يكشف «، كما تقدَّم نَقْلُهُ عن أبي البقاءِ، وأن معنلااه يرفعه إليه، فلا يلزم المحذور المذكور، لولا أنه يُعَكِّرُ عليه تقديرُهُ بقوله:» تدعون فيه إليه «، فتقديره:» فيه «ظاهرة أنه يَزْعُمُ تعَلُّقَهُ ب» تَدْعُون «.
قوله:»
إنْ شَاءَ «جوابه مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المعنى، ودلالة ما قبله عليه، أي: إنْ شَاءِ أن يَكْشِفَ كَشَفَ، وادِّعاءُ تقديم جوابِ الشرط هنا واضِحٌ لاقترانه ب» الفاء «فهو أحْسَنُ من قولهم:» أنت ظالم إن فعلتط لكن يمنع من كونها جواباً هنا أنها سِبَبِيَّةٌ مرتبة، أي: أنها أفادت تَرتُّبَ الكَشْفِ عن الدعاء، وأن الدُّعَاءَ سَبَبٌ فيه، على أن لنا خِلاَفاً في «فاء» الجزاء: هل تفيد السَّبَبِيَّةَ أو لا؟
قوله: ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون﴾ الظاهر في «ما» أن تكون مَوْصُولَةَ اسمية، والمُرَادُ بها ما عُبِدَ مِنْ دون اللَّهِ مُطْلَقاً: العُقَلاَء وغيرهم، إلاّ أنه غَلَّبَ غيرا لعقلاء عليهم كقوله:
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات﴾ [النحل: ٤٩] والعائد محذوف، أي: ما تُشْرِكُونَهُ مع الله في العِبَادَةِ.
وقال الفارسيُّ: «الأصْلُ: وتَنْسَوءنَ دُعاءَ ما تشركون، فحذف المضاف».
ويجوز أن تكون مَصْدرِيَّةً، وحينئذٍ لا تَحْتَاجُ إلى عائد عن الجمهور.
ثم هل هذا المصدر باقٍ على حقيقته؟ أي: تَنْسَوْنَ الإشراك نَفْسَهُ لما يَلْحَقُكُمْ من الدَّهْشَةِ والحَيْرَةِ، أو هو واقع موقع المعفول به، أي: وتنسون المُشْرَكَ به، وهي الأصنام وغيرها، وعلى هذه فمعناه كالأوَّلِ، وحينئذ يحتمل أن يكون السياق على بابه من «الغَفْلَة» وأن يكون بمعنى التَّرْكِ، وإن كانوا [ذاكرين] لها أي: للأصنام وغيرها.
146

فصل في المراد من الآية


معنى الآية فيكشف الضُّرَّ الذي من أجْلِهِ دَعَوْتُمْ إن شاء، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه - تعالى - قد يجيب الدُّعَاءَ إن شاء، وقد لا يجيبه.
فإن قيل: قوله: ﴿ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] يفيد الجَزْمَ بالإجابة، وهاهنا عَلَّقَ الإجابة على المشية، فيكيف يجمع بين الآيتين؟
فالجوابُ أن يقال: تَارَةً يَجْزِمُ سُبْحَانَهُ بالإجابة، وتارةً لا يجيب إمَّا بحسب المشيئة كما يقول أهل السُّنَّةِ، أو بحسب رعايَةِ المصلحة كما يقول المعتزلة، ولمَّا كان كلا الأمرين حَاصِلاً لا جَرَمَ وردت الآيتين على هذهين الوجهين.

فصل في أن أصل الدين هو الحجة


وهذه الآية من أقْوَى الدَّلائِلِ على أن أصل الدين هو الحُجَّةُ والدليل، لا يخصُّ التقليد؛ لأنه - تعالى - كان يقول لِعبدةِ الأوْثَانِ إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله لا إلى الأصنام والأوثان، فَلِمَ تقدمون على الأصنام التي لا تَنْتَفِعُونَ بعبادتها ألْبَتَّةَ، وهذا الكلامُ إنما يُفيدُ لو كان ذكرُ الدَّلِيلِ والحُجَّةِ مقبولاً، أمَّا لو كان مَرْدُوداً وكان الواجب التقليد كان هذا الكلام سَاقِطاً.
147
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:يجوز نقل همزة حركة الاستفهام إلى لام " قُلْ "، وتُحْذَفُ الهمزةُ تخفيفاً وهي قراءة١ وَرْشٍ، وهو تسهيل مُطَّرِدٌ، و " أرأيتكم " هذه بمعنى " أخبرني "، ولها أحكامٌ تَخْتَصُّ بها، اضْطَرَبَتْ أقوال الناس فيها، وانتشر خلافُهُمْ، ولا بُدَّ من التَّعَرُّضِ لذلك، فنقول : أرأيت إن كان البصرية، أو العلمية الباقية على معناها، أو التي لإصابة الرئة كقولهم :" رأيْتُ الطَّائِرَ "، أي : أصَبْتُ رئَتَهُ لم يَجُزْ فيها تخفيف الهمزة التي هي عَيْنُهَا، بل تُحَقَّقُ ليس إلاَّ، أو تُسَهَّلُ بَيْنَ بَيْنَ من غير إبدالٍ ولا حذفٍ، ولا يجوز أن تلحقها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أوَّل، ويكون مُطَابقاً لما يُرَادُ به من تَذْكِيرٍ وتأنيثٍ، وإفراد وتثنية وجمعٍ، وإذا اتَّصَلَتْ بها تاء الخطاب لزِمَ مُطَابَقتُهَا لما يُرَادُ بها مِمَّا ذُكِرَ، ويكون ضميراً فاعلاً، نحو : أرأيتم، أرأيتما، أرأيتُنَّ، ويدخلها التَّعْلِيقُ والإلْغَاءُ، وإن كانت العِلميَّة التي ضُمِّنَتْ معنى " أخبرني " أختصَّتْ بأحكامٍ أخَرَ.
منها : أنه يجوز تَسْهِيلُ همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْويَّةٌ عن نافع٢ من طريق ورشٍ، والنُّحاة يَسْتَضْعِفُون إبدال هذه الهمزةِ ألفاً، بل المشهور عندهم تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ، وهي الرواية٣ المشهورة عن نافع، لكنَّهُ قد نَقَلَ الإبدال المَحْض٤ قُطْربٌ وغيرهُ من الللغويين قال بعضهم " هذا غَلَطٌ غُلِّط عليه "، أي : على نافعٍ، وسبب ذلك أنه يُؤدِّي إلى الجَمْعِ بين ساكنين، فإن " الياء " بعدها ساكنة.
ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر٥ ونافعٍ، وغيرهما من أهل " المدينة " أنهم يُسْقِطُونَ الهمزة، ويَدَّعُونَ أن الألف خلفٌ منها.
قال شهابُ الدين : وهذه العبارةُ تُشْعِرُ بأنَّ هذه الألف ليست بدلاً من الهمزة، بل جيءَ بها عِوَضاً عن الهمزة السَّاقِطَةِ.
وقال مَكِّيُّ بْنُ أبي طالب :" وقد روي عن وَرْشٍ إبدالُ الهَمْزَةِ ألفاً ؛ لأن الرِّواية عنه أنه يَمُدَّ الثانية، والمَدُّ لا يتمكن إلاَّ مع البدلِ، وحسَّنَ جوازَ البدلِ في الهمزة وبعدها سَاكِنٌ أنَّ الأوِّل حَرْفُ مدِّ ولينٍ، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقوم مقامَ حركةٍ يُتَوصَّلُ بها إلى النُّطْقِ بالساكن ".
وقد تقدَّم شَيءٌ من هذا عند قوله :﴿ ءَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ [ البقرة : ٦ ].
ومنها : أن تُحْذَفَ الهمزة التي هي عَيْنُ الكلمة، وبها قرأ الكسائي٦، وهي فاشية نَظْماً ونَثْراً فمن النظم قوله :[ الرجز ]
أرَيْتَ مَا جَاءَتْ بِهِ أمْلُودا مُرَجَّلاً وَيَلبسُ البُرُودَا
أقَائِلُنَّ أحْضِرُوا الشُّهُودَا٧ .................
وقال الآخر :[ الطويل ]
أرَيْتَكَ إذْ هُنَّا عَلَيْكَ ألَمْ تَخَفْ رَقِيباً وَحَوْلِي مِنْ عَدُوِّكَ حُضَّرُ٨
وأنشد الكسائي لأبي الأسود :[ المتقارب ]
أرَيْتَ امْرَأ كُنْتُ لَمْ أبْلُهُ *** أتَانِي فَقَالَ : اتَّخذنِي خَلِيلاً٩
وزعم الفرَّاءُ أن هذه اللُّغَةَ لُغَةُ أكثر العربِ. قال :" في أرَأيْتَ لغتان ومعنيان :
أحدهما : أن يسأل الرجل : أرأيت زَيْداً، أي : أعَلِمْتَ، فهذه مهموزة.
وثانيهما : أن تقول : أرأيت بمعنى " أخْبِرْني "، فهاهنا تترك الهمزة إن شِئْتَ، وهو أكثر كلام العرب تُؤمئ إلى تَرْكِ الهَمْزَةِ للفرق بين المَعْنَيَين ". انتهى.

وفي كيفية حذف هذه الهمزة ثلاثة أوجه :

أحدها :- وهو الظَّاهر- أنه اسْتُثْقِلَ الجَمْعُ بين همزتين في فعلٍ اتَّصَلَ به ضَمِيرٌ، فَخَفَّفَهُ بإسقاط إحدى الهمزتَيْنِ، وكانت الثانية أولى، لأنها حصل بها الثِّقَلُ١٠ ؛ ولأنَّ حذفها ثابِتٌ في مضارع هذا الفعل، نحو : أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخِلُّ بالتَّفَاهُمِ، إذ هي للاستفهام.
والثاني : أنه أبْدَلَ الهمزة ألِفاً، كما فعل نَافِعٌ في رواية ورش، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما وهو الألف.
والثالث : أنه أبْدَلَها ياءً، ثم سَكَّنَهَا، ثم حذفها لالتقاء الساكنين، قاله أبو البقاء١١، وفيه بُعْدٌ، ثم قال :" وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مُسْتَقْبَلِ هذا الفعل " يعني في يرى وبابه، ورجَّحَ بعضهم مذهبَ الكسائي بأن الهَمْزَةَ قد اجترِئ عليها بالحذف، وأنشد :[ الرجز ]
إنْ لَمْ أقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعَا١٢ .................
وأنشد لأبي الأسود :[ الكامل ]
يَا بَا المُغيرةِ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ فَرَّجْتُهُ بِالمَكْرِ مِنَّي وَالدَّهَا١٣
[ وقولهم :" وَيْلُمِّهِ " ]١٤.
وقوله :[ البسيط ]
وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا فَجْعٌ وَوَلْعٌ وإخلافٌ وتَبْدِيلُ١٥
وأنشد أيضاً :[ الوافر ]
وَمَنْ رَا مِثْلَ مَعْدَانَ بْنِ سَعْدٍ إذَا مَا النِّسْعُ طَالَ عَلَى المَطِيِّه١٦
أي : ومَنْ رأى.
ومنها : أنه لا يَدْخُلُهَا تَعْلِيقٌ، ولا إلغَاءٌ ؛ لأنها [ بمعنى ]١٧ " أخبرني " و " أخبرني " لا يُعَلَّقُ عند الجمهور.
قال سيبويه١٨ :" وتقولُ : أرأيتك زَيْداً أبو مَنْ هو ؟ لا يَحْسُنُ فيه إلاَّ النَّصْبُ في " زيد "، ألا ترى أنَّك لو قلت :" أرأيت أبو مَنْ أنت ؟ " لم يَحْسُنْ ؛ لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني " وقد خالف سيبويه غَيْرُهُ من النحويين، وقالوا : كثيراً ما تُعَلَّق " أرأيت " وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واسْتَدَلُّوا بهذه الآية التي نَحْنُ فيها، وبقوله :﴿ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم ﴾ [ العلق : ١٣، ١٤ ]، وبقوله :
أرَيْتَ مَا جَاءْتُ بِهِ أمْلُودَا١٩ ...................
وهذا لا يرد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً.
ومنها : أنها تَلْحَقُهَا " التاء " فَيُلْتَزَمُ إفْرَادُهَا وتذكيرها، ويُسْتَغْنَى عن لحاقِ علامة الفُرُوعٍ بها بِلحاقِهَا بالكافِ، بخلاف التي لم تُضَمَّنْ معنى " أخبرني " فإنها تُطَابِقُ فيها، كما تقدَّم ما يُرادُ بها.
ومنها : أنه يلحقها " كاف " هي حرف خطابٍ تُطابقُ ما يُرَادُ بها من إفرادٍ وتذكير وضِدَّيهما، وهل هذه " التَّاء " فاعل، و " الكاف " حرف خطاب [ تبيِّن أحوال التاء، كما تبينه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب ]٢٠ و " الكاف " هي الفاعل، واسْتُعِيرَ ضَمِيرُ النَّصْبِ في مكان ضمير الرفع، أو " التاء " فاعلٌ أيضاً، و " الكاف " ضمير في موضع المفعول الأول ؟
ثلاثةُ مذاهب مشهورة، الأوَّل : قول البصريين، والثاني : قول الفراء٢١، والثالث : قول الكسائي، ولنَقْتَصِرْ على بعض أدلَّةِ كُلِّ فريق.
قال أبو علي :" قولهم :" أرَأيْتَكَ زَيْداً ما فعل " بفتح " التاء " في جميع الأحوال، فالكافُ لا يخلو أن يكون للخطاب مُجَرَّداً، ومعنى الاسمية مَخْلُوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالتهِ على الخطابِ، ولو كان اسْماً لوجب أن يكُون الاسْمُ الذي بعده هو هو ؛ لأن هذه الأفعال مفعولها الثَّاني هو الأوَّل في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّن أن يكون مَخْلُوعاً منه الاسميَّةُ، وإذا ثبت أنه للخطَابِ مُعَرى من الاسمية ثَبَت أن " التاء " لا تكون لِمُجرَّدِ الخطابِ، ألا ترى أنه لا ينبغي أن يَلْحَقَ الكَلِمَة علامتَا خطاب، كما لا يحلقها علامتا تأنيث ولا علامتَا استفهامٍ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك أفرِدَت " التاءُ " في جميع الأحْوَالِ لمَّا كان الفِعْلُ لا بُدَّ من فاعلٍ، وجُعِلَ في جميع الأحْوَالِ على لَفْظٍ واحد اسْتِغْنَاءً بما يَلْحَقُ " الكاف "، ولو لحق " التاء " علامةُ الفروع لاجتمع علامتَانِ للخطاب مما كان يَلْحَقُ " التاء "، وممَّا كان يلحق " الكاف "، فلما كان ذلك يُؤدِّي إلى ما لا نَظِيرَ له رُفِضَ، وأجْرِي على ما عليه سِائِرُ كلامهم ".
وقال الزَّجَّاج٢٢ بعد حكايته مَذْهَبَ الفراء :" وهذا القَوْلُ لم يَقْبَلُهُ النحويون القُدَمَاءُ وهو خَطَأٌ ؛ لأنَّ قولك :" أرأيت٢٣ زَيْداً ما شأنه " لو تعدَّتِ الرؤية إلى " الكاف " وإلى زيد لصار المعنى : أرَأتْ نَفْسُكَ زيداً ما شأنُهُ وهذا مُحَالٌ " ثم ذكر مذهب البصريين.
وقال مكِّي بن أبي طالبٍ٢٤ بعد حكايته مَذْهَبَ الفرَّاءِ :" وهذا مُحَالٌ، لأنَّ " التاء " هي " الكاف " في " أرأيتكم "، فكان يجب أن تُظْهَرَ علامةُ جمع " التاء " وكان يجب أن يكون فاعلان لفعلٍ واحدٍ وهما لِشَيءٍ واحد، ويجب أن يكون معنى قولك :" أرأيتك زَيْداً ما صَنَعَ " : أرأيْتَ نَفْسَكَ زَيْداً ما صنع ؛ لأن " الكاف " هو المُخَاطَبُ، وهذا مُحَالٌ في المعنى، ومُتَنَاقِضٌ في الإعراب والمعنى ؛ لأنك تَسْتَفْهِمُ عن نفسه في صَدْرِ السُّؤال، ثم ترد السؤال إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائبٍ آخر، أو لأنه يَصِيرُ ثلاثة مفعولين ل " رأيت "، وهذا كله لا يَجُوزُ. ولو قلت :" أرأيتك عالماً بزيد " لكان كلاماً صحيحاً، وقد تعدَّى " رأى " إلى مفعولين ".
وقال أبو البقاء٢٥ بعدما حكى مذهب البصريين :" والدَّليلُ على ذلك أنها - أي " الكاف " - لو كانت اسْماً لكانت : إمَّا مَجْرُورةً - وهو باطلٌ إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مَرْفُوعَةٌ، وهو باطِلٌ أيضاً لأمرين :
أحدهما : أن " الكاف " ليست من ضمائر الرفع.
والثاني : أنها لا رَافِع لها ؛ إذا ليست فاعلاً ؛ لأن " التاء " فاعل، ولا يكون لفعل واحدٍ فاعلان، وإمَّا أن تكون مَنْصُوبةً، وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذا الفِعْلَ يتعدَّى إلى مَفْعُولينِ كقولك :" أرأيت زيداً ما فعلَ " فلو جعلت " الكاف " مفعولاً لكان ثالثاً.
والثاني : أنه لو كان مَفْعُولاً لكان هو الفاعل في المَعْنَى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغَرَضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك، ولذلك قلت : أرأيتك زيداً وزيد غير المُخَاطَبِ، ولا هو بدل منه.
والثالث : أنه لو كان مَنْصُوباً على أنه مَفْعُولٌ لظَهَرتْ علامةُ التثنية والجمع والتَّأنيث في " التاء " فكنت تقول : أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ ". ثم ذكر مَذْهَبَ الفرَّاءِ ثم قال :" وفيما ذكرنا إبطالٌ لمذهبه ".
وقد انْتَصَرَ أبو بكر بن الأنْبَاريّ لمذهب الفرَّاء بأن قال :" لو كانت " الكافُ " توكيداً لوقَعت التَّثْنِيَةُ والجمع بالتاء، كما يَقَعَانَ بها عند عدم " الكاف "، فلمَّا فُتِحت " التاءُ " في خِطَابِ الجَمْعِ ووقع مِيْسَمُ الجمع لغيرها كان ذلك دَلِيلاً على أن " الكاف " غيرُ توكيد.
ألا ترى أن " الكاف " لو سَقَطَتْ لم يَصلُحْ أن يُقالَ لجماعة : أرأيت، فوضحَ بهذا انْصِرَافُ الفِعْلِ إلى " الكاف "، وأنها واجبةٌ لازَمَةٌ مُفْتَقَرٌ إليها ".
وهذا الذي قاله أبُو بَكْرٍ بَاطِلٌ بالكاف اللاحِقَةِ لاسم الإشارة، فإنه
١ ينظر: الدر المصون ٣/٥٥، البحر المحيط ٤/١٢٩، حجة القراءات ص (٢٥٠) السبعة ص (٢٥٧)، النشر ١/٣٩٧ ـ ٣٩٨..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٥٥، البحر المحيط ٤/١٢٩، حجة القراءات ص (٢٥٠)..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٥٥، حجة القراءات ص (٢٥٠)..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/٥٥..
٥ ينظر: حجة القراءات ص (٢٥٠)، السبعة ٣/٣٠٦، إعراب القراءات السبع ١/١٥٦..
٦ ينظر: الدر المصون ٣/٧٥٥ إتحاف فضلاء البشر ٢/١١، حجة القراءات ص (٢٥٠)..
٧ البيت لرؤبة أو لرجل من هذيل. ينظر: أشعار الهذليين ٢/٦٥١ والمغني ٢/٣٣٩، الخصائص ١/١٣٦، اللسان (رأى) الدر المصون ٣/٥٥..
٨ البيت لعمر بن أبي ربيعة وهو في ديوانه ص (٩٦)، الدر المصون ٣/٥٥..
٩ البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص (٥٣)، الأغاني ١٢/٣١٥، ة خزانة الأدب ١/٢٨٣، ١١/٣٧٩، شرح شافية ابن الحاجب ٣/٣٧، شرح شواهد الشافية ص (٣١٤)، الدر المصون ٣/٥٥..
١٠ في ب: النقل..
١١ ينظر: الإملاء ١/٢٤١..
١٢ تقدم..
١٣ البيت الأسود الدؤلي في ملحق ديوانه ص (٣٧٨)، المقرب ٢/٢٠٠، الممتع في التصريف ٢/٦٢٠، خزانة الأدب ١٠/٣٤١، رصف المباني ص ٤٤. الدر المصون ٣/٥٦..
١٤ سقط في ب..
١٥ تقدم..
١٦ ينظر: اللسان (رأى) الدر المصون ٣/٥٦..
١٧ سقط في ب..
١٨ ينظر: الكتاب ١/١٢٢..
١٩ تقدم..
٢٠ سقط في أ..
٢١ ينظر: معاني القرآن ١/٣٣٣..
٢٢ ينظر: معاني القرآن ٢/٢٧٠..
٢٣ في ب: أرأيتك..
٢٤ ينظر: المشكل ١/٢٦٦..
٢٥ ينظر: الإملاء ١/٢٤٢..

في الكلام: حَذْفُ تقديره: «أرْسلْنَا رُسُلاً إلى أممٍ فكذبوا فأخذناهم» وهذا الحذفُ ظاهر جداً.
و «من قَبْلِكَ» متعلِّقٌ ب «أرْسلنا»، وفي جعله صِفَةً ل «أمم» كلام تقدِّم مِرَاراً، وتقدَّم تفسيرُ ﴿البأسآء والضراء﴾ [البقرة: ١٧٧] ولم يُلْفَظُ لهما بِمُذَكِرٍ على «أفْعَل».
قوله: ﴿ولاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾.
«إذ» منصوب ب «تضرَّعوا» فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز في المفعول به، تقول: «لولا زيداً ضَرَبْتَ»، وتقدَّم أن حرفَ التَّخْضِيض مع الماضي يكون معناه التَّوءبِيخَ، والتَّضَرُّع: «تَفَعُّل» من الضَّراعَة؛ وهي الذِّلَّة والهَيْبَة المسببة عن الانْقِيَادِ إلى الطاعة، يقال: «ضَرَعَ يَضْرَعُ ضراعة فهو ضارعٌ وضَرعٌ».
قال الشاعر: [الطويل]
147
٢١٧٤ - ليُبْكَ يَرْيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ
وللسهولة والتَّذَلُّلِ المفهومة من هذه المادة اشْتَقُّوا منها لِلثَّدْي اسماً فقالو له: «ضَرْعاً».
قوله: ﴿ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُم﴾ «لكنْ» هنا وَاقِعَةٌ بين صدَّيْنِ، وهما اللِّينُ والقَسْوَةُ؛ وذلك أن قوله: «تضرَّعوا» مُشْعِرٌ باللِّينِ والسُّهُولةِ، وكذلك إذا جعلءتَ الضَّراعَةَ عبارة عن الإيمان، والقَسْوَةَ عبارة عن الكُفْرِ، وعبَّرت عن السبب بالمُسَبَّبِ، وعن المُسَبَّبِ بالسبب، ألا ترى أانه تقول: «آمنَ قلبه فتضرَّعُ، وقسا قلبه فكفر» وهذا أحسن من قول أبي البقاء: «ولكن» استدراك على المعنى، أي ما تَضَرَّعُوا ولكن يعني أن التَّخْضِيضَ في معنى النَّفْي، وقد يَتَرَجَّعُ هذا بما قالهُ الزمخشري فإنه قال: مَعْنَاهُ نَفْيُ التضرُّع كأنه قيل: لم يَتَضرَّعوا إذ جاءهم بأسُنَا، ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكن لهم عُذْرٌ في تَرْك التَّضَرُّعِ، إلاَّ قَسْوَة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لهم.
قوله: «وزيَّنَ لَهُم» هذه الجملة تَحْتَمِلُ وجهين:
أحدهما: أن تكون اسْتِئْنَافِيَّةً أخبر تعالى عنهم بذلك.
والثاني: وهو الظاهر -: أنها داخلة في حيَّز الاستدراك فهو نسقٌ على قول: «قَسَتْ قُلُوبهم» وهذا رأي الزمخشري فإن قال: «لم يكن عُذْرٌ في ترك التَّضرُّع إلاَّ قَسْوَةُ قلوبهم وإعابُهُم بأعمالهم» كما تقدَّم و «ما» في قوله: «ما كانوا» يحتمل [أن تكون موصولة اسمية أي: الذي كانوا يعملونه] وأن تكون مصدرية، أي: زيَّنَ لهم عَمْلَهُم، كقوله: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٤] ويَبْعُدُ جَعْلُها نكرةً موصوفة.
فصل دلت هذه الآية مع الآية التي قبلها على مذهب أهل السُّنةِ، لأنه بيَّن في الآية الأولى أن الكُفار يرجعون إلى الله - تعالى - عند نزول الشَّدائد ثم بيَّن في هذه الآية أنهم لا يَرْجعُونَ إلى الله - تعالى - عند كل ما كان من جِنْسِ الشَّدَائِدِ، بل قد يبقون مُصِرِّينَ على الكُفْرِ غير راجعين إلى الله تعالى، وذلك يَدُلُّ على أنَّ من لم يَهْدِهِ الله لم يَهْتَدِ سواء شَاهَدَ الآيات أوْ لم يُشَاهد.
فإن قيل: ألَيْسَ قوله: ﴿بل إيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ يَدُلُّ على أنهم تَضَرَّعُوا، وها هنا يقول: «قَسَتْ قُلوبهم ولم يتضرَّعوا».
فالجوابُ: أولئك أقْوَامٌ وهؤلاء أقوامٌ آخَرُون، أو نقول: أولئك تَضَرَّعُوا لطلب إزالة
148
البَلِيَّة ولم يَتَضرَّعُوا على سبيل الإخلاصِ لله تعالى، فلهذا القَرْق حَسُنَ الإثْبَاتُ والنفي.
فصل احتج الجُبَّائي بقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون﴾ على أنه - تعالى - إنما أرْسَل الرسل إليهم، وإنما سَلَّطَ البَأسَاءَ والضَّرَّاء عليهم إرادةِ أن يتضرعوا أو يؤمنوا، وذلك يَدُلُّ على أنه - تعالى - أراد الإيمان والطاعة من الكُلِّ.
والجوابُ أن كلمة «لَعلَّ» للتَّرَجِّي والتَّمَنِّين وهو في حق الله - تعالى - مُحَالٌ، وأنتم حملتموه على إرادة هذا المَطْلُوب، ونحن نحمله على أنه - تعالى - عاملهم مُعاملة لو صدرت عن غير الله لكان المَقْصُود منه هذا المعنى، فأمَّا تعليل حكم الله - تعالى - ومشيئته، فذلك مُحَالٌ على ما ثبت بالدَّليل، ثم نقول: إن دَلَّتْ هذه الآية على قولكم من هذا الوَجْهِ، فإنها تَدُلُّ على ضِدِّ قولكم من وجهٍ آخر، وذلك لأنها تَدُلُّ على أنهم إنما لم يَتضَرَّعُوا لِقَسْوَةِ قلوبهم، ولأجلِ أنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لهم أعْمَالَهُمْن فنقول: تلك القَسْوَةُ إن [حصلت بفعلهم احتجاوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن] حصلت بفعل الله - تعالى - فالقول قولنا.
وأيضاً: هَبْ أن الكُفَّارَ إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح [بسبب تزيين الشيطان، إلاَّ أنا نقول: ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح]، فإن كان ذلك لأجل شَيْطان آخر تَسَلْسَلَ إلى غير نهاية، وإذا بطلت هذه التَّقَادِيرُ وانتهت إلى أنَّ كُلَّ أحد إنما يُقدِمُ تارةً على الخير وأخْرَى على الشَّرِّ؛ لأجل الدَّوَاعي التي تحصل في قَلْبِهِ ثم ثبت أن تلك الدَّوَاعي لا تحصل إلاَّ بإيجاد الله، فحينئذٍ يَصحُّ قولنا، ويفسدُ قولهم بالكلية، والله أعلم.
149
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:في الكلام : حَذْفٌ تقديره :" أرْسلْنَا رُسُلاً إلى أممٍ فكذبوا فأخذناهم " وهذا الحذفُ ظاهر جداً.
و " من قَبْلِكَ " متعلِّقٌ ب " أرْسلنا "، وفي جعله صِفَةً ل " أمم " كلام تقدِّم مِرَاراً، وتقدَّم تفسيرُ ﴿ الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] ولم يُلْفَظُ لهما بِمُذَكِرٍ على " أفْعَل ".
قوله :﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾.
" إذ " منصوب ب " تضرَّعوا " فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز في المفعول به، تقول :" لولا زيداً ضَرَبْتَ "، وتقدَّم أن حرفَ التَّحْضِيض مع الماضي يكون معناه التَّوْبِيخَ، والتَّضَرُّع :" تَفَعُّل " من الضَّراعَة ؛ وهي الذِّلَّة والهَيْبَة المسببة عن الانْقِيَادِ إلى الطاعة، يقال :" ضَرَعَ يَضْرَعُ ضراعة فهو ضارعٌ وضَرِعٌ ".
قال الشاعر :[ الطويل ]
ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ١
وللسهولة والتَّذَلُّلِ المفهومة من هذه المادة اشْتَقُّوا منها لِلثَّدْي اسماً فقالو له :" ضَرْعاً ".
قوله :﴿ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُم ﴾ " لكنْ " هنا وَاقِعَةٌ بين ضدَّيْنِ، وهما اللِّينُ والقَسْوَةُ ؛ وذلك أن قوله :" تضرَّعوا " مُشْعِرٌ باللِّينِ والسُّهُولةِ، وكذلك إذا جعلْتَ الضَّراعَةَ عبارة عن الإيمان، والقَسْوَةَ عبارة عن الكُفْرِ، وعبَّرت عن السبب بالمُسَبَّبِ، وعن المُسَبَّبِ بالسبب، ألا ترى أنك تقول :" آمنَ قلبه فتضرَّعُ، وقسا قلبه فكفر " وهذا أحسن من قول أبي البقاء٢ :" ولكن " استدراك على المعنى، أي ما تَضَرَّعُوا ولكن يعني أن التَّحْضِيضَ في معنى النَّفْي، وقد يَتَرَجَّحُ هذا بما قالهُ الزمخشري٣ فإنه قال : مَعْنَاهُ نَفْيُ التضرُّع كأنه قيل : لم يَتَضرَّعوا إذ جاءهم بأسُنَا، ولكنه جاء ب " لولا " ليفيد أنه لم يكن لهم عُذْرٌ في تَرْك التَّضَرُّعِ، إلاَّ قَسْوَة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لهم.
قوله :" وزيَّنَ لَهُم " هذه الجملة تَحْتَمِلُ وجهين :
أحدهما : أن تكون اسْتِئْنَافِيَّةً أخبر تعالى عنهم بذلك.
والثاني :- وهو الظاهر - : أنها داخلة في حيَّز الاستدراك فهو نسقٌ على قوله :" قَسَتْ قُلُوبهم " وهذا رأي الزمخشري فإن قال٤ :" لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التَّضرُّعِ إلاَّ قَسْوَةُ قلوبهم وإعجابُهُم بأعمالهم " كما تقدَّم و " ما " في قوله :" ما كانوا " يحتمل [ أن تكون موصولة اسمية أي : الذي كانوا يعملونه ]٥ وأن تكون مصدرية، أي : زيَّنَ لهم عَملَهُم، كقوله :﴿ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ النمل : ٤ ] ويَبْعُدُ جَعْلُها نكرةً موصوفة.

فصل


دلت هذه الآية مع الآية التي قبلها على مذهب أهل السُّنةِ، لأنه بيَّن في الآية الأولى أن الكُفار يرجعون إلى الله -تعالى- عند نزول الشَّدائد ثم بيَّن في هذه الآية أنهم لا يَرْجعُونَ إلى الله -تعالى- عند كل ما كان من جِنْسِ الشَّدَائِدِ، بل قد يبقون مُصِرِّينَ على الكُفْرِ غير راجعين إلى الله تعالى، وذلك يَدُلُّ على أنَّ من لم يَهْدِهِ الله لم يَهْتَدِ سواء شَاهَدَ الآيات أوْ لم يُشَاهد.
فإن قيل : ألَيْسَ قوله :﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾ يَدُلُّ على أنهم تَضَرَّعُوا، وها هنا يقول :" قَسَتْ قُلوبهم ولم يتضرَّعوا ".
فالجوابُ : أولئك أقْوَامٌ وهؤلاء أقوامٌ آخَرُون، أو نقول : أولئك تَضَرَّعُوا لطلب إزالة البَلِيَّة ولم يَتَضرَّعُوا على سبيل الإخلاصِ لله تعالى، فلهذا الفَرْق حَسُنَ الإثْبَاتُ والنفي٦.

فصل


احتج الجُبَّائي٧ بقوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون ﴾ على أنه -تعالى- إنما أرْسَل الرسل إليهم، وإنما سَلَّطَ البَأسَاءَ والضَّرَّاء عليهم لإرادةِ أن يتضرعوا أو يؤمنوا، وذلك يَدُلُّ على أنه -تعالى- أراد الإيمان والطاعة من الكُلِّ.
والجوابُ أن كلمة " لَعلَّ " للتَّرَجِّي والتَّمَنِّي، وهو في حق الله -تعالى- مُحَالٌ، وأنتم حملتموه على إرادة هذا المَطْلُوب، ونحن نحمله على أنه -تعالى- عاملهم مُعاملة لو صدرت عن غير الله لكان المَقْصُود منه هذا المعنى، فأمَّا تعليل حكم الله -تعالى- ومشيئته، فذلك مُحَالٌ على ما ثبت بالدَّليل، ثم نقول : إن دَلَّتْ هذه الآية على قولكم من هذا الوَجْهِ، فإنها تَدُلُّ على ضِدِّ قولكم من وجهٍ آخر، وذلك لأنها تَدُلُّ على أنهم إنما لم يَتضَرَّعُوا لِقَسْوَةِ قلوبهم، ولأجلِ أنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لهم أعْمَالَهُمْ، فنقول : تلك القَسْوَةُ إن [ حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن ]٨ حصلت بفعل الله -تعالى- فالقول قولنا.
وأيضاً : هَبْ أن الكُفَّارَ إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح [ بسبب تزيين الشيطان، إلاَّ أنا نقول : ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح ]٩، فإن كان ذلك لأجل شَيْطان آخر تَسَلْسَلَ إلى غير نهاية، وإذا بطلت هذه التَّقَادِيرُ وانتهت إلى أنَّ كُلَّ أحد إنما يُقدِمُ تارةً على الخير وأخْرَى على الشَّرِّ ؛ لأجل الدَّوَاعي التي تحصل في قَلْبِهِ ثم ثبت أن تلك الدَّوَاعي لا تحصل إلاَّ بإيجاد الله، فحينئذٍ يَصحُّ قولنا، ويفسدُ قولهم بالكلية، والله أعلم.
١ تقدم..
٢ ينظر: الإملاء ١/١٤٢..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٢٣..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٢٣..
٥ سقط في أ..
٦ ينظر: الرازي ١٢/١٨٥..
٧ ينظر: المصدر السابق..
٨ سقط في أ..
٩ سقط في أ..

وهذا من تمام القصة الأولى بيَّن تعالى أنه أخذهم بالبَأسَاءِ والضرَّاءِ لعَلَّهُمْ يَتَضرَّعُوا ثُمَّ بيَّن في هذه الآية أنهم لما نَسُوا ما ذُكِّروا به من البَأسَاءِ والضَّرَّاءِ فَتَحْنَا عليهم أبواب كُلِّ شيء، ونَقَلْنَاهُمْ من البَأسَاءِ والضَّرَّاء إلى الرَّاحةِ والرَّخاءِ، وأنواع الآلاَءِ والنعماءِ والمقصودُ أنه - تعالى - عَامَلَهُمْ بِتَسْلِيطِ المَكَارِهِ والشَّدَائِدِ تَارَةً، فلم ينتفعوا به، فَنَقَلَهُمْ من تلك الحَالَةِ إلى ضِدِّهَا، وهو فتح أبواب الخيرات عليهم، فلم ينتفعوا به أيضاً، وهذا كما يَفْعَلُهُ الأبُ المُشْفِق بولَدِهِ يُخَاشِنُهُ تَارَةً ويُلاطِفُهُ أخرى طَلَباً لصَلاحِهِ.
149
قوله: «فَتَحْنَا» : قرأ الجمهور «فَتَحْنَا» مخفَّفاً، وابن عامر «فَتَّحْنَا» مثقلاً، والتقيلُ مُؤذِن بالتكثير؛ لأن بَعْدَهُ «أبواب» فناسب التكثير والتخفيف هو الأصل.
وقرا ابن عامر أيضاً في «الأعراف» ﴿لَفَتَحْنَا﴾ [الأعراف: ٩٦] وفي «القمر» ﴿فَفَتَحْنَآ﴾ [القمر: ١١] بالتَّشديد أيضاً، وشدَّدَ أيضاً ﴿فُتِحَتْ يَأْجُوجُ﴾ [الأنبياء: ٩٦] والخلافُ أيضاً في ﴿فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ في «الزمر» في الموضعين [آية ٧١، ٧٣]، ﴿وَفُتِحَتِ السمآء﴾ في النبأ [آية ١٩] فإن الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها، ولم يَقْرَأها بالتخفيق إلاَّ الكوفيون، فقد جَرَى ابن عامر على نَمَطٍ واحدٍ في هذا الفِعْلِ، والباقون شَدَّدُوا في المواضع الثلاثة المُشَارِ إليها، وخَفَّفُوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين.
قوله: «فَإذَا مُبْلِسُونَ» «إذا» هي الفُجَائِيَّةُ، وفيها ثلاثة مذاهب:
مذهب سيبويه أنها ظرف مكان، ومذهبُ جماعة منهم الرّياشي أنها ظرف زمان، ومذهب الكُوفيين أنها حرف، فعلى تقدير كونها ظَرْفاً زماناً أو مكاناً النَّصابُ لها خبر المبتدأ، أي: أبْلِسُوا في مكان إقامَتِهِمْ أو في زمانها.
والإبْلاسُ: الإطْرَاقُ.
وقيل: هو الحزن المعترض من شدة البَأسِ، ومنه أشْتُقَّ «إبْلِيسُ» وقد تقدَّم في موضعه، وأنَّهُ هل هو أعجمي أم لا؟
قال القرطبي: المُبْلسُ الباهت الحزين الآيسُ من الخير الذي لا يحيرُ جواباً لشدَّةِ ما نزل به من سُوءِ الحالِ.
قال العجَّاج: [الرجز]
٢١٧٥ - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا... قال: نَعَمْ أعْرِفُه وأبْلَسَا
أي: تحيّر لهَوْل ما رَأى، ومن ذلك اشْتُقَّ اسم إبْلِيس، وأبْلَسَ الرَّجُلُ سَكَتَ،
150
وأبْلَسَت النَّاقَةُ وهي مبلاسٌ إذا لم تَرْعَ من شِدَّةِ الضّبَعة يقال: ضَبِعَت النَّاقة تَضْبَع ضَبَعَةً وضَبْعاً إذا أرادت الفَحْلَ.

فصل في معنى الآية


المعنى: فتحنا عليهم أبْوابَ كُلِّ شيء كان مُغْلَقاً عنهم من الخير، أي: لمَّا قَسَتْ قلوبهم ولم يَتَفَطَّنُوا ونَسُوا ما ذكروا به من الوَعْظِ فَتَحْنَا عليهم أبْوَابَ الخير مكان البلاء والشِّدَّة حتى إذا فَرِحُوا بما أوتوا، وهذا فَرَحُ بَطَرٍ مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا.
قال الحسنُ: في هذه الآية مَكْرٌ بالقوم وربِّ الكعبة.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا رَأيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العَاصِي، فإنَّ ذَلكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ»
ثم قرأ هذه الآية. ثم قال «أخَذْنَاهُم بَغْتَةً» : فُجَاءةً أين ما كانوا.
قال أهْلُ المعاني: وإنما أخذوا في حَالِ الرَّاحةِ والرَّخَاءِ ليكون أشَدَّ لِتحَسُّرِهِمْ على ما فَاتَهُمْ من حال السلامة والعَافِيَةِ، «فإذا هم مُبْلسون» آيِسُونَ من كُلِّ خيرٍ.
قال الفرَّاء: المُبْلسُ الذي انقطع رَجَاؤهُن ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حُجَّتِهِ: قد أبْلِسَ.
وقال الزَّجَّاجُ: المُبْلسُ الشديد الحَسْرَةِ الحزين.
قوله: «فَقُطَعَ دَابِرُ» الجمهور على «فَقُطِعَ» مِبْنِيَّا للمفعولِ «دابرُ» مرفوعٌ به.
وقرأ عِكْرِمَةُ: «قطع» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى، «دَابِرَ» مفعول به، وفيه التَفَاتٌ، إذ هو خورج من تكلم في قوله: «أخَذْنَاهُمْ» إلى غَيْبَةٍ.
و «الدَّابِرُ» التَّابعُ من خَلْفٍ، يقال: دَبَرَ الوَلَدُ والِدَه، ودَبَرَ فلان القَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دُبُوراً ودَبْراً.
وقيل: الدَّابرُ الأصْلُ، يقال: قَطَع اللَّهُ دَابِرَهُ، أي: أصله قاله الأصْمَعِيُّ، وقال أبُو عُبَيْدٍ «» دَابِرُ القوم آخِرُهُمْ «، وأنشدوا لأميَّة بن أبي الصَّلْتِ: [البسيط]
151
ومنه دَبَرَ السَّهْمُ الهَدَفَ، أي: سقط خَلْفَهُ.
وفي الحديث عن عبد الله بن مَسْعُودٍ» مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَأتِي الصَّلاةَ إلاَّ دُبريًّا «
أي: في آخر الوقت.

فصل في المراد بالآية


والمعنى أنَّ الله - تعالى - اسْتَأصَلَهُمْ العذاب، فلم يُبْقِ بَاقِيَةً.
و»
الحمد لله رب العالمين «.
قيل: على هَلاّكِهِمْ.
وقيل: تعليمٌ للمؤمنين كيف يَحْمَدُونَهُ، حَمَدَ اللَّهُ نَفْسَهُ على أنْ قَطَعَ دَابِرَهُم؛ لأنه نِعْمَةٌ على الرُّسُلِ، فَذَكرَ الحمْدَ تَعْلِماً لهم، ولمن آمن بهم أن يَحْمَدُوا الله على كِفَايَتِهِ شَرَّ الظالمين، وليحمد محمد وأصحابه رَبَّهُمْ إذا أهلكنا المكذّبين.
وتضَمَّنَتْ هذه الآية الحُجَّة على وحوب ترك الظلم لما تعقَّب من قَطْعِ الدَّابرِ إلى العذابِ الدئام مع اسْتَحْقَاقِ القاطعِ للحمد من كل حَامِدٍ.
152
قوله :" فَقُطِعَ دَابِرُ " الجمهور١ على " فَقُطِعَ " مَبْنِيَّا للمفعولِ " دابرُ " مرفوعٌ به.
وقرأ عِكْرِمَةُ٢ :" قطع " مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى، " دَابِرَ " مفعول به، وفيه التِفَاتٌ، إذ هو خروج من تكلم في قوله :" أخَذْنَاهُمْ " إلى غَيْبَةٍ.
و " الدَّابِرُ " التَّابعُ من خَلْفٍ، يقال : دَبَرَ الوَلَدُ والِدَه، ودَبَرَ فلان القَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دُبُوراً ودَبْراً.
وقيل : الدَّابرُ الأصْلُ، يقال : قَطَع اللَّهُ دَابِرَهُ، أي : أصله قاله الأصْمَعِيُّ، وقال أبُو عُبَيْدٍ :" دَابِرُ القوم آخِرُهُمْ "، وأنشدوا لأميَّة بن أبي الصَّلْتِ :[ البسيط ]
٢١٧٦ - فاستُؤصِلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفاً وَلاَ انْتَصَرُوا
فاستُؤصِلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفاً وَلاَ انْتَصَرُوا٣
ومنه دَبَرَ السَّهْمُ الهَدَفَ، أي : سقط خَلْفَهُ.
وفي الحديث عن عبد الله بن مَسْعُودٍ " مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَأتِي الصَّلاةَ إلاَّ دُبريًّا " أي : في آخر الوقت٤.

فصل في المراد بالآية


والمعنى أنَّ الله -تعالى- اسْتَأصَلَهُمْ العذاب، فلم يُبْقِ بَاقِيَةً.
و " الحمد لله رب العالمين ".
قيل : على هَلاّكِهِمْ.
وقيل : تعليمٌ للمؤمنين كيف يَحْمَدُونَهُ، حَمَدَ اللَّهُ نَفْسَهُ على أنْ قَطَعَ دَابِرَهُم ؛ لأنه نِعْمَةٌ على الرُّسُلِ، فَذَكرَ الحمْدَ تَعْلِيماً لهم، ولمن آمن بهم أن يَحْمَدُوا الله على كِفَايَتِهِ شَرَّ الظالمين، وليحمد محمد وأصحابه رَبَّهُمْ إذا أهلكنا المكذّبين.
وتضَمَّنَتْ هذه الآية الحُجَّة على وجوب ترك الظلم لما تعقَّب من قَطْعِ الدَّابرِ إلى العذابِ الدائم مع اسْتِحْقَاقِ القاطعِ للحمد من كل حَامِدٍ.
١ ينظر: الدر المصون ٣/٦٥..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٦٥..
٣ البيت لأمية بن أبي الصلت ينظر: ديوانه ص (٣٢)، تفسير القرطبي ٦/٢٧٥، الطبري ٥/١٩٤، الدر المصون ٣/٦٥..
٤ ذكره القرطبي في تفسيره ٦/٢٧٥..
﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله﴾ المفعول الأوَّل محذوف، تقديره: أرأيتم سَمْعَكُمْ وأبصاركم إن أخذنا اللَّهُ، والجملة الاسْتِفْهَامِيَّةُ في موضع الثاني، وقد تقدَّم أن أبا حيَّان يجعله من التَّنازُعِ، وجوابُ الشرط مَحْذُوفٌ على نحو ما مَرَّ.
وقال الحوفي: وحَرْفُ الشَّرْطِ وما اتَّصَلَ به في موضع نَصْبٍ على الحالِ، والعاملُ في الحالِ «أرأيتم» كقولك: «اضْرِبْهُ إن خرج» أي: خارجاً، وجواب الشَّرْطِ ما تقدَّم مما دَخَلَتْ عليه هَمْزَةُ الاستفهام وهذا إعرابٌ لا يَظْهَرُ.
ولم يُؤتَ هنا ب «كاف» الخطاب، وأتِيَ به هناك؛ لأن التَّهْديدَ هناك أعْظَمُ فَنَاسَبَ التأكيد بالإتيان ب «كاف» الخطاب ولمَّا لم يُءتَ بالكافِ وجَبَ بروز علامةِ الجَمْعِ في التاء لئلا يَلْتَبِسَ، ولو جيء معها بالكافِ لاسْتُغْنِيَ بها كما تقدَّمَ، وتوْحِيدُ السَّمْعِ، وجَمْعُ الأبصارِ مفهومق مما تقدَّم في «البقرة».
قوله: «مَنْ إلهٌ» مبتدأ وخبر، و «مَنْ» استِفْهَامِيَّةٌ، و «غيرُ الله» صِفَةٌ ل «إله» و «يأتيكم» صِفَةٌ ثانية، و «الهاء» في «به» تعود على «سمعكم».
وقيل: تعود على الجميع، ووُحِّد ذهَاباً به مذهب اسم الإشارةِ.
وقيل: تعود على الهدى المدلول عليه بالمعنى.
152
وقيل: يَعُودُ على المَأخُوذِ والمختُومِ المدلول عليهما والخَتْمِ، والاستفهامُ هنا للإنكارِ.
والجمهور: «بِهِ انظر» بكسر الهاء على الأصل، وروى المُسَيَّبي عن نافع «بهُ انظر» بضم الهاء [وهي لغةُ من يقرأ «فخسفنا بهو وبدارهُو الأرض» فحذف «الواو» لالتقاء الساكنين، فصارَ «به انظر» والباقون بكسرها.
وقرأ حمزة، والكسائي «يَصْدِفُونَ» بإشْمَامِ الزَّاين والباقون بالصاد.

فصل في معنى الآية


قال ابنُ عبَّاسٍ: المعنى: أيُّها المشركونُ إنْ أخَذَ الله، أي: أذهب وانْتَزَعَ سَمْعَكُمْ وأبْصَارَكُمْ، وختم على قلوبكم، أي: طبع على قلوبكم فلم تَعْقِلِ الهُدَى.
وقيل: معناه: أزال عقولكم حتى تصيروا كالمَجَانين.
وقيل: المُرَادُ من هذا الخَتْمِ الأمانةن.

فصل في إثبات الصانع


المرادُ من هذا الكلام الدِّلالةُ على وُجُودِ الصانع الحكيم المُخْتَار؛ لأ، أشْرَفَ أعضَاءِ الإنْسَانِ هو السَّمْعُ والبصر والقَلْبُ، والأذن محل القوة الساَّامعة، والعَيْنُ مَحَلُّ القوة البَاصِرَةِ، والقَلْبُ مَحَلُّ الحياة والعِلْمِ والعَقْلِ، فلوْ زالَتْ هذهِ الصِّفَات عن هذه الأعضاء اخْتَلَّ أمْرُ الإنسان، وبَطَلَتْ مَصَالِحُهُ في الدنيا والدِّين.
ومن المعلوم بالضرورة أن القَادِرَ على تحصيل هذه القُوَى فيها، وصونها عن الآفَاتِ ليس إلا الله تعالى، وإذا كان الأمْرُ كذلك كان المُنَعِمُ بهذه النعم العظيمة هو الله سُبْحَانَهُ وتعالى.
قوله: ﴿انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات﴾.
«كيف» مَعْمُول ل «نُصرِّفُ» ونَصبُها: إمَّا على التَّشْبيه بالحالِ، او التشبيه بالظَّرْفِ، وهي مُعْلِّقةٌ ل «انظر» فهي في مَحَلِّ نصب بإسْقَاطِ حرفِ الجرِّ، وهذا ظاهرٌ مما تقدَّم.
و «نُصَرِّف» : نُبَيِّنُ، و «يَصْدِفُون» معناه: يُعْرِضُونَ، يقال: صَدَق عن الشيء صَدفاً وصدوفاً وصدافيةً، وصادَفْتُهُ مُصادفَةً أي: لقِيتُهُ عن إعْراضٍ من جهتِهِ.
قال عِدِيُّ بْنُ الرقَاعِ: [البسيط]
153
٢١٧٧ - إذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أحْسَنَه ُ وهُنَّ كُلِّ سُوءِ يُتَّقَى صُدُفُ
«صُدُف» جمع «صَدُوف» ك «صُبُر» في جمع «صَبُور».
وقيل: معنى «صَدَف» :«مال»، مأخوذة من الصَّدَفِ في البعيرِ، وهو ان يميل خُفُّهُ من اليد إلى الرِّجْلِ من الجانب الوَحْشِيّ.
و «الصَّدَفُ» جمع «صَدَفَة»، وهي المحَارَةُ التي تكون فيها الدُّرَّة.
قال: [البسيط]
٢١٧٨ - وَزَادَهَا عَجَباً أنْ رُحْتُ فِي سُبُلٍ وَمَا دَرَتْ دَوَرَانَ الدُّرِّ في الصَّدَفِ
و «الصَّدَفُ» و «الصُّدُف» بفتح الصاد والداله ناحية الجَبَلِ المُرْتفعِ، وسأتي لهذا مزيدُ بيان.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة


قال الكعبي: دلَّت هذه الآية على أن اللَّه - تعالى - مَكَّنَهُمْ من الفَهْمِ، ولم يخلق فيهم الإعْرَاضَ والصَّدَّ، ولو كان تعالى هو الخَالِق للفكر فيهم لم يكن لهذا الكلامِ مَعْنَى.
واحْتَجَّ أهل السُّنَّةِ بعين هذه الآيَةِ قالوا: إنه - تعالى - بيَّن أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها، وإزالة الشبهات عنها، ثم إنهم مع هذه المُبَالَغةِ القَاطِعَةِ للعُذْرِ ما زادوا إلاَّ تَمَادِياً في الكُفْرِ والعنادِ، وذلكَ يَدُلُّ على أن الهُدَى والإضْلالَ لا يحصلان إلاَّ بهذاية الله - تعالى - وإضْلالِهِ، فَدَلالَةُ الآية على قولنا أقوى من دَلالتهَا على قولهم.
154
اعلم أن الدلائلَ المتقدّمة كانت مختصة بأخذ السَّمْع والبَصَرِ والقلب، وهذا عامٌ في جميع أنواع العذابِ، والمعنى أنه لا دَافِعَ لنوع من أنواع العذابِ، ولا مُحَصِّلَ لخير من الخَيْرَاتِ إلاَّ اللَّهُ تعالى، فوجب أن يكون هو المَعْبُودَ دون غيره.
والمراد ب «البَغْتَة» العذاب الذي يأتيهم فُجَاءةً من غير سَبْقِ علامةٍ، والمرادُ ب «الجَهْرَة» العذاب الذي يأتيهم مع سَبْقِ علامة تَدُلُّ عليه.
وقال الحَسَنُ: «بَغْتَةً» أو «جَهْرَةً» : معناه: لَيْلاً أو نهاراً.
154
قال القاضي: والأوَّل أوْلَى؛ لأنه لو جاءهم ذلك العذابُ ليْلاً وقد عاينوا قُدُمَهُ لم يكن بَغْتَةً، ولو جاءهم نَهَاراً وهم لا يَشْعُرون بقدومه لم يكن جَهْرَةً.
قوله: «هل يهلك» هذا اسْتِفْهَامٌ بمعنى النَّفْيِ؛ ولذلك دخلت «إلاَّ» وهو استثناء مُفَرَّغٌ، والتقديرُ: ما يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الظالمون، وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتكم» والأوَّلُ مَحْذُوفٌ، وهو من التَّنَازع على رأي أبي حيَّان كما تقدَّم تَقْرِيرُهُ.
وقال أبو البقاء: الاسْتِفْهَامُ هنا بمعنى التَّقْرير، فلذلك نَابَ عن جواب الشَّرْط، أي: إن أتاكم هلكتم، والظَّاهِرُ ما تقدَّمن ويجيء هنا قول الحُوفِيّ المتقدَّم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً.
وقرأ ابن محيصن: «هل يَهْلَكُ» مَبْنيَّا للفاعل.
فإن قيل: إن العذابَ إذا نزل لم يَحْصُلْ فيه التَّمْييزُ بَيْنَ المُطيعِ والعاصي. فالجوابُ أن العذاب وإن عَمَّ الأبْرَارَ والأشْرَار في الظاهرة، إلاَّ أن الهلاك في الحقيقة مُخْتَصٌّ بالظالمين؛ لأن الأخْيَارَ يستوجبون [بسبب نزول تلك] المضارِّ بهم أنْوَاعاً عظيمة من الثواب والدَّرَجَاتِ الرفيعة عن الله.
155
والمقصود من هذه الآية أن الأنبياء إنما بُعِثُوا مُبَشِّرين بالثواب على الطَّاعاتِ، ومُنْذِرينَ بالعِقَابِ على المَعَاصي، ولا قُدْرَةَ لهم على إظْهَارِ الآيات والمُعْجِزَاتِ، بل ذلك مُفَوَّضٌ إلى مَشِيئَةِ الله وحكمته.
قوله: ﴿إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ حالٌ من «المرسلين»، وفي هذه الحال معنى الغَلَبة، أي: لم نرسلهم لأن نقترح عليهم الآيات، بل لأن يبشروا وينذروا.
وقرأ إبراهيم، ويحيى: «مُبْشِرين» بالتخفيف، وقَدْ تقدَّم أن «أبْشَرَ» لغة في «بَشَّر».
قوله: «فَمَنْ آمَنَ» يجوز في «مَنْ» أن تكون شَرْطِيَّةً، وأن تكون مَوْصُولةً، وعلى كلا التقديرين فَمَحَلُّهَا رفع بالابتداء.
155
والخبر «فلا خَوْفَ» فإن كانت شَرْطِيَّة، فالفاء جواب الشَرْط، وإن كانت مَوْصُولةً فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون مَحَلُّ الجملتين الجَزْمَ، ولعى الثاني لا مَحَلِّ للأولى وممحل الثانية الرفع، وحمل على اللفظ فأفرد في «آمن» و «أصْلَحَ»، وعلى المعنى فجمع في ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾، ويُقَوِّي كونها موصولة مقابلتها بالموصول بعدها في قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ﴾.
وقرأ علقمةك «نُمسُّهم» : بنون مضمومة من «أمَسَّه كذا» «العذابَ» نَصْباً، والمَسُّ في اللغة التِقَاءُ الشيئين من غير فصل.
وقرأ الأعْمَش، ويحيى بن وثاب «يَفْسِقُون» بكسر السّين، وقد تقدَّم أنها لُغَةٌ، و «ما» مصدريَّةٌ على الأظهر، أي بِفِسْقِهِمْ.

فصل في رد شبه للقاضي


قال القاضي: إنه - تعالى - عَلَّلَ عذابَ الكفَّار؛ لأنهم فَاسِقينَ، فاقتضى أن يكون كل فاسق كذلك، فيقال له: هذا معارض بما أنه خص الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله وهذا يدل على أنه من لم يكن مكذّباً بآيات الله ألاَّ يلحقه هذا الوعيد أصلاً، وأيضاً فإن كان هذا الوعيدُ معلّلاً بِفِسْقِهِمْ فلم قلتمك إن فِسْقَ من عرف الله، وأقَرَّ بالتوحيد والنبوة والمعاد مُسَاوٍ لِفِسْقِ من أنكر هذه الأشياء؟
156
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:والمقصود من هذه الآية أن الأنبياء إنما بُعِثُوا مُبَشِّرين بالثواب على الطَّاعاتِ، ومُنْذِرينَ بالعِقَابِ على المَعَاصي، ولا قُدْرَةَ لهم على إظْهَارِ الآيات والمُعْجِزَاتِ، بل ذلك مُفَوَّضٌ إلى مَشِيئَةِ الله وحكمته.
قوله :﴿ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ حالٌ من " المرسلين "، وفي هذه الحال معنى الغَلَبة، أي : لم نرسلهم لأن نقترح عليهم الآيات، بل لأن يبشروا وينذروا.
وقرأ١ إبراهيم، ويحيى :" مُبْشِرين " بالتخفيف، وقَدْ تقد‍َّم أن " أبْشَرَ " لغة في " بَشَّر ".
قوله :" فَمَنْ آمَنَ " يجوز في " مَنْ " أن تكون شَرْطِيَّةً، وأن تكون مَوْصُولةً، وعلى كلا التقديرين فَمَحَلُّهَا رفع بالابتداء.
والخبر " فلا خَوْفَ " فإن كانت شَرْطِيَّة، فالفاء جواب الشَرْط، وإن كانت مَوْصُولةً فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون مَحَلُّ الجملتين الجَزْمَ، وعلى الثاني لا مَحَلِّ للأولى ومحل الثانية الرفع، وحمل على اللفظ فأفرد في " آمن " و " أصْلَحَ "، وعلى المعنى فجمع في ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ﴾، ويُقَوِّي كونها موصولة مقابلتها بالموصول بعدها في قوله :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾.
وقرأ٢ علقمة :" نُمسُّهم " : بنون مضمومة من " أمَسَّه كذا " " العذابَ " نَصْباً، والمَسُّ في اللغة التِقَاءُ الشيئين من غير فصل.
وقرأ الأعْمَش٣، ويحيى بن وثاب " يَفْسِقُون " بكسر السّين، وقد تقدَّم أنها لُغَةٌ، و " ما " مصدريَّةٌ على الأظهر، أي بِفِسْقِهِمْ.

فصل في رد شبهة للقاضي


قال القاضي٤ : إنه -تعالى- عَلَّلَ عذابَ الكفَّار ؛ لأنهم فَاسِقينَ، فاقتضى أن يكون كل فاسق كذلك، فيقال له : هذا معارض بما أنه خص الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله وهذا يدل على أنه من لم يكن مكذّباً بآيات الله ألاَّ يلحقه هذا الوعيد أصلاً، وأيضاً فإن كان هذا الوعيدُ معلّلاً بِفِسْقِهِمْ فلم قلتم : إن فِسْقَ من عرف الله، وأقَرَّ بالتوحيد والنبوة والمعاد مُسَاوٍ لِفِسْقِ من أنكر هذه الأشياء ؟
١ ينظر: الدر المصون ٣/٦٧..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٦٧..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٦٧..
٤ ينظر: الرازي ١٢/١٨٩..

هذا بقية الكلام على قوله: «لولا أنزل عليه آية من ربه» فقال الله تعالى: قل لهؤلاء الأقوام: إني بُعِثْتُ مبشّراً ومنذراً وليس لي أن أتَحَكَّمَ على اللَّهِ.
واعلم أن القَوْمَ كانوا يقولون: إن كنت رَسُولاً من عند الله فَاطْلُبْ من الله حتى يُوَسِّعَ عَلْينَا مَنَافِهَ الدُّنْيَا وخَيْرَاتِهَا، فقال الله تعالى: قل لهم «إني لا أقول لكم عندي خزائن الله»، فهو - تعالى - يؤتي المُلْكَ من يشاء، ويُعِزُّ من يَشَاءُ، ويُذِلُّ من يشاء، لا بيدي.
الخَزَائنُ: جمع «خزانة»، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخَزْنُ الشيء إحرازه بحيث لا تَنَالُهُ الأيْدِي.
قوله: ﴿ولاا أَعْلَمُ الغيب﴾ في مَحَلِّ هذه الجملة وَجْهَان:
أحدهما: النَّصْبُ عَطْفاً على قوله: عِنْدِي خزائِن اللَّهِ «لأنه من جملة المَقُول، كأنه قال:» لا أقُولُ لكم هذا القول، ولا هذا القول «.
156
قال الزمخشري. وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يُؤدِّي إلى أنه يصير التقدير: ولا أقُولُ لكم: لا أعلم الغَيْبَ وليس بصحيح.
والثاني: أنه معطوف على» لا أقول «لامَعْمُولٌ، فهو أمَرَ أن يخبر عن نَفْسِهِ بهذه الجُمَلِ الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو» قل «، وهذا تخريج أبي حيَّان قال بعد أن حكى قول الزَّمخشري:» ولا يتَعيَّنُ ما قاله، بل الظَّاهرُ أنه مَعْطُوفٌ على لا أقول «إلى آخرة.

فصل في معنى الآية


والمعنى: أن القوم يقولون: إن كنت رَسُولاً من عند اللَّهِ، فلا بُدَّ وأن تخبرنا عمَّا سَيَقَعُ في المستقبل من المَصَالِحِ المضارِّ حتى نَسْتَعِدَّ لتحصيل تكل المنافع، ولدفع تلك المَضَارِّ، فقال تعالى:»
قل إني لا أعلم الغيب ولا أقول: إنّي ملك «ومعناه: أنهم كانوا يقولون: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسواق﴾ [الفرقان: ٧] ويتزوج ويخالط الناس، فقال تعالى: قل بهم: إني لست من الملائكة.

فصل في بيان فائدة هذه الأحوال


اختلفوا في الفائدةِ من ذكر هذه الأحْوَالِ الثلاثة، فقيل: المرادُ منه أ، يَظْهِرَ الرسول من نَفْسِه التَّواضُع لله، والاعتراف بِعُبُوديَّتِهِ حتى لا يعتقد فيه مثل اعقاد النَّصارى في المسيح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وقيل: إن القوم كاوا يَقْتَرِحُون عليه إظْهَارَ المعجزات القاهرة، كقولهم: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾ [الإسراء: ٩٠] فقال تعالى في آخر الآية: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٣] يعني: أنَا لا أدَّعِي إلاَّ الرسالةَ والنُّبُوَّة، وهذه الأمور التي طلبتموها، فلا يمكن تحصيلها إلاَّ بقدرة الله.
وقيل: المُرَادُ من قوله: ﴿لا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ اللَّهِ﴾، أي: لا أدَّعي كوني مَوْصُوفاً بالقُدْرَةِ، ولا أعلم الغَيْبَ، أي: ولا أدَّعي كَوْنِي موصوفاً بعلم الله تعالى، وبمجموع هَذَيْنِ الكلامين حَصَلَ أنه لا يدَّعِي الإلهيَّة.
ثُمَّ قال: «ولا أقول لكم: إني ملك»
وذلك؛ لأنه ليس بعد الإلهيَّةِ دَرَجَةٌ أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنَّهُ يقول: لا أدَّعي الإلهية، ولا أدَّعي الملكيَّة، ولكن أدَّعي الرِّسالة، وهذا مَنْصِبٌ لا يمتنع حصُوله [للبشر] فكيف أطْبَقْتُمْ على استنكار قولي.
157

فصل في رد شبه الجبائي في تفضيل الملائكة


قال الجُبَّائي: دَلَّتِ الآية على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من الأنبياء؛ لأن [معنى الكلام] لا أدَّعي مَنْزِلَةً أقْوَى من مَنْزِلَتِي، ولولا أن المَلك أفضل، وإلاَّ لم يصح.
قال القاضي: إن كان الغرض بها نفي طريقة التَّواضُعِ، فالأقرب يَدُلُّ على أن الملكَ أفْضَلُ، وإن كان المراد نَفْيَ قدرته عن أفعالٍ لا يقوى عليها إلاَّ الملائكة لم يَدُلَّ على كونه أفْضَلَ.
قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾.
يَدُلُّ على أنه لا يعمل إلاَّ بالوَحْي، وأنه لم يكن يحكم من تِلْقَاء نفسه في شيء من الأحكام، وأنَّهُ ما كان يجتهد، ويؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ [النجم: ٣، ٤].
واسْتَدَلَّ نُفَاةُ القياس بهذا النصّ، قالوا: لأنَّهُ عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كان يَعْمَلُ إلا بالوَحْي النَّازِلِ، فوحبَ ألاَّ يحوز لأحدٍ من أمَّتِهِ أن يعمل إلاَّ بالوَحْيِ النَّازل، ولقوله تعالى: ﴿واتبعوه﴾ [الأعراف: ١٥٨] وذلك ينفي جواز العمل بالقياسِ.
ثم أكَّدَ ذلك بقوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾، وذلك لأن العمل بغير الوَحْي يجري مجرى عَمَل الأعمى، والعملُ بمقتضى نزول الوَحْي يجري مجرى عملِ البصيرِ، ثم قال تعالى: ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾.
والمراج منه التنبيه على أنه يجب على العَاقِلِ أن يعرف الفَرْقَ بين هذيْنش البَابَيْنِ، وألاَّ يكون غَافِلاً عن معرفة الله.
158
لما وصفَ الرسل بكونهم مُبَشِّرينَ ومُنْذرينَ أمَرَ الرَّسُولَ في هذه الآية بالإنْذَارِ، فقال: «وأنْذِرْ» أي: خوِّفْ به، أي: بالقرآن، قاله ابن عبَّاسٍ، والزَّجاج لقوله تعالى قبل هذه الآية: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: ٥٠].
وقال الضَّحَّاكُ: «وأنذِرُ به» أي: بالله
وقوله: «لاذين يَخَافُونَ أن يُحْشرُوا» أي: يُبْعَثُوا، فقيل: المرادُ بهم الكافرون الذين تقدَّم ذكرُهُمْ؛ لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يُخَوِّفُهُمْ من عذاب الآخرة، وكان بعضهم
158
يَتَأثَّرُ من ذلك التخويف، ويقول: رُبَّمَا كان الذي يقوله مُحمَّدٌ حَقَّاً، ولا يجوز حَمْلُهُ على المؤمنين، لأن المؤمنين يَعْلَمُونَ أنهم يُحْشَرُونَ إلى ربهم، والعلم خلاف الخوْفِ والظن.
ولقائل أن يقول: إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون؛ لأنهم وإن «تيقَّنُوا] الحَشْرَ فلم يَتضيَقَّنُوا العذاب الذي يخاف منه لتجويزهم ألاّ يموت أحدهم على الإيمان، وتجويز ألاَّ يموتوا على هذه الحالةِ، فلهذا السَّبَبِ كانوا خائفين من الحَشْرِ بسبب أنهم كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه.
وقيل: المُرَادُ بهم المُؤمِنُون؛ لأنهم المُقِرُّونَ، بِصِحَّةِ الحشر والنَّشْرِ والقيامة والبعث، فهم الذين يَخَافُونَ من عذاب ذلك اليوم.
وقيل: إنه يَتَنَاوَلُ الكُلَّ؛ لأنه عَاقِلَ إلاَّ وهو يَخَافُ الحَشْرَ، سواء قَطَعَ بحصوله أو شَكَّ فيه، ولأنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان مَبْعُوثاً إلى الكُلِّ، وإنَّما خَصَّ الذين يخافون الحَشْرَ، لأن انْتِفَاعَهُمْ بذلك الإنْذَارِ أكْمَلُ؛ لأن خوفهم يحملهم على إعْدَادِ الزَّادِ ليوم المَعَادِ.
قوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيع﴾ العامل فيه»
يخافون «وها هُنَا بَحْثٌ، وذلك أنه إذا كان المراد من الذين يَخَافُون أن يحشروا إلى ربهم الكُفَّار، فالكلام ظاهر لأنه ليس بهم عند الله شُفَعَاءُ، وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] فكذَّبهم اللَّهُ فيه.
وقال في آية أخرى ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: ١٨]، وقال ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين﴾ [المدثر: ٤٨].
وإن كان المراد المسلمين، فنقول: قوله: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ [لا] ينافي مذهب أهل السُّنَّةِ في إثبات الشَّفاعَةِ للمؤمنين، فنقول: لأن شفاعة الملاكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله - تعالى - لقوله: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فلما كانت تلك الشَّفاعةُ بإذن الله كانت في الحقيقة من اللَّهِ.
قوله: ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.
قال ابنُ عبَّاسٍ: وأنذرهم لكي يَخَافُوا في الدنيا، وينتهوا عن الكفر والمعاصي.
قالت المعتزلة: وهذا يَدُلُّ على أنه - تعالى - أراد من الكُفَّار التَّقْوَى والطاعة، وقد سَبَقَ الكلامُ على مِثْلِ هذا النوع مِرَاراً.
159
قال سلمان، وخباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية.
«جاء الأقْرَعُ بْنُ حِابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وعُيَنْنَهُ بْنُ حِصْنٍ الفَرَارِيّ، وذووهم من المؤلَّفَةِ قُلوبُهُمْ فوجدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاعداً مع بلال، وصُهَيبن وعمَّار، وخبَّاب في ناسٍ من ضُعفاءِ المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صَدْرِ المسجد، ونَفَيْتَ عَنَّا هؤلاء وأرْوَاح جبَابِهِمْ، وكان عليهم جِبَابُ صُوفٍ ولم يكن عليهم غيرها، لجَالسْنَاكَ وأخذنا عَنْكَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما أنا بِطَاردٍ المؤمنين، قالوا: فإنَّا نُحِبُّ أن تَجْعَلَ لنا منك مَجْلِساً تعرفُ به العربُ فَضْلَنَا، فإن وُفُودَ العرب تَأتِيكَ، فَنَسْتَحْيِي أن تَرَانا العربُ مع هؤلاء الأعْبُدِ، فإذا نحنُ جئنا فأبْعدهم عَنَّا، فإذا نحنُ فَرَعْنَا فاقْعُدْ مَعَهُمْ إن شئت، فقال» نعم «طَمَعاً في إيمانهم.
قال: ثم قالوا: اكْتُبْ لنا عليْك بذلك كتاباً.
قال: فَدَعا بالصَّحِيفَةِ، ودعا عليَّا لِيَكْتُب، قال: ونحن قعود في ناحيةٍ، إذ نزل جبريل عليه السلام بقوله: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾ إلى قوله:»
بِالشَّاكرين «فألقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الصحيفة من يَدِهِ، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول» سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كتبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «وكنَّا نقعدُ معه حتى تَمَسَّ رُكْبَتُنَا رُكْبَتَهُ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨] فترك القيام عَنَّا إلى أ، نقول عنه وقال:» الحَمْدُ للَّهِ الذي أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ قومٍ من أمَّتِي معكُم المَحْيَا ومَعَكُم المَمَاتُ «.

فصل في بيان شبة الطاعنين في العصمة


احْتَجَّ الطَّاعنون في عِصْمَةِ الأنبياء بهذه الآية من وجوه:
أحدها: أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - طَرَدَهُمْ، والله - تعالى - نَهَاهُ عن ذلك، فكان ذَنْباً.
وثانيها: أنه - تعالى - قال ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾ وقد ثبت أنه طَرَدهُمْ.
160
وثالثها: أنَّهُ - تعالى - حَكَى عن نُوح أنه قال: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين﴾ [الشعراء: ١١٤] ثم إنه تعالى - أمر مُحَمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمُتَابَعَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في جميع الأعمال الحَسَنَةِ بقوله: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠] فوجب على محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ألاَّ يَطْرُدهُمْ [فلما طردهم] كان ذلك ذَنْباً.
ورابعها: أنه قال: ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا﴾ [الكهف: ٢٨] وقال: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا﴾ [طه: ١٣١].
فنهاه عن الالْتِفَاتِ إلى زينةِ الحياة الدُّنيا، فكان ذَنْباً.
وخامسها: أن أولئك الفُقَراء كانوا كُلَّمَا دخلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هه الواقعة يقول:
«مَرْحَباً بِمَنْ عاتَبَني رَبّي فِيهِمْ» أو لَفْظاً هذا معناه، وذلك أيضاً يدلُّ على الذَّنْبِ.
فالجوابُ عن الأول: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما طَرَدَهُمْ لأجْلِ الاسْتَخْفافِ بهم والاسْتِنْكافِ من فَقرهِمْ، وإنَّما عَيَّنَ لجلوسهم وَقْتاً مُعَيَّناً سوى الوَقْتِ الذي كان يَحْضُرُ فيه أكَابِرُ قريش، وكان غرضه التَّلَطُّفَ بهم في إدْخَالِهِمْ في الإسلام، ولعله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يقول: هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يقوتهم [بسبب هذه] المُعَامَلةِ شيء من أمْرِهمْ في الدُّنيا وفي الدِّين، وهؤلاء الكفار فإنه يَفُوتُهُمُ الدِّينُ والإسلام، فكان ترجيح هذا الجانب أوْلَى، فأقْصَى ما يقال: إن هذا الاجتهاد وقع خطأ، إلاَّ أن الخَطَأ في الاجتهاد مَغْفُورٌ.
وأما قولهم: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - طَرَدَهُمْ، فيلزم كونه من الضالمين؟
فالجواب: أن الظلم عبارةٌ عن وضْعِ الشيء في غَيْرِ موضعه، والمعنى أن أولءك الفُقَراء كانوا يَسْتَحِقُّونَ التعظيم من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلمَّا طَرَدهُمْ عن ذلك المجلس، فكان ذلك ظُلْماً، إلاِّ أنَّهُ من باب تَرْك الأوْلَى أو الأفضل، لا من باب ترك الواجبات، وكذلك الجوابُ عن سائر الوجوه، فإنَّا نَحْمِلُ كلَّ هذه الوجوه على تَرْكِ الأفضل والأكمل والأوْلَىن واللَّهُ أعلم.
قوله: «بالغَدَاةِ» : قرأ الجمهور «بالغَدَاةِ» هنا وفي «الكهف» وابن عامر «بالغُدْوَةِ» بضم الغين وسكون الدال، وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد
161
الرحمن السّلمي، والحسن البَصْري، ومالِكِ بْنِ ديناَرٍ، وأبي رَجَاءٍ العطارِدِيّ، ونصر بن عاصم الليْثي، والأشهر في «الغُدْوة» أنها مُعَرَّفة بالعَلَمِيَّةِ، وهي عَلَمِيَّة الجنس ك «أسامة» في الأشخاص، ولذلك مُنِعَتْ من الصَّرفِ.
وقال الفراء: «سمعت أبا الجَرَّاحِ يقول: ما رأيت [كغدوة] قط، يريد غَدَاة يومه».
قال: «ألا ترى أن العرب لا تُضِيفُهَا، فكذا لا يدخلها الألف واللام، إنما يقولون: جئتك غداوة الخميس».
وقال الفرَّاء في كتاب «المعاني» في «سورة الكهف» : قرأ أبو عبد الرحمن السّلَمِيُّ: «بالغُدْوَةِ والعَشِيّ» ولا أعلم أحَداً قرأ بها غيره، والعربُ تُدْخِلُ الألف واللام في «الغدوة» ؛ لأنها معرفة بغير ألف ولام «فذكره إلى آخره.
وقد طعن أبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سُلاَّمٍ على هذه القراءة، فقال:»
إنما نرى ابن عامرٍ، والسلمي قرءا تلك القراءة اتّباعاً للخَطِّ، وليس في إثبات «الواوط في الكتاب دليلٌ على القراءة بها؛ لأنهم كتبوا» الصَّلاة «و» الزكاة «بالواو، ولفظهما على تركها، وكذلك» الغدوة «على هذا وجدنا العرب».
وقال الفارِسِيُّ: الوَجْهُ قراءة العامة «بالغَدَاةِ» ؛ لأنها تستعمل نكرةً ومعرفةً باللام، فأمَّا «غُدْوة» فمعرفةٌ، وهو علمٌ وُضَعَ للتعريف، وإذا كان كذلك، فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف، كما لا تَدْخُلُ على سَائِرِ الأعْلام، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو؛ لأنها تَدُلُّ على ذلكَ، ألا ترى «الصلاة» و «الزكاة» بالواو، ولا تُقرآن بها، فكذلك «الغَدَاة».
قال سيبويه: «غُدْوة وبُكْرة جُعِلَ كُلُّ واحد منهما اسْماً لِلْحِين، كما جعلوا:» أمّ حُبَيْن «اسماً لدَابَّةِ معروفة» إلاَّ أنَّ هذا الطَّعْنَ لا يُلْتَفَتُ إليهن وكيف يُطَنُّ بِمَنْ تقدَّم أنهم
162
يَلْحنون، والحَسَنُ البَصْرِيُّ ممن يُسْتَشْهَدُ بكلامه فَضْلاً عن قراءتِهِ، ونَصْرُ بْنُ عَاصِم شَيْخُ النحاة، أخذَ هذا العلم عن أبي الأسْوَدِ يَنْبُوعِ الصناعِةِ، وابن عامر لا يعرف اللَّحْنَ؛ لأنه عربي، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة، ولكن أبا عُبَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعرف أن تنكير «غُدْوَة» لغة ثانية عن العَرَبِ حَكَاهَا سيبويه والخليل.
قال سيبويه: زعم أنه يَجُوزُ أن تقول: «أتَيْتُكَ اليوم غُدْوَةً وبُكْرَة» فجعلها مثل «ضَحْوَة».
قال المهدوي: «حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضهم يُنَكِّر فيقول:» غُدْوةً «بالتنوين، وبذلك قرأهُ ابن عامر، كأنه جعله نكرة، فأدخل عليها الألفَ واللام».
وقال أبو علي الفارسي: «وجْهُ دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت مَعْرِفَةً أن تُنَكَّرَ، كما حكى أبو زَيْدٍ» لقيته فَيْنَةً «غير مَصْرُوفَة» والفَيْنَةُ بَعْدَ الفَيْنَةِ «أي: الحين بعد الحين، فألحق» لام «التعريف ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يُقَدَّرُ فيه التنكير والشيوع، كما يُقَدَّرُ فيه ذلك إذا ثَنَى». وقال أبو جَعْفَرِ النحاس: قرأ أبو عبد الرحمن، ومالك بن دينار، وابن عامر: «بالغُدْوَةِ» قال: «وباب غُدْوَة أن يكون معرفة إلاَّ أنَّهُ يجوز تنكيرها كما تُنَكَّرُ الأسماء الأعلام، فإذا نُكَّرَتْ دخلتا الألف واللام للتعريف».
وقال مَكّي بن أبي طالبٍ «إنما دخلت الألف واللام على» غَدَاة «لأنها نكرة، وأكثر العرب يجعل» غُدْوَة «معرفة فلا يُنَوِّنها، وكلهم يجعل» غَدَاة «نَكِرَةٌ فينوِّنها، ومنهم من يجعل» غُدْوَة «نكرة وهم الأقَلّ» فثبت بهذه النُّقُولِ التي ذكرْتُهَا عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سَالِمَةٌ من طَعْنِ أبي عُبَيْدٍ، وكأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يحفظها لغة.
وأما «العَشيُّ» فنكرةٌ، وكذلك «عَشِيَّة».
وهل العَشِيُّ مرادِف ل «عشية» أي: إن هذا اللفظ فيه لغتان: التذكير والتأنيث، أو أن «عَشِيّاً» جَمْعُ «عَشِيَّة» في المعنى على حدِّ «قَمْح» و «قَمْحَة»، و «شعير» و «شعيرة»، فيكون اسم جِنْسٍ، خلاف مشهور، والظاهر الأوَّل لقوله تعالى:
﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد﴾ [ص: ٣١] إذ المرادُ هنا عِشِيَّة واحدة، واتفقت مصاحفُ الأمْصَارِ على رَسْمِ هذه اللفظة «الغدوة» بالواو وقد تقدَّمَ أن قراءة ابن عامرٍ ليست مُسْتَندَةً إلى مجرد الرسم، بل إلى النَّقْلِ، وثَمَّ [ألْفَاظٌ اتُّفِقَ] أيضاً على رَسْمِهَا بالواو، واتُّفِقَ على قراءتها بالألف، وهي: «الصَّلاة، والزكاة، ومناة، ومِشْكَاة، [والربا،] والنجارة والحياة»، وحرفٌ اتُّفِقَ على رسمه بالواو، واختلف في قراءته بالألف والواو، وهو «الغَدَاة» وأصْلُ
163
غَدَاة: غَدَوَة، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً.
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ: «بالغدوات والعَشِيَّات»، جمع «غَدَاة» و «عشية» وروي عن أبي عبد الرحمن أيضاً «بالغُدُوِّ» بتشديد الواو من غير هاءٍ.

فصل في المراد بالآية


قال ابن عبَّاسٍ [معنى الآية] يَعْبُدُون ربَّهُمْ بالغَدَاوةِ والعَشِيّ يعني صلاة الصبح، وصلاة العصر، وهو قول الحَسَنِ ومجاهد.
وروي عنه أن المراد الصلوات الخَمْس، وذلك أن نَاساً من الفقراء كانوا يُصَلُّونَ مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال ناسٌ من الأشراف: «إذا صَلَّيْنَا فأخِّر فَلْيُصَلُّوا خَلْفنَا» فنزلت هذه الآية.
وقال مُجَاهِدٌ: صليت الصبح مع سَعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، فلما سلم الإمام ابْتَدَرَ النَّاسُ القاص، فقال سعيد: ما أسرع الناس إلى هذا المَجْلِسِ، فقال مجاهد: فقلت: يَتَأوَّلُونَ قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي﴾ فقال: أفي هذا هو؟ إنما ذلك في الصَّلاةِ التي انصرفنا عنها الآن.
وقال إبراهيم النخعي: يعني: يذكرون رَبَّهُمْ.
وقيل: المُرَادُ حقيقة الدعاء.
قوله: «يُرِيدُونَ» هذه الجملة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل «يَدْعُونَ» أو من مفعوله، والأوَّل هو الصحيح، وفي الكلام حَذْفٌ، أي: يريدون بدعائهم في هَذَيْنِ الوقتين وجهه.

فصل في الرد على شبهة المجسمة


تمسكت المُجَسِّمَةُ في إثبات الأعْضَاء للَّه - تعالى - بهذه الآية، وسائر الآيات
164
المُنَاسِبَة، كقوله تعالى: ﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] والجوابُ: أن قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] يقتضي الوحْدَانيَّة التَّامَّة، وذلك يُنَافِي التركيب من الأعضاء والأجزاء، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من التَّأويل، وهو من وجهين:
أحدهما: قوله: ﴿يُريدُون وَجْهَهُ﴾، أي: يريدونه إلاَّ أنهم يذكرون [لفظ الوجه للتعظيم كما يقال: هذا وجه الرأي، وهذا وجه الدليل الثاني:] أنَّ من أحَبَّ ذاتاً أحب أن يرى وَجْهَهُ، فرؤة الوَجْه من لوازم المحبَّةِ، فلهذا السَّبَبِ جعل الوجه كِنَايةً عن المَحَبَّةِ، وطلب الرضى.
والثاني: أن المراد بالوجه القَصْدُ والنِّيَّةُ؛ كقول الشاعر: [البسيط]
٢١٧٩ - أسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لِسْتُ أحْصِيّهُ رَبَّ العِبَاد إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
وقد تقدَّم بيانُهُ عند قوله: ﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ [البقرة: ١١٥]
قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء﴾
«ماط هذه يجوز أن تكون الحِجَازيَّةَ النَّاصبة للخبر، فيكون» عليك «في مَحَلِّ النصب على أنه خبرها، عند مَنْ يُجَوِّز إعْمَالَهَا في الخبر المُقدَّمِ إذا كان ظَرْفاً أو حرف جَرِّ، وأمَّا إذا كانت تَمِيميَّةً، أو متعيَّناً إهمالُهَا في الخبر المقدِّمِ مُطْلَقاً كان» عليك «في مَحَلِّ رفع خبراً مُقدَّماً، والمبتدأ هو» مِنْ شَيءٍ «زيدت فيه» مِنْ «.
وقوله: «مِنْ حِسَابِهِمْ»
قالوا: «مِنْ» تَبْعِيضيَّةٌ، وهي في محل نَصْبٍ على الحال، وصاحبُ الحالِ هُو «مِنْ شيء» ؛ لأنها لو تأخرت عنه لكانت صِفَةً له، وصفة النكرة متى قُدِّمَتْ انْتَصَبَتْ على الحالِ، فعلى هذا تتعلَّقُ بمحذوف، والعاملُ في الحال الاسْتِقْرَارُ في «عليك»، ويجوز أن يكون «مِنْ شَيْءٍ» في مَحَلِّ رفع بالفاعلية، ورافعه «عليك» لاعتماده على النفي، و «مِن حِسَابِهِمْ» حالٌ أيضاً من «شيء» العاملُ فيها الاستقرار والتقديرُ: ما اسْتَقَرَّ عليك شَيءٌ من حسابهم.
وأُجيز أن يكون «مِنْ حِسَابِهِمْ» هو الخَبَر: إمَّا ل «ما»، وإمَّا للمبتدأ، و «عليك» حالٌ من «شيء»، والعَامِلُ فيها الاسْتِقَرارُ، وعلى هذا فيجوز أن يكون «من حِسَابِهِمْ» هو الرفاع للفاعل على ذاك الوَجْهِ، و «عليك حالٌ أيضاً كما تقدَّمَ تقريره، وكون» مِنْ
165
حِسَابِهِمْ «هو الخبر، و» عليكط هو الحَلُ غير واضح؛ لأن مَحَطَّ الفائدة إنما هو «عَليْكَ».
قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء﴾ كالذي قبله، إلاَّ أنَّ هنا يَمْتَنَعُ بَعْضُ ما كان جَائِزاً هناك، وذلك أن قوله: «مِنْ حِسَابِكَ» لا يجوز أن يَنْتَصِبَ على الحال؛ لأنه يلزم تَقّدُّمُهُ على عامله المعنوي، وهو ممتنعٌ، أو ضعيف لا سيَّمَا وقدْ تقدَّمتْ هنا على العامل فيها، وعلى صاحبها، وقد تقدَّم أنَّ الحالَ إذا كانت ظَرْفاً أو حرف جرِّ كان تقديمها على العامل [المعنوي] أحْسَنُ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذٍ لك أن تجعل قوله: «من حِسابِكَ» بياناً وقد تقدَّم خطابه - عليهالصَّلاة والسلام - في الجملتين تَشْريفاً له، ولو جاءت الجملة الثَّانية على نَمَطِ الأولى لكان التركيب «وما عليهم من حِسَابِكَ من شيء» فتقدَّمَ المجرور ب «على» كما قدَّمه في الأولَى، لكنه عَدَلَ عن ذلك لما تقدَّمَ.
وفي هاتين الجمتلين ما يسميه أهل البَديعِ: رَدَّ الأعْجَاز على الصدور، كقولهم: «عَادَات السَّادَات سادات العادات» ومثله في المعنى قول الشاعر: [الطويل]
٢١٨٠ - وَلَيْسَ الَّذِي حَلِّلْتَهُ بِمُحَلَّلٍ وَلَيْسَ الَّذي حَرَّمْتَهُ بِمُحَرَّمِ
وقال الزمخشري - بعد كلام قدَّمَهُ في معنى التفسير -: فإن قلت: أما كفى قوله: «ما عليك من حسابِهِمْ من شيء» حتى ضَمَّ إليه: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء﴾ ؟
قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلةِ جُمْلةٍ واحدةٍ، وقصد بها مُؤدَّى واحد، وهو المعنى بقوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٤٦].
ولا يستقل بهذا المعنى إلاَّ الجملتان جميعاً، كأنه قيل: «لاتُؤاخَدُ أنت ولا هُمْ بحسابِ صاحبه» قال أبو حيَّانك «لا تُؤاخَذُ أنْتَ....... إلى آخره تركيبٌ غير عربي، لا يجوز عَوْدُ الضير هنا غائباً ولا مُخَاطباً، لأنه إنْ [عاد] عائباً فلم يتقدَّم له اسْمٌ مفرد
166
غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله:» هم «ولا يمكن العَوْد عليه على اعْتِقَادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التَّركيب بحساب صاحبهم، وإن أُعيد مُخَاطباً، فلم يتقدَّمْ مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله:» لا تُؤاخَذُ أنْتَ «ولا يمكن العَودُ إليه، فإنه ضمير [مخاطب]، فلا يعود عليه غَائِباً ولو أبْرَزْتَهُ مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب أيضاً، فإصْلاحُ التركيب أن يقال:» لا يُؤاخَذُ كُلُّ واحدٍ منك، ولا منهم بحساب صاحبه، أو لا تُؤاخذ أنت بحسابهم، ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم «، فُتَغَلَّب الخِطَابَ على الغَيْبَةِ، كما تقول: أنت وزيد تَضْربَان».
قال شهابُ الدين: والذي يظهر أن كلام الزمخشري صَحِيحٌ ولكن فيه حذفٌ، وتقديره: لا يُؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بِحِسَابِ صاحبه، وتكون «أنت ولا هُمْ» بَدَلاً من «كل واحد»، والضمير في صاحبه عائدٌ على [قوله:] «كل واحدٍ»، ثم إنه وقع [في] محذور آخر مما أصْلَحَ به كلام الزمخشري، وذلك أنه قال: ولا تُؤاخذ أنت وَلاَ هُمْ بحسابكم، وهذا التركيب يحتمل أن يكون المرادن بل الظَّاهِرُ نَفْيُ المُؤاخَذَةِ بحساب كُلِّ واحدٍ بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كُلّ واحدٍ غير مُؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثَّاني هُوَ المقصود.
والضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله: «مِنْ حِسَابِهِمْ» و «عليهم» و «فتطردهم» أيضاً عَوْدُهَا على نوع واحد، وهم الذين يدعون ربَّهم، وبه قال الطبري إلاَّ أنَّهُ فَسَّرَ الحِسابَ بالرِّزْقِ الدُّنْيوي.
وقال الزمخشري، وابن عطية: «إنَّ الضَّمِيريْنَ الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود على الداعين».
قال أبو حيَّان: «وقيل: الضمير في» حسابهم «، و» عليهم «عائد على [المشركين] [وتكون الجملتان اعْتِرَاضاَ بين النَّهْي وجوابه»، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعْتِرَاضاً على اعتقادر كون الضميرين في «حِسَابِهِمْ»، و «عليهم» عائدين على المشركين].
وليس الأمر كذلك، بل هما اعْتَرَاضٌ بين النَّهْيِ، وهو «ولا تَطْرُدْ» وبين جوابه وهو «فتكون»، وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين.
ويّدُلُّ على ذلك أنه قال بَعْدَ ذلك في «فتكون» : وجوِّز أن تكون جواباً للنهي في
167
قوله: «ولا تطرد»، وتكون الجملاتن، وجوابُ الأول اعْتِرَاضاً بين النَّهْي وجوابه، فحعلهما اعراضاً مُطْلَقاً من غير نَظَرٍ إلى الضميرين، ويعني بالجملتين «ما عليك من حِسَابِهِمْ من شيء» و «من حسابك عليم من شيء» وبجواب الأول قوله: «فتطردهم».
قوله: «فتطردهم» فيه وجهان:
أحدهما: مَنْصُوبٌ على جواب [النفي] بأحد معنيين فقط، وهو انْتِفَاءُ الطَّرْدِ لانْتِفَاءِ كون حسابهم عليه وحسابه عليهم؛ لأنه يَنْتَفِي المُسَبَّبُ بانفاء سَببِهِ، ولنوضح ذلك في مثال وهو: «ما تَأتِينَا فَنُحَدَّثَنَا» بنصب «فتحدِّثنا» وهو يحتمل معنيين:
أحدهما: انتفاء الإتْيَان، وانتفاء الحديث، كأنه قيل [ما يكون منك إتيان، فكيف يقعُ منك حديث؟ وهذا المعنى هو المقصود بالآية الكريمة، أي: ما يكون مُؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه، فكيف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انفاء الحديث، وثبوت الإتيان].
كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدَّثاً، بل تأتينا غير مُحَدَّثٍ، وهذا المعنى لا يليق الآية الكريمة، والعُلماءُ - رحمهم اله - وإن أطلقوا قولهم: إن منصوبٌ على جواب النفي، فإنَّما يريدون المعنى الأول دون الثاني، والثَّاني أن يكون منصوباً على جواب النهي قوله: «فتكون» ففي نصبه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب عَطْفاً على «فتطردهم»، والمعنى: الإخْبارُ انْتِفَاءِ حسابهم، والطَّرْد والظلم المُسَبَّب عن الطرد.
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون عَطْفاً على «فتطردهم» على وجه السبب؛ لأن كونه ظالِماً مُسَبَّبٌ عن طَرْدِهِمْ.
والثاني من وَجْهَي النصب: أنه منصوبٌ على جواب النهي في قوله: «ولا تطرد».
ولم يذكر مكي، ولا الواحدي، ولا أبو البقاء غيره.
قال أبو حيَّان: «أن يكون» فتكون «جواباً للنيه في قوله:» ولا تطرد «كقوله: ﴿لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ [طه: ٦١]، وتكون الجملتان وجوابُ الأوَّل اعتراضاَ بين النهي وجوابه».
قال شهاب الدين: قد تقدَّم أن كونهما اعْتِرَاضاً لا يتوقَّفُ على عَوْدِ الضمير في قوله: «مِنْ حِسَابِهِمْ» و «عليْهِمْ» على المشركين كما هو المفهوم من قوله ها هنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حكيما عَنْهُ يُشْعِرُ بذلك.
168

فصل في شبهة للكفار


ذكروا في قوله: «ما عَلَيْكَ من حِسَابِهِمْ من شيء» قولين:
الأول: أن الكُفَّار طعنُوا في إيمان أولئك الفُقَرَاء، وقالوا: يا محمد إنهم [إنما] اجتمعوا عندك، وقبلوا دينك؛ لأنهم يجدون بهذا الأمْرُ على ما يقول هؤلاء، فما يلزمك إلاَّ اعْتِبارُ الظَّاهر، وإن كان بَاطِنُهَمْ غير مُرْضٍِ عند اللَّهِ، فحسابهم عليه لا زمٌ لهم لا يتعدَّى إليك، كما أنَّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم، كقوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٦٤].
الثاني: المعنى: ما عليك من حِسابِ رِزْقِهِمْ من شيء فتملّهم وتطردهم، فتكون من الظالمين لهم لأنهم لمَّا اسْتَوْجَبُوا مزيد التقريب كان طَرْدُهُمْ طُلْماً لهم.
169
«الكاف» في مَحَلِّ نَصبٍ على أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والتقدير: ومثل
169
ذلك الفُتُون المتقدم الذي فُهِمَ من سياق أخبار الأمم الماضية فتنَّا بعضَ هذه الأمَّةِ ببعْض، فالإشَارَةُ بذلك إلى الفُتُونِ المَدْلُولِ عليه بقوله: «فَتَنَّا»، ولذلك قال الزمخشري: ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناسِ ببعضٍ فجعل الإشارة لِمصدَرِ فَتَنَّا. وانظر كيف لم يَتَلَّفَظْ هو بإسناد الفِتْنَةِ إلى اللَّهِ - تعالى - في كلامِهِ، وإن ان البارئ - تعالى قد أسْنَدَها، بل قال: فتن بعض الناس فَبَناهُ للمفعُول على قَاعِدةِ المعتزلة.
وجعل ابن عطية الإشارة إلى طلب الطَّرْدِ، فإن قال بعد كلام يتعلٌّق بالتفسير: «والإشارة بذلك إلى ما ذُكِرَ من طلبهِمْ أن يطرد الضَّعفَةَ».
قال أبُو حيَّان: ولا ينتظم هذا التَّشْبيه؛ إذ يصير التقدير: مثل طلب الطرد فَتَنَّا بعضهم ببعض والمَتَبَادَرُ إلى الذَّهْنِ من قولك: «ضربتُ مثل ذلك» المُمَاثَلَةُ في الضرب، أي: مثل ذلك الضرب لا أن تَقَعَ المُمَاثَلَةُ في غير الضَّربِ، وقد تقدَّم مِرَاراً أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضير المَصْدَرِ المقدر.
قوله: «لِيَقُولُوا» في هذه «اللام» وجهان:
أظهرهما: - وعليه أكثر المعربين والمُفسِّرين - أنها لام «كي»، والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابْتِلاءً مَنَّا وامْتِحَاناً.
والثاني: أنها «لام» الصَّيْرُورَةِ أي: العاقبة كقوله: [الوافر]
٢١٨١ - لِدثوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ...................
﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً﴾ [القصص: ٨]، ويكون قولهم «أهُؤلاء» إلى آخره صادراً على سبيل الاسْتِخْفَافِ.
قوله: «أهَؤلاءِ» يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب المَحَلِّ على الاشْتَغَالِ بفعلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الفعل الظاهر، العاملُ في ضميره بِوَساطَةِ «على»، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير: أفَضَّلَ الله هؤلاء مَنَّ عليهم، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم، ولا مَحَلِّ لقوله: «مَنَّ اللَّهُ عليهم» لكونها مُفَسّرة، وإنِّما رجَّح هنا إضمار الفعل؛ لأنه وقع بد أداةِ يغلبُ إيلاءُ الفعلِ لها.
والثاني: أنه مرفوع المَحَلّ على أنه مبتدأ، والخبر: مَنَّ اللَّهُ عليهم، وهذا وإن كان سَالِماً من الإضْمَارِ الموجود في الوجه الذي قبله، إلاَّ أنه مَرْجوحٌ لما تقدَّم، و «عليهم» مُتعلِّقٌ ب «مَنَّ».
و «من بَيْنِنَا» يجوز أن يتعلَّق به أيضاً.
قال أبو البقاء: «أي مَيَّزَهُمْ عَلَيْنَا، ويجوز أن يكون حالاً».
قال أبو البقاء أيضاً: مَنَّ عليهم منفردين، وهذان التفسيران تفسيرا مَعْنِى لا تفسيراً إعراب، إلاَّ أنه لم يَسُقْهُمَا إلاَّ تَفْسِيرَيْ إعراب.
والجملة من قول: «أهؤلاءِ مَنَّ اللِّهُ» الفرقُ بين الباءين أن الأولى لا تعلُّق لها لكونها زَائِدة في خبر «ليس»، والثانية متعلّقة ب «أعلم» وتعدِّي العمل بها لِمَا ضُمِّن من معنى الإحاطَةِ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء، فيقولون: علم بكذا والعلم بكذا لما تقدَّم.

فصل في تحرير معنى الفتنة في الآية


معنى هذه الفِتْنَةِ أن كُلَّ واحد من الفريقين مُبْتَلًى بصاحبه، فرُؤسَاءُ الكُفَّارِ الأغنياء
170
كانوا يَحْسُدُونَ فُقْرَاءَ الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مُسَارعينَ إلى قَبُولِهِ، فقالوا: ولو دخلنا في الإسلام لوجب عَلَيْنَا أن نَتْقَادَ لهؤلاء الفقراء المساكين، وأن نعترف لهم بالتَّبَعِيَّةِ، فكأن ذلك يَشُقُّ عليهم، ونظيره: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨]، ﴿لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١].
وأمَّا فُقراءُ الصحابة فكانوا يَرَوْنَ أولئك الكُفَّارَ في الرَّاحَاتِ والمَسَّراتِ والطَّيبات والخسب والسَّعَةِ، فكانوا يقولون: فكيف حَصَلَتْ هذه الأحوال لهؤلاء الكُفَّار مع أنَّا بَقِينَا في [هذه] الشدّة والضِّيقِ، فقال تعالى: ﴿وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُم﴾ فأحد الفريقين يرى الآخر مقدماً [عليه] في المناصبِ الدينية، ويقولون: أهذا الذي فَضَّلَهُ الله علينا؟
وأمَّا المحققون فهم الذين يَعْلَمُونَ أن كُلَّ ما فعله اللَّهُ - تعالى - فهو حَقٌ وحكمةٌ وصوابٌ ولا اعتراض عليه، إمَّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السًّنَّةِن وإمَّا بحسبِ المصلحة كما هو قول المعتزلة فكانوا صَابِرينَ في وقت البلاءِ، شاكرين في وقت الآلاءِ والنَّعْماءِ وهم الذين قال الله في حقِّهم: ﴿ألَيْسَ اللَهُ بأعْلَمَ بالشَّاكرينَ﴾.

فصل


«روى أبُو سعيدٍ الخُدرِيُّ قال: جَلسَتُ في نَفَرٍ من ضُعَفَاءِ المهاجرين، وإن بعضهم لَيَسْتَتِرُ من بعضٍ من العُرْي، وقَارِئ يقرأُ عَلَيْنَا، إذ جاء رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَامَ عَلَيْنا فلما قامَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سكت القَارِئُ، فَسَلَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما كُنتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قلنا يا رسول الله: كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قلنا، يا رسول اله: كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل مِنْ أمَّتِي مَنْ أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ «، قال: ثُمَّ جلس وَسَطَنَا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده هكذا فَتَحلَّقُوا، وبرزت وُجُوهُهُمْ لهُ قال: فما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَرفَ منهم أحداً غيري.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صَعَالِيك المُهاجِرينَ بالنُّور التَّام يَوْمَ القِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ الأغْنِيَاء بنِصْفِ يَوْمٍ، وذلِكَ مِقْدارُ خِمْسِمائَةِ سَنَةٍ «.
171

فصل في بيان الدلالة من الآية


احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على مِسْألةٍ خَلْقِ الأفعال من وجهين:
الأول: أن قوله: ﴿فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض﴾ تصريح بأنَّ إلقاء تلك الفِتْنَةِ نم اللَّهِ تعالى، والمُرَادُ من تلك الفِتْنَةِ ليس إلاَّ اعْتِرَاضُهُمْ على الله في أنْ جعل أولئك الفقراء رُؤسَاء في الدِّين، والاعْتِراضُ على الله كُفْرٌ، وذلك يَدُلُّ على أنَّه - تعالى - هو الخالقُ للكُفْرِ.
والثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم أنهم قالوا: «أهؤلاء منَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا» أي: منَّ عليهم بالإيمان باللَّهِ، ومتابعة الرسول، وذلك يدُلُّ على أن هذا المَعْنَى إنما حَصَلَ من الله تعالى؛ لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما مَنَّ عليه بهذا الإيمانِ، بل العَبْدُ هو الذي منَّ على نَفْسِهِ بهذا الإيمان.
أجاب الجبائي عنه بأن الفِتْنَةَ في التَّكْلِيفِ ما توجب التَّشديدَ وإنما فعلنا ذلك ليقولوا: أهؤلاء أي: ليقول بَعْطُهمْ لبَعْضِ اسْتِفْهَاماً لا إنْكَاراً [أهؤلاء] منَّ الله عليهم من بَيْننَا بالإيمان أجاب الكعبي عَنْهُ بأن قال: «وكذلك فَتَنَّا بعضهم ببعض ليصبروا أو ليشكروا، فكان عَاقِبَةُ أمرهم أن قالوا: اهؤلاء مَنَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا» على مثاله قوله تعالى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
والجواب عن الوجهين أنه عُدُولٌ عن الظاهر من غير دليل، والدليل العَقْلِيُّ قائم على صَحَّةِ هذا الظاهر؛ لأنه لمَّا كانت مُشاهَدةُ هذه الأحْوالِ تُوجِبُ الأنَفَةَ، والأنَفَةُ توجبُ العصيان والإصْرارَ على الكُفْرِ، وموجبُ الموجب مُوجبٌ، فكان الإلزامُ وَارِداً، واللَّهُ أعلم.
172
«إذا» منصوب بجوابه، أي فقل، سلامٌ عليكم وَقْتَ مجيئهم أي: أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح.
وقال أبو البقاءك «والعاملُ في» إذا «معنى الجواب، أي: إذا جاءوك سَلَّمْ عليهم» ولا حَاجَة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى؛ لأن كونه يُبَلِّغُهُمُ السَّلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرَّحْمَةَ، وأنه من عَمِلَ سُوءاً بجَهَالَةٍ غفر له ما يقوم مقامه السَّلامُ فقط، وتقديره يفضي إلى ذلك.
172
وقوله: «سلامٌ» مبتدأ، وجاء الابتداء به وإن كان نَكِرَةً؛ لأنه دُعَاؤٌ، والدُّعَاءُ من المُسَوِّغَاتِ.
وقال أبو البقاء: «لما فيه من معنى الفِعْلِ» وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين، وإنماهو شيء نُقِلَ عن الأخفش: أنه إذا كانت النكرة في معنى الفِعْل جاز الابتداء بها ورفعها الفاعل، وذلك نحو: «قائم أبواك» ونقل ابن مالك أن سيبويه أوْمَأ إلى جوازه، واستدلال الأخفش بقوله: [الطويل]
٢١٨٢ - خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلا تَكُ مُلْغِياً مَقَالَةَ لِهْبِيَّ إذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ
ولا دليل فيهح لأنَّ «فعيلاً» يقع بلفظ واحدٍ للمفرد وغيره، ف «خيبر» خَبَرٌ مقدَّمٌ واسْتَدَلَّ له أيضاً بقول الآخر: [الوافر]
٢١٨٣ - فَخَبِيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ... إذَا الدَّاعِي المُثَوَّبُ قَالَ: يَا لاَ
ف «خير» مبتدأ، و «نحن» [فاعل] سَدَّ مَسَدَّ الخبر.
قيل: لئلا يَلْزَمُ الفَصْلُ بين «أفعل» و «مِنْ» بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً، فإن الفاعل كالخبر بخلاف المبتدأ.
و «عليكم» خَبَرُهُ، و «سلامٌ عليكم» أبلغ من «سَلاَماً عليكم» بالنصب، وقد تقررَّ هذا في أوَّلِ «الفاتحة» عند قراءة «الحَمْدُ» و «الحَمْدَ».
وقوله: «كَتَبَ رَبُّكُم» في مَحَلِّ نصب بالقولِ، لأنه كالتفسير لقوله: «سلامٌ عليكم».

فصل في نزول الآية


قال عكرمة: نزلت في الذين نَهَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن طردهم، وكان
173
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا رآهم بَدَأهُمْ بالسلام.
وقال عطاء: نزلت في أبي بكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعلي، وبلال، وسالم، وأبي عُبَيْدةَ، ومُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ، وحَمْزَة، وجعفر، وعُثمانَ بْنِ مَظْعُون، وعمَّارِ بْنِ يَاسِر، والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سَلَمَة بْنِ عَبْدِ الأسَدِ.
قال ابن الخطيب: «وها هنا إشْكَالٌ، وهو أن النَّاسَ اتفقوا لع ىأن هذه السُّورة نزلت دفعةً واحدةً، وإذا كان كذلك، فكيف يمكن أن يُقَالَ في كُلِّ واحدٍ من آيات هَذِهِ السُّورة: إن سبب نزول هذه الآية الأمْرُ الفلاني بِعَيْنِهِ، بل الأقْرَبُ أن تُحْمَلَ هذه الآية على عمومها، فكل من آمن باللِّهِ دخل تحت هذا التشريف».

فصل فيما يطلق عليه لفظ «السلام»


قال المبرِّد: السَّلامُ في اللغة على أربعة أشياء:
فمنها سلمت سلاماً، وهو معنى الدعاء.
ومنها أنه أسْمٌ من أسْمَاء اللَّهِ تعالى.
ومنها الإسْلام.
ومنها الشَّجَرُ العظيم أحْسَبُهُ مُسَمَّى بذلك لسلامتِهِ من الآفَاتِ.
ومنها أيضاً اسم للحِجَارَةِ الصَّلْبَةِ، وذلك أيضاً لسَلامتِهَا من الرَّخَاوَةِ.
ثم قال الزجَّاج: «سلام عليكم» ها هنا يحتمل أن يكون له تأويلان:
أحدهما: أن يكون مَصْدر: سَلَّمت تسليماً وسلاماً، مثل «السَّراح» من «التَّسْرِيح»، ومعنى سلمت عليه سلاماً: دعوت بأن يَسْلَمَ من الآفات في دينِهِ ونَفْسِهِ، والسَّلامُ بمعنى التَّسْلِيم.
والثاني: أن يكون «السَّلامُ» جَمْعَ «السلامة»، فمعنى قولك: السَّلامُ عليكم: السَّلامةُ عليكم.
وقال ابن الأنباري: قال قومٌ: السلامُ هو الله تعالى، فمعنى السَّلامُ عليكم [يعني الله عليكم] أي: على حفظكم، وهذا بَعِيدٌ في هذه الآية لتنكير السَّلامِ، ولو كان مُعَرَّفاً لصحَّ هذا الوَجْهُ.

فصل في الكلام على «السلام»


قال قوم: إنَّه - تعالى لمَّا أمَرَ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأن يقول لهم: «
174
سلامٌ عَليْكُمْ كَتَبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَة» كان هذا من قول الله فَيَدُلُّ على أنه - تعالى - قال لهم في الدُّنْيَا: سلامٌ عليكم كتب ربُّكم على نفسه الرحمة.
ومنهم من قال: بل هذا كلامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.

فصل في معنى «كتب»


كتب كذا [على فلان] يفيد الإيجاب، أي: بمعنى قَضَى، وكلمة «على» أيضاً تُفيدُ الإيجابَ، ومجموعهما مُبالغة في الإيجاب، وهذا يقتضي كونه - تعالى - راحماً لِعِبَادِهِ على سبيل الوُجُوبِ، واختلفوا في ذلك الوجوب؟
فقال أهْلُ السُّنَّةِ: له - سُبْحَانهُ وتعالى - أن يتصرَّفَ في عبادِهِ كَيْفَ شَاءَ وأراد إلاَّ أنه أوجب الرَّحْمَة على نَفْسِهِ على سبيل الفَضْلِ والكرم.
وقالت المعتزلةُ: إنّ كونه عالماً بِقُبْحِ القَبَائح، وعالماً بكونه غنيّاً عَنْهَا يمنعه من الإقْدامِ على القَبَائِحِ، ولو فعله كان ظَالِماً، والطُّلْمُ قَبِيحٌ، والقُبْحُ منه مُحَالٌ.

فصل في الدلالة في الآية


دلَّتْ هذه الآية على جواز تسمية ذاتِ الله - تعالى - بالنفسن أيضاً قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦] يَدُلُّ عليه، والنَّفْسُ هنا بمعنى الذَّاتِ والحقيقة، لا بمعنى الجِسْمِ، والدَّمِ؛ لأنه - تعالى - مُقدَّسٌ عَنْهُ؛ لأنه لوك ان جِسْماً لكان مُرَكَّباً، والمُرَكَّب ممكن.
وأيضاً إنه أحَدٌ لا يكون مُرَكَّباً، وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً.
وأيضاً الأجْسَامُ متماثلةٌ في تمام الماهية، فلو كان جِسْماً لحصل له مِثْل، وذلك بَاطِلٌ؛ لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].

فصل في دحض شهب المعتزلة


قال المعتزلة: «كَتَبَ ربُكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» يُنَافِي كونه تعالى يخلق الكُفْرَ في الكَافِرِ، ثم يُعَذِّبُهُ عليه أبَد الآبَادِ، وينافي أن يقال: إنه يمنعه من الإيمان، ثم يأمره حال ذلك المَنْعِ بالإيمان، ثم يعذبه على ذلك.
وأجيب بأنه - تعالى - نَافِعٌ ضارُّ محيي مميت، فهو - تعالى - فعل تلك الرَّحْمَةَ البالغة، وفعل هذا القَهْرَ البالغ ولا مُنافَاة بين الأمرين.
175
قوله: «أنَّهُ، فأنَّهُ» قرأ ابن عامر، وعاصمر بالفتح فيهما، وابن كثير وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بالكَسْرِ فيهما، ونافعٌ بفتح الأولى، وكسر الثانية، وهذه القراءاتُ الثلاثُ في المُتَواتِرِ، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكس قراءة نافع، هذه رواية الزّهرواوي عنه، وكذا الدَّاني.
وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافعٍ، فيحتمل أن يكون عنه رَوَيَتَانِ.
فأمَّا القرَاءةُ الأولَى فَفَتْحُ الأولَى فيها من أربعة أوجه:
أحدها: أنها بدلٌ من «الرحمة» بدل شيء من شيء، والتقدير: «كتب على نفسه أنه من عمل» إلى آخره، فإنَّ نفس هذه الجمل المتضمنةِ للإخبار بذلك رَحْمَة.
والثاني: أنها في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنها مبتدأ، والخبر محذوف، أي: «عليه أنه من عمل» إلى آخره.
والثالث: أنها [فتحت] على تقدير حَذْفِ حرف الجرَّ، والتقدير: «لأنه من عمل»، فلما حُذِفت «اللاَّمُ» جرى في مَحَلِّهَا الخلاف المشهور.
الرابع: أنها مَفْعُولٌ ب «كتب»، و «الرحمة» مفعول من أجلِهِ، أي: أنه كتبَ أنَّهُ من عملَ لأجل رحمته إياكم.
قال أبو حيَّان: وينبغي ألاَّ يجوز؛ لأنَّ فيه تَهْيِئَةَ العامل للعمل، وقطعه عنه.
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه:
أحدها: أنها في مَحَلِّ رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فَغُفْرَانُهُ ورَحْمَتُهُ حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته.
وقد أجمع القُرَّاءُ على فتح ما بعد «فاء» الجزاء في قوله: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ٦٣] ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ [الحج: ٤] كما أجمعو على كسرها في قوله: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن: ٢٣].
176
الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: فأمره أو شأنه أنه غفورٌ رحيم.
الثالث: أنها تكرير للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلامُ وعطفت عليها بالفاء، وهذا مَنْقُولٌ على أبي جَعْفَرٍ النحاس، وهذا وهمٌ فاحشٌ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أحدُ مَحْذُوريْنَ: إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خبر، أو شرطٍ بلا جواب.
وبيانُ ذلك أنَّ «مَنْ» في قوله: «أنه مَنْ عَمِلَ» لا تخلو: إمَّا أن تكون مَوْصُولَةً أو شرطية، وعلى كلا التقديرين، فهي في محلِّ رفع بالابتداء، فلو جعلنا «أن» الثانية مَعْطُوفَةً على الأولى لَزِمَ عدمُ خبر المبتدأ، وجواب الشرط، وهو لا يجوز.
وقد ذكر هذا الاعتراض، وأجاب عنه الشيخ شهابُ الدين أبو شامة فقال: «ومنهم مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى لأجل طولِ الكلام على حَدِّ قوله: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُون﴾ [المؤمنون: ٣٥] ودخلت» الفاء «في» فأنه غفور «على حدِّ دخولها في ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾ [آل عمران: ١٨٨] على قول من جعلهُ تكريراً لقوله: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُون﴾ [آل عمران: ١٨٨] إلاَّ أنه هذا ليس مثل» أيَعدكُمْ «؛ لأن هذه لا شرط فيها، وهذه فيها شَرْطٌ، فيبقى بغير جواب.
فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: غفر لهم»
انتهى.
وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاءِ، وكان يبغي أن يجيب به هنا، لكنه لم يفعل ولم يظهر فَرْقٌ في ذلك.
الرابع: أنها بدلٌ من الأولى، وهو قول الفرَّاء والزَّجَّاج وهذا مَرْدُودٌ بشيئين:
أحدهما: أنَّ البدل لا يدخل فيه حَرْفُ عطفٍ، وهذا مقترن بحرف العطف، فامتنع أن يكون بدلاً.
فإن قيل: نجعل «الفاء» زائدة، فالجوابُ أن زيادتها غير زائدة، وهو شيء قال به الأخفش.
وعلى تقدير التَّسْليم فلا يجُوزُ ذلك من وَجْهٍ آخر، وهو خُلُوُّ المبتدأ، أو الشرط عن خبرٍ أو جواب.
والثاني من الشيئين: خُلُوُّ المبتدأ، أو الشرط عن الخبر، أو الجواب كما تقدَّم تقريره، فإن قيل: نجعل الجواب مَحْذُوفاً - كما تقدَّم نقلهُ عن أبي شامة - قيل: هذا بعيد عن الفَهْمِ.
177
الخامس: أنها مرفوعة بالفاعليَّةِ، تقديره: «فاسْتَقَرَّ أنَّهُ غفورٌ رحيمٌ» أي: اسْتَقَرَّ وثبت غُفْرَانُهُ، ويجوز أن يُقدَّر في هذا الوجه جَارّاً رافعاً لهذا الفاعل عند الأخْفَشِ تقديره: فعليه أنه غفورٌ، لأنه يرفع به وإن لم يعتمد، وقد تقدَّم تحقيقه مِرَاراً.
وأمَّا القراءة الثانية: فكسر الأولى من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مُسْتَأنَفَةٌ، وأن الكلام تامُّ قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتَّفْسير لقوله: «كتبَ ربُّكُم على نَفْسهِ الرَّحْمَةَ».
والثاني: أنَّها كُسِرت بعد قَوْلٍ مُقدَّرٍ، أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله.
والثالث: أنه أجري «كتب» مُجْرَى «قال»، فَكُسِرَتْ بعده كما تُكْسَرُ بعد القَوْلِ الصريح، وهذا لا يَتَمَشَّى على أصول البصريين.
وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين:
أحدهما: أنها على الاسْتِئْنَافِ بمعنى أنها في صَدْرِ جملةٍ وقعتْ خبراً ل «من» الموصُولةِ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً.
والثاني: أنها عُطِفَتْ على الأولى، وتكريرٌ لها، ويعترض على هذا بأنه يَلْزَمُ بقاءُ المبتدأ بلا خبرٍ، والشرط بلا جزاءٍ، كما تقدَّم ذلك في المفتُوحَتَيْنِ.
وأجاب أبو البقاء عن ذلك بأن خبر «من» محذوف دلَّ عليه الكلامُ، وقد تقدَّم أنه كان ينبغي أن يكون العائدُ مَحْذُوفاً، أي: فإنه غفورٌ له.
قال شهاب الدين: قوله: «ويجوز» ليس بجيِّدٍ، بل كان ينبغي أن يقول: ويجب؛ لأنه لا بُدَّ من ضميرٍ عائدٍ على المبتدأ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مُقَامَهُ إن ليم كن نفس المبتدأ.
وأمَّا القراءةُ الثالثة: فيُؤخَذُ فتْحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم من كسرها وفتحها بما يليق من ذلك نفس المبتدأ.
وأمَّا القراءة الرابعة: فكذلك.
وقال أبو شامة: «وأجاز الزَّجَّاج كَسْرَ الأولى، وفَتْحَ الثانية، وإن لم يقرأ به».
قال شهاب الدين: وقد قدَّمْتُ أنَّ هذه قراءة الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الدَّاني نقلاها عنه، فكأن الشَّيْخً لم يَطَّلِعُ عليها.
178
وتقدَّم أن سيبويه لم يَرْو عن الأعْرَجِ إلاَّ كقارءاة نافعٍ فهذا مما يصلح أن يكون عُذْراً للزَّجَّاج، وأمَّا أبو شَامَةَ فإنه مُتَأخرٌ، فعدم اطِّلاعِهِ عَجيبٌ.
و «الهاء» في «أنه» ضمير الأمر والقِصَّةِ، و «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيَّة، وأن تكون موصولة، وعلى كل تقدير فهي مُبْتَدَأةٌ، و «الفاءُ» ما بعدها في محلِّ جَزْم جواباً إن كانت شرطاً، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصُولة، والعائدُ محذوفٌ، أي: غفورٌ له.
و «الهاء» في «بعده» يجوز أن تعود على «السُّوء»، وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨] والأوَّل أوْلَى؛ لأنه أصْرَحُ، و «منكم» مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو حالٌ من فاعل «عمل»، ويجوز أن تكون «مِنْ» للْبَيَانِ، فيعمل فيها «أعني» مقدراً.
وقوله: «بجهالةٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعلِّق ب «عمل» على أن «الباء» للسَّبَيَّة، أي: عمله بسبب الجَهْلِ، وعبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضحٍ.
والثاني: وهو الظَّاهِرُ أنه للحالِ، أي: عمله مُصَاحباً للجَهَالَةِ، «ومِنْ» في «مِنْ بعده» لابتداء الغاية.

فصل في تحرير معنى الآية


قال الحسنُ: كل من عمل مَعْصِيَةً فهو جَاهِلٌ، ثُمَّ اختلفُوا؛ قال مُجاهد: لا يعلمُ حلالاً من حرامٍ فمن جهالته ركب الأمر. وقيل جاهلٌ بما يورثه ذلك الذَّنْبُ.
وقيل: جهالتُهُ من حيث إنهخ آثر المَعْصِيَةَ على الطَّاعةِ، والعاجل القليل على الآجل الكثير، ثُمَّ تاب من بعد ورجع عن ذنْبِهِ، وأصلح عمله.
قيل: وأخْلَصَ توْبَتَهُ فإنه غفورٌ رحيمٌ.
179
«الكاف» نعتٌ لمصدر مَحْذُوفٍ، أو حال من ضمير ذلك المصدر، كما هو رأي
179
سيبويه، والإشارةُ بذلك إلى التفضيل السَّابق، تقديره: مِثْلُ التَّفْصِيل البيَّن، وهو ما سبق من أحوال الأمم نُفَضِّلُ آيات القرآن.
وقال ابن عطية: والإشارةُ بقوله: «وكذلك» إلى ما تقدَّم، من النَّهْيِ عن طَرْدِ المؤمنين، وبيان فَسَاده بِنَزْعِ المعارضين لذلك.
و ﴿نفَصِّلُ الآيات﴾ نُبَيِّنُهَا ونَشْرَحُهَا، وهذا شبيه بما تقدَّم له في قوله: ﴿وكذلك فَتَنَّا﴾ [الأنعام: ٥٣] وتقدَّم أنه غير ظاهر.
قوله: «ولتَسْتَبينَ سَبِيلُ» قرأ الأخوان، وأبو بكر: «وليَسْتَبِينَ» بالياء من تحت، و «سَبِيلُ» بالرفع.
ونافع: «وَلِتَسْتَبينَ» بالتَّاء من فَوْق، «سَبِيلَ» بالنصب، والباقون: بالتاء من فوق، و «سبيل» بالرفع. وهذه القراءات دائرة على تذكير «السبيل» وتأنيثه وتعدي «استبان» ولزومه، وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير «السبيل» وعليه قوله تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ [الأعراف: ١٤٦].
ولغة «الحجاز» التأنيث، وعليه ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨] وقوله: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ [آل عمران: ٩٩].
وقوله: [البسيط]
٢١٨٤ - خَلَّ السَّبيلَ لِمَنْ يَبْنِي المَنَارَ بَهَا............................
وأمَّا «اسْتَبَانَ» فيكونُ مُتعدِّياً، نحو: «اسْتَبَنْتُ الشَّيء»، ويكون لازَماً نحو: «اسْتَبَانَ الصُّبْحُ» بمعنى «بَانَ» فمن قرأ بالياء من تحت، ورفع فإنه أسْنَدَ الفعل إلى «السَّبيل»، فرفعه على أنه مذكر وعلى أن الفعل لازمٌ.
180
ومن قرأ بالتَّاء من فوق، فكذلك ولكن لغة التأنيث، ومن قرأ بالتاء من فوق، ونصب «السبيل» فإنه [أسند الفعل إلى المخاطب، ونصب «السبيل» على] المفعولية وذلك على تعديته أي: ولتستبين أنت سبيل المجرمين، فالتاء في «تستبين» مختلفة المعنى، فإنها في إحدى القراءتين للخطابِ، وفي الأخرى للتأنيث وهي في كلا الحالين للمُضارعةِ، و «تستبين» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي»، وفيما يتعلق به هذه اللام وجهان:
أحدهما: أنها معطوفة على عِلَّةٍ محذوفة، وتلك العَلَّةُ معمولة لقوله: «نُفَصّل» والمعنى: وكذلك نُفَصِّلُ الآيات لتستبين لكن ولتستبين.
والثاني: أنها مُتعلِّقةٌ بمحذوف مُقدَّر بعدها، أي: ولتسبين سبيل المجرمين فَصَّلْنَاهَا ذلك التَّفْصَيل، وفي الكلام حَذْفُ مَعْطُوفٍ على رأي، أي: وسبيل المؤمنين كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١].
وقيل: لا يحتاج إلى ذلك لأن المقام إنما يَقْتَضِي ذِكْرَ المجرمين فقط؛ إذ هم الذين أثَارُوا ما تقدم ذكرهُ وقيل: لأن الضَّديْنِ إذا كانا بحيث لا يَحْصُلُ بينما واسطةٌ، فمتى بَانَتْ خَاصيَّةُ أحد القسمين بانت خاصيَّةُ القسمٍ الآخر، والحق والباطل لا وَاسِطَةَ بينهما، فمتى اسْتَبَانَتْ طريقة المجرمين، فقد استبانت طريقة المُحَقِّقين أيضاً لا محالة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين﴾ «أن أعبد» في محل «أن» الخلاف المشهور، إذ هي على حذف حرفٍ، تقديره: نهيت عن أن أعْبُدَ الذين تدعون من دون الله قل: لا أتَّبعُ أهْوَاءَكُمْ في عِبَادَةِ الأوْثانِ، وطرْدِ الفقراء.
قوله: «قَدْ ضَلَلْتُ» بفتح «اللام» الأولى.
وقرأ أبو عبد الرحمن، ويحيى، وابن أبي ليلى أنهما قرءا هنا وفي «ألم السجدة» :﴿أإذا صَلَلْنَا﴾ [السجدة: ١٠] بصاد غير معجمة يقال: صل اللَّحم أي: أنْتَنَ، وهذا له بَعْضُ مُناسبةٍ في آية «السجدة»، وأما هنا فمعناه بعيد أو ممتنع.
وروى العباس عن ابن مجاهد في «الشواذ» له: «صُلِلْنَا في الأرْضِ»، أي: دُفِنَّا في الصِّلَّة، وهي [الأرضُ] الصّلْبَةُ.
181
وقوله: «ومَا أنَا مِن المُهتدينَ» تأكيد لقوله: «قَدْ ضَلَلْتُ» وأتى بالأولى جملة فعلية لِتَدُلَّ على تَجَدُّدِ الفعل وحدوثه، وبالثانية اسمية لتدل على الثبوت. والمعنى «وما أنا من المهتدين، يعني إن فعلت ذلك، فقد تركت سبيل الحقّ، وسلكت غير سبيل الهدى».
182
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ " أن أعبد " في محل " أن " الخلاف المشهور، إذ هي على حذف حرفٍ، تقديره : نهيت عن أن أعْبُدَ الذين تدعون من دون الله قل : لا أتَّبعُ أهْوَاءَكُمْ في عِبَادَةِ الأوْثانِ، وطرْدِ الفقراء.
قوله :" قَدْ ضَلَلْتُ إذَنْ " " إذن " حرف جواب وجزاء، ولا عمل لها هنا لعدم فعل تعمل فيه، والمعنى :" إن اتبعت أهْواءكم ضللت وما اهتديت " فهي في قُوَّة شرط وجزاء.
وقرأ١ الجمهور " ضَلَلْت " بفتح " اللام " الأولى.
وقرأ٢ أبو عبد الرحمان، ويحيى، وطلحة : بكسرها وقد تقدَّم أنها لغة.
وقل صاحب " التحرير " عن يحيى، وابن أبي ليلى أنهما قرءا هنا وفي " ألم السجدة " :" أإذا صَلَلْنَا " [ السجدة : ١٠ ] بصاد غير معجمة يقال : صل اللَّحم أي : أنْتَنَ، وهذا له بَعْضُ مُناسبةٍ في آية " السجدة "، وأما هنا فمعناه بعيد أو ممتنع.
وروى العباس عن ابن مجاهد٣ في " الشواذ " له :" صُلِلْنَا في الأرْضِ "، أي : دُفِنَّا في الصِّلَّة، وهي [ الأرضُ ] الصّلْبَةُ.
وقوله :" ومَا أنَا مِن المُهتدينَ " تأكيد لقوله :" قَدْ ضَلَلْتُ " وأتى بالأولى جملة فعلية لِتَدُلَّ على تَجَدُّدِ الفعل وحدوثه، وبالثانية اسمية لتدل على الثبوت. والمعنى " وما أنا من المهتدين، يعني إن فعلت ذلك، فقد تركت سبيل الحقّ، وسلكت غير سبيل الهدى ".
١ ينظر: الدر المصون ٣/٧٧، البحر المحيط ٤/١٤٥..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٧٧، البحر المحيط ٤/١٤٥..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٧٧، البحر المحيط ٤/١٤٥..
قوله: ﴿إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ أي: على بيانِ أو بَصِيرةٍ وبُرهانٍ من ربي.
قوله: «وكَذَّبْتُم به» في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها مُسْتَأنَفَةُ سِيقَتْ للإخبارِ بذلك.
والثاني: أنها في مَحَل نصبٍ على الحالِ، وحينئذٍ هل يحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟
و «الهاء» في «به» يجوز أن تعود على «ربِّي»، وهو الظاهر.
وقيل: على القرآن؛ لأنه كالمذكور.
وقيل: على اسْتِعْجَالهِمْ بالعذاب؛ لأنهم كانوا يقولون: ﴿إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾ [الأنفال: ٣٢].
وقيل: على بيَّنةٍ؛ لأنها في معنى البيانِ.
وقيل: لأن «التاء» فيها للمُبالغةِ، والمعنى على أمرٍ بيِّنٍ من ربي.
و «مِنْ ربِّي» في محلِّ جَرِّ صِفَةً ل «بيِّنَةٍ».
قوله: «ما عِنْدي مَا تَسْتَعْجِلُونه بِهِ» كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يخوِّفهم نزول العذابن فقال تعالى: قال يا محمَّد: ما عندي ما تَسْتَعْجِلُونَ به، يعني قولهم: ﴿إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢].
وقيل: أراد به القِيامَةَ؛ لقوله تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ [الشورى: ١٨].
قوله: ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ﴾ أي: في تأخير عذابهم.
قوله: «يَقُصُّ الحقَّ» قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم «يَقُصُّ» [بصاد مهملة مشددة] مرفوعة، وهي قاءة ابن عبَّاسٍ، والباقون بضادٍ معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواترة.
182
وقرأ عبد الله، وأبَيٌّ، ويحيى بن وثَّابٍ، والنخعي، والأعمش، وطلحة: «يَقْضِي بالحقِّ» من القضاءِ.
وقرأ سعيد بن جُبَيْرٍ، ومجاهد: «يقضي بالحقِّ وهو خير القاضين». فأمَّا قراءة «يقضيط فَمِنَ القضاء.
ويؤيده قوله:»
وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ «فإن الفَصْلَ يناسب القضاء، ولم يُرْسَمْ إلاَّ بضاد، كأن» الباء «حذفت خطَّاً كما حذفت لَفْظاً لالتقاء الساكنين، كما حُذِفَتْ من نحو: ﴿فَمَا تُغْنِي النذر﴾ [القمر: ٥].
وكما حذفت»
الواو «في ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق: ١٨]، ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤] كما تقدَّم.
وأمَّا قراءةُ نَصْبِ»
الحقّ «بعدهُ، ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مَنْصُوبٌ على أنه صَفَةٌ لمصدر مَحْذُوفٍ، أي: يقضي القضاء الحقّ.
والثاني: أنه ضمَّن»
يقضيط معنى «ينفذ»، فلذلك عدَّاهُ إلى المفعول به.
الثالث: أن «قضى» بمعنى «صَنَع» فيتعدَّى بنفسه من غير تَضْمينٍ، ويدُلُّ على ذلك قول الهُذَلِيّ شِعْراً: [الكامل]
٢١٨٥ - وَعَليْهِمَا مَسْرُودتانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّع
[أي: صنعهما] داود.
الرابع: أنه على إسْقَاطِ حَرْفِ الجرِّ، أي: يقضي بالحق، فلما حذف انْتَصَبَ مَجْرُورُهُ على حَدِّ قوله: [الوافر]
٢١٨٦ - تَمُرُّونَ الدِّيَار وَلَمْ تَعُوجُوا..........................
ويُؤيِّد ذلك القراءة بها الأصل.
وأمَّا قراءةُ «يَقُصُّ» فمن «قَصَّ الحديثَ» ن أو مِنْ «قَصَّ الأثَرَ» أي: تتبَّعه.
قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ [يوسف: ٣].
ورجَّحَ أبُو عَمْرِو بْنُ العلاءِ القراءة الأولى بقوله: «الفَاصِلينَ» وحُكِيَ عنه أنه ق: «أهُوَ يَقُصُّ الحقَّ أوْ يَقْضِي الحقَّ» فقالوا: «يَقُصُّ» فقال: لو كان «يَقُصُّ» لقال: «وهو خير
183
القاصَّين» أقَرَأ أحَدٌ بهذا؟ وحيث قال: وهو خير الفاصلين فالفَصْلُ إنما يكون في القضاءِ.
وكأن أبا عمروٍ لم يبلغه «وهو خير القاصين» قراءة، وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره أبو العلاء، فقال: «القَصَصُ» هنا بمعنى القولِ، وقد جاء القول في القَصْل أيضاً، قال تعالى ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ [الطارق: ١٣].
وقال تعالى: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ [هود: ١].
وقال تعالى: «ونُفَصِّلُ الآياتِ» فقد حمل الفَصْلَ على القول، واستعمل معه كما جاء مع القضاءِ، فلا يلزم من الفاصل أن يكون معيناً ل «يقضي».

فصل في الاحتجاج بالآية لأهل السُّنة


أحتج أهل السُّنَّةِ بقوله: ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّه﴾ على أنه لا يقدر العَبْدُ على أمر من الأمور إلاَّ إذا قَضَاهُ الله، فيمتنع منه فعلُ الكُفْرِ إلا إذا قضى اللَّهُ وحكم به، وكذلك في جميع الأفعال؛ لأن قوله: ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّه﴾ [يفيد الحصر].
واحتج المعتزلة بقوله: «يقضي الحق»، ومعناه: أن كل ما قضى به فهو الحقّ، وهذا يقتضي ألاَّ يريد الكفر من الكافر، ولا المعصية من العاصي؛ لأن ذلك ليس بحق، والله أعلم.
184
أي: لو أن في قُدْرَتِي إمكاني ما تستعجلون به من العذابِ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي واقتصاصاً من تكذيبكم به، ولتخلصت سريعاً.
قوله: «والله أعلم بالظَّالمين» من باب إقامةِ الظاهر مُقامَ المضمر تَنْبِيهاً على استحقاقهم ذلك بصفة الظلم، إذ لو جاء على الأصْلِ لقال والله أعلم بكم والمعنى أني لا أعلم وقْتَ عُقُوبةِ الظالمين، والله - تعالى - يعلم ذلك، فهو يؤخّر إلى وقته. والله أعلم.
في «مَفَاتح» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جمع «مِفْتح» بكسر الميم والقَصْر، وهو الآلة التي يُفْتَحُ بها نحو: «مِنْجَل ومَنَاجل».
184
والثاني: أنه جمع «مَفتح» بفتح الميم وهو المكان. ويؤيده تَفْسِيرُ ابن عبَّاسٍ: هي خزائن المطر.
قال الفراء: قوله تعالى: ﴿مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة﴾ [القصص: ٧٦] يعني: خزائنه.
فعلى الأول فقد جعل للغيب [مفاتيح] على الاسْتِعَارةِ؛ لأن المفاتيحَ يُتَوَصَّلُ بها إلى ما في الخزائن المُسْتوثقِ منها بالأغلاقِ والأقفَال.
وعلى الثاني: فالمعنى: وعنده خزائن الغَيْبِ، والمراد منه القُدْرَةُ على كل الممكنات.
والثالث: أنه جمع «مِفْتاح» بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضاً إلاَّ أن هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقْلَبَ ألف المفرد ياءً، فيقال: مفاتيح ك «دنانير» ولكنه قد نقل في جمع «مِصْبَاح» «مَصَابِح»، وفي جمع «مِحْرَاب» «مَحَارِب»، وفي جمع «قرقور» «قراقر»، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مدة في مفرده كقولهم: «دَرَاهيم» و «صَيَارِيف» في جمع «دِرْهَم» و «صَيْرَف» قال: [البسيط]
٢١٨٧ - تَنْفِي يداها الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ نَفْيَ الدَّراهيمِ تَنْقَادُ الصَّيَاريفِ
وقالوا: عيَّل وعَيَاييل؛ قال: [الزجر]
٢١٨٨ - فِيهَا عَيَايِيلُ أسُودٌ ونُمُرْ... قالوا: عيَّاييل ونُمور [فزاد في] ذلك ونقص.
وقد قرئ «مفاتيح» بالياء، وهي تؤيد أن «مَفَاتح»، وإنما حذفت مدّته.
وجوَّز الوَاحِدِيُّ أن يكون «مَفَاتح» جمع «مَفْتح» بفتح الميم، على أنه مصدر قال بعد كلام حكاه عن أبي إسْحاقَ: فعلى هذا «مفاتح» جمع «المَفْتح» بمعنى الفَتْح كأن المعنى: وعنده فُتُوحُ الغيب، أي: هو يفتح الغَيْبَ على مَنْ يَشَاءُ من عباده. وقال أبو البقاء: «مفاتح» جمع «مفتح»، والمفتح الخزانَةُ.
185
فأما ما يفتح به فهو «المِفْتَاحُ»، وجمعه «مفاتيح»، وقد قيل: «مفتح» أيضاً انتهى يريد جمع «مَفْتَح» أي: بفتح الميم.
وقد قيل: مفتح، يعني أنها لغة قليلة في الآلة، والكثير فيها المد، وكان ينبغي أن يوضح عبارته فإنها موهمة، ولذلك شرحناها.

فصل


روى ابن عمر قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُها إلاَّ اللَّهُ. لا يَعْلَمُ ما تفِيضُ الأرْحَامُ أحَدٌ إلاَّ اللَّه، ولا يَعْلمُ ما فِي غدٍ إلاَّ اللَّه، ولا يَعْلَمُ مَتَى يَأتِي المَطَرُ أحَدٌ إلاَّ اللَّه، ولا تَدْرِي نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ اللَّه، ولا يَعْلمُ متَى تَقومُ السَّاعةِ إلاَّ اللَّه».
وقال الضحَّاكُن ومُقاتلٌ: «مفاتح الغيب» : خزائن الله، وعلم نزول العذاب.
وقال عطاء: ما غَابَ عنكمن من الثواب والعقاب.
وقيل: انْقِضَاءُ الآجَالِ وقيلك أحوا العِبادِ من السَّعادةِ والشَّقاوةِ، وخواتيم أعمالهم.
وقيل: إنه ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
وقال ابن مَسْعُودٍ: أوتي كُلِّ شيء إلاَّ مَفَاتحَ الغيب.
[نقل القرطبي عن ابن عبد البر قال في كتاب «الكافي» : من المكَاسبِ
186
المُجْمعِ على تحريمها الرِّبَا، ومُهُورُ البغَايَا والسُّحْتُ والرشَا وأخذ الأجْرة على النياحة وأخذ الأجْرَةِ على الغِنَاء وعلى الكَهانَةِ وادِّعَاءِ علم الغيب، وأخبار السماء وعلى الزَّمْر واللَّعب والباطل كله].
قوله: «لا يَعْلمُهَا إلاَّ هُوَ» في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من «مفاتح» والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ الذي تَضَمَّنَهُ حرف الجر لوقوعه خبراً.
وقال أبو البقاء: نفس الظَّرْفِ إن رفعت به «مفاتح»، أي: إن رفعته به فاعلاً، وذلك على رأي الأخْفشِ، وتَضَمُّنُهُ الاسْتِقْرارَ لا بد منه على كل قول، فلا فَرْقَ بين أن يرفع به الفاعل، أو يجعله خبراً.
قوله: «ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والبَحْرِ» قال مجاهد: الب والبحر: القُرَى والأمْصَار لا يحدث فيها شيء إلاَّ يعلمه.
وقيل: هو البر والبحر المعروف.
قالت الحكماء في تفسير هذه الآية: ثبت أن العِلْمَ بالعلَّةِ علة للعلم بلمعلول وأن العِلْمَ بالمعلول لا يكون عِلَّةً للعلم بالعِلَّةِ.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن الموجود إما أن يكون واجباً لذاته، أو ممكناً لذاته، والواجب لذاته ليس إلاَّ الله تعالى، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاتِهِ، فكلُّ مَا سِوَى الحق سبحانه، فهو موجودٌ بإيجاده وتكوينه.
وإذا ثبت ذلك، فنقول: علمه بِذاتِهِ يوجب علمه بالأثَرِ الصَّادر منه، ثم علمه بذلك الأثرِ الأول يُوجِبُ علهم بالأثر الثاني؛ لأن الأثر عِلَّة قريبة في الأثَرِ الثاني، وقد ذكرنا أن العِلْمَ بالعِلَّةِ يوجب العِلْمَ بالمعلول فبدأ أوَّلاً بعِلْمِ الغيْبِ، وهو علهمه بداتِه المخصوصة، ثم يحصل له من علمه بذاتِهِ علمه بالأثار الصَّادةِ عنه على تَرْتيبهَا المعتبر، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاتِهِ لا جرمَ صَحَّ أن يقال: «وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ» ثم إن القَضَايا العَقْلِيَّة المَحْضَةَ يصعب تَحْصِيلُ العلم بها على سبيل التمام والكمال إلاَّ للْعقَلاءِ الكاملينَ الذين ألفوا اسْتِحْضار المَعْقُولاتِ، ومثل هذا الإنسان يكون كالنّادر.
وقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ قَضِيَّةٌ عَقْليَّةٌ مَحْضَةٌ والإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نَادِرٌ جداً، والقرآن إنما أُنْزِلَ لينتفع به جَمِيعُ
187
الخَلْقِ، فلذلك ذكر لهذه القضيَّةِ العقلية مِثالاً من الأمور المَحْسُوسةِ الداخلة تحت هذه القضيَّة العقلية ليصير ذلك المَعْقُولُ بمعاونة هذا المثال المحسوس مَعْلُوماً [مفهوماً] لكل أحد، فقال: «ويَعْلَمُ مَا فِي البرِّ والَحْرِ» لأن ذلك أحَد أقسام مَعْلُوماتِ الله - تعالى - وقد ذكر البر؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البرِّ، وكثرة ما فيه من المُدُنِ والقُرَى والمَفَاوِزِ والجبالِ والتِّلالِ، وكثرة ما فيها من الحيوان والنَّبات والمعادن.
وأما البَحْرُ وإحاطة العَقْلِ بأحواله أقَلُّ إلاَّ أن الحِسِّ على أن عجائب البحار في الجملة أكُثَرُ، وطولها وعرضها أعْظَمُ، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب.
فإذا اسْتَحْضَرَ الخَيَالُ صُورَةَ البر والبحر على هذه الوجوه، ثم عرف أن مجموعها قِسْمٌ حقير من الأقسام الدَّاخلة تحت قوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ فيصير هذا المِثَالُ المَحْسُوسُ مقوِّياً ومكملاً لِلْعَظَمةِ الحاصلة تحت قوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ وكذلك قوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾ لأن العقل يِسْتَحْضِرُ جميع ما على وَجْهِ الأرض من المُدُنِ والقُرَى والمفاوِزِ والجبالِ والتِّلال، ثم يستحضر كَمْ فيها من النَّجْمِ والشجر، ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقةٍ إلاَّ والحقُّ - سبحانه - يعلمها، ثم يتجاوز من هذا المثالِ إلى مثالٍ آخر أشد منه هَيْئَةً، وهو قوله: «ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرض» وذلك لأن الحَبَّةَ تكون في غاية الصِّغَرِ، و «ظلمات الأرض» مَوْضِعٌ يخفي أكبر الأجسام وأعظمها، فإذا سمع أن لتك الحبَّة الصغيرة المُلْقَاةَ في ظلمات الأرض على اتِّساعها وعظمها لا تخرج من علم الله ألْبَتَّةَ صارت هذه الأمثال مُنَبِّهَة على عظمِ عَظَمَتِهِ مقوية للمعنى المُشَارِ إليه بقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ ثم إنه - تعالى - لما قَوَّى ذلك الأمر المعقول المَحْضَ المجرد بذكر هذه الجُزْئِيَّاتِ المحسوسات عاد إلى ذِكْر تلك القضية المَحْضَةِ بعبارة أخرى، فقال: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس﴾ وهو عَيْنُ المذكور في قوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ
. قوله: «مِنْ وَرَقَةٍ» فاعل «تسقط»، و «من» زائدة لاسْتِغْرَاقِ الجنس.
وقوله: «إلاَّ يَعْلَمُهَا» حالٌ من «ورقة»، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النَّفْي، والتقدير: وما تسقط من ورقة إلا عالم هن بها، كقولك: ما أكرمت أحداً إلا صالحاً.
قال شهاب الدِّين: ويجوز عندي أن تكون الجُمْلَةُ نعتاً ل «ورقة» وإذا كانوا أجَازُوا في قوله: ﴿إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] أن تكون نَعْتاً ل «قرية» في قوله:
188
﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة «الواو» فَبِأنْ يجيزوا ذلك هنا أوْلَى.
وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جرِّ على اللفظ، أو رفع على المَحَلّ، [والمعنى: يريد ساقط أو نَائِيَة أي: يعلم عدد ما يسقط من ورقِ الشجر، وما يبقى عليه.
وقيل: يعلم كم انقلبت ظَهراً لبطنٍ إلى أن سقطتْ على الأرض].
قوله: «ولا حَبَّةٍ» عطف على لفط «وَرقة»، ولو قرئ بالرفع لَكانَ على الموضع والمراد: الحب المعروف في بطُونِ الأرض.
وقيل: تحت الصَّخْرَةِ في أسفل الأرضين و «في ظلمات» صِفَةٌ ل «حَبّة».
قوله: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس﴾ مَعْطُوفانِ أيضاً على لَفْظ «ورقة»، وقرأهما ابن السَّمَيْفَعِ، والحسن، وابن أبي إسْحَاق بالرفع على المَحَلِّ، وهذا هو الظاهر ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله: «إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ».
ونقل الزمخشري أن الرَّفْعَ في الثلاثة أعني قوله «ولا حبَّةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ» وذكر وَجْهَيِ الرفع المتقدمين، ونظر الوجه الثاني بقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.
قال ابن عبَّاس: المراد ب «الرطب» الماء، و «اليابس» البادية.
وقال عطاء: يريد ما نَبَتَ وما لا يَنْبُتُ.
وقيل: ولا حَيّ ولا مَوَات.
وقيل: هو عبارة عن كل شيء.
قوله: «إلاَّ فِي كتابِ مُبين» في هذه الاسْتِثْنَاءِ غُمُوضٌ، فقال الزمخشري: وقوله «إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ» كالتكرار لقوله: «إلاَّ يَعْلَمُهَا» لأن معنى «إلاَّ يَعْلَمُهَا» ومعنى «إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ» واحد.
و «الكتاب» علم الله، أو اللَّوْحُ، وأبرزه أبو حيَّان في عبارة قريبة من هذه فقال: «وهذا الاسْتِثْنَاءُ جارٍ مُجْرى التوكيد، لأن قوله» ولا حبَّةٍ «» ولا رطب «» ولا يابس «معطوف على» مِنْ ورقَةٍ «، والاسْتِثْنَاءُ الأول مُنْسَحِبٌ عليها، كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته، ولا امرأة، فالمعنى إلاَّ أكرمتها، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيلِ التوكيد، وحسَّنه كونه فاصلة» انتهى.
189
وجعل صاحب «النظم» الكلام تامَّا عند قوله: «وَلاَيَابِس»، ثم اسْتَأنَفَ خبراً آخر بقوله: «إلاَّ في كتابٍ مُبين» بمعنى: وهو في كتاب مُبين أيضاً، قال: لأنك لو جعلت قوله: إلاَّ فِي كتابٍ مُبينٍ «مُتصلاً بالكلام الأوَّلِ لفسد المعنى، وبيان فساده في فَصْلٍ طويل مذكور في سورة» يونس «في قوله: ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولاا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [يونس: ٦١].
قال شهابُ الدِّين: إنما كان فاسد المعنى من حيث اعقد أنه اسْتِثْنَاءٌ آخر مستقل، وسيأتي كيف فَسَادُهُ.
أمَّا لو [جعله] اسْتِثْنَاءً مؤكّداً للأول، كما قاله الزمخشري لم يَفْسُدِ المعنى.
وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى:»
ولا يَابِسٍ «ويبتدأ ب» إلاَّ «، وكيف تقع» إلاَّ «هكذا؟
وقد نَحَا أبو البقاء لشيء مما قاله الجُرْجَانِيُّ، فقال:»
إلاَّ فِي كتابٍ مبين «أي: إلاَّ هو في كتابٍ مُبين، ولا يجوز أن يكون اسْتِثْنَاء يعمل فيه» يعلمها «؛ لأن المعنى يصير: ومَا تَسْقُطُ لم يكُنْ إلاَّ في كتاب، وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاسْتِثْنَاءُ الثاني بدلاً من الأوَّلِ، أي:» وما تَسْقُطُ من ورقةٍ إلاَّ هي في كتاب، وما يعلمها إلاَّ هُوَ «انتهى.
وجَوَوابُهُ ما تقدَّم من جَعْلِ اللاستثناء تأكيداً، وسيأتي تقريه إن شاء الله - تعلى - في سورة «يونس»
.

فصل في المراد بالكتاب


في الكتاب المُبينِ قَوْلان:
الأول: هو عِلْمُ الله - تعالى وهو الأصْوَبُ.
وقال الزَّجَّاج: يجوز أن يكون الله - تعالى - أثْبَتَ كَيْفِيَّةَ المعلومات في كتاب من قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقِ، كما قال: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾ [الحديد: ٢٢]. وقائدة هذا الكتاب أمور:
أحدها: أنه - تعالى - إنما كتب هذه الأحْوَالَ في اللَّوْحِ المحفوظ لِتَقفِ الملائِكَةُ على إنْفَاذِ عِلْم اللَّهِ في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون في ذلك عِبْرَة تامة كاملة للملائكة الموكَّلين باللَّوحِ المحفوظ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في هذا العالم فيجدونه مُوَافقاً له.
190
وثانيهما: يجوز أن يقال: إنه - تعالى - ذكر الوَرَقَةَ والحبَّة تَنْبِيهاً للمُكَلَّفينَ على أمْرِ الحِسَابِ وإعْلاماً بأنه لا يفُوتُهُ من كل ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأنه إذا كان لا يُهْمِلُ من الأحوال التي لَيْسَ فيها ثوابٌ وعقاب وتكليف، فَبِأنْ لا يهمل الأحْوالَ المشتملة على الثواب والعقاب أولى.
وثالثها: أنه تعالى - لمَّا أثْبَتَ أحْوالَ جميع الموجودات في ذلك على التفصيل التام، امتنع أيضاً تَغَيُّرُهَا، وإلاَّ لزم الكذب، فيصير [كَتْبُهُ] جملة الأحوال في ذلك الكتاب مُوجباً تامّاً [وَسَبَباً كاملاً]، في أنه يمتنع تَقدُّمُ ما تأخَّرن وتأخُّرُ ما تقدَّمَ، كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيَامةِ» والله أعلم.
191
لمَّا بيَّن تعالى كمالَ علمهِ في الآية الأولى - بيَّنَ كمالَ قُدْرتِهِ بهذه الآية، وهو كونه قَادراً على نَقْلِ الذَّرواتِ من المَوْتِ إلى الحياة، ومن النَّومِ إلى اليَقَظَةِ، واسْتِقْلاله بحفظها في جميع الأحوال، وتدبيرها على أحْسَنِ الوجوه في حَالِ النوم واليقظة.
قوله: «باللَّيْلِ» متعلّق بما قبله على أنه ظَرْفٌ له، و «الباءُ» تأتي بمعنى «في»، وقَدْ تقدَّم منه جملة صالحة.
وقال أبو البقاء هنا: وجاز ذلك؛ لأن «الباءس» للإلْصَاقِ والمُلاصِقُ للزمان والمكان حَصِلٌ فيها، يعني في هذه العلاقةِ المجوزة للتَّجَوُّرِ، وعلى هذا فلا حَاجَةَ إلى أن يَنُوب حَرْفٌ مكان آخر، بل نقول: هي هنا للإلْصَاقِ مَجَازاً، نحو ما قالوه في «مررتُ بزيد»، وأسند التَّوَفِّي هنا إلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ، لأنه لا ينفر منه هنا، إذ المُرَادُ به الدَعَةُ والرَّاحَةُ، وأسند إلى غيره في قوله: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١] ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت﴾ [السجدة: ١١] لأنه ينفر منه، إذا المُرَادُ به المَوْتُ.
وهاهنا يَحْثٌ، وهو أن النائم لا شكَّ أنَّهُ حيُّ، ومتى كان حَيَّاً لم تكن رُوحُهُ مَقْبُوَضَةً ألْبَتَّةًن فلا بُدَّ ها هنا من تأويلٍ، وهو أنه حالَ النوم تَغُورُ الأرواح الحسَّاسَةُ من الظاهر في الباطن، فصارت الحواسُّ الظاهِرَةُ مُعَطَّلَةً عن أعمالها، فعند النوم صار ظَاهِرُ الجَسَدِ مُعَطَّلاً عن كُلِّ الأعمال، فحصل بين النَّوءم وبين الموت مُشَابَهَةٌ من هذه الحَيْثِيَّةِ، فلذلك صَحَّ إطلاق لفظ المَوْتِ والوفَاةِ على النوم.
قوله: «مَا جَرَحْتُمْ» الظاهر أنها مَصْدَرِيَّةٌ، وإن كان كونها موصولة اسميةً أكثر
191
ويجوز أن تكون نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بما بعدها، والعَائِدُ على كلا التقديرين الآخرين مَحْذُوفٌ، وكذا عند الأخْفَشِ وابن السّراجِ على القول الأول.
و «بالنَّهَارِ» كقوله: «باللَّيْلِ» والضميرُ في «فيه» عائد على «النهار» وهذا هو الظاهر.
قال أبو حيَّان: «عاد عليه لَفْظاً، والمعنى: في يوم آخر، كما تقول: عندي دِرْهَمٌ ونَصْفهُ».
قال شهابُ الدين: ولا حَاجَة في الظَّاهِرِ على عَوْدِهِ عىل نظير المذكور، إذ عَوْدُهُ على المذكور لا مَحْذُورَ فيه.
وأمَّا ما ذكره من نحو «درهم ونِصْفهُ» فلضروة انْتِفَاءِ العِيِّ من الكلامِ، قالوا: لأنك إذا قلت: «عندي درهمٌ» أنَّ عندك نصفه ضرورة.
فقولك بعد ذلك: «ونصفه» تضطَرُّ إلى عَوْدِهِ إلى نظير ماعندك، بخلاف ما نَحْنُ فيه.
وقيل: يعود على اللَّيل.
وقيل: يعود على التَّوَفِّي، وهو النوم أي: يوقظكم في خلالِ النوم.
وقال الزمخشري: «ثم يَبْعَثكُمْ من القبور في شَأنِ الذي قطعتم به أعْمَارَكُمْ من النوم باللَّيْلِ، وكَسْب الآثام بالنهار» انتهى. وهو حَسَنٌ.
وخَصَّ اللَّيْلَ بالتَّوَفِّي، والنَّهَارَ بالكَسْبِ إن كان قد يُنَامُ في هذا ويُكْسَبُ في الآخر اعتباراً بالحَالِ الأغلب.
وقدَّم التَّوَفِّي بالليل؛ لأنه أبْلغُ في المِنَّةِ عليهم، ولا سيَّملا عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكسْبِ الشَّرِّ دُون الخَيْرِ، ومعنى «جرحتم» أي: كَسَبْتُمْ من العملِ بالنهار.
قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح﴾ [المائدة: ٤] أي: الكَواسِب من الطير والسِّبَاع، واحدتها «جارحة».
قال تعالى: ﴿الذين اجترحوا السيئات﴾ [الجاثية: ٢١] أي: اكْتَسَبُوا.
وبالجملة فالمُرَادُ منه أعمال الجَوَارِح.
قوله: «ليُقْضَى أجَلٌ» الجمهور على لِيُقْضَى «مبنيّاً للمعفولِ، و» أجَلٌ «رفع به، وفي الفاعل المَحْذُوفِ احتمالان:
أحدهما: أنه ضمير البَارِئ تعالى.
192
والثاني: أنه ضير المخاطبين أي: لتقضوا آجالكم.
وقرأ أبو رجاءٍ، وطلحة:» ليَقْضِي «مَبْنياً للفاعل، وهو الله تعالى، و» أجَلاً «مفعول به، و» مُسَمى «صفة، فهو مرفوع على الأوَّل، ومنصوب على الثاني وتيرتَّبُ على ذلك خلافٌ للقُرَّاءِ في إمالَةِ ألفِهِ، و» اللام «في» ليقضي «متعلّقة بما قبلها من مجموع الفِعْلَيْن، أي: يتوفاكم ثُمَّ يبعثكم لأجْلِ ذلك.
والمرادُ: الأجَلُ المسمَّى، أي: عمركم المكتوب.
والمعنى: يبعثكم من نومكم إلى أن تَبْلُغُوا آجَالَكُمْ.
واعلم أنه - تعالى - لمَّا ذكر أنَّهُ يُنيمُهمْ أولاً، ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جَارياً مُجْرَى الإحْيَاءِ بعد الإمَاتَةِ، فلذلك اسْتَدلَّ به على صِحَّةِ البَعْثِ والقِيَامَةِ، فقال: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: ٧] في ليلكم ونهاركم في جميع أحوالكم.
193
قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآية أوَّل السورة.
قوله: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة﴾ : فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه عَطْفٌ على اسم الفاعل الواقع صِلَةً ل «أل» ؛ لأنه في معنى يَفْعَل، والتقدي: وهو الذي يقهر عبادَةُ ويرسل، فعطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله، ومثله عند بعضهم: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ﴾ [الحديد: ١٨] [قالوا] :«أقْرَضُوا» عطف على «مُصَّدِّقِين» الواقع صِلَةً ل «أل» ؛ لأنه في معنى: إنَّ الذين صَدَّقُوا وأقْرَضُوا، وهذا ليس بشيء؛ لأنه يلزم من ذلك الفَصْلُ بين أبْعَاضِ الصِّلةِ بأجنبي، وذلك أن «وأقْرَضُوا» من تمام صِلَةِ «أل» في «المُصَّدِّقين»، وقد عطف على الموصُولِ قوله «المُصَّدِّقات» وهو أجنبي، وقد تقرَّر غير مرَّةِ أنه لا يتبغ الموصول إلاَّ بعد تمام صلته.
وأمَّا قوله تعالى ﴿فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩] ف «يَقْبِضْنَ» في تأويل اسم، أي: وقابضات.
ومن عطف الاسمعلى الفعل لكونه في تأويل الاسم قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ [الأنعام: ٩٥].
وقوله: [الطويل]
193
٢١٨٩ - فَألْفَيْتُهُ يَوْماً [يُبِيرُ] عَدُوَّهُ [ومُجْرٍ] عَطَاءً يِسْتَخِفُّ المعَابِرَا
والثاني: أنها جملة فعلية على جملة اسمية وهي قوله: «وهُوَ القَاهِرُ».
والثالث: أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلَةِ، وما عطف عليها، وهو قوله: «يَتَوَفَّاكُمْ» و «يَعْلَم» وما بعده، أي: وهو الذي يتوفاكم ويرسل.
الرابع: أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان:
أظهرهما: أنه الضمير المُسْتَكِنُّ في «القَاهِرِ».
والثاني: أنها حالٌ من الضمير المُسْتَكِنَّ في الظرف، هكذا قال أبو البقاء، ونقله عنه أبُو حيَّان قال: «وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريبِ».
وقولهما: «الضمير الذي في الظرف» ليس هنا ظَرْفٌ يُتَوَهَّمُ كون هذه الحال من ضير فيه، إلاَّ قوله: «فَوْقَ عِبَادِهِ»، ولكن بأيِّ طريق يتحمَّلُ هذا الظرف ضميراً؟
والجوابُ: أنه قد تقدَّم في الآية المشبهة لهذه أن «فَوْقَ عِبَادِهِ» فيه خمسة أوجه:
ثلاثة منها تتحمَّلُ فيها ضَمِيراً، وهي: كونه خبراً ثانياً، أو بَدَلاً من الخبرِ، أو حالاً، وإنما اضْطررْنَا إلى تقدير مبتدأ قَبْلَ «يُرْسِلُ» ؛ لأن المضارع المثبت إذا وقع حالاً لم يقترن بالواو كما تقدَّم إيضاحه.
والخامس: أنها مُسْتَأنَفَةٌ سيقت للإخبار بذلك، وهذا الوجه هو في المعنى كالثاني.
قوله: «عليكم» يحتملُ ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه متعلّق ب «يرسل» ومنه ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ﴾ [الرحمن: ٣٥] ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ﴾ [الأعراف: ١٣٣] ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا﴾ [الفيل: ٣] إلى غير ذلك.
والثاني: أنه متعلّق ب «حَفَظَة»، يقال: حفظت عليه عمله، فالتقدير: ويرسل حَفَظَةً عليْكُمْ.
قال أبو حيَّان: أي: يحفظون عليكم أعمالكم، كما قال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار: ١٠] كما تقول: حفظت عليك ما تعمل فقوله كما قال تشبيه من حيث المعنى، لا أن «عَلَيْكُمْ» تعلَّقَ ب «حافظين» ؛ لأن «عَلَيْكُمْ» هو الخبر ل «أنَّ»، فيتعلق بمحذوف.
194
والثالث: أنه مُتَعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من «حَفَظَة»، إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صِفَةً لها.
قال أبو البقاء: «عَلَيْكُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: هو مُتعلّق ب «يرسل».
والثاني: أن يكون في نِيَّةِ التَّأخير، وفيه وجهان:
أحدهما أن يتعلَّق بنفس «حَفَظَة» ن والمفعول محذوف، أي: يرسل عليكم من يحفظ أعمالكم.
والثاني: أن يكون صفة ل «حفظة» قدمت فصارت حالاً. قوله: والمفعول محذوف يعني: مفعول «حفظة»، إلاَّ أنَّهُ يُوهِمُ أنَّ تقدير المفعول خاصُّ بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك، بل لا بُدَّ من تقديره على كُلِّ وجْهِ، و «حَفَظَة» إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صِفَةً لمحذوفٍ تقديره: ويرسل عليكم ملائكة حَفَظَةً؛ لأنه لا يعمل إلاَّ بشروطٍ هذا منها، أعني كونه معتمداً على موصوف، و «حفظة» جمعُ «حافظ»، وهو مُنْقَاسٌ في كُلِّ وصْفٍ على فاعلٍ صحيح «اللام» لعقلٍ مذكرٍ، ك «بارِّ» و «بَررَة»، و «فاجر» و «فَجَرة»، و «كاملٍ» و «كَمَلَه»، ونيقل في غير العاقل، كقوله: «غُرابٌ نَاعقٌ» و «غِرْبَانٌ نعقة».

فصل في معنى الحفظة


هؤلاء الحفظةُ هم المذكورون في قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ [الرعد: ١١].
وقوله: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد﴾ [ق: ١٨] وقوله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: ١٠، ١١].
والمقصود بهؤلاء الحفَظةِ ضَبْطُ الأعمال ثم اختلفوا فقيل: إنهم يكتبون الطَّاعات والمعاصي والمُباحَات بأسْرِهَا لقوله تعالى: ﴿مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩].
وعن ابن عبَّاسٍ أنَّ مع كُلِّ إنْسَان ملكيْنِ؛ أحدهما: عن يمينه، والآخرُ عن يسارِهِ، فإذا تَكَلَّمَ الإنْسانُ بِحَسَنَةٍ كتبها [من] على اليمين، وإذا تكلَّمَ بسيئة قال مَنْ على اليمين للذي على اليَسَارِ: انتظره لَعلَّهُ يتوب منها، فإن لم يَتُبْ كتبت عليه.
والأوَّلُ أقوى؛ لأن قوله: «يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» يفيد حفظة الكل من غير تخصيص.
والثاني: أنَّ ظاهِرَ هذه الآية يَدُلُّ على اضِّلاعِ هؤلاء الحَفَظةِ على الاقْوالِ والأفْعَالِ
195
أمَّا على صفاتِ القلوب، وهو العِلْمُ والجَهْلُ، فليس في هذه الآيات ما يَدُلُّ على اطِّلاعِهِمْ عليها.
أمَّا في الأقوال، فلقوله تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد﴾
[ق: ١٨].
وأمَّا في الأفعال، فلقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: ١٠ - ١٢].
وأمَّا الإيمان والكُفْرُ، والإخلاصُ والإشراك فلم يَدُلَّ دليل على اطِّلاعِ الملائكة عليها.

فصل في فائدة توكيل الملائكة علينا


وفي فائدة جَعْلِ الملائكة مُوَكّلين على بين آدم وجوه:
أحدها: أنَّ المُكَلَّفَ إذا علم أن الملائِكَة مُوَكلين به يُحْصُون عليه عمله، ويكتبونه في صَحِيفَةٍ تُعْرَضُ على رؤوس الاشهاد في مواقف القِيَامَةِ كان ذلك أزْجَرَ له عن القَبَائِحِ.
والثاني: يحتمل ا، تكون الكِتابةُ لفائدة وَزْنِ تلك الصَّحائِفِ يوم القيامة؛ لأن وَزْنَ الأعمال غير مُمْكِنٍ، أمَّا وزنُ الصحائف ممكن.
وثالثها: يَفْعَلُ اللَّهُ ما يشَاءُ، ويحكم ما يريد، ويجب علينا الإيمانُ بكل ما ورد به الشرع، سواءَ عقلناه أم لم نعقله.
قوله: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ تقدَّم مثله.
وقوله: «تَوَفَّتْهُ» قرأ الجمهور «تَوَفَّتْهُ»، ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع.
وقرأ حمزة: «تَوَفَّاهُ» من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين.
أظهرهما: أنه ماضٍ، وإنما حذفَ تاء التأنيث لوجهين:
أحدهما: كونه تأنيثاً مجازياً.
والثاني: الفَصْلُ بين الفِعْلِ وفاعله بالمفعول.
والثاني: أنه مضارع، وأصله: تَتَوَفَّاهُ بتاءين، فحذفت إحداهما على خلافٍ في أيَّتهما ك «تَنَزَّلُ» وبابه، وحمزة على بابه في إمالة مثل هذه الألف.
وقرأ الأعمش: «يَتَوَفَّاهُ» مُضارعاً بياء اليغَيْبَةِ اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً، أوْ للفَصْلِ، فهو كقراءة حَمْزَةَ في الوجْهِ الأوَّل من حيث تذكير الفعلِ وكقراءته فغي الوَجْهِ الثاني من حيث إنه أتى به مُضَارعاً.
196
وقال أبو البقاء: «وقرئ شاذاً» «تَتَوفَّاهُ» على الاسْتِقْبَالِ، ولم يذكر بياء ولا تاء.

فصل في بيان أن الوفاة من الله


قال الله تعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢]
وقال: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾ [تبارك: ٢] وهذان النَّصانِ يَدُلاَّنِ على أنَّ توفي الأرواح ليس إلاَّ من اللَّهِ.
وقال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: ١١] وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصلُ إلاَّ من ملك الموت.
وقال في هذه الآية: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»، فهذه النصوص الثلاثة كالمُتَنَاقضة.
والجوابُ: أن التَّوَفِّي في الحقيقة إنما حَصَلَ بِقُدْرَةِ الله تعالى، وهو في الظاهر مُفَوَّضٌ إلى مَلَكِ الموت، وهو الرئيس المُطْلَق في هذا الباب، وله أعْوَانٌ وخدمٌ فَحَسُنَتْ إضافة التَّوَفِّي إلى هذه الثلاثة بحسبِ الاعتبارات الثلاثة.
وقيل: أراد بالرُّسُلِ ملك الموت وحده، وذكر الواحد بلفظ الجمع.
وجاء في الأخبار أنَّ اللَّه - تعالى - جعل الدُّنْيَا بين يدي مَلَكِ الموت كالمائدةِ الصَّغيرة، فَيَقْبِضُ من هاهنا، ومن هاهنا، فإذا كَثُرَت الأرواح يدعو الأرواح فتيجيب له.

فصل في بيان أن الحفظة لا شأن لهم بالموت


قال بعضهم: هؤلاء الرُّسُلُ الذين يَتَوفَّون الخلْقَ هم الحفظةُ بحفظونه في مُدَّةِ الحياة، وعند مجيء الموْتِ يِتوفَّوْنَهُ، والأكثرون على أنَّ الحفظةَ غير الذين يَتَولَّونَ الوفاة.
قوله: «وهُمْ لا يُفَرِّطُونَ» هذه الجملة تحتمل وجهين:
أظهرهما: أنها حالٌ من «رسلنا».
والثاني: أنها اسْتِئْنَافِيَّةٌ سيقت للإخبار عنهم بهذه الصِّفة، والجمهور على التشديد في «يُفَرِّطُون»، ومعناه: لا يُقَصِّرُون.
وقرأ عمرو بن عُبيد والأعرج «يُفْرطُون» مخففاً من «أفرط»، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنها بمعنى: لا يجاوزون الحَدَّ فيما أمِرُوا به.
197
قال الزمخشري: «فالتفريط: التَّوَاني والتأخير عن الحَدِّ، والإفراطُ مُجَاوَزَةُ الحدِّ أي: لاينقصون مما أمروا بِهِ، ولا يزيدون».
والثاني: أنَّ معناه لا يتقدَّمُون على أمْرِ الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ «أفْرَطَ» بمعنى «فَرَّط»، أي: تقدَّم.
قال الجَاحِظُ قريباً من هذا فغنه قال: «معنى لا يُفْرِطون: لا يدعون أحَداً يَفْرُط عنهم، أي: يَسْبِقُهُمْ ويفوتهم».
وقال أبو البقاء: ويقرأ بالتخفيف، أي: لا يزيدون على ما أمِرُوا به، وهو قريبٌ مما تقدَّم.
قوله: «ثُمَّ رُدُّوا إلى الله».
قيل: المردود: هم الملائكة يعني كما يَمُوتُ ابن آدم تموت أيضاً الملائكة.
وقيل: المراد: البَشَرُ يعني: أنههم بعد موتهم يُرَدُّون إلى اللَّهِ تعالى. وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسانَ ليس مُجَرَّدَ هذه البنية؛ لأن صريح هذه الآية يَدُلُّ على حُصُولِ الموْتِ لِلْعَبْدِ، ويَدُلُّ على أنه بعد الموْتِ يُردُّ إلى اللَّهِ، والميِّتُ مع كونه مَيِّتاً لا يمكن أن يرد إلى اللَّهِ؛ لأن ذلك الرَّدَّ ليس بالمكان والجهة لكونه - تعالى - مُتَعَالياً عن المكان والجهة، فوجب أن يكون ذلك الرَّدُّ مُفَسَّراً بكونه مُنْقَاداً لِحُكْمِ اللَّهِ.
وما لم يكن حَيَّاً لم يَصِحَّ هذا المعنى فيه.
وقد ثبت أنَّ ها هنا مَوْتاً وحياة، أما الموت فنصيب البدنِ، فبقى أن تكون الحياةُ نَصِيبَ النَّفْسِ والروح، فلمَّا قال تعالى: ﴿ثُمَّ ردوا إلى الله﴾ ثبت أنَّ المَرْدُودَ هو النَّفْسُ والرُّوحُ، وثبت أن الإنسان ليس إلاَّ النَّفْسُ والروح، وهو المطلوب.

فصل في عموم الآية


الآية في المؤمنين والكافرين جمعياً، وقد قال في آية أخرى ﴿وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١] فكيف وجه الجمع؟
فقيل: المَوْلَى في تلك الآية بمعنى النَّاصر، ولا نَاصِرَ لِلْكُفَّارِ، والمولَى هاهنا بمعنى الملكِ الذي يتولَّى أمُورَهُمْ، والله - عزَّ وجلَّ - مَالِكُ الكُلِّ ومُتولِّي أمورهم.
وقيل: المارد هاهنا - المؤمنين خاصَّة يُرَدُّونَ إلى مَولاهُمْ، والكُفَّارُ فيه تَبَعٌ.
قوله: «مَوْلاهُمُ الحَقُّ» صِفتانِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
وقرأ الحسنُ، والأعمش: «الحقَّ نَصْباً، وفيه تأويلان:
198
أظهرهما: أنه نَعْتٌ مقطوع.
والثاني: أنه نَعْت مَصْدر محذوف، أي: رَدُّوا الرَّدَّ الحقَّ لا الباطل، وقرئ رِدُّوا بكسر الرَّاء، وتقدَّم تخريجها.
والضميرُ في» مَوْلاهم «فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنه للعباد قوله:»
فَوْقَ عِبَادِهِ «فقوله: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ التِفَاتٌ؛ إذ الأصل: ويرسل عليهم، وفائدة هذا الالتِفَاتِ والتَّنْبِيهُ والايقَاظُ.
والثاني: أنه يعود على الملائكة المعنيّين بقوله: «رسلنا»
يعني انهم يموتون كما يموت بَنُو آدَمَ، ويُرَدُّون إلى ربِّهِمْ كما تقدَّم.
والثالث: أنه يعود على «أحدٍ» في قوله: ﴿جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ [الأنعام: ٦١] ؛ إذ المراد به الجَمْعُ لا الإفراد.
قوله: «ألاَ لَهُ الحُكْمُ»، أي: لا حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ؛ لقوله: ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ﴾ [يوسف: ٤٠]، والمراد بالحُكْمِ القضاء «وهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبينَ»، أي: حسابه يرفع لا يحتاج إلى فِكْرٍ ورويَّةٍ، واختلفوا في كيفية هذا الحساب، فقيل: إنه - تعالى - يحاسب الخَلْقَ بنفسه دفعة واحدةً لا يشغله كلامٌ عن كلامٍ.
وقيل: بل يأمر اللَّهُ الملائكة أن يحاسب كُلُّ واحدٍ منهم واحداً من العبادِ؛ لأنه - تعالى - لوحاسبَ الكُفَّار بنفسه لتكلَّم معهم، وذلك بَاطِلٌ؛ لقوله تعالى في صِفَةِ الكُفَّارٍ: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة﴾ [البقرة: ١٧٤].

فصل في رد شبهة حدوث الكلام


أحْتَجَّ الجُبَّائي بهذه الآيةِ على حُدُوثِ كلام اللَّهِ.
قال: لو كان كلامُهُ قديماً لوجب أن يكُون مُتَكلماً بالمُحَاسَبَةِ الآن، وقبل خلقه، وذلك مَحَالٌ؛ لأن المُحَاسَبَة تقتضي حكاية عمل تقدَّم.
وأجيب بالمُعَارَضَةِ بالعِلْمِ، فإنه تعالى كان قبل المَعْلومِ عالماً بأنه سَيُوجد، وبعد وجوده صار عالماً بأنه وجد قبل ذلك، ولم يَلْزَمْ منه تَغَيُّرُ العلم، فَلِمَ لا يجوز مثله في الكلام. والله أعلم.
199
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآية أوَّل السورة.
قوله :﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ﴾ : فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه عَطْفٌ على اسم الفاعل الواقع صِلَةً ل " أل " ؛ لأنه في معنى يَفْعَل، والتقدير : وهو الذي يقهر عبادَهُ ويرسل، فعطف الفعل على الاسم ؛ لأنه في تأويله، ومثله عند بعضهم :
﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ﴾ [ الحديد : ١٨ ] [ قالوا ]١ :" أقْرَضُوا " عطف على " مُصَّدِّقِين " الواقع صِلَةً ل " أل " ؛ لأنه في معنى : إنَّ الذين صَدَّقُوا وأقْرَضُوا، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه يلزم من ذلك الفَصْلُ بين أبْعَاضِ الصِّلةِ بأجنبي، وذلك أن " وأقْرَضُوا " من تمام صِلَةِ " أل " في " المُصَّدِّقين "، وقد عطف على الموصُولِ قوله " المُصَّدِّقات " وهو أجنبي، وقد تقرَّر غير مرَّةِ أنه لا يتبع الموصول إلاَّ بعد تمام صلته.
وأمَّا قوله تعالى ﴿ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾ [ الملك : ١٩ ] ف " يَقْبِضْنَ " في تأويل اسم، أي : وقابضات.
ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قوله تعالى :
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ].
وقوله :[ الطويل ]
فَألْفَيْتُهُ يَوْماً [ يُبِيرُ ]٢ عَدُوَّهُ [ ومُجْرٍ ]٣ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المعَابِرَا٤
والثاني : أنها جملة فعلية على جملة اسمية وهي قوله :" وهُوَ القَاهِرُ ".
والثالث : أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلَةِ، وما عطف عليها، وهو قوله :" يَتَوَفَّاكُمْ " و " يَعْلَم " وما بعده، أي : وهو الذي يتوفاكم ويرسل.
الرابع : أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان :
أظهرهما : أنه الضمير المُسْتَكِنُّ في " القَاهِرِ ".
والثاني : أنها حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف، هكذا قال أبو البقاء٥، ونقله عنه أبُو حيَّان٦ قال :" وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريبِ ".
وقولهما :" الضمير الذي في الظرف " ليس هنا ظَرْفٌ يُتَوَهَّمُ كون هذه الحال من ضمير فيه، إلاَّ قوله :" فَوْقَ عِبَادِهِ "، ولكن بأيِّ طريق يتحمَّلُ هذا الظرف ضميراً ؟
والجوابُ : أنه قد تقدَّم في الآية المشبهة لهذه أن " فَوْقَ عِبَادِهِ " فيه خمسة أوجه :
ثلاثة منها تتحمَّلُ فيها ضَمِيراً، وهي : كونه خبراً ثانياً، أو بَدَلاً من الخبرِ، أو حالاً، وإنما اضْطررْنَا إلى تقدير مبتدأ قَبْلَ " يُرْسِلُ " ؛ لأن المضارع المثبت إذا وقع حالاً لم يقترن بالواو كما تقدَّم إيضاحه.
والخامس : أنها مُسْتَأنَفَةٌ سيقت للإخبار بذلك، وهذا الوجه هو في المعنى كالثاني.
قوله :" عليكم " يحتملُ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه متعلّق ب " يرسل " ومنه ﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ﴾ [ الرحمان : ٣٥ ] ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ﴾ [ الأعراف : ١٣٣ ]
﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً ﴾ [ الفيل : ٣ ] إلى غير ذلك.
والثاني : أنه متعلّق ب " حَفَظَة "، يقال : حفظت عليه عمله، فالتقدير : ويرسل حَفَظَةً عليْكُمْ.
قال أبو حيَّان٧ : أي : يحفظون عليكم أعمالكم، كما قال :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾ [ الانفطار : ١٠ ] كما تقول : حفظت عليك ما تعمل فقوله كما قال تشبيه من حيث المعنى، لا أن " عَلَيْكُمْ " تعلَّقَ ب " حافظين " ؛ لأن " عَلَيْكُمْ " هو الخبر ل " أنَّ "، فيتعلق بمحذوف.
والثالث : أنه مُتَعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من " حَفَظَة "، إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صِفَةً لها.
قال أبو البقاء٨ :" عَلَيْكُمْ " فيه وجهان :
أحدهما : هو مُتعلّق ب " يرسل ".
والثاني : أن يكون في نِيَّةِ التَّأخير، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بنفس " حَفَظَة "، والمفعول محذوف، أي : يرسل عليكم من يحفظ أعمالكم.
والثاني : أن يكون صفة ل " حفظة " قدمت فصارت حالاً. قوله : والمفعول محذوف يعني : مفعول " حفظة "، إلاَّ أنَّهُ يُوهِمُ أنَّ تقدير المفعول خاصُّ بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك، بل لا بُدَّ من تقديره على كُلِّ وجْهِ، و " حَفَظَة " إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صِفَةً لمحذوفٍ تقديره : ويرسل عليكم ملائكة حَفَظَةً ؛ لأنه لا يعمل إلاَّ بشروطٍ هذا منها، أعني كونه معتمداً على موصوف، و " حفظة " جمعُ " حافظ "، وهو مُنْقَاسٌ في كُلِّ وصْفٍ على فاعلٍ صحيح " اللام " لعقلٍ مذكرٍ، ك " بارٍّ " و " بَررَة "، و " فاجر " و " فَجَرة "، و " كاملٍ " و " كَمَلَه "، وينقل في غير العاقل، كقوله :" غُرابٌ نَاعقٌ " و " غِرْبَانٌ نعقة " ٩.

فصل في معنى الحفظة


هؤلاء الحفظةُ هم المذكورون في قوله تعالى :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [ الرعد : ١١ ].
وقوله :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد ﴾ [ ق : ١٨ ] وقوله :
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين كِرَاماً كَاتِبِينَ ﴾ [ الانفطار : ١٠، ١١ ].
والمقصود بهؤلاء الحفَظةِ ضَبْطُ الأعمال ثم اختلفوا فقيل : إنهم يكتبون الطَّاعات والمعاصي والمُباحَات بأسْرِهَا لقوله تعالى :
﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾
[ الكهف : ٤٩ ].
وعن ابن عبَّاسٍ أنَّ مع كُلِّ إنْسَان ملكيْنِ ؛ أحدهما : عن يمينه، والآخرُ عن يسارِهِ، فإذا تَكَلَّمَ الإنْسانُ بِحَسَنَةٍ كتبها [ من ]١٠ على اليمين، وإذا تكلَّمَ بسيئة قال مَنْ على اليمين للذي على اليَسَارِ : انتظره لَعلَّهُ يتوب منها، فإن لم يَتُبْ كتبت عليه١١.
والأوَّلُ أقوى ؛ لأن قوله :" يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً " يفيد حفظة الكل من غير تخصيص.
والثاني : أنَّ ظاهِرَ هذه الآية يَدُلُّ على اطِّلاعِ هؤلاء الحَفَظةِ على الأقْوالِ والأفْعَالِ أمَّا على صفاتِ القلوب، وهو العِلْمُ والجَهْلُ، فليس في هذه الآيات ما يَدُلُّ على اطِّلاعِهِمْ عليها.
أمَّا في الأقوال، فلقوله تعالى :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد ﴾ [ ق : ١٨ ].
وأمَّا في الأفعال، فلقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ الانفطار : ١٠-١٢ ].
وأمَّا الإيمان والكُفْرُ، والإخلاصُ والإشراك فلم يَدُلَّ دليل على اطِّلاعِ الملائكة عليها.

فصل في فائدة توكيل الملائكة علينا


وفي فائدة جَعْلِ الملائكة مُوَكّلين على بين آدم وجوه :
أحدها : أنَّ المُكَلَّفَ إذا علم أن الملائِكَة مُوَكلين به يُحْصُون عليه عمله، ويكتبونه في صَحِيفَةٍ تُعْرَضُ على رءوس الأشهاد في مواقف القِيَامَةِ كان ذلك أزْجَرَ له عن القَبَائِحِ.
والثاني : يحتمل أن تكون الكِتابةُ لفائدة وَزْنِ تلك الصَّحائِفِ يوم القيامة ؛ لأن وَزْنَ الأعمال غير مُمْكِنٍ، أمَّا وزنُ الصحائف ممكن.
وثالثها : يَفْعَلُ اللَّهُ ما يشَاءُ، ويحكم ما يريد، ويجب علينا الإيمانُ بكل ما ورد به الشرع، سواءَ عقلناه أم لم نعقله.
قوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ تقدَّم مثله.
وقوله :" تَوَفَّتْهُ " قرأ الجمهور١٢ " تَوَفَّتْهُ "، ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع.
وقرأ حمزة١٣ :" تَوَفَّاهُ " من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنه ماضٍ، وإنما حذفَ تاء التأنيث لوجهين :
أحدهما : كونه تأنيثاً مجازياً.
والثاني : الفَصْلُ بين الفِعْلِ وفاعله بالمفعول.
والثاني : أنه مضارع، وأصله : تَتَوَفَّاهُ بتاءين، فحذفت إحداهما على خلافٍ في أيَّتهما ك " تَنَزَّلُ " وبابه، وحمزة على بابه في إمالة مثل هذه الألف.
وقرأ الأعمش١٤ :" يَتَوَفَّاهُ " مُضارعاً بياء الغَيْبَةِ اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً، أوْ للفَصْلِ، فهو كقراءة حَمْزَةَ في الوجْهِ الأوَّل من حيث تذكير الفعلِ وكقراءته في الوَجْهِ الثاني من حيث إنه أتى به مُضَارعاً.
وقال أبو البقاء١٥ :" وقرئ شاذاً١٦ " " تَتَوفَّاهُ " على الاسْتِقْبَالِ، ولم يذكر بياء ولا تاء.

فصل في بيان أن الوفاة من الله


قال الله تعالى :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ].
وقال :﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾ [ تبارك : ٢ ] وهذان النَّصانِ يَدُلاَّنِ على أنَّ توفي الأرواح ليس إلاَّ من اللَّهِ.
وقال تعالى :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾ [ السجدة : ١١ ] وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصلُ إلاَّ من ملك الموت.
وقال في هذه الآية :" تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا "، فهذه النصوص الثلاثة كالمُتَنَاقضة.
والجوابُ : أن التَّوَفِّي في الحقيقة إنما حَصَلَ بِقُدْرَةِ الله تعالى، وهو في الظاهر مُفَوَّضٌ إلى مَلَكِ الموت، وهو الرئيس المُطْلَق في هذا الباب، وله أعْوَانٌ وخدمٌ فَحَسُنَتْ إضافة التَّوَفِّي إلى هذه الثلاثة بحسبِ الاعتبارات الثلاثة.
وقيل : أراد بالر‍ُّسُلِ ملك الموت وحده، وذكر الواحد بلفظ الجمع.
وجاء في الأخبار أنَّ اللَّه -تعالى- جعل الدُّنْيَا بين يدي مَلَكِ الموت كالمائدةِ الص‍َّغيرة، فَيَقْبِضُ من هاهنا، ومن هاهنا، فإذا كَثُرَت الأرواح يدعو الأرواح فتجيب له.

فصل في بيان أن الحفظة لا شأن لهم بالموت


قال بعضهم١٧ : هؤلاء الرُّسُلُ الذين يَتَوفَّون الخلْقَ هم الحفظةُ يحفظونه في مُدَّةِ الحياة، وعند مجيء الموْتِ يَتوفَّوْنَهُ، والأكثرون على أنَّ الحفظةَ غير الذين يَتَولَّونَ الوفاة.
قوله :﴿ وهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ﴾ هذه الجملة تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنها حالٌ من " رسلنا ".
والثاني : أنها اسْتِئْنَافِيَّةٌ سيقت للإخبار عنهم بهذه الصِّفة، والجمهور١٨ على التشديد في " يُفَرِّطُون "، ومعناه : لا يُقَصِّرُون.
وقرأ عمرو بن عُبيد١٩ والأعرج " يُفْرطُون " مخففاً من " أفرط "، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها بمعنى : لا يجاوزون الحَدَّ فيما أمِرُوا به.
قال الزمخشري٢٠ :" فالتفريط : التَّوَاني والتأخير عن الحَدِّ، والإفراطُ مُجَاوَزَةُ الحدِّ أي : لا ينقصون مما أمروا بِهِ، ولا يزيدون ".
والثاني : أنَّ معناه لا يتقدَّمُون على أمْرِ الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ " أفْرَطَ " بمعنى " فَرَّط "، أي : تقدَّم.
قال الجَاحِظُ قريباً من هذا فإنه قال :" معنى لا يُفْرِطون : لا يدعون أحَداً يَفْرُط عنهم، أي : يَسْبِقُهُمْ ويفوتهم ".
وقال أبو البقاء٢١ : ويقرأ بالتخفيف، أي : لا يزيدون على ما أمِرُوا به، وهو قريبٌ مما تقدَّم.
قوله :﴿ ثُمَّ رُدُّوا إلى الله ﴾.
قيل٢٢ : المردود : هم الملائكة يعني كما يَمُوتُ ابن آدم تموت أيضاً الملائكة.
وقيل : المراد : البَشَرُ يعني : أنهم بعد موتهم يُرَدُّون إلى اللَّهِ تعالى. وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسانَ ليس مُجَرَّدَ هذه البنية ؛ لأن صريح هذه الآية يَدُلُّ على حُصُولِ الموْتِ لِلْعَبْدِ، ويَدُلُّ على أنه بع
١ في ب: قال..
٢ في ب: يشير..
٣ في ب: ويجر..
٤ البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص (٧١)، رصف المباني ص (٤١١)، شرح ابن عقيل ص (٥٠٥)، المقاصد النحوية ٤/١٧٦. الدر المصون ٣/٨١..
٥ ينظر: الإملاء ١/٢٤٥..
٦ البحر المحيط ٤/١٥١..
٧ ينظر: البحر المحيط ٤/١٥١..
٨ ينظر: الإملاء ١/٢٤٥..
٩ في ب: نقعه..
١٠ سقط في أ..
١١ ينظر: تفسير الرازي (١٣/١٣)..
١٢ ينظر: الدر المصون ٣/٨١، البحر المحيط ٤/١٥٢..
١٣ ينظر: الدر المصون ٣/٨١، البحر المحيط ٤/١٥٢..
١٤ ينظر: الدر المصون ٣/٨١، البحر المحيط ٤/١٥٢..
١٥ ينظر: الإملاء ١/٢٤٥..
١٦ ينظر: الدر المصون ٣/٨٣، البحر المحيط ٤/١٥٢، حجة القراءات ص (٢٥٤)..
١٧ ينظر: الرازي ١٣/١٤..
١٨ ينظر: الدر المصون ٣/٨٣، البحر المحيط ٤/١٥٣، حجة القراءات ص (٢٥٤)..
١٩ ينظر: الدر المصون ٣/٨٣، البحر المحيط ٣/١٥٣، حجة القراءات ص (٢٥٤)..
٢٠ ينظر: الكشاف ٢/٣٢..
٢١ ينظر: الإملاء ١/٢٤٥..
٢٢ ينظر: الرازي ١٣/١٥..

وهذا نوع آخر من الدلالة على كمالِ القُدرةِ الإلهية، وكمال الرحمة والفَصْلِ والإحسان.
199
وقرأ السبعة هذه مشدّدة: ﴿قُلِ الله يُنَجِّيكُم﴾ [الأنعام: ٦٤] قرأها الكوفيون وهشام بن عامر عن أبي عام كالأول. وقرأ الثِّنْتينِ بالتخفيف من «أنْجَى» حُمَيْدُ بن قيس، ويعقوب، وعلي بن نَصْرٍ عن أبي عمرو، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقلون في الموضعين، وأن حميداً ومن مَعَهُ يُخَفِّفُونَ فيهما، وأن نافعاً، وابن كثير، وأبا عمرو، وابن ذكوان عن ابن عامرٍ يُثَقِّلُون الأولى، ويُخَفِّفُون الثانية، والقراءات واضحة، فإنها من: نجَّى وأنْجى، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتَّعديَةِ.
فالكوفيون وهشام التَزَمُوا التَّعْديةَ بالتضعيف، وحميد وجماعته التَزَمُوهَا بالهمزة. والباقون جمعوا بين التَّعديتين جمعاً بين اللُّغَتَيْنِ كقوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾ [الطارق: ١٧].
والاستفهام للتقرير والتَّوْبيخ، وفي الكلام حَذفُ مضاف، أي: مِنْ مهالِكِ ظُلُمات، أو من مخاوفها، والظلمات كِنَايةٌ عن الشدائد والأهوال إذا سافروا في البرِّ والبَحْرِ.
قوله: «تَدْعُونَهُ» في مَحَلِّ نصب على الحال، إما من مفعول «ينجيكم»، وهو الظاهر، أي: ينجيكم داعين إيَّاه، وإما من فاعله، أي: مدعُوَّاً من جهتكم.
قوله: «تَضَرُّعاً وخُفْيَةٌ» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: إنهما مصدران في موضع الحالِ، أي: تدعونه مُتَضَرِّعين ومُخْفِينَ.
والثاني: أنها مصدارن من معنى العامل لا من لفظه كقولك: قعدت جُلُوساً.
وقرأ الجمهور: «خُفْيَةً» بضم الخاء، وقرأ أبو بكر بكسرها، وهما لغتانِ، كالعُدْوِةِ والعِدْوةِ، والأسْوَة والإسْوَة.
وقرأ الأعمش: «وخيفة» كالتي في «الأعراف» وهي من الخَوْفِ، قُلِبَتْ «الواو»
200
ياء لانكسار ما قبلها وسكونها، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يَأبَاهُ «تَضرُّعاً» من المعنى.
قوله: «لَئِنْ أنْجَيْتَنَا» الظاهر أن هذه الجلمة القسميَّةَ تفسير للدُّعاءِ قبلها
ويجوز أن تكون مَنْصُوبَةً المَحلِّ على إضمار القول، ويكون ذلك القول في محلِّ نصب على الحال من فاعل «تدعونه» أي: تدعونه قائلين ذلك، وقد عرف مما تقدَّم غير مرَّةٍ كيفية اجتماع الشرط والقسم.
وقرأ الكوفيون «أنْجَانَا» بلفظ الغَيْبَةِ مُرَعَاةً لقوله «تَدْعُونَهُ» والباقون «أنجيتَنَا» بالخطاب حكاية لخطابِهِمْ في حالة الدعاء، وقد قرأ كُلُّ بما رسم في مصحفه، فإن في مصاحف «الكوفة» : أنْجَانَا «، وفي غيرها:» أنْجَيْتَنَا «.
قوله:»
مِنْ هَذِهِ «متعلِّقٌ بالفعل قَبْلَهُ، و» مِنْ «لابتداء الغاية، و» هذه «اشارةٌ إلى الظُّلماتِ، لأنها تجري مجرى المؤنثة الواحدة، وكذلك في» منها «تعود على الظلمات.
وقوله:»
ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ «عطف على الضمير المجرور بإعادةِ حرف الجر، وهو واجب عند البصريين، وقد تقدَّم.
و»
الكَرْبُ «غاية الغَمِّ الذي يأخذ النَّفْسَ.
قوله:»
ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ «يريد أنهم يُقرُّونَ أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي يُنَجِّيهم، ثم يشركون معه الأصنامَ التي علموا أنها لا تضر ولا تنفع.
201
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:وهذا نوع آخر من الدلالة على كمالِ القُدرةِ الإلهية، وكمال الرحمة والفَضْلِ والإحسان.
وقرأ السبعة هذه١ مشدّدة :﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم ﴾ [ الأنعام : ٦٤ ] قرأها الكوفيون وهشام بن عامر عن ابن عامر مشددة كالأولى. وقرأ الثِّنْتينِ٢ بالتخفيف من " أنْجَى " حُمَيْدُ بن قيس، ويعقوب، وعلي بن نَصْرٍ عن أبي عمرو، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقلون في الموضعين، وأن حميداً ومن مَعَهُ يُخَفِّفُونَ فيهما، وأن نافعاً، وابن كثير، وأبا عمرو، وابن ذكوان عن ابن عامرٍ يُثَقِّلُون الأولى، ويُخَفِّفُون الثانية، والقراءات واضحة، فإنها من : نجَّى وأنْجى، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتَّعديَةِ.
فالكوفيون وهشام التَزَمُوا التَّعْديةَ بالتضعيف، وحميد وجماعته التَزَمُوهَا بالهمزة. والباقون جمعوا بين التَّعديتين جمعاً بين اللُّغَتَيْنِ كقوله تعالى :﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ].
والاستفهام للتقرير والتَّوْبيخ، وفي الكلام حَذفُ مضاف، أي : مِنْ مهالِكِ ظُلُمات، أو من مخاوفها، والظلمات كِنَايةٌ عن الشدائد والأهوال إذا سافروا في البرِّ والبَحْرِ.
قوله :" تَدْعُونَهُ " في مَحَلِّ نصب على الحال، إما من مفعول " ينجيكم "، وهو الظاهر، أي : ينجيكم داعين إيَّاه، وإما من فاعله، أي : مدعُوَّاً من جهتكم.
قوله :﴿ تَضَرُّعاً وخُفْيَةٌ ﴾ يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنهما مصدران في موضع الحالِ، أي : تدعونه مُتَضَرِّعين ومُخْفِينَ.
والثاني : أنها مصدارن من معنى العامل لا من لفظه كقولك : قعدت جُلُوساً.
وقرأ الجمهور٣ :" خُفْيَةً " بضم الخاء، وقرأ٤ أبو بكر بكسرها، وهما لغتانِ، كالعُدْوةِ والعِدْوةِ، والأسْوَة والإسْوَة.
وقرأ الأعمش٥ :" وخيفة " كالتي في " الأعراف " وهي من الخَوْفِ، قُلِبَتْ " الواو " ياء لانكسار ما قبلها وسكونها، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يَأبَاهُ " تَضرُّعاً " من المعنى.
قوله :" لَئِنْ أنْجَيْتَنَا " الظاهر أن هذه الجملة القسميَّةَ تفسير للدُّع‍اءِ قبلها.
ويجوز أن تكون مَنْصُوبَةً المَحلِّ على إضمار القول، ويكون ذلك القول في محلِّ نصب على الحال من٦ فاعل " تدعونه " أي : تدعونه قائلين ذلك، وقد عرف مما تقد‍َّم غير مرَّةٍ كيفية اجتماع الشرط والقسم.
وقرأ الكوفيون٧ " أنْجَانَا " بلفظ الغَيْبَةِ مُرَاعَاةً لقوله " تَدْعُونَهُ " والباقون٨ " أنجيتَنَا " بالخطاب حكاية لخطابِهِمْ في حالة الدعاء، وقد قرأ كُلٌّ بما رسم في مصحفه، فإن في مصاحف " الكوفة " : أنْجَانَا "، وفي غيرها :" أنْجَيْتَنَا ".
قوله :" مِنْ هَذِهِ " متعلِّقٌ بالفعل قَبْلَهُ، و " مِنْ " لابتداء الغاية، و " هذه " إشارةٌ إلى الظُّلماتِ، لأنها تجري مجرى المؤنثة الواحدة، وكذلك في " منها " تعود على الظلمات.
وقوله :﴿ ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ ﴾ عطف على الضمير المجرور بإعادةِ حرف الجر، وهو واجب عند البصريين، وقد تقدَّم.
و " الكَرْبُ " غاية الغَمِّ الذي يأخذ النَّفْسَ.
قوله :" ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ " يريد أنهم يُقِرُّونَ أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي يُنَجِّيهم، ثم يشركون معه الأصنامَ التي علموا أنها لا تضر ولا تنفع.
١ ينظر: الدر المصون ٣/٨٤، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢/٢٨٢، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥)، السبعة ص (٢٥٩)، النشر ٢/٢٥٩، التبيان ١/٥٠٤، الزجاج ٢/٢٨٣، الحجة لابن خالويه (١٤١)، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٥..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٨٤، الوسيط ٢/١٨٢، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥)، السبعة ص (٢٥٩)، النشر ٢/٢٥٩، التبيان ١/٥٠٤، الزجاج ٢/٢٨٣، الحجة لابن خالويه ص (١٤١)، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٥..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٨٤، البحر المحيط ٤/١٥٤، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥)..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/٨٤، البحر المحيط ٤/١٥٤، الوسيط ٢/٢٨٢، الفراء ١/٣٣٨، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥)، السبعة ص (٢٥٩)، النشر ٢/٢٥٩، التبيان ١/٥٠٤، الزجاج ٢/٢٨٤، الحجة لابن خالويه ص (١٤١)، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٦..
٥ ينظر: البحر المحيط ٤/١٥٤، الدر المصون ٣/٨٤، الوسيط ٢/٢٨٢، الفراء ١/٣٣٨، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥)، السبعة ص (٢٥٩)، النشر ٢/٢٥٩، التبيان ١/٥٠٤، الزجاج ٢/٢٨٤، الحجة لابن خالويه ص (١٤١)، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٦..
٦ سقط في أ..
٧ ينظر: الدر المصون ٣/٨٥، البحر المحيط ٤/١٥٤، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٦، الوسيط ٢/٢٨٣، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥)، السبعة ص (٢٥٩)، النشر ٢/٢٥٩، التبيان ١/٥٠٥، الحجة لابن خالويه ص (١٤١ ـ ١٤٢)، المصاحف لابن أبي داود ص (٣٩، ٤٨)..
٨ ينظر: الدر المصون ٣/٨٥، البحر المحيط ٤/١٥٤، إتحاف فضلاء البشر ٢/١٦، الوسيط ٢/٢٨٣، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥)، السبعة ص (٢٥٩)، النشر ٢/٢٥٩، التبيان ١/٥٠٥، الحجة لابن خالويه ص (١٤١ ـ ١٤٢)، روح المعاني ٧/١٧٩..

وهذا نوع آخر من دلائلِ التوحيد مَمْزُوجٌ بالتخويف فبين كونه - تعالى - قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطُّرُقِ المختلفة تارة من فوقهم، وتارةً من تحت أرجهلم، فقيل: هذا حقيقة.
فأما العذابُ من فوقهم كالمطرِ النازل عليهم في قِصَّةِ نوح، والصَّاعقةِ، والرِّيحِ، والصَّيْحةِ، ورَمْي أصحاب الفيل.
201
وأما الذي من تحت أرجلهم: كالرَّجْفَةِ والخَسْفِ، وقيل: حبس المطر والنبات. وقيل: هذا مجاز.
قال مجاهد وابن عباس في رواية عكرمة: «مِنْ فَوْقِكُمْ» أي: من الأمراء، أو من تحت أرجلكم من العبيد والسَّفلةِ.
قوله: «عَذَاباً مِنْ فَوقكُم» يجوز أن يكون الظَّرْفُ معلِّقاً ب «نبعث» وأن يكون متعلّقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل «عذاباً» أي: كائناً من هاتين الجِهَتين. قوله: «أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» عطف على «يبعث».
والجمهور على فتح الياء من «يَلْبِسَكُمْ» وفيه وجهان:
أحدهما: أنه بمعنى يخلطكم فِرقاً مختلفين على أهْوَاء شَتَّى كل فرقة مُشَايعة لإمام، ومعنى خَلْطِهِم: إنْشابُ القتالِ بيهم، فيختلطون في ملاحم القتال كقول الحماسي: [الكامل]
٢١٩٠ - وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتيبَةٍ حَتَّى إَذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يِدِي
فَتَرَكُتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُم ْ مَا بَيْنَ مُنْعَفِرِ وَآخَرَ مُسْنَدِ
وهذه عبارة الزمخشري: فجعله من اللَّبْسِ الذي هو الخَلْطُ، وبهذا التفسر الحسن ظهر تعدِّي «يلبس» إلى المفعول، و «شِيَعاً» نصب على الحال، وهي جمع غير الصدر كقعدت جلوساً.
قال أبو حيَّان: «ويحتاج في جعله مصدراً إلى نقل من اللغة».
ويجوز على هذا أيضاً أن يكون حالاً ك «أتَيْتُهُ رَكْضاً» أي: راكضاً، أو ذا ركض.
وقال أبو البقاء: والجمهور على فتح الياء، أي: يَلْبِسُ عليكم أموركم، فحذف حرف الجر والمفعول، والأجود أن يكون التقدير: أو يَلْبِسُ أموركم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.

فصل في معنى الآية


قال الُفَسِّرُونَ: معناه: أن يجعلكم فرقاً، ويثبت فيكم الأهواء المختلفة.
وروى عمرو بن دينار عن جابرٍ، قال: «لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ
202
عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قال رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أعُوذُ بِوَجْهِكَ «قال: ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ قال:» أعُوذُ بِوَجْهِكَ «. قال: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قال رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا أهْوَنُ أوْ هَذَا أيْسَرُ «وعن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ، عن أبيه قال:» أقبلنا مع روسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى مررنا على مسجد بني مُعاويةَ، فدخل وصلَّى ركعتين، وصلينا معه فناجى ربه طويلاً، ثم قال: «سَألْتُ ربِّي ثلاثاً: ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي فأعْطَانِيها، وسَالْتُهُ ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي بالسَّنَةِ فأعْطَانيها، وسَألْتُهُ ألاَّ يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمنَعَنِيهَا»
وعن ابن عُمَرَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا في المسجد، فسأله الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة، سأله ألاَّ يُسَلِّطَ على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم، فأعطاه ذلك، وسأله ألا يهلكهم بالسِّنين، فأعطماه ذلك، وسأله ألاَّ يجعل بَأسَ بضعهم على بَعْضٍ فمنعه ذلك.

فصل في مزيد بيان عن الآية


ظاهر قوله تعالى: ﴿أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا﴾ أنه يجعلهم على الأهْوَاءِ المختلفة، والمذاهب المُتنافيةِ، والحق منها ليس إلا لواحدٍ، وما سواه فهو باطل، وهذا يقتضي أنه - تعالى - قد يحلم المُكَلَّف على اعتقاد الباطِلِ.
وقوله: ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض﴾ لا شَكَّ أن أكثرها ظُلم ومعصية، وهذا يدل على كونه - تعالى - خالقاً للخير والشر.
وأجاب الخَصْمُ عنه بأنه الآية تَدُلُّ على أنه - تعالى - قادر عليه، وعندنا أن الله - تعالى - قَادِرُ على القُبْحِ، إنما النزاع في أنه - تعالى - هل يفعل ذلك أم لا؟
وأجيب بأن وَجْهَ التَّمَسُّكِ بالآية شيء آخر، فإنه قال: «هُوَ القادرُ» على ذلك، وهذا يفيد الحَصْرَ، فوجب أن يكون غَيْرُ الله غَيْرَ قادر على ذلك، وقد حصل الاختلافُ بين الناس، فثبت بِمُقْتَضَى الحَصْر المذكور ألاَّ يكون ذلك صَادِراً عن غير الله، فوجب أن يكون صادراً عن الله، وهو المطلوب.

فصل في إثبات النظر والاستدلال


قالت المعتزلة والحَشَويَّة: هذه الآية من أدَلِّ الدلائل على المَنْعِ من النظر
203
والاستدلال؛ لأن فَتْحَ تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف، والمُنازعة في الأديان، وتفريق الخلائقِ إلى هذه المذاهبِ والأديان، وذلك مَذْمُومٌ بهذه الآية، والمُفْضِي إلى المذموم مَذْمُومٌ، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال مَذْمُوماً.
وأجيبوا بالآيات الدالة على وجوب النَّظَرِ والاستدلال كما تقدَّم مِرَاراً.

فصل في قراءة «يلبسكم»


قرأ أبو عبد لاله المدني: «يُلْبِسَكُمْ» بضم الياء من «ألْبَسَ» رباعياً، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المفعول الثَّاني مَحْذُوفاً، تقديره أو يُلْبِسكم الفِتْنَةَ، و «شيعاً» على هذا حالٌ، أي: يلبسكم الفِتْنَةَ في حال تفرُّقِكُمْ وشَتَاتِكُمْ.
الثاني: أن يكون «شيعاً» هو المفعول الثاني، كأنه جعل النَّاس يلبسن بعضهم مجازاً كقوله: [المتقارب]
٢١٩١ - لَبِسْتُ أنَاساً فَأفْنَيْتُهُمْ وأفْنَيْتُ بَعْدَ أنَاسٍ أنَاسَا
والشِّيعَةُ: من يَتَقوَّى بهم الإنسان، والجمع: «شيع» كما تقدم، و «أشْيَاع»، كذا قال الراغب، والظاهر أن «أشْيَاعاً» جمع «شِيعَ» ك «عنب» و «أعْنَاب»، و «ضِلَع» و «أصْلاع» و «شيع» جمع «شِيْعَة» فهو جمع الجمع.
قوله: «ويُذيْقَ» نَسَقٌ على «يِبْعَث»، والإذاقَةُ اسْتِعَارةٌ، وهي فاشية: ﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَر﴾ [القمر: ٤٨]، ﴿ذُقْ إِنَّكَ﴾ [الدخان: ٤٩]، ﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾ [الأنعام: ٣٠].
وقال: [الوافر]
٢١٩٢ - أذَقْنَاهُمْ كُئُوسَ المَوْتِ صِرْفاً وَذَاقُوا مِنْ أسِنَّتِنَا كُئُوسَا
وقرأ الأعمش: «ونُذِيِقَ» بنون العظمة، وهو التْتِفَاتٌ، فائدته تعظيم الأمر، والتحذير من سطوَتِهِ.
قوله: ﴿انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون﴾
قال القاضي: هذا يَدُلُّ على أنه - تعالى أراد بتصريف الآيات، وتقرير هذه البيِّنات أن يفهم الكل تلك الدلائل، ويفقه الكل تلك البيِّنات.
وأجيب بأن ظاهِرَ الآية يَدُلُّ على أنه - تعالى - ما صرَّف هذه الآيات إلا لمن فقه
204
وفهم، فأما من أعْرَضَ وتمرَّدَ فهو تعالى ما صرَّف هذه الآيات لهم.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾
قوله: «وكذَّبَ بِهِ» «الهاء» في «ربه» تعود على العذاب المُتقدِّمِ في قوله: «عذاباً مِنْ فَوقِكُمْ» قال الزمخشري.
وقيل: تعود على القُرْآنِ.
وقيل: تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة.
وقيل: على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا بعيد؛ لأنه خُوطبَ بالكاف عقِيبَهُ، فلو كان كذلك لقال: وكذب به قومك، وادَّعاءُ الالتفات فيه أبْعَدُ.
وقيل: لا بد من حَذْفِ صِفَةٍ هنا، أي: وكذب به قومك المُعَانِدُونَ، أو الكافرون؛ لأن قومه كلهم لم يُكَذِّبُوهُ، كقوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] أي الناجين، وحذف الصفة وبقاء الموصوف قليل جداً، بخلاف العكس.
وقرأ ابن أبي عبلة: «وكذَّبت» بتاء التأنيث، كقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥]، ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾ [الشعراء: ١٦٠] باعتبار الجماعة.
قوله: «وهُوَ الحقُّ» في هذه الجملة وجهان:
الظاهر منهما: أنها استتئناف.
والثاني: أنها حالٌ من «الهاء» في «به»، أي: كذبوا به في حالِ كونه حقَّا، وهو أعظم في القبح.
والمعنى أن الضمير في «به» للعذاب، فمعنى كونه حقَّا لا بد أن ينزل بهم، وإن عاد إلى القرآن، فمعنى كونه حقّا، أي: كتاب منزل من عند الله، وإن عاد إلى تصريف الآيات أي: أنهم كذَّبوا كون هذه الأشياءِ دلالاتٍ، وهو حق.
قوله: «عَلَيْكُمْ» مُتعلِّقٌ بما بعده، وهو توكيد، وقدم لأجل الفواصِلِ، ويجوز أن يكون حالاً من قوله: «بِوَكِيلٍ» ؛ لأنه لو تَأخَّرَ لجاز أن يكون صفة له، وهذا عند من يُجِيزُ تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف، وهو اختيار جماعةٍ، وأنشدوا عليه: [الخفيف]
205
فقدم «غافلاً» على صاحبها، وهو «المرء»، وعلى عامها وهو «تَعْرُضُ» فهذا أوْلَى. ومنه [الطويل]
٢١٩٣ - غَافِلاً تَعْرضُ المَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ فَيُدْعَى وَلاتَ حينَ إبَاءُ
٢١٩٤ - لَئِنْ كَانَ بَرْدُ المَاءِ هَيْمَانَ صَادِياً إليَّ حَبِيباً إنَّهَا لَحَبِيب
أي: إليَّ هيمان صادِياً، ومثله: [الطويل]
٢١٩٥ - فَإن يَكُ أذْوَادٌ أصِبْنَ ونِسْوَةٌ فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ
«فَرْغاً» حال من «يقتل»، و «حبال» بالمهملة اسم رَجُلٍ مع أن حرف الجر هنا زائد، فجوازه أوْلَى مما ذكرناه.

فصل في المراد بالآية


معنى الآية: قل لهم يا محمد: وقيل: بمُسَلّط ألزمكم الإيمان شئتم أو أبيتم، وأجازيكُمْ على تَكْذِيبكُمْ، وإعراضكم عن قَبُولِ الدلائل، إنما أنا رسول ومُنْذِرٌ، والله المُجَازِي لكم بأعمالكم.
قال ابن عبَّاس والمفسرون: نسختها آية القتال، وهو بعيد.
قوله: ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧] يجوز رفع «نبأ» بالابتدائية، وخبره الجَارُّ قَبلهُ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله، ويجوز أن يكون «مسقر» اسم مصدر أي: استقرار [مكان، أو زمان؛] لأن ما زاد على الثُّلاثيَّ كان المصدر منه على زنةِ اسم المفعول؛ نحو: «المدخل» و «المخرج» بمعنى «الإدخال» و «الإخراج»، والمعنى أن لك وعْد ووعيد من الله استقرار، ولا بد وأن يعلموا [أن الأمر كما أخبر الله تعالى] ويجوز أن يكون مكان الاستقرار أو زمانه [وأن] لكل خبر يخبره الله وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير، وهذا الذي خَوَّفَ الكفار به يجوز أن يكون المُرَادُ به عذابَ الآخرة، ويجوز أن يكون المراد منه الاستيلاء عليهم بالحَرْبِ والقَتْلِ في الدُّنيا.
206
قوله تعالى :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾
قوله :" وكذَّبَ بِهِ " " الهاء " في " به " تعود على العذاب المُتقدِّمِ في قوله :﴿ عذاباً مِنْ فَوقِكُمْ ﴾ قاله الزمخشري١.
وقيل : تعود على القُرْآنِ.
وقيل : تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة.
وقيل : على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا بعيد ؛ لأنه خُوطبَ بالكاف عقِيبَهُ، فلو كان كذلك لقال : وكذب به قومك، وادِّعاءُ الالتفات فيه أبْعَدُ.
وقيل : لا بد من حَذْفِ صِفَةٍ هنا، أي : وكذب به قومك المُعَانِدُونَ، أو الكافرون ؛ لأن قومه كلهم لم يُكَذِّبُوهُ، كقوله :
﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ [ هود : ٤٦ ] أي الناجين، وحذف الصفة وبقاء الموصوف قليل جداً، بخلاف العكس.
وقرأ ابن أبي عبلة٢ :" وكذَّبت " بتاء التأنيث، كقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ [ الشعراء : ١٠٥ ] ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ﴾ [ الشعراء : ١٦٠ ] باعتبار الجماعة.
قوله :﴿ وهُوَ الحقُّ ﴾ في هذه الجملة وجهان :
الظاهر منهما : أنها استئناف.
والثاني : أنها حالٌ من " الهاء " في " به "، أي : كذبوا به في حالِ كونه حقَّا، وهو أعظم في القبح.
والمعنى أن الضمير في " به " للعذاب، فمعنى كونه حقَّا لا بد أن ينزل بهم، وإن عاد إلى القرآن، فمعنى كونه حقّاً، أي : كتاب منزل من عند الله، وإن عاد إلى تصريف الآيات أي : أنهم كذَّبوا كون هذه الأشياءِ دلالاتٍ، وهو حق٣.
قوله :" عَلَيْكُمْ " مُتعلِّقٌ بما بعده، وهو توكيد، وقدم لأجل الفواصِلِ، ويجوز أن يكون حالاً من قوله :" بِوَكِيلٍ " ؛ لأنه لو تَأخَّرَ لجاز أن يكون صفة له، وهذا عند من يُجِيزُ تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف، وهو اختيار جماعةٍ، وأنشدوا عليه :[ الخفيف ]
غَافِلاً تَعْرُضُ المَنِيَّةُ لِلْمَرْ ءِ فَيُدْعَى وَلاتَ حينَ إبَاءُ٤
فقدم " غافلاً " على صاحبها، وهو " المرء "، وعلى عاملها وهو " تَعْرُضُ " فهذا أوْلَى.
ومنه [ الطويل ]
لَئِنْ كَانَ بَرْدُ المَاءِ هَيْمَانَ صَادِياً إليَّ حَبِيباً إنَّهَا لَحَبِيبُ٥
أي : إليَّ هيمان صادِياً، ومثله :[ الطويل ]
فَإن يَكُ أذْوَادٌ أصِبْنَ ونِسْوَةٌ فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ٦
" فَرْغاً " حال من " يقتل "، و " حبال " بالمهملة اسم رَجُلٍ مع أن حرف الجر هنا زائد، فجوازه أوْلَى مما ذكرناه.

فصل في المراد بالآية


معنى الآية : قل لهم يا محمد : لست عليكم برَقيبٍ، وقيل : بمُسَلّط ألزمكم الإيمان شئتم أو أبيتم، وأجازيكُمْ على تَكْذِيبكُمْ، وإعراضكم عن قَبُولِ الدلائل، إنما أنا رسول ومُنْذِرٌ، والله المُجَازِي لكم بأعمالكم.
قال ابن عبَّاس والمفسرون : نسختها آية القتال، وهو بعيد٧.
١ ينظر: الكشاف ٢/٣٤..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٨٦، البحر المحيط ٤/١٥٦..
٣ ينظر: الرازي ١٣/٢١..
٤ البيت في الأشموني ٢/١٧٧، المقاصد النحوية ٣/١٦١، الدر المصون ٣/٨٦..
٥ البيت للمجنون ينظر: ديوانه ص (٤٩)، سمط اللآلئ ص (٢٤٠٠)، ولعروة بن حزام في خزانة الأدب ٣/٢١٢، ٢١٨، الشعر والشعراء ص (٦٢٧)، وهو لكثير عزة في ديوانه ص (٥٢٢)، السمط ص (٤٠٠)، المقاصد النحوية ٣/١٥٦، ولقيس بن ذريح في ديوانه ص (٦٢) في شرح الأشموني ١/٢٤٩، شرح ابن عقيل ص (٣٣)، شرح عمدة الحافظ ص (٤٢٨). الدر المصون ٣/٨٧..
٦ تقدم..
٧ ينظر: الرازي ١٣/٢١..
قوله :﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ﴾ [ الأنعام : ٦٧ ] يجوز رفع " نبأ " بالابتدائية، وخبره الجَارُّ قَبلهُ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله، ويجوز أن يكون " مستقر " اسم مصدر أي : استقرار [ مكان، أو زمان ؛ ]١ لأن ما زاد على الثُّلاثيِّ كان المصدر منه على زنةِ اسم المفعول ؛ نحو :" المدخل " و " المخرج " بمعنى " الإدخال " و " الإخراج "، والمعنى أن لك وعْد ووعيد من الله استقرار، ولا بد وأن يعلموا [ أن الأمر كما أخبر الله تعالى ]٢ ويجوز أن يكون مكان الاستقرار أو زمانه [ وأن ]٣ لكل خبر يخبره الله وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير، وهذا الذي خَوَّفَ الكفار به يجوز أن يكون المُرَادُ به عذابَ الآخرة، ويجوز أن يكون المراد منه الاستيلاء عليهم بالحَرْبِ والقَتْلِ في الدُّنيا.
١ سقط في أ..
٢ سقط في أ..
٣ سقط في أ..
قال تعالى في الآية الأولى ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: ٦٦] فتبيَّنَ به أنه لا يجب على الرّسُول ملازمة المكذَّبين بهذا الدَّين.
206
وبيَّن في هذه الآية أن أولئك المكذَّبين إن ضَمُّوا إلى كُفْرِهِمْ وتكذيبهم الاسْتِهْزَاءَ بالدَّين والطَّعْن في الرسول، فإن يجب الإعراض عنهم، وترك مُجَالَسَتِهِم.
قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ فقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد به غيره.
وقيل: الخطاب لغيره، أي: إذا رأيت أيها السَّامِعُ الذين يخوضون في آياتنا.
نقل الواحديُّ أنَّ المشركين كانوا إذا جالَسُوا المؤمنين وَقَعُوا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن فَشَتَمُوا واستعهزءوا فأمرهم ألاَّ يقعدوا معهم حتى يَخُوضُوا في حديث غيره.
والخَوْضُ في اللغة عبارة عن المُفاوضةِ على وجه اللَّعبِ والعبثِ.
قال تعالى حكاية عن الكفار: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين﴾ [المدثر: ٤٥] وإذا قال الرجل: تركت القوم يَخُوضُونَ أفاد أنهم شَرَعثوا في كَلِمَاتٍ لا ينبغي ذِكُرُهَا.
قوله: «إذَا» منصوب بجوابها، وهو «فأعْرَضْ» ؛ أي: فأعرض عنهم في هذا الوَقْتِ و «رأيت» هنا تحتمل أن تكون البصريَّة، وهو الظاهر، ولذلك تعدّت لواحد.
قال أبو حيَّان: «ولابُدَّ من تقدير حالٍ مَحْذُوفَةٍ، أي: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا، وهو خائضون فيها، أي: وإذا رأيتهم مُلْتَبِسينَ بالخَوْضِ فيها». انتهى.
قال شهاب الدِّين: ولا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأن قوله: «يَخُوضُونَ» مُضارع، والراجح حَاليَّتُهُ وأيضاً فإن «الذينَ يَخُوضُونَ» في قُوَّةِ الخائضين، واسم الفاعل حَقيقَةٌ في الحال بلا خلاف، فيحمل هذا على حقيقته، فيُسْتَغْنَى عن حذف هذه الحال التي قدَّرها وهي حال مؤكدة.
ويحتمل أن تكون علمية، وضعَّفَةُ أبو حيان بأنه يَلْزَمُ منه حذف المفعول الثاني، وحذفه إما اقْتَصَارٌ، وإما اختِصَارٌ، فإن كان الأوَّل: فممنوع اتفاقاً وإن كان الثاني: فالصحيح المَنْعُ حتى منع ذلك بعض النحويين.
قوله: «غَيْرِهِ» «الهاء» فيها وجهان:
أحدهما: أنها تعود على الآياتِ، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديثِ والقرآن.
وقيل: إنها تعود على الخَوْضِ، أي: المدلول عليه بالفِعْلِ كقوله: [الوافر]
٢١٩٦ - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ وخَالَفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إلى السَّفَهِ، دَلَّ عليه الصِّفَةُ كما دَلَّ الفعل على مصدره؛ أي: حتى يخوضوا في حديث غير الخَوْضِ.
207
وقوله: «وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ» قراءة العامّة «يُنْسِيَنَّكَ» بتخفيف السِّين من «أنْسَاهُ» كقوله: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان﴾ [الكهف: ٦٣] قال تعلى في الآية الأولى ﴿فَأَنْسَاهُ الشيطان﴾ [يوسف: ٤٢].
وقرأ ابن عامر: بتشديدها من «نسَّاهُ»، والتعدِّي جاء في هذا الفعل بالهمزة مرة، وبالتضعيف أخرى، كما تقدم في «أنْجَى» و «نَجَّى» و «أمْهَل» و «مَهَّلَ».
والمفعول الثاني محذوف في القراءتين؛ تقديره: وإما يُنْسِيَنَّك الشَّيْطانُ الذِّكرَ أو الحقَّ.
والأحسن أن يقدر ما يليق بالمعنى، أي: وإما نيسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مُجَالَسَةِ الخائضين بعد تذكيرك، فلا تقعدْ بعد ذلك معهم، وإنما أبرزهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظُّلْم، وجاء الشرط الأول ب «إذا» ؛ لأن خَوْضَهُمْ في الآيات مُحَقَّقٌ، وفي الشرط الثاني ب «إن» إنْسَاءَ الشيطان له لي أمراً مُحَقَّقاً، بل قد يقع وقد لا يقعن وهو مَعْصُومٌ منه.
ولم يجئ مصدر على «فِعْلَى» غير ذِكْرَى «.
وقال ابن عطيَّة:»
وإمَّا شرطن ويلزمها في الأغلب النون الثقيلة، وقد لا تلزم كقوله: [البسيط]
٢١٩٧ - إمَّا يُصِبْكَ عَدُوُّ في مُنَاوَأةِ.....................
وهذا الذي ذكره من لُزُوم التوكيد هو مذهب الزَّجَّاجِ، والنَّاسُ على خلافه، وأنشدوا ما أنشده ابن عيطة وأبياتاً أُخَرَ منها: [الرجز]
٢١٨٩ - إمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أمَّ حَمْزِ... وقد تقدَّم طرفٌ من هذه المسألة أوَّل البقرة، إلا أن أحداً لم يَقُلْ: يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة، وغن كان ظاهر كلام ابن عطية ذلك.
208
يجوز أن تقدر «ما» حجازية، فيكون «مِنْ شيءٍ» اسمها، و «من» مزيدة فيه لتأكيد
208
الاستغراقِ، و «على الذين يتَّقُون» خبرها عند من يُجيزُ إعمالها مقدمة الخبر مطلقاً، أو يرى ذلك في الظَّرْفِ وعديلِهِ.
و «مِنْ حِسَابِهِمْ» حالٌ من «شيء» لأنه لو تأخَّر لكان صِفَةً، ويجوز أن تكون مُهْمَلةً إما على لُغَةِ «تميم» وإما على لغة «الحجاز» لِفَواتِ شرطٍ، وهو تقديم خبرها وإن كان طرفاً، وتحقيق ذلك مما تقدَّم في قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٥٢]
قوله: «ولَكِنْ ذِكْرَى» فيه أربعة أوجه:
أحدهما: أنها مَنْصُوبَةٌ على المَصْدَرِ بفعلٍ مُضْمَرٍ، فَقَدَّرهُ بعضهم أمراً؛ أي: ولكن ذكِّروهم ذِكْرَى، وبعضهم قدَّرَةُ خبراً؛ أي: ولكن يذكرونهم ذكرى.
الثاني: أنه مبتدأ خَبَرُهُ محذوف؛ أي: ولكن عليهم ذكرى؛ أي: النهي عن مُجَالَسَتِهِمْ والامتناع منها ذكرى.
الرابع: أنه عطفٌ على موضع «شيء» المجرور ب «مِنْ» ؛ أي: ما على المُتَّقين من حسابهم شيء، ولكن عليهم ذكرى، فيكون من عَطْفِ المفردات، وأما على الأوجه السَّابقة فمن عطف الجُمَلِ.
وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوَجْهَ الرابع، ورَدَّهُ عليه أبو حيان.
فأما رَدّ الزمخشري فقال: «ولا يجوز أن يكون عَطْفاً على مَحَلِّ من شيء؛ كقولك:» ما في الدار من أحد ولكن زيد «؛ لأن قوله:» مِنْ حِسَابِهِمْ «يأبَى ذلك».
قال أبو حيَّان: كأنه تَخَيَّلَ أن في العَطْفِ يلزم القَيْدُ الذي في المعطوف عليه، وهو «مِنْ حِسَابِهِم» فهو قيد في «شيء» فلا يجوز عنده أن يكون من عَطْفِ المفردات عطفاً على «من شيء» على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى على هذا، وهذا الذي تَخَيَّلَهُ ليس بشيء، ولا يلزم في العطف ب «لكن» ما ذكر؛ تقول: ما عندنا رَجُلُ سُوءٍ ولكن رَجُلُ صِدْقٍ، وما عندما رَجُلٌ من تميم ولكن رَجُلٌ من قريش، وما قام من رَجُلٍ عالم ولكن رَجُل جاهل، فعلى هذا الذي قَرَّرْناهُ يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدم، وأن يكون من عَطْفِ المفرادات والعطف بالواو، ولكن جيء بها للاستدراك.
قال شهاب الدِّين: قوله: «تقول: ما عندنا رجل سوء وكن رجل صدق» إلى
209
آخر الأمثلة التي ذكرها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأن الزمخشري وغيره من أهْلِ اللِّسانِ والأصوليين يقولون: إنَّ العطف ظَاهِرٌ في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قَيْدٌ فالظَّاهِرُ تقييد المعطوف بذلك القَيْد؛ إلاَّ أن تجيء قرينَةٌ صارِفَةٌ، فيُحَالٌ الأمر عليها.
فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضَّربِ مقيداً بيوم الجمعة، فإن قلت: وعمراً يوم السبت لم يشاركه في قَيْدِهِ، والآية الكريمة من قَبِيلِ النوع الأول؛ أي: لم يؤت مع المعطوف بقرينه تُخْرِجُهُ، فالظاهر مُشَاركَتُهُ للأول في قيده، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزومخشري، وأما الأمثلة التي أوْرَدَهَا فالمعطوف مُقَيَّدٌ بيغر القيد الذي قيد به الأوَّل، وإنما كان نبغي أن يُمَثِّلَ بقوله: «ما عندنا رجل سوء ولكن امرأة وما عندنا رجل من تميم ولكن صبي»، فالظاهر من هذا أن المعنى: ولكن امرأة سوء، ولكن صبي من قريش.
وقول الزمخشري: «عَطْفاً على محل: من شيء» ولم يقل: عطفاً على لفظه لفائدة حَسَنَةٍ يَعْسُرُ مَعْرفَتُهَا، وهو أن «لكن» حرف إيجاب، فلو عطفت ما بعدها على المجرور ب «مِنْ» لَفْظاً لزم زيادة «من» في الواجب، وجمهور البصريين على عدم زيادتها فيه، ويَدُلُّ على اعتبار الإيجاب في «لكن» أنهم إذا عَطَفُوا بعد خبر «ما» الحجازية أبْطَلُوا النَّصْبَ؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي، و «بل» ك «لكن» فيما ذكرنا.

فصل في النزول


روى عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: لما نزلت هذه الآية ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: ٦٨] قال المسلمون: لئن كُنَّا كلما استهزأ المشركون بالقرآن، وخاصوا فيه قُمنا عَنْهُم لما قَدَرْنَا على أن نجلس في المسجد الحرامِ، وأن نطوف بالبيت، وهم يخوضون أبداً.
وفي رواية: قال المسلمون: فإنا نَخَافُ الإثم حين نتركهم، ولا ننهاهم، فأنزل الله ﴿وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم﴾ أي: ما آثَامِ الخائفين من شيء «ولَكِنْ ذِكُرَى» أي: ذكِّروهم وعِظُوهم بالقرآن، والذِّكْرُ والذِّكْرُ والذِّكْرَى واحد، يريد ذكروهم ذكرى لَعَلَّهم يتقون الخوض إلذا وعَظْتُمُوهُمْ، فرخص في مجالستهم على الوَعْظِ لعلَّهم يمنعهم ذلك من الخوض.
وقيل: لعلَّهم يسحيون.
210
«اتَّخّذُوا» فيها وجهان:
أحدهما: أنها مُتَعَدِّيَةٌ لواحد، على أنها بمعنى «اكتسبوا» و «عملوا»، و «لهواً ولعلباً» على هذا مفعول من أجله؛ أي: اكتسبوه لأجل اللهو واللعب.
قال أبو حيَّان: ويظهر من بعض كلام الزمخشري، وكلام ابن عطية أنَّ «لعباً ولهواً» هوا لمفعول الأوَّل، و «دينهم» هو المفعول الثاني.
قال الزمخشري: أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لَعِباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تَبْحِير البَحَائِرِ وتسييب والسَّوائبِ من باب اللَّهْوِ واللعبن واتِّباعِ هوى النفسن وما هو من جِنْسِ الهَزْلِ لا الحِدِّ، أو اتخذوا ما هولَعِبٌ ولهو من بعادة الأصنام دِيناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفُوُ، وهو دين الإسلام لعباً ولهواً، فتفسيره الأوَّلُ هو ما ذكرناه عنه «. انتهى قال شهاب الدين: وهذا الذي ذَكَرَاهُ إنما ذَكَرَاهُ تفسير معنى لا تفسير إعراب، وكيف يجعلان النكرة مَفْعُولاً أوَّل، والمعرفة مفعولاً ثانياً نم غير داعية إلى ذلك، مع أنهما من أكابر أهْلِ هذا اللسان، وانظر كيف أبرزا ما جَعَلاَهُ مفعولاً أول معرفة، وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامها [يخرج] على كلام العرب، فكيف يظن بهما أن يجعلا النكرة محدثاً عنها، والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟ قوله تعالى: و ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ تحتمل وجهين: أحدهما: أنها مستأنفة. والثاني: أنها عطف على صلة» الَّذين «، أي: الذين اتَّخّذُوا وغرَّتْهُم، وقد تقدم معنى» الغُرُور «في آخر آل عمران.
211
وقيل: هنا: غَرَّتْهُمْ من» الغَرّ «بفتح الغين، أي: ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر: [الطويل]
٢١٩٩ - وَلَمَّا الْتَقَيْنَا بِالحُلَيْبَةِ غَرَّنِي بِمَعْرُوفِهِ حَتَّى خَرَجْتُ أفُوقُ

فصل في معنى الآية


المُرَادُ من هولاء الذي اتخذوا دينهُمْ لعباً ولهواً، يعني الكفار الذين إذا سَمِعُوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا.
وقيل: إن الله - تعالى - جعل لك قوم عِيداً واتَّخَذَ كل قوم دينهم؛ أي عيدهم لعباً ولهواً، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير، وفعل الخير مثل الجُمُعَةِ والفِطْرِ والنَّحْر.
وقيل: إن الكُفَّارَ كانوا يحكمون في دين الله بمجرَّدِ [التشهِّي والتمني مثل تحريم] السَّوائبِ والبَحَائِرِ.
وقيل: اتخاذهم الأصنام وغيرها ديناً لهم.
وقيل: هم الذين ينصرون الدين ليتوسَّلُوا به إلى أخْذِ المناصِبِ والرِّيَاسَةِ، وغلبة الخَصْمِ، وجمع الأموال، فهولاء الذين [نصروا الدِّين] لأجل الدنيا، وقد حكما لله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لَعِبٌ ولَهْوٌ.
ويْكِّدُ هذا الوَجْهَ قوله تعالى: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾.
قوله:»
وذكِّر بِهِ «أي: بالقرآن، يَدُلُّ له قوله: ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] وقيل: يعود على» حِسَابِهِمْ «.
وقيل: على «الدّين»
أي: الذي يجب عليهم أن يَتَداينُوا، ويعتقدوا بصحته.
وقيل: هذا ضمير يفسره ما بعده، وسيأتي إيضاحه.
قوله: «أنْ تُبْسَلَ» في هذا وجهان:
المشهور - بل الإجماع - على أنه مفعول من أجْلِهِ، وتقديره: مَخَافَة أن تُبْسَلَ، أو كاراهة أن تُبْسَلَ أو ألاَّ تبسل.
والثاني: قال أبو حيَّان بعد أن نقل الاتِّفاقَ على المفعول من أجله: «ويجوز عندي أن يكون في موضع جرِّ على البدلِ من الضمير، والضمير مفسّر بالبَدَلِ، ويضمر الإبْسَالُ لما في الإضمار من التَّفْخيمِ، كما أضمروا ضمير الأمْرِ والشَّأنِ، والتقدير: وذكِّرْ
212
بارتهان النفوس، وحبسها بما كسبت، كما قالوا:» اللهم صَلِّ عليه الرءوف الرحيم «، وقد أجاز ذلك سيبويه؛ قال: فإن قلت: وضربوني قومك، نَصَبْتَ إلا في قول من قال:» أكلوني البراغيث «أو تحمله على البَدَل من المضمر.
وقال أيضاً: فإن قلت:»
ضربين وضربتهم قومك، رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدلن كما جعلته في الرفع «. انتهى.
وقد روي قوله: [الطويل]
٢٢٠٠ -....................... فاسْتَاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِل
بجر»
عُود «على البدل من الضمير.
قال شهاب الدين: أما تفسير الضمير غير المرفوع بالبدل، فهو قول الأخفش، وأنشد عليه هذا العَجُزَ وأوله: [الطويل]
٢٢٠١ - إذَا هِيَ لَمْ تَسْتَك بِعُودِ أرَاكَةٍ تُنُخِّلَ فَاسْتاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِلِ
والبيت لطُفَيْلٍ الغَنَوِيّ، يروى برفع»
عُود «، وهذا هو المشهور عند النُّحَاةِ، ورفعه على إعمال الأول، وهو» تُنُخِّلَ «، وإهمال الثاني وهو» فَاسْتَاكَتْ «، فأعطاه ضميره، ولو أعمله لقال:» فاستاكت بعود إسحل «، ولا يكن لانكسار البيت، والرواية الأخرى التي استشهد بها ضعيفة جداً لا يعرفها أكثر المُعْرِبينَ، ولو استشهد بما لا خلاف عليه فيه كقوله: [الطويل]
٢٢٠٢ - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي القَوْمِ حَاتِماً عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بالمَاءِ حَاتِمِ
بجر»
حاتم «بدلاً من الهاء في» جوده «، والقوافي مجرور لكان أوْلَى.
والإبْسَالُ: الارتهان، ويقال: أبْسَلْتُ ولدي وأهلي، أي أرْتَهَنْتُهُمْ؛ قال: [الوافر]
213
بَعَوْنَا: جَنَيْنَا والبَعْوُ: الجِنَاية.
وقيل: الإبْسَالُ أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهَلَكَةِ وقال الراغب:» البَسْلُ: ضَمُّ الشيء ومنعه، ولتَضَمُّنِهِ معنى الضَّمِّ استعير لتَقَطُّبِ الوَجْهِ، فقيل: هو باسل ومُبْتسلٌ الوجه، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتهن: بَسْلٌ «، ثم قال: والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرام عام فيما كان ممنوعاً منه بالقَهْرِ والحكم، والبَسْلُ هو الممنوع بالقَهْرِ، وقيل للشجاعة: بَسَالَة؛ إما لما يوصف به الشجاع من عنُبُوس وَجْهِهِ، ولأنه شديد البُسُورَةِ يقال بسر الرجل إذا استد عبوسه، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ [المدثر: ٢٢] فإذا زاد قالوا بَسَلَ، أو لكونه محرماً على أقرانه، أو لأنه يَمْنع ما حَوْزتِهِ، وما تحت يده من أعدائه والبُسْلَةُ، أجْرَةُ الرَّاقِي مأخوذة من قول الرَّاقي: أبْسَلْتُ زيداً؛ أي: جَعَلْتُهُ مُحَرَّماً على الشيطان، أو جعلته شجاعاً قويَّا على مُدافعتِهِ، و» بَسَل «في معنى» أجَلْ «و» بَسْ «.
أي: فيكون حَرْفَ جواب ك «أجل»
، واسم فعل بمعنى اكتف ك «بس».
وقوله «بما» متعلّق ب «تُبْسَلَ»، أي بسبب، و «ما» مصدرية، أو بمعنى «الذي»، أو نكرة وأمرها واضح.

فصل في معنى التبسل


قال مجاهد وعكرمة والسدي: قال ابن عبَّاس: «تُبْسَل» : تَهْلِكُ، وروي عن ابن عباس تُرتهنُ في جَهنَّم بما كسبت في الدنيا، وهو قول الفراء.
وقال قتادة: تُحْبَسُ في جهنم.
وقال الضحاك: تُحْرَقُ.
وقال الأخفش: تُجَازَى.
وروي عن ابن عباس: تُفضحُ وقال ابن زيد: تُؤخَذُ.
قوله: «لَيْسَ لَهَا» هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ للإخبار بذلك.
والثاني: أنها في مَحَلِّ رفع صفة ل «نفس».
214
والثالث: أنها في مَحَلِّ نَصْبِ حالاً من الضمير في «كسبت».
قوله: «مِنْ دُون» في «مِنْ» وجهان:
أظهرهما: أنها لابْتِدَاءِ الغاية.
والثاني: أنها زَائِدَةٌ نقله ابن عطية، وليس بشيءن وإذا كانت لابتداء الغايةِ، ففيما يتعلَّق به وجهان:
أحدهما: أنها حالٌ من «وليّ» ؛ لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صِفَةً له فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال.
الثاني: أنها خبر «ليس» فتتعلَّق بمحذوف أيضاً وهو خبر ل «ليس»، وعلى هذا فيكون «لها» متعلقاً بمحذوف على البيان، كما تقتدم نظيره، و «من دون الله» فيه حذف مُضَاف أي: من دون عذابه وجزائه وَليّ ولا شفيع يشفع لها في الآخرة.
قوله: «وإن تَعْدِلط أي: تَفْتَدِي» كُلَّ عَدْلٍ «: كُلّ فداء، و» كل «منصوب على المصدرية؛ لأن» كل «بحسب ما تضاف إليه هذا هو المشهور، ويجوز نَصْبُهُ على المفعول به؛ أي: وإن تلإسِ يَداهَا كُلَّ ما تَفْدِي به لايُؤخَذُ، فالضمير في» لا يؤخَذُ «على الأوَّل، قال أبو حيَّان:» عائد على المَعْدُولِ به المفهوم من سياق الكلام، ولا يعود إلى المصدر؛ لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخْذُ، وأما في ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨] فبمعنى المَفْدِيَّ به فيصح «انتهى. أي: إنه إنما أسند الأخْذَ إلى العَدْلِ صريحاً في» البقرة «؛ لأنه ليس المراد المصدر، بل الشيء المَفْدِيَّ به، وعلى الثَّاني يعود على» كل عدل «؛ لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة.
وقال ابن الخطيب: ويكن حَمْلُ الأخذ هنا بمعنى القَبُولِ؛ قال تعالى ﴿وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ [التوبة: ١٠٤] أي: يقبلها وإذا [ثبت هذا فيُحْمَلُ] الأخذ هاهنا على القبول ويزول المحذور، وفي إسناد الأخْذِ إلى المصدر عبارة عن الفعل يعني يؤخذ مسنداً «إلى»
منها لا إلى ضميره أي: لأن العدل بالمعنى المصدري لا يؤخذ، بخلاف قوله: ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْل﴾ فإنه المَفْدِيُّ به.
قوله: ﴿أولئك الذين أُبْسِلُواْ﴾ يجوز أن يكون «الَّذينَ» خبراً، و «لهم شراب» خبراً ثانياً، وأن يكون «لهم شراب» حالاً؛ إما من الضمير في «أبْسِلواط وإمَّا من الموصول نفسه، و» شراب «فاعلٌ لاعتماد الجار قبله على ذِي الحالِ، ويجوز أن يكون» لهم شراب «مُسْتَأنفاً، فهذه ثلاثة أوجه، ويجوز أن يكون» الذين «بدلاً من» أولئك «أو نعتاً فيتعين أن يكون الجملة من» لهم شراب «خبراً للمبتدأ، فيحصل في الموصُولِ أيضاً ثلاثة
215
أوجه؛ كونه خبراً، وأو بدلاً، أو نعتاً فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه ستة أوجه في هذه الآية، و» شراب «يجوز رَفْعُهُ من وجهين؛ الابتدائية والفاعلية عند الأخفش، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون» لهم «هو خبر المبتدأ أو حالاً، حيث جعلناه حالاً، و» شراب «مُرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم، و» ن حميم «صفة ل» شراب «فهو في مَحَلِّ رفع، ويتعلق بمحذوف.
و»
شراب «فعال بمعنى مفعول ك» طعام «بمعنى» مطعوم «، و» شراب «بمعنى» مشروب «لا يَنْقَاسُ ولا يقال:» أكال «بمعنى» مأكول «ولا» ضراب «بمعنى» مضروب «.
والإشارة بذلك إلى الَّذين اتخذوا في قول الزمخشري والحوفي، فلذلك أتى بصيغة الجمع، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الجنْسِ المفهوم من قوله»
أن تُبْسَلَ نَفْسٌ «إذ المرادُ به عُمومُ الانْفُسِ، فلذلك أشير إليه بالجمع، ومعنى الآية: أولئك الذين أبسلوا أسلمُوا للهلاكِ بما كسبوا» لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون «.
216
المقصود: من هذه الآية الرَّدُّ على عبدةِ الأصنام، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [الأنعام: ٥٦].
فقوله: «أنَدْعُوا من دون الله» أي: أنعبد من دون الله النَّافِعِ الضَّارِّ ما لا يَقْدرُ لعى نَفْعِنَا إن عبدناهُ، ولا على ضرنا إن تركناه.
قوله: «أنّدْعُوا» استفهام توبيخ وإنكارن والجملة في مَحَلِّ نصب بالقول، و «ما» مفعولة ب «ندعوا»، وهي موصولة أو نكرة موصوفة، و «مِنْ دون الله» متعلِّقٌ ب «ندعوا».
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في» يَنْفَعُنَا «ولا معمولاً ل» يَنْفَعُنَا «لتقدُّمهِ على» ما «، والصلة والصفة لا تَعْملُ فيما قبل الموصول والموصوف.
قوله:»
من الضمير في يَنْفعنَا «يعني به المرفوع العائد على» ما «وقوله:» لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف «يعني: أن» ما «لا تخرج عن هذين القسمين ولكن يجوز أن يكون» من دون «حالاً من» ما «نفسها على قوله؛ إذ لم يجعل المانع من جعله حالاً من ضميره الذي في» يَنْفَعُنَا «إلاَّ صِناعِياً لا معنوياً، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى
216
أنه إذا جازَ أن يكون حالاً من ظاهره، جاز أن يكون حالاً من ضميره، إلا أن يمنع مَانِعٌ.
قوله:» ونُرَدُّ «فيه وجهان:
أظهرهما: أنه نَسَقٌ على»
نَدْعُوا «فهو داخل في حيِّز الاستفهام المُتَسَلِّطِ عليه القَوْلُ.
الثاني: أنه حالٌ على إضمار مبتدأ؛ أي: ونحن نُرَدُّ.
قال أبو حيَّان بعد نقله هنا عن أبي البقاء:»
وهوضعيف لأضمار المبتدأ، ولأنها تكون حالاً مؤكّدة «، وفي كونها مؤكدة نظرٌ؛ لأن المؤكدة ما فهم معناها من الأوَّلِ، وكأنه يقول: من لازم الدعاء» من دون الله «الارتداد على العقب.
قوله:»
عَلى أعْقَابِنَا «فيه وجهان:
أحدهما: أنه معلّق ب»
نُرَدُّ «.
والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال من مرفوع»
نرد «أي: نرد راجعين على أعْقابنا، أو منقلبين، أو متأخرين كذا قدَّرُوهُ، وهو تفسير معنى؛ إذا المُقَدَّرُ في مثله كونٌ مُطلقٌ، وهذا يحتمل أن يقال فيه: إنه حال مؤكدة، و» بعد إذ «مُتعلِّقٌ ب» نُرَدُّ «.
[ومعنى الآية: ونرد على أعقابنا إلى الشِّرْكِ مرتدين بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام.
يقال لكل من أعْرَضَ عن الحق إلى الباطل: إنه رجع إلى خَلْفٍ، ورجع على عَقِبَيْهِ، ورجع القَهْقَرى؛ لأن الأصل في الإنسان الجَهْلُ ثم يترقى ويتعلم حتى يتكاملن ويحصل له العلم.
قال تعالى: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ [النحل: ٧٨] فإذا رجع من العِلْمِ إلى الجَهْلِ مرة أخرى، فكأنه رجع إلى أوَّل أمره، فلهذا السبب يقال: فلان رُدَّ على عقبيه].
قوله «كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ»
في هذه الكاف وجهان:
أحدهما: أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوف؛ أي: نُرَدُّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين.
الثاني: في مَحَلّ نصب على الحال من مرفوع «نرد»، أي: نرد مُشْبهينَ الذي استهوته الشياطين، فمن جوَّز تعدُّدّ الحالِ جعلها حالاً ثانية، إن جعل «على أعقابنا» حالاً، ومن لم يُجَوِّزْ ذلك جعل هذه الحال بدلاً من الحال الأولى، أو لم يجعل على أعقابنا حالاً، بل معلّقاً ب «نرد». الجمهور على «اسْتهْوتْهُ» بتاء التأنيث، وحمزة «اسْتَهْوَاهُ» وهو على قاعدته من الإمالة، والوجهان معروفان مما تقدم في ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام: ٦١] وقرأ أبو عبد الرحمن والأعمش: «اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطانُ» بتأنيث الفعل، والشيطان مفرداً.
217
قال الكسائي: «وهي كذلك في مصحف ابن مسعود»، وتوجيه هذه القراءة أنَّا نُؤوِّل المذكربمؤنث كقولهم: «أتته كتابي فاحتقرها» ؛ أي: صحيفتي، وتقدَّم له نظائر.
وقرأ الحسن البصري: «الشَّيَاطُون» وجعلوها لَحْناً، ولا تَصِلُ إلى الَّحْنِ، إلا أنها لُغَيّةٌ رديئة، سُمِع: حول بسان فلان بساتون وله سلاطون، ويُحْكَى أنه لما حيكت قراءة الحسن لَحَّنَهُ بعضهم، فقال الفراء: «أي والله يُلحِّنُون الشيخ، ويستشهدون بقول رؤبة». ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك.
والمراد ب «الَّذي» الجِنْسُ، ويحتمل أن يراج به الواحد الفَذُّ.
قوله: «في الأرْضِ» فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مُتعلِّق بقوله: «اسْتَهْوتْهُ».
الثاني: أنه حالٌ من مفعول «اسْتَهْوَتْهُ».
الثالث: أنه حالٌ من «حيران».
الرابع: أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في «حيران»، و «حيران» حال إما من «هاء» «استهوته» على أنها بدلٌ من الأولى، وعند من يجيز تعدُّدَهَا، وإما من «الَّذِي»، وإما من الضمير المستكن في الظرف، و «حيران» مؤنثة «حيرى»، فلذلك لم يَنْصَرِفُ، والفعل حَارَ يَحَارُ حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورةً، و «الحيران» المُتَرَدِّدُ في الأمر لا يهتدي إلى مَخْرَجٍ.
وفي اشتقاق «اسْتَهْوَتْهُ» قولان:
الأول: أنه مشتق من الهُوِيِّ في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [السافلة] العميقة [في قعر الأرض] فشبه الله تعالى حال هذا الضَّالِّ به، كقوله: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء﴾
[الحج: ٣١] ولا شكل أن الإنسان حال هُويِّةِ من المكان المعالي إلى الوهْدةِ العميقة يكون في غايةِ الاضْطرابِ والدهشة والحيرةِ.
والثاني: أنه مُشْتَقٌ من اتِّباعِ الهَوَى والميل، فإنه من كان كذلك، فإنه ربما بلغ النهاية في الحَيْرَةِ.
واعلم أن هذا المثل في غاية الحُسْنِ؛ لأن الذي يَهْوِي من المكان العالي إلى الوَهْدَةِ العميقة، يحصل له كمال التَّرَدُّدِ والدهشة والحيرة؛ لأنه لا يعرف أي موضع يزداد بلاَؤهُ بسبب سقوطه عليه أو يَقِلُّ.
218
قوله «لَهُ أصْحَابٌ» جملة في مَحَلّ نصب صفة ل «حيران»، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «حيران»، وأن تكون مستأنفة، و «إلى الهدى» متعلقة ب «يدعونه»، وفي مصحف ابن مسعود وقراءته: «أتينا» بصيغة الماضين و «إلى الهدى» على هذه القراءة معلّق به، وعلى قراءة الجمهور، فالجملة الأمرية في محل نصب بقول مضمر أي يقوللون: أئتنا والقول المضمر في محل صفة لأسحاب وكذلك «يدعونه». قالوا: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فإنه كان يدعو أبَاهُ إلى الكُفْرِ، وأبوه يدعوه إلى الإيمان.
وقيل: المراد أن لذلك الكافر الضَّالِّ أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضَّلالِ، ويسمونه بأنه هو الهدى، والصحيح الأوَّل.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى﴾ يَزْجُرُ بذلك عن عبادة الأصنام، كأنه يقول: لا تفعل ذلكن فإن الهُدَى هُدَى الله لا هادي غيره. قوله: «وأمِرْنَا لِنُسْلِمَ» في هذه «اللام» أقوال:
أحدها: وهو مذهب سيبويه أن هذه اللام بعد الإرادة للقيام، والأمر للذَّهاب، كذا نقل أبو حيَّان ذلك عن سيبويه وأصحابه، وفيه ضَعْفٌ تقدَّم في سورة النساء عند قوله: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦].
الثاني: أن مفعول الأمر والإرادة محذوف، وتقديره: وأمرنا بالإخلاص لنسلم.
الثالث: قال الزمخشري: هي تَعْلِيلٌ للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم.
الرابع: أن «اللام» زائدة؛ أي: أمرنا أن نسلم.
الخامس: أنها بمعنى «الباء» أي بأن نسلم.
السادس: أن «اللام» وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع «أن» أي: أنهما مُتعاقِبَانِ، فتقول: أمرتك لتقوم، وأن تقوم، وهذا مذهب الكوفيين.
وقال ابن عطية: ومذهب سبيويه أن «لِنُسْلِمَ» في موضع المفعول، وأن قولك: أمرت لأقوم وأن أقوم بيجريان سواءً وقال الشاعر: [الطويل]
219
٢٢٠٣ - وإبْسِالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ بَعَوْنَاهُ ولا بِدّمٍ مُرَاقِ
٢٠٤٤ - أُرِيدُ لأنْسَى حُبَّهَا فَكَأنَّمَا تَمثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ
وهذا ليس مذهب سبيويه، إنما مذهبه ما تقدَّم تحقيقه في «سورة النساء».
قوله «وأنْ أقِيمُوا» فيه أقوال:
أحدها: أنها في مَحَلِّ نصب بالقول نَسَقاً على قوله: «إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى» أي: قل هذين الشيئين.
والثاني: أنه نَسَقٌ على «لنسلم» أي: وأمرنا بكذا للإسلام، ولنقيم الصلاة، و «أن» تُوصل بالأمر كقولهم: كتب إليه بأن قم، حكاه سبيويه وهذا رَأيُ الزَّجَّاج.
والثالث: أنه نَسَقٌ على «ائْتِنَا» قال مكي: لأن معناه: «أن ائتنا»، وهو غير ظاهر.
والرابع: أنه مَعْطُوفٌ على مفعول الأمر المقدر، والتقدير: وأمرنا بالإيمان، وبإقامة الصلاة قاله ابن عطية.
قال أبو حيَّان: وهذا لا بأس به، إذ لا بُدَّ من تقدير المفعول الثاني ل «أمرنا» ويجوز حذف المعطوف عليه لِفَهْمِ المعنى؛ تقول: أضَرَبْتَ زيداً؟ فيجب نعم وعمراً؛ والتقدير: ضربته وعمراً.
وقد أجاز الفراء: «جاءني الذي وزيد قائمان»، التقدير: الذي هو وزيد قائمان، فحذف «هو» لدلالة المعنى عليه، وهذا الذي قاله أنه لا بأس به ليس من أصول البصريين.
و «أما نعم وعمراً» فلا دلالة فيه؛ لأن «نعم» قامت مقام الجملة المحذوفة.
وقال مكي قريباً من هذا القول، إلاَّ أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه، فإنه قال: و «أن» في موضع نَصْب بحذف الجارِّ، تقديره: وبأنْ أقيموا، فقوله: وبأن أقيموا هو معنى قول ابن عطية، إلاَّ أن ذلك [أوضحه] بحذف المعطوف عليه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: «وأن أقيموا» ؟ قلت: على موضع «لنسلم» كأنه قيل: وأمرنا أن نسملم، وأن أقيموا.
قال أبو حيَّان: وظاهر هذا التقدير أن «لنسلم» في موضع المفعُولِ الثاني ل «أمرنا» وعطف عليه: «وأن أقيموا» فكتون اللام على هذا زَائِدَةً، وكان قد تقدَّم قبل هذا أن «اللام» تعليل للأمر، فتناقض كلامه؛ لأن ما يكون عِلَّةً يستحيل أن يكون معفولاً،
220
ويدلُّ على أنه أراد بقوله: «أن نسلم» في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك: ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا، أي للإسلام ولإقامة الصلاة، وهذا قول الزَّجَّاجِ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأوَّل لاتَّحَدَ قَوْلاَهُ، وذلك خُلْفٌ.
قال الزَّجَّاج: «أن أقيموا» عطف على قوله «» لنسلم «، تقديره: وأمرنا لأن نسلم، وأن أقيموا.
قال ابن عطية: واللَّفْظُ يُمانِعُهُ، لأن»
نسلم «معرب، و» أقيموا «مبني، وعطف المبني على المعرب لا يجوز، لأن العطف يقتضي التَّشْرِيكَ في العامل.
قال أبو حيان: وما ذكر من أنه لا يعطف المبني على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو:»
قام زيد وهذا «، وقال تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ [هود: ٩٨] غَايَةُ ما في الباب أن العامل يُؤثِّرُ في المعرب، ولا يُؤثِّرُ في المبني، وتقول:» إن قام زيد ويقصدني أكرمه «، ف» إن «لم تُؤثِّرْ في» قام «؛ لأنه مبني، وأثرت في» يقصدني «؛ لأنه معرب ثم قال ابن عطية:» اللهم إلا أن تجعل العطف في «إن» وحدها، وذلك قلق، وإنما يَتَخَرَّجُ على أن يقدر قوله: «وأن أقيموا» بمعنى «ولنقم»، ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالةِ اللفظ، فجاز العطفُ على أن يلغي حكم اللفظ، ويعول على المعنى، ويشبه هذا من وجهة ما حكاهُ يونس عن العرب: ادخلوا الأوَّل فالأوَّل، وإلا فلا يجوز إلاَّ الأول فالأوَّل بالنصب «.
قال أبو حيَّان: وهذا الذي استدركه بقوله: «اللهم إلا»
إلى آخره هو الذي أراده الزَّجَّاج بعينه، وهو «أن أقيموا» معطوف على «أن نسلم»، وأن كليهما عِلَّةٌ للمأمور به المحذوف، وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء «أن أقيموا» على معناها من موضوع الأمر، وليس كذلك؛ لأن «أنْ» إذا دخلت على فعل الأمر، وكانت المصْدَرِيَّةَ انْسَبَكَ منها ومن الأمر مصدر، وإذا انْسَبَكَ منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن تُوصَلَ «أن» المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي والأمر.
قال سيبويه: وتقول: كتبت إليه بأن قم، أي بالقيام، فإذا كان الحكم كذا كان قوله: «لنسلم» و «أن أقيموا» في تقدير الإسلام ولإقامة الصلاة، وأما تشبيه ابن عطيَّة له بقوله: ادخلوا الأوَّل فالأول: بالرفع، فليس بتشبيهح لأن ادخلوا لايمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلَّطَ على ما بعده، بخلاف «أنْ» فإنها تُوصَلُ بالأمرِ، فإذن لا شبه بينهما انتهى.
221
أما قول أبي حيَّان: «وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء» أنْ أقيموا «على معناها من موضوع الأمر»، فليس القلقُ عنده لذلك ققط كما حصره الشيخ، بل لأمر آخر من جهة اللفظ، وهو أن السِّيَاقَ التَّرْكِيبِيَّ يقتضي لعى ما قاله الزجاج أن يكون «لنسلم وأن نقيم»، فتأتي في الفعل الثاني بضمير المتكلم، فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدلُّ على [ما ذكرته] قول ابن عطية: «بمعنى: ولنقم ثم خرجت بلفظ الأمر» إلى آخره.
والخامس: أنه مَحْمُولٌ على المعنى؛ إذا المعنى قيل لنا: أسْلِمُوا وأن أقيموا.
وقال الزجاج: فإن قيل: كيف حَسُنَ عطف قوله: «وأن أقيموا الصلاة واتقوه» على قوله «وأمِرْنَا لِنُسلمَ لِرَبِّ العالمينَ» ؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن يكون التقدير: وأمرنا لنسلم لرب العالمين، ولأن نقيم الصلاة.
الثاني: أن يكون التقدير: وأمرنا فقيل لنا أسلموا لربِّ العالمين، وأقيموا الصَّلاة.
فإن قيل: هَبْ أن المُرَادَ ما ذكرتم، لكن ما الحِكْمَةُ في العُدُولِ عن هذا اللَّفْظِ الظَّاهِرِ، والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه، إلاَّ بالتأويل؟!.
فالجواب: لأن الكافر ما دام [يبقى] على كُفْرِهِ كان كالغَائبِ الأجنبي، فلا جرم خُوطِبَ بخطاب الغائبين، فيقال له: «وأمِرْنَا لِنُسلِمَ لِرَبِّ العَالمينَ» فإذا أسلم [وآمن] ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضرن فلا جرمَ خُوطِبَ بخطاب الحاضرين، ويقال له «وأنْ أقيمُوا الصَّلاة وأتَّقُوُ» فالمقصود من ذِكْرِ هذهين النوعين من الخطاب للتنبيه على الفَرْقِ بين حالتي الكُفْرِ والإيمان، وتقريره أن الكافر بعيد غائب، والمؤمن قريب حاضر.

فصل في أنه لا هدى إلا هدى الله


اعلم أن الله - تعالى - لما بيَّن أوَّلاً أن الهُدَى النافع هو هدى اللهن أرْدَفَ ذلك الكلام الكُلِّيَّ بِذكْرِ أشرف أقْسَامِهِ على الترتيبن وهو الإسلام، وهو رئيس الطاعات الروحانية، والصلاة التي هي رَئِيسَةُ الطاعات الجِسْمَانِيَّةِ، والتقوى التي هي رئيسة باب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي، ثم بيَّن منافع هذه الأعمالن فقال: «وهُو الَّذي إليْهِ تُحْشرونَ» يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر.
222
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:المقصود من هذه الآية الرَّدُّ على عبدةِ الأصنام، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ٥٦ ].
فقوله :﴿ أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ أي : أنعبد من دون الله النَّافِعِ الضَّارِّ ما لا يَقْدرُ على نَفْعِنَا إن عبدناهُ، ولا على ضرنا إن تركناه.
قوله :" أنّدْعُوا " استفهام توبيخ وإنكار، والجملة في مَحَلِّ نصب بالقول، و " ما " مفعولة ب " ندعوا "، وهي موصولة أو نكرة موصوفة، و﴿ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ متعلِّقٌ ب " ندعوا ".
قال أبو البقاء١ :" ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في " يَنْفَعُنَا " ولا معمولاً ل " يَنْفَعُنَا " لتقدُّمهِ على " ما "، والصلة والصفة لا تَعْملُ فيما قبل الموصول والموصوف.
قوله :" من الضمير في يَنْفعنَا " يعني به المرفوع العائد على " ما " وقوله :" لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف " يعني : أن " ما " لا تخرج عن هذين القسمين ولكن يجوز أن يكون " من دون " حالاً من " ما " نفسها على قوله ؛ إذ لم يجعل المانع من جعله حالاً من ضميره الذي في " يَنْفَعُنَا " إلاَّ صِناعِياً لا معنوياً، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جازَ أن يكون حالاً من ظاهره، جاز أن يكون حالاً من ضميره، إلا أن يمنع مَانِعٌ.

قوله :" ونُرَدُّ " فيه وجهان :

أظهرهما : أنه نَسَقٌ على " نَدْعُوا " فهو داخل في حيِّز الاستفهام المُتَسَلِّطِ عليه القَوْلُ.
الثاني : أنه حالٌ على إضمار مبتدأ ؛ أي : ونحن نُرَدُّ.
قال أبو حيَّان٢ بعد نقله هنا عن أبي البقاء :" وهو ضعيف لإضمار المبتدأ، ولأنها تكون حالاً مؤكّدة "، وفي كونها مؤكدة نظرٌ ؛ لأن المؤكدة ما فهم معناها من الأوَّلِ، وكأنه يقول : من لازم الدعاء " من دون الله " الارتداد على العقب.
قوله :" عَلى أعْقَابِنَا " فيه وجهان :
أحدهما : أنه معلّق ب " نُرَدُّ ".
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال من مرفوع " نرد " أي : نرد راجعين على أعْقابنا، أو منقلبين، أو متأخرين كذا قدَّرُوهُ، وهو تفسير معنى ؛ إذا المُقَدَّرُ في مثله كونٌ مُطلقٌ، وهذا يحتمل أن يقال فيه : إنه حال مؤكدة، و " بعد إذ " مُتعلِّقٌ ب " نُرَدُّ ".
[ ومعنى الآية : ونرد على أعقابنا إلى الشِّرْكِ مرتدين بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام.
يقال لكل من أعْرَضَ عن الحق إلى الباطل : إنه رجع إلى خَلْفٍ، ورجع على عَقِبَيْهِ، ورجع القَهْقَرى ؛ لأن الأصل في الإنسان الجَهْلُ ثم يترقى ويتعلم حتى يتكامل، ويحصل له العلم.
قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ﴾ [ النحل : ٧٨ ] فإذا رجع من العِلْمِ إلى الجَهْلِ مرة أخرى، فكأنه رجع إلى أوَّل أمره، فلهذا السبب يقال : فلان رُدَّ على عقبيه ]٣.
قوله ﴿ كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ ﴾ في هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوف ؛ أي : نُرَدُّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين.
الثاني : في مَحَلّ نصب على الحال من مرفوع " نرد "، أي : نرد مُشْبهينَ الذي استهوته الشياطين، فمن جوَّز تعدُّدَ الحالِ جعلها حالاً ثانية، إن جعل " على أعقابنا " حالاً، ومن لم يُجَوِّزْ ذلك جعل هذه الحال بدلاً من الحال الأولى، أو لم يجعل على أعقابنا حالاً، بل معلّقاً ب " نرد ". الجمهور على٤ " اسْتهْوتْهُ " بتاء التأنيث، وحمزة٥ " اسْتَهْوَاهُ " وهو على قاعدته من الإمالة، والوجهان معروفان مما تقدم في ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ [ الأنعام : ٦١ ] وقرأ٦ أبو عبد الرحمان والأعمش :" اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطانُ " بتأنيث الفعل، والشيطان مفرداً.
قال الكسائي٧ :" وهي كذلك في مصحف ابن مسعود "، وتوجيه هذه القراءة أنَّا نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم :" أتته كتابي فاحتقرها " ؛ أي : صحيفتي، وتقدَّم له نظائر.
وقرأ الحسن البصري٨ :" الشَّيَاطُون " وجعلوها لَحْناً، ولا تَصِلُ إلى اللَّحْنِ، إلا أنها لُغَيّةٌ رديئة، سُمِع : حول بستان فلان بساتون وله سلاطون، ويُحْكَى أنه لما حكيت قراءة الحسن لَحَّنَهُ بعضهم، فقال الفراء٩ :" أي والله يُلحِّنُون الشيخ، ويستشهدون بقول رؤبة ". ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك.
والمراد ب " الَّذي " الجِنْسُ، ويحتمل أن يراد به الواحد الفَذُّ.
قوله :" في الأرْضِ " فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مُتعلِّق بقوله :" اسْتَهْوتْهُ ".
الثاني : أنه حالٌ من مفعول " اسْتَهْوَتْهُ ".
الثالث : أنه حالٌ من " حيران ".
الرابع : أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في " حيران "، و " حيران " حال إما من " هاء " " استهوته " على أنها بدلٌ من الأولى، وعند من يجيز تعدُّدَهَا، وإما من " الَّذِي "، وإما من الضمير المستكن في الظرف، و " حيران " مؤنثه " حيرى "، فلذلك لم يَنْصَرِفُ، والفعل حَارَ يَحَارُ حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورةً، و " الحيران " المُتَرَدِّدُ في الأمر لا يهتدي إلى مَخْرَجٍ.
وفي اشتقاق " اسْتَهْوَتْهُ " قولان :
الأول : أنه مشتق من الهُوِيِّ في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [ السافلة ]١٠ العميقة [ في قعر الأرض ]١١ فشبه الله تعالى حال هذا الضَّالِّ به، كقوله :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [ الحج : ٣١ ] ولا شك أن الإنسان حال هُويِّهِ من المكان العالي إلى الوهْدةِ العميقة يكون في غايةِ الاضْطرابِ والدهشة والحيرةِ.
والثاني : أنه مُشْتَقٌ من اتِّباعِ الهَوَى والميل، فإنه من كان كذلك، فإنه ربما بلغ النهاية في الحَيْرَةِ.
واعلم أن هذا المثل في غاية الحُسْنِ ؛ لأن الذي يَهْوِي من المكان العالي إلى الوَهْدَةِ العميقة، يحصل له كمال التَّرَدُّدِ والدهشة والحيرة ؛ لأنه لا يعرف أي موضع يزداد بلاَؤهُ بسبب سقوطه عليه أو يَقِلُّ١٢.
قوله " لَهُ أصْحَابٌ " جملة في مَحَلّ نصب صفة ل " حيران "، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " حيران "، وأن تكون مستأنفة١٣، و " إلى الهدى " متعلقة ب " يدعونه "، وفي مصحف ابن مسعود وقراءته :" أتينا " بصيغة الماضي، و " إلى الهدى " على هذه القراءة متعلّق به، وعلى قراءة الجمهور، فالجملة الأمرية في محل نصب بقول مضمر أي يقولون : ائتنا والقول المضمر في محل صفة لأصحاب وكذلك " يدعونه ". قالوا : نزلت هذه الآية في عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أبَاهُ إلى الكُفْرِ، وأبوه يدعوه إلى الإيمان.
وقيل : المراد أن لذلك الكافر الضَّالِّ أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضَّلالِ، ويسمونه بأنه هو الهدى، والصحيح الأوَّل.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ يَزْجُرُ بذلك عن عبادة الأصنام، كأنه يقول : لا تفعل ذلك، فإن الهُدَى هُدَى الله لا هادي غيره. قوله :" وأمِرْنَا لِنُسْلِمَ " في هذه " اللام " أقوال :
أحدها : وهو مذهب سيبويه١٤ أن هذه اللام بعد الإرادة والأمر وشبههما مُتعلِّقةٌ بمحذوف على أنها خبر للمبتدأ، وذلك المبتدأ هو مصدرٌ من ذلك الفعل المتقدم، فإذا قلت : أردت لتقوم وأمرت زيداً ليذهب، كان التقدير : الإرادة للقيام، والأمر للذَّهاب، كذا نقل أبو حيَّان١٥ ذلك عن سيبويه وأصحابه، وفيه ضَعْفٌ تقدَّم في سورة النساء عند قوله :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾
[ النساء : ٢٦ ].
الثاني : أن مفعول الأمر والإرادة محذوف، وتقديره : وأمرنا بالإخلاص لنسلم.
الثالث : قال الزمخشري١٦ : هي تَعْلِيلٌ للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم.
الرابع : أن " اللام " زائدة ؛ أي : أمرنا أن نسلم.
الخامس : أنها بمعنى " الباء " أي بأن نسلم.
السادس : أن " اللام " وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع " أن " أي : أنهما مُتعاقِبَانِ، فتقول : أمرتك لتقوم، وأن تقوم، وهذا مذهب الكوفيين.
وقال ابن عطية١٧ : ومذهب سبيويه أن " لِنُسْلِمَ " في موضع المفعول، وأن قولك : أمرت لأقوم وأن أقوم بجريان سواءً وقال الشاعر :[ الطويل ]
أُرِيدُ لأنْسَى حُبَّهَا فَكَأنَّمَا تَمثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ١٨
وهذا ليس مذهب سيبويه، إنما مذهبه ما تقدَّم تحقيقه في " سورة النساء ".

قوله " وأنْ أقِيمُوا " فيه أقوال :

أحدها : أنها في مَحَلِّ نصب بالقول نَسَقاً على قوله :﴿ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى ﴾ أي : قل هذين الشيئين.
والثاني : أنه نَسَقٌ على " لنسلم " أي : وأمرنا بكذا للإسلام، ولنقيم الصلاة، و " أن " تُوصل بالأمر كقولهم : كتب إليه بأن قم، حكاه سيبويه١٩ وهذا رَأيُ الزَّجَّاج٢٠.
والثالث : أنه نَسَقٌ على " ائْتِنَا " قال مكي٢١ : لأن معناه :" أن ائتنا "، وهو غير ظاهر.
والرابع : أنه مَعْطُوفٌ على مفعول الأمر المقدر، والتقدير : وأمرنا بالإيمان، وبإقامة الصلاة قاله ابن عطية٢٢.
قال أبو حيَّان٢٣ : وهذا لا بأس به، إذ لا بُدَّ من تقدير المفعول الثاني ل " أمرنا " ويجوز حذف المعطوف عليه لِفَهْمِ المعنى ؛ تقول : أضَرَبْتَ زيداً ؟ فتجيب نعم وعمراً ؛ التقدير : ضربته وعمراً.
وقد أجاز الفراء :" جاءني الذي وزيد قائمان "، التقدير : الذي هو وزيد قائمان، فحذف " هو " لدلالة المعنى عليه، وهذا الذي قاله أنه لا بأس به ليس من أصول البصريين.
و " أما نعم وعمراً " فلا دلالة فيه ؛ لأن " نعم " قامت مقام الجملة المحذوفة.
وقال مكي٢٤ قريباً من هذا القول، إلاَّ أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه، فإنه قال : و " أن " في موضع نَصْب بحذف الجار‍ِّ، تقديره : وبأنْ أقيموا، فقوله : وبأن أقيموا هو معنى قول ابن عطية، إلاَّ أن ذلك [ أوضحه ]٢٥ بحذف المعطوف عليه.
وقال الزمخشري٢٦ : فإن قلت : علام عطف قوله :" وأن أقيموا " ؟ قلت : على موضع " لنسلم " كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا.
قال أبو حيَّان٢٧ : وظاهر هذا التقدير أن " لنسلم " في موضع المفعُولِ الثاني ل " أمرنا " وعطف عليه :" وأن أقيموا " فتكون اللام على هذا زَائِدَةً، وكان قد تقدَّم قبل هذا أن " اللام " تعليل للأمر، فتناقض كلامه ؛ لأن ما يكون عِلَّةً يستحيل أن يكون مفعولاً، ويدلُّ على أنه أراد بقوله :" أن نسلم " في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك : ويجوز أن يكون التقدير : وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا، أي للإسلام ولإقامة الصلاة، وهذا قول الزَّجَّاجِ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأوَّل لاتَّحَدَ قَوْلاَهُ، وذلك خُلْفٌ.
قال الزَّجَّاج٢٨ :" أن أقيموا " عطف على قوله :" لنسلم "، تقديره : وأمرنا لأن نسلم، وأن أقيموا.
قال ابن عطية٢٩ : واللَّفْظُ يُمانِعُهُ، لأن " نسلم " معرب، و " أقيموا " مبني، وعطف المبني على المعرب لا يجوز، لأن العطف يقتضي التَّشْرِيكَ في العامل.
قال أبو حيان٣٠ : وما ذكر من أنه ل
١ ينظر: الإملاء ١/٢٤٧..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٩٣..
٣ سقط في ب..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/٩٤، البحر المحيط ٤/١٦٢، حجة القراءات ص (٢٥٦)..
٥ ينظر: الدر المصون ٣/٩٤، البحر المحيط ٤/١٩٢، حجة القراءات ص (٢٥٦)..
٦ ينظر: الدر المصون ٣/٩٤، البحر المحيط ٤/١٦٢، روح المعاني ٧/١٨٩..
٧ ينظر: الدر المصون ٣/٩٤، البحر المحيط ٤/١٦٢، روح المعاني ٧/١٨٩..
٨ ينظر: الدر المصون ٣/٩٤، البحر المحيط ٤/١٦٢، روح المعاني ٧/١٨٩..
٩ ينظر: الدر المصون ٣/٩٤، البحر المحيط ٤/١٦٢، روح المعاني ٧/١٨٩..
١٠ سقط في أ..
١١ سقط في أ..
١٢ ينظر: الرازي ١٣/٢٠..
١٣ ينظر: الدر المصون ٣/٩٤، البحر المحيط ٤/١٦٢..
١٤ ينظر: الكتاب ١/٤٧٩..
١٥ ينظر: البحر المحيط ٤/١٦٣..
١٦ ينظر: الكشاف ٢/٣٧..
١٧ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٣٠٨..
١٨ تقدم..
١٩ ينظر: الكتاب ١/٤٧٩..
٢٠ ينظر: معاني القرآن ٢/٢٨٨..
٢١ ينظر: المشكل ١/٢٧١..
٢٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٣٠٨..
٢٣ ينظر: البحر المحيط ٤/١٦٤..
٢٤ ينظر: المشكل ١/٢٧١..
٢٥ سقط في أ..
٢٦ ينظر: الكشاف ٢/٣٨..
٢٧ ينظر: البحر المحيط ٤/١٦٤..
٢٨ ينظر: معاني القرآن ٢/٢٢٨..
٢٩ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٣٠٨..
٣٠ ينظر: البحر المحيط ٤/١٦٤..

لمَّا بيَّن في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبادة الأصنام ذكر هاهنا ما يدل على أنْ لا معبود إلاَّ الله، وذكرها هاهنا أنواعاً من الدلائل:
أحدهما: قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ تقدم أول السورة.
وقوله: «بالحق» قيل: الباء بمعنى اللام، أي إظهار للحق؛ لأنه جعل صُنْعَهُ دليلاً على وحدانيته، فهو نظير قوله: ﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً﴾ [آل عمران: ١٩١]، وقوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ [الدخان: ٣٨].
وثانيها: قوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ﴾ في «يوم» ثمانية أوجه:
أحدهما: - وهو قول الزَّجَّاج - أنه مفعول به لا ظرْفٌ، وهو معطوف على الهاء في «اتقواه» أي: واتقوا يوماً أي: عقاب يوم يقول، أو هوله أو فزعه، فهو كقوله تعالى في موضع آخر: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي﴾ [البقرة: ٤٨] على المشهور في إعرابه.
والثاني: أنه مفعول به أيضاً، ولكنه نَسَقٌ على السموات والأرض، أي: وهو الذي خَلَقَ يوم يقول.
الثالث: أنه مفعول ل «اذكر» مقدراً.
الرابع: أنه منصوب بعامل مقدر، وذلك العامل المُقّدَّرُ مفعول فعل مقدر أيضاً، والتقدير: واذكروا الإعادة يوم يقول: كن، أي يوم يقول الله للإجساد: كوني مُعَادَةً.
الخامس: أنه عَطْفٌ على موضع قوله: «بالحق» فإن موضعه نَصْبٌ، ويكون «يقول» بمعنى قال ماضياًن كأنه قيل: وهو اذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها: كن.
السادس: أن يكون «يوم يقول: كن فيكون، وإليه ننحا الزمخشري، فإنه قال:» قوله الحق «مبتدأ، و» يوم يقول «خبره مقدماً عليه، وانْتِصَابُهُ بمعنى الاستقرار، كقولك:» يوم الجمعة القتال «واليوم بمعنى الحينِ، والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحكم، وحين يقول لشيء من الأشياء: كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة.
فإن قيل: قول الله حَقّ في كل وقت، فما الفائدةُ في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين؟ فالجواب: لأن هذا اليوم لا يَظْهَرُ فيه من أحَدٍ نَفْعٌ ولا ضر، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً﴾ ﴿والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩] فلهذا السبب حَسُنَ هذا التخصيص.
223
السابع: أنه مَنْصُوبٌ على الظرف، والناصب له معنى الجملة التي هي» قوله الحق «أي: حق قوله في يوم يقول: كن.
الثامن: أنه مَنْصُوبٌ بمحذوف دلَّ عليه بالحق.
قال الزمخشري: وانْتِصَابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله:»
بالحق «، كأنه قيل:» وحين يكون ويقدر يقوم بالحق «قال أبو حيان:» وهذا إعراب مُتَكَلَّفٌ «.
قوله:»
فيكون «هي هنا تامَّةٌ، وكذلك قوله:» كُنْ «فتكتفي هنا بمرفوع، وتحتاج إلى منصوب، وفي فاعلها أربعة أوجه:
أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله - تعالى - يوم القيامة، كذا قَيَّدَهُ أبو البقاء بيوم القيامة.
وقال مكي: «وقيل: تقدير المضمر في»
فيكون «جميع ما أراد»، فأطلق ولم يُقَيِّدْهُ وهذا أوْلَى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال.
الثاني: أنه ضمير الصُّور المنفوخ فيها، ودَلَّ عليه قوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ [طه: ١٠٢].
الثالث: هو ضمير اليوم؛ أي: فيكون ذلك اليوم العظيم.
الرابع: أن الفاعل هو «قوله» و «الحق» صفته؛ أي: فيوجد قوله الحق، ويكون الكلام على هذا تامَّا على «الحق».
قوله «قولهُ الحَقُّ» فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، و «الحق» نعته، وخبره قوله: «يوم يقول».
والثاني: أنه فاعلٌ لقوله: «فيكون» و «الحق» نعته أيضاً، وقد تقدَّم هذان الوجهان.
الثالث: أن «قوله» مبتدأ، و «الحق» خبره أخبر عن قوله بأنه لا يكون إلاَّ حقَّا.
والرابع: أنه مبتدأ أيضاً، و «الحق» نعته، و «يوم يُنفَخُ» خبره وعلى هذا ففي قوله: «وله الملك» ثلاثة أوجه:
أحدها: تكون جُمْلَةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره، فلا محل لها حنئيذ من الإعراب.
والثاني: أن يكون «الملك» عطفاً على «قوله» و «أل» فيه عوض عن الضمير، و «له» في محلِّ نصب على الحال من «الملك» العامل فيه الاسْتِقْرَارُ، والتقدير: قوله الحق، وملكه كائناً له يوم ينفخ، فأخبر عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنانِ في يوم ينفخ في الصُّورِ.
224
الثالث: أن الجملة من «وله الملك» في محل نصبٍ على الحال، وهذا الوجه ضعيف لشيئين:
أحدهما: أنها تكون حالاً مؤكّدة، والأصل أن تكون مؤسّسة.
الثاني: أن العامل فيها معنوي؛ لأنه الاستقرار المُقَدَّرُ في الظرف الواقع خبراً، ولا يجيزه إلا الأخفش، ومن تابعه، وقد تقدَّم تقرير مذهبه.
قوله: «يَوْمَ يُنْفَخُ» فيه ثمانية أوجه:
أحدها: أنها خبر لقوله تعالى: «قوله الحق»، وقد تقدم تحقيقه.
الثاني: أنه بَدَلٌ من «يوم يقول» فيكون حُكْمُهُ ذاك.
الثالث: أنه طرف ل «تحشرون» أي: وهو الذي إليه تحشرون في يوم يُنْفَخُ في الصور.
الرابع: أنه منصوب بنفس المُلْك، أي: وله المُلْكُ في ذلك اليوم.
فإن قيل: يلزم من ذلك تقييد الملك ب «يوم النَّفْخ»، والملك له كل وقت.
فالجواب: ما تقدم في قوله «الحق»، وقوله: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم﴾ [غافر: ١٦] وقوله: ﴿والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانقطار: ١٩] وهو أن فائدة الإخبار بذلك أنه أثبت المُلْكَ والأمْرَ في يوم لا يمكن لأحد أن يدعي فيها شيئاً من ذلك.
الخامس: أنه حالٌ من المُلْكِ، والعامل فيه «له» لما تضمنه من معنى الفعل.
السادس: أنه منصوب بقوله: «يقول».
السابع: أنه مَنْصُوبٌ بعالم الغيب بعده.
الثامن: أنه منصوبٌ بقوله تعالى: «قوله الحق» فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانية أوجه.
والجمهور على «يُنْفَخُ» مبنياً للمفعول بياء الغيبة، والقائم مقام الفاعل الجار بعده.
وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث: «نَنْفُخُ» بنون العظمة مبنياً للفاعل.
والصُّورُ: الجمهور على قراءته ساكن العين وقرأه الحسن البصري بفتحها.
فأما قراءة الجمهور، فاختلفوا في معنى «الصُّور» [فيها] فقال جماعة الصور: جمع «صُورة» كالصُّوف جمع «صوفة»، والثوم جمع «ثومة»، وهذا ليس جمعاً صِنَاعيَّا،
225
وإنما هو اسم جنس، إذ يفرق بينه وبين واحد بتءا التأنيث، وأيَّدُوا هذا القول بقراءة الحسن المتقدمة.
وقال جماعة: الصُّور هو القَرْنُ.
قال مجاهد كَهَيْئَةِ البُوقِ، وقيل: هو بلغة أهل اليمن، وأنشدوا: [السريع أو الرجز] نَطْحاً شَدِيداً لا كَنَطْحِ الصُّورَينْ... وأيَّدُوا ذلك بما ورد في الأحاديث الصحيحة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: «جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ما الصُّورُ؟ قال:» قَرْنٌ يُنْفَخُ فيهِ «وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» كَيْفَ أنْعَمُ وصَحِبُ الصُّورِ قَد التَقَمهُ وأصْغَى سمْعَهُ وَحَتَى جَبْهَتهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَرٍُ «. فقالوا: يا رسول الله وما تأمرنا؟ فقال:» قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ «.
٢٢٠٥ - نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الجَمْعَيْن بِالشَّامِخَاتِ فِي غُبَارِ النُّقْعَينْ
وقيل في صفته: إنه قَرْنٌ مستطبل في أبخاش، وأن أرواح الناس كلهم فيه، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجت رُوحُ كُلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش.
وأنحى أبو الهيثم على من ادَّعى أن الصور جمع»
صُورة «، فقال:» وقد اعترض قوم فأنكروا أن يكون الصور قَرْنَاً كما أنكروا العَرْشَ والميزان والصراط، وادَّعُوا أن الصور جمع «صورة»، كالصوف جمع الصوفة، ورووا ذلك عن أبي عُبَيْدة، وهذا خطأ فاحش، وتحريف لكلام الله - عزَّ وجلَّ - عن مواضعهِ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: ٦٤] و «نفخ في الصور» فمن قرأها: و «نفخ في الصور» أي بالفتح، وقرأ «فأحْسَنَ صُوْركم» أي بالسكون فقد افترى الكذب على الله - عزَّ وجلَّ - وكان أبو عبيدة صاحب أخبار غريبة ولم يكن له معرفة بالنحو «.
قال الأزْهَرِيُّ: قد احتج أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وهو قول أهل السنّة والجماعة انتهى.
[قال السمين: ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم].
قال ابن الخطيب ومما يقوِّي هذا الوجه أنه لو كان المارد نفخ الروح في تلك الصورة لأضاف ذلك إلأى نَفْسِه، لأن نَفْخَ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه؛ كقوله: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: ٢٩] وقال: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [
226
التحريم: ١٢] وقال ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤]، وأما نفخ الصور بمعنى النَّفخ في القَرْنِ، فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كا قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور﴾ [المدثر: ٨] وقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُون﴾ [الزمر: ٦٨].
وقال الفراء: «يُقَال: نفخ في الصور، ونفخ الصور»، وأنشد: [البسيط]
٢٢٠٦ - لَوْلاَ ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ يُفْتَحْ قُهَنْدُزُكُمْ ولا خُرَاسَانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ
قوله: «عَالِمُ الغيْبِ» في رفعه أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون صِفةً ل «الذي» في قوله: «وهو الذي خلق»، وفيه بُعْدٌ لطُولِ الفَصْلِ بأجنبي.
الثاني: أنه خبر مضمر أي: هو عالم.
الثالث: أنه فاعل لقوله: «يقول» أي: يوم يقول عالم الغيب.
والرابع: أنه فاعل بفعل محذوف يَدُلُّ عليه الفعل المبني للمفعول؛ لأنه لما قال: «ينفخ في الصور» سأل سَائِلٌ فقال: من الذي يَنْفُخُ فيه؟ فقيل: «عَلِمُ الغَيْبِ»، أي: ينفخ فيه عالم الغيب، أي: يأمر بالنَّفْخِ فيه لقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦، ٣٧] أي: تُسَبِّحُهُ.
ومثله أيضاً قول الآخر: [الطويل]
٢٢٠٧ - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
أي: مَنْ يبكيه؟ فقيل: ضارع، أي: بيكيه ضارع لخصومة.
ومثله: ﴿وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧] في قراءة من يبني «زُيِّنَ» للمفعول ورفع «قَتْلُ»، و «شركاؤهم» كأنه قيل: من زَيَّنَهُ لهم؟ فقيل: زَيَّنَهُ شُركَاؤهُمْ، والرفع على ما تقدم قراءة الجمهور.
وقرأ الحسن البصري والأعمش: «عالم» بالجر وفيها ثلاثة أوجه:
أحسنها: أنه بدل من الهاء في «له».
[الثاني: أنه بدل من «رب العالمين»، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه].
227
الثالث: أنه نعت للهاء في «له»، وهذا إنما يتمشى على رأي الكسائي حيث يُجِيزُ نعت المضمر بالغائب، وهو ضعيف عند البصريين والكوفيين غير الكسائي.

فصل في بيان المقصود من ذكر أحوال البعث


أعلم أنه - تعالى - ما ذكر أحوال البعث في القيامة إى وقرَّ فيه أصلين:
أحدهما: كونه قادراً على المُمْنكِنَاتِ.
والثاني: كونه عالماً بكل المعلومات؛ لأن بقدير: ألاَّ يكون قادراً على كل الممكنات لم يَقْدِرْ على البعث والحشر، وردِّ الأرواح إلى الأجساد، وبتقدير ألاَّ يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يَصِحَّ ذلك فيه؛ لأنه ربما اشْتَبَهَ المُطِيعُ بالعاصي والمؤمن بالكافر، فلا يحصل المَقْصُودُ الأصلي من البعث والقيامة، أما إذا ثبت حصول هذهين الصفتين، كمل الغرض، فقوله: ﴿وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾ يدل على كمال القُدْرَةِن وقوله ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ يدلُّ على كمال العلم، فلزم بمجموعهما أن يكون قوله حقاً وحكمة وصدقاً، وقضاياه مُبَرَّأةً عن الجَوْرِ والعبثِ، ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ الحكيم الخبير﴾ والحكيم: هو المصيب في أفعاله، والخبير: هو العالم بحقائقها من غير اشْتِبَاهٍ.
والله أعلم.
228
أعلم أنه - تعالى - يَحْتَجُّ كثيراً على مشركي العرب بأحوال إبراهيم - عليه السلام - وذلك لأنه رَجُلٌ يَعْتَرفُ بِفَضْلِهِ جميع الطوائف والملل، فالمشركون كانوا معترفين بفضله، مُتَشَرِّفين بأنهم من أولاده، وسائر الملل تعظمه، فلهذا السبب ذكر الله حالُ في معرض الاحتجاج، والسبب في حصوله هذه المرتبة العظيمة لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنّه سلَّمَ قلبه للعرفانن ولسانهُ للبرهان، وبَدنَهُ للنيران، وولدَهُ للقربان، ومَالهُ للضِّيفانِ.
أما تسليم قلبه للعرفان، فهو قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١].
وأما تسليم لسانه للبرهان: فَمُنَاظَرتُهُ مع نمرود، حيث قال: ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] ومناظرته مع الكفار بالفعل حين كسَّر أصنامهم، وجعلها جُذَاذاً، وقوله بعد ذلك: ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٦].
وأما تسليم بدنه للنيران: فحين ألْقِيَ فيها.
وأما تسليم ولده لِلْقُربانِ: فحين أمر بذبح ولده «فَتَلَّهُ للجَبِينِ».
وأما تسليم ماله للضيفان: فمشهورة.
قوله: «وإذا قال» «إذا» منصوب بفعل محذوف، أي: اذكر، وهو معطوف على «
228
أقيموا» : قاله أبو البقاء، وقال: في محل خَفْضٍ بالظرف.
قوله: «آزَرَ» الجمهور على «آزرَ»، مفتوح الزاي والراء، وإعرابه حينئذ على أوجه:
أحدها: أنه بدلٌ من أبيه، أو عطف بيان له إن كان آزر لَقَباً له، وإن كان صفة له بمعنى المخطئ [كما قال الزجاج] أو المعوج كما قاله الفراء، وسليمان التيمي، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك فيكون نعتاً ل «أبيه»، أو حالاً منه بمعنى: وهو في حال اعْوِجَاج أو خطأ، وينسب للزجاج.
وإن قيل: إن «آزر» كان اسم صنم كان أبوه يعبده، كما قاله سعيد بن المسيب ومجاهد، فيكون إذ ذاك عطف بيان ل «أبيه» أو بدلاً منه، ووجه ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ به وصار لقباً له كما قال بعض المحدثين: [البسيط]
٢٢٠٨ - أدْعَى بِأسْمَاءَ نَبْزاً فِي قَبَائِلِهَا كَأنَّ أسْمَاءَ أضْحتْ بَعْضَ أسمَائِي
كذا نَسَبَهُ الزمخشري إلى بعض المحدثين، ونسبه أبو حيان لبعض النحويين.
قال الزمخشري: «كما نبز ابن قيس ب» الرقيات « [اللاتي كان يُشبِّبُ بهن فقيل: ابن قيس الرُّقَيَّات» ] أو يكون على حذف مضاف، أي ل «أبيه» عابد آزر، ثم حذف المضافن وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ، وعلى هذا فيكون عابد صفة ل «أبيه» أعْرِبَ هذا بإعرابه، أو يكون منصوباً على الذَّمِّ.
و «آزر» ممنوع من الصرف، واختلف في عِلِّةِ منعه، فقال الزمخشري: والأقرب أن يكون وزن «آزر» «فاعل» ك «عابر» و «شالخ» و «فالغ» فعلى هذا هو ممنوع للعميّة والعُجْمَةِ.
وقال أبو البقاء: ووزنه «أفعل» ولم ينصرف للعُجْمَةِ، والتعريف على قول من لم يشتقه من الأزر أو الوزر، ومن اشْتَقَّهُ من واحد منهما قال: هو عربين ولم يصرفه للتعريف، ووزن الفعل، وهذا الخلاف يشبه الخلاف في «آدم» وقد تقدَّم أن اختيار الزمخشري فيه أنه «فاعل» ك «عابر» ومن جرى على ذلك، وإذا قلنا بكونه صِفَةً على ما قاله الزَّجَّاجُ بمعنى المخطئ، أو بمعنى المعوج، أو بمعنى الهرم، كما قاله الفراء
229
والضحاك، فيشكل مَنْعُ صرفه، وسيشكل أيضاً وقوعه صِفَةً للمعرفة. وقد يُجَابُ عن الأول بأن الإشكال قد يندفع بادِّعاءِ وزنه على «أفعل»، فيمتنع حينئذ للوزن والصفة ك «أحمر» وبابه، وأما على قول الزمخشري فلا يَتَمَشَّى ذلك.
وعن الثاني: بأنا لا نُسَلِّمُ أنه نَعْتٌ لأبيه، حتى يلزم وصف المعارف بالنكرات، بل هو منصوب على الذَّمِّ، أو على نِيَّةِ الألف واللام قالهما الزجاج.
والثاني ضعيف؛ لأنه حَذَفَ «أل» وأراد معناها؛ إما أن يؤثّر منع الصرف كما في «سحر» ليوم بعينه، ويسمى عدلاً؛ وإما أن يؤثِّر بناءً ويسمى تَضَمناً ك «أمس» وفي «سحر» و «أمس» كلام طويل، ولا يمكن أن يقال/: إن «آزر» امتنع من الصرف كما امتنع «سحر» أي للعدل عن «أل» ؛ لأن العدلَ يمنع فيه مع التعريف، فإنه لوقت بعينه، بخلاف هذا فإنه وصف كما فرضتم. وقرا أبَيُّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، والحسن، ومجاهد، ويعقوب في آخرين بضم الراء على أنه منادى حذف حرف ندائه كقوله تعالى: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ [يوسف: ٢٩] أو كقوله: [الطويل]
٢٢٠٩ - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ.......................
في أحد الوجهين، أي يا يزيد، ويُؤيِّدُهُ ما في مصحف أبيّ: «يا آزر» بإثبات حرفه، وهذا إنما يَتَمَشَّى على دعوى أنه عَلَمٌ، وإما على دعوى وَصْفِيَّتِهش فضعيف؛ لأن حذف حرف النداء يقل فيها كقولهم: [الخفيف]
٢٢١٠ - افْتَدِ مَعْتُوقُ وصَاحِ شَمِّرْ........................
وقرأ ابن عباس في رواسة «أأزْراً» بهمزتين مفتوحتين [وزاي ساكنة] وراء منونه منصوبة، و «تتخذ» بدون همزة استفهام، ولما حكى الزمخشري هذه القراءة لم يسقط همزة الاستفهام من «أتتخذ» فأما على القراءة الأولى، فقال ابن عطية مُفَسِّراُ لمعناها: «أعَضُداً وقُوَّةً ومُظَاهرةً على الله تتَّخّ»، وهو من قوله: ﴿اشدد بِهِ أَزْرِي﴾ [طه: ٣١] انتهى.
230
وعلى هذا فيحتمل «آزاراً» أن ينتصب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مَفْعُولٌ من أجله و «أصناماً آلهة» منصوب ب «تتخذ» على ما سيأتي بيانه، والمعنى: أتتخذ أصْنَاماً آلهة لأجل القوة والمُظَاهرة.
والثانيك أنه ينتصب على الحل؛ لأنها في الأصْلِ صفة ل «أصنافاً» فلما قُدِّمَتْ عليها، وعلى عاملها انتصبت على الحال.
والثالث: أن يتصب على أنه مفعنل ثانٍ قُدِّم على عامله، والأصل: أتتخذ أصناماً آلهة آزراً، أي قوة ومُظَاهرةٍ.
وأما القراءة الثَّانية فقال الزمخشري: وهو اسم صِنَمٍ، ومعناه أتعبد آزاراً على الإنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخل في حكم الإنكار؛ لأنه كاالبيانِ له، فعلى هذا «آزاراً» منصوب بفعل محذوف يَدُلُّ عليه المعنى، ولكن قوله: «وهو داخل في حكم الإنكار» يقوي أنه لم يقرأ «أتتخذ» بهمزة الاستفهام؛ لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإنكار، ولم يحتج أن يقول: «وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له.
وقرأ ابن عبَّاسٍ أيضاً وأبو إسماعيل»
أإزراً «بهمزة استفهام بعدها همزة مكسورة، ونصب الراء منونة، فجعلها ابن عطيَّة بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر ك» إسادة «و» إشاح «في:» وسادة «و» وشاح «.
وقال أبو البقاءِ: وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الهمزة الثانية فاء الكلمة، وليست بَدَلاً من شيءن ومعناها الثقل وجعله الزمخشري اسم صَنَمٍ، والكلام فيه كالكلام في»
أزراً «المفتوح الهمزة وقد تقدم.
وقر الأعمش:»
إزْراً تَتَّخِذُ «بدون همزة استفهام، ولكن بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء منونة، ونصبه واضح مما تقدَّم، و» تَتَّخِذُ «يحتمل أن تكون المتعدية لاثنين بمعنى التَّصْييريَّةِ، وأن تكون المتعدية لواحد؛ لأنها بمعنى» عمل «، ويحكى في التفسر أنَّ أباه كان ينحتها ويصنعها، والجملة الاستفهامية في مَحَلِّ نصب بالقول، وكذلك قوله:» إنِّي اراك «و» أراك «يحتمل أن تكون المعملية، وهو الظَّاهر فتتعدى لاثنين، وأن تكون بَصَريَّة، وليس بذاك ف» في ضلالها حالٌ، وعلى التقديرين يتعلق
231
بمحذوف، إلاَّ أنه في الأوَّل أحد جزئي الكلام، وفي الثَّاني فَضْلَةٌ.
«مُبِين» اسم فاعل من «أبان» [لازماً «بمعنى ظَهَرَ، ويجوز أن يكون من المُتَعدِّين والمفعول محذوف، أي: مبين كفركم بخالقكم، وعلى هذا فقول ابن عطية ليس بالفعل المُتعدِّي المنقول من بان يبين غير مسلم، وجعل الضلال طرفاً محيطاً بهم مبالغة في اتِّصِافِهِمْ به، فهو أبلغ من قوله:» أرَاكُمْ ضَالِّينَ «.

فصل في اختلاف المفسرين حول» آزر «


قال محمد بن إسحاق، والضحاك، والكلبي: آزر اسم أبي إبراهيم عليه السلام وهو تارح أيضاً مثل إسرائيل ويعقوب، وكان من»
كوثى «قرية من سواد» الكوفة «وقال مقاتل بن حيان وغيره: آزر لقب لأتبي إبراهيم واسمه تارح.
وقال سليمان التيمي هو سَبُّ وعيب، ومعناه في كلامهم المعوج.
وقيل: معناه الشيخ الهرم بالخوارزمية والفارسية أيضاً وهذان الوجهان مبنيان على من يقول: إن في القرآن ألفاظاً قليلة غير عربية.
وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد: آزرصنم، وإنما سمي والد إبراهيم به لوجهين:
أحدهما: أنه جعل نفسه مُختَصاً بعبادته، ومن بالغ في مَحَبَّةِ أحد، فقد يُجْعَلُ اسم المحبوب اسماً للمحب؛ قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١].
الثاني: أن يكون المراد عابد آزر، فحذف المضاف، وأضيف المضاف إليه مُقَامَهُ.
وقيل: إن والد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان اسمه تارح، وكان آزر عمَّا له، والعم قد يُطْلَقُ عليه لفظ الأب، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب: ﴿نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣].
ومعلوم أن إسماعيل كان عمَّا ليعقوب، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «رُدُّوا عَلَيَّ أبي العبَّاسَ»
فكذا هاهنا.
قال ابن الخطيب: وهذه التَّكالِيفُ إنما يجب المَصِيرُ إليها إذا دَلَّ قَاهِرٌ على أن والد إبراهيم كا كان اسمه آزر، وهذا الدليل لم يوجد ألبتة، فأي حاجة تحملنا لعى هه التأويلات؟ ومما يَدُلُّ على صِحَّةِ ما قلناه أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحِرْصِ على تكذيب الرسول وإظهار النسب.
232

فصل في دحض شبهة للشيعة


قالت الشيعة: إن أحَداً من آباء الرسول وأجْدَادِهِ ما كان كافراً، وأنكروا كون والد إبراهيم كافراً، وقالوا: إن آزر كان عَمَّ إبراهيم، واحتجوا بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾ [الشعراء: ٢١٩]. قيل: معناه أنه كان ينتقل روحه من ساجد إلى ساجد فَدَلَّت الآية على أن آباء محمد - عليه السلام - كانوا مسلمين.
وحينئذ يجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان مسلماً.
فإن قيل: قوله: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾ يحتمل وجوهاً:
منها: أنه لما نُسِخَ فَرْضُ قيام الليل طَافَ الرسول تلك الليلة على بُيُوتِ أصحابه لينظر ماذا [يصنعون لشدة] حرصه على ما يظهر منهم من الطَّاعاتِ، فوجدها كَبُيُوتِ الزَّنَابير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتَهْليلهم، فيحتمل أن يكون المراد من تقلبه في الساجدين طَوَافَهُ في تلك الليلة [على الساجدين] ويحتمل أن يكون المراد صلاته بالجماعة، واختلاطع بهم حال الصَّلاةِ.
ويحتمل أن يكون المراد تَقَلُّبَ بَصَرِهِ فيمن يُصَلِّي خلفه لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «أتِمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجود فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي».
ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يخفى حالك على الله - تعالى - كلما أقمت وتقلبت في الساجدين في الاشتغال بأمور الدين.
وإذا احتمل ظَاهِرُ الآية هذه الوجوه سقط ما ذكرتم.
فالجواب: لفظ الآية يحتمل الكُلِّ، ويحصل المقصود حينئذ، لأن حَمْلَ ظاهر الآية على البَعْضِ ليس بأوْلَى من البَعْضِ ومما يَدُلُّ على أن أحداً من آباء محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كانوا مُشْرِكينَ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:
«لَمْ أزَل أُنْقَلُ مِنْ أصْلابِ الطَّاهرينَ إلى أرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ». وقال تعالى: ﴿اا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] فوجب القول بأن أحداً من أجداده ما كان مشركاً، فوجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان إنْساناً آخر غير آزر.
الحُجَّةُ الثانية: أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ شَافَهَةُ بالغِلْظَةِ والجَفَاءِ، ومُشَافَهَةُ الأب بذلك لا يجوز، أما مشافهته بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ فمن وجهين:
233
أحدهما: على قراءة الضم يكون محمولاً على النداءن ونداء الأب بالاسم الأصْلِيّ من أعظم أنواع الإيذاء.
وثانهيما: إذا قلنا بأنه المعوج أو المخطئ أو اسم الصَّنم. فتسميته له بذلك من أعْطَمِ أنواع الإيذاء له، وإنما قلنا: إن مشافهة الآباء بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ لا تجوز لقوله تعالى: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: ٢٣] وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] وهذا عام في حَقِّ الأب الكافر والمسلم.
وأيضاً فلأمره - تعالى - موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين بعثه إلى فرعون [بالرِّفق مَعَهُ فقال تعالى:] ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾ [طه: ٤٤] وذلك لرعاية حَقِّ تَرْبِيَةِ فرعون لموسى فالوالد أوْلَى بالرِّفْقِ.
وأيضاً فالدعوة مع الرِّفْقِ أكثر تأثيراً في القَلْبِ، وأما التغليظ فإنه يوجب التَّنْفيرَ والبُعْدَ عن القَبُولِ؛ قال تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَن﴾ [النحل: ١٢٥] فكيف يليق بإبراهيم مثل هذه الخُشُونة مع أبيه. وأيضاً قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ [هود: ٧٥] فكيف يليق بالرَّجُلِ الحليم مثل هذا الجفاءِ مع الأب.
الحجة الثالثة: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «رُدُّوا عَلَيَّ أبِي العبَّاسَ» يعني عمه.
الحجة الرابعة: يحتمل أن آزر كان والدَ أم إبراهيم وقد يقال له: الأب؛ قال تعالى: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنعام: ٨٤] إلى قوله: ﴿وَعِيسَى﴾ [الأنعام: ٨٥] فجعل عيسى من ذُرِّيَّةِ إبراهيم، مع أن إبراهيم كان جَدَّ عيسى من قبل الأم.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حق الحسن «إنَّ ابْنِي هذا» فثبت بهذه الوجوه ان «آزر» ما كان والد إبراهيم.
والجواب عن الأوَّل أن نَصَّ الكتاب يَدُلُّ على أن آزر كان كافراً وأنه والد إبراهيم، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤].
وأما قوله: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾ [الشعراء: ٢١٩] فقد تقدم أنه يحتمل وجوهاً.
وقولهم: «وتُحْمَلُ الآية على الكل» فنقول: هذا مُحَال؛ لأن حَمْلَ اللفظ المشترك على جيمع معانيه لا يجوز، وأيضاً حمل اللفظ على حقييقته ومجازه معاً لا يجوز، وأما قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَمْ أزَل أُنْقَل مِنْ أصْلابِ الطَّاهِرِينَ إلى أرحَامِ الطَّاهراتِ».
234
فذلك مَحْمُولٌ على أنه [ما وقع في نَسَبِه] ما كان سِفَاحاً، كما وَرَد في حديث آخر «وُلِدْتُ مِنْ نكاحٍ لا مِنْ سفاحٍ».
وأما قوله: التغليط مع الأب لا يليق بإبراهيم قلت: إنما أغْلَظَ عليه لأجل إصْرَارِهِ على الكُفْرِ، وإلاَّ فهو أول ما رفق به في المُخاطَبةِ، كما ذكر في سورة «مَرْيَمَ»
﴿ياأبت
إِنِّي قَدْ جَآءَنِي﴾
[الآية: ٤٣] ﴿ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان﴾ [مريم: ٤٤] ﴿إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن﴾ [مريم: ٤٥] وهذا غاية اللُّطْفِ والرِّفْقِ، فحين أصرَّ على كُفْرِهِ اسْتَحقَّ التغليظ، وقال: ﴿ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم: ٤٦].

فصل في تحرير معنى «الصنم»


والصَّنَمُ لُغَةً: كل جُثَةٍ صُوِّرَتْ من نُحَاسٍ أو فضَّةٍ وعُبِدَتْ مُتقرِّباً بها إلى اللَّهِ وقيل: ما اتُّخِذَ من صُفْرٍ ورِمُث ونحاس وحجر ونحوها فَصَنَمٌ، وما اتخذ من خَشبٍ فوثَنٌ وقيل بل هما بمعنى واحد.
وقيل: الصَّنَمُ معرب من شمن، والصَّنم أيضاً العَبْدُ القوي، وهو أيضاً خبيث الرائحة، ويقال: صنم أي صور، ويضرب به المَثَلُ في الحُسْنِ وقال: [السريع]
٢٢١١ - مَا دُمْيَةٌ مِنْ مَرْمَرٍ صُوِّرَتْ أوْ ظَبْيةٌ في خَمَرٍ عَاطِفُ
أحْسَنَ مِنْهَا يَوْمَ قَالَتْ لَنَا والدَّمْعُ مِنْ مُقْلَتِها وَاكِفُ
لأنْتَ أحْلَى مِنْ لَذيذِ الكَرَى ومِنْ أمَانٍ نَالَهُ خَائِفُ
وقال ابن الأثير: الصَّنَمُ كُلُّ معبود من دون الله تعالى.
وقيل: ما كان له جسم أو صورة فهو صنم، وما لم يكن له جِسْمٌ أو صورة فهو وَثَنٌ وشمن.
235
«وكذلك» في هذه الآيات ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها للتشبيه، وهي في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف، فقدره الزمخشري: «ومثل ذلك التعريف والتصيير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت».
وقَدَّرَهُ المَهْدَوِيُّ: «وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم».
235
قال أبو حيان: وهذا بعيدٌ من دلالة اللفظ.
قال شهاب الدين: إنما كان بعيداً؛ لأن المحذوف من غير المَلْفُوظِ به، ولو قدره بقوله: «وكما أريناك يا محمد الهداية»، لكان قريباً لدلالة اللفظ معاً عليه.
وقدَّرهُ أبو البقاء بوجهين:
أحدهما: قال: «هو نَصْبٌ على إضمار» أرَيْنَاهُ «تقديره: وكما رآه أباه وقومه في ضلال مبين، أريناه ذلكح ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه».
الثاني: قال: «ويجوز أن يكون منصوباً ب» نرى «التي بعده على أنه صِفَةٌ لمصدر محذوف؛ تقديره نريه ملكوت السموات والأرض رُؤيةَ كرؤية ضلال أبيه» انتهى.
قال شهابُ الدين فقوله: «على إضمار أريناه» لا حاجة إليه ألْبَتَّة، ولأنه يقتضي عدم ارتباط قوله: «نري إبراهيم ملكوت» بما قبله.
الثاني: أنها للتَّعْلِيلِ بمعنى «اللام» أي: ولذلك الإنكار الصَّادرِ منه عليهم، والدعاء إلى الله في زَمَنٍ كان يُدْعَى في غير الله آلهة نريه ملكوت.
الثالث: أن «الكاف» في مَحَلِّ رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: والأمر كذلك، أي كما رآه من ضلالتهم نقل الوجهين الآخرين أبو البقاء وغيره.
و «نُرِي» هذا مضارع، والمراد به حكاية حالِ ماضيه، والتقدير: كذا نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض.
و «نري» يحتمل أن تكون المُتعدِّية لاثنين؛ لأنها في الأصل بصرية، فأكسبتها همزة النقل مفعولاً ثانياً، وجعلها ابن عطية مَنْقُولةً من «رأى» بمعنى «عرف»، وكذلك الزمخشري فإن قال فيما قدمت حكايته عنه: «ومثل ذلك التعريف نُعَرِّف».
قال أبو حيان بعد حكايته كلام ابن عطية: «ويحتاج كون» رأى «بمعنى» عرف «ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عند العربِ، والذي نقل النحويون أن» رأى «إذا كانت بصريَّة تعدَّتْ لمفعول، وإذا كانت بمعنى» علم «الناصبة لمفعولين تعدَّتْ إلى مفعولين».
قال شهابُ الدِّين: والعَجَبُ كيف خص بالاعتراض ابن عطية دون الزمخشري، وهذه الجملة المُشْتَمِلةُ على التشبيه، أو التعليل معترضة بين قوله: «وإذْ قال إبراهيمُ» منكراً
236
على أبيه وقومه عبادَةَ الأصنام، وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله - تعالى - ويجوز ألاَّ تكون معترضةً إن قلنا: إن قوله: «فلما» عطف على ما قبله، وسيأتي «والملكوت» مصدر على «فَعَلُوت» بمعنى المُلْك، وبني على هذه الزِّنَةِ، والزيادة للمبالغة.
قال القرطبي: وزيدت الواو النافية للمبالغةِ، وقد تقدم ذلك عند ذكر ﴿الطاغوت﴾ [البقرة: ٢٥٦]
والجمهور على «ملَكُوت» بفتح اللام.
وقرا أبو السَّمَّال بسكونها، وهي لغةن والجمهور أيضاً على «ملكوت» بتاء مثناة.
وعكرمة قرأها مثلثة، وقال: أصلها «ملكوثا» باليونانية أو بالنبطية.
وعن النخعي هي «ملكوثا» بالعبرانية، وعلى هذا قراءة الجمهور يحتمل أن تكون من هذا، وإنما عُرِّبَتِ الكلمة فَتَلاعَبُوا بها، وهذا كما قالوا في اليهود بأنهم سُمُّوا بذلك لأجل يَهُوذَا بن يعقوب بذال معجمة، ولكن لما عُرَّبَتْهُ العرب أوا بالدَّال المهملة، إلا أن الأحْسَنَ أن يكون مُشْتَقًّا من المُلْكِ؛ لأن هذه الزِّنَةَ وَرَدَتْ في المصادر ك «الرَّغبوت» و «الرَّهَبُوت» و «الرَّحَمُوت» و «الجَبرُوت» و «الطَّاغُوت» وهل يختص ذلك بمُلْكِ الله تعالى أم يقال له ولغيره؟.
فقال الراغب: «والملكُوت مُخْتَصٌ بمُلْكِا لله تعالى وهذا الذي ينبغي».
وقال أبو حيَّان: «ومن كلامهم: له ملكوت اليمن، وملكوت العراق»، فعلى هذا لا يختص.
والجمهور على «نرى» بنون العظمة.
وقرئ: «تُري» بتاء من فوق «إبراهيم» نصباً، «ملكوت» رفعاً، أي: تريه دلائل الربوبية، فأسند الفعل إلى الملكوت مُؤوَّلاً بمؤنث، فلذلك أنَّثَ فعله.

فصل في المراد بالآية


قال ابن عبَّاسٍ، يعني خلق السموات والأرض.
237
وقال مجاهد، وسعيد بن جبير: يعني مَلَكُوت السموات والأرض، وذلك أنه أقيمَ على صخرة وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش، وأسف الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة فذلك قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا﴾ [العنكبوت: ٢٧]، أي: أريناه مكانه في الجنة.
وروي عن سلمان ورفع بعضهم عن علي لما رأى إبراهيم ملكُوتَ السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له عَزَّ وَجَلَّ يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تَدْعُ على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني، وإما أن يبعث إليَّ فإن شئت غفرت له وإن شئت عاقبته.
وفي رواية عن ابن عباس: وأما من يتولى فإن جهنم من ورائه. وعن القاضي في هذه الرواية من وجوه:
أحدهما أن اهل السماء من الملائكة المقرّون، وهم لا يعصون الله.
وثانيها: أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المُذْنبِ إلا عن أمر الله وإذا أذن الله فيه لم يَجُزْ أن يمنعه من إجابة دعائه.
وثالثها: أن ذلك الدُّعاء إما أن يكون صواباً أو خطأ؛ فإن كان صواباً فلم ردَّهُ فيا لمرة الثانية؟ وإن كان خطأ فلم قبلهُ في المرة الأولى؟ ثم قال وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف المعقول وجب التَّوَقُّف فيها.
ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل المذنب الذي رآه كان في ملكوت الأرض. وعن الثانية بأنه يحمل أن يكون قد أذن في الدعاء على الأوَّل، ومنع في الثاني للاحتمال الذي ذكره في قوله: «يخرج منه نسمة تعبدني».
وعن الثَّالث أنَّ الدعاء للأول.
وقيل: هذه الآراء كانت بعين البصيرةِ والعقل لا بالبصر؛ لأن المَلَكُوتَ عبارة عن الملك، والملك عبارة عن القُدرةِ، والقدرة إنما تعرف بالعقل.
فإن قيل: رؤية القَلْبِ على هذا حاصلة لجمعي المُوحِّدينَ؟.
238
فالجواب: أنهم وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطِّلاعَ على آثار حِكْمَةِ الله - تعالى - في كُلِّ واحد من مَخْلُوقاتِ هذا العالم بحسب أجناسها، وأنواعها، وأشْخَاصها، وأحوالها مما لا يحصل إلاَّ لأكَابَر الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، ولهذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أرِنَا الأشْيَاء كَمَا هِيَ».

فصل في تفسير الملكوت


قال قتادةُ: «ملكوت السَّموات» : الشَّمْسُ، والقمر، والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال، والشَّجر، والبحار.
قوله: «وليكون» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن «الواو» زائدة، أي: نريه ليكون من المؤمنين بالله، و «اللام» متعلقة بالفعل قبلها، إلا أن زيادةَ «الواوِ» ضعيفة ولم يقل بها إلاَّ الأخْفَش ومن تابعه.
الثاني: أنها علَّة لمحذوف، وليكون اريناه إياه ذلك، والتقدير: وليكون من الموقنين برؤية مَلَكُوتِ السَّموات والأرض.
الثالث: أنها عطف على علَّةٍ محذوفة، أي: ليستدل وليكون، أو ليقيم الحُجَّة على قَوْمِهِ، واليقين: عبارة عن عِلْمِ يحصل بعد زال الشُّبْهِةِ بسبب التَّأمُّلِ، ولهذا المعنى لا يُوصَفُ علم الله بكونه يقيناً؛ لأنّ علمه غير مَسْبُوقٍ بالشبهة، وغير مُسْتَفَادٍ من الفِكْرِ والتأمل.
239
قوله: «فَلَمَّا جَنَّ» يجوكزظ أن تكون هذه الجملة نَسَقاً على قوله: «وإذْ قاَلَ إبْرَاهِيمُ» عطفاً للدليل على مدلوله، فيكون «وكَذلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ» معترضاً كما تقدم، ويجوز أن تكون مَعْطُوفَةً على الجملة من قوله: «وكَذلِكَ نُري إبراهيم».
قال ابن عطيَّة: «الفاء» في قولهك «فَلَمَّا رَابِطَةٌ جملة ما بعدها بما قبلها، وهي ترجح أن المراد بالملكوت التَّفْضِيلُ المذكور في هذه الآية، والأوَّل أحسن، وإليه نحا الزمخشري.
و»
جَنَّ «: سَتَرَ وقد تقدم اشْتِقَاقُ هذه المادة عند ذكر ﴿الجنة﴾ [البقرة: ٣٥] وهنا خصوصية لذكر الفِعْلِ المسند إلى الليل يقال: جَنَّ عليه الليلن وأجن عليه بمعنى: أظْلَمَ فيستعمل قاصراً، وجَنَّةُ، فيستعمل متعدياً فهذا مما اتفق فيه فَعَلَ وأفْعَلَ لزوماً
239
وتعدياً إلا أن الأجْوَدَ في الاستعمال جَنَّ عليه الليلن وأجنه الليل، فيكون الثلاثيّ لازماً وأفعل متعدياً.
ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله: [المتقارب]
٢٢١٢ - وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَى وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأدْهَمُ
ومصدره جَنٌّ وجنان وجنون.
وفرق الرَّاغِبُ بين» جَنَّه «و» أجَنَّه «، فقال: جنه إذا سترَهُ، وأجنة جعل له ما يجنه، كقولك: قَبَرْتُهُ وأقْبَرتُهُ، وسَقَيْتُهُ وقد تقدم لك شيء من هذا عند ذكر» حزن «و» أحزن « [البقرة: ٣٨] ويحتمل أن يكون» جنَّ «في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول فيها، تقدير: جَنَّ الأشْيَاء والمبصرات.
قوله:»
رَألا كَوْكَباً «هذا جواب» لمَّا «، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلافٌ كبير بالنسبة إلى الإمالةِ وعدمها، وتلخيصه أن» رأى «الثابت الألف فأمال رَاءَهُ وهمزته إمالة مَحْضَة الأخوان، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأمال الهمزة منه فقط دون الراء أبو عَمْرٍو وبكماله، وأمال السوسي بخلاف عنه عن ابن عَمْرٍو الراء أيضاً، فالسوسي في أحد وَجْهَيْهِ يوافق الجماعة المتقدمين، وأمال وَرْشٌ الراء والهمزة بَيْنَ بَيْنَ من هذا الحرف، حيث وقع هذا كله ما لم يَتِّصِلْ به ضمير نحو ما تقدم، فأما إن اتَّصَلَ به ضمير نحو: ﴿فَرَآهُ فِي سَوَآءِ﴾ [الصافات: ٥٥] ﴿فَلَمَّا رَآهَا﴾ [النمل: ١٠] ﴿وَإِذَا رَآكَ الذين﴾ [الأنبياء: ٣٦]، فابن ذكوان عنه وجهان، والباقون على أصولهم المتقدمة.
وأما»
رأى «إذا حذفت ألفه فهو على قسمين: قسم لا تعود فيه ألبتة لا وَصْلاً ولا وَقْفاً، نحو: ﴿رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ﴾ [الفرقان: ١٢] ﴿رَأَوُاْ العذاب﴾ [يونس: ٥٤] فلا إمالة في شيء منه، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو: ﴿رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ﴾ [الإنسان: ٢٠].
وقِسْمٌ حُذِفَتْ أله لالتِقَاءِ السَّاكنين وصْلاً، وتعود وَقْفاً نحو: ﴿رَأَى الْقَمَرَ﴾ [الأنعام: ٧٧] ﴿رَأَى الشمس﴾ [الأنعام: ٧٨] ﴿وَرَأَى المجرمون النار﴾ [الكهف: ٥٣] ﴿وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ﴾ [النحل: ٨٥] فهذا فيه خلاف أيضاً بين أهل الإمالة اعتباراً باللفظ تارة، وبالأصل أخرى، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عَاصِمٍ والسُّوسي بخلاف عنه وحده، وأما الهمزة فأمَالَهَا مع الراء أبو بكر والسُّوسي بخلاف عنهما، هذا كله إذا وصلت، أما إذا وقفت فإن الألف تَرْجِعُ لعدم المُقْتَضِي لِحَذْفِهَا، وحكم هذا
240
الفعل حينئذ حكم ما لم يَتَّصِلْ به سَاكِنٌ فيعود فيه التَّفْصِيلُ المُتدِّم، كما إذا وقفت على» رأى «من نحو:
﴿رَأَى القمر﴾ [الأنعام: ٧٧]. فأمَّا إمالة الرَّاء من «رأى»
فلإتباعها لإمالة الهمزة، هكذا عبارتهم، وفي الحقيقة الإمالة إنما هي الألف لانْقِلابها عن الياء، والإمالة أن تنحي بالألف نحو الياء وبالفتحة قبلها نحو الكسرة، فمن ثمَّ أن يقال: أميلت الراء لإمالة الهمزة، وأما تفصيل ابن ذَكْوَانَ بالنسبة إلى اتِّصالِهِ بالضمير وعدمه، فوَجْهُهُ أن الفعل لما اتَّصَلَ بالضمير بعدت ألفه عن الظَّرْفِ، فمل تُمَلْ.
ووجه من أمال الهمزة في «رَأى القَمَرَ» مُرَاعَاة للألف وإن كانت محذوفة، إذ حذفها عَارِضٌ، ثم منهم من اقْتَصَرَ على إمالة الهمزة؛ لأن اعتبار وُجُودهَا ضعيفٌ، ومنهم من لم يَقْتَصِرْ أعطى لها حكم الموجودة حَقِيقَةً، فأتبع الراء للهمزة في ذلك.
والكوكب: النجم، ويقال فيه كَوْكَبَةٌ.
وقال الراغب: «لا يقال فيه أي في النجم: كوكب إلا عند ظُهُوره». وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه من مادة «وَكَبَ» فتكون الكَافُ زائدةً، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني قال رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «حق كَوْكَب أن يُذكَرَ في مادة» وَكَبَ «عن حُذَّاق النحويين، فإنها وردَتْ بكاف زائدةٍ عندهم، إلا أنَّ الجوهري أوردها في تركيب» ك وك ب «ولعلَّه تبع في ذلك اللَّيْثَ، فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصْلِيَّةٌ». فهذا تصريح من الصَّغَاني بزيادة الكافن وزيادة الكاف عند النحويين لا يجوز، وحروف الزيادة مَحْصُورةٌ في تلك العشرة، فأما قولهم: «هِنْدِيُّ وهِنْدِكيّ» بمعنى واحدٍ، وهو المنسوب إلى «الهند»، وقول الشاعر: [الطويل]
٢٢١٣ - ومُقْرَبَةٍ دُهْمٍ وَكُمْتٍ كَأنَّهَا طَمَاطِمُ مِنْ فَوْقِ الوِفَازِ هَنَادِكُ
فظاهر زيادة الكاف، ولكن خَرَّجَهَا النحويون على أنه من باب «سبط وسبطر» أي: مما جاء فيه لَفْظَان، أحدهما أطول من الآخر، وليس بأصْلٍ له، فكما لا يُقَالُ: الراء زائدة باتِّفاقٍ، كذلك هذه الكاف، وكذلك قال أبو حيَّان: «وليت عشري، من حُذَّاق النحويين الذين يَرَوْنَ زيادتها لا سيَّما أول الكلمة».
والثاني: أن الكلمة كُلَّهَا أصُولٌ رباعية مما كُرِّرَتْ فيها الفاء، فوزنها فَعْفَل ك «فَوْفَل» وهو بناء قليل.
241
والثالث: ساق الرَّاغب أنه من مادة: كَبَّ وكَبْكَبَ، فإنه قال: والكَبْكَبَةُ تَدَهْوُرُ الشيء في هُوَّة، يقل: كَبَّ وكَبْكَبَ، نحو: كَفَّ وكَفْكَفَ، وصرَّ الريح وصَرْصَرَ.
والكواكب النجوم البادية، فظاهر السِّياقِ أن الواو زائدة، واكاف بَدَلٌ من إحدى الياءين وهذا غريب جداً.
قوله: «قال هذا ربي» في «قال» ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه استئناف أخبر بذلك القول، أو استفهم عنه على حسب الخلاف.
والثاني: أنه نعت ل «كَوْكَباً» فيكون في محلِّ نصب، وكيف يكون نعتاً ل «كوكباً» ولا يساعد من حَيْثُ الصِّناعةِ، ولا من حيث المعنى؟ أما الصِّناعةُ فلعدم الضمير العائد من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن ذلك خَاصُّ بباب المبتدأ والخبر، ولذلك يكثر حَذْفُ العائد من الصِّفة، ويقلُّ من الخبر، فلا يَلْزَمُ من جوازِ شيء في هذا جوازُهُ في شيء، وادِّعاء حذفت ضمير بعيد، أي قال فيه: هذا رَببَّي، وأمَّا المعنى فلا يُؤدِّي إلى أن التَّقدير: رأى كوكباً مُتَّصِفاً بهذا القَوْلِ، فقيل: هو خبر مَحْضٌ بتأويل ذكره أهْلُ التفسير.
وقيل: بل هو على حَذْفِ همزة الاستفهام، أي: أهذا ربي، وأنشدوا: [الطويل]
٢٢١٤ - لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتُ دَارِياً بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ
وقوله: [المنسرح]
٢٢١٥ - أفْرَحُ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ
وقوله: [الطويل]
٢٢١٦ - طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ وَلاَ لِعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وقوله: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢] قالوا: تقديره أبسبع؟ وأأفرح؟ وأذو؟ وأتلك؟
قال ابنُ الأنْبَارِيّ: «وهذا لا يجوز إلا حَيْثُ يكون ثمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام، إن دلَّ دليل لفظي كوجود» أم «في البيت الأول، بخلاف ما بعده». والأفُولُ: الغَيْبَةُ والذَّهَابُ؛ يقال: أفَلَ يأفُلُ أفُولاً.
قال ذو الرمة: [الطويل]
242
٢٢١٧ - مَصَابِيحُ لَيْسَتْ باللَّوَاتِي تَقُودُهَا نُجُومٌ ولا بالآفلاتِ شُمُوسُهَا
والإفَالُ: صِغَارُ الغَنَم.
والأفيلُ: الفَصِيلُ الضَّئِيلُ.

فصل في بيان رؤية الملك


قال أكثر المفسرين: أن مَلِكَ ذلك الزَّمانِ رأى رُؤيا وعبرها المعبرون بأنه يُوَلدُ غلام يكون هلاكُ مُلْكِهِ على يَدَيْهِ، فأمر بذح كُلِّ غلام يُولدُ، فحملت أمُّ إبراهيم به، وما أظهرت حَمْلَهَا للناس، فلما جاءها الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إلى كَهْفٍ في جَبَلٍ، ووضعت إبراهيم - علي السلام - وسدَّت الباب بِحَجَرٍ فجاء - جبريل - عليه السلام - وكانت الأمُّ تأتيه أحياناً تُرْضِعُهُ، وبقي على هذه الصفة حتى كَبِرَ وعَقِلَ، وعرف أنه له رَبَّا، فسأل أمه فقال لها: مَنْ رَبي؟ قالت: أنا، فقال: ومَنْ رَبُّك؟ قالت: أبوك فقال: ومن رَبُّ أبي؟ فقالت: مَلِكُ البلد.
فعرف إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جَهَالتها بربها، فنظر من باب ذلك الغارِ ليرى شيئاً يَسْتَدِلُّ به لعى وجو
الرَّبِّ - سبحانه وتعالى - فرأى النَّجْمَ الذي كان هو أضْوَءَ نجم في السماء.
فقيل: كان المشتري، وقيل: كان الزهرة، فقال: هذا ربِّي إلى آخر القِصَّةِ.
ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: هذا كان بعد البُلُوغِ، ومنهم من قال: كان هذا قَبْلَ البُلُوغِ والتكليف، واتَّقَقَ أكثر المحققين على فَسَادِ هذا القول.
وقالوا: لا يجوز أن يَكُونَ لله رَسُولٌ يأتي عليه وَقْتٌ من الأوْقَاتِ إلا وهو مُوَحِّدٌ به عارف، ومن كُلِّ معبود سواه بَرِيءٌ، وكيف يتوهَّمُ هذا على من عَصَمَهُ الله وطَهَّرَهُ وآتاه رُشدَهُ من قَبْلُ، وأخبر عنه فقال تعالى: ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤].
وأراه ملكوت السَّمواتِ والأرض، أفتراه أراه الملكُوتَ ليُوقِنَ؟ فلما أيْقَن رأى كوكباً قال: «هذا ربي» معتقداً فهذا لا يكون أبداً.
واحتجوا بوجوه:
أحدها: أن القول بِرُبُبيَّةِ الجماد كُفْرٌ بالإجماع، والكفر لا يجوز على الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - بالإجماع.
والثاني: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان قد عرف رَبَّهخُ قَبْل هذه الواقعة
243
بالدليل؛ لأن أخبر عنه أنه قال قَبل هذه الواقعة لأبيه آزر ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: ٧٤].
الثالث: ؛كي عنع أنه دعا أباه إلى التَّوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصْنامِ بالرِّفْقِ حيث قال: ﴿ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباهُ إلى التوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصنام بالكلام الخشن، ومن المعلوم أن من دعا غَيْرَهُ إلى الله، فإنه يُقَدِّمُ الرِّقْقَ على العُنْفِ، ولا يخوض في التَّغْلِيظِ إلا بعد اليَأسِ التام، فدلَّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مراراً، ولا شكَّ أنه إنما اشْتَغَلَ بدعوة أبيه بعد فراغِهِ من مُهْمِّ نفسه، فَثَبَتَ أن هذه الواقعة إنما وَقَعَتْ بعد أن أراه الله مَلَكُوتَ السَّمواتِ والأرض، ومن كان مَنْصِبُهُ في الدِّين كذلك، وعلمه بالله كذلك، فكيف يليق به أن يعتقد ألُوهيَّة الكواكِبِ؟
الرابع: أنَّ دلائل الحُدُوثِ في الأفْلاكِ ظَاهِرَةٌ من وجوه كثيرة، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العُقلاءِ نَصِيباً من العَقْلِ والفَهْمِ أن يقول بربوبية الكواكب فَضْلاً عن أعْقَلِ العُقلاءِ، وأعْلَمِ العلماء؟
الخامس: أنه قال في صفته ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٥١] أي: آتيناه رشده من قَبْلِ أوَّل زمان الفكرة وقوله «وكنا به عالمين» أي بطهارته وكمالهن ونظيره قوله تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].
السادس: قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين﴾ [الأنعام: ٧٥] أي: بسبب بتلك الإراءة يكون من الموقنين، ثم قال بعده: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل﴾ و «الفاء» تقتضي الترتيب، فدلَّت الفاء في قوله: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل﴾ على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربِّهِ.
السابع: أن هذه الواقعة إنما حَصَلَتْ بسبب مُنَاظَرَةِ إبراهيم عليه السلاة والسلام مع قومه، لأنه - تعالى - لما ذكر هذه القصة قال:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] ولم يقل: على نفسه، فعلم أن هذه المُبَاحَثَة إنما جَرَتْ مع قومه؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجلِ أن إبراهيم - عليه السلام - كان يطْلُبُ الدِّينَ والمعرفة لنفسه.
الثامن: أن قولهم: إن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -
244
إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغَارِ باطل؛ لأن لو كان الأمْرُ كذلك، فكيف يقول: يا قوم إن بَريءٌ مما تشركون، مع أنه كان في الغارِ لا قَوْمَ ولا صَنَمَ.
التاسع: قوله: ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: ٨٠]
فكيف يُحَاجُّونك وهم لم يَرَوْهُ ولم يرهم، وهذا يَدُلُّ على أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما اشغل بالنَّظَرِ في الكواكب والشمس والقمر بعد مُخَالطةِ قومه، ورآهم يَعْبُدُونَ الأصنام، ودعَوْهُ إلى عِبَادتَهَا، فقال: «لا أحِبُّ الآفلينَ» ردَّا عليهم، وتَنْبيهاً على فَسَادِ قولهم.
العاشر: أنه - تعالى - حُكِيَ عنه أنه قال للقوم: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله﴾ [الأنعام: ٨١] وهذا يَدُلُّ على أن القوم خَوَّفُوهُ بالأصْنَام كما قال قوم هود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء﴾ [هود: ٥٤] وهذا الكلام لا يليقُ بالغَارِ.
الحادي عشر: أن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طَالِعَةً في اليوم المتقدم، ثم غَرَبَتْ، فكان ينبغي أن يستدلَّ بغروبها السَّابق على أنها لا تصلح للإلهية، وإذا بَطَلَ صَلاحيَّةُ الشمس للإلهية بطل ذلك في القمرِ والكوكب بطريق الأوْلَى.
هذا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المَعْرِفَةِ لنفسه، أما إذا قلنا: المقصود منها إلْزَامُ القَوْمِ وإلجَاؤُهُمْ، فهذا السؤال غير وَاردٍ، لأنه يمكن أن يقال: إنه إنما اتَّقَقَتْ مُكالَمَتُهُ مع القوم حالَ طُلُوع ذلك النجم، ثم امْتَدَّت المُنَاظَرَةُ إلى أنْ طَلَعَ القمر، وطلع الشمس بعده، وعلى هذا التقدير فالسُّؤالُ غير واردٍ، فثبت بهذه الدلائل الظَّاهرة أنه لا يجوز أن يقال: إن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال على سبيل الجَزْمِ «هذا ربي»، وإذا بطل بقي ها هنا احْتِمَالانِ:
الأول: أن يقال: هذا كلام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يقل: «هذا ربي» على سبيل الإخبار، بل الغَرَضُ منه أنه كان يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الكواكب، وكان مذهبهم أن الكواكب رَبُّهُمْ، فذكروا إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذلك القَوْلَ الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم، حتى يرجع إليه فَيُبْطلَهُ كما يقول الواحد منا إذَا نَاظَرَ مَنْ يقول بِقدمِ الجِسْمِ، فيقول: الجسم قَدِيمٌ فإن كان كذلك فَلِمَ نراه؟ ولم نشاهده مركّباً متغيراً؟ فقوله: الجسم قديم إعادةٌ لكلام الخَصْم حتى يلزم المُحَال عليه، فكذا هاهنا قال: «هَذَا ربِّي» حكايةً لقول الخَصْمِ، ثم ذكر عَقَيِبَهُ ما يَدُلُّ على فساده، وهو قوله: ﴿اأُحِبُّ الآفلين﴾، ويؤيد هذا أنه - تعالى - مَدَحَهُ في آخر الآية على هذه المُنَاظَرَةِ بقوله:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣].
وثانيها: أن قوله تعالى: «هَذَا رَبِّي» في زعمكم واعتقادكم، فلما غاب قال: لو كان إلهاً لما غاب كما قال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩]، أي: عند
245
نفسك وبزعمك، وكقوله تعالى: ﴿وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً﴾ [طه: ٩٧] يريد إلهك بزعمك، وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ [القصص: ٦٢] أي: في زعمهم.
وثالثها: أن المراد منه الاسْتِفْهَامُ على سبيل الإنكار، تقديره: أهَذَا ربِّي، إلا أنه أسقط حرف الاسْتِفْهَام اسْتِغْنَاءً لدلالة الكلام عليه، كقوله ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤].
ورابعها: أن يكون القول مُضْمراً فيه، والتقدير: يقولون: هذا رَبِّي، وإضمار القول كثير كقوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا﴾ [البقرة: ١٢٧] أي يقولون: ربنا، وقوله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] أي: يقولون: ما نعبدهم، فكذا ها هنا تقديره: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال لقومه: يقولون: هذا ربي، أي: هذا الذي يُدَبِّرُني وُرَبِّيني.
خامسها: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذكر هذا الكلام على سبيل الاسْتِهْزَاءِ.
سادسها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان مَأمُوراً بالدعوة، فأراد أن يَسْتَدْرِجَ القوم بهذا القول، ويعرفهم خَطَاهُمْ وجَهْلهُمْ في تعظيم ما عَظَّمُوهُ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها، فذكر كلاماً يُوهِمُ كونه مُسَاعداً لهم على مَذْهَبِهِمْ، وقلبه مطمئن بالإيمان، ومَقْصُودُهُ من ذلك أن يريهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ وبُطلانِهِ، فأراهم أنه يعظم ما عظموه، فلما أفَلَ أراهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على النجوم ليريهم، ويثبت خَطَأ ما يدَّعُون كمثل الحواري الذي وَرَد على قَوْمِ يعبدون الصَّنَمَ فأظْهَرَ تعظيمه فأكرموه حتى صدروا عن رأيِهِ في كثير من الأمُورِ إلى أن دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ فَشَاوَرُوُه في أمْرِهِ، فقال: فلما تبيَّنَ لهم أنه لا يَنْفَعُ ولا يدفعن دعاهُمْ إلى أن يَدْعُوا الله، فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يَحْذَرُونَ وأسلموا.
وأعلم أن المأمور بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المُكْرَهِ على كلمة الكفرن وهو عن الإكرام يجوز إجاء كلمة الكُفْرِ على اللسان؛ قال تعالى ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾ [النحل: ١٠٦] وإذا جاز ذكر كلمة الكُفْرِ لإصلاح بقاء شخص واحد فَبِأنْ يجوز إظهار كلمة الكُفْرِ لتخليص عالم من العقلاء عن الكُفْرِ والعقاب المُؤبَّدِ أوْلى.
وأيضاً المُكُرَةُ على ترك الصلاة، ثم صلَّى حتى قتل، استحقَّ الأجْرَ العظيم، ثم إذا كان وقْتُ القتالِ مع الكفار، وعلم أنه لو اشتغل بالصَّلاةِ انهزم عَسْكَرُ الإسلام وجب عليه تَرْكُ الصَّلاةِ، والاشتغال بالقتال، حتى لو صلَّى وترك القتال أثِمَ، ولو ترك الصلاة وقاتل، استحق الثُّوابَ، بل نقول: إنَّ مَنْ كان في الصلاة ورأى طِفْلاً، أو أعمى أشرف على الحَرْقِ أو غَرَقٍ، وجب عليه قَطْعُ الصلاة لإنقاذ الطفلِ، والأعمى من البلاءن فكذا ها هنا
246
تكلم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بهذه الكلمات ليظهر من نفسه مُوافقةَ القوم، حتى إذا أورد عليهم الدَّليل المُبْطل لقولهم، كان قَبُولُهُمْ لذلك الدليل أتَمَّ، وانتفاعهم به أكْمَلَ، ويقوي هذا الوجه أنه - تعالى - حكى عنه مثل هذا الطريق في قوله:
﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ [الصافات: ٨٨ - ٩٠].
وذلك لأنهم كانوا يَسْتَدِلُّونَ بِعِلْمِ النجوم على حصول الحوادثِ المستقبلة، فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظَّاهرِ، مع أنه كان بِرِيئاً عنه في الباطنِ، ومقصود أن يتوسَّل بهذا الطريق إلى كَسْرِ الأصنام، فإذا جازكت المُوافقةُ في الظاهر هاهنا مع كونه بريئاً عنه في الباطِنِ، فلمَ لا يجوز أن يكون في مَسْألَتِنَا كذلك. ؟
وأما الاحتمال الثاني: فهو أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذكر هذا الكلامَ قبل البلوغ، وتقريره أن يقال: كان قَدْ خُصَّ إبراهيم - عليه السلام - بالعقل الكامل، والقَريحةِ الصَّافية، فخطر ببالِهِ قبل بلوغه إثبات الصانع - تعالى - فتفكَّرَ فرأى النجوم، فقال: «هَذّا رَبِّي» فلمَّا شاهد حَرَكاتِهِ قال: «لا أحِبُّ الآفلين» ثم إنه - تعالى - أكمل بلوغه في قوله تعالى: ﴿قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨].
والاحتمال الأول أوْلَى بالقبول؛ لما ذكرنا من الدلائل.
فإن قيل إن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - استدلَّ بافُولِ الكواكب، على انه لا يجوز أن يكون رَبَّا له، والأفُولُ عبارة عن غَيْبُوبَةِ الشيء بعد ظهوره فيدلُّ على الحدوث من حيث إنه حركة، وعلى هذا التقرير فيكون الطُّلُوعُ أيضاً دليلاً على الحدوث، فَلِمَ ترك إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الاسْتدلال على حدوثها بالطلوع، وعوَّل في إثبات هذا المطلوب على الأفُولِ؟
الجواب: أن الطلومع والأفُولَ يشتركان في الدلالة على الحدوث، إلا أن الدَّليلَ الذي يحتج به الأنبياء في مَعْرَضِ دعوة الخَلْقِ كلهم إلى الله لا بُدَّ وأن يكون ظاهراً، بحيث يشترك في فَهْمِهِ الذَّكِيُّ والغَبِيُّ، والعاقل والغافل، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يَقِينيَّةً إلا أنها دَقِيقَةٌ لا يعرفها إلا الأفَاضِلُ من الخَلْقِ، أما دلالة الأفُولِ على هذا المقصود، فإنها ظَاهِرةٌ يعرفها كل أحَدٍ، فإن الآفِلَ يزول سُلْطَانُهُ وَقْتَ الأفُولِ، حيث إن الأفول غيبوبة، فإن الإله المَعْبُودَ العالم لا يغيب، ولهذا استدلَّ بظهور الكواكب، وبُزُوغِ القمر والشمس على الإلهية، واستدلَّ بأفوالهم على عدِم الإلهية، ولم يتعرض للإستدلال بالحركة، وهل هي تَدُلُّ على الحدوث أم لا؟
قال ابن الخطيب: وفيه دقيقة وهو أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما كان يُنَاظِرُهُمْ
247
وهم كانوا مُنَجِّمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان الرُّبْعِ الشرقي، ويكون صاعداً إلى وسطِ السماء كان قويَّاً عظيم التأثير، أما إذا كان غربيَّا وقريباً ومن الأفُولِ، فإنه يكون ضَعيفَ الأثَر قليل القُوَّة، فَنَبَّهَ بهذه الدقيقة على ان الإله هو الذي تتغير قُدْرَتُهُ إلى العَجْزِ، وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الرُّبْعِ الغربي يكون ضعيف القوة، ناقص التأثيرن عاجزاً عن التَّدبير، وذلك يَدُلُّ على القَدْح في إلهيته، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مَزِيدَ خاصية في كونه موجباً لِلْقَدْح في إلهيته والله أعلم.
فإن قيل: إن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بنهارٍ وليل، فكان أفُولُ الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السَّابق والنهار السابق، وبهذا التقدير لا يبقى للأفولِ الحاصل في تلك الليلة فَائدةٌ؟
فالجواب: أنا قد بَيَّنَّا أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أورد هذا الدَّليلَ على القوم الذين كان يدعوهم من عِبَادَةِ النجم إلى التوحيد، فلا يَبْعُدُ أن يقال: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي، فَزَجرهُمْ عن عبادة الكواكب، فبينا هو في تَقْريرِ ذلك الكلام، إذ رفع بَصَرَه إلى كوكب مُضيء، فلما أفَلَ قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انْتَقَلَ من الصُّعُودِ إلى الأفُولِ ومن القُوَّةِ إلى الضعف، ثم في أثناء ذلك الكلام طَلَع القمر وأفَلَ فأعاد عليهم ذلك، وكذا القول في الشمس.

فصل في الدلالة في الآية


دَلَّت الآية على أحكام:
أحدها: دلَّتْ على أنه ليس بِجِسْمٍ، إذ لو كان جِسْماً غائباً أبداً لكان آفلا أبداً.
وأيضاً يمتنع أن يكون - تعالى - بحيث ينزل من العَرْشِ إلى السماء تَارةً، ويصعد من السماء إلى العرش أخرى، وإلاَّ يحصل معنى الأفول.
وثانيها: دَلَّتِ الآية على أنه - تعالى - ليس مَحَلاً للصِّفاتِ المحدثة، كما يقول الكرامية، وإلاَّ لكان متغيراًن وحينئذ يحصل معنى الأفولِ، وذلك مُحَالٌ.
ثالثها: دلَّتِ الآية على أنَّ الدين يجب أن يكونم مَبْنِياً على الدليل، لا على التَّقْلِيدِ، وإلاَّ لم يكن لهذا الاسْتِدْلالِ فَائِدَةٌ.
ورابعها: دلَّتِ الآية على أن معارف الأنبياء بربِّهِمُ اسْتِدْلاليَّةٌ لا ضرورية، وإلاَّ لما احتاج إبراهيم - عليه السلام - إلى الاستدلال.
وخامسها: دلَّتِ الآية على أنه لا طَرِيقَ إلى تحصيل معرفة الله - تعالى - إلاَّ بالنَّظَرِ
248
والاستدلال في أحْوالِ مخلوقاته، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخَر لما عدلَ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهذه الطريقة.
249
«بَازِغاً» حالٌ من «القمر» والبزوغ: الطُّلُوع، يقال: بَزَغَ بفتح الزاي: يَبْزُغ بضمها بزوغاً، والبُزُوغُ: الابتداء في الطلوع.
قال الأزهري: كأنه مأخوذ من البَزْغ وهو الشَّقُّ كأنه بنُورِهِ يِشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقاً، ويستعمل قاصراً ومتعدياً، يقال: بَزَغَ البَيْطَارُ الدَّابَّةَ، أي: أسال دَمَها، فبزغ هو، أي: سال، هذا هو الأصل.
ثم قيل لكل طلوع: بزوغ، ومنه بَزَغَ نَابُ الصبي والبغير تَشْبيهاً بذلك.
والقمر معروف سُمِّيَ بذلك لِبَيَاضِهِ، وانشار ضَوْئِهِ، والأقْمَرُ: الحمار الذي على لون الليلة القمراء، والقَمرَاءُ ضوء القمر.
وقيل سُمِّيَ القمر قمراً؛ لأنه يقمر ضوء الكواكب ويفوز به، واللَّيَالي القُمْرُ: ليالي تَدَوُّرِ القمر، وهي الليالي البِيضُ؛ لأن ضوء القمر يستمر فيها إلى الصباح.
قيل: ولا يقال له قمراً إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هِلالٌ على خلاف بين أهل اللغة تقدم في البقرة عند قوله: ﴿عَنِ الأهلة﴾ [البقرة: ١٨٩] فإذا بلغ بعد العشر ثالث ليلة، قيل له: «بدر» إلى خامس عشر.
ويقال: قمرت فلاناً، أي: خدعته عنه، وكأنه مأخوذ من قَمِرَت القِرْبَةُ: فَسَدَت بالقَمْراء.
قوله: ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي﴾ يدلُّ على أن الهدايةَ ليست إلاَّ من الله، ولا يمكن حمل لفظ الهداية إلا على التمكينن وإزاحة الأعْذَارِ، ونَصْبِ الدلائل؛ لأن كل ذلك كان حاصلاً لإبراهيم عليه السلام.
إنما ذكر اسم الإشارة مذكراً والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه:
إما ذهاباً بها مذهب الكواكب، وإما ذهاباً بها مذهب الضوء والنور، وإما بتأويل الطَّالع أو الشخص؛ كما قال الأعشى: [السريع]
249
٢٢١٨ - قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ مَنْ لِيَ بَعْدكَ يَا عَامِرُ
تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ قَدْ ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرُ
أو الشيء، أو لأنه لما أخبر عنها بمذكَّرٍ أعْطِيَتْ حُكْمَه؛ تقول: هند ذاك الإسنان وتيك الإنسان؛ قال: [البسيط]
٢٢١٩ - تَبِيتُ نُعْمَى عَلَى الهِجْرَانِ غَائِبَةً سَقْياً ورعْياً لِذاكَ الغَائِبِ الزَّاري
فأشار إلى «نعمى» وهي مؤنث إشارة المُذكرِ بوصف الذكورن أو لأن فيها لُغَتَيْنِ: التذكير والتأنيث، وإن كان الأكثر التأنيث، فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فانَّث في قوله: «بازغة»، وذكَّرَ في قوله: «هذا».
وقال الزمخشري: «جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارةً عن شيء واحد؛ كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، و ﴿لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا﴾ [الأنعام: ٢٣] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرَّبِّ عن شُبْهَةِ التأنيث، إلا تَرَاهُمْ قالوا في صفة الله: علاَّم، ولم يقولوا: عَلاَّمة، وإن كان أبْلَغَ، احترازاً من علامة التأنيث».
قلت: وهذا قريبٌ مِمَّا تقدَّم في أن المؤنث إذا أخبر عنه بمذكَّرِ عومل معاملة المُذكَّرِ، نحو: «هند ذاك الإنسان».
وقيل: لأنها بمعنى: هذا النَّيِّر، أو المرئي.
قال أبو حيَّان: «ويمكن أن يقال: إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر، ولا في الإشارة بين المُذَكَّرِ والمؤنث سواء، فلذلك اشار إلى المؤنَّثِ عندنا حين حكى كلام إبراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بِفَرْجِ لم يكن له علامة تَدُلُّ عليه في كلامهم، وحين أخبر - تعالى - عنها بقوله:» بَازِغَةً «و» افَلَتْ «أتت على مقتضى العربية، إذ ليس ذلك بحكاية» انتهى.
وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بِعَيْنِهِ في لغتهم، أما شيء يعبر عنه بلغة العرب، ويعطى حكمه في لغة العَجَمِ، فهو مَحَلُّ نَظَرٍ.

فصل في بيان سبب تسمية العبرية والسريانية.


قال الطبري: إن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما نطق بالعبرانية حين عَبَرَ النَّهْرَ فاراً من النَّمْرُودِ حيث قال للذين أرسلهم في طلبه: إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فأتُونِي
250
به، فلما أدْرَكُوُ اسْتَنْطَقُوهُ، فَحوَّلَ الله نُطْقَهُ لساناً عربياً، وذلك حين عبر النَّهْرَ، فسميت العبرانية لذلك.
وأما السُّرْيَانِيَّةُ فذكر ابن سلام أنها سميت بذلك؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - حين علم آدم الأسماءَ علَّمهُ سِرَّا من الملائكة، وأنطقه بها حنيئذ، فَسُمِّيتِ السريانية لذلك، والله أعلم.
قوله: «هَذَا أكْبَرُ» أي: أكبر الكواكب جِرْماً، وقواها قولة، فكان أوْلَى بالإلهية، قوله: ﴿إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ «ما» مصدرية، أي: بريء من إشراككم، أو موصولة أي: من الذين يشركونه مع الله في عبادةته، فحذف العائدن ويجوز أن تكون الموصوفة والعائد محذوف أيضاًن إلا أنَّ حَذْفَ عائد الصِّفَةِ أقل من حَذْفِ عائد الصِّلة، فالجملة بعدها لا محلًّ لها على القولين الأوَّليْنِ، ومحلها الجر على الثالث، ومعنى الكلام أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للرُّبُوبيَّةِ والإلهية، لا جَرَمَ تبَرَّأ من الشِّرْكِ.
فإن قيل: هَبْ أن الدليل دَلَّ على أن الكواكب لا تصلح للربوبية، لكن لا يلزم من هذا نَفْيُ الشرك مطلقاً؟
فالجواب: أن القوم كانوا مُسَاعدين على نَفْي سائر الشُّركاءِ، وإنما في هذه الصورة المعينة، فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشْياءَ ليست أرْبَاباً، وثبت بالاتفاق نَفْيُ غيرها، لا جرم حصل الجَزْمُ بنفي الشركاء.
251
المراد: وجهت عبادتي وطاعتي لعبادته ورضاه، كأنهم نَفوا بذلك وَهْمَ من يَتَوهَّمُ الجهة، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مُطِيعاً لغيره مُنْقَاداً لأمره، فإنه يتوجَّه بوجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كِنايةً عن الطاعة.
وفتح الباء من وجهي نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، والباقون تركوا هذا الفتح.
قوله: «لِلَّذي فَطَرَ» فدروا قبله مُضافاً؛ أي: وجهت وَجْهِي لعبادته كما تقدم و «حنيفاً» حال من فاعل «وجَّهْتُ».
وقد تقدَّم تفسير هذه الألفاظ، و «ما» يحتمل أن تكون الحجازية، وأن تكون التميمية.
لما أورد إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الحُجَّة عليهم المذكورة، أورد القوم عليه جُجَجاً على صحة أقوالهم:
منها: أنهم تَمَسَّكُوا بالتقليد، كقولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢] وكقولهم للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥] وكقول قوم هود: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء﴾ [هود: ٥٤] فذكروا من جِنْس هذا الكلام، وإلا فالله - تعالى - لم يَحْكِ محاجتهم.
فأجاب الله - تعالى - عن حُجَّتِهِمْ بقوله تعالى - ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله﴾.
قرأ نافع، وابن ذكوان، وهشام بخلاف عنه بنون خفيفة، والباقون بنون ثقيلة، والتثقيل هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة، والثانية نون الوقاية، استثقل اجتماعهما، وفيهما لغات ثلاث: الفَكُّ وتركهما على حالهما، والإدغام، والحذف، وقد قرئ بهذه اللغات كلها في قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا﴾ [الزمر: ٦٤] وهنام لم تقرأ إلا بالحذف أو الإدغام، ونافع بالحذف، والباقون يفتحون النون، لأنها عندهم نون رفعن وفي سورة النحل: ﴿تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ [آية: ٢٧] بفتح النون عند الجمهور، لأنها نون رفع، وثرؤه نافع بنون مكسورة خفيفة على الحذف، فنافع حذف إحدى النونين في جميع المواضع المذكورة فإنه يقرأ في الزُّمر أيضاً بحذف أحدهما:
وقوله تعالى: ﴿أتعدانني﴾ في الأحقاف [آية: ١٧] قرأه هشام بالإدغام، والباقون بالإظهار دون الحذف.
واختلف النحاة في أيَّتهما المحذوفة؛ فمذهب سيبويه ومن تبعه أن المحذوفة
252
هي الأولى واستدلَّ سيبويه على ذلك بأن نون الرفع قد عُهِدَ حذفها دون مُلاقاةِ مِثْلِ رفعاً؛ وأنشد: [الطويل]
٢٢٢٠ - فإنْ يَكُ قَوءمٌ سَرًّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ سَتَحْتَلِبُوهَا لاقِحاً غَيْرَ بِاهِلِ
أي: فَسَتَحْتَلِبُونَهَا، لا يقال: إن النون قد حذفت جَزْماً في جواب الشرط؛ لأن الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاًن وإذا تقرر وجوب الفاءن وإنما حذفت ضَرُورةً ثبت أن نون الرفع كان من حقها الثبوت، إلا أنها حذفت ضرورة، وأنشدوا أيضاً قوله: [الرجز]
٢٢٢١ - أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكِي وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والْمِسْكِ الذّكِي
أي: تبيتين وتدلكين.
وفي الحديث: «والَّذِي نَفْسِي بَيدهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حَتَّى تُؤمِنُوا ولا تُمِنُوا ولا تُؤمنُوا حتَّى تَحَابُّوا» ف «لا» الدّاخلة على «تدخلوا» و «تؤمنوا» نافية لا ناهية لفساد المعنى عليه، وإذا ثبت حَذْفُهَا دون مُلاقاة مِثْلٍ رفعاً فلأن تحذف مع ملاقاة مِثلٍ في فَصيح الكلام؛ كقراءة أبي عمرو ﴿يَنصُرْكُم﴾ [آل عمران: ١٦٠] و ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٩] ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧] وبابه بسكون آخر الفعل، وقوله الشاعر: [السريع]
٢٢٢٢ - فَاليْومَ أشْرَبْ غَيْرُ مُسْتَحْقِبٍ إثْماً مِنْ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ
وإذا ثبت حذف الأصْلِ، فليثبت حذف الفَرْعِ لئلا يلزم تَفْضِيلُ فَرْعِس على أصله، وأيضاً فإنَّ ادِّعاءَ حذف نوع الرفع لا يُحْوِجُ غلى حَذْفٍ آخرن وحذف نون الوقاية قد يُحْوِجُ إلى ذلكن وبيانه بأنه إذا دَخَلَ نَاصِبٌ أو جازم على أحد هذه الأمثلة، فلو كان المحذوف نُونَ الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النون، وهي تسقط للناصب والجازم، بخلاف ادِّعاءِ حذف نون الرفع، فإنه لا يحوج إلى ذلك؛ لأنه لا عمل له في الَّتِي للوقاية.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من جوازِ حذفت الأصل حَذْفُ الفرع؛ لأن في الأصل قوة تقتضي جوازَ حذفه، بخلاف نون الوقاية، ودخول الجازم والناصب لم نجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حذفت لعارِضٍ آخر.
واستدلُّوا لسيبويه بأن نون الوقاية مَكْسُورةٌ، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغيير، بخلاف ما لو ادَّعَيْنَا حذفها، فإنَّا يلزمنا تغيير نون الرفع من فتح إلى كسر، وتعليل العمل أوْلى، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها، وإن لم تكن نون وقاية؛ كقوله: [البسيط]
253
٢٢٢٣ - كُلُّ نِيَّةٌ في بُغْضِ صَاحبهِ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا
أي: وتَقْلُونَنَا، فاملحذوف نون الرفع لا نون «ن» ؛ لأنها ضميرن وعورض هذا بأن نون الرفع ايضاً لها قوة لدلالتها على الإعرابن فحذفها أيضاً لا يجوز، وجعل سيبويه المحذوفة من قول الشاعر: [الوافر]
٢٢٢٤ - تَرَاهُ كالثَّغَامش يُعَلُّ مِسْكاً... يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلضيْنِي
نون الفاعنل لا نون الوقاية، واستدلَّ الأخفش بأن الثقل إنما حصل بالثانية؛ ولأنه قد استْتُغْنِيَ عنها، فإنه إنما أتى بها لِتَقِيَ الفعل من الكسر، وهو مَأمُونٌ لوقوع الكسْرِ على نون الرفع، ولأنها لا تَدُلُّ على معنى، بخلاف نون الرفع، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو ليتنين فيقال: ليتي؛ كقوله: [الوافر]
٢٢٢٥ - كَمُنْيَةِ جَابِرٍ إذْ قَالَ: لَيْتِي... أصَادِفُهُ وأتْلِفُ بَعْضَ مَالِي
واعلم أن حَذْفَ النون في هذا النحو جائز فصيح، ولا يلتفت إلى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ من ذلك إلاَّ في ضرورة أو قليل من الكلام، ولهذا عيبَ على مكي بن ابي طالب حيث قال: «الحذف بِعِيدٌ في العربية فبيح مكروه، وإنما يجوز في الشعر لِلْوزْنِ، والقرآن لا يحتمل ذلك فيهح إذ لا ضرورة تدعو إليه».
وتَجَاسَرَ القولان مَرْدُودَانِ عليهما؛ لتواتر ذلك، وقد تقدم الدليل على صِحَّته لغة.
وأيضاً فإن الثِّقات بت «أتُحَاجُّونِّي» لا ب «حَاجَّهُ»، والمسألة من باب التَّنَازُعِ، وأعْمِلَ الثاني؛ لأنه لمَّا أضمر في الأول حذف، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني من غير حَذْفِ، ومثله: ﴿يَستَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ [النساء: ١٧٦] كذا قال أبو حيَّان، وفيه نظر من حيث إن المعنى ليس على تَسَلُّطِ «وَحَاجَّهُ» على قوله: «في اللَّه» ؛ إذ الظاهر انْقِطَاعُ الجملة القولية عما قبلها.
254
وقوله: «في اللَّهِ» أي: في شأنه، ووحدانيته.
قوله «وَقَدْ هَدَانيِ» أي: للتوحيد والحقن وهذه الجملة في مَحَلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ الياء في «أتحاجونني»، أي: أتجادلونني فيه حال كوني مهدياً من عنده.
والثاني: أنَّهُ حالٌ من «الله» أي: أتخاصمون فيه حال كونه هادياً لي، فحجتكم لا تُجْدِي شيئاً؛ لأنها دَاحِضَةٌ.
قوله: «ولا أخَافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، أخبر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأنه لا يخاف ما يشركون به، وإنما ثِقتُهُ برَبِّه، وكانوا قد خَوَّفُوهُ من ضَرَر يحل لَهُ بسبب سَبِّ آلهتهم.
ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال باعتبارين:
أحدهما: أن تكون ثانيةً عَطْفاً على الأولىن فتكون الحالان من اليااء في «أتُحَاجُّونِّي».
والثاني: أنها حالٌ من «الياء» في «هداني»، فتكون جملةً حاليةً من بعض جملة حاليةٍ، فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلاَّ أنه لا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع، لما تقدَّم من أنَّ الفعل المضارع المنفي بت «لا» حُكْمُهُ حُكْمُ المثبت من حيث إنه لآ تُبَاشِرُهُ الواو.
و «ما» يجوز فيها الأوحه الثلاثة: أن تكون مصدريَّة، وعلى هذا فالهاء في «به» لا تعود على «ما» عند الجمهور، بل تَعُودُ على اللَّهِ تعالى، والتقديرُ: ولا أخَافُ إشراككم باللَّهِ، والمفعول محذوف؛ أي: ما تشركون غير اللَّهِ به، وأن تكون بمعنى «الذي»، وأن تكون نَكِرَةً موصوفةً، والهاء في «به» على هَذيْنِ الوجهين تعود على «ما»، والمعنى: ولا أخاف الذين تشركون الله به، فحذف المعفول أيضاً، كما حذفه في الوجه الأوَّلِ.
وقدَّرَ أبو البقاءِ قبل الضمير مُضَافاً، فقا: ويجوز أن تكون الهاء عائدجة على «ما» أي: ولا أخافُ الذي تشركون به، ولا حاجةَ إلى ذلك.
قوله: «إلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً» في هذا الاستثناء قولان:
أظهرهما: أنه متَّصِلٌ.
والثاني: أنه منقطع، والقائلون بالاتِّصالِ اختلفوا في المستثنى منه، فجعله الزمخشري زماناً، فقال: «إلاَّ وقت مشيئة ربِّي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني: لا
255
أخافُ معبوداتكم في وقتٍ قَطُّ؛ لأنها لا تَقْدِرُ على منفعة ولا مضرَّة، إلاَّ إذا شاء رَبِّي».
وجعله أبو البقاء حالاً، فقال: تقديره إلاَّ في حال مشيئة ربِّين أيْ: لا أخافها في كُلِّ حالٍ إلاَّ في هذه الحالِ.
وممن ذهب إلى انْقِطَاعِهِ ابن عطية، والحوفي، وأبو الققاء في أحَدِ الوجهين.
فقال الحوفي: تقديره: «ولكنْ مشيئة اللَّهِ أيَّاي بضُرِّ أخاف».
وقال غيره: معناه: ولكن إن شاء ربِّي شيئاً، أي سواء فيكون ما شاء.
وقال ابن عطية: استثناءً ليس من الأوَّلِ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضُرّاً، استثنى مشيئة ربَّه في أن يريده بِضُرٍّ.
قوله: «شيئاً» يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مَنْصُوبٌ على المصدر تقديره: إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً من المَشِيئةِ.
والثاني: أنَّهُ مفعول به ل «شيئاً»، وإنما كان الأوَّلُ أظْهَرَ لوجهين:
أحدهما: أن الكلام المؤكّد أقوى وأثبت في النَّفْس من غير المؤكّد.
والثانهي: أنَّهُ قد تقدَّمَ أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكران إلاَّ إذا كان فيهما غرابة كقوله: [الطويل]
٢٢٢٦ - وَلَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ.............................

فصل في بيان معنى الاستثناء


إنما ذكر عليه الصًّلاة والسَّلام هذا الاستثناء؛ لأنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المَكَارِهِ، والحَمْقَى من الناس يحملون ذلك على أنَّهُ إنما حَدَثَ ذلك المكروه بسبب أن طَعَنَ في إليه الأصنام، فذكر إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك حتى إنَّهُ لو حَدَثَ به شيء من المَكَارِهِ لمي يحمل على هذا السبب.
وقوله: «وسِعَ ربِّي كُلَّ شَيءٍ عِلْماً» يعني: أنه عالم الغيوب، فلا يفعل إلاَّ الخير والصلاح والحكمة، فبتقدير أن يحدث من مَكَارِهِ الدنيا شيءٌ، فذلك؛ لأنه - تعالى - عرف وَجْهَ الصَّلاحِ والخير فيه، لا لأجل أنه عقوبة على الطّعن في إلهية الأصْنَام.
قوله: «علماً» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ، تقديره: «وسع علم ربّي كُلَّ شيء» كقوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] أي: شيب الرأس.
256
والثاني: أنه مَنصُوبٌ على المفعولِ المطلق، لأن معنى وَسِعَ: عَلِمَ.
قال أبو البقاء: «لأنَّ الشَّيْءَ فَقَدْ أحَاطَ به، والعالم بالشيء مُحيطٌ بعلمه».
قال شهابُ الدِّين: وهذا الَّذِي ادَّعَاهُ من المجاز بعيدٌ.
و «كل شيء» مفعول لت «وسع» على التقديرين.
و «أفَلا تَتَذَكَّرُونَ» جملة تقرير وتوبيخ، ولا مَحَلَّ لها لاستئنافها، والمعنى: أفلا تتذكرون أن نَفْيَ الشركاء والأضداد والأنداد عن اللَّهِ لا يوجبُ حلول العذاب ونزول العقاب، والسَّعْي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العذاب والعقاب.
257
قد تقدَّم الكلامُ على «كيف» في أوَّل البقرة [آية ٢٨]، و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ، في حيِّز التَّعْجُّبِ والإنكار، وأن تكون حاليةً، أي: وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين إشراككم، ولا بُدَّ من إضْمَارِ مبتدأ قبل المضراع المنفي ب «لا» لما تقدَّم غير مرَّةٍ، أيك كيف أخاف الذي تشركون، أو عاقبة إشارككم حال كونكم آمنين من مَكْرِ اللَّهِ الذي أشركتم به غيره، وهذه الجملة وإن لم يكن فيها رَابِطٌ يعود على ذِي الحالِ لا يَضُرُّ ذلك، لأن الواو بنفسها رابطة.
وانظر إلى حُسْنِ هذا النَّظْمِ السَّويِّن حيث جعل متعلّق الخَوْفِ الواقع منه الأصنام، ومتعلق الخوف الواقع منهم إشاركهم باللَّهِ غيره تَرْكاً لأن يعادل الباري - تعالى - لأصنامهم لو أبْرَزَ التركيب على هذا، فقال: «ولا تخافون اللَّه» مُقَابَلَةً لقوله: «وكيف أخافُ معبوداتكم». وأتى ب «ما» في قوله: «ما أشركتم» وفي قوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً﴾ إلاَّ أنهم غير عقلاء؛ إذ هي جماد وأحْجَارٌ وخشبٌ كانوا يَنْحِتُونَهَا ويعبدونها.
وقوله: «مَا لَمْ يُنَزَّلْ» مفعول لت «أشركتكم»، وهي موصولة اسميَّة أو نكرة، ولا تكون مَصْدريَّةً لفساد المعنى، و «به» و «عليكم»، متعلقان ب «يُنَزِّلْ» ويجوز في «عَلَيْكُمْ» وجه
257
آخر، وهو أن يكون حالاً، من «سًلْطَاناً» ؛ لأنَّهُ تَأخَّر عنه لجاز أن يكون صِفَةً.
وقرا الجمهور: «سُلْطَاناً» ساكن اللام حيث وقع، وقُرِئَ بِضَمِّهَا، وهل هي لغة مُسْتَقِلَّةٌ، فيثبت فيها بناء فعل بضم الفاء والعين، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى.
ومعنى الآية: وكيف أخَافُ الأصنام التي لا قُدْرَةَ لها على النَّفْعِ والضُّرِّ ولا تُبْصرُ ولا تَسْمَعُن وأنتم لا تخافون من الشِّرْكِ الذي هو أعظم الذنوب، وليس لكن حُجَّةٌ على ذلك.
وقوله: ﴿فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن﴾
أي: ما لكم تنكرون عَلَيَّ الأمْنَ في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمْنَ في موضع الخوفِ فقال: «فَأيُّ الفريقَيْنِ أحَقُّ» ولم يَقُل: «فايُّنَا أحَقُّ نَحْنُ أم أنتم» إلزاماً لِخَصْمِهِ بما يدَّعيهِ عليهن وأحترازاً من تَزْكِيَة نفسه، فعدل عنه إلى قوله: «فايُّ الفَريقَيْنِ أحَقُّ بالأمْنِ»، يعني: فريق المشركين أم الموحدين؟ وهذا بخلاف قول الآخر: [الكامل]
٢٢٢٧ - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعلَمَنْ أيِّي أيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ
فَلِلِّهِ فَصَاحَة القُرْآن وآدابه.
وقوله: «إنْ كُنْتُمْ» جوابه محذوف، أي: فأخبروني، ومعلّق العلم محذوف، ويجوز ألاَّ يُرَادَ له مفعول؛ أي: إن كنتم من ذوي العلم.
قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» هل هو من كلام إبراهيم، أو من كلامه قومه، أو من كلام اللَّهِ تعالى؟ ثلاثة أقوالٍ، وعلهيا يَتَرتَّبُ الإعرابُ.
فإن قلنا: إنها من كلام إبراهيم كانت جواباً عن السؤال في قوله «فأيُّ الفَريقَيْنِ».
وكذا إن قلنا: إنها كلام قومه، وأنهم أجابوا بما هو حُجَّة عليهم كأن الموصول خب مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين آمنا، وإن جعلناه من كلام اللَّهِ تعالى، وأنَّهُ أمَرَ نَبِيَّهُ بأن يجيب به السُّؤال المتقدم، فكذلك أيضاً.
وإن جعلناه لِمُجَرَّدِ الإخبار من الباري - تعالى - كان الموصول مبتدأ، وفي خبره أوجه:
أحدهما: أنه الجملة بعده، فإن «أولئك»، و «أولئك» مبتدأ ثانٍ، و «الأمن» مبتدأ ثالث، و «لهم» خبره، والجملةُ خَبَرُ «أولئك»، و «أولئك» وخبره خبر الأوَّلِ.
الثاني: أن يكون «أولئك» بَدَلاً أو عطف بَيَان، و «لهم» خبر الموصول، و «الأمن فاعلٌ به لاعتماده.
258
الثالث: كذلك، إلا أنَّ» لهم «خبرٌ مقدَّم، و» الأمن «مبتدأ مؤخر، والجُمْلَةُ خبر الموصُول.
الرابع: أن يكون»
أولئك «مبتدأ ثانياً، و» لهم «خبره، و» الأمن «فاعل به، والجملةُ خبر الموصول.
الخامس: وإليه ذهب أبو جَعْفَرٍ النحاسُ، والحوفي أن»
لهم الأمن «خبر الموصول، وأن» أولئك «فَاصِلَةٌ، وهو غريب؛ لأن الفَصْلَ من شأنِ الضمائر لا من شَأنِ أسماء الإشارة.
وأمَّا على قولنا بأن»
الذين «خبر مبتدأ محذوف، فيكون» أولئك «مبتدأ فقط، وخبره الجملة بعده، أو الجار وَحْدَهُ، و» الأمْن «فاعل به، والجملة الأولى على هذا مَنْصُوبةٌ بقولٍ مُضْمَرٍ، أي: قُلْ لهم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليلن أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه.
قوله:»
وَلَمْ يَلْبِسُوا «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلةِ، فلا مَحضلِّ لها حينئذٍ.
والثاني: أن تكون الواو للحال، الجملة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: آمنوا غير مُلْبسينَ بِظُلْم.
وهو كقوله تعالى: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [مريم: ٢٠]، ولا يُلْتَفَتُ إلى قول ابن عصفور، حيث جعل وقوع الجُمْلَةِ المنفية حالاً قليلاً، ولا إلى قَوْلِ ابن خَرُوفٍ، حيث جعل الواو واجِبَة الدخول على هذه الجملة، وإن كان فيها ضَمِيرٌ يعود على الحالِ.
والجمهور على»
يَلْبِسُوا «بفتح الياء بمعنى» يخلطونه «.
وقرأ عكرمةُ بضمها من الإلْبَاسِ.»
وهُمْ مُهْتَدُونَ «يجوز اسْتِئْنَافُهَا وحاليتها.

فصل في تفسر الآية


روى عَلْقَمَة عن عَبْدِ اللَّهِ قال: لما نزلت ﴿الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ شقَّ ذلك على المُسلمينَ، فقالوا: يا رسول اللَّهِ، فأيُّنَا لا يَظْلِمُ نفسه، فقال: لَيْسَ ذلِكَ، إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، ألَمْ تَسْمَعُوا إلى ما قال لُقْمان لابنه: ﴿يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
259
قوله :" الَّذِينَ آمَنُوا " هل هو من كلام إبراهيم، أو من كلام قومه، أو من كلام اللَّهِ تعالى ؟ ثلاثة أقوالٍ، وعليها يَتَرتَّبُ الإعرابُ.
فإن قلنا : إنها من كلام إبراهيم كانت جواباً عن السؤال في قوله " فأيُّ الفَريقَيْنِ ".
وكذا إن قلنا : إنها كلام قومه، وأنهم أجابوا بما هو حُجَّة عليهم كأن الموصول خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هم الذين آمنوا، وإن جعلناه من كلام الل‍َّهِ تعالى، وأنَّهُ أمَرَ نَبِيَّهُ بأن يجيب به السُّؤال المتقدم، فكذلك أيضاً.
وإن جعلناه لِمُجَرَّدِ الإخبار من الباري - تعالى – كان الموصول مبتدأ، وفي خبره أوجه :
أحدها : أنه الجملة بعده، فإن " أولئك "، و " أولئك " مبتدأ ثانٍ، و " الأمن " مبتدأ ثالث، و " لهم " خبره، والجملةُ خَبَرُ " أولئك "، و " أولئك " وخبره خبر الأوَّلِ.
الثاني : أن يكون " أولئك " بَدَلاً أو عطف بَيَان، و " لهم " خبر الموصول، و " الأمن " فاعلٌ به لاعتماده.
الثالث : كذلك، إلا أنَّ " لهم " خبرٌ مقدَّم، و " الأمن " مبتدأ مؤخر، والجُمْلَةُ خبر الموصُول.
الرابع : أن يكون " أولئك " مبتدأ ثانياً، و " لهم " خبره، و " الأمن " فاعل به، والجملةُ خبر الموصول.
الخامس : وإليه ذهب أبو جَعْفَرٍ النحاسُ، والحوفي أن " لهم الأمن " خبر الموصول، وأن " أولئك " فَاصِلَةٌ، وهو غريب ؛ لأن الفَصْلَ من شَأنِ الضمائر لا من شَأنِ أسماء الإشارة.
وأمَّا على قولنا بأن " الذين " خبر مبتدأ محذوف، فيكون " أولئك " مبتدأ فقط، وخبره الجملة بعده، أو الجار وَحْدَهُ، و " الأمْن " فاعل به، والجملة الأولى على هذا مَنْصُوبةٌ بقولٍ مُضْمَرٍ، أي : قُلْ لهم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليل، أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه.
قوله :" وَلَمْ يَلْبِسُوا " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلةِ، فلا مَحلَّ لها حينئذٍ.
والثاني : أن تكون الواو للحال، الجملة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، أي : آمنوا غير مُلْبسينَ بِظُلْم.
وهو كقوله تعالى :﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ [ مريم : ٢٠ ]، ولا يُلْتَفَتُ إلى قول ابن عصفور، حيث جعل وقوع الجُمْلَةِ المنفية حالاً قليلاً، ولا إلى قَوْلِ ابن خَرُوفٍ، حيث جعل الواو واجِبَة الدخول على هذه الجملة، وإن كان فيها ضَمِيرٌ يعود على الحالِ.
والجمهور١ على " يَلْبِسُوا " بفتح الياء بمعنى " يخلطونه ".
وقرأ٢ عكرمةُ بضمها من الإلْبَاسِ. " وهُمْ مُهْتَدُونَ " يجوز اسْتِئْنَافُهَا وحاليتها.

فصل في تفسير الآية


روى عَلْقَمَةُ عن عَبْدِ اللَّهِ قال : لما نزلت ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ شقَّ ذلك على المُسلمينَ، فقالوا : يا رسول اللَّهِ، فأيُّنَا لا يَظْلِمُ نفسه، فقال : لَيْسَ ذلِكَ، إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، ألَمْ تَسْمَعُوا إلى ما قال لُقْمان لابنه :﴿ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾٣ [ لقمان : ١٣ ].
١ ينظر: الدر المصون ٣/١٦٣، البحر المحيط ٤/١٧٦..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/١١٣، البحر المحيط ٤/١٧٦..
٣ أخرجه البخاري ١/١٠٩ كتاب الإيمان: باب ظلم دون ظلم (٣٢) وفي ٦/٤٨ كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾ (٣٣٦٠) وفي ٦/٥٣٧ (٣٤٢٨)، (٣٤٢٩)..
«تلك» إشارة إلى الدَّلائل المُتقدِّمة من قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام: ٧٥] إلى قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ [الأنعام: ٧٩]
وقيل: إشارة إلى القَوْم لمَّا خَوَّفُوُ بأنَّ آلهتَهُمْ تُخْبِلُهُ لأجل شَتْمِهِ إيَّاها، فقال لهم: أفلا تَخَافُونَ أنتم حيث أقْدَمْتُمْ على الشرك باللَّهِ، وسوَّيْتُمْ في العبادة بين الخالقِ العالم ومُدبِّرِهِ، وبين الخشب المَنْحُوتِ.
وقيل: إشارة إلى الكُلِّ.
ويجوز في «حُجَّتنا» وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر المبتدأ، وفي «آتيْنَاهَا» حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ، والعامِلُ فيها معنى الإشارة، ويَدُلُّ على ذلك التَّصْرِيحُ بوقوع الحال في نظيرتها. كقوله تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ [النمل: ٥٢].
والثاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَبَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة.
والثَّاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَيَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة.
والثَّاني من الوَجْهِيْنِ الأوَّلين: أن تكون «حُجَّتُنَا» بدلاً أو بَيَاناً ل «تلك»، والخبر الجملة الفعلية.
وقال الحوفي: «إن الجملة مِنْ» آتَيْنَاها «في مَوْضِع النعت ل» حُجَّتُنَا «على نِيَّةِ الانْقِصَالِ؛ إذ التقدير: حُجّة لنا» يعني الانفصال من الإضافة لِيَحْصُلَ التنكيرُ المُسَوِّغُ لوقوع الجُمْلَةِ صِفَةً ل «حُجتنا» وهذا لا ينبغي أن يقال.
وقال أيضاً: إنَّ «إبراهيم» مفعول ثانٍ ل «آتَيْنَاهَا»، والمفعول الأول هو «هاء»، وقد تقدَّم في أوَّلِ البقرةِ، فإنَّ هذا مَذْهب السُّهَيْلِيْ عند قوله: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب﴾ [البقرة: ٥٣]. وأنَّ مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عَاقِلاً، والثاني غيره، ولا يبالى بتقديم ولا تأخير.

فصل في الدلالة في الآية


قوله: «آتَيْنَاهَا إبْرَاهيمَ» يَدُلُّ على أنَّ تلك الحُجَّةَ إنما حَصَلتْ لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء الله وإظهاره تلك الحُجَّةِ في عَقْلِهِ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الإيمانَ والكُفْرَ لا يَحْصُلانِ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى، ويؤكده قوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ فإن المراد أنه - تعالى - رَفَعَ درجات إبراهيم بسبب أنه - تعالى - أتاه تلك الحُجَّة.
ولو كان حُصُولُ العِلْمِ بتلك الحجة من قبل إبراهيم لا من قِبَلِ اللَّهِ تعالى، لكان إبْراهيمُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - هو الذي رفع درجات نفسه.
260
قوله: «عَلَى قَوْمِهِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعَلَّقٌ ب «آياتنا» قاله ابن عطيَّة والحوفي، أي: أظهرناها لإراهيم على قَوْمِهِ.
والثاني: أنها مُتعلِّقَةٌ بمحذوف؛ على أنها حالٌ، أي: آتيناها إبراهيم حُجَّةً على قومه، أو دَلِيلاً على قومه، كذا قدَّرَهُ أبو البقاء، وييلزم من هذا التَّقديرِ أن تكون حالاً مُؤكّدة؛ إذ التَّقديرُ: وتلك حُجَّتنَا آتَيْنَاهَا له حُجَّةً.
وقدَّره أبو حيَّان على حَذْفِ مُضَافِ، فقال: أي: آتيناها إبراهيم مُسْتَعْلِيَةً عل ىحُجَجِ قَوْمِهِ قَاهِرةً لها وهذا أحسن.
ومنع أبو البقاء أن تكون مُتعلِّقَةً ب «حجتنا» قال: لأنها مَصْدَرٌ و «آتَيْنَاهَا» خَبَرٌ أو حالٌ، وكلاهما لا يفصل به بين المَوْصُولِ وصِلَتِهِ.
ومنع أبُو حيَّان ذلك أيْضاً، ولكن لكون الحُجَّةِ لَيْسَتْ مَصْدَراً.
قال: إنما هو الكلامُ المُؤلَّفُ للاستلال على الشيء، ثم قال: ولو جعلناها مَصْدَراً لم يَجُزْ ذلك أيضاً؛ لأنه لا يُفْصَلُ بالخبرِ، ولا بمثل هذه الحال بين المصدرِ ومطلوبه.
وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء نظرٌ؛ لأنَّ الحالَ وإن كانت جُمْلَةً لَيْسَتْ أجْنَبِيَّةً حتَّى يُمْنَعُ الفَصْلُ بها؛ لأنها من جملة مَطْلُوباتِ المصدر، وقد تقدَّم نَظِيرُ ذلك بأشبع من هذا.
قوله: «نرفع» فيه وجهان:
الظاهر منهما: أنها مُسْتأنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعراب.
الثاني: جوَّزَهُ أبو البقاءِ، وبدأ به - أنها في مَوْضَعِ الحالِ من «آتيناها» يعني من فاعل «آتْيْنَاهَا»، أي: في حال كوننا رَافِعِينَ، ولا تكون حالاً من المفعولِ؛ إذ لا ضمير فيها يَعُودُ إليه.
ويُقْرأ «نَرْفَعُ» بنون العَظَمَةِ، وبياء الغَيْبَةِ، وكذلك «نَشَاء» وقرأ أهل الكُوفة: «دَرَجَاتٍ» بالتَّنْوين، وكذلك التي في يوسف [آية ٧٦] والباقون بالإضافة فيهما، فقرءاة الكوفيين يُحْتَمَلُ نَصْبُ «درجات» فيها من خمسة أوجه:
261
أحدها: أنها مَنْصُوبَةٌ على الظَّرْفِ، و «مَنْ» مفعول «نرفع» ؛ أي: نرفع من نَشَاءُ مراتب ومنازل.
والثاني: أن يَنْتَصِبَ على انه مفعولٌ ثانِ قُدِّم على الأوَّلِ، وذلك يحتاج إلى تَضْمين «نرفع» معنى فعل يتعدَّى لاثنين، وهو «نُعطي» مثلاً، أي: نعطي بالرفع من نشاءُ درجاتٍ، أي: رُتَباً، فالدَّرجاتُ هي المرفوعة لقوله: ﴿رَفِيعُ الدرجات﴾ [غافر: ١٥].
وفي الحديث: «اللَّهُمَّ ارفَعْ درَجَتَهُ في عِلِّيِّينَ» وإذا رُفَعت الدرجة فقد رُفِعَ صَاحِبُهَا.
والثالث: يَنْتَصِبُ على حَذْفِ حرف الجرِّ؛ أي: إلى منازل، أو إلى درجات.
الرابع: أن يَنْتَصِبَ على التَّمييزِ، ويكن مُحَوَّلاً مِنَ المَفْعُولِيَّةِ، فتؤول إلى قراءة الجماعة؛ إذ الأصل: «نرفع درجاتِ من نشاءُ» بالإضافة، ثُمَّ حُوِّلَ كقوله: ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ [القمر: ١٢]، أي: عيون الأرض.
الخامس: أنها مُنْتَصِبَةٌ على الحالِ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: ذوي درجات، ويشهد لهذه القِراءةِ قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الأنعام: ١٦٥] ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ﴾ [الزخرف: ٣٢] ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى﴾ [البقرة: ٢٥٣].
وأما قراءة الجماعة: ف «درجات» مفعول «نرفع».

فصل في معنى الدرجات


قيل: الدَّرَجَاتُ درجاتٌ رفيعة؛ لأنها تُوجِبُ الثَّوابَ العظيم.
وقيل: نرفع درجات من نَشَاءُ بالعلم والفَهْمِ والفضيلة والعقلن كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهْتَدَى. والخِطَابُ في «إنَّ ربَّكَ» للرَّسُولِ محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: للخليل إبراهيم، فلعى هذا يَكُونُ فيه التِفَاتٌ من الغيبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تَشْرِيفٍ له وقوله: «حَكِيمٌ عليمٌ» ؛ اي: إنما نرفع درجاتٍ من نشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشَّهْوَةِ والمُجَازفَةِ، فإن أفعال الله - تعالى - مُنَزَّهَةٌ عن العَبَثِ.
262
في «وهبنا» وجهان:
أصحهما: أنها مَعْطُوفةٌ على الجملة الاسمية من قوله: «وتِلْكَ حُجَّتُنَا» وعطف الاسْمِيَّة على الفعلية وعكسه جائز.
والثاني: أجازه ابن عطيَّة، وهو أن يكون نَسَقاً علت «آتَيْنَاهَاط ورَدَّهُ أبُو حيَّان بأن» آتَيْنَاهَاط لها مَحَلٌّ من الإعراب، إمَّا الحال، وهذه لا مَحَلَّ لها؛ لأنها لو كانت مَعْطُوفَةً على الخَبَر أو الحال لاشترط فيها رابط، و «كُلاً» مَنْصُوبٌ ب «هَدَيْنَا» بعده. والتقدير: وكلّ واحدٍ من هؤلاء المذكورين.

فصل في المراد بالهداية


اختلفوا في المُرادِ بهذه الهداية، وكذا في قوله: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾ وقوله في آخر الآيات ﴿ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء﴾ قال بعض المُحَقَّقين: المُرَادُ بهذه الهداية الثَّوابُ العظيم، وهو الهداية إلى طريق الجنَّةِ؛ لقوله بعده ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ وجزاء المحسنين هو الثواب، وأمَّا الإرشاد إلى الدين، فلا يكون جَزَاءً على عَمَلِهِ.
وقيل: لا يَبْعُدُ أن يكون المُرَادُ الهدايةَ إلى الدِّينِ، وإنما كان جَزاءً على الإحسان الصادر منهم؛ لأنهم اجْتَهَدُوا في طَلَبِ الحقِّ، فاللَّهُ - تعالى - جَازَاهُمْ على حُسْنِ طلبهم بإيصالهم إلى الحقِّ، كقوله ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩].
وقيل: المُرَادُ بهذه الهداية الإرْشَادُ إلى النُّبُوَّةِ والرسالة؛ لأن الهداية المَخْصُوصَةَ بالأنبياء ليست إلاَّ ذلك.
فإن قيل: لو كان كذلك لكان قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يقتضي أن يكون الرِّسَالةُ جزاءً على عملٍ، وذلك باطلٌ.
فالجوابُ أنَّ قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يحمل على الجزاءِ الذي هو الثَّوابُ، فيزول الإشْكَالُ.
واعلم أنَّهُ - تعالى - لمَّا حَكى عن إبراهيم أنه أظْهَرَ حُجَّةَ اللَّهِ في التوحيد، وذَبَّ عنها عدَّدَ وجوه نعمِهِ وإحْسانِهِ إلَيْهِ.
263
فأوّلها: قوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] أي: نحن آتَيْنَاهُ تلك الحُجَّةَ، وهديناه إليها، وأفَقْنَا عَقْلَهُ على حقيقتها، وذكر نَفْسَهُ باللفظ الدَّالِّ على العظمةِ [وذلك يوجب] أن تكون تلك النعمة عظيمة.
وثانيها: أنه - تعالى - خَصَّهُ بالرِّفْعَةِ إلى الدَّرجاتِ العالية، وهو قوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ﴾ [الأنعام: ٨٣].
وثالثها: أنه - تعالى - جَعَلهُ عَزيزاً في الدُّنْيَا؛ لأنه جُعِلَ للأنبياء والداً، والرُّسُلُ من نَسْلِهِ ومن ذُرَّيَّتِهِ، وأبقى هذه الكَرَامَةَ في نَسْلِهِ إلى يوم القيامةِ فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ﴾ لِصُلْبِهِ و «يَعْقُوبَ» بعده من إسحاق.
فإن قيل: لِمَ يذكر إسماعيل - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع إسحاق، بل أخَّرَ ذِكْرَهُ [عنه] بدرَجَاتٍ؟
فالجوابُ: أن المقصود بالذِّكْرِ هاهنا أنبياء بين إٍسرائيل، وهم بِأسْرِهِمْ أولاد إسحاق.
وأمَّا إسماعيلُ فإنه لم يخرج من صُلْبِهِ نَبِيُّ إلاَّ محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام، [ولا يجوز ذكر محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في هذا المقام؛ لأنه تعالى أمر محمداً] أن يحتجَّ على العربِ في نفي الشِّرْكِ باللَّهِ بأنَّ إبراهيم لمَّا تركَ الشرك وأصَرَّ على التَّوحيدِ رَزَقَهُ اللَّهُ النِّعَمَ العظيمة في الدنيا بأن آتاه أوْلاداً كانوا أنبياء ومُلُوكاً، فإذا كان المحتج بهذه الحُجَّةِ هو محمد - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - امتنع أن يذكر في هذا المعرض.
فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق.
قوله: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْل﴾ فالمُرَادُ أنَّهُ - تعالى - جعل إبراهيم في أشْرَفِ الأنْسَابِ؛ لأنه رَزَقَهُ أوْلاداً مثل إسحاق ويعقوب، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نَسْلِهِمَا، وأخرجه من أصْلابِ آباءِ طَاهِرينَ مثل «نوح» و «شيث» و «إدريس»، والمقصود بيانُ كرامَةِ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بحسب الأولاد والآباء.
قوله: «من ذُرِّيتِهِ» «الهاء» فيها وجهان:
أحدهما: أنها تعود على نُوح؛ لأنه أقْرَبُ مذكور، ت ولأنَّ إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كلهم مَنْسُوبُون إليه، [ولأنه ذّكر من جملتهم لُوطاً، وهو كان ابن أخي إبراهيم أو أخته، ذكره مَكِّي وغيره، وما كان من ذُرِّيَّتِهِ، بل كان من ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عليه السلام، وكان رسولاً في زمن إبراهيم.
وأيضاً: يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم.
264
وأيضاً قيل: إنَّ ولد الإنسان لا يُقالُ: إنَّهُ ذُرِّيَّةٌ، فعلى هذا إسماعيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم].
الوجه الثاني: أنها تعود على إبراهيم؛ لأنه المحدث عنه والقِصَّةٌ مَسُوقَةٌ إلى ذكره وخبره، وإنما ذكر نوحاً، لأن إبراهيم كونه من أولاده أحد موجبات رَفْعِهِ إبراهيم.
ولكن رُدَّ هذا القَوْلُ بما تقدَّم من كون لوط ليس من ذُرِّيَّتِهِ إنما هو ابن أخيه أو أخته ذكر ذلك مكي وغيره.
وقد أجيب عن ذلكن فقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مُضَافُونَ إلى ذُرِّيَّةِ إبراهيم، وإن كان فيهم من لم يلحقه بولادةٍ من قبلِ أمِّ ولا أبٍ؛ لأن لُوطاً ابن أخي إبراهيم، والعربُ تجعلُ العَمَّ أباً، كما أخبر اللَّهُ - تعالى - عن ولدِ «يعقوب» أنهم قالوا: ﴿نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣]
وقال أبو سليمان الدِّمَشْقِيُّ: «ووهَبْنَا لَهُ لُوطاً» في المُعَاضَدةِ والمُناصَرَةِ، فعلى هذا يكون «لوطاً» منصوباً ب «وَهْبَنَأ» من غير قَيْدٍ؛ لكونه من ذُرِّيَّتِهِ.
وقوله: «داود» وما عطف عليه مَنْصُوبٌ إما بفعل الهِبَةِ، وإما بفعل الهداية.
و «مِنْ ذُرِّيَّتِهِ» يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أنه متعلّق بذلك الفعل المحذوف، وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية.
والثاني: أنها حال أي: حال كون هؤلاء الأنبياء مَنْسُوبِينَ إليه.
قوله: «وكذَلِكَ نَجْزِي» الكاف في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدر محذوف، أي: نجزيهم جَزَاءً مِنْلَ ذلك الجَزَاء، ويجوز أن يكون في مَحَلِّ في رفع، أي الأمر كذلك، وقد تقدَّم ذلك في قوله: «وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ».
ومعنى «كذلك» أي: كما جزينا إبراهيم على تَوْحِيدِهِ بأن رفعنا درجته، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتْقِيَاءَ، كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم.

فصل في بيان نسب بعض الأنبياء


«داود» ابن إيشا.
و «سليمان» هو ابنه.
و «أيوب» ابن موص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم.
و «يوسف» إبن يَعْقُوبَ بن إسحاق بن إبراهيم.
و «موسى» ابن عمان بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
و «هارون» أخو موسى أكبر منه بِسَنَةٍ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم.
265
واعلم أنه - تعالى - ذكر أوَّلاً أربعة من الأنبياء، وهم: «نوح» و «إبراهيم» و «إسحاق» و «يعقوب»، ثم ذكر من ذُرِّيَّتِهِمْ أربعة عشر من الأنبياء: «داود» و «سليمان» و «أيُّوب»، و «يوسف»، و «موسى»، و «هارون» و «زكريا»، و «يحيى»، و «عيسى»، و «إلياس»، و «إسماعيل»، و «إليسع»، و «يونس»، و «لوطاً».
فإن قيل: رعاية التَّرْتِيبِ وَاجِبَة، والترتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفَصْلِ والدرجة، وإما أن يعتبر حسبِ الزمان، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر هنا فما السَّبَبُ فيه؟
فالجوابُ أن «الواو» لا توجب التَّرْتِيبَ، وهذه الآية أحَدُ الدلائل على صِحَّةِ هذا المطلوب.
قوله: «وزكريا» وهو ابن إدّ وبرخيَّا و «يحيى» هو ابنه و «عيسى» هو ابن مريم ابنة عمران.
واسْتُدِلَّ بهذه الآية على أن الحسنَ والحُسيْنَ من ذُرِّيَّةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن الله - تعالى - جعل عيسى من ذُرِّيَّة إبراهيم، وهو لا ينسب إلى إبراهيم إلاَّ بالأمِّ، فكذلك الحَسَنُ والحُسيْنُ ويقال: إن أبا جعفر البَاقِرَ اسْتَدلَّ بهذه الآية عند الحَجَّاجِ بن يوسف الثقفي.

فصل فيما يستفاد من الآية


قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف على ولده وولد ولده دخل فيه أولاد بَنَاتِهِ أيضاً ما تَنَاسَلُوا، وكذلك في الوَصيَّةِ للقَرَاباتِ يدخل فيه ولد البنات، والقرابةُ عند أبي حنيفةَ كلُّ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، ويسقط عند ابن العَمِّ وابن العمة وابن الخال وابن الخالة؛ لأنهم ليسوا بمِحْرَمِينَ.
وقال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: القَرَابَةُ كُلُّ ذي رَحمٍ مَحْرَمٍ وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولدُ البنات.
وإذا قال: لقرابتي وعقبي فهو كقوله: لولدي وولد ولدي.
قوله: «وإلياس» قال ابن مسعود: هو إدريس وله اسمان مثل «يعقوب» و «إسرائيل»، والصحيح أنه غيره؛ لأن - تعالى - ذكرهُ في ولد نوح، وإدريس جد أبي نوح، وهذا إلياس بن يسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران «كُلُّ مِنَ الصَّالحينَ».
وقوله: «وإسماعيل» هو ابن إبراهيم.
و «إليسع» [وهو ابن أخطوب بن العجوز].
266
قرأ الجمهور «اليَسَعَ» بلام واحدة وفتح الياء بعدها.
وقرأ الأخوان: اللَّيْسَع بلام مشددة وياء ساكنة بعدها، فقراءة الجمهور فيها تأويلان:
أحدهما: أنه منقُولٌ من فعل مضارع، والأصل: «يَوْسَع» ك «يَوْعِد»، فَوقَعَتِ الواو بين ياء وكسرة تقديرية؛ لأن الفَتْحَةَ جيء بها لأجْلِ حرف الحَلْقِ، فحُذِفَتْ لحذفها في «يضع» و «يدع» و «يهب» وبابه، ثم سمي به مُجَرَّداً عن ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله: [الطويل]
٢٢٢٨ - رأيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكاً شَدِيداً بِأعْبَاءِ الخِلافَةِ كَاهِلُهُ
وكقوله: [الرجز]
٢٢٢٩ - بَاعَدَ أمَّ العَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا حُرَّاسُ أبْوابٍ عَلَى قُصُورِهَا
وقيل الألف واللام فيه للتعريف كأنّه قدَّر تنكيره.
والثاني: أنه اسم أعْجَمِيُّ لا اشتقاق له؛ لأن «اليسع» يقال: إنه يوشع بن نون فَتَى موسى، فالألف واللام فيه زائدتان، أو معرفتان كما تقدم.
وهل «أل» لازمة له على تقدير زيادتها؟
فقال الفَارِسيُّ: إنها لازِمَةٌ شُذُوذاً، كلزومها في «الآن».
وقال مالك: «ما قَارَنتِ الأدَاةُ نَقْلَهُ كالنَّضْرِ والنُّعْمضانِ، أو ارتِجَالَهُ كاليسع والسموءل، فإنَّ الأغْلَبَ ثُبُوتُ أل فيه وقد تحذف».
وأما قراءة الأخوين، فأصله لَيْسَع، ك «ضَيْغَم وصَيْرَف» وهو اسم أعْجَمِيُّ، ودخول الألف واللام فيه على الوَجْهَيْنِ المتقدمين.
267
واختار أبو عبيدة قراءة التخفيف، فقال: «سمعنا هذا الشيء في جميع الأحاديث: اليسع ولم يُسَمِّهِ أحدٌ منهم الَّيْسع»، وهذا حُجَّةَ فيه؛ لأنه روى اللفظ بأحد لُغَتَيْه، وإنما آثَرَ هذه اللفظة لِخِفَّتِهَا لا لعدم صِحَّةِ الأخرى.
وقال الفراء في قراءة التشديد: «هي أشبهُ بأسماء العجمِ».
قوله «يونس» ك هو يونس بن متى، وقد تقم أن فيه ثلاث لغات [النساء: ١٦٣] وكذلك في سين «يُوسف» وقوله: «ولوطاً» وهو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم.
قوله: «وكلاَّ فَضَّلْنَا» كقوله: «كُلاَّ هَدَيْنَا».
قوله: «عَلَى العَالَمِينَ» اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن «العالم» اسم لكل موجود سوى الله - تعالى - فيدخل فيه الملائكة. وقال بعضهم: معناه فَضَّلْنَاهُمْ على عالمي زمانهم.
قوله: «ومِنْ آبائِهِمْ» «آبائهم» : فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتعلِّقٌ بذلك الفعل المقدر، أي: وهدينا من آبائهم، أو فضَّلنا من آبائهم، و «مِنْ» تَبْعِيضيَّةٌ قال بان عطية: «وهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرِّيَّاتهم وإخوانهم جماعات»، ف «مِنْ» للتبعيض، والمفعول محذوف.
الثاني: أنه معطوف على «كُلاًّ»، أي: وفضَّلنا بعض آبائهم.
وقدَّر أبو البقاء هذا الوجه بقوله: «وفضلنا كلاًّ من آبائهم، وهدينا كُلاًّ من آبائهم». وإذا كان للتَّبْعِيضِ دلَّت على أن آباء بعضهم كانوا مشركين.
وقوله: «وذُرِّيَّاتهم»، أي: وذرِّيَّة بعضهم، لأن «عيسى» و «يحيى» لم يكن لهما وَلَدٌ، وكان في ذرية بعضهم من كان كَافِراً.
وقوله: «وإخوانهم» و «اجْتَبَيْنَاهُمْ» يجوز أن يعطف على «فضَّلنا»، ويجوز أن يكون مُسْتأنفاً وكرر لفظ الهداية توكيداً، ولأن الهِدايةَ أصْلُ كل خير، والمعنى: اصْطَفَيْنَاهُمْ، وأرشدناهم إلى صراط مستقيم.
قوله: «ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ» المشار إليه هو المَصْدَرُ المفهوم من الفعل قبله؛ إما الاجْتِبَاءُ، وإما الهداية؛ أي: ذلك الاجتباء هو هُدَى، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله، ويجوز أن يكون «هدى الله» خبراً، وأن يكون بدلاً من «ذلكط والخبر» يهدي به «، وعلى الأول» يهدي «حالاً، والعامل فيه اسم الإشارة ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، و» مِنْ عِبَادِهِط تَبْيِينٌ أو حال؛ إما مِنْ «مَنْ» وإما من عَائِدِهِ المحذوف.
268

فصل في تحرير معنى الهداية


يجوز أن يكون المراد من هذه الهداية معرفة الله - تعالى - وتَنْزِيههُ عن الشرك؛ لقوله تعالى بعده: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أن الإيمان لا يَحْصُلُ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى.
269
قوله :" وزكريا " وهو ابن إدّ وبرخيَّا و " يحيى " هو ابنه و " عيسى " هو ابن مريم ابنة عمران.
واسْتُدِلَّ بهذه الآية على أن الحسنَ والحُسيْنَ من ذُرِّيَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله -تعالى- جعل عيسى من ذُرِّيَّة إبراهيم، وهو لا ينسب إلى إبراهيم إلاَّ بالأمِّ، فكذلك الحَسَنُ والحُسيْنُ ويقال : إن أبا جعفر البَاقِرَ اسْتَدلَّ بهذه الآية عند الحَجَّاجِ بن يوسف الثقفي١.

فصل فيما يستفاد من الآية


قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف٢ على ولده وولد ولده دخل فيه أولاد بَنَاتِهِ أيضاً ما تَنَاسَلُوا، وكذلك في الوَصيَّةِ للقَرَاباتِ يدخل فيه ولد البنات، والقرابةُ عند أبي حنيفةَ كلُّ ذي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، ويسقط عنده ابن العَمِّ وابن العمة وابن الخال وابن الخالة ؛ لأنهم ليسوا بِمحْرَمِينَ.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : القَرَابَةُ كُلُّ ذي رَحمٍ مَحْرَمٍ وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم وقال مالك : لا يدخل في ذلك ولدُ البنات٣.
وإذا قال : لقرابتي وعقبي فهو كقوله : لولدي وولد ولدي٤.
قوله :" وإلياس " قال ابن مسعود : هو إدريس وله اسمان مثل " يعقوب " و " إسرائيل "، والصحيح أنه غيره ؛ لأن -تعالى- ذكرهُ في ولد نوح، وإدريس جد أبي نوح، وهذا إلياس بن يسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران " كُلُّ مِنَ الصَّالحينَ ".
١ ينظر: الرازي ١٣/٥٥..
٢ ينظر: القرطبي ٧/٢٢..
٣ ينظر: تفسير القرطبي ٧/٢٣..
٤ ينظر: تفسير القرطبي ٧/٢٣..
وقوله :" وإسماعيل " هو ابن إبراهيم.
و " إليسع " [ وهو ابن أخطوب بن العجوز ]١.
قرأ الجمهور٢ " اليَسَعَ " بلام واحدة وفتح الياء بعدها.
وقرأ الأخوان٣ : اللَّيْسَع بلام مشددة وياء ساكنة بعدها، فقراءة الجمهور فيها تأويلان :
أحدهما : أنه منقُولٌ من فعل مضارع، والأصل :" يَوْسَع " ك " يَوْعِد "، فَوقَعَتِ الواو بين ياء وكسرة تقديرية ؛ لأن الفَتْحَةَ جيء بها لأجْلِ حرف الحَلْقِ، فحُذِفَتْ لحذفها في " يضع " و " يدع " و " يهب " وبابه، ثم سمي به مُجَرَّداً عن ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله :[ الطويل ]
رأيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكاً شَدِيداً بِأعْبَاءِ الخِلافَةِ كَاهِلُهْ٤
وكقوله :[ الرجز ]
بَاعَدَ أمَّ العَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا حُرَّاسُ أبْوابٍ عَلَى قُصُورِهَا٥
وقيل الألف واللام فيه للتعريف كأنّه قدَّر تنكيره.
والثاني : أنه اسم أعْجَمِيٌّ لا اشتقاق له ؛ لأن " اليسع " يقال : إنه يوشع بن نون فَتَى موسى، فالألف واللام فيه زائدتان، أو معرفتان كما تقدم.
وهل " أل " لازمة له على تقدير زيادتها ؟
فقال الفَارِسيُّ : إنها لازِمَةٌ شُذُوذاً، كلزومها في " الآن ".
وقال ابن مالك :" ما قَارَنتِ الأدَاةُ نَقْلَهُ كالنَّضْرِ والنُّعْمَانِ، أو ارتِجَالَهُ كاليسع والسموءل، فإنَّ الأغْلَبَ ثُبُوتُ أل فيه وقد تحذف ".
وأما قراءة الأخوين٦، فأصله لَيْسَع، ك " ضَيْغَم وصَيْرَف " وهو اسم أعْجَمِيُّ، ودخول الألف واللام فيه على الوَجْهَيْنِ المتقدمين.
واختار أبو عبيدة قراءة التخفيف، فقال :" سمعنا هذا الشيء في جميع الأحاديث : اليسع ولم يُسَمِّهِ أحدٌ منهم اللَّيْسع "، وهذا لا حُجَّةَ فيه ؛ لأنه روى اللفظ بأحد لُغَتَيْه، وإنما آثَرَ الرُّواةُ هذه اللفظة لِخِفَّتِهَا لا لعدم صِحَّةِ الأخرى.
وقال الفراء٧ في قراءة التشديد :" هي أشبهُ بأسماء العجمِ ".
قوله " يونس " : هو يونس بن متى، وقد تقدم أن فيه ثلاث لغات [ النساء : ١٦٣ ] وكذلك في سين " يُوسف " وقوله :" ولوطاً " وهو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم.
قوله :" وكلاَّ فَضَّلْنَا " كقوله :" كُلاًّ هَدَيْنَا ".
قوله :" عَلَى العَالَمِينَ " اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ؛ لأن " العالم " اسم لكل موجود سوى الله -تعالى- فيدخل فيه الملائكة. وقال بعضهم٨ : معناه فَضَّلْنَاهُمْ على عالمي زمانهم.
١ سقط في ب..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/١٧٨، البحر المحيط ٤/١١٥ ـ ١١٦، إتحاف فضلاء البشر ٢/٢١، الحجة لأبي زرعة ٢٥٩ ـ ٢٦٠، السبعة ٢٦٢، النشر ٢/٢٦٠، التبيان ١/٥١٦، الزجاج ٢/٢٦٩، المشكل ١/٢٥٩ ـ ٢٦٠، إعراب القراءات السبع ١/١٦٣، روح المعاني ٧/٢١٤..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/١٧٨، البحر المحيط ٤/١١٥ ـ ١١٦، إتحاف فضلاء البشر ٢/٢١، الحجة لأبي زرعة ٢٥٩ ـ ٢٦٠، السبعة ٢٦٢، النشر ٢/٢٦٠، التبيان ١/٥١٦، الزجاج ٢/٢٦٩، المشكل ١/٢٥٩ ـ ٢٦٠، إعراب القراءات السبع ١/١٦٣، الفراء ١/٣٤٢، الأخفش ٢/٤٩٦ ـ ٤٩٧، الحجة لابن خالويه ص (١٤٤)، البيان ١/٢٣٠، الرازي ١٣/٦٦..
٤ البيت لابن ميادة وهو الرماح بن أبرد.
ينظر: الإنصاف ١/٣١٧، ابن يعيش ٤٤١، الخزانة ٢/٢٢٦، المغني ١/٥٢، معاني الفراء ١/٣٤٢، الدر المصون ٣/١١٦..

٥ البيت لأبي النجم العجلي.
ينظر: المقتضب ٤/٤٩، الإنصاف ١/٣١٧، لسان العرب (وبر)، همع الهوامع ١/٨٠، المنصف ٣/١٣٤، المغني ١/٥٢، الدر المصون ٣/١١٦..

٦ ينظر: الدر المصون ٣/١١٦ والبحر المحيط ٤/١٧٨..
٧ ينظر: معاني القرآن ١/٣٤٢..
٨ ينظر: الرازي ١٣/٥٤..
قوله :" ومِنْ آبائِهِمْ " " آبائهم " : فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتعلِّقٌ بذلك الفعل المقدر، أي : وهدينا من آبائهم، أو فضَّلنا من آبائهم، و " مِنْ " تَبْعِيضيَّةٌ قال ابن عطية١ :" وهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرِّيَّاتهم وإخوانهم جماعات "، ف " مِنْ " للتبعيض، والمفعول محذوف.
الثاني : أنه معطوف على " كُلاًّ "، أي : وفضَّلنا بعض آبائهم.
وقدَّر أبو البقاء٢ هذا الوجه بقوله :" وفضلنا كلاًّ من آبائهم، وهدينا كُلاًّ من آبائهم ". وإذا كانت للتَّبْعِيضِ دلَّت على أن آباء بعضهم كانوا مشركين.
وقوله :" وذُرِّيَّاتهم "، أي : وذرِّيَّة بعضهم، لأن " عيسى " و " يحيى " لم يكن لهما وَلَدٌ، وكان في ذرية بعضهم من كان كَافِراً.
وقوله :" وإخوانهم " " واجْتَبَيْنَاهُمْ " يجوز أن يعطف على " فضَّلنا "، ويجوز أن يكون مُسْتأنفاً وكرر لفظ الهداية توكيداً، ولأن الهِدايةَ أصْلُ كل خير، والمعنى : اصْطَفَيْنَاهُمْ، وأرشدناهم إلى صراط مستقيم.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٣١٨..
٢ ينظر: الإملاء ١/٢٥١..
قوله :﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ ﴾ المشار إليه هو المَصْدَرُ المفهوم من الفعل قبله ؛ إما الاجْتِبَاءُ، وإما الهداية ؛ أي : ذلك الاجتباء هو هُدَى، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله، ويجوز أن يكون " هدى الله " خبراً، وأن يكون بدلاً من " ذلك " والخبر " يهدي به "، وعلى الأول يكون " يهدي " حالاً، والعامل فيه اسم الإشارة ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، و " مِنْ عِبَادِهِ " تَبْيِينٌ أو حال ؛ إما مِنْ " مَنْ " وإما من عَائِدِهِ المحذوف.

فصل في تحرير معنى الهداية


يجوز أن يكون المراد من هذه الهداية معرفة الله -تعالى- وتَنْزِيههُ عن الشرك ؛ لقوله تعالى بعده :﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أن الإيمان لا يَحْصُلُ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى.
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: الكتب المُنَزَّلة عليهم، و «الحكم» يعني العلم والفِقْهَ، و «النبوة». والإشارة ب «أولئك» إلى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين، ويحتمل أن يكون المراد ب «آتيناهم الكتاب» أيك الفَهْمَ التَّامَّ لما في الكتاب، والإحاطة بحقائقه، وهذا هو الأولى؛ لأن الثمانية عشر لم ينزل على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين.
قوله ﴿فإنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾ هذه «الهاء» تعود على الثلاثة الأشياء، وهي: الكتاب والحكم والنبوة، وهو قول الزمخشري.
وقيلك يعود على «النبوة» فقط، لأنها أقرب مذكور، والباء في قوله: «لَيْسُوا بِهَا» مُتعَلِّقَةٌ بخير «ليس»، وقدم على عاملها، والباء في «بكافرين» زائدة توكيداً.

فصل في معنى الآية


معنى قوله: «يَكْفُرْ بِهَا هَؤلاءِ» يعني أهل «مَكة» ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِين﴾ ؛ قال ابن عباس: المراد بالقَوْمِ الأنْصَارُ، وأهل «المدينة»، وهو قول مجاهد.
وقال قَتَادَةُ والحسن: يعني الأنبياء الثمانية عشر.
قال الزجاج: ويدلُّ عليه قوله بعد هذه الآية: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.
وقال أبو رَجَاءٍ العطاردي فإن يكفر بها أهل الأرض، فقد وكلَّنا بها أهل السماء، يعني الملائكة، وهو بعيد؛ لأن اسم القوم كُلُّ ما يقع على غير بني آدم.
269
وقال مجاهد: هم الفرس.
وقال ابن زيد: كل من لم يكفر، فهو منهم، سَوَاءً كان ملكاً، أو نبيَّا، أو من الصحابة، أو من التابعين.
قوله: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ﴾ «أولئك» مفعول مُقدَّمٌ ل «هدى الله» ويَضْعُفُ جعله مبتدأ على حذف العائد، أي: هداهم الله كقوله: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ [المائدة] برفع «حُكْمُ» [والإشارة ب «أولئك» إلى الأنبياء المتقدم ذكرهم].
قوله: «فَبِهُدَاهِمُ أقْتَدِه» قرا الأخوان بحذف الهاء في الوَصْلِ والباقون أثبتوها وَصْلاً وَوَقْفاً، إلا أن ابن عامر بكسرها، ونقل ابن ذكوان عنه وجهين:
أحدهما: الكَسْر من غير وَصْلٍ بمدة، والباقون بسكونها. أما في الوقف فإن القراء اتَّفَقُوا على إثباتها سَاكِنةً واختلفوا في «مَالِيَه» و «سُلْطَانِيَه» في «الحاقَّة» وفي «مَاهِيَهْ» في «القارعة» بالنسبة إلى الحذف والإثبات، واتفقوا على إثباتها في «كِتَابِيَهْ» و «حِسَابِيِهْ» فأما قراءة الأخوين، فالهاء عندهما للسَّكْتِ، فلذلك حَذَفَاهَا وصْلاً؛ إذ محلها الوَقْفُ، وأثبتاها وفقاً إتْبَاعاً لِرَسْمِ المصحفن وأما من أثبتها ساكنة، فيحتمل عنده وجهين:
أحدهما: هي هاء سَكْتٍ، ولكنها ثبت وَصْلاً إجْرَاءً للوصْلِ مجرى الوَقْفِ، كقوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر﴾ [البقرة: ٢٥٩] في أحد الأقوال كما تقدم.
والثاني: أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وَصْلاً إجْرَاءً للوَصْلِ مجرى الوَقْفِ، نحو: ﴿نُؤْتِهِ﴾ [آل عمران: ١٤٥] ﴿فَأَلْقِهْ﴾ [النمل: ٢٨] و ﴿أَرْجِهْ﴾ [الأعراف: ١١١]، ﴿نُوَلِّهِ﴾ [النساء: ١١٥] ﴿وَنُصْلِهِ﴾ [النساء: ١١٥].
واختلف في المصدر الذي تعُودُ عليه هذه «الهاء»، فقيل: الهدى، أي اقتدى
270
الهدى، والمعنى اقْتداء الهدى، ويجوز أن يكون الهدى مفعولاً لأجله؛ أي: فبهداهم اقتد لأجل الهدى.
وقيل: الاقتداء؛ أي: اقتد الاقتداء، ومن إضمار المصدر قول الشاعر: [البسيط]
٢٢٣٠ - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إنْ يَلْقَها ذِيبُ
أي: يَدْرُسُ الدَّرْسَ، ولا يجوز أن يتكون «الهاء» ضمير القرآن؛ لأن الفعل قد تعدَّى له، وإنما زيدت «اللام» تَقْوِيَةً له، حيث تقدَّم معموله، وكذلك جعل النُّحَاةُ نَصْب «زيداً» من «زيداً ضَرَبْتُهُ» بفعل مُقدَّرٍ، خلافاً للفراء.
قال ابن الأنْبَارِيّ: «إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل، وإن الأصل: اقتد اقتد، ثم جعل المَصْدَرُ بَدَلاً من الفعل الثاني، ثم أضْمِرَ فاتَّصَلَ بالأول».
وأما قراءة ابن عامر فالظَّاهِرُ فيها أنها ضمير، وحُرِّكَتْ بالكَسْرِ من غير وَصْلٍ وهو الذي يسميه القُرَّاء الاخْتِلاَس تَارَةً، وبالصلة وهو المُسَمَّى إشْبَاعاً أخرى كمنا قرئ: ﴿أَرْجِهْ﴾ [الأعراف: ١١١] ونحوه.
وإذا تقرَّرَ هذا فقول ابن مُجَاهِدٍ عن ابن عامر «يُشِمُّ» الهاء من غير بُلُوغِ ياء «وهذا غلط؛ لأن هذه» الهاء «هاء وَقْفٍ لا تعرب في حالٍ من الأحوال، أي: لا تحرك وإنما تدخل ليتبيَّنَ بها حركةُ ما قبلها ليس بِجَيِّدٍ لما تقرر من أنها ضَمِيرُ المَصْدَرِ، وقد رَدَّ الفَارِسيُّ قول ابن مجاهد بما تقدم.
والوجه الثاني: أنها هاء سَكْتٍ أجْرِيَتْ مُجْرَى الضمير، كما أجريت هاء الضمير مُجْرَاهَا في السكُونِ، وهذا ليس بِجَيِّدٍ، ويروى قول المتنبي: [البسيط]
٢٢٣١ - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ..........................
بضم»
الهاء «وكسرها على أنها» هاء «السَّكْتِ، شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت، والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير؛ لأن» هاء «الضمير لا تكسر بعد الألف، فكيف بما يشبهها؟
والاقتداءُ في الأصْلِ طَلَبُ المُواقَقَةِ قاله اللَّيْث. ويقال: قدوة وقدو وأصله من القدو وهو أصل البِنَاءِ الذي يتشعب منه تصريف الاقتِدَاءُ.
271
قال الواحِديُّ: الاقتِدَاءُ في اللغة: الإتيان بِمِثْلِ فِعْل الأول لأجل أنه فعله و» بِهُداهِمِ «متعلق ب» اقْتَدِهْ «. وجعل الزمخشري تقديمه مُفيداً للاختصاص على قاعدته.

فصل فيما يقتدى بهم فيه


هذا خِطَابٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واختلفوا في الشيء الذي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاقتداء بهم فيه.
فقيل: المُرَادُ أن يَقْتَدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو التوحيد والتَّنْزِيه عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بالباري سبحانه وتعالى في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأفْعَالِ.
وقيل: المارد الاقْتِدَاءُ بهم في شَرَائِعِهمْ إلا ما خَصَّهُ الدليل على هذا، فالآية دَلِيلٌ على أن شَرْعَ من قبلنا يلزمنا وقيل: المراد به إقَامَةُ الدلالة على إبْطَالِ الشِّرْكِ، وإقامة التوحيد؛ لأنه ختم الآية بقوله:
﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] ثم أكد إصْرَارَهُمْ على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله: ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ ثم قال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ أي: اقْتَدِ بهم في نَفْيِ الشرك، وإثبات التوحيد، وتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الجُهَّال.
وقال آخرون: اللفظ مُطْلَقٌ فيحمل على الكل إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليل المُنْفَصِلُ.
قال القاضي يبعد حَمْلُ هذه الآية على أمْرٍ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الأنبياء المُتقدِّمين في شَرَائِعِهمْ لوجوه:
أحدهما أن شرائعهم مختلفة مُتناقِضَةٌ فلا يَصِحُّ مع تَنَاقُضِهَا أن يكون بالاقْتِدَاءِ بهم في تلك الأحْكَامِ المُتناقِضَةِ.
وثانيها: أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العملِ، وإذا ثبت هذا، فنقولُ: دليل ثباتِ شَرْعِهِمْ كان مخصوصاً بتلك الأوْقَاتِ فقط، فكيف يُسْتَدَلُّ بذلك على اتِّبَاعِهِمْ في شرائعهم في كل الأوقات.
وثالثها: أن كونه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُتَّبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون مَنْصِبُهُ أقَلَّ من مَنْصِبِهِمْ، وذلك بَاطِلٌ بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حَمْلُ الآية على وُجُوبِ الاقْتِداءِ بهم في شَرَائِعِهمْ.
والجواب عن الأول، أن قوله: «فَبُهَداهمُ اقْتَدِه»
يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بحسب شرائعهم، فنقول: العام يجب تخصيصه في هذه الصُّورة، ويقى فيما عداها حُجَّة.
272
وعن الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لو كان مأموراً بأن يَسْتَدِلَّ بالدليل الذي اسْتَدَلَّ به الأنبياءُ المتقدِّمُون لم يكن ذلك مُتَابَعَةً؛ لأن المسلمين لما اسْتَدَلُّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لايقال: إنهم مُتَّبِعُونَ لليهود والنَّصارى في هذا الباب؛ لأن المستدلَّ بالدليل يكون أصلاً في ذلك الحكم، ولا تعلُّ له بمن قبله ألْبَتَّةَ، والاقتداء والاتِّبَاعُ لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوَّل سَبَباً لوجوب الفِعْلِ عن الثاني.
وعن الثالث: أنه أمر الرَّسُولَ بالاقْتِدَاءِ بجميعهم في جميع الصِّفَاتِ الحميدة، والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقَلَّ مرتبة من الكُلِّ على ما يأتي في الفَصْلِ الذي بعده.

فصل في أفضلية نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ


احْتَجَّ العملاء بهذه الآية على أن الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلام؛ لأن خِصَالَ الكمالِ وصفاتِ الشَّرفِ كانت مفرّقة فيهم ف «داود» و «سليمان» كانا من أصاحب الشكر على النعمة، و «أيُّوب» كان من أصحاب الصَّبْرِ على البلاءِ، و «يوسف» كان جَامِعاً لِهَاتيْنِ الحالتين، و «موسى» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان صاحب الشرعيةِ القويَّةِ القاهرة، والمعجزات الظاهرة و «زكريا» و «يحيى» و «عيسى» و «إلياس» كانوا أصحاب الزُّهْدِ، و «إسماعيل» كان صاحب الصِّدْق و «يونس» كان صاحب التَّضَرُّعِ.
وثبت أنه - تعالى - إنما ذكر كُلُّ واحد من هؤلاء الأنبياء؛ لأن الغالب عليه خَصْلةٌ مُعيَّنةٌ من خِصال المَدْح والشرف، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن يقتدي بهم بأسْرِهمْ، فكان التقدير كأنه - تعالى - أمر محمداً أن يجمع من خِصالِ العُبُوديَّة والطاعة كُل الصفات التي كانت مُتفرِّقَةً فيهم بأجمعهم، ولما أمره الله - تبارك وتعالى - بذلك امْتَنَعَ أن يقال: إنه قَصَّر في تحصيلهم، فثبت أنه حَصَّلَهَا، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال: إنه أفْضَلُهُمْ بكليتهم.
قوله: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ لما أمره الاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين، وكان من جُمْلَةِ هدايتِهِمْ تَرْكُ طلب الأجْرِ في إيصال الدين، وإبلاغ الشريعة لا جَرَم اقتدى بهم في ذلك فقال: «قُلْ لا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْراً»«الهاء» في «عليه» ] تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السِّياق عليهما، و «أن» نافية ولا عمل لها على المَشْهُور، ولو كانت عَامِلةً لبطل عملها ب «إلاَّ» في قوله: «إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى» أن يذكره ويعظه. «وللعالمين» متعلق ب «ذكرى» و «اللام» معدية أي: إن القرآن العظيم إلاَّ تذكير للعالمين، ويجوز أن تكون متعلِّقَةً بمحذوف على أنها صِفَةٌ للذِّكْرَى، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَبْعُوثٌ إلى كل أهْلِ الدنيا لا إلى قَوْمِ دون قَوْمٍ.
273
قوله :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ " أولئك " مفعول مُقدَّمٌ ل " هدى الله " ويَضْعُفُ جعله مبتدأ على حذف العائد، أي : هداهم الله كقوله :﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] برفع " حُكْمُ " [ والإشارة ب " أولئك " إلى الأنبياء المتقدم ذكرهم ]١.
قوله :﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ قرأ٢ الأخوان بحذف الهاء في الوَصْلِ والباقون أثبتوها٣ وَصْلاً وَوَقْفاً، إلا أن ابن عامر بكسرها، ونقل ابن ذكوان عنه٤ وجهين :
أحدهما : الكَسْر من غير وَصْلٍ بمدة، والباقون٥ بسكونها. أما في الوقف فإن القراء اتَّفَقُوا على إثباتها سَاكِنةً واختلفوا في " مَالِيَه " و " سُلْطَانِيَه " في " الحاقَّة " وفي " مَاهِيَهْ " في " القارعة " بالنسبة إلى الحذف والإثبات، واتفقوا على إثباتها في " كِتَابِيَهْ " و " حِسَابِيِهْ " فأما قراءة الأخوين٦، فالهاء عندهما للسَّكْتِ، فلذلك حَذَفَاهَا وصْلاً ؛ إذ محلها الوَقْفُ، وأثبتاها وقفاً إتْبَاعاً لِرَسْمِ المصحف، وأما من أثبتها ساكنة، فيحتمل عنده وجهين :
أحدهما : هي هاء سَكْتٍ، ولكنها ثبتت وَصْلاً إجْرَاءً للوصْلِ مجرى الوَقْفِ، كقوله :﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ ﴾ [ البقرة : ٢٥٩ ] في أحد الأقوال كما تقدم.
والثاني : أنها ضمير المصدر سُكّنت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف، نحو :﴿ نؤته ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ] و﴿ فألقه ﴾ [ النمل : ٢٨٨ ] و﴿ أرجه ﴾ [ الأعراف : ١١١ ]، و﴿ نولّه ﴾ [ النساء : ١١٥ ] ﴿ ونصله ﴾ [ النساء : ١١٥ ].
واختلف في المصدر الذي تعود عليه هذه " الهاء " فقيل : الهدى، أي اقتدى الهدى، والمعنى اقتد اقتداء الهدى، ويجوز أن يكون الهدى مفعولا لأجله ؛ أي : فبهداهم اقتد لأجل الهدى.
وقيل : الاقتداء ؛ أي : اقتد الاقتداء، ومن إضمار المصدر قول الشاعر :[ البسيط ]
هذا سُراقة للقرآن يدرسُه *** والمرء عند الرُّشا إن يلقها ذيبُ٧
أي : يدرس الدرس، ولا يجوز أن تكون " الهاء " ضمير القرآن ؛ لأن الفعل قد تعدّى له، وإنما زيدت " اللام " تقوية له، حيث تقدم معموله، وكذلك جعل النحاة نصب " زيدا " من " زيدا ضربته " بفعل مقدر، خلافا للفراء٨.
قال ابن الأنباريّ :" إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل، وإن الأصل : اقتد اقتد، ثم جعل المصدر بدلا من الفعل الثاني، ثم أضمر فاتصل بالأول ".
وأما قراءة ابن عامر٩ فالظاهر فيها أنها ضمير، وحركت بالكسر من غير وصل وهو الذي يسميه القراء الاختلاس تارة، وبالصلة وهو المسمى إشباعا أخرى كما قرئ :﴿ أرجه ﴾ [ الأعراف : ١١١ ] ونحوه.
وإذا تقرر هذا فقول ابن مجاهد عن ابن عامر " يُشمّ الهاء من غير بلوغ ياء " وهذا غلط ؛ لأن هذه " الهاء " هاء وقف لا تعرب في حال من الأحوال، أي : لا تحرك وإنما تدخل ليتبيّن بها حركة ما قبلها ليس بجيّدٍ لما تقرر من أنها ضمير المصدر، وقد ردّ الفارسي١٠ قول ابن مجاهد بما تقدم.
والوجه الثاني : أنها هاء سكت أجريت مجرى الضمير، كما أجريت هاء الضمير مجراها في السكون، وهذا ليس بجيد، ويروى قول المتنبي :[ البسيط ].
واحرّ قلباه ممن قلبه شيم ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١١
بضم " الهاء " وكسرها على أنها " هاء " السكت، شُبّهت بهاء الضمير فحركت، والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير ؛ لأن " هاء " الضمير لا تكسر بعد الألف، فكيف بما يشبهها ؟
والاقتداء في الأصل طلب الموافقة قاله الليث. ويقال : قدوة وقدو وأصله من القدو وهو أصل البناء الذي يتشعب منه تصريف الاقتداء.
قال الواحدي١٢ : الاقتداء في اللغة : الإتيان بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله و " بهداهم " متعلق ب " اقتداه ". وجعل الزمخشري تقديمه مفيدا للاختصاص على قاعدته.

فصل فيما يقتدى بهم فيه


هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الشيء الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه.
فقيل : المراد أن يقتدى بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو التوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق بالباري سبحانه وتعالى في الذات والصفات والأفعال.
وقيل : المراد بالاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصّه الدليل على هذا، فالآية دليل على أن شرع من قبلنا١٣ يلزمنا وقيل : المراد به إقامة الدلالة على إبطال الشرك، وإقامة التوحيد ؛ لأنه ختم الآية بقوله :﴿ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨٨ ] ثم أكد إصْرَارَهُمْ على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله :﴿ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ ثم قال :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ أي : اقْتَدِ بهم في نَفْيِ الشرك، وإثبات التوحيد، وتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الجُهَّال.
وقال آخرون : اللفظ مُطْلَقٌ فيحمل على الكل إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليل المُنْفَصِلُ.
قال القاضي١٤ يبعد حَمْلُ هذه الآية على أمْرٍ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الأنبياء المُتقدِّمين في شَرَائِعِهمْ لوجوه :
أحدها : أن شرائعهم مختلفة مُتناقِضَةٌ فلا يَصِحُّ مع تَنَاقُضِهَا أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحْكَامِ١٥ المُتناقِضَةِ.
وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العملِ، وإذا ثبت هذا، فنقولُ : دليل ثباتِ شَرْعِهِمْ كان مخصوصاً بتلك الأوْقَاتِ فقط، فكيف يُسْتَدَلُّ بذلك على اتِّبَاعِهِمْ في شرائعهم في كل الأوقات.
وثالثها : أن كونه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُتَّبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون مَنْصِبُهُ أقَلَّ من مَنْصِبِهِمْ، وذلك بَاطِلٌ بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حَمْلُ الآية على وُجُوبِ الاقتداء بهم في شَرَائِعِهمْ.
والجواب عن الأول، أن قوله :" فَبهُداهمُ اقْتَدِه " يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بحسب شرائعهم، فنقول : العام يجب تخصيصه في هذه الصُّورة، ويبقى فيما عداها حُجَّة.
وعن الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - لو كان مأموراً بأن يَسْتَدِلَّ بالدليل الذي اسْتَدَلَّ به الأنبياءُ المتقدِّمُون لم يكن ذلك مُتَابَعَةً ؛ لأن المسلمين لما اسْتَدَلُّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم مُتَّبِعُونَ لليهود والنَّصارى في هذا الباب ؛ لأن المستدلَّ بالدليل يكون أصلاً في ذلك الحكم، ولا تعلُّق له بمن قبله ألْبَتَّةَ، والاقتداء والاتِّبَاعُ لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوَّل سَبَباً لوجوب الفِعْلِ عن الثاني.
وعن الثالث : أنه أمر الرَّسُولَ بالاقتداء بجميعهم في جميع الصِّفَاتِ الحميدة، والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقَلَّ مرتبة من الكُلِّ على ما يأتي في الفَصْلِ الذي بعده.

فصل في أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم


احْتَجَّ العملاء بهذه الآية على أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلام ؛ لأن خِصَالَ الكمالِ وصفاتِ الشَّرفِ كانت مفرّقة فيهم ف " داود " و " سليمان " كانا من أصحاب الشكر على النعمة، و " أيُّوب " كان من أصحاب الصَّبْرِ على البلاءِ، و " يوسف " كان جَامِعاً لِهَاتيْنِ الحالتين، و " موسى " عليه الصلاة والسلام كان صاحب الشريعةِ القويَّةِ القاهرة، والمعجزات الظاهرة و " زكريا " و " يحيى " و " عيسى " و " إلياس " كانوا أصحاب الزُّهْدِ، و " إسماعيل " كان صاحب الصِّدْق و " يونس " كان صاحب التَّضَرُّعِ.
وثبت أنه -تعالى- إنما ذكر كُلُّ واحد من هؤلاء الأنبياء ؛ لأن الغالب عليه خَصْلةٌ مُعيَّنةٌ من خِصال المَدْح والشرف، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن يقتدي بهم بأسْرِهمْ، فكان التقدير كأنه -تعالى- أمر محمداً أن يجمع من خِصالِ العُبُوديَّة والطاعة كُل الصفات التي كانت مُتفرِّقَةً فيهم بأجمعهم، ولما أمره الله -تبارك وتعالى- بذلك امْتَنَعَ أن يقال : إنه قَصَّر في تحصيلها، فثبت أنه حَصَّلَهَا، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال : إنه أفْضَلُهُمْ بكليتهم١٦.
قوله :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين، وكان من جُمْلَةِ هدايتِهِمْ تَرْكُ طلب الأجْرِ في إيصال الدينِ، وإبلاغ الشريعة لا جَرَم اقتدى بهم في ذلك فقال :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ [ و " الهاء " في " عليه " ]١٧ تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السِّياق عليهما، و " أن " نافية ولا عمل لها على المَشْهُور، ولو كانت عَامِلةً لبطل عملها ب " إلاَّ " في قوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى ﴾ أن يذكره ويعظه. " وللعالمين " متعلق ب " ذكرى " و " اللام " معدية أي : إن القرآن العظيم إلاَّ تذكير للعالمين، ويجوز أن تكون متعلِّقَةً بمحذوف على أنها صِفَةٌ للذِّكْرَى، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إلى كل أهْلِ الدنيا لا إلى قَوْمِ دون قَوْمٍ.
١ سقط في ب..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/١١٧، البحر المحيط ٣/١٨٠، إتحاف فضلاء البشر ٢/٢١، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠)، السبعة ص (٢٦٢)، النشر ٢/١٤٢. التبيان ١/٥١٧، الزجاج ٢/٢٩٧..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/١١٧، البحر المحيط ٣/١٨٠، إتحاف فضلاء البشر ٢/٢١، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠)، السبعة ص (٢٦٢)، النشر ٢/١٤٢. التبيان ١/٥١٧، الزجاج ٢/٢٩٧، الحجة لابن خالويه ص (١٤٥)..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/١١٧، البحر المحيط ٣/١٨٠، الكشف ١/٤٣٩، روح المعاني ٢/١٤..
٥ ينظر: الدر المصون ٣/١١٧، البحر المحيط ٣/١٨٠، إتحاف فضلاء البشر ٢/٢١، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠)، السبعة ص (٢٦٢)، النشر ٢/١٤٢. التبيان ١/٥١٧، الزجاج ٢/٢٩٧، الحجة لابن خالويه ص (١٤٥)، هامش السبعة ص (٢٦٢) عن أبي علي الفارسي..
٦ ينظر: الدر المصون ٣/١١٧، البحر المحيط ٣/١٨٠..
٧ تقدم برقم ٨٤٠..
٨ ينظر: معاني القرآن ١٠/٨٢..
٩ ينظر: الدر المصون ٣/١١٨..
١٠ ينظر: الحجة ٢/٤١٢..
١١ صدر بيت وعجزه:
ومن بجسمي وحالي عنده سقم ***.........................
ينظر: ديوانه ٤/١٨٠، ابن يعيش ١٠/٤٤، التصريح ٢/١٨٣، العمدة ٢/١٢٣، الدر المصون ٣/١١٨..

١٢ ينظر: الرازي ١٣/٥٨..
١٣ ينظر: البحر المحيط للزركشي ٦/٣٩، التمهيد للإسنوي ٤٤١، المنخول للغزالي ٢٣١، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ٣٦٩، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٥/١٤٩، إرشاد الفحول للشوكاني ٢٣٩..
١٤ ينظر: الرازي ١٣/٥٧..
١٥ في أ: الأحوال..
١٦ ينظر: الرازي ١٣/٥٨..
١٧ سقط في ب..
قوله: وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة.
اعلم أن مَدَارَ القرآن على إثْبَاتِ التوحيد والنُّبُوَّةِ، فالله - تعالى - لما حَكَى عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه أثْبَتَ دليل [التوحيد،] وإبطال الشرك ذَكَرَ بعده تَقْرِيرَ أمر النبوة، فقال: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» حين انركوا النُّبُوَّةَ والرسالة، فهذا بيان وَجْهِ النَّظْمِ. «حَقّ قَدْرهِ» منصوب على المَصْدَرِ، وهو في الأصل صِفَةٌ للمصدر، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انْتَصَبَ على مَا كَانَ يَنْتَصِبٌ عليه مَوْصُوفُهُ، والأصل قدره الحقّ كقولهم: «جَرْد قَطِيفَة وسحق عمامة».
وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ «، وعيسى الثقفي:» قَدَّروا «بتشديد الدَّال» قدَره «بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لُغَتَانِ. قوله:» إذْ قَالُوا «مَنْصُوبٌ ب» قدروا «، وجعله ابن عطية منصوباً ب» قدره « [وقي كلام ابن عطية ما يشعر بأنها] للتعليل، و» من شيء «مفعول به زيدت فيه» من «لوجود شَرْطَي الزيادة.

فصل في معنى الآية


قال ابن عبَّاسٍ: ما عَظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه.
وروي عنه أيضاً أنه قلا: معناه ما آمنوا أن الله على كُلِّ شيء قدير.
وقال أبو العَالِيَةِ: ما وصفوا الله حقَّ صِفَتِهِ.
وقال الأخْفَشُ: ما عرفوه حَقَّ معرفته، وحقَّق الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى - فقال: قَدَرَ الشَّيءَ إذا سَبَرَهُ وحَرَّرَهُ، وأراج ان يعمل مقداره يقدره بالضمير قدراً، ومنه قوله
274
عليه الصَّلاة والسَّلام:» إن غُمَّ عليْكُمْ فاقْدرُوا لَهُ «أيك فاطلبوا أن تَعْرِفُوهُ هذا أصله في اللغة، ثم يقال لمن عرف شَيْئاً: هو يَقْدِرُ قَدْرَهُ، وإن لم يعرفه بِصِفَاتِهِ: إنه لا يقدر قَدْرَهُ، فقوله:» ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «صحيح في كُلِّ المعاني المذكورة ولما حكى عنهم أنهم ما قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قدره بيَّن السَّبَبَ فيه، وهو قولهم: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾.
واعلم أن كُلَّ من أنكر النُّبُوَّةَ والرِّسَالَة فهو في الحقيقة ما عرف الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وتقديره من وُجُوهٍ:
الأول: أن مُنْكِرَ البعث والرسالة إما أن يقول: إنه - تبارك وتعالى - ما كَلَّفَ أحداً من الخَلْقِ [تكليفاً أصلاً] أو يقول: إنه - تبارك وتعالى - كَلَّفَهُمْ، والأول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أنه - تبارك وتعالى - أبَاحَ لهم جَمِيعَ المُنْكَراتِ والقبائح، نحو [شَتْم] الله وَوَصْفه بما لا يليق به والاسْتِخْفَاف بالأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - والرسل، والإعراض عن شُكْرِ الله - تعالى - ومُقَابَلَة الإنْعَام بالإساءة، وكل ذلك باطل.
وإن سلم أنه - تعالى - كَلَّفَ الخَلْقَ بالأمر [والنهي فهاهنا لا بُدَّ] من مُبَلِّغٍ وشارع مُبَيِّنٍ، وما ذلك إلاَّ للرَّسُولِ.
فإن قيل لم لا يجوز أن يُقَالَ: العقل كافٍ في إيجاب الموجبات، واجتناب المقبحات؟
فالجواب: هَبْ أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيدُ التعريف العَقْلِيّ بالتعريفات المشروعة على ألْسِنَةِ الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - فصبتَ أن كل من مَنَعَ من البعثة والرسالة، فقد طَعَنَ في حكمة الله - تعالى - وكان ذلك جَهْلاً بصفة الإلهية، وحينئذ يَصْدُقُ في حقه قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ﴾.
والوجه الثاني في تقرير هذا المعنى: أن من الناس من يقول: إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل عليهم الصَّلاة والسلام؛ لأن يمتنع [إظهار] المعجزة على وَفْقِ دَعْوَاهُ تصديقاً له، والقائلون بهذا القول لهم مَقَامات.
أحدها: أن يقولوا: إنه ليس في الإمْكَانِ خَرْقُ العادات، ولا إيجاد شيء على خلاف ما جَرَتْ به العَادَةُ.
والثاني: يسلمون إمكان ذلك، إلاَّ أنهم يَقُولُونَ: إن بتقدير حُصُولِ هذه الأفعلاِ الخَارِقَةِ للعَادَاتِ، فلا دلالة لها على صِدْقه من الرسالة، وكلا القولين يوجب القَدْحَ في كمالِ قُدْرةِ الله - تعالى -.
275
أما الأوَّل وهو أنه ثبت أن الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمل مثله، وإذا كان كذلك كان جِسْمُ القَمَرِ والشمس قَابِلاً لِلتَّمَزُّقِ والتَّفَرُّقِ، فإن قلنا: إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وَصْفاً له بالعَجْزِ، ونُقْصانِ القُدْرةِ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر اللَّهَ حقَّ قدره.
وإن قلنا: إنه - تعالى - قادر عليه، وحنيئذ لا يمنع عَقْلاً انْشِقَاقُ القمر، ولا حصول سائر المعجزات.
وأما المقام الثاني: وهو أن [حدوث] هذه الأفعال الخَارقة عند دَعْوَى مُدَّعِي النبة يَدُلُّ على صِدقِهِ، فهذا أيضاً ظاهرٌ على ما قدر في كتب الأصولِ، فثبت أن كُلِّ من أنكر مَكَانَ البعثة والرسالة، فقد وصف الله تَبَارَكَ وتعالى بالعَجْزِ ونُقْصَانِ القدرة، فكل من قال ذلك، فهو ما قَدَرَ اللَّهَ حقَّ قَدْرِهِ.
والوجه الثالث: أنه لما ثبت حُدُوثُ العالم، فنقول: حدوثه يَدُلُّ على أن إله العالم قَادِرٌ عليم حكيم، وأن الخَلْقَ كلهم عَبِيدُهُ، وهو مالكهم وملكهم على الإطلاق والملكُ المُطاع يجب أن يكون له أمر ونهي، وتكليف على عِبادِهِ، وأن يكون له وَعْدٌ على الطاعة، ووعيدٌ على المعصية، وذلك لا يتم ولا يكمل إلاَّ بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فكل من أنكر ذلك فَقط طَعَنَ في كونه تعالى مَلِكاً مُطَاعاً، ومن اعتقد ذلكن فهو ما قدر الله حَقَّ قدره.

فصل في بيان سبب النزول


في هذه الآية الكريمة [بَحْثٌ] صَعْبُ، وهو أن يقال: هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ إما أن يقال: إنهم كُفًّار قريشن أو يقال: إنهم أهْلُ الكتاب من اليهود والنصارى، فإن كان الأول فكيف يمكن إبْطالُ قولهم بقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى﴾ وذلك أن كُفَّار قريش والبراهمة يُنْكِرُونَ رسالة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فكذلك يُنْكِرُون رسالةَ الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - فكيف يَحْسُنُ إيراد هذا الإلْزَامِ عليهم.
وإن كان قائل هذا القول من أهْلِ الكتاب فهو أيضاً مشكل؛ لأنهم لا يقولون هذا القَوْلَ، وكيف يقولونه مَعَ أن مَذْهَبَهُمْ أن التوارة كِتَابٌ أنزله الله على مُوسَى، والإنجيل كتابُ أنزله الله على عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأيضاً فهذه السُّورة مَكِيَّةٌ، والمُنَاظَرَةُ التي وقعت بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين اليهود والنَّصَارى كلها مَدَنيةٌ، فكيف يمكن حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليها، فهذا تقدير الإشكال في هذه الآية.
واعلم أن النَّاسَ اختلفوا فيه على قولين، والقول أن هذه الآية نزلت في حقِّ اليهود، وهو المشهرو عند الجمهور.
276
وقال ابن عباسِ وسعيد بن جُبَيْرٍ: «إن مالك بن االصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رَجُلاً سميناً فدخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» انْشدُكَ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوارة على مُوسَى هَلْ تجد في التَّوْارةِ أن اللَّهَ يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَن وأنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ وقدْ سَمِنْتَ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ اليَهُودُ «فضحك القوم فغضب [مالك] بن الصيف ثم التفت إلى عمر، فقال:» مَا أنْزَل اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ «فقال له قومه: ويلك؟ ما هذا الذي بلغنا عنك، [ألَيْسَ] أن الله أنزل التوارة على مُوسَى، فَلِمَ قلت: ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: إنه أغْضَبَنِي، فقلت ذلك فقالوا له: وأنت إن غضبت تَقُولُ على الله غَيْرَ الحق، فنزعوه عن رياستهم؛ وجعلوا مكانة كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ.
وقال السُّدِّيُّ: نزلت في فنحَاصِ بْنِ عازوراء وهو قائل هذه المَقالةِ.
قال ابن عباس: قالت اليهودك يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال:»
نَعَمْ «. قالوا: والله ما أنزل من السماء كتاباً، فأنزل الله تبارك وتعالى» مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «؛ إذ قالوا:» مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ «وفي سبب النزول سؤالات:
السؤال الأول: لَفْظُ الآية وإن كان مُطْلَقاً إلاَّ أنه يَتَقَيَّدُ بحسب العُرْفِ ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج [من الدار] فغضب الزَّوْجُ، فقال: إن خرجت من الدار فأنْتِ طالق، فإن كثيراً من الفهاء قالوا: اللفظ وإن كان مُطْلَقاً إلا أنه بِحَسبِ العُرْفِ يتَقَيَّدُ بتلك المرأة، فكذا هاهنا فقوله:»
مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ «وإن كان مُطْلٌقاً بحسب أصْلِ اللغة إلاَّ أنه يتقيد بتلك الواقِعَةِ بحسب العُرْقِ، فكان لقوله تعالى: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ في أنه يبغض الحَبْرَ السمين، وإذا كان هذا المُطْلَق مَحْمُولاً لعى هذا المُقَيَّدِ لم يكن قله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى﴾ مبطلاً لكلامه.
السؤال الثاني: أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يَهُوديَّا مُتَظَاهراً بذلك، ومع هذا المَذْهَبِ لا يمكنه أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغَضَبِ المُدْهِشِ للعقل، أو على سبيل طغيان اللسان، ومثل هذا الكلام لا يَلِيقُ بالله - تبارك
277
وتعالى - إنزال القرآن الباقي على وجه [الدهر] في غبطاله.
والقول الثاني: أن القائل: ما أنزل الله على بشر من شيء من كُفَّار قريش، وفيه سؤال: هو أن كُفَّراَ قريش كانوا ينكرون نُبُوَّةَ جميع الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام، فكيف يمكنم إلزامهم بِنُبُوَّةِ موسى، وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكُفَّار قريش، وإنما يليق باليهود، وهو قلوله: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُم﴾ وهذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قَوْلُ من يقول: إن أول الآية خِطَابٌ للكفار، وآخرها خطاب مع اليهود، وهذا فاسد، لأنه يوحب تَفْكِيكَ نَظْمِ الآية، وفساد تركيبها، وذلك لا يليق بكلامنا، فَضْلاً عن كلام ربِّ العالمين، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول.
أما السؤال الأول: فيمكن دَفْعُهُ بأن كُفَّار قريش كانوا مُخْتَلطينَ باليهود والنصارى، وكانوا قد سمعوا من الفَريقَيْنِ على سبيل التَّواتُر ظهور المعجزات القاهرة على يَدِ مُوسَى - وغيرها، والكفار كانوا يَطْعُنون في نبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بِسَببِ أنهم كانوا يَطْلُبُونَ من أمْثالَ هذه المعجزات [وكانوا] يقولون: لو جئتنا بأمثال هذه المُعجزات آمَنَّا بك، فكان مجموع هذه الكلمات جَارِياً مجرى ما يوجب عليهم الاعْتِرَاض، والاعتراف بنبوة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وإذا كان الأمر كذلك [لم يبعد إيراد] نبوة موسى إلزاماً عليهم في قولهم: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾.
وأما الثاني: فجوابه أن كفار قريش، وأهل الكتاب لما اشرتكوا في إنمكار بنوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَبْعُدْ أن يكون الكلامُ بعضه خِطَاباً مع كفار «مكة» وبقيّته خطاباً مع اليهود والنصارى.

فصل فيا يستفاد من الآية


دَلَّت هذه الآية الكريمة على أحكام:
منها: أن النَّكِرَةَ في موضع النَّفْي تفيد العموم، فإن قوله: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ نَكِرَةٌ في موضع النفي، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى﴾ إبْطالاً له وَنَقْضاُ عليه، وكان اسْتِدْلالاً فاسداً.
ومنها: أن النَّقْضَ يقدح في صِحَّةِ الكلام؛ لأنه - تبارك وتعالى - نَقَضَ قولهم: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ بقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى﴾ فلو لم يَدُلُّ النَّقْضُ على فساد الكلام لما كانت هذه الحُجَّةُ مُفِيدَةً لهذا المطلوب.
278
واعلم أن من يقول: إن الفَارِقَ بين الصُّورَتَيْنِ يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لَسَقَطَتْ حُجَّةُ الله في هذه الآية الكريمة، لأن اليهود كانوا يقولون: معجزات موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أظْهَرُ وأبهرِ من معجزاتك، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثبات هاهنا، ولو كان هذا الفرق [مقبولاً لسقطت هذه الحدة، وحيث لا يجوز القول بسقوطها، علمنا أن النقض] على الإطلاق مبطل.
قوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاس﴾
وصف الكتاب بصفتين:
أحدهما: قوله: «نوراً» وهو مَنْصُوبٌ على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه «الهاء» في «به»، فالعامل فيها «جاء».
والثاني: أنه «الكتاب»، فالعامل فيه «أنزل»، و «للناس» صِفَةٌ ل «هدى» وسمَّاه «نوراً» تشبيهاً له بالنُّورِ الذي يبين به الطريق.
فإن قيل: فعلى هذا لا يَبْقَى بَيْنَ كونه نوراً، وبين كونه هُدًى للناس فَرْقٌ، فعطف أحدهما على الآخر يوجب التَّغَايُرَ.
فالجواب: أن للنور صفتان:
أحدهما: كونه في نَفْسِه ظَاهراً جَليَّا.
والثانية: كونه بحيث يكون سَبَاً لظهرر غيره، فالمراد من كونه «نوراً وهدى» هذان الأمران وقد وُصِفَ القرآن أيضاً بهذين الوصفْينِ، فقال: ﴿ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: ٥٢].
قوله: «تَجْعَلُونَهُ» قرا ابن كثير وابن عمرو بياء الغَيْبَةِ، وكذلك «يُبْدُونَهَا ويُخفُون كَثِيراً» والباقون بتاء الخطاب في الثلاثة الأفعال، فأما الغَيْبَةُ فلِلحَمْلِ على ما تقدم من الغَيْبةِ في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا﴾ إلى آخره.
وعلى هذا فيكون في قوله: «وعُلِّمْتُمْ» تأويلان:
أحدهما: أنه خطاب لهم أيضاً وإنماء جاء به على طريق الالْتِفَاتِ.
والثاني: أنه خطابٌ إلى المؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب﴾ وبين قوله: «قل الله».
279
وأما القرءاة بتاء الخطاب ففيها مناسبة لقوله: «وعلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ» ورَجَّحَهَا مكي وجماعة كذلك قال مكي: «وذلك حَسَنٌ في المُشَاكَلَةِ والمُطابَقَةِ، واتِّصالِ بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأن أكثر القراء عليه».
قال أبو حيَّان: «ومن قال: إن المكرين العرب، أو كفار قريش لم يكن جَعْلُ الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال خلال السُّؤال والجواب: تجعلونه قراطيس [يبدونها]، ومثل هذا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ؛ لأن فيه تَفْكِيكاً للنَّظْمِ، حيث جعل أول الكلام خِطَاباً لكفار قريش، وآخره خطاباً لليهود».
قال: «وقد أجيب بالجميع لما اشتركوا في إنكار نُبُوَّةِ رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بَعْضُ الكلام خِطَاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل».
قوله: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ» : يجوز أن تكون «جعل» بمعنى «صَيَّرَ» وأن تكون بمعنى «ألقى» أي: يضعونه في كَاغدٍ.
وهذه الجلمة في محلِّ نصب على الحال، إما من «الكتاب» وإما من «الهاء» في «به» كما تقدم في «نوراً».
قوله: «قَرَاطِيس» فيه ثلاثة أوجه:
والثاني: أنه على حذف مضاف، أي: يجعلونه ذَا قَرَاطِيسَ.
والثالث: أنهم نَزَّلوه مَنْزِلَةَ القراطيس، وقد تقدم تفسير القراطيس. والجملة من قوله: «تبدونها» في محل نصب صِفَةً ل «قراطيس» وأما «تخفون» فقال أبو البقاء: إنها صفة أيضاً لها، وقدر ضميراً محذوفاً، أي: تخفون منها كثيراً.
وأما مكي فقال: «وتخفون» متبدأ لا مَوْضِعَ له من الإعراب. انتهى.
كأنه لما رأى خُلُوَّ الجملة من ضمير يَعُودُ على «قراطيس» منع كونه صِفَةً، وقد تقدم أنه مُقَدَّرٌ، وهو أولى، وقد جوَّز الواحدي في «تبدون» أن يكون حالاً من ضمير «الكتاب» من قوله: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس» على أنه يجعل الكتاب القراطيس في معنى؛ لأنه مُكْتَتَبٌ فيها. انتهى.
قوله: «عَلَى أنْ تَجْعَلَ» اعْتِذَارٌ عن مجيء خبره مُؤنُّثاً، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع.
قوله: «وعُلِّمْتُمْ» يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في «يَجْعَلُونه»، وما عطف
280
مُسْتَانفٌ، وأن يكون حالاً، وإنما أتى به مُخَاطباً لأجل الالْتفاتِ، وأما على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ، ومن اشترط «قد» في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا، أي: وقد علمتم ما لم تعلموا.
والأكثرون على أن الخطابَ هذا لليهود؛ يقول: علمتم على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [فضيعوه ولم ينتفعوا به.
وقال مجاهدك هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ].
فإن قيل: إن كل كتاب لا بد وأن يوضع في القراطيس، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب، فما السبب في أن الله - تبارك وتعالى - حكى هذا المعنى في معرض الذَّمِّ لهم؟
فالجواب: أن الذَّمِّ لم يقع على هذا المعنى فقط، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس، وفَرَّقُوهُ وبعَّضُوُ، لا جَرَمَ قدروا على إبداء البَعْضِ وإخْفَاءٍ البعض، وهو الذي فيه صِفَةُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فإن قيل: كيف يقدرون على ذلك، مع أن التوراة كتابٌ وصل إلى أهل المَشْرِقِ والمغرب، وعرفه أكثر أهل العلم وحَفِظُوهُ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه، كما أن الرَّجُلَ في هذا الزمان إذا أراد إدخال الزِّيَادَةِ والنقصان في القرآن لم يقدر على ذلك، فكذا القول في التَّوْرَاةِ؟
فالجواب أنا ذكرنا في سورة «البقرة» أن المراد من التَّحْرِيف تفسير آيات التوراة بالوُجُوهِ الفاسدة الباكلة، كما يفعله المبطلون في زَمَانِنَا هذا بآيات القرآن.
فإن قيل: هَبْ أنه حصل في التوارة آياتٌ دالَّةٌ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ أنها قَلِيلةٌ ولم يخفوا من التوارة إلاَّ تلك الآيات، فكيف قال: «ويخفون كَثِيراً».
فالجواب أن القوم [كانوا] يخفون الآيات الدَّالَّة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكذلك يخفون الآيات المشتملة على [آيات الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا] إخفاء الآية الدالة على رجم [الزاني] المُحْصَنِ.
قوله: «قل الله» لفظ الجلالة يجوز فيها وَجْهَان:
أحدهما: أن يكون فاعلاً لفعل محذوف أيم: قل أنزلهن وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز﴾ [الزخرف: ٩]
والثاني أنه مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: والله أنزله، ووجهه مناسبة مطابقة الجواب للسؤال، وذلك أن جملة السؤال اسمية، فلتكن جملة الجواب كذلك.
281
ومعنى الآية الكريمة: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلاَّ فقل فأنت الله الذي أنزلت، أي أن العقل السليم والطَّبْعَ المُسْتَقِمَ يشهد بأن الكِتَابَ الموصُوفَ بالصفات المذكورة المؤيد قَوْلَ صابه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل ظاهراً لظهور الحُجَّةِ القَاطِعَةِن لا جَرَمَ قال تبارك وتعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: قل لهم المُنَزِّلُ لذلك الكتاب هو الله، ونظيره قوله تعلى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ﴾ [الأنعام: ١٩] كما أن الرجل الذي يريد إقامَةَ الدلالة على الصَّانِعِ يقول: منِ الذي أْحْدَثَ الحياة بعد عَدَمِهَا، ومن الذي أحْدَثَ العَقْلَ بعد الجَهَالةِ ومن الذي أودع الحدَقَةَ القُوَّةَ البَاصِرَة، وفي الصِّمَاخِ القُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثم إن هذا القائل بِعَيْنِهِ يقول: الله، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حَيْثُ يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء اقر الخَصْمُ به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا.
قوله: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ يجوز أن يكون «فِي خَوْضِهِمْ» متعلقاً ب «ذرهم»، وأن يتعلق ب «يلعبون»، وأن يكون حالاً من مفعول «ذَرْهُمْ» وأن يكون حالاً من فاعل «يلعبون» [فهذه أربعة أوجه] وأما «يلعبون» فيجوز أن يكون حالاً من مفعول «ذرهم».
ومن منع أن تتعدَّد الحال لواحد لم يُجِزء حينئذ أن يكون «في خوضهم» حالاً من مفعول «ذرهم»، بل يجعله إما متعلقاً ب «ذرهم»، كما تقدَّم أو ب «يلعبون»، أو حالاً من فاعله.
ويجوز أن يكون «يلعبون» حالاً من ضمير «خوضهم» وجاز ذلك أنه في قُوَّةِ الفاعل؛ لأن المصدر مُضاف لفاعله؛ لأن التقدير: «ذرهم يخوضون لاَعِبينَ» وأن يكون حالاً من الضمير في «خوضهم» إذا جعلناه حالاً؛ لأنه يتضَمَّنُ معنى الاسْتِقْرارِ، فتكون حالاً متدخلة.

فصل في معنى الآية


معنى الكلام إذا أقمت الحُجَّة عليهم، وبلغت في الإعذار والإنذار هذا المَبْلَغَ العظيم لم يَبْقَ عليك من أمرهم شيء ألْبَتَّةَ، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾ [الشورى: ٤٨].
قال بعضهم: هذه الآية مَنْسُوخَةٌ بآية السَّيْفِ، وهذا بعيدٌ؛ لأن قوله: «ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» مذكور لأجل التهديد، ولا ينافي ذلك حصول المُقاتَلَة، فلم يكن ورود الآية الكريمة الدَّالَّةِ على وجوب المُقاتَلَةِ رافعاً لمدلول هذه الآية، فلم يحصل النَّسْخُ.
قوله " هذا " إشارة إلى القرآن، أي: القرآن كتاب مبارك " أنزلناه مصدق الذي بين يديه ".
282
وفيه دليل على تَقْدِيمِ الصِّفةِ غير الصريحة على الصريحة، وأجيب عنه بأن «مُبَارَكٌ» خبر مبتدأ مضمرن وقد تقدم تحقيق هذا في قوله ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة: ٥٤].
وقال الواحدي: «مبارك» : خبر الابتداء فصل بينهما بالجملة، والتقدير: هذا [كتاب] مبارك أنزلناه، كقوله: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه﴾ [الأنبياء: ٥٠].
قال شهاب الدين: وهذا الذي ذكره لا يَتَمَشَّى إلا على أن قوله: «مبِارك» خبر ثانٍ ل «هذا» وهذا بعيد جداً وإذا سلّم له ذلك، فيكون «أنزلناه» عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته، ولكن لا يحتاج إلى ذلك، بل يجعل «أنزلناه» صفة ل «كتاب» ولا محذور حينئذ على هذا التقدير، وفي الجملة فالوَجْهُ ما تقدَّمَ فيه من الإعراب.
وقدَّم وَصْفَهُ بالإنزال على وَصْفُهُ بالبركة، بخلاف قوله تعالى: ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه﴾ [الأنبياء: ٥٠]
قالوا [لأن الأهم] هنا وَصْفُهُ بالإنزال إذا جاء عقيب إنكارهم أن يُنْزِلَ الله على بَشَرٍ شيء، بخلاف هناك، ووقعت الصفة الأولى جُمْلَةً فعلية؛ لأن الإنزال يَتَجَدَّدُ وقْتاً فوقْتاً والثانية اسماً صريحاً؛ لأن الاسم يَدُلُّ على الثبوت والاسْتِقْرارِ، وهو مقصود هنا أي: [ركته] ثابتةٌ مستقرة.
قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: «ويجوز نصب» مبارك «في غير القرآن العظيم على الحال، وكذا: مصدق الذي بين يديه».

فصل في المقصود بإنزال


قوله: «أنزلناه» المقصود أن يُعْلم أنه من عند الله لا من عند الرسول، وقوله تعالى: «مبارك» قال أهل المعاني أي: كثير خيره دائم منعفعته يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية.
قوله: «مُصَدّق» صِفَةٌ أيضاً، أو خبر بعد خبر على القول بان «مبارك» خبر لمبتدأ مضمر وقع صِفَةً لنكرة؛ لأنه في نِيَّةش الانفصال، كقوله تعالى: ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] وكقول القائل في ذلك: [البسيط]
٢٢٣٢ - يَا رُبَّ غَابِطنَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُكُمْ............................
وقال مكي: «مُصَدّق الذي» نعت ل «الكتاب» على حذف التنوين لالتقاء الساكنين
283
و «الذي» في موضع نصب وإن لم يقدر حذف التنوين كان «مصدق» خبراً و «الذي في موضع خفض، وهذا الذي قاله غَلَطٌ فاحش؛ لأن حَذْفَ التنوين إنما هو الإضافة اللفظية، وإن كان اسم الفاعل في نِيَّةِ الانفصال، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين إنما كان في يضرورة أو نُدُورٍ؛ كقوله: [المتقارب]
٢٢٣٣ -............................. وَلاَ ذَاكِرِ اللَّه إلاَّ قَلِيلا
والنحوين كلهم يقولون في»
هذا ضارب الرجل «: إن حَذْفَ التنوين للإضفاة تَخْفِيفاً؛ ولا يقول أحد منهم في مثل هذا: إنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين.

فصل في معنى التصديق في الآية


معنى كونه»
مصدقاً لما قبله «من الكتب المنزلة قبله أنها [توافقنا في نفي الشرك وإثبات التوحيد].
قوله: «ولتنذر»
قرأ الجنهور بتاء الخطاب للرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وأبو بكر عن عصام بياء الغَيْبَةِ، والضمير للقرآن الكريم، وهو ظاهر أي: ينذر بمَواعِظِهِ وَزَواجِرِهِ ويجوز أن يعود على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للعلم به.
وهذه «اللام» فيها وجهان:
أحدهما: هي متعلّقة ب «أنزلنا» عطف على مُقدَّرٍ قدَّرهُ أبو البقاء: «ليؤمنوا ولتنذر»، وقدَّرهَا الزمخشري، فقال: «ولتنذرَ معطوف على ما دَلَّ عليه صفة الكتاب، كمنا قيل: أنزلناه للبركات وليصدق ما تقدَّمَهُ من الكتب والإنذار.
والثاني: أنها متعلِّقة بمحذوف متأخّر، أي ولتنذر أنزلناه.
قوله:»
أمّ القُرَى «يجوز أن يكون من باب الحَذْفِ، أي: أهل أم القُرَى، وأن يكون من باب المَجَازِ أطلق لِلْحَمْلِ إلى المحلِّ على الحال، وإنهما أولى أعني المجاز والضمير في المسألة ثلاثة أقوال، تقدم بَيَانُهَا، وهذا كقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] وهناك وَجْهٌ لا يمكن هنا، وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حَقِيقَةً، ويكون ذلك مُعْجِزَةً للنبي، وهنا لا يأتي ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تَتَكلَّمُ إلا أن الإنْذارَ لا يقعُ لعدَمِ فائدته.
284
وقوله:» ومَنْ حَوْلَهَا «عطف على» أهل «المحذوف، أي: ولتنذر مَنْ حول أمِّ القرى، ولا يجوز أن يعطف على» أم القرى «، إذ يلزم أن يكون معنى» ولتنذر «أهل من حولها ولا حَاجَةَ تدعو إلى ذلك؛ لأن» من حولها «يقبلون الإنذار.
قال أبو حيان: ولم يحذف»
من «، فيعطف حول على» أم القرى «، وإنّه لا يصح من حيث المعنى؛ لأن» حول «ظَرْفٌ لا ينصرف، فلو عطف على» أم القرى «لصار مفعولاً به لعطفه على المعفول به، وذلك لا يجوز؛ لأن العرب لا تستعمله إلاَّ ظرفاً.

فصل في تسمية» مكة «


اتفقوا على أن أم القرى»
مكّة «سميت بذلك؛ قال ابن عباس: لأن الأرضين دحيت من تحتها، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل [النسل.
قال الأصم: سميت بذلك؛ لأنها قِبْلَةُ أهل الدنيا، فصارت هي كالأصل] وسائر البلاد والقرى تابعة.
وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحَجُّ وهو إنما يكون في هذه البَلْدَةِ، فلهذا السبب يجتمع الخَلْقُ إليها، كما يجتمع الأولاد إلى الأم.
وأيضاً فلما كان أهْلُ الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحجِّ لا جَرَمَ يحصل هناك أنواعٌ من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد، ولا شكَّ أن الكَسْبَ والتجارة من أصول المنافع، فلهذا السبب سميت»
مكة «بأم القرى.
وقيل:»
مكة «المشرفة أوَّلُ بلدة سُكِنَتْ في الأرض.
قوله: «من حولها»
يدخل في سائر البلدان والقُرَى.
قال المفسرون: المراد أهل الأرض شَرْقاً وغرباً.
قوله: «والذين يؤمنون بالآخرة» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره «يؤمنون» ولم يتّحد المبتدأ ولاخبر لِتَغَايُرِ متعلقيهما، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ، وإلا فيمتنع أن تقول: «الذي يقوم يقوم»، و «الذين يؤمنون يؤمنون»، وعلى هذا فذكر الفضلة هنا واجب، ولم يتعرَّضِ النحويون لذلك، ولكن تعرضوا لِنَظَائِرِهِ.
والثاني: أنه مَنْصُوبٌ عَطْفاً على «أم القرى» أي: لينذر الذين أمنوا، فيكون «
285
يؤمون» حالاً من الموصول، وليست حالاً مؤكدة؛ لما تقدم من تَسْويغ وقوعه خبراً، وهو اختلاف المُتَعَلّق، و «الهاء» في «به تعود عنلى القرآن، أو على الرسول.

فصل في معنى الآية


ذكر العلماء في [معنى] قوله تعالى: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي: الذي يؤمن بالآخرة، وهو الذي يؤمن بالوَعْدِ والوعيد، والثواب والعقاب، ومن كان كذلك فإنه تعظم رغبته في تَحْصيلِ الثواب، ورَهْبَتُهُ عن حُلُولِ العقاب، ويبالغ في النظر في دلائل التوحيد والنبوة، فيصل إلى العلم والإيمان.
وقال بعضهم: إن دين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [مبني على الإيمان بالبعث والقيامة، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبصحة الآخرة أمرين متلازمين].
قوله: ﴿وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ حال، وقدّم»
على صلاتهم «لأجْلِ الفاصلة، وذكر أبو علي في» الروضة «، أنَّ أبا بكر قريأ» على صَلَواتِهِمْ «جمعاً والمراد بالمُحَافَظَةُ على الصلوات الخمس.
فإن قيل: الإيمان بالآخرة يحمل كُلِّ الطاعات، فما الفائدة في تخصيص الصَّلاةِ؟ فالجواب: أن المَقْصُودَ التَّنْبيه على أن الصَّلاة أشْرَفُ العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شَيءٍ من العبادات لاظاهرة، إلاَّ على الصلاة، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] أي: صلاتكم، ولم يقع اسم الكُفرِ على شيء من المَعَاصِ] إلاَّ على تَرْكَ الصلاة، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
مَنْ تَرَكَ الصَّلاة مُتَعَمِّداً فَقَدْ كَفَرَ «.
فما اخْتُصَّت الصلاة بهذا النوع من التشريف خصها الله - تبارك وتعالى - بالذِّكْرِ هاهنا.
286
لما بيَّن كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله، وبيَّن شَرَفَهُ ورِفْعَتَهُ ذكر بعده ما يَدُلُّ
286
على وعيد من ادَّعَى النبوة والرسالة كذباً وافتراءً.
قال قتادةُ: نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذَّاب الحَنَفِيّ صاحب «اليمامة» وفي الأسْودِ العنسي صاحب «صنعاء» كانا يدَّعيانِ الرِّسالة والنبوة من عند الله كذباً وافتراء، وكان مسيلمة يقول لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة.
وقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بَيْنَمَا أنَّا إذْ أوتيتُ خَزَائِنَ الأرْض، فَوُضِعَ في يَدَيَّ سِوارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فكبرا عليَّ وأهمَّانِي، فأوحى اللَّهُ إليَّ أنْ أنفخهما فَذَهَبَا فأوَّلتهما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنَا بَيْنَهمَا صاحبَ صَنْعاءَ وصاحِبَ يَمامَة».
قال القاضي: الذي يَفْتَري على الله الكذبَ يدخل فيه من يدَّعي الرسالة كَذِباً ولكن لا يقتصر عليه؛ لأن العِبْرَةَ بعموم اللفظ، لا بخصوص السَّبب.
قال القرطبي: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطِرِهمْ، وزعمون أن ذلك لِصَفَائِهَا من الأكْدَارِ، وخلوها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الرَّبَّانِيَّة، فيقفون على أسرار الكليات، ويعلمون أحكام الجزئيات فَيْسْتَغُنُونَ بها عن أحكام الشَّرائع، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء العامة، وأما الأولياء، وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النُّصوص.
وقوله تعالى: «ومن أظلم» مبتدأ وخبر، وقوله: «كذباً فيه أربعة أوجه:
أحدهما: أنه مفعول»
افترى «أي: اختلق كذباً وافتعله.
الثاني: أنه مَصْدرٌ له على المعنى، أي: [افترى] افتراءاً، وفي هذا نظر؛ لأن المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المَصْدرُ فيه نَوعاً من الفعل، نحو: قدع القُرْفُصَاءَ أو مُرَادفاً له ك»
قعدت جلوساً «أما ما كان المصدر فيه أعم من فعله نحو: افترى كذباً، وتقرفصَ قعوداً، فهذا غير معهود، إذ لا فائدة فيه والكذب أعمُّ من الافتراء، وقد تقدَّم تحقيقه.
الثالث: أنه مفعول من أجلِهِ، أي: افترى لأجل الكذبِ.
الرابع: أنه مصدر واقع موقع الحال، أي: افترى حال كونه كاذباً، وهي حال مؤكدة.
وقوله:»
أو قال «عطف على» افترى «في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل، وجوز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر، قال: تقديره:» أوحى إليَّ
287
الوحي «، أو الإيحاء. والأوّلأ أولى؛ لأن فيه فائدةً جديدةً، بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قَبْلَهُ.
قوله:»
وَلَمْ يُوحَ إلَيْه «جملة حاليةٌ، وحذف الفاعل هنا تعظيماً له؛ لأن المُوحِي هو الله تعالى.
قوله: «ومَنْ قَالَ»
مجرور المَحَلّ؛ لأنه نَسَقٌ على «مَنْ» المجرور ب «من» أي: وممن قال، وقد تقدم نظير هذا الاستفهام في «البقرة: وهناك سؤال وجوابه.
قوله ﴿سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله﴾ وقرا أبو حيوة:»
سأنزّل «مضعفاً وقوله:» مثل «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَنْصُوبٌ على المفعول به، أي سأنزل قرآناً مِثْلَ ما أن الله، و»
ما «على هذا مَوصُولةٌ اسمية، أن نكرة موصوفة، أي: مثل الذي أنزله، أو مثل شيء أنزله.
والثاني: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، تقديره: سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله، و»
ما «على هذا مصدرية، أي: مثل إنزال الله.

فصل في نزول الآية


قيل: نزلت هذه الآيةُ الكريمة في عبد الله بن أبي سَرْحِ كان قد أسلم، وكان يكتب الوحي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان إذا أملى عليه»
سميعاً بصيراً «كتب عليماً حكيماً، وإذا أملى عليه» عليماً حكيماً «كتب» غفوراً رحيماً «فلما نزل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] أمْلاَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعجب عبد الله من تفصيل خَلْقِ الإنسان، فلما انتهى إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] فقال: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤] فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اكتُبْهَا فَهَكَذَا نَزَلَتْ «فَشَكَّ عبد الله. فقال: لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه فارتدَّ عن الإسلام، ولحق بالمشركين، ثم رجع عبد الله إلى الإسْلام قبل فتح» مكّة «المشرفة، إذ نزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وغيره: يريد النَّضْرَ بن الحارثِ، والمستهزئين، وهو جواب لقولهم: ﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا﴾ [الأنفال: ٣١] وقوله في القرآن: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ [الأنفال: ٣١] فكل أحمد يمكنه الإتيان [بمثله].
»
وَلَوْ تَرَى «يا محمد» إذ الظالمون «و» إذا «منصوب ب» ترى «، ومَفْعُول الرؤية محذوف، أي: ولو ترى الكُفَّار الكذبةَ، ويجوز ألا يقدّر لها مفعول، أي: ولو كنت من أهل الرُّؤيةِ في هذا الوقتِ، وجواب» لو «محذوف، أي: لَرَأيْتَ أمراً عظيماً.
و»
الظالمون «يجوز أن تكون فيه» أل «للجنس، وأن تكون للعهد، والمراد بهم من تقدَّم
288
ذكره من المشركين واليهود والكذبةِ المفترين و» في غَمَارتِ المَوْتِ «خبر المبتدأ، والجملة في مَحَلِّ خفض بالظَّرْفِ.
و»
الغَمَراتُ جمع «غَمْرة» وهي الشدة المفظعة وأصلها مِنْ غَمَرَةُ الماءُ إذا سَتَرَهُ، وغَمْرَةُ كلِّ شيء كثرته ومعظمه، ومنه غمرة الموت وغمرة الحرب.
ويقال: غمرت الشيء إذا علاه وغطَّاه.
قال الزَّجَّاج: يقال لكل من كان في شيء كثير: قد غَمَرَهُ ذلك وغمره الدَّيْنُ إذا كثر عليه، ثم يقال للمَكَارِهِ والشدائد: غمرات، كأنها تَسْتُرُ بغمرها وتنزل به قال في ذلك: [الوافر]
٢٢٣٤ - وَلاَ يُنْجِي مِنَ الْغَمَراتِ إلاَّ بَرَاكَاءُ القِتَالِ أو الفِراءُ
ويجمع على «غُمَرَ» ك «عُمْرة» و «عُمَر» كقوله: [الوافر]
٢٢٣٥ -.................... وَحَانَ لِتَالِكَ الغُمَرِ انْقِشَاعُ
ويروى «انحسار».
وقال الرَّغِبُ: أصل الغَمْرِ إزالةُ أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله: غمر وغامر، وأنشد غير الراغب على غامر: [الكامل]
٢٢٣٦ - نَصَفَ النَّهَارُ المَاءُ غَامِرُهُ وَرَفِيقُهُ بالغَيْبِ لا يَدْرِي
ثم قال: «والغمرة مُعْظَمُ الماء لِسَتْرِهَا مَقَرَّهَا، وجعلت مثلاً للجَهَالَةِ التي تغمر صاحبها».
والغَمْرُ: الذي لم يُجَرِّب الأمور، وجمعه أغْمَار، والغِمْرُ: - بالكسر - الحِقْدُ، والغَمْرُ بالفتح: الماء الكثير، والغَمَرُ بفتح الغين والميم: ما يغمر من رائحة الدَّسَم سائر الروائح، ومنه الحديث «مَنْ بَاتَ وفِي يَدَيْهِ غَمَرٌ».
وغرم يده، وغمر عرضه دنس، ودخلوا في غُمَارِ الناس وخمارهم، والغمرة ما
289
يطلى به من الزَّعْفران، ومنه قيل للقدح الذي يتناول به الماء: غمر، وفلان مُغَامِرِ إذا رمى بنفسه في الحَرْبِ، إما لِتَوغُّلِهِ وخوضه فيه، وإما لِتَصَوُّر الغمار منه.
قوله: «والملائِكَةُ بَاسِطُوا أيديهم» [جملة في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير] المستكن في قوله: «في غمرات»، و «أيديهم» خفض لفظاً، وموضعه نصب أي: باسطو أيديهم بالعذابِ يضربون وجُوهَهُمْ وأدبارهم وقوله «أخرجوا» منصوب المحل بقول مضمر، والقول يُضْمر كثيراً، تقديره: يقولون: أخرجوا، كقوله: ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤] أي: يقولون: سلام عليكم، وذلك القول المضمر في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير في «باسطو».
فإن قيل: إنه لا قُدْرَةَ لهم على إخْرَاجِ أرواحهم من أجسادهم، فما الفائدة في هذا الكلام؟
فالجواب: أن في تفسير هذه الكلمة وجوه:
أحدهما: ولو ترى الظَّالمين إذ صاروا إلى غمراتِ الموْتِ في الآخرة، فأدخلوا جهنم، وغمراتُ الموت عِبَارةٌ عما يصيبتهم هناك من أنواع الشَّدائِدِ والعذاب، والملائكة باسطو أيديهم [عليهم بالعذابِ] يُبَكِّتُونَهُمْ بقولهم: أخرجوا أنفسكم من هذا العذابِ الشديد إن قدرتم.
وثانيها: أن المعنى «ولو ترى إذ الظالمون في غمراتِ الموتِ» عند نزول الموت في الدنيا، والملائكة باسطو أيديهم لِقَبْضِ أرواحهم يقولون لهمك أخرجوا أنفسكم من هذه الشَّدائدِ، وخَلِّصُوهَا من هذه الآلام.
وثالثها: «أخرجوا أنفسكم» [أي: أخرجوها إلينا] من أجسادكم، وهذه عبارة عن العُنْفِ والتشديد في إزْهَاقِ الروح من غير تنْفِيسٍ وإمهال كما يفعل الغريمُ الملازم المُلحُّ، ويقول: أخرج مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعة، ولا أبرح من مكاني حتى أنْزعَهُ من أحْدَاقِكَ.
ورابعها: أن هذه اللَّفظة كناية عن شِدَّةِ حالهم، وأنهم بلغوا في البلاء الشديد إلى حيث يتولَّى بنفسه إزْهَاقَ ورحه.
خامسها: أنه ليس بأمر، بل هو وعيدٌ [وتقريع] كقول القائل: امضِ الآن لترى ما يحلُّ بك.
قوله: «اليوم تُجْزَوْنَ» في هذا الظرف وجهان:
أظهرهما: انه مَنْصُوبٌ ب «أخرجوا» بمعنى: أخروجوها من أبدانكم، فهذا القول في الدنيا، ويجوز أن يكون في يوم القيامةِ، والمعنى خَلَّصُوا أنفسكمن من العذابِ، كما تقدَّم، فالوقف على قوله: «اليوم»، والابتداء بقوله: «تُجْزَونَ عذابَ الهُونِ».
290
والثاني: أنه منصوب ب «تجزون» والوقف حينئذ على «أنفسكم»، والابتداء بقوله: «اليوم» والمراد ب «اليوم» يحتمل أن يكون وقتَ الاحتضار، وأن يكون يوم القيامة، و «عذاب» معفول ثانٍ، والأول قام مقام الفاعل.
والهُون: الهَوَان؛ قال تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ﴾ [النحل: ٥٩].
وقال ذو الأصبع: [البسيط]
٢٢٣٧ - إذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أمِّي بِرَاعِيَةٍ تَرْعَى المخَاضَ ولا أغْضِي على الهُونِ
وقالت: الخَنْسَاءُ: [المتقارب]
٢٢٣٨ - يُهِينُ النُّفُوسَ وهُونُ النُّفُو سِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ أبْقَى لَهَا
واضاف العذابَ إلى الهُونِ إيذاناً بأنه متمكنٌ فيه، وذلك إنه ليس كل عذاب يكون فيه هُونٌ؛ لأنه قد لا يكون فيه هُونٌ، لأنه قد يكون على سبيل الزَّجْرِ والتأديب ويجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته، وذلك أن الأصْلَ العذاب الهُون وصف به مُبَالغَة، ثم أصافه إليه على حَدِّ إضافته في قولهم: بَقْلَةُ الحمقاَءِ ونحوه، ويدل عليه أن الهُونَ بمعنى قراءة عبد الله وعكرمة كذلك.
و «الهَوْن» بفتح الهاء: الرِّفْقُ والدَّعة؛ قال تبارك وتعالى: ﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ [الفرقان: ٦٣].
واعلم أنه - تبارك وتعالى - جمع هناك بين الإيلامِ والإهانَةِ، فكما أن الثواب شَرْطُهُ أن يكون منْفَعَةً معروفة بالتعظيم، فكذا العقاب شرطه أن يكون مَضَرَّةً مقرونة بالإهانِةِ.
قوله: «بِمَا كُنْتُمْ» «ما» مصدرية، أي: بكونكم قائلين غير الحقَّ، وكونكم مستكبرين و «الباء» متعلقة ب «تجزون» أي: بسببه، و «غير الحق» نصبه من وجهين:
أحدهما: أنه مفعول به، أي تذكرون غير الحق.
والثاني: أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذوف، أي: تقولون القول غير الحق.
وقوله: «وكنتم» يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطف على «كنتم» الأولى، فتكون صَلَةً كما تقدم.
والثاني: أنها جملة مُسْتَأنَفَة سيقت للإخبار بذلك و «عن آياته» متعلّق بخبر «كان»، وقدم لأجل الفواصل، والمراد بقوله: «كنتم عن آياته تَسْتَكِبرُونَ» أي: تَتَعَظَّمُونَ عن الإيمان بالقرآن لا تُصَدِّقُونَهُ.
291
وذكر الواحدي أي: لا تُصَلُّونَ له، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ سَجَدَ [لِلَّهِ سَجْدَةً] بيِنَّةٍ صَادِقَةٍ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الكِبْرِ».
292
«فُرَادَى» منصوب على الحال من فاعل «جِئْتُمُونَا»، و «جئتمُونَا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بمعنى المستقبل، أي: تجيئوننا، وإنما أبرزه في ورة الماضي لِتَحَقُّقِهِ كقوله تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة﴾ [الأعراف: ٤٤].
والثاني: أنه ماضٍ، والمراد به حكاية الحال بين يدي الله - تعالى - يوم يُقال لهم ذلك، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليَوْمِ.
واختلفوا في قول هذا القَائِل، فقيل: هو قول الملائكة المُوَكَّلِينَ بعقابهم.
وقيل: هو قول الله تعالى، ومنشأ هذا الخلاف أن الله - تبارك وتعالى - هل يَتَكَلَّمُ مع الكُفَّارِ أم لا؟ فقوله تبارك وتعالى في صفة الكفار: «وَلاَيُكَلِّمُهُم» يوجب ألاَّ يتكمل معهم، فلهذا السبب وقع الاخْتِلافُ، والأول أقوى؛ لأن هذه الآية الكريمة معطوفة على ما قبلها، والعطف يوجب التَّشْرِيكَ.
واختلفوا في «فُرَادَى» هل هو جمع أم لا، والقائلون بأنه جَمْعٌ اختلفوا في مُفْرَدِهِ: فقال الفراء: «فُرَادى» جمع «فَرْد وفَرِيد وفَرَد وفَرْدَان» فجوز أن يكون جَمْعاً لهذه الأشياء.
وقال ابن قُتَيْتَةَ: هو جمع «فَرْدانَ» كسَكْرَانَ وسُكَارَى وعَجْلان وعُجالى.
وقال قوم: هو جمع فَرِيد كَرَدِيف ورُدَافى، وأسِير وأسَارى، قال الراغب، وقال: هو جمع «فَرَد» بفتح الراء، وقيل بسكونها، وعلى هذا فألفها للتأنيث كألف «سُكَارى» و «أسارى» فيمن لم يتصرف.
وقيل: هو اسم جمع؛ لأن «فرد» لا يجمع على فُرَداى فرد أفراد، فإذا قلت: جاء القوم فُرَادة فمعناه واحداً واحداً.
قال الشاعر: [الطويل]
292
ويقال: فَرِدَ يَفْرُدُ فُرُوداً فهو فَارِدٌ، وأفردته أنا، ورجل أفْردُ، وامرأة فَرْدَاءُ كأحمر وحمراء، والجمع على هذا فُرْدٌ كحُمْر، ويقال في فُرَادى: «فَرَاد» على زِنَةِ «فعال»، فينصرف، وهي لغة «تميم» وبها قرأ عيسى بن عمر، وأبو حيوة: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَاداً» وقال أبو البقاء: وقرئ بالشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح، فقال في الرفع فُرَادٌ مثل: «تُؤام ودخال وهو جمع قليل». انتهى.
ويقال أيضاً «جاء القوم فُرَادَ غير منصرف، فهو كَأحاد ورُبَاع في كونه معدولاً صفة، وهو قرءاة شاذّة هنا.
وروى خارجة عن نافع، وأبي عمرو كليهما أنهما قرأ»
فُرَادَى «مثل سُكَارَى» اعتباراً بتأنيث الجماعة، كقوله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى﴾ [الحج: ٢] فهذه أربع قراءات مشهورة، وثلاث في الشواذ فراداً كأحاد، فَرْدَى كَسَكْرَى.
قوله: «كَمَا خَلَقْناكُمْ» في هذه أوجه:
أحدها: أنها مَنْصُوبَةُ المحل على الحال من فاعل «جئتمونا» فمن أجاز تَعَدُّدَ الحال أجاز من غير تأويل، ومن منع ذلك جعل «الكاف» بدلاً من «فُرَادَى».
الثاني: أنها في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف، أي: مجيئاً مثل مجيئكم يوم خلقناكم، وقجره مكي: منفردين انفراداً مثل حالكم أول مرة، والأوّل أحسن؛ لأن دلالة الفعل على المَصْدَرِ أقوى من دلالة الوَصْفِ عليه.
الثالث: أن «الكاف» في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير المُسْتكنِّ في «فُرَادى»، أي: مشبهين ابتداء خلقكم، وكذا قَدَّرهُ أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم لم يشبهوا بابتداء خلقهم، وصوابه أن يقدر مُضَافاً أي: مشبهة حالكم حال ابتداء خلقكم.
قوله: «أوَّلَ مَرَّة» مَنْصُوبٌ على ظرف الزمان، والعامل فيه «خلقناكم»، و «مرة» في الأصل مصدر ل «مَرَّ يَمُرُّ مَرَّةً» ثم اتُّسِعَ فيها، فصارت زماناً.
قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا يَدُلُّ على قوة شبه الزمان بالفعل».
وقال أبو حيان: «وانتصب» أوَّل مرة «على الظرف، أي: أول زمان ولا يتقدَّر أوّل خلق؛ لأن أول خلق يستدعي خَلْقاً ثانياً، إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ».
يعني: أنه لا يجوز أن يكون المرَّة على بابها من المَصْدَريَّةِ، ويقدر أوّل مرة من الخَلْقِ لما ذكر.
293
قوله: «وتَرَكْتُمْ» فيها وجهان:
أحدهما: إنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «جئتمونا»، و «قد» مضمرة على رأي الكوفيين أي: وقد تركتم.
والثاني: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافها، و «ما» مفعولة ب «ترك»، وهي موصولة اسمية، ويضعف جعلها نَكِرَةً موصوفة، والعائد محذوف، أي: ما خَولناكُمُوهُ، و «ترك» متعدية لواحد؛ لأنها بمعنى التخلية ولو ضمنت معنى «صيَّر» تعدَّت لاثنين، و «خوَّل» يتعدَّى لاثنين؛ لأنه بمعنى «أعطى وملك»، والخول ما أعطاه الله من النِّعم.
قال أبو النجم: [الرجز]
٢٢٤٠ - كُومِ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّل... فمعنى: خولته كمن أملكته الخول فيه كقولهم: خوَّلته، أي: ملكته المال.
وقال الرَّاغب: التَّخْوِيلُ في الأصل إعطاء الخول.
وقيل: إعطاء ما يصير له خولاً وقيل: إعطاء ما يحتاج أن يتعهَّدَهُ من قولهم: «فلان خال ما وخايل مال أي حسن القيام عليه».
وقوله: «وَراءَ ظُهُورِكُمْ» متعلّق ب «تركتم» ويجوز أن يضمن «ترك» هنا معنى «صيَّر»، فيتعدى لاثنين: أولهما الموصول، والثاني هذا الظرف متعلّق بمحذوف، اي: وصيّرتم بالتَّرْكِ الذي خَوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم.
قوله تعالى: «وَمَا نَرَى» الظَّاهر أنه المُتعدِّية لواحد، فهي بصرية، فعلى هذا يكون «معكم» متعلّق ب «نرى»، ويجوز أن يكون بمعنى «علم، فيتعدى لاثنين، ثانيهما هو الظرف، فيتعلّق بمحذوف، أي: ما نراهم كائنين معكم، أي مصاحبتكم.
إلاَّ ان أبا البقاء اسْتَضْعَفَ هذا الوجه، وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى: وما يعلم شُفَعَاءكم معكم، وليس المعنى عليه قطعاً.
وقال أبو البقاء - رحمه لله -: «ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من»
الشفعاء «؛ إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا تراهم». وفيما قاله نظرٌ لا يخفى، وذلك أن النفي إذا دخل على ذاتٍ بِقَيْدٍ، ففيه وجهان:
294
أحدهما: نفي تلك الذّات بقيدها.
والثاني: نفي القَيْد فقط دون نَفْي الذَّات.
فإن قلت «ما رأيت زيداً» ضاحكاً «، فيجوز أن لم تَرَ زَيْداً ألبَتَّة، ويجوز أن رأيته من غير ضِحْكٍ، فكذا هاهنا، إذ التقدير: وما نرى معكم شفعاءكم مصاحبيكم، يجوز أن لم يروا الشفعاء ألْبَتَّة، ويجوز أن يَرَوْهُمْ دون مُصَاحبتهم لهم، فمن أين يلزم انهم يكونون معهم، ولا يرونهم من هذا التركيب، وقد تقدم تَحْقِيقُ هذه القاعدة في أوائل سورة» البقرة «في قوله: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ [البقرة: ٢٧٣].
و»
أنهم «سد مَسَدَّ المفعولين ل» زعم «و» فيكم «متعلق بنفس شركاء، والمعنى: الذين زعمتم أنهم شركاء الله فيكم، أي في عبادتكم، أو في خلقكم، لأنكم أشركتموهم مع الله - تعالى - في عبادتكم وخلقكم.
وقيل»
في «بمعنى» عند «، ولاحاجة إليه.
وقيل: المعنى أنه يتحملون عنكم نَصِيباً من العذاب، أي: شركاء في عذابكم إن كنت تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابتكم نَائِيَةٌ شاركوكم فيها.

فصل في معنى الآية


معنى الاية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّل﴾ حُفَاةً عُرَاةً، وخلَّفتم ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخَدَم خلف ظهوركم في الدنيا، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شُرَكَاءُ، وذلك أن المشركين زعموا أنه يعبدون الأصْنَامَ؛ لأنهم شركاء اللهن وشفعاؤهم عنده، والمراد من الآية التَّقْريع والتوبيخ، وذلك لأنهم صرفوا جدَّهم وجهدهم إلى تحصيل المال والجاهِ، وعبدوا الأصنام لاعقادهم أنها شفعاءهم عند الله تبارك وتعالى، ثم أنهم لما وردوا مَحْفَلَ القيامة لم يَبْقَ لهم من تلك الأموال شيء، ولم يجدوا من تلك الأصنام شَفَاعَةً فبقوا فرادى على كل ما حَصَّلُوهُ في الدنيا، وعَوَّلُوا عليه، بخلااف أهل الإيمان، فإنهم صرفوا هَمَّهُمْ إلى الأعمال الصالحة، فَبَقِيَتْ معهم في قبورهم، وحضرت معهم في مَحْفَل القيامة، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى.
قوله»
لقد تقطَّع بَيْنَكُم «قرأ نافع، والكسائي، وعاصم في رواية حفْص عنه» بَيْنَكُمْ «نَصْباً، والباقون» بَيْنُكُمْ «رفعاً.
295
فأما القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه:
أحدها، وهي أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتِّصالِ، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير، لكنه تقدم ما يَدُلُّ عليه، وهو لفظ» شركاء «، فإن الشركة تشعر بالاتِّصَالِ، والمعنى: لقد تقطع بينكم الاتصال على الظرفية.
الثاني: أن الفاعل هو «بينكم»
، وإنما بقي على حالِهِ منصوباً حَملاً له على أغلب أحواله، وهو مذهب الأخفش، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله: ﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ [الحج: ١٧] فيمن بناه إلى المفعول، وكذا قوله تعالى: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الجن: ١١] [قال الواحدي: كما رجى في كلامهم] منصوباً ظرفاً، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام ثم قال في قوله: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِك﴾ [الجن: ١١] ف «دُونَ» في موضع رفع عندهم، وإن كان مصنوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون، ومنا الظالمون، إلا ان الناس لما حَكَوْا هذا المَذْهَبَ لم يتعرَّضُوا على هذا الظرف، بل صرحوا بأنه مُعْرَبٌ، وهو مرفوع المحل قالوا: أو إنما بقي على انْتِصَابِه اعتباراً بأغلب أحواله في كلام أبي حيان، لما حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مَبْنِيُّ، فإنه قال: وخرجه الأخفشُ على أنه فاعل، ولكنه مبي حَمْلاً على أكثر أحوال هذا الظَّرْفِ، وفيه نظر؛ لأن الذي لا يَصْلُحُ أن يكون عِلَّة البناء، وعِلَل مَحْصُورةٌ ليس هذا منها.
ثم قال أبو حيان: «وقد يُقَالُ لاضافته إلى مبني كقوله ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِك﴾ [الجن: ١١] وهذا ظاهرٌ في أنه جعل حَمْلهُ على أكثر أحواله عِلَّةً لبنائه كما تقدم».
الثالث: أن الفاعلَ محذوفٌ و «بينكم» صِفَةٌ له قامت مُقامَهُ، تقديره: لقد تقطع وصْلُ بينكم، قاله أبو البقاء، وردَّه أبو حيان بأن الفاعل لا يُحْذَفُ، وهذا غير ردِّ عليه، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً وأن شيئاً قام مقامه، فكأنه لم يحذف.
وقال ابن عطيَّة: «ويكون الفعل مُسْنداً إلى شيء محذوف، أي: لقد تقطَّع الاتِّصالُ بينكم والارتباط ونحو هذا».
وهذا وجه وَاضِحٌ، وعليه فَسَّر الناس، وردَّه أبو حيان لما تقدم، ويجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإضمارِ، لأن كلاً منهما غير مَوْجُودٍ لفظاً.
الرابع: أنه «بينكم» هو الفاعل، وإنما بني لإضافته إل ىغير مُتَمكنٍ، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُون﴾ [الذاريات: ٢٣] بفتح «مِثْلَ»، وهو تابع ل «حق» المرفوع، ولكنه
296
بني لإضافته إلى غير متمكِّن، وسيأتي في مكانه، ومثله قول الآخر في ذلك: [الرمل]
٢٢٤١ - تَتدَاعَى مَنْخِرَاهُ بِدَمٍ... مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح «مثل» مع أنها تَابِعَةٌ ل «دم»، ومثله قول الآخر: [البسيط]
٢٢٤٢ - لَمْ يَمْذَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ... حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ
بفتح «غير»، وهي فاعل «يمنع»، ومثله قول النابغة: [الطويل]
٢٢٤٣ - أتَانِي أبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَنِي... وتِلْكَ الَّتِي تَسْتَكُّ مِنْهَا المَسَامِعُ
مَقَالَةَ أَنْ قَدْ قُلْتَ: سَوْفَ أَنَالُه... ُ وَذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ مِثْلِكَ رَائِعُ
ف «مقالة» بدل من «أنَّك لُمْتَنِي»، وهو فاعل، والرواية بفتح تاء «مَقَالة» لإضافتها إلى «أن» وما في حيِّزهَا.
الخامس: أن المَسْألةَ من باب الإعْمَالِ، وذلك أن «تَقَطَّع» و «ضَلَّ» كلاهما يَتَوجَّهلان على «مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» كل منهما يطلبه فاعلاً، فيجوز أن تكون المَسْألَةُ من باب إعمال الثاني، وأن تكون من إعمال الأوَّل، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّنُ ذلك، إلا أنه تقدم في «البقرة» أن مذهب البصريين اخْتِيَارُ إعمال الثاني، ومذهب الكوفيين بالعكس، فعلى اختيار البصريين يكون «ضَلَّ» هو الرافع ل «ما كُنْتُمْ تَزْعُمُون» واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميره فاسْتَتَر فيه، وعلى اختيار الكوفيين يكون «تقطَّع» هو الرافع ل «مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ»، وفي «ضلَّ» ضمير فاعل به، وعلى كلا القولين ف «بينكم» منصوب على الظَّرْف، وناصبه «تَقطَّع» هو الرافع. السادس: أن الظرف صِلَةٌ لموصول محذوف تقديره: تقطَّع ما بينكن، فحذف الموصول وهو «ما» وقد تقدَّم أن ذلك رأى الكوفيين، وتقدم ما استشهدوا به عليه من القرآن، وأبيات العرب، واستتدلَّ القائل بذلك بقول الشاعر حيث قال في ذلك: [الطويل]
٢٢٤٤ - يُدِيرُونَنِي عَنْ سَالِمٍ وأديرُهُمْ... وجِلْدَةُ بَيْنَ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ
297
وقول الآخر في ذلك: [البسيط]
٢٢٣٩ - تَرَى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لِبَانِهِ فُرَادَى وَمَثْنَى أثْقَلَتْهَا صَوَاهِلُهْ
٢٢٤٥ - مَا بَيْنَ عَوْفٍ وإبْرَاهِيمَ مِنْ نَسَبٍ إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنَ الزَّنْجِ والرُّومِ
تقديره: وَجِلْدةُ ما بين، وإلاَّ قرابة ما بَيْن، ويدل على ذلك قراءة عبد الله، ومجاهد، والأعمش: «لقد تَقطَّع ما بينكم».
السابع: قال الزمخشري: «لَقَدْ تقطَّعَ بينكم» : لقد وقع التَّقَطُّع بينكم، كما تقول: جمع بين الشَّيْئْينِ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل قول حَسَنٌ، وذلك لأن لو أضمر في «تقطّع» ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير: تقطع التَّقطُّع بينكم، وإذا تقطَّع التقطع بينهم حصل الوَصْلُ، وهذا ضدُّ المقصود، فاحتاج أن قال: إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور، إلا أن أبا حيَّان اعتراضه، فقال: «فظاهره أنه ليس بِجيِّدٍ، وتحريره أنه أسند الفِعْلَ إلى ضمير مصدره فأضمره فيه؛ لأنه إن أسْنَدَهُ إلى صريح المصدر، فهو محذوف، ولا يجوز حذف الفاعل، ومع هذا التقدير فليس بِصَحيح؛ لأن شَرْطَ الإسناد مفقود فيه، وهوتغاير الحكم والمحكوم عليه؛ يعني: أنه لا يجوز أن يتَّحدَ الفعل والفاعل في لَفْظٍ واحد من غير فائدة، لا تقول: قام القائم، وذلك لا يجوز، مع أنه يلزم عليه أيضاً فَسَادُ المعنى كما تقدم منه أنه يَلْزَمُ أن يحصل لهم الوَصْلُ».
قال شهاب الدِّين: وهذا الذي أورده الشَّيْخُ لا يرد لما تقدَّم من قوله الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدرِهِ بهذا التأويل، وقد تقدَّم ذلك التأويل.
وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه اتُّسِعَ في هذا الظرف، فأسْنِدَ الفعل إليه، فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها، ويدُلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: ٥] فاسْتعمَلَهُ مجرواً ب «مِنْ» وقوله تعالى: ﴿فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ [الكهف: ٦١] ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٦] وحكى سيبويه: «هُوَ أحْمَرُ بَيْنِ العَيْنينِ»
298
وقال عنترة: [الكامل]
٢٢٤٦ - وَكَأنَّمَا أقِصُ الإكَامَ عَشِيَّةً بِقَريبِ بَيْنِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ
وقال مهلهل: [الوافر]
٢٢٤٧ - كَأنَّ رَِمَاحَنَا أشْطَانُ بِئْرٍ بَعِيدَةِ بَيْنِ جَالَيْهَا جَرُورِ
فقد استعمل في هذه المواضع كلها مُضَافاً إليه متصرّفاً فيه، فكذا هنا، ومثله قوله:
[الطويل]
٢٢٤٨ -...................... وَجِلْدَةُ بَيْنِ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ
وقوله في ذلك: [البسيط]
٢٢٤٩ -.......................... إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنِ الزَّنْجِ والرُّومِ
وقول القائل في ذلك: [الطويل]
٢٢٥٠ - وَلَمْ يَتْرُكِ النَّبْلُ المُخَالِفُ بَيْنُهَا أخاً لاَحَ [قَدْ] يُرْجَى وَمَا ثَوْرَةُ الهِنْدِ
يروى برفع «بينهما» وفتح على أنها فعل ل «مُخَالف»، وإنما بُنِيَ لإضافتِهِ إلى ذلك ومثله في ذلك: «أمام» و «دون»، كقوله: [الكامل]
٢٢٥١ - فَغَدَتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أنَّهُ مَوْلَى المخَافَةِ خَلْفُهَا وأمَامُهَا
برفع «أمام»، كقول القائل في ذلك: [الطويل]
٢٢٥٢ - ألَمْ تَرَ أنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِقَتِي وبَاشَرْتُ حَدَّ والمَوْتِ والمَوْتُ دُونُهَا
برفع «دون».
299
الثاني: أن «بين» اسم غير ظَرْفٍ، وإنم منعناها الوَصْل، أي: لقد تقطَّع وصلكم.
ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن «بَيْنَ» مصدر «بان يبينُ بَيْنَاً» بمعنى «بَعْدَ»، فيكون من الأضْدَاد، أي: إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يستعمل للوصل والفراق ك «الجون» للأسود، والأبيض، ويعزى هذا لأبي عمرو، وابن جني، والمهدوي، والزهري، وقال أبو عبيدة: وكان أبو عمرو يقول: معنى «تقطع بينكم» تقطع فصارت هنا اسماً بغير أن يكون معها «ما».
قوال الزجاج: والرفع أجود، ومعناه: لقد تقطع وصلكم، فقد أطلق هؤلاء أن «بين» بمعنى الوصل، والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا ان ابن عطية طعن فيه، وزعم أنه لم يسمع من العرب البَيْن بمعنى الوَصْل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية الكريمة، لو أنه أري باالبين الافْتِرَاقُ، وذلك عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطعت المسافةُ بينكن لطولها، فعبر عن ذلك بالبين.
قال شهاب الدين: فظاهر كلام ابن عطية يُؤذِنُ بأنه فهم أنها بمعنى الوَصْل حقيقة، ثم ردَّهُ بكونه لم يسمع من العرب، وهذا منه غير مرضٍ، لأن أبا عمرو وأبا عبيد وابن جني، والزهراوي، والمهدوي، والزجاج أثمة يقبل قولهم.
وقهل: «وإنما انتزع من هذه الآية» ممنوع، بل ذلك مفهوم من لُغَةِ العرب، ولم لم يكن مَنْ نقلها إلا أبو عمرو لكفى به، وعبارته تُؤذِنُ بأنه مجازٌ، ووجه المجاز كما قال وصداقَةٌ «صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوَصْلةِ، وعلى خلاف الفُرْقَةِ، فلهذا جاء:» لَقَدْ تَقَطَّع وَصْلكُم «وإذا تَقدَّرَ هذا، فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً؛ لأنه متى تعارضَ الاشتراك والمجاز، فالمجاز خير منه عند الجمهور.
وقال أبو علي أيضاً: وَيُدلُّ على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو مَصْدَرٌ، فلا يجوز أن يكون هذا القِسْم؛ لأن التَّقدير يصير: لقد تقطَّع اقْتِرَاقكم، وهذا خلاف المقصد، والمعنى أي: ألا ترى أن المراد وَصْلُكُمْ، وما كُنْتُم تتآلَفُون عليه.
فإن قلت: كيف جَازَ أن يكون بِمَعْنى: الوَصْلِ، وأصله: الافْتِرَاقُ، والتَّبَايُنُ.
قيل: إنه لما استُعمل مع الشَّيْئَيْنِ المُتلابسيْنِ في نحو:»
بيْنِي وبيْنَك شَرِكَة «فذكر ما تقدَّم عنه من وَجْهِ المجازِ.
وأجاز أبو عُبَيْدَة، والزَّجَّاج، وجماعة: قراءة الرفع، قال أبو عبيدة: وكذلك
300
يَقْرؤُها بالرفع؛ لأنَّا قد وَجدنا العرب تجعل» بَيْنَ «اسماً من غَيْر» مَا «، ويُصدِّقُ ذلك قوله تعالى: ﴿بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ [الكهف: ٦١] فجعل» بَيْنَ «اسماً من غير» ما «، وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] قال:» وقد سَمِعْنَاهُ في غير موضع من أشْعارِهَا «ثمَّ ذكر ما ذركته عن ابني عمرو بن العلاء، ثمَّ قال:» وقرأها الكسَائيُّ نصباً «وكان يعتبرها بحرف عبد الله:» لقد تقطَّع ما بينكم «.
وقال الزَّجَّاج: والرَّفْع أجودن والنَّصْب جَائِز، والمعنى:»
لقد تقطَّع ما كان من الشَّركة بَيْنكم «.
الثالث: أن هذا الكلام مَحْمُولٌ على مَعْنَاه؛ إذ المعنى: لقد تَفَرَّقَ جَمْعُكُم وتشتت، وهذا لا يَصْلُح أن يكون تفسير إعرابٍ.
قوله:»
مَا كُنتُمْ «» ما «يجوز أن تكون مَوْصولةً اسميَّةً، أو نكرة موصوفة، أو مصدريَّة، والعائد على الوجْهَيْن الأوَّلَيْن محذوفٌ، بخلاف الثُّالِث فالتَّقْدِير: تزعمونَهُم شُرَكَاءَ أو شُفَعَاء؛ فالعَائِد هو المفعُول الأوّل، وشركاء هو الثُّاني؛ فالمَفْعُولان مَحْذُوفانِ اختصاراً؛ للدلالةِ عليهما إن قُلْنَا: إنَّ» ما «موصولة اسميَّة، أو نكرة موصُوفَةً، ويجُوز أن يكون الحَذْفُ اختصاراً؛ إن قلنا: إنَّها مصدريَّة؛ لأن المصدريَّة لا تحتاج إلى عائد، بخلاف غيرها، فإنَّها تَفْتَقِرُ إلى عائدٍ، فلا بد من الالتِفَاتِ إلَيْه، وحينئذ يَلْزَمُ تَقْديرُ المفعُول الثُّاني، ومن الحذف اختصاراً: [الطويل]
٢٢٥٣ - بأيِّ كِتَاب أمْ بأيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبُّهُمْ عَاراً عليَّ وتَحْسِبُ؟
أي: تحسب حُبَّهُم عاراً عليَّ.
301
لما قرر التَّوحْيد وأرْدَفَهُ بتَقْرير أمر النُّبُوَّةِ، وتكلَّم في بعض تفَاريع هذا الأصْل، عاد إلى ذِكْرِ الدَّلائل الدَّالةِ على وجُود الصَّانِع، وكمال قدرته، وحِكْمَتِه، وعلمه، تَنْبِيهاً على أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ من جميع المَبَاحِثِ والعَقْلِيَّة، والنقلية: مَعْرِفَةُ الله بذاته، وصِفَاتِهِ، وأفعاله.
قوله: «فَالِقُ الحَبِّ» : يجوز أن تكون الإضافة مَحْضَةً، على أنَّها اسم فاعل بمعنى الماضي؛ لأنَّ ذلك قد كان، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله: «فَلَقَ» فعلاً ماضياً، ويجُوز أن
301
تكون الإضافةَ غير مَحْضَةٍ، على أنه بِمَعنْى الحال والاستقبال، وذلك على حِكَاية الحال؛ فيكون «الحَبِّ» مجرُورَ اللَّفْظِ منصوب المحلِّ، و «الفَلْقُ» : هو شَقُّ للشيء، وقيده الرَّاغب بإبَانَةِ بَعْضِه من بَعْص، والفَلَق المُطْمِئنُّ من الأرض بَيْن الرُّبُوَتين «والفَلَق» من قوله - تعالى -: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق﴾ [الفلق: ١] : ما علَّمه الله لمُوسَى - عليه السَّلام - حتى فَلَق البَحْر له.
وقيل: الصُّبْح، وقيل: هي الأنْهَار المُشَار إليها بقوله - تعالى -: ﴿وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾ [النمل: ٦١].
والفِلْقُ بالكَسْرِ بمعنى: المَفْلُوق كالنكث والنِّقْض، ومنه: «سَمِعْتُه من فِلْقٍ منه».
وقيل: الفِلْقُ العَجَبُ [وقيل: ما يُتَعَجَّبُ منه.
قال الرَّاجِز في ذلك: [الرجز]
٢٢٥٤ - وَاعَجَباً لهذه الفَليقَهْ هَلْ تُذْهِبَنَّ القُوَباءَ الرِّيقَهُ]
والفالِقُ والفَليق: ما بين الجَبَلَيْنِ، وما بَيْن السَّنَامَيْنِ البعير.
وفسَّر بعضهم «فالق» هنا، بمعنى: «خَالِق».
قيل: ولا يُعْرَفُ هذا لُغَةً، وها لا يُلْتضفَتُ إليه؛ لأن هذا مَنْقُولٌ عن ابْن عباس، والضَّحَّاك أيضاً، لا يُقال ذلك على جِهَةِ التَّفْسير للتقريب؛ لأن الفرَّاء نقل في اللُّغَة: أن «فَطَرَ وخَلَقَ وفَلَقَ» بمعنى وَاحِد.
«النَّوَى» ] : اسم جِنْس، مُفْرَد «نواة»، على حدّ «قَمْح وقَمْحَ»، والنَّوَى: البُعْد أيْضاً.
ويُقال: نوت البُسْرَةُ وأنْوَتْ، فاشتدَّت نَوَاتُهَا، ولام «النَّواة» بانقلاب عَيْنِها واواً والأكثر التَّغَاير.

فصل في معنى الآية


قال ابن عبَّاسن والضَّحَّاك، ومُقاتِل: «فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى» : خَالِقُ الحَبِّ.
قال الواحدي: ذّهّبُوا ب «فالق» مَذهب «فاطر»، وقد تقدَّم عن الفرَّاءِ نَقْلُه ذلك لُغَةً.
302
وقال الحسن، وقتادة، والسُّدِّيُّ: معناه: الشَّق، أي: يشق الحَبَّة من السُّنْبُلَةِ، والنَّواة عن النَّخْلَةِ، فيخرجُهَا مِنها.
وقال الزَّجَّاج: يَشُقُّ الحبة اليَابِسَة، والنُّواة اليَابِسَة، فيُخْرِجُ منها وَرَقاً أخْضَرَ.
وقال مُجَاهد: يعني الشَّقَّيْنِ اللذين فيهما، أي: يَشُقُّ الحبَّ عن النَّباتِ، ويخرجُه مِنْهُ ويشقُّ النَّوَى عن النَّخْلِ، ويُخْرِجُهَا منها، و «الحب» جمع حبَّة «، وهو اسمٌ لجميع البُذُورِ والحُبُوب من البُرِّ، والشَّعير، والذُّرَة، وكل ما لَمْ يُؤكَل حَبَّا، كالتَّمْرِ والمشمشِ، والخوخ، ونَحْوها.
وقال بان الخطيب: إن الشيء قبل دُخُوله في الوُجُودِ، كان مَعْدُوماً مَحْضاً، ونَفْياً صِرْفاً، فإذا أخْرَجَهُ المُوجِدُ من العدم إلى الوُجُودن فكأنَّه بحسب التَّخَيُّلِ والتَّوَهُّم، شَقَّ ذّلِكَ العَدَمِ، وفَلَقَهُ، وأخْرَج ذلك المُحْدَثَ من ذَلِكَ الشَّقِّ، فبهذا التَّأويل لا يَبْعد حَمْلُ الفَالِق على المُوجِدِ، والمُحْدِث المُبْدِع.
فإذا عَرَفْت ذلك فَنَقُولُ: إذا وقَعت الحَبَّةُ، أو النَّوَاةُ في الأرْضِ الرَّطِبَةِ، ثم مَرًّ عليه مُدَّةٌ، أظْهَر اللَّه في تِلْكَ الحبَّة والنًّواة [من أعْلاَها ومن أسْلفلِها شقاً آخر] أما الشَّقُّ الذي يَظْهَر في أعْلَى الحبَّة والنَّواة؛ فإنه يَخْرُج منه الشَّجْرة الصَّاعِدَة إلى الهَوَاء.
وأما الشقُّ الذي أسْفَلَ تلك الحبَّة والنَّواة؛ فيكون سَبَاً لاتِّصالِ الشَّجرة الصَّاعدة في الهواء بالشَّدرة الهابِطَة في الأرض. ثم هاهُنَا عجائب:
أحدها: أن طبيعَة تلك الشَّجرةِ إن كَانَتْ تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض؛ فكَيْفَ تَوَلَّدَتْ منه الشَّجَرة الصَّاعِدة في الهواء، وإن كانت تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض؛ فكَيْفَ تَوَلَّدتْ منه الشَّجَرة الصَّاعدة في الهواء، وإن كانت تَقْضِي الصُّعُودَ في الهَوَاء؛ فكيف تولدت مِنْهَا الشَّجرة الهابِطَة في الأرْضِ، فلما تولَّدت منها هاتان الشَّجرتان، مع أن الحسَّ والعَقْلَ يَشْهَد بكون طَبيعَة إحْدَى الشَّجَرتَيْن مُضَادُّ لِطَبيعَةِ الشَّجَرَةِ الأخرى؛ علمنا أنَّ ذلك لَيْس بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ والخَاصيَّة، بل بِمُقْتَضَى الإبْداع، والإيجاد، والتَّكْوين، والاخْتِرَاع.
وثانيها: أن باطِنَ الأرْضِ صلْبٌ كَثيفٌ لا تَنْفُذُ المَسَلَّة القويَّة فيه، ولا يَغُوصُ السِّكِّين الحادَّةُ القوي فيه، مع أنّا نشاهد أطْرافَ تِلءكَ العُرُوقِ في غايَة الرِّقَّةِ واللَّطافَةِ، بحيث لو دلكها الإنْسَان بأصْبُعِهِ بأدنى قُوَّةٍ، لصَار كالمَاء، ثم إنها مع غَايَة لَطَافتها تَقْوَى على النُّفُوذ في تِلءك الأرْضِ الصَّلْبَة، والغَوصِ في باطِن تِلْكَ الأجْرَام الكَثِيفَة، فحُصُول هذه القُوَّة الشَّديدة لِهذا الأجْرَامِ التي في غَايَةِ اللَّطَافةِ، لا بُدَّ وأن يكون بِتَقْديرِ العَزيزِ الحَكِيم.
303
وثالثها: أنه يَتَوَلَّدُ من تِلْك النَّوَاة شَجَرَةٌ، ويَحْصُل في تلك الشَّجَرَة طَبَائِعُ مُخْتَلِفَة؛ فإن قشْرِ الخشبة له طَبيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وفي داخل تلك القشرة جِرْمُ الخَشَبة، وفي دَاخلِ تلك [الخشبة] جسمٌ رَخْوٌ لطيف يُشْبِهُ العِهْنَ المَنْفُوش، ثم إنه يَتَولَّدُ من سَاقِ الشَّجَرة أغُصَانها، ويتولَّدُ من الأغْصَان الأوْرَاقُ، والأزهار، والأنْوَار، ثانياً، ثم الفَاكِهَةُ ثَالِثاً، ثم قد يَحْصُل للفاكَهِةَ أرْبَعة أنْواع من القُشُورِ كالجَوْزِ واللَّوز، فإن قِشْرَه الأعلى هو الجِرْمُ الأخْضر، وتحته جِرْمُ القِشْر الذي يُشْبِه الخَشَبَ، وتحت القِشْر الَّذي كالغِشَاءِ الرَّقِيق المحيط باللُّبِّ، وذلك اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ على جِرْم كَثِيف هو أيْضاً كالقِشْرَةِ، وعلى جِرْم لَطِيفٍ هو كالُّدهْنِ، وهو المَقْصُود الأصْلِيُّ؛ فَتَوَلَّدُ هذه الأجْسَام المُخْتَلِفَة في طَبَائِعها، وصِفَاتِهَا، وألْوَانها، وأشْكَالِها، وطُعُومِها، مع تساوي تأثيرات الطَّبائع، والفُصُول الأربع، والطَّبائع الأربَع، يَدُلُّ على أنَّها إنما حَدَثَتْ بِتَدْبِير العَلِيم، الحكيم، والمُخْتَار، القَادِر، لا بتدبير الطَّبائع والعَنَاصِر.
ورابعها: أنَّك قد تجد الطَّبائع الأرْبَعة حَاصِلَةً في الفَاكِهَة الواحِدة، فالأتْرُجُّ: قِشْرُه حَارُّ يَابِسٌ، ولَحْمُه بارِدٌ رَطْبٌ، وحَمَاضُهُ بارد يَابِسٌ، وبذره حَارُّ يَابِسٌ، وكذلك العِنبُ: قِشْرُهُ وعَجمه بارد يَابِس، وماؤُه ولَحْمهُ حَارٌّ رَطْبِ؛ فَتَولُّدُ هذه الطَّبائِعِ المُتَضَادَّةِ، والخَوَاصِّ المُتَنَافِرة عن الحبَّة الواحدة، لا يَكُوْن إلا بإيجاد الفَاعِل المُخْتَار.
وخامسها: أنَّك تجد أحْوَال الفَوَاكهِ مُخْتَلِفَةً، فَبَعْضها يَكُون اللُّبُّ في الدَّاخلِ، والقشر في الخَارج كما في الجَوْزِ واللَّوزِ، وبَعْضُها تكون الفَاكِهَة في الخَارِجِ، وتكون الخَشَبَة في الدَّاخِل، كالخَوْخ والمِشْمِش، وبَعْضُها تكون النَّوَاةُ لها لُبُّ كالَمِشْمِش، والخَوْخ، وبَعْضُها لا لُبَّ له كَنَوى التَّمْرِ، وبَعْضُ الفَوَاكه لا يكُون لَهُ من الدَّاخلِ والخَارد قشر، بل يكون مطلوباً [كالتين] فهذه أحوال مُخْتَلِفَةٌ في الفواكه.
وأيضاً الحُبُوب المُخْتَلِفَة في الأشْكَالِ والصُّورِن فَشَكْل الحِنْطَةِ كأنَّها نِصْفُ دَائِرِةٍ، وشكل الحمّص على وَجْه آخر، فهذه الأشْكَال المُخْتَلِفَة، لا بُدَّ وأن تكون لأسْرار وحكم علم الخَلِق أنَّ تركِيبَها لا يكمل إلاَّ على هذا الشَّكْلِ.
وأيضاً: فقد تكون الثَّمَرَةُ الوحدة غذاءً لحيوان، وسُمَّاً لحيوان آخر؛ فاخْتلافُ هذه
304
الصِّفاتِ والأحوال، مع اتِّحاد الطَّبائعِ، وتأثير الكواكب، يَدُلُّ على أنَّها إنَّما حصلت بتخليق الفاعِل المُخْتَار، الحكيم.
وسادسها: أنَّك تَجِدُ في الوَرَقَةِ الوَاحِدَة من أوْرَاقِ الشَّجَرَة خطاً واحداً مُسْتَقيماً في وَسطها، كأنَّه بالنّسْبَة لتِلْك الوَرَقَةِ، كالنُّخَاعِ بالنِّسْبَة إلى بَدَن الإنْسان، فكأنه يَتَفرَّقُ من النُّخَاع أعْصابٌ كَثِيرَة يَمْنَةً ويَسْرَةً في بَدَن الإنْسان، ثمَّ لا يزال يَنْفَصِلُ عن شُعَبِهِ شُعَبٌ أخرىن ولا تَزَال تِسْتدقُّ حتى تَخْرُج عن الحِسِّ والابْصَارِ لدقّتها، فكذلك في تلك الورقة ينفصل عن ذلك الخَطِّ الكبير الوَسطانِيِّ خُيُوطٌ مختلفة، وعن كلِّ مِنْهُمَا خيوطٌ أخرى أدَقُّ من الأولى، ولا تَزَالَ كذلك حتَّى تخرج تِلْكَ الخُيُوطُ عن الحسِّ والبَصَرِ.
والخالق - تعالى - إنَّما فعل ذلك، حتَّى أن القُوَى الجاريَةَ المَذْكُورةَ في جِرْم تِلْك الوَرَقَ، تقوى على جَذْبِ الأجْزَاء اللَّطيفة الأرْضيَّة في تلك المَجَاري الضيّقة، فالوُقُوفُ على عِنَايَة حِكْمَةِ الخَالِق في اتِّحادِ تلك الوَرَقَةِ الواحِدَة، واخْتِلاف أشْكالِ الأوْرَاقِ؛ تُؤذِنُ أنَّ عِنَايَتَه في اتِّحادِ حِكْمَة الشَّجرة أكْمَل.
وإذا عرَفْتَ أنَّه - تبارك وتعالى - إنَّما خَلَق النَّبَات لِمَصْلَحَةِ الحيوان، عَلِمت أنَّ عنايته في تخليف الحيوانِ أكْمَلُ؛ ولمَّا عَلِمْتَ أن المَقْصُود من تَخْلِيق الحيوانات [هو الإنْسَانُ] عَلِمْت أن عِنَايتَه في تَخْلِيقِ الإنْسَان أكْمَلُ.
ثمَّ إنه - تبارك وتعالى - لما خَلَقَ الحَيوان والنَّباتَ ليكون غذاءً ودواءً للإنْسان بِحَسَب جسدِهِ، والمَقْصُود من تَخْلِيق الإنْسَان: هو المَعْرِفَةُ، والمحبَّة، والخدمة؛ لقوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
قوله: «يخرج» يَجُوز فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها جملة مُسْتأنَفَةٌ، فلا محَلَّ لها.
والثاني: أنَّها في موضع رفع خَبَراً ثانياً، لأنَّ قوله: «مُخْرجُ» يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: انه مَعْطُوفٌ على «فَالِقِ»، ولَمْ يذكر الزَّمَخْشَريُّ غيره، أي: اللَّه فاَلِقٌ ومُخْرِجٌ، أخبر فيه بِهَذَيْن الخَبريْنِ؛ وعلى هذا فيكون «يُخْرِجُ» على وَجْهِه، وعلى كونه مُستَانفاً فيَكُون مُعْتَرِضاً على جِهَة البيانِ لما قَبْلَه من معنى الجملة.
والثاني: أنه يكون مَعْطُوفاً على «يُخْرِجُ»، وهل يَجْعَل الفعل في تأويل اسْم [ليصِحَّ عطف الاسْمِ عليه، أو يجعل الاسمُ بتأويل الفِعْلِ؛ ليصِحَّ عَطْفُه عَليْه؟ احتمالاًن مَبْنِيَّان على ما تقدَّمَ في «يُخْرِجُ».
إن قلنا: إنه مُسْتأنفٌ فهو فِعْلٌ غير مُؤوَّل باسم؛ فَيُرَدُّ الاسم إلى مَعْنَى الفِعْل، فكأن «مُخْرِج» في قُوَّة «يُخْرج».
305
وإن قُلْنَا: إنه خبر ثان ل «إنَّ» وهو بِتَأوِيل اسْم] واقع موقع خَبَر ثانٍ؛ فلذلك عُطِفَ عليه اسمٌ صريحٌ، ومن عَطْف الاسْمِ على الفِعْلِ لِكَوْن الفِعْلِ بتأويل اسم قَوْلُ الشَّاعِرِ في ذلك: [الطويل]
٢٢٥٥ - فَألْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيرُ عَدُوَّهُ وَمُجْرٍ عَطَاءً يِسْتَخِفُّ المَعَابِرَا
وقول القائل في ذلك: [الرجز]
٢٢٥٦ - يَار رُبَّ بَيْضَاءَ مِنَ العَوَاهِجِ أمِّ صِبِيَّ قَدْ حَبَا أوْ دَارِجِ
وقول القائل في ذلك: [الرجز]
٢٢٥٧ - بَاتَ يُغَشِّيها بَعَضْبٍ بَاتِر يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وَجَائِر
أي: مُبيراً، أمِّ صِبيَّ حابٍ، قاصِدٍ.
قوله: «الحَيّ» اسمٌ لما يكون موصوفاً بالحياة، و «المَيِّتُ» اسمٌ للخَالِي عن صفة الحياة، وعلى هذا فالنَّبَاتُ لا يكُون حياً، وفي تَفْسِير هذا الحيِّ والميت قولان:
الأول: حَمْلُ هذا اللَّفظِ على الحقيقة.
قال ابن عبَّاس: أخْرَجَ من النُّطْفَةِ بَشَراً أحْيَاءَ، ثم يُخْرِجُ من البَشَرِ الحيِّ نُطْفَةً مَيِّتَةً، ويُخْرِج من البَيْضَةِ فَرُّوجَةً، ثم يَخْرِج من الدِّجاجَةِ بَيْضَةً مَيَّتةً.
القول الثاني: يُحْمَل على المَجازِ «يخرج» النَّبَات الخَفِيّ من الحَبِّ اليَابِس، ويُخْرِج الحبَّ اليَابِس من النَّبَاتِ الحَي النَّامِي.
وقال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يخرج المُؤمِنَ من الكَافِرِ، كما في حقِّ إبراهيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والكافر من المُؤمن، كما في حقِّ ولد نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والعاصي من المُطِيع وبالعكس.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عصام: «الميّت» مُشدَّدَة الياء في الكَلِمَتَيْن، والباقُون بالتخفيف فيهما.
قوله: ﴿ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ قيلك معناه: ذلكم اللَّه، المُبْدِئُ، الخَالِقَن النَّافِعُ، الضَّار، المحيي، المُمِيت، «فانَّى تُؤفَكُونَ» : تُصْرَفُونَ عن الحقِّ في إثْبَات القَوْل بِعِبَادَةِ الأصْنَامِ.
306
وقيل: المُرَاد: أنكم لمَّا شَاهَدْتُمْ أنَّه - تبارك وتعالى - يُخْرِج الحيَّ من الميَّت، ثم شَاهَدتم أنَّه أخْرَجَ البَدَنَ الحيَّ من النُّطْفِةِ المَيِّتَة، فَكيْفَ تَسْتَبْعِدُون أن يُخْرِجَ البَدَن الحيَّ من التُّرَاب الرَّمِيمِ مَرَّة أخرى، والمقْصُودك الإنْكَار على تَكْذِيبهم بالحَشْرِ والنَّشْرِ، وأيضاً الضَّدَّانِ متساويان في النَّسْبَةِ، فكما لا يمتنع الانقلابُ من أحد الضدين إلى الآخر، وجبَ ألاَّ يمتنع الانقلابُ من الثاني إلى الأوَّل، فكما لا يمتنع حُصُولُ المَوْتِ بعد الحياة، وجب أيضاً حُصُولُ الحياة بعد الموت، وعلى كِلاَ التَّقْديريْنِ، فيخرج منه جواز البَعْثِ والنَّشْرِ.

فصل في إثبات خلق الأفعال لله


تَمسُّكُوا بقوله: «فانَّى تُؤفَكُونَ» على أن فَعْلَ العَبْدِ ليس مخلوقاً لله - تعالى - لأنه لو خَلَق الإفْكَ فيه، فكيف يليق به أن يقول مع ذلك: «فأنَّى تُؤفَكُون» والجواب: أن القُدْرَةً بالنسبة إلى الضَّدَّيْنِ مُتساويَةٌ، فَتَرَجُّعُ أحد الطرفين على الآخر لا لمرجِّح، فحينئد لا يكون هذا الرُّجْحَانُ من الضِّدِّ، بل يكون مَحْضَ الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له: «فأنَّى تُؤفَكُون» وأن تَوَقُّفَ ذلك المرجح على حصول مرجَّح، وهو الدايعة الجَازِمَةُ إلى الفعل، فحصول تلك الدَّاعية يكون من الله - تعالى - وعند حُصُولها يجب الفعل، ويلزمكم كما ألْزَمْتُمُونا.
307
هذا نَوْعٌ آخر من دلائل وجود الصَّانع وعلمه وقدرته وحكمته، فالنوع الأوَّل من دلالة النبات والحيوان، والنوع الثاني من أنواع الفلك.
وقوله: ﴿فَالِقُ الإصباح﴾ نعت لاسم الله - تعالى -، وهو كقوله: «فالق الحبِّ» فيما تقدَّم. والجمهور على كَسْرِ همزة «الإصباح» وهو المصدر: أصبح يصبح إصباحاً.
وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإصباح واحد، وهما أول النهار وكذا الفراء.
وقيل: الإصباح: ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقيل هو إضاءة الفجر نُقِلَ ذلك عن مُجَاهد، والظَّاهر أن «الإصباح» في الأصل
307
مصدر كالإقبال والإدبار سُمِّيَ به الصباح، وكذا الإمساء وقال امرؤ القيس: [الطويل]
٢٢٥٨ - ألاَ أيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلِ بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ مِنْكَ بأمْثَلِ
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيى بن عمر: «الأصباح» بفتح الهمزة، وهو جمع «صُبْح» نحو: قُفْل وأقْفَال، وبرد وأبراد، وينشد قوله: [الرجز]
٢٢٥٩ - أفْنَى رِيَاحاً وَبَنِي رِيَاح تَنَاسُخُ الأمْسَاءِ والأصْبَاحِ
بفتح الهمزة من «الأمساء» و «الأصباح» على أنهما جمع «مُسْي» و «صُبْح»، وبكسرهما على أنهما مَصْدَرَان، وقرئ «فالق الأصباح» بفتح «الأصْبَاح» على حذف التنيون لالتقاء الساكنين كقول القائل في ذلك: [المتقارب]
٢٢٦٠ -.................. وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ
وقرئ ﴿والمقيمي الصلاة﴾ [الحج: ٣٥] و ﴿لَذَآئِقُو العذاب﴾ [الصافات: ٣٨] بالنصب حَمْلاً لنون على التنوين، إلا أن سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - لا يُجِيزُ حَذْفَ التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر، وقد أجازه المُبرِّدُ في الشعر.
وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوةو: «فلق» فعلاً ماضياً، وقد تقدَّم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك، وهذا أدَلُّ على أن القراءة عندهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ «فلق الحب» فعلاً ماضياً، وقرأ «فالق الإصباح» والثلاثة المذكورين بعكسه.
قال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى «فلق الصبح»، والظلمة هي التي تنفلق عن الصُّبح، كما قال: [الطويل]
٢٢٦١ -.................. تَفَرِّيَ لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نهارِ
308
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يُرَادَ: فالق ظلمة الإصباح، يعني أنه على حذف مضاف.
والثاني: أنه يُرَاد: فالق الإصباح الذي هو عمود الفَجْرِ عن بياض النهار وإسْفَارِهِ، وقالوا: انشق عمود الفجر وانصدع، وسمّوا الفجر فلقاً بمعنى مَفْلُوق؛ قال الطائي: [البسيط]
٢٢٦٢ - وَأزْرَقُ الفَجْرِ يَبْدُوا قَبْلَ أبْيَضِهِ.......................
وقرئ: «فالق» و «جاعل» بالنصب على المَدْحِ انتهى.
وأنشده غيره في ذلك: [البسيط]
٢٢٦٣ - فانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الفَجْرِ جَافِلَةً عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ القَانِصَ اللَّحِمَا
قال الليث: الصبح والصباح هما أوَّلُ النهار، وهو الإصباح أيضاً، قال تبارك وتعالى: «فالق الإصباح» يعني الصبح.
وقيل: إن الإصباح مصدر سُمِّيَ به الصبح كما تقدم.
قوله: «وجَاعل اللَّيْل» قرأ الكوفيون: «جَعَلَ» فعلاً ماضياً، والباقون بصفغة اسم الفاعل والرَّسْم يحتملهما، و «اللَّيْل» مَنْصُوبٌ عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم، ومجرور عند غيرهم، وَوَجْهُ قراءتهم له فعلاً مناسبة ما بعده، فإن بعده أفعلاً ماضية نحو: «جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ» و «هُو الذي أنْشَأ» إلى آخر الآيات ويكن «سَكَناً» إما مفعولاً ثانياً على أنَّ الجَعْل [بمعنى التصيير، وإما حالاً على أنه بمعنى] الخلق، وتكون الحال مُقدّرة، وأما قراءة غيرهم ف «جاعل» يحتمل أن يكون بمعنى المضين ويؤيده قراءة الكوفيين، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع «أل» خلافاً لبعضهم في مَنْع إعمال المعرَّف بها، وللكسائي في إعماله مُطْلَقا، فإذا تقرَّر ذلك ف «سَكَناً» مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ عند البصريين، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به.
309
وزعم أبو سعيد السِّيرَافِيُّ أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثَّاني، وإن كان ماضياً.
قال: لأنه لما أضيف إلى الأوَّل تعذَّرت إضافته للثاني، فتعين نصبه له.
وقال بعضهم: لأنه بالإضافة أشهب المعرف ب «أل» فيستعمل مطلقاً فعلى هذا «سكناً» منصوب به أيضاً وأما إذا قلنا: إنه بمعنى الحال والاستقبال، فَنَصْبُهُ به، و «سكن» فعل بمعنى مَفْعُول كالقبض بمعنى مَقْبُوض، ومعنى سَكَن، أي ما يسكن إليه الرجل، ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زَوْجٍ أو حبيبٍ، ومنه قيل للنار سكن؛ لأنه يُسْتَأنَسُ بها، ألا تراهَمَ كيل سمّوها المُؤنِسَة.
قوله: «والشَّمْسَ والقَمَرَ حُسْبَاناً» قرأ الجمهور بنصب «الشَّمس» والقمر «وهي واضحة على قراءة الكوفيين، أي: بِعَطفِ هذهين المنصوبين على المنصوبين ب» جعل «و» حُسْبَاناً «فيه الوجهان في» سَكَناً «من المفعول الثاني والحال.
وأما على قراءة الجماع فإن اعتقدنا كَوْنَهُ ماضياً فلا بُدَّ من إضمار فِعْلٍ ينصبهما، أي: وجعل الشمس.
وإن قلنا: إنه غير ماضٍ فمذهب سيبويه أيضاً أن النَّصْبَ بإضمار فعل، تقول: هذا ضاربٌ زيداً الآن أو غداً أو عمراً بنصب عَمْرٍو، وبفعل مُقدَّرٍ لا على موضع المجرور [باسم الفاعل، وعلى رأي غيره يكون النصب] على محل المجرور، ونشدون قوله: [البسيط]
٢٢٤٦ - هَلْ أنْتَ بَاعِثُ دِينارٍ لِحَاجَتِنا أوْ عِبْدَ ربِّ أخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ
بنصب»
عبد «، وهو محتمل للوجهين على المذهبين.
وقال الزمخشري: أو يعطفان على محل»
الليل «.
فإن قلت: كيف يكون ل»
الليل «محلّ، والإضافة حقيقيّة، لأن اسم الفاعل المُضَاف إليه في معنى المُضِيّن ولا تقول: زيد ضارب عمراً أمس.
310
قلت: ما هو بمعنى الماضين وإنما هو دالٌّ على فِعْلِ مستمر في الأزمنة.
قال أبو حيَّان: أما قوله: إنما هو دَالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة يعنيك فيكون عاملاً، ويكون للمجرور إذا ذاك بعده مَوْضِعٌ فيعطف عليه «الشمس والقمر» قال: «وهذا ليس بِصَحيحٍ إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بزمن خاصّ، وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل، ولا لمجروره مَحَلّ، وقد نَصُّوا على ذلك، وأنشدوا عليه قول القائل في ذلك: [البسيط]
٢٢٦٥ - ألْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ...........................
فليس»
الكاسب «هنا مقيداً بزمان، و» إن «تقيَّد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون» أل «فلا يعمل عند البصريين، أو ب» أل «أو حالاً أو مستقبلاً، فعلم فيضاف على ما تقرر في النحو». ثم قال: وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار يعمل، فلا يجوز العَطْفُ على مَحَلِّ مجروره، بل مذهب سبيويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - في «الذي» بمعنى الحال والاستقبال ألاًَّ يَجُوزُ العَطْفُ على محلِّ مجروره، بل على النصب بفعل مقدَّرٍ لو قلت: هذا ضارب زيد وعمراً [لم يكن نصب عمراً] على المحل [على الصحيح] وهو مذهب سيبويه؛ لأن شَرْطَ العَطْفِ على الموضع مفقود، وهو أن يكون للموضع محرز لا يتغير، وهذا مُوضِّحٌ في علم النحو.
قال شهاب الدين: وقد ذكر الزَّمخشري في أوّل الفاتحة في ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤] أنه لمَّا لم يُقْصَدْ به زمانٌ صارت إضافته مَحْضَةً، فلذلك وَقَعَ صفة للمعارف فمن لازم قوله: إنه يترعف بالإضافة ألاَّ يعمل؛ لأن العالم في نِيَّةِ الانفصال عن الإضافة، ومتى كان في نِيَّةِ الانفصال كان نكرة ومتى كان نكرة فلا يقع صِفَةً للمعرفة، وهذا حَسَنٌ حيث يرد عليه بقوله: وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة.
وقرأ أبو حيوة: «والشَّمْسِ والقَمَرِ» جَرّاً نَسَقاً على اللفظ وقرا شاذّاً «والشَّمْسُ والقَمَرُ» رَفْعاً على الابتداء، وكان من حَقِّهِ أن يقرأ «حُسْبَانٌ» رَفْعاً على الخبر، وإنما قرأه نَصْباً فالخبر حينئذ محذوف، تقديره مَجْعولان حُسْبَاناً، أو مخلوقان حُسْبَاناً.
فإن قلت: لا يمكن في هذه القراءة رَفْع «حسبان» حتى تلزم القارئ بذلك، لأن الشَّمْسَ والقمر ليا نَفْسَ الحسبان.
فالجواب: أنهما في قراءة النصب إما مَفْعُولان أوَّلان، و «حسبان» ثانٍ، وإما
311
صاحبا حال، و «حسبان» حال، والمفعول الثاني هو الأوَّل، والحال لا بد وأن تكون صَادِقَةً على ذي الحال، فمهما كان الجواب لكن كان لنا.
والجواب ظاهر مما تقدَّم.
والحُسْبَان فيه قولان:
أحدهما: انه جمعن فقيل: جمع «حِسَاب» ك «رِكاب» و «رُكْبَان» و «شِهَاب» و «شُهْبَان»، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد.
وقال أبو البقاء: هو جمع «حسبانة» وهو غَلَطٌ؛ لأن الحسبانة: القِطْعَةُ من النار، وليس المراد ذلك قطعاً.
وقيل: بل هو مصدر ك «الرُّجْحضان» والنقصان و «الخُسْرَان»، وأما الحساب فهو اسم لا مَصْدَرٌ وهذا قول ابن السِّكِّيتِ.
وقال الزمخشري: و «الحُسْبَان» بالضم مصدر حَسَبْتُ يعني بالفتح، كما أن الحِسْبَان بالكسر مصدر حَسِبْتُ يعني بالكسر ونظيره: الكُفْرَان والشُّكْران.
وقيل: بل الحِسْبَان والحُسْبَان مصدران، وهو ول أحمد بن يحيى، وأنشد أبو عبيد عن أبي زَيْدٍ في مجيء الحُسْبَان مصدراً قوله: [الطويل]
٢٢٦٦ - عَلَى اللَّهِ حُسْبَانِي إذَا النَّفْسُ أشْرَفَتْ عَلَى طَمَعِ أوْ خَافَ شَيْئاً ضَمِيرُهَا
وقال «حُسْبَاناً» على ما تقدَّم من المفعولية أو الحالية.
وقال ثعلب عن الأخفش: إنه منصوب على إسْقاطِ الخافض، والتقدير: يجريان بِحُسْبَانٍ؛ كقوله: ﴿لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١] أي: من طين.
وقوله: «ذلك» إشارة إلى ما تقدَّم من الفلق، أو الجعل، أو جميع ما تقدم من الأخبار في قوله «فالق الحبّ» إلى «حُسْبَاناً».
ومعنى الآية الكريمة: جعل الشمس والقمر بحسبي معلوم لا يجوزانه حتى يتهيّئان إلى أقصى منازلهما «ذلك تَقْدِيرُ العزيزِ العَلِيم» ف «العزيز» إشارة إلى كمال قُدْرتِهِ، «والعليم» إشارة إلى كمال عِلْمِهِ، والمعنى: أن تقديري أجْرَامِ الأفلاك بصفاتها المخصوصة وَهَيْئئَتَهَا المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البُطْءِ والسرعة لا يمكن تحصيله إلاَّ بِقُدْرَةِ كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نَافِذٍ في جميع المعلومات من الكُلِّيَّاتِ والجزئيات، وذلك مختص بالفاعل المختار سبحانه وتعالى.
312
وهذا نوع ثالث على كمالِ القُدْرةِ.
فقوله: ﴿َهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم﴾ الظاهر أن «جعل» بمعنى «خَلَق»، فتكون متعديةً لواحد، و «لكم» متعلّق ب «جعل»، وكذا «لِتَهْتَدُوا».
فإن قيل: كيف يتعلّق حَرْفا جَرِّ متحدان في اللفظ والمعنى؟
فالجواب: أن الثَّاني بدلٌ من الأوَّل بدل اشتمال بإعَادَةِ العامل، فإن «ليهتدوا» جَارّ ومجرور؛ إذ اللام لام «كي»، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» عند البصريين، وقد تقدَّم تقريره. والتقدير: جعل لكم النجوم لاهتدائكم، ونطيره قوله: ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣] ف «لبيوتهم» بدل «لمن يَكْفُرُ» بإعادة العامل.
وقال ابن عطية: «وقد يمكن أن يكون بمعنى» صَيَّر «، ويُقدَّرُ المفعول الثاني من» لتهتدوا «أي: جعل لكم النجوم هِدَايَةً».
قال أبو حيَّان: «وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي» ظَنَّ «وأخواتها».
قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يَدَّع ابن عطية المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً، إنما قال: إنه [بدل] من «لتهتدوا»، أي: فَيُقَدَّرُ مُتعلِّقُ الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً، كما يُقَدَّرُ في نظائره، والتقدير: جعل لكم النجوم مُسْتَقِرَّةً أو كائنة لاهتدائكم.
وأما قوله: «جعَل لَكُمُ النُّجُوم» هداية فلإيضاحِ المعنى وبيانه.
والنجوم مَعْرُوفَةٌ، وهي جمع «نَجْم»، والنَّجْمُ في الأصل مصدر؛ يقال: نجم الكوكب ينجم نجماً ونجوماً، فهو ناجمٌ، ثم أطْلِقَ على الكواكب مجازاً، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً، والنجوم تُسْتَعْملُ مَرَّةً للكواكب وتارة مصدراً ومنه نَجَمض النَّبْتُ؛ أي: طلع، ونجم قَرْنُ الشاة وغيرها، والنجم من النبات ما لا سَاقَ له، والشجر ما له ساق، والتَّنْجِيمُ: التفريق، ومنه نجوم الكتابة تشبيهاً بتفرق الكواكب.

فصل في معنى الآية


معنى الآية الكريمة: خَلَقَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا إلى الطرق والمسالِكِ في ظلمات البر والبحر، حيث لا يرون شَمْساً ولا قَمَراً، وهو أن السَّائِرَ في البحر والقِفَارِ يهتدي بها
313
في الليل إلى مَقْصدِه وإلى القِبْلةِ، وأيضاً إنها زِينَةُ السماء كما قال: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيح﴾ [تبارك: ٥] وقال: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ [الصافات: ٦] ومن منافعها أيضاً كونها رُجُوماً للشياطين، ثم قال: «قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَومٍ يَعْلمُونَ» وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ هذه النجوم كما يمكن أن يستدلِّ بها على [الطرقات في ظلمات البر والبرح فكذلك يمكن أن يُسْتَدلَّ بها على] معرفة الصانع الحكيم، وكما قُدْرِتهِ وعلمه.
والثاني: أن يكون المراد هاهنا: من العلم: العقل، فيكون نظير قوله تعالى في سوة البقرة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ [البقرة: ١٦٤] إلى قوله: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] وقوله في آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ﴾ [آل عمران: ١٩٠] إلى قوله: ﴿لأُوْلِي الألباب﴾ [آل عمران: ١٩٠].
[الثالث:] أن المراد من قوله: «لِقَومِ يعلَمُونَ» أي: لقوم يتفكَّرون ويتأملون، ويستدلون بالمحسوس على المعقول، ويتنقول، من الشَّاهد إلى الغائب.
314
وهذا نوع رابع من دلائلِ وُجُودِ الإله سبحانه وتعالى وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال باحوال الإنسان، فقوله: «مِنْ نَفْسٍ واحِدةٍ»، يعني آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وهي نفس واحدة، وحواء مَخْلُوقةٌ من ضِلْعٍ من أظلاعه، فصار كل [الناس] من نَفْسٍ واحدة، وهي آدم.
قإن قيل: فما القول في عِيسَى؟
فالجواب: أنه مَخْلوقٌ من مريم التي هي مَخْلُوقَةٌ من أبَوَيْهَا.
فإن قيل: أليس القرآن دالٌّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المَنْفُوخ فيها، فكييف يصح ذلك؟!
فالجواب: أن كلمة «من» تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان من مريم، وهذا القدر كان في صِحَّةِ هذا اللفظ.
قال القاضي: فرق بين قوله تبارك وتعالى: [ «أنشأكم» وبين قوله: «خلقكم» لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء، ولكن على وجه النمو والنشوء لا من مَظْهَرِ من الأبوين، كما يقال في النبات: إنه تعالى أنشأه بمعنى] النمو والزيادة إلى قوت الانتهاء.
314
قوله: «فَمُسْتَقَرٌّ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف، والباقون بفتحها، وأما «مُسْتَوْدَعٌ» فالكل قرأه مفتوح الدال، وقد روى الأعور عن أبي عمروا بن العلاء كسرها فمن كسر القاف جعل «مُسْتَقَرّاً» اسم فاعل، والمراد به الأشْخَاصُ، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: فمنكم مُسْتَقرٌّ؛ إما في الأصلاب، أو البطون، أو البقور، وعلى هذه القراءة تتناسقُ «ومستودع» بفتح الدال.
وجوز أبو البقاء في «مُسْتَقِرٌّ» بكسر القاف أن يكون مَكَاناً وبه بدأ.
قال: «فيكون مكاناً يستقر لكم» انتهى.
يعني: والتقدير: ولكم مكان يستقر، وهذا لي بظاهر ألَبَتَّة؛ إذ المكان لا يوصف بكونه مُسْتَقِرّاً بكسر القاف، بل بكونه مُسْتَقراً فيه.
وأما «مستودَع» بفتحها، فيجوز أن يكون اسم مفعول، وأن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، فيقدر الأوّل: فمنكم مستقر في الأصلاب، ومستودع في الأرحام، أو مستقر في الأرض ظاهراً، ومستودع فيها باطناً، ويقدر للثاني: فمنكم متسقر، ولكن مكان تستودعون فيه، ويقدر للثالث: فمنكم مستقر ولكم استيداع.
وأما من فَتَحَ القاف فيجوز فيه وجهان فقط: أن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، أي: فلكم مكان تَسْتَقِرُّونَ فيه، وهو الصُّلْب، أو الرحم، أو الأرض، أو لكم استقرار فيما تقدَّم، ويقص أن يكون اسم مفعول، لأن فعله قاصر لا يُبْنى منه اسم مفعول به [فيكون اسم مكان والمتسقر بمنزله المقر؛ وإن كان كذلك لم يجز أن يكون خبر المضمر «منكم» بل يكون خبره «لكم» فلتقدير لكمن مقر بخلاف] مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة.
وتوجيه قرءاة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في «مستودع» بالكسر على أن يجعل الإنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقه وأجله حتى إذا نَفِدَا كأنه رَدَّهُمَا وهو مجاز حَسَنٌ، ويقوي ما قلته قول الشاعر: [الطويل]
315
٢٢٦٧ - وَمَا المَالُ والأهُلُونَ إلاَّ وَدِيعَة ٌ وَلاَ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الوَدَائعُ
والإنْشَاءُ: الإحْدَاثُ والتربية، ومنه: إنشاء السحاب، وقال تبارك وتعالى: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية﴾ [الزخرف: ١٨] فهذا يُرَادُ به التربية، وأكثر ما يستعمل الإنشاء في إحْداثِ الحيوان، وقد جاء في غيره قال تبارك وتعالى: ﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾ [الرعد: ١٢].
والإنْشَاءُ: قَسِيمُ الخَبَرِ، وهو ما لم يكن له خَارجٌ، وهل هو مندرج في الطَّلَب أو بالعكس، أو قسم برأسه؟ خلاف.
وقيل على سبيل التقريب: هو مقارنة اللفظ لمعناه.
قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم قيل:» يعلمون «مع ذكر النجوم، و» يفقهون «مع ذكر إنشاء بني آدم؟
قلت: كأن إنْشَاءَ الإنْسِ من نَفْسِ واحدة، وتصريفهم على أحوالهم مختلفة ألْطَفُ وأدَقُّ صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفِقْهِ الذي هو استعمال فِطْنَةٍْ، وتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطابقاً له»
.

فصل في تفسير الاستقرار


قال ابن عبَّاسٍ في أكثر الروايات: إن المستقر هو الأرْحَامُ، والمستودع الأصلاب.
قال كريب: كتب [جرير إلى] ابن عباس يسأله عن هذه الآية الكريمة، فأجاب: «المستودع» : الصّلب، و «المستقر» : الرحم، ثم قرأ ﴿وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ﴾ [الحج: ٥].
قال سعيد بن جبير: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: أما إنه ما كان من مستودع في ظهرك، فسيخرجه الله عزَّوجلَّ ويؤيده أيضاً أن النُّطْفَة لا تبقى في [صُلْبِ الأب زماناً طويلاً والحنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً فلما كان المُكْثُ في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم] أولى.
وقيل: «المستقر» صلب الأب، و «المستودع» رحم الأم؛ لأن النطفة حَصَلَتْ في
316
صُلِب الأب لا من قبل الغير، وحصلت في رحم [الأم بفعل الغير] فأشبهت الوديعة كأنَّ الرجل أوْدَعَهَا ما كان مستقرّاً عنده.
وقال الحسنُ: «المستقر» حَالهُ بعد الموت، و «المتسودع» حالُهُ قبل الموت؛ لأنه أشبه الوديعَةَ لكونها مُشْرِفَةً على الذَّهابِ والزَّوال وقيل العكس.
وقال مجاهد: «مستقر» على ظَهْرِ الأرض، و «مستودع» عند الله في الآخرة؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ [البقرة: ٣٦].
وقيل: المستودع: القبر، والمستقر: الجنة والنار.
وقال أبو مُسْلِمٍ: تقديره: هو الذي أنشأكم من نَفْسٍ واحدة، فمنكم ذكر ومنكم أنثى إلاَّ أنه - تبارك وتعالى - عبَّر عن الذَّكرِ بالمستقر، لأن النُّطْفَةَ ما تتولَّدُ في صلبه، وتستقر هناك، وعبر عن الأنْثَى بالمتسودع؛ لأن رَحمَهَا شبيه بالمستودع لتلك النُّطْفَةِ، والمقصود من ذكر الله التِّفَاوُت في الصفات أن هذا الاختلاف لا بد له من سببٍ ومؤثّر وذلك هو الفاعل المُخْتَارُ الحكيم.
317
وهذا نَوْعٌ خَامِسٌ من الدَّلائِل على كمال قُدْرَتِهِ تعالى وعلمه وحكمته وحرمته وإحسانه إلى خَلقِهِ.
قوله: «فَأخْرَجْنَا» فيه التِفَاتٌ من غيبة إلى تَكَلُّم بنون العظمة والباء في «به» للسَّببية.
وقوله: «نَبَات كُلِّ شَيْءٍ» قيل: المراد كُلّ ما يسمّى نباتاً في اللغة.
قال الفراء: «رزق كل شيء، أي: ما يصلح أن يكون غِذَاءً لكل شَيءٍ، فيكون مَخْصُوصاً بالمتغذى به».
وقال الطَّبري: «هو جميع ما يَنْمُوا من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأن كل ذلك يَتَغَذَّى بالماء».
317
ويترتب على ذلك صِنَاعَةٌ إعرابية وذلك أنَّا إذا قُلْنَا بقول غير الفراء كانت الإضافة رَجِعَةٌ في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، إذ يصير المعنى على ذلك: فَأخْرَجْنَا به كُلَّ مُنْبَتٍ، فإن النبات بمعنى المُنْبَتِ، وليس مصدراً كهو في ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض﴾ [نوح: ١٧] وإذا قلنا بقول الفراء: كانت الإضافة إضافة بين مُتباينين؛ إذ يصير المعنى غذاء كل شيء أو رزقه، ولم ينقل أبو حيان عن الفراء غير هذا القول والفرَّاء له في هذه الآية القَولانِ المُتقدَّمان، فإن قال: «رزق كل شيء» قال: وكذا جاء في التفسير، وهو وَجْهُ الكلام، وقد يجوز في العربية أن تضيف النبات إلى كُلّ شيء، وأنت تريد بكُلِّ شيء النَّبَات أيضاً، فيكون مثل قوله: «حَقّ اليَقينِ واليقين هو الحق».

فصل في دحض شبه للمعتزلة


هذه الآيةُ تقتضي نُزُولَ المَطَرِ في السماء.
قال الجُبَّائِيُّ: إن الله - تبارك وتعالى - ينزل الماء من السَّماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض لظاهر النَّصِّ قال بعض الفَلاسِفَةِ: إن البُخَارَاتِ الكثير تجتمع في بَاطِنِ الأرض، ثم تَصْعَدُ، وترتفع إلى الهواء، فينعقد الغَيْمُ منها، ويَتَقَاطَرُ، وذلك هو المَطَرُ، فقيل: المراد أنزل من جانب السماء ماءً.
وقيل: ينزل من السحاب، وسمي السحاب سماء؛ لأن العربَ تُسَمَّى كل ما فَوْقَكَ سماء كسماءِ البيت.
ونقل الواحديُّ في «البسيط» عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريد بالماء هاهُنَا المَطَرَ، ولا تنزل نقطة من الماء إلا ومعها مَلَكٌ.
قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يَدُلُّ على أنَّ إخْراجَ النَّباتِ بواسطة الماء، وذلك يوجب القَوْلَ بالطَّبع، والمتكلمون ينكرونه.
قال الفراء: هذا الكلام يَدُلُّ على أنه أخرج به نبات كل شيء، وليس الأمر كذلك، وكأن المراد: فأخرجنا [به نبات كل شيء له نبات، وإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه وقوله: «فأخرجنا» ] بعد قوله: «أنزل» فيه الْتِفَاتٌ، وهو من الفَصَاحةِ مذكور في قوله تبارك وتعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢].
وقوله تبارك وتعالى: «فأخْرَجْنَا» هذه النون تمسى نون العَظَمَةِ لا نون الجمع كقوله:
﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً﴾ [نوح: ١] ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر﴾ [الحجر: ٩] ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١]
318
قوله: «فَأخْرَجْنَا مِنْهُ» في الهاء وجهان:
أحدهما: أن يعود على النَّبَاتِ، وهو الظاهر، ولم يذكر الزمخشري غيره، وتكون «من» على بابها من كونها لابتداء الغاية، أو تكون «من» للتبعيض، وليس كذلك.
والثاني: يَعودُ على الماء، وتكون «من» سَبَبِيَّةً.
وذكر أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - الوَجْهَيْنِ، فقال: «فَأخْرَجْنَا مِنْهُ» أي: بسببه، ويجوز أن تكون الهاء في «منه» راجعةً علىلنبات، وهو الأشبه، وعلى الأول يكون «فأخْرَجْنَا» بدلاً من «أخْرَجْنَا» الأول أي: أنه يكتفي في المعنى بالإخبار بهذه الجملة الثانية، وإلا فالبدلُ الصناعي لا يظهر، فالظاهر أن «فأخرجنا» عطف على «فأخرجنا» الأول.
وقال أبو حيان: وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أن يكون بدلاً من «فأخرجنا».
قلت: إنما جعله بَدَلاً بِنَاءً على عَوْدِ الضمير في «منه» على الماء فلا يَصِحُّ أن يحكى عنه أنه جَعَلَهُ بدلاً مطلقاً؛ لأن البدليَّة لا تتصَوَّرُ على جعل الهاء في «منه» عائدةً على النبات، والخَضِرٌ بمعنى الأخْضَر ك «عَوِر» و «أعور».
قال أبو اسحاق: يقال: أخضر يخضر فهو خضر وأخضر ك «أعور» فهو عَوِر وأعور.
والخُضْرَة أحد الألوان، وهو بين البياض والسواد ولكنها إلى السَّوادِ أقرب، وكذلك أطْلِقَ الأسود على الأخضر، وبالعكس، ومنه «سواد العراق» لِخُضْرَةِ أرضه بالشجر، وقال تبارك وتعالى: ﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٦٤] أي: شَديدتَا السواد لريِّهِمَا، والمُخاضَرَةُ مُبايَعَةُ الخُضَرِ والثمار قبل بلوغها، والخضيرة: نخلة ينتثر بُسْرُهَا أخضر.
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُمْ وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ» فقد فَسَّرَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «المَرْأةُ الحَسْنَاءُ في المَنْبَتِ السُّوءِ» والدِّمنُ: مَطَارحُ الزِّبَالَةِ، وما يُسْتَفْذّرُ، فقد يَنْبُت منها ما يَسْتَحْسِنُهُ الرائي.
قال اللَّيْثُ: الخضر في كتاب الله الزَّرْعُ والكلأ، وكل نبت من الخضر.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز، والمراد بهذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أوّلاً، وتكون السُّنْبُلَةُ مركبةً عليه من فوقه
قوله: «نُخْرِجُ مِنْهُ» أي: من الخضر.
319
والجمهور على «نخرج» مُسْنَداً إلى ضمير المعظم نفسه.
وقرأ ابن محيصن والأعمش: «يخرج» بياء الغيبة مبنياً للمفعول و «حَبٌّ» قائم مقام فاعله، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفةً ل «خَضِراً» وهذا هو الظاهر، وجوّزوا فيها أن تكون مُسْتَانَفَةً، و «متراكب» رفعاً ونصباً صفة ل «حب» بالاعتبارين، والمعنى أن تكون الحبَّات متراكبةً بعضها فوق بعض، مثل [سَنَابِلِ] البُرِّ والشعير والأرز، وسائر الحبوب، ويحصل فوق السُّنْبُلَةِ أجسام دقيقة حادة كأنها الإبَرُ، والمقصود [من تخليقها مَنْعُ الطير من التِقَاطِ تلك الحبَّاتِ المتراكبة.
قوله: ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ يجوز في هذه الجملة أوجه:]
أحسنها: أن يكون «من النخل» خبراً مقدماً، و «من طلعها» بدل بعض من كل بإعادة العامل، فهو كقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر﴾ [الأحزاب: ٢١].
و «قِنْوَانٌ» مبتدأ مؤخر، وهذه الجملة ابتدائية عطفت على الفعلية قبلها.
الثاني: أن يكون «قِنْوان» فاعلاً بالجار قبله، وهو «من النخل» و «من طلعها» على ما تقدَّم من البدليَّة، وذلك على رأي الأخفش.
الثالث: أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُعِ، يعني أن كلاَّ من الجارَّيْنِ يطلب «قنوان» على أنه فاعل على رأي الأخفش، فإن أعملت الثاني، وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأوّل، وإن أعملت الأوَّل كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني.
قال أبو البقاءِ: والوجه الآخر أن يرتفع «قنوان» على أنه فاعل «من طلعها» فيكون في «من النخل» ضمير يفسره «قنوان» وإن رفعت [ «قنوان» ] بقوله: «ومن النخل» على قول من أمعلم أول الفعلين جاز، وكان في «من طلعها» ضمير مرفوع قلت: فقد أشار بقوله: على أنه فالع «من طلعها» إلى إعمال الثاني.
الرابع: أن يكون «قنوان» مبتدأ، و «من طلعها» الخبر، وفي «من النخل» ضمير، تقديره ونبت من النخل شيء أو ثمر، فيكون «من طلعها» بدلاً منه. قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ، وهذا كلام لا يصيح؛ لأنه بعد أن جعل «من طعلها» الخبر، فكيف يجعله بدلاً؟ فإن قيل: يجعله بدلاً منه؛ لأن «من النخل» خبر للمبتدأ.
320
فالجواب: أن قد تقدَّم هذا الوجه، وجعله مقابلاً لهذا، فلا بد أن يكون هذا غيره، فإنه قال قبل ذلك: وفي رفعه وجهان:
أحدهما: هو مبتدأ، وفي خبره وجهان:
أحدهما: هو «من النخل»، و «من طلعها» بدل بإعادة الجار.
قال أبو حيان: وهذا إعراب فيه تخليط.
الخامس: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة «أخرجنا» عليه، تقديره: ومخرجه من طلع النخل «قنوان». هذا نص الزمخشري، وهو كما قال أبو حيان لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مُسْتَقِلَّةٌ في الإخبار بدونه.
السادس: أن يكون «من النخل» متعلقاً بفعل مقدر، ويكون «من طلعها قنوان» جملة ابتدائية في موضع المفعول ب «نخرج» وإليه ذهب ابن عطية، فإنه قال: «ومن النخل» تقديره: نخرج من النخل «، و» من طلعها قنوان «ابتداء خبر مقدم، والجملة موضع المفعول ب» نخرج «.
قال الشيخ: وهذا خطأ؛ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق، وكان في الجلمة مَانِعٌ من العمل في شيء من مفرداتها على ما شرح في النحو، و «نخرج» ليس مما يعلّق، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها؛ إذ لو سُلِّطَ الفعل على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب: ويخرج من النخل من طلعها قنوان [بالنصب مفعولاً به.
وقال أبو حيَّان: ومن قرأ «يخرج منه حبّ متراكب» جاز أن يكون قوله «ومن النخل من طلعها قنوان» ] معطوفاً عليه نحو: ضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو أي: إنه يعطف «قنوان» على حب «ومن النخل» على «منه»، ثم قال: «وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه».
والقنوان جمع ل «قِنْو»، كالصِّنْوَان جمع ل «صِنُو» والقِنْو: العِذْق بكسر العين وهو عُنْقُودُ النخلة، ويقال له: الكِبَاسَةُ.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٢٢٦٨ - وَفَرْع يُغَشِّي المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِمٍ أثِيثٍ كَقِنُوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
وقال الآخر [الطويل] :
321
٢٢٦٩ - سَوَامِقُ جَبَّارٍ أثِيثٍ فُرُوُعُهُ وعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا
والقنوان: جمع تكسير.
قال أبو علي: الكسرة التي في قنوان ليست التي في «قِنْو» ؛ لأن تلك حذفت في التكسير، وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّرَ تَغَيُّرُ كسرة «هِجَان» جمعاً عن كَسْرته مفرداً، فكسرة «هجان» جمعاً ككسرة «ظِرَاف».
قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا مما تُوَضِّحُهُ الضمة في آخر «منصُور» على قول من قال «يا حارُ» يعني بالضمة ليست التي كانت فيه في قول من قال: «يا حَار» يعين بالكسر.
وفي لقات:
فَلُغَةُ «الحجاز» : قِنْوان «بكسر القاف، ويه قراءة الجمهور وقرأ الأعمش، والحباب عن أبي عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، والأعرج بضمها، ورواها السمي عن علي بن أبي طَلْحَةَ، وهي لغة» قَيْس «.
ونقل ابن عطية عكس هذا، فجعل الضم لغة»
الحجاز «، فإنه قال:» وروي عن اعرج ضم القاف على أنه جع «قُنْو» بضم القاف «.
قال الفراء:»
وهي لغة «قيس»، وأهل «الحجاز»، والكسر أشهر في العرب «.
واللغة الثالثة «قَنْوَان»
بفتح القاف، وهي قراءة ابي عمرو - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في رواية هارون عنه، وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع «قنو» لا جمعاً؛ إذ ليس في صِيَغِ الجمنع ما هو على وَزْن «فَعْلان» بفتح الفاء، ونظَّره الزمخشري ب «رَكْب»، وأبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ ب «الباقر»، وتنظير أبي البقاء أوْلَى؛ لأنه لا خلاف في «الباقر» أنه سام جمع، وأما «رَكْب» فيه خلاف لأبي الحسن مشهور، ويَدُلُّ على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سمع في المفرد كسر القاف، وضمها، فجاء الجمع عليهما، وأما الفتح فلم يَرِدْ في المفرد.
واللغة الرابعة «قنيان» بضم القاف مع الياء دون الواو.
والخامسة: «قِنْيان» بكسر القاف مع الياء أيضاً، وهاتان لغتا «تميم» و «ربيعة».
وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً، بل بالواو، سواء كسروا القاف أو ضموها، فلا يقولون إلا قِنْواً وقُنْواً، ولا يقولون: قِنِياً ولا قُنْياً، فخالف الجمع مفرده في الماة، وهو
322
غريب، واختلف في مدلول «القِنْو» ؛ فقيل: هو الجُمَّار، وهذا يكاد يكون غَلَطاً، وكيف يوصف بكونه دانياً؛ أي: قريب الجَنَى والجُمَّارُ إنما هو في قَلْبِ النخلة؟ والمشهور أنه العِذْقُ كا تقدم ذلك.
وقال ابن عباس: يريد العراجينَ الَّتي قد تدلّت من الطلع دَانِيَةً ممن يَجْتَنيها.
وروي عنه أنه قال قصار النخل اللاصقة عُذُوقها بالأرض.
قال الزجاج ولم يقل: ومنها قنوان بعيدة؛ لأن ذِكْرَ أحد القسمين يَدُلُّ على الثاني، لقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، ولم يقل: سرابيل تقيكم البرد. وقيل أيضاً: ذكر الدانية القريبة، وترك البعيدة؛ لأن النعمة في القريبة أكثر.
قال أبو عبيد: «وإذَا ثَنَّيْتَ» قِنْواً «قلت: قِنْوانِ بكسر النون ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل: صِنْو وصِنْوَان، والإعراب على النون في الجمع [وليس لهما في كلام العرب نظير؛ قال الشاعر: [الطويل]
٢٢٧٠ -................... وقال بِقِنوانٍ البُسْرِ أحْمَرَا
قال شهبا الدين: إذا وقف على»
قنوان «المُثَنّى رفعاً، وعلى» قنوان «جمعاً وقع الاشتراك اللفظي، ألا ترى أنك إذا قلت» عندي قنوان «وقفاً احتمل ما ذكرته في التثنية والجمع، وإذا وصلت وقع الفرق، فإنك تجعل الإعراب على النون حال جمعه كغِرْبَان وصردان، وتكسر النون في التثنية، ويقع الفرق أيضاً بوجوه آخر:
منها انقلاب الألف ياء نصباً وجراً في التقينة نحو رأيت قِنْويك وصنويْكَ، ومررت بِقنويْك وصِنْوَيْك.
ومنها: حذف نون التثنية إضافة وثبوت النون في الجمع].
نحو: جاء قواك وصنواك [ونوانك وصنوانك] ومنها في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية، فتقول: قنوي وصنوي، ولا تحذف الألف والنون إذا أردت الجمع بل تقول: قنواني وصنواني، وهذا اللفظان في الجمع تكسراً يشبهان الجمع تصحيحاً، وذلك أن كُلاًّ منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان، ولم يتغير معهما بناء الواحد، والفرق ما تقدم.
وأيضاً فإن الجمع من قِنْوان وصِنْوَان إنما فهمناه من صيغة فعلان، ولا من الزيادتين، بخلاف «الزيدين»
فإن الجمع فهمناه منهما، وهذا الفصل الذي من محاسن علم الإعارب والتصريف واللغة.
323
وقال الراغب: بعد أن ذكر أنه العِذق: والقناة تُشْبِهُ القِنْوَ في كونها غُصْنَيْنِ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك؛ لأنها تشبه القناة في الخطِّ والامتداد.
وقيل: أصلة من قَنَيْتُ الشيء إذا ادّخرته؛ لأنها مُدَّخرة للماء.
وقيل: هو من قَانَاهُ أي: خالطه.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٢٢٧١ - كبِكْرِ مُقَانَاةِ البيَاضِ بِصُفْرَةٍ غَذَاهَا نُمَيْرُ غَيْرَ مَحَلِّلِ
وأما «القَنَا» الذي هو الاحْدِيدابُ في الأنْفِ فَيْشَبَّهُ في الهيئة بالقنا يقال: رجل أقْنَى، وأمرأةٌ قَنْوَاء، كأحْمَر وحمراء.
والطَّلْعُ: أوَّل ما يخرج من النَّخْلة في أكْمامِهِ.
قال أبو عبيد: الطَّلْعُ الكُفُرَّى قبل أن تَنْشَقَّ عن الإغريض والإغْريضُ يسمى طلعاً يقال: أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها تطلع إطلاعاً وطلع الطلع يطلع طلوعاً؛ ففرقوا بين الإسنادين، وأنشد بعضهم في مراتب ام تثمره النخل قول الشاعر: [الرجز]
٢٢٧٢ - إنْ شِئْتَ أنْ تَضْبِطَ يَاخَلِيلُ أسْمَاء مَا تُثْمِرُهُ النَّخِيل
فَاسْمَعْهُ مَوْصُوفاً عَلَى مَا أذْكُرُ طَلْعٌ وبَعءدَهُ خلالٌ يَظْهَرُ
وبَلَحٌ ثُمَّ يَلِيهِ بُسْرُ ورُطَبٌ تَجْنِيهِ ثُمَّ تَمْرُ
فَهَذِهِ أنْواعُهَا يَا صِاحِ مَضْبُوطَةً عَنْ صَاحِبِ الصِّحَاحِ
قوله: «وجَنَّاتٍ» الجمهور على كَسْرِ التاء من «جنات» ؛ لأنها مَنْصُوبة نَسَقاً على «نبات» أي: فأخرجنا بلاماء النبات وجنات، وهو من عَطْفِ الخاصِّ على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] وعلى هذا فقوله: ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ جملة معترضة وإنما جيئ بهذه الجملة معترضة وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للْمنَّةِ به لأنه من أعظم قُوتِ العرب، ولأنه جامع بين التَّفَكُّهِ والقوت.
324
ويجوز أن ينتصب «جنات» نسقاً على «خَضِراً»، وجوز الزمخشري - وجعلهُ الأحسن - أن ينتصب على الاختِصَاصِ، كقوله: ﴿والمقيمي الصلاة﴾ [الحج: ٣٥].
قال: «لفضل هذين الصِّنفين» وكلامه يفهم أن القراءة الشهيرة عنده رفع «جَنَّات» والقراءة بنصبهما شاذَّة، فإنه أوَّل ما ذكر توجيه الرَّفْع كما سياتي، ثم قال: وقرئ «وجنات» بالرفع وفيها ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنها مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف، واختلفت عبارة العربين في تقديره فمنهم من قدَّرهُ متأخراً ومنهم من قدَّرَهُ متقدماً؛ فقدَّره الزمخشري متقدماً أي: وثمَّ جنات، وقدره أبو البقاء: ومن الكَرْمِ جنَّاتٌ، وهذا تقدير حسن لِمُقابلةِ قوله: «ومِنَ النَّخْل» أي: من النخل كذا، ومن الكرم كذا، وقدَّرهُ النَّحَّاسُ «ولَهُمْ جنَّاتٌ»، وقدره ابن عطية: «ولكن جنَّات».
ونظيره قوله في قراءته ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] بعد قوله: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ﴾ [الواقعة: ١٧، ١٨] أي: ولهم حُورٌ عين، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويه، والكسائي، والفراء.
وقدره الزمخشري، وأبو حيان متأخراً؛ فقال: أي: وجنات من أعناب أخْرجناها قال الشيخ: ودلَّ على تقديره قوله قبل: «فأخْرَجْنَا» كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه، أي: وأخوه أكرمته.
قال شهاب الدين: وهذا التَّقديرُ سَبَقَهُ إليه ابن الأنْبَارِيّ، فإن قال: «الجنَّات» رفعت بمضمر بعدها تأويلها: وجنات من أعناب أخرجناها، فجرى مجرى قول العرب «أكرمت عبد الله وأخوه» تريد وأخوه أكرمته.
قال الفرزدق: [الطويل]
325
فرفع «الخمر» وهي مفعول على معنى: والخمر أحَلَّها الطَّعْنَة.
والوجه: الثاني: أن يرتفع عَطْفاً على «قِنْوان» تغليباً للجوار؛ كقول الشاعر: [الوافر]
٢٢٧٤ -................... وَزَجَّحْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
فنسق «العيون» على «الحواجب» تَغْلِيباً للمُجَاورِةِ، والعيون لا تُزَجَّج كما أن الجنَّاتِ من الأعناب لايَكُنَّ من الطَّلْع، هذا نص مذهب ابن الأنباري أيضاً، فَتَحَصَّلَ له في الآية الكريمة مذهبان، وفي الجملة فَالجواب ضَعيفٌ وقد تقدَّم أنه من خَصَائِصِ النَّعْتِ.
والثالث: أن يُعطف على «قنوان».
قال الزمخشري: على معنى مُحَاطَة أو مخرجه من النخل قنوان، وجنات من أعناب أي من نبات أعناب.
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وهذا العَطْفُ على ألاَّ يلحظ فيه قَيْدٌ من النخل، فكأنه قال: ومن النخل قِنْوانق دانية، وجنات من أعناب حَاصِلة، كما تقول: «من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش مُنْطَلِقان».
قال شهاب الدين رحمها لله: وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوَجْهَ أعني عَطْفَهَا على «قنوان»، وضعَّفَهُ ابن عطية، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه، ومنع أبو البقاء عطفه على «قنوان»، قال: «لأن العِنبَ لا يخرج من النخل».
وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة قال أبو حاتم: «هذه القرءاة محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل».
قال شهاب الدين: أما جواب أبي البقاء فبما قاله الزمخشري.
وأما جواب أبي عبيد وأبي حاتم فبما تقدَّم من تَوْجِيهِ الرفع، و «ن أعاب» صفة ل «جنات» فتكون في محلِّ رفع ونصب بحسب القراءتين، وتتعلق بمحذوف.
قوله: «والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ» لم يقرأهما أحد إلاَّ مَنْصُوبَيْنِ، ونصبهما: إما عطف على «جنات»، وإما على «نبات» وهذا ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: وقرئ «وجنات» بالنصب عطفاً على «نبات كل شيء» أي: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله: «والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ».
326
ونص أبو البقاء على ذلك فقال: «وجنات» بالنصب عَطْفاً على «نبات» ومثله «الزيتون والرمان».
وقال ابن عطية: عطفاً على «حبًّا» وقيل على «نبات» وقد تقدم أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين:
أحدهما: عطفه على ما يليه.
والثاني: عطفه على الأوَّل نحوه مررت بزيد وعمرو وخالد، فخالد يحتمل عطفه على زيد وعمرو، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو: «مررت بك وبزيد وبعمرو»، فإن جعلتهُ عطفاً على الأول لزمت الباء، وإلاَّ جَازتْ.
و «الزَّيْتُون» وزنه «فَيْعُول» فالياء مزيدة، والنون أصْلِيَّة لسقوط تلك في الاشتقاق، وثبوت ذي، قالوا: أرض زتنَةٌ، أي: كثيرة الزيتون، فهو نظير قَيْصُوم، لأن فَعْلُولاً مفقود، أو نادرٌ ولا يتوهم أن تَاءَهُ أصلية ونوه مزيدة لدلالة الزَّيْتِ، فإنهما مادَّتانِ مُتغايرتان، وإن كان الزيت مُعْتصراً منه، ويقال: زاتَ طعامه، أي: جعل في زَيْتاً، وزاتَ رَأسَهُ أي: دَهَنَهُ به، وزْدَاتَ: أي ادَّهَنَ أبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازْدَجَرَ وازْدَانَ.
و «الرُّمَّان» وزنه فُعَّال نونه أصلية، فهو نظير: عُنَّاب وحُمَّاض، لقولهم: أرض رَمِنَهُ أي: كثيرَتُهُ.
قال الفراء: قوله تعالى: ﴿والزيتون والرمان﴾ يريد شجر الزيتون، وشجر الرمان؛ كقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] يريد أهْلَهَا.

فصل في معنى تقدم النخل على الفواكه في الآية


ذكر تبارك وتعالى هاهنا أربعة أنواع من الأشْجَارِ: النخل والعنب والزيتون والرمان، وقدَّم الزرع على الشَّجرِ؛ لأن الزَّرْعَ غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مُقدَّمٌ، وقدم النخل على الفواكه؛ لأن الثمر يجري مُجْرَى الغذاءِ بالنسبة إلى العرب.
قال الحكماء: بينه وبين الحيوان مُشابهةٌ في خواصَّ كثيرة لا توجد في النبات، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أكْرِمُوا النَّخْلَةَ فإنَّهَا عَمَّتُكُمْ فإنَّها خُلِقَتْ مِنْ طينَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ».
327
وذكر العِنَب عقيبَ النخل؛ لأن العنب أشْرَفُ أنواع الفواكه؛ لأنه أول ما يظهر يصير مُنْتَفَعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر خُيُوطٌ خُضْرٌ رقيقة حَامِضَةُ الطعم لذيذَةٌ، وقد يمكن اتِّخَادُ الصبائِغ منه، ثم يظهر بعده الحُصْرُمُ، وهو طعام شَريفٌ للأصْحِّاءِ والمَرْضَى، وقد يتخذون من الحصم أشربة لطيفة المذاقِ نافعَةٌ لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، لأنه ألَذّ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه [وأشهاها فيمكن ادِّخار العنب المعلق سننة أو أكثر وهو ألذ الفواكه] المُدَّخرة، ثم يخرج منه أربعة أنواع من المتناولات: وهي الزَّبِيبُ والدبْسُ والخَمْرُ والخَلُّ، ومنافع هذه الأربع لا تنحصر إلا من مجلدات والخمر فإن كان الشَّرْعُ قد حَرَّمَهَا، ولكنه تبارك وتعالى قال في صفتها:
﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] ثم قال: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] والأطباء يتخذون من عجمه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة، فتبيّن أن العنب كأنه سلطان الفواكه، وأما الزَّيْتُونُ فهو أيضاً كثير النَّفْعِ كثير البركة؛ لأنه يمكن تَنَاوُلُهُ كما هو، ونفصل عنه أيضاً دهن كثير عظيم النفع في الأكل، وسائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب جداً؛ لأنه جِسْمٌ مُرَكَّبٌ من أربعة أقسام: قشرة وشحمه وعجمه وماءه، فأما الأقسام الثلاثة وهي القشر والشحم والعجم، فهي باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عَفِصَةٌ قوية في هذه الصفات وأما ماءُ الرمان فبالضَّدِّ من هذه الصفات، فإنه ألَدُّ الأشْرِبَةِ وألْطَفُهَا، وأقربها إلى الاعتدال، وأشَدُّهَا مناسبة للطَّبائِع المعتدلة فيه تقوية للمِزَاج الضعيفن وهو غذاء من وَجْهٍ، ودواء من وجه آخر، فإذا تَأمَّلت في الرُّمَّان وجدت الأقسام الثلاثة في غاية الكثافةِ التامة الأرضية، ووجدت القسم الرابع وهو مَاءُ الرُّمَّانِ في غاية اللَّطَافَةِ والاعتدال، فكأنه تبَارك وتعالى جمع فيه بين المُتَضَادَّيْنِ المُتَغَايريْنِ، فكانت دلالة القدرة والحكمة فيه أكمل وأتم.
نَبَّه تعالى بذكر هذه الأقسام الأربعة [التي هي أشرف أنواع النبات] على الباقي.
قوله: «مُشْتَبِهاً» حالٌ؛ إما من «الرُّمَّان» لِقُرْبِهِ، وحذفت الحال من الأول؛ تقديره: والرمان مشتبهاً، ومعنى التشابه أي في اللَّوْنِ، وعدم التشابه أي في الطعم.
وقيل: هي حال من الأول، وحذفت حال الثاني، وهذا كما تقدَّم في الخبر المحذوف، نحو: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] وإلى هذا نحا الزمخشري، فإنه قال: تقديره: والزيتون مشتبهاً، وغير مشتبه، والرمان كذلك؛ كقول القائل في ذلك: [الطويل]
328
٢٢٧٥ - رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنءهُ وَوَالِدِي... بَرِيئاً.......................
أي: ولم يقل: مشتبهين اكتفى بوصف أحدهما أو على تقدير: «والزيتون مشتبهاً وغير متشابه، والرُّمَّان كذلك».
قال أبو حيان: «فعلى قوله يكون تقدير البيت: كنت منه بريئاً، ووالدي كذلك، أي: بريئاً، والبيت لا يتَعيَّنُ فيه ما ذكره؛ لأن» ريئاً «على وزن» فعيل «كصديق ورفيق، فَصَحَّ أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع، فيحتمل أن يكون» بريئاً «خبر» كان «على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه إذ لا يجوز أن يكون خبراً عنهما، ولا يجوز أن يكون حالاً عنهما، إذ لو كان كذلك لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين».
وقال أبُو البقاءِ: حَالٌ من «الرمان» ومن الجميع، فإن عَنَى في المعنى فصحيح، ويكون على الحذف، وكما تقدم فإن أراد بالصِّناعةِ، فليس بشيء؛ لأنه كأنه يلزم المطابقة.
والجمهور على «مشتبهاً». وقرئ شاذاً «متشابهاً» وغير متشابه كالثانية، وهما بمعنى واحِدٍ قال الزمخشري: «كقولك اشتبه الشيئان، وتشابها كاسْتَوَيَا وتَساوَيَا والافتعال والتَّفَاعُل يشتركان كثيراً».
انتهى وقد جمع بنيهما في هذه الآية الكريمة في قوله «مشتبهاً وغير متشابه».

فصل في معنى «متشابه» في الآية


قال بعضهم: متشابه في اللون والشكل، ومع أنها تكون مُتشابِهَةً في الطعم واللَّذَّةِ، فإن الأعناب والرمان قد تكون مُتَشابِهَةً في الصورة واللون والشكل، مع أنها تكون مختلفةً في الحلاوةِ والحُمُوضَةِ.
وقيل: إن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القِشْرِ والعجم متشابهة في الطعم والخَاصيَّة.
وقال قتادة: مشتبهاً وَرَقُهَا مختلفاً ثمرها؛ لأن وَرَقَ الزيتون يشبه ورق الرمان.
وقيل: إنك إذا أخذت عنقود العنب وجدْت جميع حبَّاتِهِ نَاضِجةً حلوة طيبة إلاَّ حبَّاتٍ مخصوصة لم تدرك، بل بقيت على أوَّل حالها في الحموضة والعُفُوصَةِ، ولعى هذا قبعض حبَّات ذلك العنقود متشابه، وبعضها غير متشابه.
329
قوله: «إلَى ثَمَرِهِ» متعلق ب «انظروا» وهو بمعنى الرُّؤية، وإنما تَعَدَّتْ ب «إلى» لما تَتَضَمنَّهُ من التفكر.
وقرأ الأخوان «ثُمُرِهِ» بضمتين، والباقون: فتحتين.
وقرئ شاذاً بضم الأوّل، وسكون الثاني.
وأما قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون اسماً مفرداً؛ كطُنُب وعُنُق.
والثاني: أنه جمع الجمع، فَثْمر جمع: ثمار، وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو: أكُم جمع إكَام، وإكَام حمع أكَمَة، فهو نظير كُثْبَان وكُثُب.
والثالث: أنه جمع «ثَمَر» كا قالوا: أسَد وأسُد.
والرابع: أنه جمع: ثمرة.
قال الفارسي: «الأحْسَنُ أنيك ون جمع ثَمَرَة، كخَشَبَة وخُشُب، وأكَمَة وأكُمُ، ونظيره في المعتل: لابَةٌ ولُوبٌ، وناقةٌ ونوقٌ، وسَاحَةٌ وسُوحٌ».
وأما قراءة الجماعة، فالثَّمَر اسم جنس، مفرده ثمرة، كشجر وشجرة، وبقر وبقرة، وجَرَز وجَرَزَة.
وأما قراءة التسكين فيه تخفيف قراءة الأخوين وقيل: بل هي جمع «ثمرة» كبُدْن جمع «بَدضنة»، ونقل بعضهم أنه يقال: ثمرة بزنة سمرة، وقياسها على هذا ثَمُر كَسَمُر بحذف التاء إذا قصد جمعه، وقياس تكسيره أثمار، كعضد وأعْضَاد.
وقد قرأ عمرو الذي في سورة «الكهف» بالضم وسكون الميم، فهذه القرءاة التي هنا فَصِيحَةٌ كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مُسْتَنَدُهَا النقل.
وقرا أبو عمرو والكسائي وقنبل «خُشْب» والباقون بالضم فهذه القراءة نظير تيك.
وهذا الخلاف أعني في «ثمره» والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس [آية ٣٥] وأما
330
الذي في سورة «الكهف» ففيه ثلاث قراءات: فعاصم يقرؤه بفتحتين، كما يقرؤه في هذه السورة، وفي يس فاستمر على عَمَلٍ واحد، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث، فاستمر على عمل واحد، وأما نفاع وابن كثير وأبن عامر فقراوا في «الأنعام» و «يس» فتحتين، وقرأوا ما في «الكهف» بضمتين.
وأما أبو عمرو فقرأ ما في «الأنعام» و «يس» بفتحتين، وما في «الكهف» بضمة وسكون، وقد ذكروا في توجيه الضمتين في «الكهف» ما لا يمكن أن يأتي في السورتين، وذلك أنهم قالوا في الكهف: الثُّمُر بالضم: المال، وبالفتح المأكول.
قوله: «إذَا أثْمَرَ» ظرف لقوله: «انْظُرُوا» وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف، وأن يكون شرطاً، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي: إذا أثمر فانظروا إليه.
قوله: «وَيَنْعِهِ» الجمهور على فتح الياء مِنْ «يَنْعهِ» وسكون النون.
وقرأ ابن محيصن بضم الياء، وهي قراءة قتادة والضحاك.
وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ واليماني: يانعة، ونسبها الزمخشري لابن محيصن، فيجوز أن يكون عنه قراءتان، والينعُ بالفتح والضم مصدر يَنَعَتِ الثمرة؛ أي: نضجت، والفتح لغة «الحجاز» والضم لغة بعض «نجد»، ويقال أيضاً: يُنُع بضم الياء والنون ويُنُوع بواو بعد ضمتين.
وقيل: اليَنْعُ بالفتح جمع «يانع» كتاجر وتَجْر، وصاحب وصَحْب، ويقال: يَنَعت الثمرة، وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى.
وقال الحجاج: «أرى رءوساً قد أيْنَعَتْ وحان قِطَافُهَا»، ويانع: اسم فاعل.
وقيل: أينعت الثمرة وينعت احْمَرَّتْ قاله الفراء، ومنه الحديث في المُلاعَنَةِ: «إنْ ولدَتْهُ أحْمَرَ مِثْلَ اليَنَعَةِ». ويه خَرَزَةٌ حمراء، قيل: هي العَقيقُ، أو نوع منه ويقال: يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل، هذا قول أبي عبيده وأنشد: [المديد]
٢٢٧٣ - غَدَاةَ أحَلَّتْ لابْنِ أصْرَمَ طَعْنَةٌ حُصَيْنٍ عَبِيطاتِ السِّدائِفِ والخَمْرُ
331
وقال الليث بعكس هذا، أي بكسرها في الماضي، وبفتحها في المستقبل وأينعت فهي تينعُ وتَوْنَعُ إيناعاً ويَنَعاً بفتح الياء ويُنعاً بضم الياء، والنَّعت يَانِعٌ ومُونِعٌ.
فإن قيل هذا في أول حال حدوث الثمرة، وقوله: «وينعه» أمر بالنظر في حَالِ تمامها وكمالها، والمقصود منه أنَّ هذه الثمار في أول حدوثها على صفات مخصوصة عند مالها تنتقل إلى أحوال مُتَضَادَّةٍ للأحوال السابقة.
قيل: إنها كانت مَوْصُوفَةً بالخضرة، فتصير سَوْدَاءَ، أو حمراء، أو صفراء، أو كانت مَوْصُوفَةً بالحموضة، وربما كانت في أوَّل الأمرْرِ بَارِدَةً بحسب الطبيعة، فتصير في آخر الأمر حَارَّةً بحسب الطبيعة، فحصول هذه التّبَدُّلاتِ والتغيرات لا بُدّ له من سَبَبٍ ليس هو تأثير الطَّبائعِ والفُصُولِ والأنجم والأفلاك؛ لأن نِسْبَةَ هذه الأفعال بأسْرِهَا إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية مُتَشَابِهَةٌ، والنِّسَبُ المتشابهة لا يمكن ان تكون سبباً لِحُدُوثِ الحوادث المختلفة، ولما بَطَلَ إسْنادُ حدوث هذه الحوادث إلى الطَّبائع والأنْجُمِ والأفلاك، وجب إسْنَادُهَا إلى القادرِ الحكيم العليم المُدَبِّرِ لهذا العالم على وَفْقِ الرحمة والمصلحة والحكمة، فَنَاسَبَ ختام هذه الآية الكريمة بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ للدلالة على ما تقدم في وَحْدَانِيَّتِهِ، وإيجاد المَصْنُوعَاتِ المختلفة من أنها ناَبِتَةً من أرض واحدة، وتُسْقَى بماء واحد، وهذه الدلائل إنما تَنْفَعُ المؤمنين دون غيرهم، كقوله تبارك وتعالى:
﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: المراد لمن يطلب الإيمان بالله - تبارك وتعالى -؛ لأنه لمن آمن ولمن لا يؤمن فإن قيل: لم أوقع الاختلاف بين الخَلْقِ في هذه المسْألةِ مع وجود مثل هذه الدلالة [الجلية القوية؟].
أجيب عنه بأن قولة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلاَّ إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان، فكأنه قيل: هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان.
فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينفع بهذه الدلالةِ ألبتة أصلاً فكان المقصود من هذه التخصيص التنبيه على ما ذكرنا.
332
لما ذكر البراهين الخمسة من دلائل العالم الأعَلْى والأسفل على ثبوت الإلهية، وكمال القدرة الحكمة، ذكر بعد ذلك أنَّ من النَّاسِ من أثبت لله شركاء، وهذه المَسْألةُ تقدَّمَ، إلاَّ أن المَذْكُورَ هنا غير ما تقَّم ذِكرُهُ؛ لأن مثبتي الشَّريك طوائف منها عَبَدَةُ
332
الأصنام فهم يقولون: الأصنام شُرَكَاءُ لله في العبودية والتكوين.
ومنها من يقول: مدبر هذا العالم هو الكَوَاكِبُ، وهؤلاء فَرِيقَان منهم من يقول: إنها وَجِبَةُ الوجود لذواتها، ومنهم من يقول: إنها ممكنة الوجود بلذواتها محدثة، خالقها هو الله تبارك وتعالى، إلا أنه تبارك وتعالى فَوَّضَ تدبير هذا العالم الأسفل إليها، وهؤلاء هم الذين نَاظَرَهُمُ الخليل عليه السلام بقوله: ﴿لاا أُحِبُّ الآفلين﴾ [الأنعام: ٧٦].
ومنها الذين قالوا: للعالم إلهان: أحدهما: يفعل الخير خلاق النور والناس والدَّوَابَ والأنعام والثاني: يفعل الشَّر، [وهو إبليس] خالق الظلمة، والسِّبَاع والحِّيات والعقارب، وهم مذكورون هاهنا.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْها والكلبي: نزلت هذه الآية في الزَّنَادقة أثبتوا الشرك لإبليس [في الخلق].
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: والَّذِي يقوي هذا قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ [الصافات: ١٥٨] فإنما وصف بكونه من الجِنّ؛ لأن لفظ الجِنّ مشتق من الاستتار، والملائكة الروحانيون لا يرون بالعيون، فصارت كأنها مستترة عن العيون، فلهذا أطلق لفظ الجن عليها.
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو مذهب المَجُوسِ، وإنما قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هذا قول الزَّنَادقة؛ لأن المجوس يُلَقبونَ بالزنادقة؛ لأن لاكتاب الذي زعم زادشت أنه نُزِّلَ عليه من عند الله تبارك وتعالى مسمى بالزند، والمنسوب إليه يسمى زيندي، ثم أعْرِبَ فقيل: زنديق، ثم جمع فقيل: الزنادقة.
واعلم أن المجُوسَ قالوا في كل ما في هذا العالم نم الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشر فهو من أهرمن وهو المسمى ب «إبليس» في شرعنا، ثم اختلفوا فقال أكثرهم: هو محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة.
وقال بعضهم: إنه قَدِيمٌ أزَلِيُّ، واتفقوا أنه شريك لله - تعالى - في تَدْبيرِ هذا العالم، فَخَيْرُهُ من الله تبارك وتعالى، وشَرُّهُ من إبليس لَعَنَهُ الله، فهذا شرح قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
فإن قيل: القوم أثبتوا لله شريكاً واحداً، وهو إبليس، فكيف حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء.
فالجواب: أنهم يقولون: عَسْكَرُ الله هم الملائِكَةُ، وعسكر إبليس الشياطين،
333
والملائكة فيهم كثرة عظيمة، وهم أرْوَاحٌ طاهرة مُقَدَّسَةٌ يلهمون الأرواح البشرية للخيرات والطاعات، والشياطين فيهم أيضاً كثرة عظيمة تلقي الوَسَاوِس الخبيثة إلى الأرواح البَشَرِيَّةِ، والله تبارك وتعالى مع عَسْكَرِهِ من الملائكة يحاربون إبْلِيسَ مع عَسْكَرِهِ من الشياطين، فلهذا حكى الله تبارك وتعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء الجنَّ.
قوله: «شُرَكَاءَ الجنَّ» الجمهور على نصب «الجِنَّ» وفيه خمسة أوجه:
أحدها: وهو الظاهر أن الجِنَّ هن المفعول الأوَّل.
والثاني: هو «شركاء» قدم، و «لله» متعلّق ب «شركاء»، والجَعْلُ هنا بمعنى التَّصْيير، وفائدة التقديرم كما قال الزمخشري اسْتِعْظَامُ أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسيَّا، ولذلك قد مسام الله - تبارك وتعالى - على الشُّركاء انتهى. ومعنى كونهم جعلوا الجنَّ شركاء لله هو أنهم يَعْتَقِدُونَ أنَّهُمْ يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع، [كما جاء في التفسير].
وقيل: ثمَّ طائفة من الملائكة يُسَمَّوْنَ الجن كان بعض العرب يَعْبُدُهَا.
الثاني: أن يكون «شركاء» مفعولاً أوَّل، و «لله» مُتعلِّق بمحذوف على أنه المفعول الثاني، و «الجن» بدلٌ من «شركاء» أجاز ذلك الزمخشري، وابن عطية، والحوفي، وأبو البقاء، ومكي بن أبي طالب إلا أن مكيَّا لما ذكر هذا الوَجْهَ جعل اللام من «لله» مُتلِّقةً ب «جعل» فإنه قال: الجنّ مفعول أوَّل ل «جَعَلَ و» شركاء «مفعول ثانٍ مقدم، واللام في» لله «متعلّقة ب» شركاء «وإن شِئْتَ جَعَلْتَ» شركاء «معفولاً أوّل، و» الجن «بدلاً من» شركاء «و» لله «في موضع المفعول الثاني، واللام متعلقة ب» جعل «.
قال شهاب الدين: بعد أن جعل»
لله «مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّرُ أن يجعل اللام متعلقة بالجعل؟ هذا ما لا يجوز لأنه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّن تعلُّقُهُ بمحذوف عل ما عرفته غير مَرَّة.
قال أبو حيَّان:»
ومَا أجَازُوهُ - يعني الزمخشري وممن معه - لا يجوز؛ لأنه يصح ببلدل أن يحل مَحضلّ المبدل منه، فيكون الكلام منتظماً لو قلت: وجعلوا لله الجِنَّ لم يصح، وشرط البَدَلِ أن يكون على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامل على أشهر القولين، أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول، وهذا لا يَصِحُّ هنا ألبتة لما ذكرنا «.
334
قال شهاب الدين: رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - هذا القول المنسوب للزمخشري، ومن ذكر معه سبقهم إليه الفرَّاء وأبو إسحاق، فإنهما أجَاظَ أن يكونا مفعولين قدم ثانيهما على الأوَّلِن وأجازظا أن يكون» الجنَّ «بدلاً من» الشركاء «ومفسراً للشركاء هذا نَصّ عبارتهم، وهو معنى صحيح أعني كون البَدَلِ مفسراً، فلا معنى رد هذا القول، وأيضاً فقد رَدّ على الزمخشري عند قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا﴾ [المائدة: ١١٧] فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل محل المبدل منه، قال:» ألا ترى إلى تَجْويز النحويين «زيدت مررت به أبي عبد الله» ولو قلت: «زيدت مررت بأبي عبد الله» لم يجز إلاَّ على رَأي الأخفش «، وقد سبق هذا في» المائدة «فقد قرَّر هو أنه لا يلزمُ حُلُول البدل مَحَلّ المبدل منه، فكيف يَرُدُّ به هنا؟
الثالث: أن يكون»
شركاء «هو المَفْعُول الأوّل، و» الجن «هو المفعول الثاني قاله الحوفي، وهذا لا يَصِحُّ لِمَا عَرَفْتَ أنَّ الأوَّل في هذا الباب مبتدأ في الأصل، والثاني خبر في الأصل، وتقرَّرَ أنه إذا اجتمع مَعْرِفَةٌ ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ، والنكرة خبراً من غير عكس، إلا في ضرورة تقدَّم التَّنْبِيهُ على الوارد منها.
الرابع: أن يكون «شركاء الجن»
مفعولين على ما تقدَّم بيانه، و «لله» متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من «شركاء» ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء، وهذا لا يَصِحُّح؛ لأنه يصير المعنى: جعلوهم شركاء في حال كَوْنِهِم لله، أي: مملوكين، وهذه حالٌ لازمة لا تَنْفَكُّ، ولا يجوز أن يقال: إنها غير منتقلة؛ لأنها مؤكدة؛ إذا لا تأكيد فيها هنا، وأيضاً فإن فيه تَهْيِئَةَ العامل في معمول وقطعه عنه، فإن «شركاء» يطلب هذا الجارّ يعلمل فيه، والمعنى مُنْصَبُّ على ذلك.
الخامس: أن يكون «الجنَّ» مَنْصُوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدر، كأن سائلاً سألَ، فقال بعد قوله تعالى ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ : مَنْ جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجنّ، أي: جعلوا الجِن.
نقله أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير، وجعله أحسن مما تقدم؛ قال: «ويؤيد ذلك قراءة أبي حيوة، ويزيد بن قطيب» الجنُّ «رفعاً على تقدير: هم الجنّ جواباً لمن قال: جعلوا لله شركاء؟ فقيل: هم الجنُّ، ويكون ذلك على سبيل الاسْتِعْظَامِ لما فعلوه، والاسْتِنْقَاصِ بمن جعلوه شَرِيكاً لله تعالى».
335
وقال مكي: «وأجاز الكِسَائِيُّ» رفع «الجنّ» على معنى هم الجنّ «. فلم يَرْوِها عنه قراءة، وكأنه لم يَطَّلِعْ على أن غيره قرأها كذلك.
وقرأ شعيب بن أبي حمزة، ويزيد بن قطيب، وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً»
شركاء الجنِّ «بخفض» الجنّ «.
قال الزَّمَخْشريّ:»
وقرئ بالجر على الإضافة التي للتَّبْيينِ، فالمعنى: أشركوهم في عبادتهم؛ لأنهم أطَاعُوهُمْ كما أطاعوا الله «.
قال أبو حيَّان: ولا يتَّضِحُ معنى هذه القراءة؛ إذا التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله.
قال شهاب الدين: مَعْنَاها واضح بما فَسَّرَهُ الزمخشري في قوله، والمعنى: أشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخرن، ولذلك سمَّاها إضافة تبيين أي أنه بين الشركاء، كأنه قيل: الشركاء المطعيين للجن.
قوله: «وخَلَقَهُمْ»
.
الجمهور على «خَلَقَهُمْ» بفتح اللام فعلاً ماضياً، وفي هذه الجملة احتمالان:
أحدهما: أنه حالية ف «قد» مضمرة عند قوم، وغيرم ضمرة عند آخرين.
والثاني: أنها مُسْتَانَفَةٌ لا محلَّ لها، والضمير في «خلقهم» فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعود على الجاعلين، أي: جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غيرم شاركة له في خَلْقِهِم، فكيف يشركون به غيره ممن لا تَأثيرَ له من خلقهم؟
والثاني: أنه يعود على الجنِّ، أي: والحال أنه خلق الشركاء، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟
وقرأ يحيى بن يعمر: «وخَلْقهم» بسكون اللام.
قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وكذا في مصحف عبد الله».
قال شهاب الدين: قوله: «وكذا في مصحف عبد الله» فيه نظرٌ من حيث إن الشَّكْلَ الاصطلاحي أعني ما يدل على الحَركَاتِ الثلاث، وما يَدُلُّ على السكون كالجزء منه كانت حيث مصاحب السلف منها مجردة، والضبط الموجودة بين أيدينا اليوم أمر
336
حادث، يقال: إن أوَّل من أحدثه يحيى بن يَعْمُر، فكيف يُنْسَبُ ذلك لِمُصْحَفِ عبد الله بن مسعود؟
وفي هذه القراءة تأويلان:
أحدهما: أن يكون «خَلْقهم» مصدراً بمعنى اختلاقهم.
قال الزمخشري: أي اختلاقهم للإفْكِ، يعني: وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم: «واللَّهُ أمَرَنَا بِهَا» انتهى.
فيكون «لله» هو المفعول الثاني قُدِّمَ على الأول.
والتأويل الثاني: أن يكون «خَلْقهم» مَصْدراً بمعنى مخلوقهم، فيكون عَطْفاً على «الجنّ» ومعفوله الثاني محذوف، تقديره: وجعلوا مخلوقهم وهو ما يَنْحِتُونض من الأصنام كقوله تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ [الصافات: ٥٩] شركاء لله تعالى.
قوله تعالى: «وخَرَقُوا» قرأ الجمهور «خَرَقُوا» بتخفيف الراء، ونافع بتشديدها.
وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك أيضاً، إلا أنه شدَّدَ الراء، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاخْتِلاق.
قال الفراء: يال: «خَلَقَ الإفْكَ وخَرَقَهُ واخْتَلَقَهُ وافتَرَاهُ وافتَعَلَهُ وخَرَصَهُ بمعنى كذب فيه».
والتشديد للتكثير، لأن القائلين بذلك خَلْقٌ كثير وجَمٌّ غفير.
وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل [وحكى الزمخشري أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة، فقالك كملة عربية كانت العربُ تقولها كان الرجل إذا كذب كذْبَةً في نادي القوم يقُولُ له بعضهم: شقد خرقها والله أعلم].
وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون من خَرْقِ الثوب إذا شقّه، أي: اشتقوا له بَنِينَ وبناتٍ».
وأما قراءة الحاء المهملة فمعناها التَّزْوير، أي: زَوَّرُوا له أولاداً؛ لأنه المُزَوِّرَ مُحَرِّفٌ ومُغَيِّرُ الحق إلى الباطل.
وقوله: «بِغَيْرِ عِلمْمٍ» فيه وجهان:
337
أحدهما: أنه نَعْتٌ لمصدر محذوف؛ أي: خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علمٍ قاله أبو البقاء، وهو ضعيف المعنى.
الثاني: وهو الأحسن: أن يكون منصوباً على الحال من فاعل «خَرَقوا» أي: افتلعوا الكذب مُصَاحبين للجهل وهو عدم العلم كقول اليهود ﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠] وقول النصارى: ﴿المسيح ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠] وقول كُفَّار العرب: الملائكة بَنَاتُ الله، ثم إنه تبارك وتعالى نَزَّهُ نفسه، فقال: «سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ»، والمقصود تَنْزِيهُ الله تعالى عن كل ما لا يليقُ به.
واعلم أنه تبارك وتعالى حكى عن الكُفَّرِ أنه أثْبَتُوا له بَنينَ وبنات، أما الذين أثبتوا البَنينَ فمنهم النَّصارى، وقوم من اليهود، وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يَقُولُون: الملائكة بناتُ الله.
وقوله: «بِغَيْرِ عِلْم» كالتَّنْبِيهِ على ما هو الدليل القاطع على فسادِ هذا القول؛ لأن الإله يجب أن يكون واجبَ الوجود لِذاتِهِ [فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته، أو لا يكون، فإن كان واجب الوجود لذاته] كان مُسْتَقِلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلُّق له في وجوده بالآخرة، ومن كان كذلك لم يكن له وَلَد ألْبَتَّةَ؛ لأن الولد مُشْعِرٌ بالفرعية والحاجة.
وإن كان مُمْكِنَ الوجود، فحينئذ يكون وُجُودُهُ بإيجاد واجب الوجود لذاته، فيكون عَبْداً له لا والداً له، فثبت أنَّ من عرف أن الإله ما هو امْتَنَعَ من أن يُثْبِتَ له البنات والبنين.
وأيضاً فإن الولدَ يحتاج إليه ليقوم مقامهُ عبد فنائِهِ، وهذا إنما يُقالُ في حَقِّ مَنْ يَفْنَىَ، أما من تقدِّس عن ذلك لم يعقل الولد في حقِّهِ.
أيضاً فإن الولد يشعر بكونه مُتولِّداً عن جُزْءٍ من أجزاء الوالد، وذلك إنما يعقل في حقِّ المُركِّبِ من الأجزاء، أما الفرد الواجب لذاته فَمُحَالٌ، فمن علم ما حقيقة الله؛ اسْتَحَالَ أن يقول: له ولد، فكان قوله تبارك وتعالى: ﴿وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ إشارة إلى هذه الدقيقة.
338
لمَّا بيَّن فساد أقوال المشركين شَرَعَ في إقامة الدلالة على فساد قول من يثبت له الولد، فقال: «بَدِيعُ السَّمواتِ والأرْضِ».
338
والإبداع: عبارة عن تَكْوينِ الشيء من غير سَبْقِ مثالٍ، وتقدَّم الكلامُ عليه في «البقرة».
وقرأ الجمهور رفع العين، وفيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو بَدِيعٌ، فيكون الوَقْفُ على قوله: «والأرض» فهي جملة مستقلة بنفسها.
الثاني: أنه فاعل بقوله: «تعالى»، أي: بديع السموات، وتكون هذه الجملة الفعلية مَعْطُوفَةً على الفِعْلِ المقدر قبلها، وهو النَّاصب ل «سبحان» فإن «سبحان» كما تقدَّم من المصادرِ اللازم إضمار ناصبها.
الثالث: أنه مبتدأ وخبره ما بعده من قوله: «أنَّى يَكُونُ لَهُ ولدٌ».
وقرأ المنصور «بديع» بالجر قال الزمخشري: ردَّا على قوله: «وجعلوا لله»، أو على «سبحانه» كذا قاله، ولم يبيّن على أي وجه من وُجُوهِ الإعراب هو وكذا أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَكَاهُ عنه ومرَّ عليه، ويريد بالرد كونه تابعاً، إما: لله، أو للضمير المجرور في «سُبْحَانَهُ» وتبعيته له على كونه بدلاً من «لله» تعالى أو من الهاء في «سُبْحَانَهُ» ويجوز أن يكون نَعْتاً [لله على أن تكون إضافة «بديع» مَحْضَةً كما ستعرفه.
وأما تَبَعِيَّتُهُ للهاء فيتعين أن يكون بدلاً، ويمتنع أن يكون نَعْتاً]، وإن اعتقدنا تعريفه بالإضافة لِمُعَارضِ آخر، وهوأن الضمير لا ينعت إلا ضمير الغائب على رأي الكسائي، فعلى رأيه قد يجوز ذلك.
وقرأ أبو صالح الشَّامي: «بديعَ» نصباً، ونَصْبُهُ على المَدْحِ، وهي تؤيد قراءة الجر، وقرءاة الرفع المتقدمة يحتمل أن تكون أصْلِيَّة الإتباع بالجر على البَدَلِ ثم قطع التابع رفعاً.
و «بديع» يجوز أن يكون بمعنى «مُبْدِعٍ» وقد سَبَقَ معناه، أو تكون صِفَةً مشبهة أضيفت لرفوعها، كقولك: فلان بديعُ الشعر، أي: بديع شعره، وعلى هذيْنِ القولين، فإضافته لَفظِيَّةٌ، لأنه في الأوَّل من باب إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه، وفي الثُّاني من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها، ويجوز أن تكون بمعنى عديم النظير والمثل فيهما، كأنه قيل: البديع في السموات والأرض، فالإضافة على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ.
قوله: ﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد﴾ «أنَّى» بمعنى «كيف» [أو «من أين» ] وفيها وجهان:
أحدهما: أنها خبر كان الناقصة، و «له» في محل نصبٍ على الحال، و «ولد» اسمها،
339
ويجوز أن يتكون مَنْصُوبَةً على التشبيه بالحال أو الظرف، كقوله:
﴿كَيْفَ
تَكْفُرُونَ
بالله
[البقرة: ٢٨] والعامل فيها قال أبو البقاء: [ «يكون» ] وهذا على رَأي من يجيز في «كان» أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما، و «له» خبر يكون، و «ولد» اسمها.
ويجوز في «يكون» أن تكون تامَّةً، وهذا أحْسَنُ أي: كيف يوجد له ولدٌ، وأسباب الولدية مُنْتَفِيَةٌ؟
قوله: ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَة﴾ هذه «الواو» للحال، والجملة بعدها في مَحَل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة، أي: كيف يُوجد له ولد، والحال أنه لم يكن له زَوجٌ، وقد عُلِمَ أن الولدَ إنما يكون من بين ذكرٍ وأنثى، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك.
والجمهور على «تكن» بالتاء من فوق.
وقرأ النخعي بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الفِعْلَ مسند إلى «صاحبه» أيضاً كالقراءة المشهورة، وإنما جاز التذكير لِلْفَصْلِ كقوله: [الوافر]
٢٧٧٧ - لَقَدْ وَلَدَ الأخَيْطِلَ أمُّ سَوْءٍ.......................
وقول القائل: [البسيط]
٢٢٧٦ - فِي قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
٢٢٧٨ - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ بَعْدِي وبَعْدَكِ في الدُّنْيَا لَمَغْرُور
وقال ابن عطيَّة: «وتذكير» كان «وأخواتها مع تأنيث اسمها أسْهَلُ من ذلك في سائر الأفعال».
قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ولا أعرف هذا عن النحويين، ولم يُفَرِّقوا بين» كان «وغيرها».
قال شهاب الدين: هذا كلامٌ صحيح، ويؤديه أن الفارسيَّ وإن كان يقول بِحَرْفِيَّةِ
340
بعضها ك «ليس»، فإنه لا يجيزحَذْفَ التاء منها لو قلت: «ليس هند قائمة» لم يَجْزْ.
الثاني: أن في «يكون» ضميراً يعود على الله تعالى، و «له» خبر مُقدَّمٌ، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون».
الثالث: أن يكون «له» وحْدَهُ هو الخبر، و «صاحبة» فاعل به لاعْتِمَادِهِ وهذه أوْلَى مِمَّا قبله؛ لأن الجارَّ أقْرَبُ إلى المفرد، والأصل في الأخبار الإفراد.
الرابع: أنَّ في «يكون» ضمير الأمر والشأن، و «له» خبر مُقدَّمٌ، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون» مفسّرة لضمير الشأن، ولا يجوز في هذا أن يكون «له» هو الخبر وَحْدَهُ، و «صاحبة» فاعل به، كما جاز في الوجه قبله.
والفرق أن ضمير الشَّأن لا يُفَسَّر إلا بجملة صريحة، وقد تقدَّم أن هذا النَّوعَ من قبيل المفردات، و [ «تكن» ] يَجُوزُ أن تكون النَّاقِصَةَ أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها.
وقوله: «وَخَلَقَ كُلَّ شيءٍ» هذه جملة إخبارية مُسْتَأنَفَةٌ، ويجوز أن تكون حالاً وهي حال لازمة.

فصل في إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى عن ذلك


اعلم أنَّ المَقْصُودَ من الآية بيانُ إبطال من يثبت الولد منه تبارك وتعالى، فيقال لهمك إما أن تريديوا بكونه ولداً لله تبارك وتعالى [كما هو المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه] أو أبدعه من غير تقدُّمِ نُطْفَةٍ ووالد، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله كما هو المألوف، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين، أما الأول فباطل؛ لأنه - تبارك وتعالى - وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل، بناء على أسباب معلومة، إلاَّ أنَّ النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث.

فصل في رد شبهة النصارى


وإذا كان كذلك لزمهم الاعْتِرَافُ بأن الله - تعالى - خلق السَّموات والأرض من غير سبق مادَّةٍ، وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون إحْدَاثُهُ للسموات والأرض إبْدَاعاً، فلو لزم من مجرد كونه مُبْدِعاً [لإحداث عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كونه والداً له لزم من كونه مُبْدِعاً] للسموات والأرض أن يكون والداً لهما، وذلك مُحَالٌ، فلزم من كونه مُبْدِعاً لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ألاًّ يكون والداً لهما وهذا هو المراد من قوله: «بَدِيعُ السَّمواتِ والأرْضِ» وإنما ذكر السَّموات والأرض فقط، ولم يذكر ما فيهما، لأن حدوث ما في السموات والأرض ليس على سبيل الإبداع، أمَّا حُدُوثُ ذَاتِ السموات والأرض،
341
فقد كان على سبيل الإبداع، فحصل الإبداع بِذِكْرِ السموات والأرض لا بذكر ما فيهما، وإن أرادوا من الوِلادَةِ الأمر المعهود في الحيوانات، فهذا أيضاً باطل من وجوه:
أولها: أن الولادةَ لا تَصِحُّ إلا ممن له زوجة وشَهْوَةٌ ينفصل عنه بِجْزْءٍ في باطن تلك الصَّاحبة، وهذه الأحوال إنما تثبت في حَقِّ الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون والشَّهْوَةُ واللَّذَّةُ، وكل ذلك على خالق العالم مُحَالٌ، وهذا هو المراد من قوله: «أنَّى يَكُونُ لَهُ ولدٌ ولمْ تَكُنْ لهُ صَاحبةٌ».
ثانيها: أن تحصيل الولد بهذا الطريق المعتادإنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق، وأمَّا الخالق لكل الممكنات، القادر على كل المحدثات، فإذا أراد إحداث شيء قال له: «كن فيكون» ومن كان هذا صفته يمتنع إحداث شخص بطريق الوِلادةِ، وهذا هو المراد من قوله: «خَلَقَ كُلَّ شيءٍ».
وثالثها: أن هذا الولد إمَّا أن يكون قديماً أو محدثا، لا جائز أن يكون قديماً؛ لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لِذَاتِهِ وما كان واجباً لذاته غني عن غيره، فيمتنع كونه ولداً لغيره، فبقي أن يكون الولد محدثاً، وإذا كان والداً كان محدثاً فنقول: إنه تبارك وتعالى عالم بجميع المَعْلُومَات، فإما أن يعمل أن له في تحصيل الولد كمالاً ونفعاً أو يعمل أنه ليس الأمر كذلك، فإن كان الأول فلا وَقْتَ يفرض أن الله - تعالى - خلق هذا الولد فيه إلاَّ والدَّاعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبله، فيلزم حُصُولُ الولد قبل ذلك، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليَّا وهو مُحَالٌ.
وإن علم أنه ليس في تحصل الولد كمال ونفع، فيجب ألاَّ يحدثه ألبتة، وهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وأما الاحتمال الثالث فذلك بَاطِلٌ غير مُتَصَوَّرٍ، ولا مفهوم للعقل، بإثبات الولادة بناء على ذلك مَحْضُ الجهل، وهو بَاطِلٌ.
قوله: «ذَلِكُم» أي: ذلكم الموصوف بتلك الصِّفَاتِ المتقدمة اللَّهُ تعالى فاسم الإشارة مبتدأ، و «الله» تعالى خبره، وكذا «ربكم»، وكذا الجملة من قوله: «لا إله إلا هو»، وكذا «خلاق».
قال الزمخشري: «وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة».
قال شهاب الدين: وهذا عند من يُجِيزُ تَعَدُّدَ الخبر مُطْلَقاً، ويجوز أن يكون «الله» وَحْدَهُ هو الخبر، وما بعده أبْدَالٌ، كذا قال أبو البقاء، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ بعضها مُشْتَقٌّ، والبدل يَقِلُّ بالمُشْتَقَّاتِ، وقد يقال: إنَّ هذه وإن كانت مُشْتَقَّةً ولكنها بالنِّسْبَةِ إلى
342
الله - تعالى من حيث اختصاصها به صارت كالجَوَامِدِ، ويجوز أن يكون «الله تعالى هو البدل، وما بعده أخبار أيضاً.
ومن منع تعدُّدَ الخبر قدَّرَ قبل كُلِّ خبر مبتدأ أو يجعلها كلها بمنزلة اسم واحد، كأنه قيل: ذلك المَوْصُوفُ هو الجامع بين هذه الصفات.

فصل في إثبات وحدانية الله تعالى


اعلم أنه - تبارك وتعالى - لمَّا أقام الحُجَّة على وُجُودِ الإله القادرِ المختار الحكيم، وبيَّن فساد كل من ذهب إلى الإشراك، وفصَّل مذْهبهُمْ، وبيَّن فسادَ كل واحد منها، ثم حكى مَذْهَب مَنْ أثبت لله البَنينَ، وبيَّن فسادَ القول بها بالدليل القاطع، فعند هذا ثبَتَ أن إلهَ العالم فَرْدٌ أحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عن الشَّريكِ والنظير، ومُنَزَّهُ عن الأولادِ، فعند هذا صرَّح بالنَّنتيجة، فقال: ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ لاا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه﴾ ولا تعبدوا غيره، فهو المُطَّلِعُ بمُهِمَّاتِ جميع العِبَادِ، وهو الذي يسمع دعاءهم وحَاجَتَهُمْ، وهو الوكيل لكل أحد على حصول مُهَمَّاتِهِ.
أعلم أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في هذا السورة بالدلائل القاطعة الكثيرة افْتِقَارَ الخَلْقِ إلى خالقٍ ومُوجِدٍ ومُبْدِعٍ ومُدَبِّرٍٍ، ولم يذكر دليلاً مُنْفَصِلاً يَدُلُّ على نَفْي الشركاء والأضْدادِ والأنْدَادِ، بل نقل قَوْلَةَ من أثْبَتَ الشريك من لاجن، ثم أبْطَلَهُ ثم أتى بالتوحيد المَحْضِ بعده، فقال: ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ لاا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه﴾ وإقامة الدليل على وُجُودِ الخالق وتزْيِيف دليل من أثبت لله - تعالى - شِرِيكاً كيف يوجب الجَزْمَ بالتوحيد المَحْضِ، وللعلماء في إثبات التوحيد طُرُقٌ.
أحدها: قال المُتقدِّمُونَ: الصَّانِعُ الواحد كافٍ في كونه إلهاً للعالم ومُدَبِّراً له، والقول بالزَّائِدِ على الواحد مُتَكَافِئ، لأن الزَّائدَ على الواحد لم يَدُلَّ الدليل على ثُبُوتِهِ، ولم يكن إثبات عددٍ أوْلَى من إثْباتِ عدد آخر، فلزم إمَّا إثبات آله لا نهاية لها، وهو مُحَالٌ، أو إثبات عدد مُعَيَّنٍ مع أنه ليس ذلك العَدَوُ أوْلَى من سائر الأعْدَادِ، وهو أيضاً محال، وإذا بطل القسمان تعيَّنَ القول بالتوحيد.
الثاني: أن الإله القادرَ على كُلِّ الممكنات العالم بِكُلِّ المعلومات كافٍ في تَدْبيرِ العالم، فلو قدرت إلهاً ثانياً لكان ذلك الثَّانِي إمَّا أن يكون فاعلاً مختاراً أو موجد الشيء من حوادث العالم أوْلَى بكون الأول باطلاً لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ، فكل فعل يفعله أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ، فكل فعل يفعل أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقصود ومَقْدُوره، وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو مُحَالٌ، وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً، ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً، وذلك لا يصلح للإلهية.
343
الثالث: أن الإله الواحد لا بد وأن يكون [كاملاً] في صفة الإلهية، فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما يكون مُشَاركاً لأوَّل في جميع صفات الكمال أو لا، فإن كان مشاركاً للأوَّلِ في جميع صفات الكمال، فلا بد وأن يكون متميزاً بأمرها، إذ لو لم يحصل الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون، فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به] لم يكن جميع صفات الكمال مشركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز نُقْصَان، فثبت بهذه الوُجُوهِ الثلاثة أن الإله الواحد كافٍ في تدبير العالم، وأن الزائد يجب نَفْيُهُ.
تمسَّك العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بقوله تبارك وتعالى «خَالِق كُلِّ شيءٍ» على أنه - تبارك وتعالى - هو الخالق لأعمال العبادِ قالوا: لأن أعمال العبادِ أشياء، والله خَالِقٌ لكل شيء بحكم هذه الآية، فوجب كونه خالقاً لها.
قالت المعتزلة: هذا اللَّفْظُ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآيةِ وجوه تَدُلُّ على أن أعمال العبادِ خارجة عن هذا العموم.
أحدها: أنه - تبارك وتعالى - قال: «خَالِق كُلِّ شيءٍ فاعْبدُوهُ» ولو دخلت أعمال العبادِ تحته لصارَ تقدير الآية الكريمة: إنا خلقنا أعمالكم، فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى، وذلك فَاسِدٌ.
وثانيها: أنه تبارك وتعالى - إنما [قال:] «خَالِق كُلِّ شيءٍ» في معرض المَدْح والثناء على نفسه، فلو دخل تحت أعْمَالِ العباد لخرج عن كَوْنِهِ مدحاً؛ لأنه لا يليق به تعالى أن يَمْتَدِحَ بِخَلْقِ الزنا واللواط، والسرقة والكفر.
وثالثها: أنه تبارك وتعالى - قال بعد هذه الآية: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ [الأنعام: ١٠٤] وهذا تصريح بكون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وأنه لا مانع له ألْبَتَّةً من الفعل والترك، وذلك يَدُلُّ على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى [إذ لو كان مخلوقاً لله - تعالى - لما] كان العَبْدُ مستقلاً به؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع من العبد دفعه، وإذا لم يوجده الله - تعالى - امتنع العبد مخلوق لله وإذا دلَّت الآية على كون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وامتنع أن يقال: فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ [الأنعام: ١٠٤] يوجب تخصيص ذلك العموم.
344
والجواب: أن الدليل العَقْلِيَّ قد ساعد على صِحَّةِ ظاهرة هذه الآية الكريمة؛ لأن الفعل مَوْقُوفٌ على الداعي، وخالق الداعي هو الله - تعالى - ومجموع القُدْرَةِ مع الداعي يوجب الفعل، وذلك [يقتضي] كونه - تعالى - خَالِقَ كل شيء فاعبدوه، ويَدُلُّ على أن كونه خَالِقاً لكل الأشْيَاءِ سبب للأمر [بالعبادة] لأنه رتب الأمر بالعبادة على كَوْنِهِ خالقاً للأشياء بفاء التعقيب، وترتيب الحكم مُشْعِرٌ بالسّبَبِيَّةِ.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن


احْتَجَّ كثيرٌ من المعتزلة بقوله تبارك وتعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ على نفي الصفات، وعلى كونه القرآن مَخْلُوقاً، أما نَفْيُ الصِّفَات، فإنهم قالوا: لو كان - تعالى - عالماً بالعلم قادراً بالقُدْرَةِ لكان ذلك العِلْمُ والقدرة إما أن يقال: إنهما قَدِيمانِ أو محدثان، والأوَّلُ باطل؛ لأن عموم قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يقتضي كونه - تبارك وتعالى - خالقاً لِكُلِّ الأشياء وخَصَّصْنَا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضَرُورة أنه يِمْتَنِعُ أن يكون خالقاً لنفسه، فيبقى على عمومه فيما عَدَاهُ.
وإن قلنا بحدوث عِلْمِ الله تعالى وقدرته، فهو بَاطِلٌ بالإجماع، ولأنه يلزم افْتِقَارُ إيجاد ذلك العمل والقُدْرَةِ إلى سَبْقِ عِلْمِ آخر، لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مَخْلُوقٌ لله - تبارك وتعالى - بِحُكْمِ هذا العموم وأقْصى ما في الباب أن هذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في ذات الله - تبارك وتعالى - إلاَّ أن العام بالدَّلائلِ الدَّالَّةِ على أن كلام الله تبارك وتعالى - قَدِيمٌ.
345
قوله :" ذَلِكُم " أي : ذلكم الموصوف بتلك الصِّفَاتِ المتقدمة اللَّهُ تعالى فاسم الإشارة مبتدأ، و " الله " تعالى خبره، وكذا " ربكم "، وكذا الجملة من قوله :" لا إله إلا هو "، وكذا " خالق ".
قال الزمخشري١ :" وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة ".
قال شهاب الدين٢ : وهذا عند من يُجِيزُ تَعَدُّدَ الخبر مُطْلَقاً، ويجوز أن يكون " الله " وَحْدَهُ هو الخبر، وما بعده أبْدَالٌ، كذا قال أبو البقاء٣، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ بعضها مُشْتَقٌّ، والبدل يَقِلُّ بالمُشْتَقَّاتِ، وقد يقال : إنَّ هذه وإن كانت مُشْتَقَّةً ولكنها بالنِّسْبَةِ إلى الله -تعالى- من حيث اختصاصها به صارت كالجَوَامِدِ، ويجوز أن يكون " الله " تعالى هو البدل، وما بعده أخبار أيضاً.
ومن منع تعدُّدَ الخبر قدَّرَ قبل كُلِّ خبر مبتدأ أو يجعلها كلها بمنزلة اسم واحد، كأنه قيل : ذلكم المَوْصُوفُ هو الجامع بين هذه الصفات.

فصل في إثبات وحدانية الله تعالى


اعلم أنه -تبارك وتعالى- لمَّا أقام الحُجَّة على وُجُودِ الإله القادرِ المختار الحكيم، وبيَّن فساد كل من ذهب إلى الإشراك، وفصَّل مذْهبهُمْ، وبيَّن فسادَ كل واحد منها، ثم حكى مَذْهَب مَنْ أثبت لله البَنينَ، وبيَّن فسادَ القول بها بالدليل القاطع، فعند هذا ثبَتَ أن إلهَ العالم فَرْدٌ أحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عن الشَّريكِ والنظير، ومُنَزَّهُ عن الأولادِ، فعند هذا صرَّح بالنَّتيجة، فقال :﴿ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾ ولا تعبدوا غيره، فهو المُطَّلِعُ بمُهِمَّاتِ جميع العِبَادِ، وهو الذي يسمع دعاءهم وحَاجَتَهُمْ، وهو الوكيل لكل أحد على حصول مُهَمَّاتِه.
أعلم أنه -تبارك وتعالى- بيَّن في هذا السورة بالدلائل القاطعة الكثيرة افْتِقَارَ الخَلْقِ إلى خالقٍ ومُوجِدٍ ومُبْدِعٍ ومُدَبِّرٍٍ، ولم يذكر دليلاً مُنْفَصِلاً يَدُلُّ على نَفْي الشركاء والأضْدادِ والأنْدَادِ، بل نقل قَوْلَةَ من أثْبَتَ الشريك من الجن، ثم أبْطَلَهُ ثم أتى بالتوحيد المَحْضِ بعده، فقال :﴿ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾ وإقامة الدليل على وُجُودِ الخالق وتزْيِيف دليل من أثبت لله -تعالى- شَرِيكاً كيف يوجب الجَزْمَ بالتوحيد المَحْضِ، وللعلماء في إثبات التوحيد طُرُقٌ :
أحدها : قال المُتقدِّمُونَ : الصَّانِعُ الواحد كافٍ في كونه إلهاً للعالم ومُدَبِّراً له، والقول بالزَّائِدِ على الواحد مُتَكَافِئ، لأن الزَّائدَ على الواحد لم يَدُلَّ الدليل على ثُبُوتِهِ، ولم يكن إثبات عددٍ أوْلَى من إثْباتِ عدد آخر، فلزم إمَّا إثبات آله لا نهاية لها، وهو مُحَالٌ، أو إثبات عدد مُعَيَّنٍ، مع أنه ليس ذلك العَدَوُ أوْلَى من سائر الأعْدَادِ، وهو أيضاً محال، وإذا بطل القسمان تعيَّنَ القول بالتوحيد.
الثاني : أن الإله القادرَ على كُلِّ الممكنات العالم بِكُلِّ المعلومات كافٍ في تَدْبيرِ العالم، فلو قدرت إلهاً ثانياً لكان ذلك الثَّانِي إمَّا أن يكون فاعلاً مختاراً أو موجد الشيء من حوادث العالم أوْلَى بكون الأول باطلاً لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ، فكل فعل يفعله أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقصوده ومَقْدُوره، وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو مُحَالٌ، وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً، ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً، وذلك لا يصلح للإلهية.
الثالث : أن الإله الواحد لا بد وأن يكون [ كاملاً ]٤ في صفة الإلهية، فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما يكون مُشَاركاً لأوَّل في جميع صفات الكمال أو لا، فإن كان مشاركاً للأوَّلِ في جميع صفات الكمال، فلا بد وأن يكون متميزاً بأمرها، إذ لو لم يحصل الامتياز [ بأمر من الأمور لم يحصل التعَدُّد والاثنينية، وإذ حصل الامتياز بأمر ما، فلذلك الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون، فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به ]٥ لم يكن جميع صفات الكمال مشتركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز من صفاتِ الكمالِ، فالموصوف به يكون مَوْصُوفاً بصفة ليست من صفات الكمال، وذلك نُقْصَان، فثبت بهذه الوُجُوهِ الثلاثة أن الإله الواحد كافٍ في تدبير العالم، وأن الزائد يجب نَفْيُهُ.
تمسَّك العلماء - رضي الله عنهم - بقوله تبارك وتعالى ﴿ خَالِق كُلِّ شيءٍ ﴾ على أنه -تبارك وتعالى- هو الخالق لأعمال العبادِ قالوا : لأن أعمال العبادِ أشياء، والله خَالِقٌ لكل شيء بحكم هذه الآية، فوجب كونه خالقاً لها.
قالت المعتزلة٦ : هذا اللَّفْظُ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تَدُلُّ على أن أعمال العبادِ خارجة عن هذا العموم.
أحدها : أنه -تبارك وتعالى- قال :﴿ خَالِق كُلِّ شيءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾ ولو دخلت أعمال العبادِ تحته لصارَ تقدير الآية الكريمة : إنا خلقنا أعمالكم، فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى، وذلك فَاسِدٌ.
وثانيها : أنه -تبارك وتعالى- إنما [ قال :]٧ ﴿ خَالِق كُلِّ شيءٍ ﴾ في معرض المَدْح والثناء على نفسه، فلو دخل تحت أعْمَالِ العباد لخرج عن كَوْنِهِ مدحاً ؛ لأنه لا يليق به تعالى أن يَمْتَدِحَ بِخَلْقِ الزنا واللواط، والسرقة والكفر.
وثالثها : أنه -تبارك وتعالى- قال بعد هذه الآية :﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ وهذا تصريح بكون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وأنه لا مانع له ألْبَتَّةً من الفعل والترك، وذلك يَدُلُّ على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى [ إذ لو كان مخلوقاً لله -تعالى- لما ]٨ كان العَبْدُ مستقلاً به ؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع من العبد دفعه، وإذا لم يوجده الله -تعالى- امتنع من العَبْدِ تحصيله، وإذا دلَّت الآية على كون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وامتنع أن يقال : فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن قوله تعالى :﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ يوجب تخصيص ذلك العموم.
والجواب : أن الدليل العَقْلِيَّ قد ساعد على صِحَّةِ ظاهر هذه الآية الكريمة ؛ لأن الفعل مَوْقُوفٌ على الداعي، وخالق الداعي هو الله -تعالى- ومجموع القُدْرَةِ مع الداعي يوجب الفعل، وذلك [ يقتضي ]٩ كونه -تعالى- خَالِقَ كل شيء فاعبدوه، ويَدُلُّ على أن كونه خَالِقاً لكل الأشْيَاءِ سبب للأمر [ بالعبادة ]١٠ لأنه رتب الأمر بالعبادة على كَوْنِهِ خالقاً للأشياء بفاء التعقيب، وترتيب الحكم مُشْعِرٌ بالسّبَبِيَّةِ.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن


احْتَجَّ كثيرٌ من١١ المعتزلة بقوله تبارك وتعالى :﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ على نفي الصفات، وعلى كون القرآن مَخْلُوقاً، أما نَفْيُ الصِّفَات، فإنهم قالوا : لو كان -تعالى- عالماً بالعلم قادراً بالقُدْرَةِ لكان ذلك العِلْمُ والقدرة إما أن يقال : إنهما قَدِيمانِ أو محدثان، والأوَّلُ باطل ؛ لأن عموم قوله :﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يقتضي كونه -تبارك وتعالى- خالقاً لِكُلِّ الأشياء وخَصَّصْنَا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضَرُورَة أنه يِمْتَنِعُ أن يكون خالقاً لنفسه، فيبقى على عمومه فيما عَدَاهُ.
وإن قلنا بحدوث عِلْمِ الله تعالى وقدرته، فهو بَاطِلٌ بالإجماع، ولأنه يلزم افْتِقَارُ إيجاد ذلك العلم والقُدْرَةِ إلى سَبْقِ عِلْمٍ آخر، وقدرة أخرى، وذلك مُحالٌ. أمَّا تَمَسُّكُهُمْ بهذه الآية على كونِ القُرآنِ مَخْلُوقاً فقالوا : لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مَخْلُوقٌ لله -تبارك وتعالى- بِحُكْمِ هذا العموم وأقْصَى ما في الباب أن هذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في ذات الله -تبارك وتعالى- إلاَّ أن العام المَخْصُوصَ حُجَّةٌ في غير محلِّ التخصيص.
وجوابه : أن تخصيص هذا العموم بالدَّلائلِ الدَّالَّةِ على أن كلام الله -تبارك وتعالى- قَدِيمٌ.
١ ينظر: الكشاف ٢/٥٣..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/١٤٨..
٣ ينظر: الإملاء ١/٢٥٦..
٤ سقط في ب..
٥ سقط في أ..
٦ ينظر: الرازي ١٣/١٠٠..
٧ سقط في ب..
٨ سقط في أ..
٩ سقط في أ..
١٠ في أ: بالعداوة..
١١ ينظر: الرازي ١٣/١٠٠..
قال سعيد بن المُسَيَّبِ: لا تحيط به الأبصارُ.
وقال عطاء: كَلَّتْ أبْصَارُ المخلوقين عن الإحَاطَةِ به.
وقال ابن عبَّاسٍ: لا تدركه الأبْصَارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة.
قوله: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ أي: لا يخفى عليه شيءٌ ولا يفوته ﴿وَهُوَ اللطيف الخبير﴾.
قال ابن عباس: اللَّطيفُ بأوليائه، الخَبِيرُ بهم.
وقال الأزهري: اللَّطِيفُ الرفيق بعباده.
345
وقيل: اللطيف الذي يُنْسِي العِبادَ ذنوبهم لئلاَّ يِخْجَلُوا، والَّطَافَةُ ضِدُّ الكَثَافَةِ، والمراد منه الرقة، وذلك في حَقِّ الله تعالى ممتنع، فوجب المصير إلى التأويل، وهو من وجوه:
أحدها: لطف صنعه في تركيب أبْدانِ الحيوانات من الأجزاء الدقيقة، والمنَافِذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا اللَّه تبارك وتعالى.
وثانيها: لَطِيفٌ بعباده حيث يثني عليهم عند الطَّاعةِ، ويأمرهم [بالتَّوبْةِ عند] المعصية، ولا يقطعُ عنهم موادَّ رحمته، سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً.
وثالثها: لَطِيفٌ بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم، وينعم عليهم بما هو فوقَ اسْتِحْقَاقهمْ.
وأما الخبير فهو من الخبرِ، وهو العلم، والمعنى: أنه لَطِيفٌ بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارْتِكَابِ المعاصي والقبائح.
وقال الزمخشري: اللَّطِيفُ معناه: أنه يلطف عن أن تُدْرِكهُ الأبصار الخبير بكل لطيف، فهو يُدْرِكُ الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه.

فصل فيما تدل عليه الآية


احتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أنه - تبارك وتعالى - لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ، وذلك مما يساعد الخصم عليه، وعليه بنوا اسْتِدْلاَلَهُمْ على نَفْي الرؤية، فنقول: لو لم يكن تعالى جَائِزَ الرُّؤيَةَ لما حَصَلَ التَّمَدُّحُ بقوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» ؛ ألا ترى أن المعدوم لا تَصِحُّ رؤيته، والعلوم والقدرة والإدارة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا يَصِحُّ رؤيتها، فثبت أن قوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المَدْحَ لو كان صَحِيحَ الرُّؤيَةِ، وهذا يَدُلُّ على أن قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ يفيد كونه - تعالى - جَائِزَ الرُّؤيَةِ، وتحقيقه أن الشيء إذا كان في نَفْسِهِ بحيث يمتنع رؤيته، فحينئذ لا يَلْزمُ من عدم رؤيته مَدْحٌ وتَعْظيمٌ لذلك الشيء، أما إذا كان في نفسه جَائِزَ الرؤية، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رُؤيَتِهِ، وعن إدراكه كانت هذه القُدْرَةُ دَالَّةً على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالَّةٌ على أنه - تعالى - يجوز رُؤيَتُهُ بحسب ذاته، وإذا ثبت هذا وجب القَطْعُ بأن المؤمنين يرونه [يوم القيامة، والدليل عليه أن القائل قائلان قال بجواز الرؤية، مع أن المؤمنين يرونه، وقال قال: لا يرونه، ولا تجوز] رؤيته.
346
فأما القول بأنه - تعالى - تجوز رؤيته، مع أنه لا يَرَاه أحَدٌ من المؤمنين، فهذا قول لم يقل به أحَدٌ من الأمَّةِ، فكان بَاطِلا.
الثاني: أن نقول: المراد ب «الأبصار» في قوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» ليس هو نفس الإبصار، فإن البَصَر لا يدرك شيئاً ألبته في مَوْضع من المواضع، بل المدرك هو المبصر، فوجب القَطْعُ بأن المُرَادَ من قوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» هو إدراك المبصرين، ومعتزلة البَصرةٍ يوافقون بناء على أنه - تعالى - يبصر الأشياء، فكان تعالى من جملة المبصرين، فقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ يقتضي كونه تعالى مُبصراً لنفسه ومن قال: إن المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ، فدلَّتِ الآية الكريمة على أنه جَائِزُ الرؤية، وعلى أنَّ المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ، وإذا اخْتَصَرْنَا هذا الاستدلال قلنا قوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ المراد منه إنما نفس البصر، أو المبصر على التقديرين يفزم كونه - تعالى - مبصراً لإبصار نفسه، أو كونه مبصراً لذات نَفْسِهِ، وإذا ثبت هذا وجب أن يراه [المؤمنون] يوم القيامة ضَرُورَةَ أنه لا قَائِلَ بالفَرْقِ.
الثالث: أن لَفْظِ «الأبصار» صيغة جَمْعٍ دَخَلَ عليها الألف واللام، فهي تفيد الاسْتِغْراقِ في قوله: ﴿تُدْرِكُهُ الأبصار﴾.
[فإذا كان كذلك كان قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ يفيد أنه لا تراه جَميعُ الأبْصارِ، فهذا يفيد سَلْبَ العُمُوم، ولا يفيد عموم السَّلب، وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول: تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع يَدُلُّ على ثبوت الحكم في بعض أفْرَادِ المجموع؛ ألا تَرَى أن الرَّجُلَ إذا قال: إن زيداً ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ، وإذا قيل: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس، فكذلك قوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ معناه أنه: لا تدركه كل الأبصار، فوجب أن يفيد أنه تُدْرِكُهُ بَعْضُ الأبْصَارِ أقصى ما في الباب أن يقال: هذا تمسُّك بدليل الخطاب، فنقول: هَب أنه كذلك إلاَّ إنه دليلٌ صحيح؛ لأن بتقير ألاَّ يحصل الإدْرَاكُ لأحَدٍ ألْبَتَّةَ كان تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع من حَيْثُ هو مجموع عبثاً، وَصَوْنُ كلام الله - تعالى عن العَبَثِ واجِبٌ.
الرابع: نقل أن ضرار بْنَ عَمْرو الكُوفِيَّ كان يقول: إن الله - تعالى - لا يُرَى بالعين، وإنما يرى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ يخلقها يوم القيامة واحتج بهذه الآية الكريمة، فقال: دلَّتْ [هذه] الآية الكريمةُ على تخصيف نَفْي إدْرَاكِ الله - تبارك وتعالى - بالبَصَرِ، وتخصيص الحكم بالشيء يَدُلُّ على أن الحال في غيره بخلافه، فوجَبَ أن يكون إدْراكُ الله - تبارك وتعالى - بغير البصر جائزاً في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواسِّ الموجودة
347
الآن لا تَصْلُحُ لذلك وجب أن يقال: إنه تعالى يخلق يوم القيامة حَاسَّةً بها تحصل رُؤيَةُ الله - تعالى - وإدراكه.
واسْتَدَلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة على نَفْيِ الرُّؤيَةِ من وجهين:
الأول: قالوا: الإدْرَالكُ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ بدليل لو قال قائل: أدركته ببصري، وما رأيته، أو قال: رأيته، وما أدْرَكتُهُ بصري، فإنَّ كلامه يكوم متناقضاً، فثبت أن الإدْراكَ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ يقتضي أنه لا يَرَاهُ شيء من الأبْصَارِ في شيء من الأحْوالِ، ويدل على صِحَّةِ هذا العموم وجهان:
الأول: أنه يصح اسْتِثْنَاءُ جميع الأشخاص، وجميع الأحوال عنه، فيقال: لا تدركه الأبصار إلاَّ بصر فلان وإلاَّ في الحالة الفُلانيَّةِ، والاستثناء يُخْرجُ من الكلام مَا لولاهُ لدخل، فثبت أن عُمُومَ هذه الآية الكريمة يُفِيدُ عموم النفي عن كُلِّ الأشخاص، وفي جميع الأحوال، وذلك يَدُلُّ على أن أحَداً لا يرى الله - تعالى - في حالٍ من الأحوال.
الثاني: أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لما أنكرت قَوْلَ ابْنِ عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ربَّهُ لَيْلَة المِعْراج تَمَسَّكَتْ بهذه الآية، ولو لم تكن هذه الآيةُ تفيد العُمُومَ بالنسبة إلى كُلِّ الأشخاص، وكُل الأحوال لما تَمَّ ذلك الاسْتِدلالُ، وكانت من أعظم الناس بِلُغَةِ العربِ.
الوجهُ الثاني: أن قوله: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ مَدْحٌ وثناء، فوجب أن يكون قوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ مَدْحاً وثناءً، وإلاّ لزم أن يقال: إن ما ليس بِمَدح وثناء وَقَعَ في خلال ما هو مَدْحٌ وثناء، وذلك يوجب الرَّكَاكَة وهي غير لائِقَةٍ بكلام الله - تبارك وتعالى - وإذا ثبت هذا فنقول: كل ما كان عَدَمُهُ مَدحاً، ولم يكن من باب الفِعْلِ كان ثُبُوتُهُ نَقصْاً في حقِّ الله - تبارك وتعالى - والنُّقْصانُ على الله مُحَالٌ، واعلم أن القَوْمَ إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من بابِ الفعل؛ لأنه تعالى تَمَدَّحَ بِنَفْي الظُّلم عن نفسه في قوله: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨] ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] مع أنه تبارك وتعالى قَادِراً على الظُّلم عندهم، وذكروا هذا القيد دَفْعاً لهذا النَّقْضِ عن كلامهم فهذا [غاية] تقرير كلامهم في هذا الباب.
والجوابُ عن الأوَّل من وجوه.
أحدها: لا نُسَلِّمُ أن إدْرَاكَ البَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ، لأن لَفْظِ الإدْراكِ في اصل اللغة عبارة عن اللُّحُوقِ والوُصُول؛ قال تعالى: ﴿قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُون﴾ [الشعراء: ٦١]
348
أي لمُلْحَقُونَ، وقال: ﴿حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق﴾ [يونس: ٩٠] أي: لحقه، ويقال: ادرك فلان فلاناً، وأدرك الغُلامُ الحلْمَ، أي: بلغ، وأدركت الثمرة، أي: نَضَجَتْ، فثبت أن الإدْراكَ هو الوُصُولُ إلى اشيء، وإذا عُرِفَ هذا فنقول المرئِيُّ إذا كان له حَدُّ ونهايةٌ، وأدْرَكَهُ البَصَرُ بجميع حُدُودِهِ وجَوانِبهِ ونهايته صَارَ ذلك الإبْصَارُ كأنه أحَاطَ به فَتُسَمَّى هذه الرُّويةُ إدْرَاكاً.
أما إذا لم يُحِطِ البَصَرُ بجوانب المرئيَّ لم تُسَمَّ تلك الرؤية [إدراكاً، فالحاصل أن الرؤية] جنس تحته نوعان: رؤية مع الإحاطة [ورؤية لا مع الإحاطة، والرؤية مع الإحاطة] هيا لتي تسمى إدراكاً، فنفي الإدراك يفيد نفي الجِنْسِن فلم يلزم من نَفْي الإدْرَاكِ على الله - تعالى - نَفْيُ الرؤية عن الله، وهذا وَجْهٌ حَسَنٌ في الاعْتِرَاضَ على كلامهم، فإن قالوا: إنْ قلتم: إنَّ الإدْراك يُغَايِرُ الرؤية، فقد أفْسَدْتُمْ على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تَمَسَّكْتُمْ بها في هذا الآية الكريمة على إثبات الرؤية.
قلنا: هذا يفيد أنه إدْراكٌ أخَصُّ الرؤية، وإثبات الأخصَّ يوجب إثبات الأعِمِّ، أما نَفْيُ الأخَصِّ فلا يوجب نَفْيَ الأعَمِّ، فثبت أن البَيَانَ الذي ذَكَرْنَاهُ يبطل كلامهم، ولا يبطل كلامنا.
وثانيها: أن نقول: هَبْ أن الإدْراكَ يفيد عموم النَّفي عن كل الأشخَاصِ في كُلِّ الأحوال، فلا نُسَلِّمُ أنه يفيد نَفْي العموم، إلاَّ أن نَفْيَ العموم غير، وعموم النفي غيرن وقد دَلَّلْنَا على أن هَذَا اللَّفْظِ لا يفيد إلا نفي العموم، وبَيَّنَّا أن نَفْيَ العموم يوجب ثبوت الخُصُوصِ.
وأما قولهم: إن عَائِشَةَ تَمَسَّكَتْ بهذه الآية في نَفْي الرؤية، فنقول: معرفة مفرادات اللغة إنما تُكْتَسَبُ من علماء اللغة، فأمَّا كيفية الاسْتِدْلالِ بالدليل، فلا يُرْجَعُ فيه إلى التَّقْلِيدِ، وبالجملة فالدليل العَقْلِيُّ دَلَّ على أن قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ يفيد نفي العموم وثبت بصريح العَقْلِ أن نَفْيَ لعموم مُغَايِرٌ لعموم النَّفيِ، ومقصودهم إنما يَتِمُّ لو دلَّتِ الآية على عُمُومِ النفي، فَسَقَطَ كلامُهُمْ.
وثالثها: أن نقول: صيغة الجَمْعِ كما تُحْملُ [على الاستغراق فقد تُحْمَلُ] على المعهود السَّابق أيضاً، وإذا كان كذلك، فقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ وهي الأحْدَاقُ وما دامتْ تبقى على هذه الصفات التي هي مَوْصُوفَةٌ به في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدرك الله تعالى إذا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا، وتغيَّرتْ أحوالها، فَلِمَ قلتم، إن حصول هذه التغيرات لا تدرك الله تعالى.
349
ورابعها: سَلَّمْنَا أن الأبْصَارَ لا تُدْرِكُ الله - تبارك وتعالى - فَلِمَ لا يجوز حصول إدراك الله تبارك وتعالى بِحَاسَّةٍ مُغَايِرَةٍ لهذه الحواسِّ، كما قال ضرار بن عمرو به، وعلى ها التقدير فلا يبقى بالتمسُّكِ بهذه الآية الكريمة فَائدةٌ.
وخامسها: هَبْ أن هذه الآية عامَّةٌ، إلاَّ أنَّ الآيات الدَّالَّة على إثبات رؤة الله تعالى خَاصَّةٌ والخَاصُّ مُقدَّمٌ على العام، وحينئذ ينتقل الكلام إلى أنَّ بيان أن تلك الآيات هل تَدُلُّ على حصول رؤية الله تعالى أم لا؟
وسادسها: أن نقول بموجب الآية الكريمة، فنقول: سلمنا أن الأبْصَارَ لا تدرك الله - تعالى - فمل قلتم: إن المُبْصرينَ لا يُدْرِكُونَ الله تعالى.
وأما الوجه الثاني فقد بَيَّنَّا أنه يمتنع حصول التَّمَدُّحِ بِنَفْي الرؤية لو كان تعالى في ذَاتِهِ بحيث تَمْتَنْعُ رؤيته، ثم إنه تبارك وتعالى يَحْجُبُ الأبصار عن رُؤيَتِهِ فَسَقَطَ كلامهم بالكلية، ثم نقول: إن النفي يمتنع أن يكون سَبَاً لحصول المَدْحِ والثناء، والعمل به ضروري، بل إذا كان النَّفْيُ دليلاً على حصول صِفَةٍ ثابتة من صفات المَدْحِ والثناء، فإن ذلك النَّفْيَ يوجب المَدْحَ.
مثال: أن قوله: تعالى: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] أن هذا النفي في حقِّ الباري - تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تَبَدُّلِ ولا زوالٍ، وكذا قوله: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] يَدُلُّ على كونه قائماً بنفسه غَنِيَّاً في ذَاتِهِ؛ لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم، وإذا ثبت هذا فقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ يمتنع أن يُفِيدَ المَدْحَ والثناء، إلا إذا دَلَّ على معنى مَوْجُودٍ يفيد المَدْحَ والثناء، وذلك هو الذي قلنا: إنه تبارك وتعالى - قادرٌ على حَجْبِ الأبْصَارِ، ومنعها عن إدراكه ورؤيته، فانْقَلَبَ الكلامُ على المعتزلة، وسَقَطَ الاستلال. واعمل أن القاضي ذَكَرَ وُجُوهاً أخر تَدُلُّ على نَفْيِ الرؤية، وهي خَارِجةٌ عن التَّمْسُّكِ بهذه الآية الكريمة.
فأولها: أن الحَاسَّة إذا كانت سَلِيمَةً، وكان المرئي حَاضِراً، وكان الشرائط المعتبرة حَاصِلَةً، وهو ألاَّ يحصل القُرْبُ القريب، ولا البعد البعيد، ولا يحصل الحِجَابُ، ويكون المرئي مقابلاً، أو في حكم المقابل، فإن يجب حُصُولُ الرؤية؛ إذ لو جاز مع حُصُولِ هذه الأمور ألا تحصل الرؤية جَازَ أن يكون بِحَضْرَتَنَا بُوقَاتٌ وطبلاتٌ ولا نسمعها ولا نراها، وذلك يوجب السَّفْسَطَة وأذا ثبت هذا فنقول: إن انْتِفَاءِ القُرْبِ القريب، والبعد البعيد، والحِجَاب، وحُصول المُقابلةِ في حق الله - تعالى - ممتنع، فلو صَحَّتْ ريته لوَجَبَ أن يكون المقتضي لِحُصُولِ تلك الرؤية هو سَلامَةُ الحَاسَّةِ، وكون المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته.
وثانيها: أنَّ كل ما كان مرئياً كان مُقَابِلاً، أو في حكم المُقابلِ، والله - تعالى - ليس كذلك، فَوَجَبَ أن تمتنع رُؤيَتُهُ.
350
وثالثها: قال القاضي: ويقال لهم كيف يراهُ أهلُ الجنة دون أهْلِ الناء، فإما أن يقرب منهم أو يقابلهم، فيكون حاله معهم دُونَ أهْلِ النار، وهذا يوجب أن جِسْمٌ يجوز عليه القرب والبعد والحِجَابُ.
ورابعها: قال: أهْلُ الجَنَّة دون أهل النار يَرَونَهُ في كل حال عند الجِمَاعِ وغيره، وهو بَاطِلٌ، ويرونه في حالٍ دون حالٍ، وهو أيضاً باطل؛ لأن ذلك يوجب أنه - تبارك وتعالى - مرَّةً يقرب، وأخرى يَبْعد، وأيضاً فَرُؤيَتُهُ أعْظَمْ اللَّذَّاتِن وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون مُشْتهين لتك الرُّؤيَةِ أبداًن فإذا لم يَرَوْهُ في بَعْضِ الأوقات وقعُوا في الغَمِّ والحُزْنِ، وذلك لايليق بصفات أهل الجَنَّةِ، وهذه الوجوه في غاية الضَّعْفِ.
أمَّا الأول: فيقال: هَبْ أن الأجْسامَ والأعراضَ عند سلامة الحاسَّةِ، وحضور المرئي، وحصل سائر الشَّرائط واجبة فلم قلتم: إنه يلزم منه وُجُوبُ حصول الرؤية إذا كان المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ ذَاتَهُ تعالى مُخَالِفَةٌ لسائر الذوات، ولا يلزم من ثُبُوتِ حكمه في شيء ثُبُوتُ مثل ذلك فيما يُخَالِفُهُ.
وأما الثاني: يقال النزاع وقع في أن الموجود الذي لا يكون مُخْتَصاً بمكان وجهَةٍ هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإما أن تدّعوا أن العلم بامْتِنَاع رُؤيَةِ هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة عِلْمٌ بديهي، أو تقولوا: علم اسْتدلالِيُّ، والأوَّلَ باطل؛ لأنه لو كان لاعمل به بَدِيهياً لما وقع الخِلافُ فيه بين العقلاء، وأيضاً فبقتدير أن يكون هذا العِلْمُ بَدِيهياً كان الاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الدلي عَبَثاً فاتركوا الدليل، واكتفوا بِذِكْرِ هذه البديهية.
وإن كان الثاني: فنقول قولكم المَرْئِيُّ يجب أن يكون مُقَابلاً، وفي حكم المقابل، فلا فَائِدة في هذا الكلام إلا إعادة الدَّعْوَى.
وأما الثالث: فيقال له: لم لا يجوز أن يقال: إنَّ الجنَّةِ يرونه، وأهل الناء لا يرونه؟. لا لأجل القرب والبعد، بل لأنَّهُ - تعالى - يخلق الرؤية في عُيُون أهل الجنَّة، ولا يَخْلُقُهَا في عُيُونِ أهل النار، فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تَجْويزَهُ يُفْضِي إلى تَجْويز أن يكون بِحَضْرتِنَا بُوقَاتٌ وطَبْلاتٌ لا نراها ولا نسمعها، كان هذا رُجُوعاً إلى الطريق الأولى، وقد سبق جوابها.
وأما الرابع: فيقال: لم لا يجوز أن يُقَال: إنَّ المؤمنين بدون الله - تبارك وتعالى - في حالٍ دون حال [وقوله: فإن يقتضي أن يقرب منه مرة ويبعد أخرى، فنقول: هذا عَوْدٌ إلى أن الإبْصَار لا يَحْصُلُ إلاَّ عند الشَّرائِطِ المذكورة وقد سَبَقَ جوابُهُ، وقوله: الرؤية أعْظَمُ اللَّذَّاتِ، فيقال له: إنَّها وإن كانت كذلك، إلاَّ أنه لا يبعد أن يقال: يشتهونها في حالٍ دون حالٍ بدليل أن سَائِرَ لذَّاتِ الجنَّىة ومنافعها لَذِيذَةٌ طيبة، ثم إنها تَحِصُلُ في حالٍ
351
دون حالٍ] فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها.
وأما الدَّلالةُ على أن المؤمنين يَرَوْنَ الله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣].
وقال مقاتل: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥] قال مالك: لو لم يَرَ المُؤمِنُونَ ربَّهُمْ يوم القيامة لم يُعِدِّ للكفار الحِجَابَ، وقال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ [الإنسان: ٢٠] فتح الميم وكسر اللام على إحْدَى القراءات، ولما طلب موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الله تعالى الرؤية دَلَّ ذلك على جوازِ رُؤيَةِ الله تعالى.
وأيضاً علَّق الرؤية على اسْتِقِرَارِ الجبل حيث قال: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] وساترقرا الجَبَلِ جائز، والمُعَلَّفُ على الجائز جائز.
الوجوه الأربعة المُتقدِّمَةُ في أوَّلِ الآية الكريمة سيأتي الكلام عليها وعلى هذه الآيات، وما يشبهها في الدِّلالةِ في مواضعها إن شاء اللَّهُ تعالى.
وأمَّا الأخبار فكثيرة منها قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «سَتروْنَ ربَّكُمْ كَمَا تَروْنَ القمَرَ ليْلَةً البَدْرِ» وقال عليه السلام: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ عياناً» وقرأ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قوله: تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] قال: «الحُسْنَى» هِيَ الجَنَّةُ و «الزِّيَادةُ هِيَ النَّظَرُ إلى وجْهِ اللِّهِ.
واختلف الصحابة في أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هل رَأى رَبَّهُ ليلة المعراج؟ ولم يُكَفِّرْ بعضهم بعضاً بهذا السَّبب، ولا نَسَبَهُ إلى البِدْعَةِ والضلالة، وهذا يَدُلُّ على أنهم كانوا مجتمعين على أنه لا امْتِنَاعَ عَقْلاً في رُؤيتِهِ تعالى، والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصَحْبِهِ وسلَّمَ.
352
لمَّا بيَّن البيَّنَاتِ الباهرة، والدلائل القاهرة المطالب الإلهية عاد إلى تَقْرِير الدَّعْوَةِ والتبليغ والرسالة، وإنما ذكر الفِعْلَ لشيئين:
352
أحدهما: الفصل بالمفعول.
والثاني: كون التأنيث مَجَازِياً.
والبَصَائِرُ: جمع «بَصِيرَة» وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ومنه قيل للدَّمِ الدال على القتيل «مبصرة» والبصيرة مُخْتَصَّةٌ بالقلب [كالبَصَرِ للعين، هذا قول بعضهم.
وقال الراغب: «ويقال لقوة القلب المُدْرِكة:» بَصِيرَةٌ وبَصَرٌ «] قال تبارك وتعالى: ﴿بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: ١٤] وقال تعالى: ﴿مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى﴾ [النجم: ١٧] وتقدَّم تحقيق هذا في أوائل سوة» البقرة «.
وأراد بالبَصَائِرِ الآيات المتقدمة، وهي في نَفْسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إلا أنها لقوتها وجلائهَا تُوجِبُ البصائِرَ لمن عرفها، ووقَفَ على حَقَائِقهَا، فلما كانت سَبَباً لحصول البَصَائِرِ سميت بالبَصَائِرِ.
قوله:»
مِنْ ربِّكُمْ «يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله، وأن يتعَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ لما قبله، أي: بصائر كائنة من ربكم و» من «في الوجهين لابتداء الغاية مَجَازاً.
قوله:»
فَمَنْ أبْصَرَ «يجوز أن تكون شَرطيَّةً، وأن تكون مَوصُولةً فالفاء جواب الشَّرطِ على الأوَّلِ، ومزِيدَةٌ في الخبر لشبه المْصُولِ باسم الشرط على الثُّانِي، ولا بُدَّ قبل لام الجرِّ من مَحْذُوفٍ يَصِحُّ به الكلام، والتقدير: فالإبْصَارُ لِنَفْسِهِ، ومَنْ عَمِيَ فالعَمَى عليها، فإلإبصار والعَمَى مُبْتَدآنِ، والجارُّ بعدهما هو الخَبَرُ بعدهما هو الخَبَرُ، والفاء دَاخِلَةٌ على هذه الجملة الواقعة جواباً أو خبراً، وإنما حُذِف مُبْتَدؤها للعلم به، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال:» فلنفسه نَفْعُ ذلك ومن عَمِيَ فعليها ضَرَرُ ذلك «.
وقال الزمخشري:»
فَمْنْ أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع، ومن عمي فعليها، أي: فعلى نفسه عَمِي، وإياها ضر «.
قال أبو حيَّان: وما قدَّرناه من المصدر أوْلَى، وهو فالإبصار والعمى لوجهين:
أحدهما: أن المَحْذُوفَ يكون مفرداً لا جملة، والجار يكون عُمْدَةً لا فَضْلَةً، وفي تقديره هو المحذوف جملة، والجار والمرجور فَضْلَة.
والثاني: وهو أقوى، وذلك أنه لو كان التقدير فِعْلاً لم تدخل الفاء سواء كانت شَرطيَّةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دُعَاءً ولا جَامِداً، ووقع جوابُ الشَّرطِ أو خبر مبتدأ مُشَبَّهٌ بالشرط لم تدخل الفاءُ في جواب الشرط، ولا في خبر
353
المبتدأ لو قلت:» من جاءني فأكرمته «لم يَجُزْ بخلاف تقديرنا، فإنه لا بُدَّ فيه من الفاء، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر.
قال شهاب الدين: وهذا التقدير الذي قدَّرهُ الزمخشري سبقه إليه الكَلْبِيُّن فإنه قال: فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فنلفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّقْ فعلى نفسه جَنَى العذاب»
وقوله: إن الفاء لا تَدْخُلُ فيما ذُكِرَ قد يُنازعُ فيه، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً، ويظهر فيه أثَرُ الجَازِمِ كالمُضارعِ يجوز فيه دُخُولُ الفاء نحو:
﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥] فالماضي بدخولها أوْلَى وأحْرَى.

فصل في بيان عود المنافع للبشر


قال القاضي: إنه - تعالى - بيَّن لنا أن المنافِعَ تعودإليها لا لمنافع تعود إلى الله تبارك وتعالى - وأيضاً إن المَرْءَ بِعُدُولِهِ عن النَّظَرِ يَضُرُّ بنفسه، ولم يؤت إلاَّ من قبله لا من قبل ربِّهِ، وأيضاً إنه متمكِّنٌ من الأمرين، فلذلك قال: «فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَليْها» قال: وهذا يبطل قول المجبرة [في أنه - تعالى - يكلف بلا قدرة] وجوابه المعارضة بسؤال الداعي.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي: برقيب أحْي عليكم أعمالكم، إنما أنا رَسُولُهُ أبلغكم رِسالاتِ ربي، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شَيءٌ من أعمالكم.

فصل في معنى الآية


قال المفسرون: هذا كان قبل الأمْرِ بالقتالِ، فلما أمِرَ بالقتال صار حَفِيظاً عليهم، ومنهم من يقول: آيَةُ القِتَالِ نَاسِخَةٌ لهذه الآية الكريمة، وهو بعيد؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ.
354
لما شرع في إثبات النُّبُواتِ بدأ بِحِكَايَةِ شُبُهاتِ المنكرين لِنُبُوةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الشُّبْهَةُ الأولَى: قولهم: يا محمد إن هذا القرآن الذي جئْتَنَا به كلامٌ تَستفِيدُهُ من مُدَارَسَةِ العلماء، وتُنَظِّمُهُ من عند نفسك، ثمر تقرؤه علينا، وتزعم أنه وَحْيٌ نُزِّلَ عليك من عند الله تعالى.
و «الكاف» في محلِّ نصب نَعْتٌ لمصدر محذوف، فقدَّرَهُ الزجاج: ونُصَرِّفَ الآياتِ مِثْلَ ما صَرَّفْنَاها فيما تُلِيَ عليكم، وقدَّره غيره: نُصَرِّفُ الآيات في غير هذه السُّورةِ
354
تَصْرِيفاً مثل التصريف في هذه السورة.
والمراد بالتَّصْرِيفِ أنه - تبارك وتعالى - يأتي مُتَوَاتِرَة حالاً بعد حالٍ.
قوله: «ولِيَقُولُوا» الجمهور على كسر اللام كي، والفِعْلُ بعدها منصوب بإضمار «أن» فهو في تَأويل مصدر مَجْرُورٍ بها على ما عرف [غير مرَّةٍ]، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصَّيْرُورةِ، كقوله تبارك وتعالى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨] وكقوله: [الوافر]
٢٢٧٩ - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ.......................
أي: لما صار أمرهم إلى ذلك عَبِّرَ بهذه العبارةِ، والعِلَّةُ غير مُرَادَةٍ في هذه الأمثلة، والمُحَقِّقُونَ يأبَوْنَ جَعْلَهَا للعاقبة والصَّيْرُورةِ، ويُؤوِّلُونَ ما وَرَدَ من ذلك على المَجَازِ.
وجوَّز أبو البقاء فيها الوجهين؛ أعني كونها «لام» العاقبة، أو العلّة حقيقة، فإنه قال: «واللام لام العاقبة، أي: إن أمرهم يَصِيرُ إلى هذا».
وقيل: إنه قَصَدَ بالتصريف أن يقولوا: درست عقوبة لهم، يعني: فهذه عِلَّةٌ صَرِيحَة، وقد أوضح بعضهم هذا، فقال: المعنى: يُصَرِّفُ هذه الدلائل حالاً بعد حالٍ ليقول بعضهم: دارست فيزادوا كُفْراً، وتَنْبِيهٌ لبعضهم فَيَزْدادُوا إيماناً، ونحو: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ [البقر: ٢٦]
وأبو علي جعلها في بَعْضِ القراءات لام الصَّيْرُورَةِ، وفي بعضها لام العلّة؛ فقال: واللام في «ليقولوا» في قراءة ابن عامر، ومَنْ وافقه بمعنى: لئلاً يقولوا؛ أي: صُرِّفَت الآيات، وأحْكِمَتْ لئلا يقولوا: هذه أسَاطيرُ الأوَّلينَ قديمة قد بَلِيَتْ وتَكَرَّرَتْ على الأسْماع، واللام على سائر القراءاتِ لام الصَّيْرُورةِ.
قال شهاب الدين: قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أكَلَتْ وسَرَقَتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذا الكلمة مُتَواتِرِهَا وشَاذِّهَا.
قال أبو حيَّان: «وما أجَازَهُ من إضمار» لا «بعد اللام المضمر بعدها» أنْ «هو مذْهَبٌ لبعض الكوفيين، كما أضمروها بعد» أنْ «المُظْهَرَة في ﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] ولا يجيز البَصْرِيُّونَ إضْمَارَ» لا «في القَسَمِ على ما تَبَيَّنَ فيه».
ثم هذه «اللام» لا بد لها من مُتعلِّقٍ، فقدَّرَهُ الزمخشري وغيره مُتَأخِّراً، قال الزمخشري: «وليقولوا» جوابه مَحْذُوف، تقديره: وليقولولا دَرَسَتْ تُصَرِّفُهَا.
355
فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين اللاَّمَيْنِ في «ليقولوا» و «لنُبَيِّنَهُ» ؟
قال شهاب الدين: الفَرْقُ بينهما أن الأولَى مَجَازٌ، والثانية حَقيقَةٌ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا: دارست، ولكن لأنه لمَّا حَصَلَ هذا القولُ بتصريف الآيات كما حَصَلَ للتَّبْيينِ شبِّه به فسِيقَ مَسَاقَةُ.
وقيل: ليقولوا كما قيل لِنَبيهِ.
قال شهاب الدين: فقد نَصَّ هنا على أنَّ لام «ليقولوا» عِلَّةٌّ مَجَازِيَّة.
وجوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نَسَقاً على عِلًّة محذوفة.
قال ابن الأنباري: «خلت الواو في» وليقولوا «عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهُمُ الحجة وليقولوا». قال شهاب الدين وعلى هذا فاللام مُتعلِّقَةٌ بفعل التَّصْرِيف، من حَيْثُ المعنى، ولذلك قَدَّرَهُ مَنْ قدَّرَهُ مُتَأخِّراً ب «نُصَرِّف».
وقال أبو حيَّان: «ولا يتعيَّنُ ما ذكره المُغْرِبُونَ والمُفَسَّرونَ من أن اللام لام كي، أو لام الصَّيْرُورةِ، بل لاظاهر أنها لامُ الأمْرِ والفعل مَجْزُومٌ بها، ويُؤيِّدُهُ قرءاة من سَكَّنَ اللام، والمعنى عليه يَتَمكَّنُ، كأنه قيل: وكذلك نُصَرِّفُ الآيات، وليقولوا هم ما يقولون من كَوْنِهَا دَرَسْتَهَا وتعلَّمْتَها أو دَرَسَتْ هي، أي: بَلِيَتْ وقدُمَتْ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم وهو أمْرٌ معناه الوعيدُ والتهديد، وعدمُ الاكتراثِ بقولهم، أي: نُصَرِّفُهَا وليدَّعُوا فيها ما شَاءُوا، فإنه لا إكْتِرَاث بِدَعْوَاهُمْ».
وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المعنى على ما قالهُ النَّاسُ وفهموه، وأيضاً فإن بعده «ولنبيِّنَهُ» وهو نَصٌّ في لام كي، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشَّاذَّةِ، فلا يَدُلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنَتْ إجْرَاء للكملة مُجْرَى: كَتِف وكَبِد.
وقد رَدَّ أبو حيان على الزمخشري؛ حيث قال: «ليقولولا جوبه محذوف» فقال: وتَسمِيَتُهُ ما يتلَّقُ به قوله: «وليقولوا» جواباً اصْطِلاحٌ غريب لا يقال في «جئت» من قولك: «جئت لتقوم» إنه جواب.
قال شهاب الدين: هذه العبارةُ قد تكرَّرَتْ للزمخشري، وسيأتي ذلك في قوله: ﴿ولتصغى﴾ [الأنعام: ١١٣] أيضاً.
وقال الشيخ هناك: «وهذا اصْطِلاحٌ غريب».
والذي يظهر أنه إنما يُسَمَّى هذا النحو جواباً، لأنه يَقَعُ جواباً لسائل؛ تقول: أين الذي يتعلَّق شبه هذا لجار؟ فيجاب به، فسُمي جواباً الاعْتِبَار، وأضيف إلى الجارِّ في
356
قوله: «وليقُولُوا» جوابه؛ لأن الإضافة تقع بأدْنَى مُلابَسَةٍ، وإلا فكلامُ إمَامٍ يَتَكَرَّرُ لا يُحْمَلُ على فَسَادٍ.
وأما القراءات التي في «درست» فثلاث في المتواتر: فقرا ابن عامر: «دَرَسَتْ» بِزِنَةِ: ضَرَبَتْ، وابن كثير وأبو عمرو «دَارَسْتَ» بِزِنَةِ: قَابَلْتَ أنت، والباقون «دَرَسْتَ» بِزِنَةِ ضَرَبْتَ أنت.
فأمَّا قرءاة ابن عامر: فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ، وتكرَّرَتْ على الأسْمَاعِ، يشيرون إلى أنها من أحَادِيثِ الأوَّلينَ، كما قالوا: «أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ».
وأما قراءة ابن كثير، وأبي عمروا: فمعناها: دَارَسْتَ يا محمد غَيْرَكَ من أهْلِ الأخبار الماضية، والقرون الخالية حتى حَفِظْتَهَا قَفُلْتَهَا، كما حكى عنهم فقال: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾ [النحل: ١٠٣].
وفي التفسير: أنهم كانوا يقولون: هو يُدَارِسُ سَلْمَانَ وعَدَّاساً.
وأما قراءة الباقين: فمعناها: حَفِظْتَ وأتْقَنْتَ بالدَّرْسِ أخبارَ الأوَّلين، كما حُكِيَ عنهم ﴿وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان: ٥] أي: تكرر عليها بالدرس يحفظها.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: وليقولوا أهل «مكة» حين تَقْرَأُ عليهم القرآن: ودَرَستْ تعلمت من يسارٍ وجبر، وكانا عَبْدَيْنِ من سَبي الروم قرأت علينا تَزْعُمُ أنه من عند الله.
حكى الواحدي في قوله: درس الكتاب قولين:
الأول: قال الأصمعيُّ: أصله من قولهم: درس الطعام إذا دَرَسَهُ دراساً، والدَّرْسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أهل «الشام»، قال: ودرس الكلام من هذا، أي: يدرسه فيخفُّ على لسانه.
والثاني: قال أبو الهيثم: درست الكتاب، أي: ذللته بكثرةِ القراءة خَفَّ حِفْظُهُ من قولهم: درست الثوب أدْرُسُهُ دَرْساً، فهو مَدْرُوسٌ ودَرِيسٌ، أي: أخْلَقْتُهُ، ومنه قيل للثوب الخلق: دريسٌ لأنه قد لان والدراسةُ الرياضة، ومنه درست السُّورة حتى
357
حفظتها قال الواحدي: وهذا القول قريب مما قال الأصمعيُّ، بل هو نفسه لأن المعنى يعود إلى التَّذْليل والتَّلْيين.
وقرئ هذا الحرف في الشَّاذِّ عشر قراءات أخر فاجتمع فيه ثلاثة عشرة قراءة؛ فقرا ابن عباس بخلاف عنه، وزيد بن علي، والحسن البصري، وقتادة «دُرِسَتْ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الإناث، وفسَّرها ابن جنيِّ والزمخشري بمعنيين في أحدهما إشكال.
قال أبو الفتح: «يحتمل أن يُرَادَ عَفَتْ أو بَلِيَتْ».
وقال أبو القاسم: «بمعنى قُرِئَتْ أو عُفِيَتْ».
قال أبو حيَّان: «أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهِرٌ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّرَ القراءة متعدِّ، وأما» دَرَس «بمعنى بلي وانمحى فلا أحْفَظُهُ متعدياً، ولا وَجَدْنا فيمن وقَفْنَا على شعره [من العرب] إلا لازماً».
قال شهاب الدين: لا يحتاج هذا إلى استقراء، فغن معناه لا يحتمل أن يكون متعدياً؛ إذْ حَدَيُهُ لا يتعدَّى فاعله، فهو ك «قام» و «قعد» فكما أنا لا نحتاج في مَعْرِفةِ قصور «قام» و «قعد» إلى استقراءٍ، بل نَعْرِفُهُ بالمعنى، فكذا هذا.
وقرئ «دَرَّسْتَ» فعلاً ماضياً مسدّداً مبيناً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير، أي: دّرَّسْتَ الكُتُبَ الكثيرة ك «ذبَّحت الغنم»، و «قَطَّعْتُ الأثواب» وأن تكون للتَّعديَةِ، والمفعولان محذوفان، أي: دَرَّسْتَ غيرك الكتاب، ولي بظاهرٍ؛ إذ التفسير على خلافه.
وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مَبْنيُّ للمفعول، أي: دَرَّسَكَ غَيْرُكُ الكتب، فالتضعيف للتعدية لا غير.
وقرئ «دُوْرِسْتَ» مسنداً لتاء المُخاطبِ من «دَارَس» ك «قاتل» إلا أنه بُنِيَ للمفعول، فقلبت ألِفُهُ واواً، والمعنى: دارسَكَ غَيْرُكَ.
وقرئ «دَارَسَتْ» بتاء ساكنة للتأنيث لَحِقَتْ آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان:
أحدهما: أنه ضمير الجَمَاعَةِ أضْمِرَتْ، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي: دراستك الجمَاعةُ يُشيرون لأبي فكيهة، وسلمان، وقد تقدَّم ذلك في قراءة ابن كثير، وأبي عمرو رحمها الله تعالى.
والثاني: ضمير الإناث على سبيلِ المُبالغةِ، أي: إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ، وإن كان المراد أهْلَهَا.
358
وقرئ «دَرُسَتْ» بفتح الدال، وضم الراء مُسْنَداً إلى ضمير الإناث، وهو مُبالغةٌ في» دَرَسَتْ «بمعنى: بَلِيَتْ وقدُمَتْ وانمحَتْ، أي: اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا.
وقرأ أبَيُّ»
دَرَسَ «وفاعله ضمير النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو ضمير الكتاب بمعنى قرأهُ النَّبِيُّ، وتلاهُ، وكُرِّرَ عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى، وهكذا في مصحف عبد الله» دَرَسَ «.
وقرأ الحسنُ في رواية»
دَرَسْنَ «فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإناثِ هي ضمير الآياتن وكذا هي في بَعضِ مصاحفِ ابن مسعود.
وقرئ»
دَرَّسْنَ «كالذي قبله إلا أنه بالتَّشديد بمعنى اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا، كما تقدم.
وقرئ»
دَارِسَاتٌ «دمع» دَارِسَة «؛ بمعنى: قديمات، أو بمعنى ذات دُرُوس، نحو: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] و ﴿خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] وارتفاعها على خبر ابتداء مضمرٍ، أي: هُنَّ دارسات، والجملة في محلٍِّ نصب بالقولِ قبلها.
قوله:»
ولنبيِّنَه «تقدم أنَّ هذا عطفٌ على ما قَبْلَهُ؛ فحكمه حُكْمُه، وفي الضمير المَنْصُوب أربعةُ احتمالات:
أحدها أنه يَعُود على الآياتِ، وجاز ذلك وإن كانت مُؤنَّثَة؛ لأنَّها بِمَعْنَى: القُرآن.
الثاني: أنَّه يَعُود على الكتاب، لدلالة السِّياق عليه، ويُقَوِّي هذا: أنَّه فاعل ب»
دَرَسَ «في قَراءة مَنْ قَرَأه كذلك.
الثالث: أنَّه يَعُود على المصدَر المفهوم من نُصَرِّف، أي: نبيِّن التَّصْريف.
الرابع: أنه يَعُود على المَصْدَر المفْهُوم من»
لِنُبَيِّنه «أي: نُبَيِّن التَّبْين، نحو:» ضَرَبْتُه زَيْداً «أي:» ضربت الضَّرْب زَيْداً «، و» لقوم «معلِّقٌ بالفعل قبله، و» يعْلَمُون «:
في محل جرِّ صفة للنَّكرة قبلها.
قال ابن عباس - ضي الله عنهما - يُريد أوْلِياءَهُ الذين هداهم إلى سبيل الرَّشاد.
وقيل: نصرِّف الآيات ليشقى بها قَوْم، ويَسْعد بها آخرون؛ فمن قال:»
دَرَسْت «فهو شقي، ومن تَبيَّن له الحقُّ، فهو سِعِيدٌ.
359
لما حَكَى عَن المُشْرِكين أنَّهُم يَنْسِبُونه في إظْهَار هذا القُرْآن العظيم إلى الافْتِرَاء، وإلى مُدَارسة من يَسْتَفِيد هذه العلُوم مِنْهُم، ثمَّ ينظِّمُهَا قُرْآناً، ويدَّعي أنَّه عليه من
359
اللَّه، أتبعه بقوله: ﴿اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك﴾ لئلا يصير ذلك القول سَبَاً لفتوره عن تَبْلِيغ الدَّعْوَة والرِّسالة، والمقصُود: تقوية «قَلْبِه»، وإزالة الحُزْن الذي حَصَل بسَمَاع تلك الشُّبْهَة.
قول: «ما أوحِي» يجُوز أن تكُون «ما» : اسميَّة، والعائد هو القائمُ مقام الفاعل، و «إليك» : فَضْلَه، وأجَازُوا أن تكون مَصْدريَّة، والقائِم مقام الفاعل حينئذٍ: الجار والمجرُور، أي: الايحاء الجَائِي مِنْ ربِّك، و «مِنْ» لابْتِدَاء مَجَازاً، ف «مِنْ ربِّك» :
متعلِّقٌ ب «أوحِيَ».
وقيل بل هُو حالٌ من «ما» نَفْسِها.
وقيل: بل هُو حالٌ من الضَّمير المُسْتترِ في «أوحِيَ» وهو بِمَعْنَى ما قَبْلَه.
وقوله: «لا إلهَ إلاَّ هُو» جملة مُعْتَرِضة بَيْن هاتَيْن الجُمْلَتيْن الأمْرِيَّتيْن، هذا هو الأحْسن.
وجوّز أبُو البقاءِ أن تكُون حالاً من «ربِّك» وهي حالٌ مؤكِّدَةٌ، تقديره: من ربِّك مُنْفَرِداً.
قوله: «وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكين» أي: لا تُجَادِلْهم.
وقيل: المرادُ: ترك المُقاتَلة؛ فلذلك قالوا: إنَّه مَنْسوخٌ، وهذا ضعيف؛ لأن الأمْر بترك المُقاتلة في الحالِ لا يُفِيدُ الأمر بِتَرْكِها دائماً، وإذا كان الأمْر كذلك لم يَجِيبِ التزام النَّسْخ.
قوله: «ولوْ شَاء اللَّه» مفعول المشيئة مَحْذُوف، أي: «لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم» وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه، والمعنى: لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم، لَقَدَرْت، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم.
وتمسَّك أهل السُّنَّة بقوله - تعالى -: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ﴾ والمعنى: لو شَاءَ ألاَّ يُشْرِكوا، ما أشْرَكوا، وحيث لَمْ يَحْصُلِ الجَزَاء، لم يَحْصُل الشَّرْط.
وقالت المُعتزلَة: ثبت بالدَّلِيل أنَّه - تعالى - أراد مِنَ الكُلِّ الإيمان، وما شَاءَ من أحدٍ الكُفْر، وهذه الآيَة الكريمة تَفْتَضِي: أنَّه - تعالى - ما شَاءَ من الكُلِّ الإيمانَ؛ فوجب التَّوفيق بين الدَّليليْن، فيجعل مَشِيئةِ اللَّه لإيمانهم، على مَشِيئة الإيمان الاخْتِيَاريِّ الموجبِ للثُّواب، ويحمل عدم مشيئته لإيمانِهِم، على الإيمان الحاصِل بالقَهْر والجَبْر، يعني: أنه - تبارك وتعالى - ما شاء أن يَحْمِلَهُم على الإيمان على سبيل القَهْر والإلْجَاء؛ لأنَّ
360
ذلك يُبْطِل التَّكْليف، ويخرج الإنْسَان عن اسْتِحقاق الثَّواب.
والجواب من وُجُوهٍ:
أحدها: أنه - تبارك وتعالى - ما شَاءً مِنْهُم أن يَحْمِلَهم على الإيمان على سَبِيل القَهْر وهو الذي أقْدَر الكَافِر على الكُفْر فَقُدْرَةٌ الكُفْر إن لم تَصْلُح للإيمان، فخالِقُ تلك القُدْرَة لا شكَّ أنه كان مُريداً للكُفْر، فإن كان صَالِحة للإيمان، لَمْ يَتَرجَّحْ جانب الكُفْرعلى جَانِب الإيمان، إلاَّ عند حصولِ داعٍ يَدْعُو إلى الإيمان، وإلاَّ لَزِم رُجْحان أحد طرَفِي المُمْكِن على الآخرَر [لا] لمرجَح.
وهو مُحَالٌ، ومَجْمُوع القُدْرَة مع الدَّاعِي إلى الكُفْر، يُوجِب الكُفْرَن فإذا كان خالِق القُدْرة والدَّاعِي هو اللَّه - تعالى -، وثبت أنَّ مَجْمُوعَهما يوجِبُ الكُفْر، ثبت أنَّ الله - تعالى - أراد الكُفْر من الكافِرِ.
وثانيها: أنَّ الله - تبارك وتعالى - كان عالماً بعدم الإيمان من الكَافِر، ووجُود الإيمَان مع العِلْم بِعدم الإيمان مُتضَادَّانِ، ومع وُجودِ أحَد الضِّدَّيْن كان حُصُول الضدِّ الثاني محالاً، مع العِلْمِ بِكَوْنه محالاً غير مُرَادِ، فامْتَنَع أن يُقال: إنه - تعالى - يريد الإيمان من الكافر.
وثالثها: هَبْ أن اإيمان الاخْتِيَاري أفْضلُ وأنْفع من الإيمان الحَاصِل بالجَبْر والقَهْر، إلاَّ أنَّه - تعالى لما عَلِم أنَّ ذلك النَّفْع لا يَحْصُل ألْبَتَّةَ، فقد كان يَجِبُ في رَحْمَته وحكمته، أن يخلق فيهم الإيمان على سَبِيل الإلْجَاء؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يُوجِب الثُّواب العظيم، فأقَل ما فيه أن يُخَلِّصَة من العِقَاب العَظيم، وتَرْك إيجَاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلْجَاء، يُوجِب وقوعَهُ في أشَدِّ العذاب، وذلك لا يَلِيقُ بالرَّحمة والإحْسان، كما إنَّ الوالد إذا كان له ولدٌ عزيزٌ، وكان الأبُ في غَاية الشَّفَقَة، وكان الولدُ واقفاً على طَرف البَحْرن فيَقُول له الوالد: غُصْ في قَعْر هذا البَحْر؛ لتَسْتَخْرِج اللآلِئ العظيمة الرَّفيعة الغَالِية، وعلِم الوالد قَطْعاً أنَّه إذا غَاصَ في البَحْر، ويقول له: أترك طلب اللآلِئ، فإنَّك لا تَجِدُها وتَهْلَك، والأوْلى لك أن تَكْتَفِي بالرِّزق القَلِيل مع السَّلامة، فأما أنْ يَأمُرَه في قَعْر البحر مع تيقّن الهلاك، فهذا يدلُّ على عَدَم الرَّحْمة؛ وكذا هَهُنَا.
قوله: «وَمَا جَعَلْنَاكَ» «جعل» بمعنى: صيَّر فالكافُ مَفْعُول «حَفِيظ» مَحْذُوف، أيك «حفيظاً عليهم أعْمالهم».
قال أبُو البقاء: «هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه في إعْمَال فَعِيل» يعني: أنه مِثالُ مُبالَغة، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه، ونفاه غَيْرُه.
361
[قال شهاب الدين] : يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ؟
قوله: «وَمَا أنْتَ» يجُوز أن تَكُون «مَا» الحجازيةح فيكُون «أنْتَ» : اسْمُهاَ، و «بوكيل» : خبرها في مَحَلِّ نصْب، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة؛ فيكون «أنْتَ» : مبتدأ و «بوكيل» : خَبَره في محلِّ رفع، والباءُ زايدة على كلا التَّقْديرين، و «عليهم» : متعلِّق بوكيل قُدِّم لما فيما قَبْلَه، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم، وهو بِمَعْنَى: ما جَعَلْنَاكَ حفيظاً عليهم، أي: رقيباً.
واعلم أنه - تبارك وتعالى - لما بيَّن أن لا قُدْرَةَ لأحد على إزالة الكُفْر عَنْهُم، ختم الكلام بما يَكْمُل معه تَبْصير الرَّسُوال؛ لأنَّه لما بيَّن له قَدْر مَا جَعَل إلَيْه، فذكر أنَّه ما جَعَله عليْهم حَفِيظاً ولا وِكِيلاً، وإنَّما فوَّض إليه البَلاغ بالأمْر، والنَّهْي، البَيَان بذكر الدَّلائل، فإن انْقَادُوا للقَبُول، فنفعه عَائِدٌ إلَيْهم، وإلا فضرَرُه عَائِدٌ إليهم.
قال عطاء: وما جَعَلْنَاك علهيم حَفِيظاً: تمنعهم منِّي، أي: لم تُبْعِثْ لِتَحْفَظ المُشْرِكين من العذاب، إنما بُعِثْت مُبَلَّغاً، وما أنت عليهم بِوَكيل على سَبيل المَنْع لَهُم.
362
قوله :" ولوْ شَاء اللَّه " مفعول المشيئة مَحْذُوف، أي :" لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم " وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه، والمعنى : لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم، لَقَدَرْت، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم١.
وتمسَّك أهل السُّنَّة بقوله -تعالى- :﴿ وَلَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكُواْ ﴾ والمعنى : لو شَاءَ ألاَّ يُشْرِكوا، ما أشْرَكوا، وحيث لَمْ يَحْصُلِ الجَزَاء، لم يَحْصُل الشَّرْط.
وقالت المُعتزلَة : ثبت بالدَّلِيل أنَّه -تعالى- أراد مِنَ الكُلِّ الإيمان، وما شَاءَ من أحدٍ الكُفْر، وهذه الآية الكريمة تَقتَضِي : أنَّه -تعالى- ما شَاءَ من الكُلِّ الإيمانَ ؛ فوجب التَّوفيق بين الدَّليليْن، فيجعل مَشِيئةِ اللَّه لإيمانهم، على مَشِيئة الإيمان الاخْتِيَاريِّ الموجبِ للثُّواب، ويحمل عدم مشيئته لإيمانِهِم، على الإيمان الحاصِل بالقَهْر والجَبْر، يعني : أنه - تبارك وتعالى- ما شاء منهم أن يَحْمِلَهُم على الإيمان على سبيل القَهْر والإلْجَاء ؛ لأنَّ ذلك يُبْطِل التَّكْليف، ويخرج الإنْسَان عن اسْتِحقاق الثَّواب.
والجواب من وُجُوهٍ :
أحدها : أنه -تبارك وتعالى- ما شَاءً مِنْهُم أن يَحْمِلَهم على الإيمان على سَبِيل القَهْر وهو الذي أقْدَر الكَافِر على الكُفْر فَقُدْرَةُ الكُفْر إن لم تَصْلُح للإيمان، فخالِقُ تلك القُدْرَة لا شكَّ أنه كان مُريداً للكُفْر، فإن كان صَالِحة للإيمان، لَمْ يَتَرجَّحْ جانب الكُفْرعلى جَانِب الإيمان، إلاَّ عند حصولِ داعٍ يَدْعُو إلى الإيمان، وإلاَّ لَزِم رُجْحان أحد طرَفِي المُمْكِن على الآخر [ لا ]٢ لمرجِّح. وهو مُحَالٌ، ومَجْمُوع القُدْرَة مع الدَّاعِي إلى الكُفْر، يُوجِب الكُفْرَ، فإذا كان خالِق القُدْرة والدَّاعِي هو اللَّه-تعالى-، وثبت أنَّ مَجْمُوعَهما يوجِبُ الكُفْر، ثبت أنَّ الله -تعالى- أراد الكُفْر من الكافِرِ.
وثانيها : أنَّ الله -تبارك وتعالى- كان عالماً بعدم الإيمان من الكَافِر، ووجُود الإيمَان مع العِلْم بِعدم الإيمان مُتضَادَّانِ، ومع وُجودِ أحَد الضِّدَّيْن كان حُصُول الضدِّ الثاني محالاً، مع العِلْمِ بِكَوْنه محالاً غير مُرَادِ، فامْتَنَع أن يُقال : إنه -تعالى- يريد الإيمان من الكافر.
وثالثها : هَبْ أن الإيمان الاخْتِيَاري أفْضلُ وأنْفع من الإيمان الحَاصِل بالجَبْر والقَهْر، إلاَّ أنَّه- تعالى لما عَلِم أنَّ ذلك النَّفْع لا يَحْصُل ألْبَتَّةَ، فقد كان يَجِبُ في رَحْمَته وحكمته، أن يخلق فيهم الإيمان على سَبِيل الإلْجَاء ؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يُوجِب الثُّواب العظيم، فأقَل ما فيه أن يُخَلِّصَه من العِقَاب العَظيم، وتَرْك إيجَاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلْجَاء، يُوجِب وقوعَهُ في أشَدِّ العذاب، وذلك لا يَلِيقُ بالرَّحمة والإحْسان، كما إنَّ الوالد إذا كان له ولدٌ عزيزٌ، وكان الأبُ في غَاية الشَّفَقَة، وكان الولدُ واقفاً على طَرف البَحْر، فيَقُول له الوالد : غُصْ في قَعْر هذا البَحْر ؛ لتَسْتَخْرِج اللآلِئ العظيمة الرَّفيعة الغَالِية، وعلِم الوالد قَطْعاً أنَّه إذا غَاصَ في البَحْر، هلك، فهذا الأب وإن كان مشفقا عليه، وجب عليه أن يمنعه من الغوص في قعر البحر، ويقول له : أترك طلب اللآلِئ، فإنَّك لا تَجِدُها وتَهْلَك، والأوْلى لك أن تَكْتَفِي بالرِّزق القَلِيل مع السَّلامة، فأما أنْ يَأمُرَه في قَعْر البحر مع تيقّن الهلاك، فهذا يدلُّ على عَدَم الرَّحْمة ؛ وكذا هَهُنَا٣.
قوله :" وَمَا جَعَلْنَاكَ " " جعل " بمعنى : صيَّر فالكافُ مَفْعُول أول، و " حفيظا " هو الثاني، و " عليهم " متعلق به، قدّم للاهتمام أو للفواصل، ومفعول " حَفِيظ " مَحْذُوف، أي :" حفيظاً عليهم أعْمالهم ".
قال أبُو البقاء٤ :" هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه٥ في إعْمَال فَعِيل " يعني : أنه مِثالُ مُبالَغة، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه، ونفاه غَيْرُه.
[ قال شهاب الدين٦ ]٧ : يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ ؟
قوله :" وَمَا أنْتَ " يجُوز أن تَكُون " مَا " الحجازية، فيكُون " أنْتَ " : اسْمُهاَ، و " بوكيل " : خبرها في مَحَلِّ نصْب، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة ؛ فيكون " أنْتَ " : مبتدأ و " بوكيل " : خَبَره في محلِّ رفع، والباءُ زائدة على كلا التَّقْديرين، و " عليهم " : متعلِّق بوكيل قُدِّم لما فيما قَبْلَه، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها ؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم، وهو بِمَعْنَى : ما جَعَلْنَاكَ حفيظاً عليهم، أي : رقيباً.
واعلم أنه -تبارك وتعالى- لما بيَّن أن لا قُدْرَةَ لأحد على إزالة الكُفْر عَنْهُم، ختم الكلام بما يَكْمُل معه تَبْصير الرَّسُوال ؛ لأنَّه لما بيَّن له قَدْر مَا جَعَل إلَيْه، فذكر أنَّه ما جَعَله عليْهم حَفِيظاً ولا وَكِيلاً، وإنَّما فوَّض إليه البَلاغ بالأمْر، والنَّهْي، البَيَان بذكر الدَّلائل، فإن انْقَادُوا للقَبُول، فنفعه عَائِدٌ إلَيْهم، وإلا فضرَرُه عَائِدٌ إليهم.
قال عطاء : وما جَعَلْنَاك علهيم حَفِيظاً : تمنعهم منِّي، أي : لم تُبْعَثْ لِتَحْفَظ المُشْرِكين من العذاب، إنما بُعِثْت مُبَلِّغاً، وما أنت عليهم بِوَكيل على سَبيل المَنْع لَهُم.
١ ينظر: الرازي ١٣/١١٣..
٢ سقط في أ..
٣ ينظر: الرازي ١٣/١١٤..
٤ ينظر: الإملاء ١/٢٥٧..
٥ ينظر: الكتاب ٢/٢٥٥..
٦ ينظر: الدر المصون ٣/١٥٣..
٧ سقط في أ..
اعلم أنَّ متعلَّق هذا بما قَبْلَه: أنَّه لا يَبْعُد ان بَعْض المُسْلمين كان إسمع قَوْل المُشْرِكين للرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما جَمَعْت هذا القُرْآن من مُدارَسَة النَّاس، غَضِب، وشَتَم آلِهَتَهُم المُعَارِضة، فنهي الله - تعالى - عن ذَلِك؛ لأنَّك متى شتمت آلِهَتَهُم، غَضِبُوا، فَرُبَّما ذكر اللَّه - تبارك وتعالى - بِمَا لا يَنْبَغِي، فلذلك وَجَبَ الاحْتِرَاز عن ذَلِك المَقَال، وهَذَا تَنْبِيهٌ على أنَّ الخَصْم إذا شَافَه خَصْمَه بِجَهْل وسفاهِةٍ، لم يَجُزِ لِخَصْمه أن يُشافِهَهُ بمثل ذلك، فإن ذلك يُوجِبُ فتْح باب المُشَاتَمَةِ والسَّفاهَة، وذّلِك لا يَلِيق بالعُقلاء.

فصل في المراد بالآية


قال ابْن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لمَّا نزل قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قال المُشْرِكُون: يا مُحَمَّد، لَتَنْتَهِيَنَّ عن سَب آلهتنا، أو لَنَهْجُرَنّ ربَّك؛ فنزلت هذه الآية، وهَهُنا إشكالان.
أحدهما: أن النَّاس اتَّفَقُوا على أن هذه السُّورة نزلت دَفْعَةً واحِدَةً، فكيْف يُمْكن أن يُقال: سبَبُ نُزُول هَذِهِ الآية الكَرِيمة كَذَا.
362
والثاني: أن الكُفَّار كانوا مُقِرِّين اللَّهِ - تعالى -؛ لقوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] وكانوا يَقُولُون: إنّما نَعْبُد الأصْنَام؛ لِتَصير شُفَعَاؤُنَا عِنْد الله، فكيف يُعْقَل إقْدَامهم على شَتمِ اللَّه وسبِّه.
وقال السُّدِّيُّ: «لما قربت وفاةُ أبي طالبِ، قالت قُرَيْشُ: ندخل عليه، ونَطْلُب منه أنْ يَنْهَي ابْن أخيه عَنَّا، فإنا نَسْتَحِي أن نَقْتُلَه بعد مَوْته، فَنَقُول العرب: كان يَمْنَعُه عَمُّه، فلما ماتَ، قتلوه؛ فانْطَلَقَ أبو سُفْيَان، وأبُو جَهْلٍ، والنَّضْرُ بن الحَرارِثِ، وأمَيَّةُ وأبَي ابنا خَلَف، وعُقْبَةُ بن أبي معيط، وعَمْرُو بن العَاصِ، والأسْوَد بن أبِي البُخْتُري إليه، وقالُوا: يا أبا طالبٍ، أنت كَبِيرُنا وسيِّدُنا، وإن محمَّداً آذَانَا وآلهتنا، فنحب أن تَدْعُوَه وتنهاه عن ذكْر آلِهَتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه، فقال: يا مُحَمُّد، هؤلاء قَوْمُك، وبَنُو عَمِّك يطلُبُوك أن تَتْرُكَهم على دينهم، وأنْ يَتْركُوكَ على دينك، وقد أنْصَفَك قومك، فاقْبَل مِنْهم، فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرأيْتُم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها مَلَكْتُم بها العرب، ودَانَت لكم بها العَجَم قال أبُو جَهْلِ: نَعَم وأبيك، لَنُعْطِيَنّكَهَا، وعشرة أمْثَالِهَا، فما هي؟
قال:»
قولوا: لا إله إلاَّ الله «فأبَوْا ونَفَرُوا، فقال أبُو طالب: قُلْ غَيْرَها يا بابْن أخي، فقال: يا عمَّ، ما أنا بالَّذِي أقُول غَيْرَها، ولَوْ أتَوْني بالشَّمْسِ فَوضَعُوها في يَدِي. فقالوا: لتكُفَّنَّ عن سب آلِهَتِنا، وأو لنَشْتُمَنَّك أو لنشتُمَنَّ من يأمرك بِذلكِ،» فأنْزَل الله - تعالى الآية الكريمة.
وفيه الإشكالان، ويمكن الجواب مِن وُجُوه:
الأول: أنه رُبَّما كان بَعْضُهُم قائِلاً بالدَّهر ونفي الصَّانع، فيأتي بهذا النَّوْع من الشَّفاعة.
الثاني: أن الصَّحابة - ر ضي الله عنهم - متى شَتَمُوا الأصْنَام، فهم كَانُوا يَشْتُمون الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فاللَّه - تعالى - أجْرَى شَتْم الرَّسُول مَجْرىللَّه - تعالى -؛ كقوله: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ﴾ [الفتح: ١٠] وكقوله: ﴿إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٥٧].
الثالث: أنه رُبَّما كان في جُهَالِهم، مَنْ كان يَعْتَقِد أنَّ شَيْطَانَاً يَحْمِلُه على ادِّعاء النُّبُوة والرٍّسالة، ثُمَّ إنَّه لجَهْلِه، كان يُسَمَّى ذلك الشَّيْطان بأنه إله محمَّد، فكان يَشْتم إله محمَّد بناءً على هذا التَّأويل.
وقال قتادة: كان المُسْلِمُون يسُبُّون أصْنَام الكُفَّار، فَنهَاهم اللَّه - تعالى - عن ذَلِك؛ لِئَلاَّ يَسُبُّوا اللَّه، فإنهم جَهَلة.
363
فإن قيل: شَتْم الأصنام من أصُول الطَّاعات، فكَيْفَ يَحْسُن أن يَنْهَى عَنْه.
فالجوابُ: أن هذا الشَّتم وإن كان طَاعَةً، إلاَّ أنَّه إذا وَقَع على وَجْه يستَلْزِم وجُودَ منكر عَظِيم، وجب الاحْتِرَاز مِنْه، والأمر هَهُنا كذلك؛ لأنَّ هذا الشتْم كان يَسْتَلِزم إقْدامهم على شَتْم اللَّه، وشَتْم رَسُوله، وعلى فَتْح باب السَّفاهة، وعلى تَنْفِيرهم عن قُبُول الدِّين، وإدْخَال الغَيْظ والغَضَب في قلوبهم، فَلِهذه المُنْكشرات وقع النَّهْي عنه.
قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّه﴾ يجُوز أن يتعلَّق ب «يَدْعُونَ» وأن يتعلَّق بمحذُوفِ على أنَّه حالٌ: إمَّا من الموصُول، وإمَّا من عَائِدِه المَحْذُوف، أي: يَدْعُونهم حَالَ كونهم مستَقِرِّين من دُونِ اللَّه.
قوله: «فَيَسُبُّوا» الظَّاهر أنه مَنْصُوب على جواب النَّهي بإضمار أنْ بعد الفَاءِ، أي: «لا تَسُبُّوا آلهتَهُم، فقد يترتَّبُ عليه مَا يَكْرَهُون مِنْ سَبِّ اللَّه»، ويجُوز أن يكُون مَجْزُوماً نسقاً على فِعْل النَّهْي قَبْلَه؛ كَقَوْلِهم: «لاتَمْدُدْها، فتشُقَّها» وجَازَ وُقُوع «الَّذِين» - وإن كان مُخْتَصًّا بالعُقلاء - على الأصْنَام الَّتِي لا تَعِقْلُ، معاملة لها مُعامَلة العُقلاء؛ كما أوْقَع عليْها «مِنْ» في قوله: ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧].
قال شهاب الدِّين: وفيه نَظَر؛ لأنَّ «الَّذِي» و «الَّتِي» وسائِر المَوْصُولات ما عَدَا «مَنْ» فإنَّها تدخل على العُقَلاء وغيرهم، تقول: أنت الرُّجُل الَّذِي قَام، ورَأيْت الفَرَس الَّذِي اشْتَرَيته، قال: ويَجُوز أن يَكُون ذَلِك للتَّغُلِيب، لأن المَعْبُود مِن دُون اللَّه عُقلاء؛ ك «المَسِيح» و «عُزَيْر» و «المَلاَئِكَة» وغيرهم، [فغلَّب] العَاقِل، وهذا بَعِيدٌ؛ لأنَّ المُسْلِمين لا يسبّون هؤلاء ويَجُوز أنْ يُرَاد بالَّذين يَدْعُون: المُشْرِكين، أي: لا تَسُبُّوا الكَفَرة الَّذِين يَدْعون غَيْر اللَّه من دُون الله، وهو وَجْهٌ وَاضِح.
قوله: «عَدْواً» الجُمْهُور على فَتْح العَيْن، وسُكون الدَّال، وتَخْفِيف الواوِ ونصبه من ثلاثة أوْجُه:
أحدها: أنه مَنْصُوب على المَصْدَر؛ لأنَّه نوع من العَامِل فِيهِ، لأنَّ السَّبَّ من جِنْس العَدْو.
والثاني: أنَّه مَفْعُول من أجْلِه، أي: لأجْل العَدْو، وظاهر كلام الزَّجَّاج: أنه خَلَط القَوْلَين، فجَعَلهُمَا قَوْلاً واحداً، فإنه قال: «وعَدْواً» مَنْصُوب على المَصْدر؛ لأن المعنى فَتَعْدُوا عَدْواً.
قال: «ويكُون بإرَادَة اللاَّم» والمعنى «: فيسُبُّوا الله للظُّلْم.
364
والثالث: أنَّه مَنْصُوب على أنَّه وَاقِع مَوْقِع الحالِ المُؤكدة؛ لأنَّ السَّبَّ لا يَكُون إلا عَدْواً.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء، ويعقوب، وقتادة، وسلام، وعبد الله بن زَيْد:» عُدُواً «بضم العَيْن والدَّال، وتشديد الواو، وهو مصدر أيضاً ل» عَدَا «وانتِصَابهُ على ما تقدَّم من الأوجه الثلاثة.
وقرا ابن كثير في روايةٍ - وهي قراءة أهْل مَكَّة المشرفة فيما نَقَلَهُ النَّحَّاس:»
عَدُوّاً بفتح العَيْن، وضمِّ الدَّال، وتَشْديد الواو، بمَعْنى: أعداء، ونَصْبُه على الحالِ المُؤكدة، و «عَدُوُّ» يجُوز أن يَقَع خبراً عن الجَمْع، قال - تعالى: ﴿هُمُ العدو﴾ [المنافقون: ٤]، وقال - تعالى -: ﴿إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ [النساء: ١٠١]،
ويُقال: عَدا يَعْدُو عَدْواً، وعُدُواً، وعُدْواناً وعَداءً، و «بغير عِلْم» حَال، أي: «يَسْبُّونه غير عَالِمين» أي: «مُصَاحِبِين للجَهْل» ؛ لأنَّه لو قدَّر حقَّ قَدْره، لما أقْدَموا عليه.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


ققال الجُبَّائي: دلَّت هذه الآية الكَرِيمة، على أنَّه لا يجُوز أن يُفْعَل في الكُفَّار ما يَزْدَادون به بُعْداً عن الحقِّ، إذ لو جَازَ أن يَفْعَلَه، لجاز أن يَأمر بِه وكان لا ينْهَى عمَّا ذَكَرْنا، ولا يَأمر بالرِّفْق بهم عند الدُّعَاء؛ كقوله لِمُوسَى، ولِهَارُون: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٤] وذَلِك يُبْطِل مذهب الجَبْرِية.
قالوا: وهذه الآية الكريمة تَدُلُّ على أنَّ الأمْر بالمَعْرُوف، قد يقبح إذا أدَّى إلى ارْتِكَاب مُنْكَر، والنَّهْي عن المُنْكَر يَقْبُح إذا أدَّى إلى زيادة مُنْكَر، وغلبة الظَّنِّ قائمة مَقَام العِلْم في هذا البَاب، وفيه تَأدِيب لمن يَدْعُوا إلى الدَّين؛ لئلا يَتَشاغل بما لا فَائِدة لهُ في إلهيَّتِهَا، فلا حَاجَة مع ذَلِك إلى شَتْمِها.
قوله: «كَذَلِكَ» : نعت لِمَصْدر مَحْذُوف، أي: زَيَّنَّا لِهؤلاء أعمالهم تزييناً، مثل تَزْييننَا لكلِّ أمَّةٍ عَمَلَهم.
وقيل: تقديره: مثل تَزْيين عِبَادة الأصْنَام للمُشْرِكين «زيَّنَّا لكل أمَّةٍ عَمَلهم» وهو قَريب من الأوَّل، والمَعْنَى زينَّا لكل أمَّةٍ عَمَلهم من الخَيْر والشَّر، والطّاعة والمَعْصِية، ثم إلى ربِّهم مَرٍْجِعهم، فيُنَبَّئهم ويجازيهم بما كَانُوا يَعْمَلُون.
365

فصل في الاستدلال بالآية


احتجَّ أهْل السُّنَّة بهذه الآية الكريمة، على أنَّ اللَّه - تعالى - زيَّن للكَافِر الكُفْر، وللمُؤمِن الإيمان، وللعَاصِي المَعْصِيَة، وللمُطِيع الطَّاعة.
قال الكَعْبِي: حَمْل الآية على هَذَا المَعْنَى مُحَال؛ لأنه - تبارك وتعالى - هو الَّذي يَقُول ﴿الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٥] ويقول ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات﴾ [البقرة: ٢٥٧] ثمَّ إنهم ذكَرُوا في الجوابِ وُجُوهاً:
الأول: قال الجُبَّائي: زينَّا لكلِّ أمَّةٍ تقدَّمت ما أمَرْنَاهم به مِنْ قَول الحقِّ.
وقال الكَعْبِيَ: إنَّه - تعالى - زيَّن لَهُم ما يَنْبَغِي أن يَعْمَلُوا، وهم لا يَنْتَهُون.
الثاني: قال الآخَرُون: زينَّا لكُلِّ أمَّة من أمم الكفار سوء عَمَلهم، أي: جَعَلْنَاهم وشَأنهم، وأمْهَلْنَا حتى حَسُن عِندهم سُوءُ عَمَلِهِم.
الثالث: أمْهَلنا الشَّيطان حتى زيَّن لَهُم.
الرابع: زيَّناه في زَعْمِهِم، وهذه وجوهٌ ضَعِيفَة؛ لأن الدليل العَقْلي [القَاطِع] دل على صِحَّةِ ما أشْعَر به ظَاهِر النَّصِّ؛ لأنَّا بينَّا أن صدُور الفَعْل عن العَبْد، يتوقُّفُ على حُصُول الدَّاعي، وأن تِلْك الدَّاعية لا بدَّ وأن تكُون بِتَخْلِيق اللَّه - تعالى -، ولا مَعْنى لِتِلْك الدَّاعية إلا عَمَله واعتِقَاده، أو ظَنّه باشْتِمَال ذَلِك الفِعْلِ على نَفْع زَائِد، ومَصْلَحة راجِحَة، وإذَا كانت تلك الدَّاعية حَصَلتْ بفِعْل اللَّه - تعالى -، امتنع أن يَصْدُر عن العَبْد فِعْلٌ، ولا قولٌ، وحَرَكَةٌ، إلاَّ إذا زَيَّن اللَّه - تعالى - ذلك الفِعْل في قَلْبِه، وضميره، واعتِقَاده، وأيضاً، أن الإنْسَان لا يخْتَاره لاعْتِقَاد كَوْنه إيماناً، وعلماً، وصِدقاً، وحقّاً، فلولا سَابقة الجَهْل الأوَّل، لما اخْتار هذا الجَهْل الثاني: ثُمَّ إنه لما اخْتار ذلك الجَهْل السَّابع، فإن كان اخْتِيَار ذلك لسابق آخر، لَزِم أن يَسْتَمِرَّ ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات، وذلك مُحال؛ فوجَبَ انتهاء تلك الجَهَالات إلى جَهْل أوَّل يَخْلُقه الله - تعالى - فيه ابْتِدَاء، وهو بِسَببِ ذلك الجَهْل ظنَّ في الكُفْر كَوْنه إيماناً، وحقاً وعلماً؛ فثبت إنه يَسْتَحِيل من الكافر اخْتِيَار الكُفْر والجَهْل، إلاَّ إذا زيَّن اللَّه - تعالى - ذلك الجَهْل في قَلْبِه؛ فثبت بِهَذَيْن البُرْهَانَيْن القَاطِعَينْ، أن الَّذي يدلُّ عليه ظَاهِر هذه الآية؛ هو الحقُّ الذي لا محيد عنه، قبطلت تأويلاتهم بأسْرها؛ لأنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يكون عند تَعَذُّر حمل الكلام على ظَاهِره، وأمَّا لما قال الدَّليل على أنَّه يمكن العُدُول عن الظَّاهِر، فسقطت هذه التَّكْلِيفات، وأيضاً: فوقه: «كذلِك زَيَّنَّا لِكُلِّ أمَّةٍ عَمَلَهُم» بعد قوله: «فَيَسُبُّوا اللَّه عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ».
366
مشعر بِأنَّ إقْدَامهم على ذَلِك المُنْكَر إنَّما كان بِتَزْيين اللَّه تعالى، فأمَّا أنْ يُحْمَل ذلك على أنَّه - تبارك وتعالى - زيَّن الأعْمَال الصَّالحة في قُلُوب الأمَم، فكان هذا كلام مُنْقطع عما قَبْلَه، وأيضاً: فقوله: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ : يتناول الأمم الكَافِرة والمُؤمِنَة، فتَخْصيصُ هذا الكلام بالأمَّة المُؤمِنَة، ترك لِظَاهر العُمُوم.
367
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الآية الكريمة.
لما طَعَنُوا في النُّبُوة بِمُدَارسة العُلمَاء، حتى عَرَف التَّوْراة والإنجيل، ثم جعل السُّور والآياتِ بِهَذا الطَّريف، وأجاب اللَّه - تعالى - عن هذه الشُّبْهَة، ذكر في هذه الآية شُبْهَة لَهُم أخْرَى، وهي أنَّ هذا القرآن العَظيم لَيْس من جِنْس المُعْجِزاتِ البَيِّنَة، ولو أنَّك يا محمَّد جِئْتَنا بِمُعْجِزَة وبيِّنَة بَاهِرة، لآمَنَّا بك وحلفوا على ذلك، وبالغُوا على ذلك تَأكيد الحَلْف.
قال الواحدي: إنَّما سُمِّي اليمين بالقَسم؛ لأن اليَمين مَوْضُوعة لِتَأكيد الخَبَر الَّذِي يُخْبرُ به الإنْسَان: إمَّا مُثْبِتاً للشَّيء، وإمَّا نافياً، ولما كان الخبر يَدْخله الصِّدْق والكذِب، احَتَاج المُخبر إلى طريق به يُتَوسَّل إلى تَرْجِيح جَانِب الصِّدْق على جَانِب الكَذب، وذلك هو الحَلْف، ولما كانت الحَاجَةُ إلى ذَكْر الحَلف، إنَّما تَحْصُل بالقَسَم، وبنُوا تِلْك الصِّيغة على «أفْعَل» وقالُوا: أقسم فلانٌ يقسم إقساماً، وأرَادُوا: أنه أكَّد القَسَم الذي اخَتَاره، وأحَال الصِّدْق إلى القَسَم الذي اختارَه بواسِطَة الحَلْفِ واليَمِين.
قوله: «جَهْد أيْمَانِهِم» تقدم الكلام عَلَيه في «المائدة».
وقرا طَلْحَة بن مُصَرِّف: «ليُؤمَنَنْ» مَبْنياً للمفعول مؤكّداً بالنون الخفيفة، ومَعْنَى «جهد أيمانهم» : قال الكَلْبِيُّ ومُقَاتِل: إذا حلف الرَّجُل باللَّه جَهْد يَمِينه، وقال الزَّجَّاج: بالَغُوا في الإيْمَان.

فصل في سبب النزول


قال مُحَمَّد بن كَعْب القُرظي: «قالت قُرَيش: يا مُحَمَّد إنَّك تُخْبِرنا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسلام - كانت معه عَصاً يَضْرِ ب بها الحجر، فَيَنْفَجِر منه الماءُ اثْنَتي عَشْرَة عَيْناً،
367
وتُخْبِرُنا: أنَّ عيسَى كان يُحْيِي الموْتَى، وأن صَالِحاً أخَرْج النَّاقَة من الجَبَل؛ فأتِنَأ أنْتَ أيْضاً بآيةٍ، لِنُصَدِّقَك. فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ما الذي تُحِبُّون؟ قالوا: تَجْعل لنا الصَّفَا ذَهَباً، أو ابْعث لنا بَعْض مَوتَانا حتى نَسْأله عنك؛ أحقُّ ما تَقُول، أمْ بَاطِلٌ، أو أرنا الملائكة يَشْهَدُون ذَلِك، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فإن فَعَلْت بَعْضَ ما تَقُولُون، أتصدِّقُوننِي؟
قالوا: نَعَمْ واللَّه، لأن فعلْت، لنتَّبِعَنَّكَ، فقام - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يدعو فَجَاءَهُ جِبْريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال: إن شئْت، كان ذَلِك ولَئِنْ كان، فلم يصَدَّقوا عنده، لنُعَذَّبَنهُمْ، وإن شئت تركتهُم حتى يَتُوب تَائِبُهم، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بل حتَّى يَتُوب تَائِبُهم،» فأنْزَل الله - تعالى - الآية الكريمة.
وقيل: لما نزل قوله - تعالى -: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]، أقْسَم المُشرِكُون باللَّه، لئمن جَاءَتْهُم آية، ليُؤمِنُنَّ بها، فنزلت الآية الكريمة.
واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالآية.
وقيل: هي الأشْيَاء المذْكُورة في قوله - تبارك وتعالى -: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾
[الإسراء: ٩٠].
وقيل: إن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُخْبِرُهم: بأنَّ عذاب الاسْتِئْصال كان يَنْزِل بالأمَمِ المَاضية الذين كذَّبُوا أنْبِيَاءَهُم، فالمُشْرِكون طَلَبُوا مِثْلَها.
قوله: «إنَّما الآيَاتُ عِنْد اللَّه» ذكروا في لَفْظِةِ «عِنْد» وجوهاً:
فقيل: معناه: أنه - تبارك وتعالى - هو المُخْتَصُّ بالقُدْرَة على أمْثَال هذه الآيات دون غَيْره؛ أن المُعجِزَات الدَّالَّة على النُبُّوَّات، شرطها أن لا يَقْدِر على تَحْصيها أحَد إلى الله - تعالى -.
وقيل: المُراد بالعِنديَّة: أن العِلْم بأن إيجاد هذه المُعْجِزَات، هل يَقتضي إقْدَام هؤلاء الكُفَّار على الإيمان أم لا؟ ليْس إلا عِنْد اللَّه، كقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩].
وقيل: المراد: أنَّها وإن كانت مَعْدومة في الحالِ، إلا أنَّه - تعالى - متى شَاءَ، أوْجَدَها، فَهِي جَارِيَةٌ مُجْرى الأشْيَاء الموضُوعة عِنْد اللَّه، يُظْهِرهَا متى شاء، وليْس لكُم أنْ تَتَحَكَّموا في طَلَبِها، ولَفْظ «عند» على هذا؛ كما قي قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ [الحجر: ٢١].
368
قوله: «وَمَا يُشْعِرُكُم» «ما» : استِفْهَامِيَّة مُبْتَدأ، والجملة بَعْدَها خَبْرُهَا، وفاعل «يُشْعِر» يعود عَلَيْها، وهي تتعدى لاثْنَيْن.
الأوَّل: ضمير الخطاب.
والثاني: مَحْذُوف، أي: وأيُّ شَيءْ يدرِيكُم إيمانُهم [إذا جَاءَتْهُم الآيَات التي اقْترَحُوها.
قال أبو علي: «مَا» استِفْهَام، وفَاعِل «يُشْعِرُكُم» ضمير «مَا» والمعنى: وما يُدْرِيكم إيمانهم؟ فحذف المَفْعُول، وحذف المفعُول كَثِير].
والمعنى أي: بِتَقْدير أنْ تَجِيئَهم هَذِه الآيَات، فهم لا يُؤمِنُون.
وقرأ العامَّة: انها بِفَتْح الهَمْزة، وابن كثيرٍ وأبُو عَمْرو، وأبُوبَكْر بخلاف عنه بِكَسْرِها.
فأما قرءاة الكَسْر: فَوَاضِحَة اسْتجودها النَّاس: الخَلِيل وغيْره، لأن معناها: اسْتِنَاف إخْبَار بعدم إيمان من طُبع على قَلْبِه، ولو جَاءَتْهُم كلُّ آيَة.
قال سيبويه: سَألْتُ الخَلِيل عن هذه القراءة عين: قِرَاءة الفَتْح فَقُلْت: ما مَنَع أن يكُون كقولك: ما يُدْرِيك أنّه لا يَفْعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا المَوْضِع، إنَّما قال: «ومَا يُشْعِرُكم» ثم ابْتِدأ؛ فأوْجَب، فقال: «إنَّها غذا جَاءَت، لا يُؤمِنُون» لو فتحن فقال: «وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون»، لكان عُذْراً لهم، وقد شرح النَّاس قَوْل الخَلِيل، وأوْضَحُوه، فقال الواحدي وغيره: لأنَّك لو فَتَحْت «أنّ» وجَعَلْتَها الَّتِي في نَحْو: بَلَغَنِي أنَّ زيداً مُنْطَلِق، لكان عُذْراً لمنَ أخبر عَنْهُم أنَّهم لا يُؤمِنُون؛ لأنَّه إذا قال القَائِل: «إنَّ زَيْداً لا يُؤمِن» فقلت: وما يُدْرِيك أنَّه لا يُؤمِن؟ كان المَعْنَى: أنه يُؤمِن، وإذا كان كذلك، كان عُذْراً لمن نفي عنه الإيمان، وليس مُرادُ الآية الكريمة، إقامة عُذْرهم، ووجود إيمانهم.
وقال الزَّمَخْشَري: «وقُرِئ» إنَّها «بالكَسْر؛ على أنَّ الكلام قد تمَّ قبْله بِمَعْنَى:» مَا يُشْعِرُكُم ما يَكُون مِنْهُم «ثمَّ أخبَرَهم بِعِلْمه فِيهِم، فقال: إنَّها إذَا جَاءَت، لا يُؤمِنُون».
وأما قِرَاءة الفَتْح: فقد وَجَّهَها النَّاسُ على سِتَّة أوْجُه:
أظهرها: أنَّها بمعنى: لَعَلَّ، حكى الخَلِيل «أتيت السُّوق أنَّك تَشْتَرِي لَنَا مِنْهُ شَيْئاً»
أي: «لَعَلَّك» فهذا من كلام العرب - كما حَكَاه الخَلِيل - شَاهد على كَوْن «أنَّ» بِمَعْنَى لَعَلَّ وانْشَد أبو جَعْفَر النَّحَّاس: [الطويل]
369
٢٢٨٠ - أرينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأنَّنِي أرَى ما تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا
وقال امرؤ القيس - أنشده الزَّمَخْشَريُّ -[الكامل]
٢٢٨١ - عُوجَا على الطَّلَلِ المُحِيل لأنَّنَاِ بنْكِي الدِّيارَ كَمَا بَكَى ابنُ حِذَامِ
وقال جري: [الوافر]
٢٢٨٢ - هَل أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا نَرَى العَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الخِيَامِ
وقال عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ: [الطويل]
٢٢٨٣ - أعَاذِل مَا يُدْريكَ أنَّ مَنْيَّتِي إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أوْ فِي ضُحَى الغَدِ
وقال آخر: [الزجر]
٢٢٨٤ - قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهْ أنَّا نُغَذِّي النَّاسَ مِنْ شِوَائِهْ
ف «أنَّ» في هذه المواضِع كلِّها بِمَعْنَى: «لعلَّ» قالوا: ويدلُّ على ذَلِك أنَّها في مُصْحَف أبَيِّ وقراءته: «وما أدْرَاكُم لعلَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون» ونُقِل عنه: «وما يُشْعِرُكم لعلِّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون» ذكر أبُو عُبَيْد وغيره، ورَجَّحُوا ذلك أيْضاً بأنَّ «لَعَلَّ» قد كَثُر ورودُها في مِثْل هذا التَّركِيب؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧]، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى﴾ [عبس: ٣]، وممَّن جعل «أنَّ» بِمَعْنَى:
«لعل» أيْضاً، يَحْيَى بن زِيَاد الفرّاء.
ورجَّح الزَّجَّاج فقال: «زعم سِيبوَيْه عن الخَلِيل، أن مَعْنَأها:» لَعَلَّهَا «قال:» وهَذَا الوَجْه أقْوى في العَرَبِيَّة وأجود «ونَسَب القراءة لأهْل المدين’ن وكذا أبُو جَعْفَر.
قال شهاب الدِّين: وقراءة الكُوفيِّين، والشَّامِيِّين أيضاً، إلاَّ أن أبَا عَلِيَّ الفارسيَّ ضعَّف هذا القَوْل الَّذِي استجوده النَّاسُ، وقوَّوْهُ تَخْريجاً لهذه القِراءة، فقال:»
التَّوَقُّع الَّذِي تدلّ عليه «لَعَلَّ» لا يُنَاسب قراءة الكَسْر، لأنها تدلُّ على حُكْمِه - تعالى - عليهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون «ولكنَّه لمَّا مَنَعَ كونها بِمَعْنَى:» لعل «لم يَجْعَلءها مَعْمُولة ل» يُشْعِرُكُم «بل جَعَلها على حَذْف لام العِلَّة، أي: لأنَّها، والتَّقْدِير عنده:» قل إنَّما الآياتِ عِنْد اللَّهِ،
370
لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون «. فهو لا يَأتِي بَهَا؛ لإصْرارهم على كُفْرِهم، فيَكُون نَظِير: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون﴾ [الإسراء: ٥٩]، أي بالآيات المُقْتَرحة، وعلى هذا فيَكُون قوله:» وما يُشْعِرُكُم «اعتِرَاضاً بين العِلَّة والمَعْلُول.
الثاني: ان تكون»
لاَ «مَزِيدة، وهذا رَأي الفرَّاء وشيخه، قال: ومثله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] أي:» أنْ تَسْجُد «فيكون التَّقْدير: وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَت يُؤمِنون، والمعنى على هذا: أنَّها لو جَاءَت لم يُؤمِنُوا، وإنما حمله على زِيَادَتِها ما تقدَّم من أنَّها لو تُقدَّر زَائِدة، لكان ظَاهِرُ الكلام عُذْراً لكُفَّار، وأنَّهم يُؤمِنون كا عرفت تَحْقيقه أولاً، إلا أن الزَّجَّاج نسب ذلك إلى الغَلَط، فقال:» والَّذِي ذكر أنَّ «لا» لَغْو، غالط؛ لأن ما يَكُون لَغْواً، لا يكون غَيْر لَغْوٍ، ومن قَرَأ بالكَسْر، فالإجْمَاع: على أنَّ «لا» غير لَغْو «فليس يَجُوز أن يكُون مَعْنَى لفظة: مرةً النَّفي، ومرَّة الإيجاب في سِيَاق واحد.
وانصر الفارسيّ لقول الفرَّاء، ونفي عنه الغَلَط، فإنَّه قال: «يجوزُ أن تكون»
لا «في تأويل زائِدةً، وفي تَأويل غَيْر زَائدة؛ كقول الشَّاعر في ذلك: [الطويل]
٢٢٥٨ - أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ نَعَمْ بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
يُنشد بالوَجْهَيْنِ، أي: بِنَصْب»
البُخْل «وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه، كانت زائدة، أي:» أبَى جُودُه البُخْلَ «ومَنْ خَفَضَ، كانت غَيْر زَائِدة، وأضَافَ» لاَ «إلى البُخْلِ».
قال شهاب الدِّين: وعلى تَقْدير النَّصْب، لا يَلْزَم زِيَادتها؛ لجوازِ أن تكُون «لا» مَفْعُولاً بِهَا، و «البُخْل» بدل مِنْهَا، أي «أبَى جُودُه لَفْظَ» لا «ولفظ» لا «هو بُخْل». وقَدْ أوائل لك طَرف من هذا محقَّقاً عند قوله - تعالى - ﴿وَلاَ الضآلين﴾ [الفاتحة: ٧] [في أوائل هذا الموضوع] وسَيَمُرُّ بك مَوَاضِع مِنها؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥].
قالوا: تَحْتَمل الزِّيَادة، وعدمها وكذا ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]، ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: ٢٩].
الثالث: أن الفَتح على تَقْدِير لام العِلَّة، والتَّقْدير: «إنما الآيات التي يَقْتَرِحُونها عِنْد اللَّه؛ لأنَّها إذا جَاءتَ لا يُؤمِنُون»، و «ما يُشْعِرُكُم» اعتِرَاض كما تقدَّم تَحْقيق ذلك عن أبي عَلِيِّ، فأغنى عن إعَادَتِهِ، وصار المَعْنَى: «إنَّما الآيَات عند اللَّه، أي: المُقْترحة لا يأتي بِهَا؛ لانْتِفَاء إيمانهم، وإصْرارِهْم على كُفْرِهم».
الرابع: أن في الكلام حَذْف مَعْطُوف على ما تقدَّم.
371
قال أبُو جَعْفَر في مَعَانيه: وقيل في الكلام حَذْف، والمعنى: وما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءت لا يُؤمِنُون أو يُؤمِنُون، فحذفَ هذا لِعْلِم السَّامِعِ، وقدَّرَه غَيره: «ما يُشْعِرُكُم بانْتِفَاء الإيمان، أو وقُوعه».
الخامس: أن «لا» غير مزيدة، ولي في الكلام حَذْف، بل المَعْنَى: «وما يُدريكم انتِفَاء إيمانهم» ويكون هَذَا جواباً لمن حُكِم عليْهم بالكُفر ويُئسِ من إيمانهِمِ.
وقال الزّمَخْشَرِي: «وما يُشْعِرُكم: وما يُدْرِيكثم أنها، أي: أن الآيات التي يَقترِحُونها» «إذا جاءت لا يُؤمِنُون بِهَا» يَعْنِي: «أنَا أعلم أنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا، وأنتم لا تَدْرُون بِذَلك».
وذلك أنّ المُؤمنين كانُوا حَرِيصين على إيمانهم، وطامعين فيه إذا جَاءَت تلك الآيَة، ويتمنَّوءن مَجيئها، فقال - عَزَّ وَجَلَّ َّ -: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ على مَعْنَى: أنكم لا تَدءرُوْنَ ما سَبَقَ عِلْمي بهم، أنهم لا يُؤمِنُون؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠] انتهى.
قال شهاب الدِّين: بَسْطُ قوله إنَّهم كَانُوا يَطْمعُون في إيمانهم، ما جَاءَ في التَّفْسِير: أن المُشْركين قَالُوا لِرسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنْزِلَ عَلَيْنَا الآية الَّتي قال اللَّه فيها: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] ونحن واللَّه نُؤمِن، فأنزل الله تعالى: «وما يُشْعِرُكُم» إلى آخرها وهذا الوَجْه: هو اخْتِيَار أبي حيَّان، فإنَّه قال: «ولا يَحْتَاج الكلام إلى زِيَادة» لاَ «ولا إلى هذا الإضْمَار، يعني حَذْفَ المَعْطُوف، ولا إلى» أنَّ «بِمَعْنَى: لعَّل، وهذا كلُّه خُرودٌ عن الظَّاهِر لغير ضَرُورة، بل حَمْلُه على الظَّاهِر أوْلى، وهو وَاضِحٌ سائغٌ، أي: وما يُشْعِرُكم ويُدْرِيكم بِمَعْرِفة انْتِفَاء إيمانهم، لا سَبِيل لَكُم إلى الشُّعُور بِهَا».
السادس: أن «مَا» حَرْف نَفْي، يَعْني: أنه نَفى شُعُورهم بِذلكِ، وعلى هذا فَيُطْلَبُ ل «يُشْعركُمْ» فاعل.
فقيل: هو ضَمِير الله - تعالى - أضْمر للدَّلالة عَلَيْه، وفيه تكلُّف بعيد، أي: «وما يُشْعِركُم اللَّه إذا جاءت الآيات المُقْتَرحَة لا يُؤمِنُون». وقد تقدَّم في البقرة كيْفِيَّة قِرَاءة أبي عَمْرو ل «يُشْعركم» و ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠]، ونحوهما عند قوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: ٦٧]، وحَاصِلُها ثلاثة أوْجُه: الضَّمُّ الخَالِص، والاختلاس، والسُّكُون المحض.
وقرأ الجُمْهُور: «لا يُؤمنُون» بياء الغَيْبَة، وابن عامر، وحمزة بتاء الخِطَاب.
372
وقرأ أيضاً في الجاثية [آية: ٦] ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ بالخِطَاب، واقفهُمَا عليها الكَسَائِي، وأبُو بكر عن عَاصِم، والباقون: باليَاء للغَيْبَة، فتحصَّل من ذلك أنَّ ابْن عامرٍ، وحَمْزة يقرآن بالخِطَاب في المَوْضِعَيْن، وأن نَافِعاًن وابن كثير، وأبا عَمْرو، وحَفْصاً عن عَاصِم، بالغيبة في الموْضِعَيْن، وأنّ الكَسِائيّ، وأبا بكر عن عن عَاصِم: بالغَيْبَة هُنَا، بالخِطَاب في الجَاثِية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحْدى السُّورَتَيْن والآخر في أخرى.
فأما قِرَاءة الخِطَاب هُناَ: فيكون الظَّاهر من الخِطاب في قوله: «ومَا يُشْعِرُكُم» أنه للكُفَّار، ويتَّضح مَعْنَى هذه القِرَاءة على زيادة «لا» أي: ومَا يُشْعِرُكم أنكم تُؤمِنُون، إذا جَاءَت الآيَات الَّتِي طَلَبْتُمُوها كما أقْسَمْتُم عَلَيْه، ويتَّضحُ أيضاً على كون «أنَّ» بمعنى: لَعَلَّ، مع كون «لا» نَافِية، وعلى كَوْنِها عِلَّة بِتَقْدير: حذف اللاَّم، أي: «إنما الآيات عِنْدالله فلا يَأتِيكم بِهَا؛ لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بها» ويتَّضِحُ أيضاً على كَوْن المَعْطُوف مَحْذُوفاً، أي: «وما يُدْرِيكم بعدم إيمَانِكم، إذا جاءَت الآيات أو وُقُوعه؛ لأن مَآل أمركم مُغَيِّبٌ عَنْكم، فكَيْفَ تُقْسِمُون على الإيمان عِنْد مَجِيئ الآيات؟» وإنَّما يُشْكَل؛ إذا جَعَلْنا «أنَّ» معمولة ل «يُشْعِرُكم» وجَعَلْنَا «لا» : نافية غير زَائِدَة؛ إا يكون المَعْنَى: «وما يُدْرِيكم أيُّهَا المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانكم، إذا جَاءَتْكم»، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنَى: «وما يُدْريكم أيُّها المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانِكم، وإذا جَاءَتْكم»، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنى: ايُّ شَيءْ يُدْرِيكم بِعَدم إيمانِكُم، إذا جَاءَتْكم الآيَات الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوها؟ يعني: لا يمرُّ هذا بِخَواطِرِكم، بل أنْتُم جازِمُونَ بالإيمان عند مجيئها، لا يَصْدُّكم عَنْه صادٌّ، وأ، اأعْلَمُ أنكم لا تُؤمِنُون وَقْت مَجِيئها؛ لأنكم مَطْبُوع على قُلُوبكُم.
وأمَّا على قِراءة الغَيْبَة، فتكون الهَمْزَة معها مكْسُورة؛ وهي قراءة ابْن كَثِير، وأبِي عَمْرو، وأبِي بَكْر عن عَاصِم، ومَقْتوحة؛ وهي قرءاة نافِع، والكسَائي، وحَفْص عن عَاصِم.
فعلى قِرَاءة ابْن كَثِير ومَنْ مَعَه يكون الخِطَاب في: «وما يُشْعِرُكُم» حائزاً فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه خِطَاب للمُؤمِنين، أي: «وما يُشْعِركُم أيُّها المُؤمِنُون إيمانَهُم» ثم اسْتَأنَف إخْباراً عنهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون، فلا تَطْمَعُوا في إيمانهم.
الثاني: أنه للكُفَّار، أي: «وما يُشْعِرُكم أيُّها المُشْرِكون مَا يَكون مِنْكم» ثم اسْتَأنف إخْبَاراً عَنْهم بِعَدَم الإيمَان؛ لعلمه السَّابق فيهم وعلى هَذَا فِفِي الكلام التِفَاتٌ من خِطَاب إلى غَيْبَة.
وعلى قرءاة نَافِع يكون الخِطَاب للكُفَّار، وتكون «أنَّ» بِمَعْنَى: «لعلَّ» كذا قاله أبو شَامَة، وغيره.
وقال أبُو حيَّان في هَذهِ القراءة: «الظَّاهر أن الخِطَاب للمُؤمنين، والمَعْنَى:» وما
373
يُدْرِيكم أيُّهَا المُؤمِنُون، أنَّ الآية الَّتِي تَفْتَرِحُونها إذا جاءت لا يُؤمِنَون «يعني: أنا أعْلَم أنَّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا» ثم سَاق كلام الزَّمَخْشَري بِعَيْنِه الَّذي قدَّمت ذكره عَنْه في الوَجْه الخَامِس قال: «ويبْعدُ جداً أن يكون الخِطَاب في» وَمَأ يُشْعِرُكُم للكُفَّار «.
قال شهاب الدِّين: إنَّما اسْتَبْعَدَه؛ لأنَّه لم ير في»
أنَّ «هَذِه أنَّها بِمَعْنَى:» لَعَل «كما حَكيْته عَنه.
وقد جَعَل أبُو حيَّان في مَحْمُوع»
أنَّها إذا جاءت لا يؤمِنُون «بالنِّسْبَة إلى كَسْر الهمزة وفَتْحِها، والخِطَاب والغَيْبة أرْبع قِرَاءَات، قال: وقرأ ابْن كثير، وأبو عَمْرو، والعُلَيْمِي، والأعْشَى عن أبي بكر.
وقال ابن عَطِيَّة: ابن كَثير، وأبو عمرو، وعَاصِم في رواية داود الأودي] : إنَّها بكَسْر الهَمْزة، وقرأ بَاقِي السَّبْعة: بفتحها، وقرأ ابْن عَامِر وحَمْزة:»
لا تُؤمِنُون «بتاء الخِطَاب، والبَاقُون بياء الغَيْبَة؛ فترتب أرْبَع قِرَاءات: الأولَى: كَسْرُ الهَمْزَة واليَاءِ، ويه قِرَاءة ابْن كَثِير، وأبي عَمْرو، وأبِي بَكْر بخلاف عَنْه في كَسْر الهَمْزَة ثم قال: القِرَاءة الثَّانية: كَسْر الهَمْزَة والتَّاء ويه رِوَاية العُلَمِي والأعْشَى عن أبي بَكْرٍ عن عَاصِم، والمُنَاسب: أن يكون الخِطَاب للكُفَّار في هذه القِرَاءة، وكأنَّه قيل:» وما يُدْرِيكُم أيُّهَا الكُفَّار وما يَكُون مِنْكُم «؟ ثم أخْبرَهُم على جِهَة الجَزَم، أنَّهم لا يُؤمِنُون على تقدير مَجِيئها، ويَبْعُد جداً أن يكون الخِطَاب في:» وما يُشْعِرُكُم «للمُؤمنين، وفي» تُؤمِنُون «لكُفَّار، ثم ذكر القِرَاءة الثُّالِثة، والرَّابعة، ووجَّههُا بنحو ما نقلته عن النَّاس، وفي إثباته القراءة الثَّانية نظر لا يَخْفَى؛ وذلك أنَّه لما حَكَى قِرَاءة الخِطَاب في» تُؤمِنُون «لم يَحْكِها إلا عن حَمْزَة، وابن عَامِر فقط، ولم يَدْخل مَعَهُمَا أبُو بكر لا من طريق العُلَيْمِي، والأعْشى ولا من طَريق غَيْرهما، والفَرْض: أن حَمْزة وابنَ عَامِر يَفْتَحان هَمْزة» أنَّها «وأبُوا بكر يَكْسِرُها وَيفْتَحُها ولِكِنَّه لا يَقْرأ:» يُؤمِنُون «إلاَّ بِيَاء الغَيْبَة، فمن أيْن تجيئ لَنا قِرَاءةٌ بكَسْر الهَمْزة، والخطاب؟ وإنما أتَيْتُ بكلامه برُمَّتِه؛ ليُعْرَف المأخذ عليه ثم إني جوَّزْتُ أنْ تكون هذه رِيوايةً رَوَاها، فكشفتُ كِتَابَه في القِرَاءاتِ، وكان قد أفْردَ فيه فَصْلاً انْفَرد به العُلَيْمِي في رِوَايته، فلم يَذْكُر أنه قرأ:» تُؤمنُون «بالخِطاب ألبَتَّةَ، ثم كَشَفْتُ كتبا في القِرَاءات عَدِيدة، فلم أرهم ذَكَرُوا ذلك، فَعَرفْت أنَّه لما رأيى لِلْهَمْزة حالَتَيْنِ، ولحرف إحْدَاها مُهْمَلة، وقوله:» لا يؤمنون «متعلِّقه مَحْذُوف؛ للعِلْم به، أي:» لايُؤمِنُون بها «.
قوله: «ونُقَلِّبُ»
في هذه الجُمْلَة وجهان:
374
أحدهما: - ولم يقل الزَّمَخْشَري غيره - أنَّها وما عُطِف علَيْها من قوله: «ويذَرُهُم» عطف على «يُؤمِنُون» داخل في حُكْم «ومَا يُشْعِرُكُم»، بمعنى: «وما يُشْعِرُكُم أنَّهم لا يُؤمِنُون» وما يشعركم أنَّا نُقِلِّب أفْئِدَتَهُم وأبصارهم «،» وما يُشْعِرُكم أنَّا نَذَرُهم «وهذا يُسَاعده ما جَاء في التَّفْسير عن ابْنِ عَبَّاسٍ، ومُجَاهد، وبان زَيْد.
والثاني: أنَّهَا اسِتئْنَاف إخبارن وجعله أبُو حيَّان الظَّاهر، والظَّاهر، ما تقدَّم.
»
والأفْئِدة «: جمع فُؤاد، وهو القَلْبُ، ويلطق على العَقْل.
وقال الرَّاغب: الفُؤاد كالقَلْبِ، لكن يُقالَ له: فؤاد إذا اعتبر به مَعْنَى:»
التُّفَؤد «أي: التوقُّد» يقالك «فأدْتُ اللَّحم» : شَوَيْتُه «ومنه» لحم فَئِيد «أي:» مَشْويُّ «وظاهر هذا: أنَّ الفُؤاد غير القَلْبِ، ويقال له:» فؤاد «بالواو الصَّريحة، وهي بَدَل من الهَمْزَة؛ لأنَّه تَخْفِيف قِيَاسيّ، وبه يَقْرأ وَرْش فيه وفي نَظَائِره وصلاً وَوَقْفاً، وحَمْزة وقفاً ويُجْمع على: أفْئِدَة، وهو جَمْع مُنْقَاس، نحو:» غُراب «، و» أغْرِبة «ويجُوز» أفْيِدَة «بِيَاء بعد الهَمْزة، وقرأ بِهَا هِشَام في سُورة إبْراهيم، وسَيَأتي إن شاء الله تعالى -.

فصل في المراد من الآية


قال ابن عبَّاس: يَعْني: ويحُول بينهم وبين الإيمانن فول جئناهم بالآيات التي سَألوا ما آمَنُوا بِهَا كما لَمْ يُؤمنُوا به أوَّل مَرَّة [أي: كما لو يُؤمِنُوا بما قَبْلَها من الآيات من انْشِقَاق القمر وغيره.
وقيل: كما لَو يُؤمِنُوا به أوَّل مرة] ؛ يعني: مُعْجِزات مُوسَى وغيره من الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام -؛ كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ﴾ [القصص: ٤٨].
وقال عَليُّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس: المرَّة الأولى: دار الدنيا لو رُدُّوا من الآخِرة إلى الدُّنيا نُقَلِّب أفْئدتَهُم وأبْصَارهم عن الإيمان كَمَا لَمْ يُؤمِنوا في الدُّنْيَا قبل مَمَاتهم؛ كقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨].

فصل في بيان معنى التقليب


التَّقْلِيب، والقَلْب وَاحِد: وهو تَحْويل الشَّيء عن وَجْهِه، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكُفْر والإيمان بِقَضَاء اللَّه، وقدره، ومَعْنَى تَقْلِيب الأفْئِدَة والأبْصَار: هو أنه إذا جَاءَتْهُم الآيات القَاهِرة الَّتِي أقْتَرحُوها وعرفوا كَيْفيَّة دلالتها لعى صِدْق الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [إلاَّ أنه
375
تعالى] إذا قُلُوبَهُم وأبْصَارهم على ذلك الوجه، بَقوْا على الكُفْر ولم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات.
قال الجُبَّائي: مَعْناه: ونُقَلِّب أفْئِدَتَهم ووأبْصَارهم في جَهَنَّم، على لَهِيب النَّار وجَمْرِهاح لنُعَذِّبَهُم كما لم يُؤمِنوا به أوّلأ مرّة دَارِ الدُّنْيَا.
وقال الكَعْبِي: المُرَاد ب «ونُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهُم» : نفعل بهم كا نَفْعل بالمُؤمنين من الفَوَائِد والألْطَاف، من حَيْث أخرجوا أنْفَسَهم عن هَذَا الحدِّ؛ بسبب كُفْرهم.
وقال القَاضِي: المراد: ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم في الآيات الَّتي ظَهَرت، فلا تَجدَهُم يُؤمِنون بها آخراً كمال لم يُؤمِنُوا بِهَا أوّلاً وهذه وُجُوه ضَعِيفة.
أما قَول الجُبَّائيّ؛ فمدفوع؛ لأنه - تعالى - قال: «ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُمو أبْصَارهم» ثم عَطَفْ عليه، وقال: «ونَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون» فقوله: «ونَذرُهُم» لي مما يَحْصُل في الآخِرة، فكان سُوءاً للنَّظءم في كلام اللَّه - تعالى - حيث قدَّم المُؤخَّر، وأخَّر المُقدم من غير فَائِدة.
وأما قَوْل الكَعْبِي؛ فَضَعِيف؛ لأنه إنما استحق الحِرْمان والخذْلان على زَعْمه؛ بسبب أنَّهم قَلَّبُوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسبن إضافه إلى الله تعالى في قوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ أي: نقلب القَلْب باقٍ على حالةِ واحِدَة إلاَّ أنَّه - تعالى - أدخل التَّقْلِيب والتَّبدِيل في الدَّلائل.

فصل


إنما قدَّم اللَّه - تعالى - ذكر تَقْليب الأفْئِدة على تَقْليب الأبْصَار؛ لأن مَوْضع الدَّوَاعِي والصَّوَارِف هُوَ القَلْب [فإذا حَصَلَت الدَّاعية في القَلْبَُ انْصَرَفَ البَصَر إليه شَاءَ أمْ أبَى، وإذا حَصَلَت الصَّوارف في القَلْب] انصرف البَصَر عَنْه هو، وإن كَانَ يُبْصِره بحسب الظاهر إلاَّ أنه لا يَصِير ذلك الأبْصَار سَبَباً للُوقُوف على الفَوَائِد المَطْلُوبة وهو مَعْنَى قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾
[الأنعام: ٢٥]، فملا كان المَعْدن هو القَلْب، وأما السَّمع والبَصَر؛ فهما آلتان لِلْقَلْب كانا لا مَحَالة تَابِعَيْن لأحوال القَلْب، فلهذا السَّبَبَ وقع الابتداء بذِكر تَقَلُّب القُلُوب ههنا، ثم أتْبَعَهُ بذرك السَّمْع.
376
قوله: «كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ» الكافُ في محلِّ نَصبٍ، نَعْتاً لِمَصْدر مَحْذُوف و «ما» مَصْدريَّة والتقدير كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوّلأ مرة [وقيل: الكاف هُنَا للتَعْلِيل، أي: «نقلب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم؛ لعدم إيمانِهِم أوّل مرة».
وقيل: في الكلام حَذْفٌ تقديره: «فلا يؤمنون به ثاني مَرَّة كَمَا لَم يُؤمِنوا به أوّل مرَّة]
وقال بَعْضُ المفسِّرين: الكافُ هُنَا مَعْنَأها: المُجَازَاة، أي:»
لمَّا «لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، نُجازيهم بأن نُقَلِّب أفْئِدتَهُم عن الهُدَى، ونَطْبَع على قُلُوبهم»، فكأنَّه قيل: ونحن نَقَلِّب أفْئدتَهَم؛ جَزَاءً لما لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، قاله ابن عطية قال أبو حيان وهُو مَعْنَى التَّعْلِيل الذي كرناه، إلا أن تسْمِيتَه ذلك بالمُجازاة غَريبَة لا تُعْهدُ في كلام النَّحْويِّين.
قال شهاب الدِّين: قد سُبِقَ أبن عطيَّة إلى هذه العبارة.
قال الواحدي: وقال بَعْضُهم: معنى الكَافِ في «كَمَا لَمْ يُؤمِنوا» : معنى الجَزَاء، ومَعْنَى الآية: ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم، عُقُوبة لَهُم على تَركْ الإيمان في المرَّة الأولَى، والهَاء في «به» تعود على الله - تعالى -، أو على رسُوله، أو على القُرآن، أو على القَلْب المَدْلُول عليه بالفِعْل، وهو أبْعَدُهَا، و «أوّل مَرَّة» : نَصب على ظَرْف الزَّمان، وقد تقدم تَحْقِيقُه.
وقرأ إبْرَاهيم النَّخْعي: «ويُقَلِّب - ويَذَرُهم -» بالياء، والفَاعِل ضمير البَاري - تعالى -.
وقرأ الأعْمَش: «تُقَلَّبُ أفْئِدتهم وأبْصَارهم» على البِنَاء للمَفْعُول، ورُفِع ما بعده على قِيَام مقام الفاعل، كذا رَوَاهَا الزَّمَخْشَري عنه، والمشْهُور بهذه القِرَاءة، إنَّما هو النَّخْعِيّ أيضا، ورُوِي عَنْه: «ويَذَرْهُم» بياء الغيبة كما تقدَّم وسُكُون الرَّاء، وخرَّج أبُو البَقَاء هذا التَّسْكِين على وجْهَين:
أحدهما: التَّسْكين لِتَوَالِي الحَرَكَات.
والثاني: أنه مَجْزُوم عَطْفاً على «يُؤمِنُوا» والمَعْنَى: جَزَاءً على كُفْرهم، وأنَّه لم يَذَرْهُم في طُغْيَانهم، بل بيَّن لهم، وهذا الثُّانِي ليس بَظَاهر، و «يَعْمَهُون» في محلِّ حال، أو مَفْعُوزل ثانٍ، لأن التَّرْك بِمَعْنَى: التَّصْيِير.
377

فصل في معنى الآية


قال عَطَاء: المَعْنَى: أخْذُلُهُم، وأدْعُم في ضَلالِتِهم يتمادون.
قال الجُبَّائي: المَعْنَى: ونذرهم، أيك لا نَحُول بَيْنَهم وبين اخْتِيَارِهم من ذَلِك لكن نمنعم من ذلك بِمُعَاجَلة الهلاك وغيره، لكنَّا نُمْهِلهم إنْ أقاَموا على طُغْيَانهم، فذلك مِن قِبَلهم وهُو يُوجِب تأكيد الحُجَّة عَلَيْهم.
وقال أهل السُّنَّة: نقلِّب أفْئِدتَهُم من الحقِّ إلى البَاطِل، ونتركهم في ذلك الطُّغْيَان، وفي ذَلِكَ الضَّلال والعَمَه.
ويُقال للجُبَّائي: إنَّك تقول: إن إله العالم ما أرَاد بعباده إلاَّ الخَيْر والرَّحمة، فمل تُرك هذا المِسْكِين حتى عَمِه في طُغْيَانه؟ ولم لا يخلصه عَنْه على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر؟ أقْصَى مَا فِي البابِ؛ أ، هـ إن فَعل به ذلِك لَمْ يكن مُسْتَحِقاً إلى الثَّواب، فيقُوتُه الاسْتِحْقَاق فقط، وقد يَسْلَم من العِقَاب، أمَّا إذا تَرَكَهُ في ذلك العَمَه مع عِلْمه بأنه يَمُوت عَلَيْه، فإنه لا يَحْصُل له اسْتِحْقاق الثَّواب، ويحصل له العِقَاب العَظيم الدَّائم، فالمفْسَدة الحَاصلة عن خَلْق الإيمان فيه على سَبيل الإلْجَاء، مَفْسَدة وَاحِدَة؛ وهِيَ قوات اسْتِحْقَاق الثَّواب مع حُصُول العِقَاب الشَّديد، والرَّحِيم المُحْسِن النَّاظر إلى عباده، لا بُدَّ وأن يُرَجَّح الجَانِب الَّذِي هو أكْثَر إصْلاحاً، وأقَل فَسَاداً، فَعَلِمْنَا أنَّ إبْقَاء ذكل الكَافِر في ذلك العَمَه والطُّغْيَان، يَقْدح في أنَّه لا يريد به إلاَّ الخير والإحسان.
378
قوله :" ونُقَلِّبُ " في هذه الجُمْلَة وجهان :
أحدهما :- ولم يقل الزَّمَخْشَري غيره- أنَّها وما عُطِف علَيْها من قوله :" ويذَرُهُم " عطف على " يُؤمِنُون " داخل في حُكْم " ومَا يُشْعِرُكُم "، بمعنى :" وما يُشْعِرُكُم أنَّهم لا يُؤمِنُون " وما يشعركم أنَّا نُقِلِّب أفْئِدَتَهُم وأبصارهم "، " وما يُشْعِرُكم أنَّا نَذَرُهم " وهذا يُسَاعده ما جَاء في التَّفْسير عن ابْنِ عَبَّاسٍ، ومُجَاهد، وابن زَيْد١.
والثاني : أنَّهَا اسِتئْنَاف إخبار، وجعله أبُو حيَّان الظَّاهر، والظَّاهر، ما تقدَّم.
" والأفْئِدة " : جمع فُؤاد، وهو القَلْبُ، ويطلق على العَقْل.
وقال الرَّاغب٢ : الفُؤاد كالقَلْبِ، لكن يُقالَ له : فؤاد إذا اعتبر به مَعْنَى :" التَّفَؤد " أي : التوقُّد " يقال :" فأدْتُ اللَّحم " : شَوَيْتُه " ومنه " لحم فَئِيد " أي :" مَشْويُّ " وظاهر هذا : أنَّ الفُؤاد غير القَلْبِ، ويقال له :" فواد " بالواو الصَّريحة، وهي بَدَل من الهَمْزَة ؛ لأنَّه تَخْفِيف قِيَاسيّ، وبه يَقْرأ وَرْش فيه وفي نَظَائِره وصلاً وَوَقْفاً، وحَمْزة وقفاً ويُجْمع على : أفْئِدَة، وهو جَمْع مُنْقَاس، نحو :" غُراب "، و " أغْرِبة " ويجُوز " أفْيِدَة " بِيَاء بعد الهَمْزة، وقرأ بِهَا هِشَام في سُورة إبْراهيم٣، وسَيَأتي إن - شاء الله تعالى -.

فصل في المراد من الآية


قال ابن عبَّاس : يَعْني : ويحُول بينهم وبين الإيمان، فلو جئناهم بالآيات التي سَألوا ما آمَنُوا بِهَا كما لَمْ يُؤمنُوا به أوَّل مَرَّة، [ أي : كما لو يُؤمِنُوا بما قَبْلَها من الآيات من انْشِقَاق القمر وغيره٤.
وقيل : كما لَو يُؤمِنُوا به أوَّل مرة ]٥ ؛ يعني : مُعْجِزات مُوسَى وغيره من الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام- ؛ كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ ﴾ [ القصص : ٤٨ ].
وقال عَليُّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس : المرَّة الأولى : دار الدنيا لو رُدُّوا من الآخِرة إلى الدُّنيا نُقَلِّب أفْئدتَهُم وأبْصَارهم عن الإيمان كَمَا لَمْ يُؤمِنوا في الدُّنْيَا قبل مَمَاتهم ؛ كقوله :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ].

فصل في بيان معنى التقليب


التَّقْلِيب، والقَلْب وَاحِد : وهو تَحْويل الشَّيء عن وَجْهِه، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكُفْر والإيمان بِقَضَاء اللَّه، وقدره، ومَعْنَى تَقْلِيب الأفْئِدَة والأبْصَار : هو أنه إذا جَاءَتْهُم الآيات القَاهِرة الَّتِي أقْتَرحُوها وعرفوا كَيْفيَّة دلالتها على صِدْق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم [ إلاَّ أنه تعالى ]٦ إذا قلب قُلُوبَهُم وأبْصَارهم على ذلك الوجه، بَقوْا على الكُفْر ولم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات٧.
قال الجُبَّائي٨ : مَعْناه : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم في جَهَنَّم، على لَهِيب النَّار وجَمْرِها ؛ لنُعَذِّبَهُم كما لم يُؤمِنوا به أوّلأ مرّة في دَارِ الدُّنْيَا.
وقال الكَعْبِي٩ : المُرَاد ب " ونُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهُم " : نفعل بهم كما نَفْعل بالمُؤمنين من الفَوَائِد والألْطَاف، من حَيْث أخرجوا أنْفَسَهم عن هَذَا الحدِّ ؛ بسبب كُفْرهم.
وقال القَاضِي١٠ : المراد : ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم في الآيات الَّتي ظَهَرت، فلا تَجدَهُم يُؤمِنون بها آخراً كما لم يُؤمِنُوا بِهَا أوّلاً وهذه وُجُوه ضَعِيفة.
أما قَول الجُبَّائيّ ؛ فمدفوع ؛ لأنه -تعالى- قال :" ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُمو أبْصَارهم " ثم عَطَفْ عليه، وقال :" ونَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون " فقوله :" ونَذرُهُم " لي مما يَحْصُل في الآخِرة، فكان سُوءاً للنَّظم في كلام اللَّه-تعالى- حيث قدَّم المُؤخَّر، وأخَّر المُقدم من غير فَائِدة.
وأما قَوْل الكَعْبِي ؛ فَضَعِيف ؛ لأنه إنما استحق الحِرْمان والخذْلان على زَعْمه ؛ بسبب أنَّهم قَلَّبُوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسبن إضافته إلى الله تعالى في قوله :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾ أي : نقلب القَلْب من حالة إلى حالة، ومن صفة إلى صفة وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك، بل القلب باقٍ على حالةِ واحِدَة إلاَّ أنَّه -تعالى- أدخل التَّقْلِيب والتَّبدِيل في الدَّلائل.

فصل


إنما قدَّم اللَّه -تعالى- ذكر تَقْليب الأفْئِدة على تَقْليب الأبْصَار ؛ لأن مَوْضع الدَّوَاعِي والصَّوَارِف هُوَ القَلْب [ فإذا حَصَلَت الدَّاعية في القَلْب، انْصَرَفَ البَصَر إليه شَاءَ أمْ أبَى، وإذا حَصَلَت الصَّوارف في القَلْب ]١١ انصرف البَصَر عَنْه هو، وإن كَانَ يُبْصِره بحسب الظاهر إلاَّ أنه لا يَصِير ذلك الإبْصَار سَبَباً للوُقُوف على الفَوَائِد المَطْلُوبة وهو مَعْنَى قوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ]، فملا كان المَعْدن هو القَلْب، وأما السَّمع والبَصَر ؛ فهما آلتان لِلْقَلْب كانا لا مَحَالة تَابِعَيْن لأحوال القَلْب، فلهذا السَّبَبَ وقع الابتداء بذِكر تَقَلُّب القُلُوب ههنا، ثم أتْبَعَهُ بذكر السَّمْع.
قوله :" كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ " الكافُ في محلِّ نَصبٍ، نَعْتاً لِمَصْدر مَحْذُوف و " ما " مَصْدريَّة والتقدير كما قال أبو البقاء١٢ : تقليبا ككفرهم عقوبة مساوية لمعصيتهم، وقدّره الحوفيّ : فلا يؤمنون به إيمانا ثانيا، كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوّل مرة [ وقيل : الكاف هُنَا للتَعْلِيل، أي :" نقلب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم ؛ لعدم إيمانِهِم أوّل مرة ".
وقيل : في الكلام حَذْفٌ تقديره :" فلا يؤمنون به ثاني مَرَّة كَمَا لَم يُؤمِنوا به أوّل مرَّة ]١٣
وقال بَعْضُ المفسِّرين : الكافُ هُنَا مَعْنَأها : المُجَازَاة، أي :" لمَّا " لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، نُجازيهم بأن نُقَلِّب أفْئِدتَهُم عن الهُدَى، ونَطْبَع على قُلُوبهم "، فكأنَّه قيل : ونحن نقَلِّب أفْئدتَهَم ؛ جَزَاءً لما لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، قاله ابن عطية١٤ قال أبو حيان١٥ وهُو مَعْنَى التَّعْلِيل الذي ذكرناه، إلا أن تسْمِيتَه ذلك بالمُجازاة غَريبَة لا تُعْهدُ في كلام النَّحْويِّين.
قال شهاب الدِّين١٦ : قد سُبِقَ أبن عطيَّة إلى هذه العبارة.
قال الواحدي١٧ : وقال بَعْضُهم : معنى الكَافِ في " كَمَا لَمْ يُؤمِنوا " : معنى الجَزَاء، ومَعْنَى الآية : ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم، عُقُوبة لَهُم على تَركْ الإيمان في المرَّة الأولَى، والهَاء في " به " تعود على الله - تعالى-، أو على رسُوله، أو على القُرآن، أو على القَلْب المَدْلُول عليه بالفِعْل، وهو أبْعَدُهَا، و " أوّل مَرَّة " : نَصب على ظَرْف الزَّمان، وقد تقدم تَحْقِيقُه.
وقرأ إبْرَاهيم النَّخْعي١٨ :" ويُقَلِّب- ويَذَرُهم- " بالياء، والفَاعِل ضمير البَاري -تعالى-.
وقرأ الأعْمَش :" تُقَلَّبُ أفْئِدتهم وأبْصَارهم " على البِنَاء للمَفْعُول، ورُفِع ما بعده على قِيَامه مقام الفاعل، كذا رَوَاهَا الزَّمَخْشَري١٩ عنه، والمشْهُور بهذه القِرَاءة، إنَّما هو النَّخْعِيّ أيضا، ورُوِي عَنْه :" ويَذَرْهُم " بياء الغيبة كما تقدَّم وسُكُون الرَّاء، وخرَّج أبُو٢٠ البَقَاء هذا التَّسْكِين على وجْهَين :
أحدهما : التَّسْكين لِتَوَالِي الحَرَكَات.
والثاني : أنه مَجْزُوم عَطْفاً على " يُؤمِنُوا " والمَعْنَى : جَزَاءً على كُفْرهم، وأنَّه لم يَذَرْهُم في طُغْيَانهم، بل بيَّن لهم، وهذا الثّانِي ليس بَظَاهر، و " يَعْمَهُون " في محلِّ حال، أو مَفْعُوزل ثانٍ، لأن التَّرْك بِمَعْنَى : التَّصْيِير.

فصل في معنى الآية


قال عَطَاء : المَعْنَى : أخْذُلُهُم، وأدعُهم في ضَلالِتِهم يتمادون٢١.
قال الجُبَّائي٢٢ : المَعْنَى : ونذرهم، أي : لا نَحُول بَيْنَهم وبين اخْتِيَارِهم من ذَلِك لكن نمنعهم من ذلك بِمُعَاجَلة الهلاك وغيره، لكنَّا نُمْهِلهم إنْ أقاَموا على طُغْيَانهم، فذلك مِن قِبَلهم وهُو يُوجِب تأكيد الحُجَّة عَلَيْهم.
وقال أهل السُّنَّة٢٣ : نقلِّب أفْئِدتَهُم من الحقِّ إلى البَاطِل، ونتركهم في ذلك الطُّغْيَان، وفي ذَلِكَ الضَّلال والعَمَه.
ويُقال للجُبَّائي : إنَّك تقول : إن إله العالم ما أرَاد بعباده إلاَّ الخَيْر والرَّحمة، فلم تُرك هذا المِسْكِين حتى عَمِه في طُغْيَانه ؟ ولم لا يخلصه عَنْه على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر ؟ أقْصَى مَا فِي البابِ ؛ أنه إن فَعل به ذلِك لَمْ يكن مُسْتَحِقاً إلى الثَّواب، فيفوتُه الاسْتِحْقَاق فقط، وقد يَسْلَم من العِقَاب، أمَّا إذا تَرَكَهُ في ذلك العَمَه مع عِلْمه بأنه يَمُوت عَلَيْه، فإنه لا يَحْصُل له اسْتِحْقاق الثَّواب، ويحصل له العِقَاب العَظيم الدَّائم، فالمفْسَدة الحَاصلة عن خَلْق الإيمان فيه على سَبيل الإلْجَاء، مَفْسَدة وَاحِدَة ؛ وهِيَ قوات اسْتِحْقَاق الثَّواب مع حُصُول العِقَاب الشَّديد، والرَّحِيم المُحْسِن النَّاظر إلى عباده، لا بُدَّ وأن يُرَجِّح الجَانِب الَّذِي هو أكْثَر إصْلاحاً، وأقَل فَسَاداً، فَعَلِمْنَا أنَّ إبْقَاء ذلك الكَافِر في ذلك العَمَه والطُّغْيَان، يَقْدح في أنَّه لا يريد به إلاَّ الخير والإحسان٢٤.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٥/٣٠٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٧٣) وعزاه لابن أبي حاتم..
٢ ينظر: المفردات ٣٨٦..
٣ الآية: ٣٧..
٤ ينظر: القرطبي (٧/٤٤) والرازي (١٣/١٢٠) فقد ذكرا هذا المعنى..
٥ سقط في ب..
٦ سقط في أ..
٧ ينظر: الرازي ١٣/١٢٠..
٨ ينظر: المصدر السابق..
٩ ينظر: الرازي ١٣/١٢٠..
١٠ ينظر: المصدر السابق..
١١ سقط في أ..
١٢ ينظر: الإملاء ١/٢٥٧..
١٣ سقط في أ..
١٤ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٣٣٤..
١٥ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٠٦..
١٦ ينظر: الدر المصون ٣/١٥٨..
١٧ ينظر: الرازي ١٣/١٢٢..
١٨ ينظر: الدر المصون ٣/١٥٨ إتحاف فضلاء البشر ٢/٢٧..
١٩ ينظر: الكشاف ٢/٥٨..
٢٠ ينظر: الإملاء ١/٢٥٨..
٢١ ذكره البغوي في تفسيره ٢/١٢٣..
٢٢ ينظر: الرازي ١٣/١٢٢..
٢٣ ينظر: الرازي ١٣/١٢٢..
٢٤ ينظر: المصدر السابق..
اعلم: أنه - تبارك وتعالى - بيَّتن في هذه الآية الكَرِيمة تَفْصِيل ما ذَكَره مُجْمَلاً في قوله: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٩] بيَّن أنَّه - تعالى - لو أعْطَاهُم ما طَلَبُوه من إنْزَال المَلائِكة حتَّى رأوهم عَيَاناً، وحياء المَوْتَى حَتَّى كلَّمُوهُم، وشَهِدُوا لك بالنُّبُوَّة كَمَأ سَألُوا، بل زَاد في ذَلِك ما لا يَبْلُغُه اقْتِرَحُهم بأن يحشر عَلَيْهم كُلَّ شَيءْ قُبُلاً، ما كانوا لِيُؤمِنُوا إلاَّ أنْ يَشَاء اللَّه.
قال ابن عبَّاسٍ: المُسْتَهْزِئون بالقُرآن العَظِيم كانوا خَمْسَة: الوَليد بن المُغْيرَة المَخْزُومي، والعَاص بن وَائِل السَّهْمِي، والأسْوَد بن عَبْد يَغُوث الزُّهري، والأسْوَد بن المُطَّلِب، والحَارث بن حَنْظَلة، ثُمَّ أتَوا لرِسَول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورَهْط من أهْل مكَّة المُشَرَّفة، وقالُوا: أرنَا المَلائكة يَشْهَدُوا بأنَّك رسُول اللَّه، أبو ابعث لَنَا بَعَضَ مَوْتَانَا
378
حتَّى نَسْألهم أحَقٌّ ما تقُولُه أمْ باطل، أو ائْتِنَا باللَّه والملائكة قِبِيلاً، أي: كَفيلاً بما تدَّعِيه، فَنَزَلت هَذِه الآية الكَرِيمة.
وهذا يُشْكَل باتِّفَاقهم على أنَّ هذه السُّورة نزلت دَفْعَة وَاحِدة، بل الَّذِي يَنْبَغِي أن يَكُون المَقْصُود منه: جواب ما ذَكَرَهُ بَعْضُهم، وهو أنَّهُم أقسموا باللَّه جَهْد أيْمَانهم، لَوْ جاءتهم آيَةٌ ليُؤمِنُنّ بها، فذكر اللَّه - بتارك وتعالى - هذا الكلام بياناً لِكَونِهم كَاذِبِين، وأنَّه لا فَائِدة في إنْزالِ الآيَات، وإضْهار المُعْجِزَات بعد المُعْجِزَات، بل المُعْجِزة الوَاحِدة لا بُد منها لِيتَمَيَّز الصَّادق عن الكَاذِب، فأمَّا الزيادة عليها، فتحكم مَحْض لا حَاجَة إليْه، وإلاَّ فَلَهُم أن يَطْلُبوا بعد ظُهُور المُعْجِزة الثَّانية ثالثة، وبعد الثَّالثة رَابِعة، ويَلْزم منه ألاَّ تَسْتَقِرَّ الحجة، وأن لا يَنْتَهِي الأمْر إلى مقطع ومفصل، وذلك يُوجِب سَدَّ باب النُّبُوات.
قوله: «قُبُلاً» قرأ نَافِع، وابْن عَامِر: «قِبَلاً» هنا وفي الكَهْف بكسر القَافِ، وفَتْح البَاء، والكوفِيُّون هنا وفي الكَهْف، وقرأ الحسن البَصْرِي، وأبُو حَيْوة، وأبُو رَجَاء بالضَّمِّ والسُّكُون.
وقرأ أبَيّ والأعْمَش «قَبِيلاً» بياء مُثَنَّاة من تَحْت بعد بَاءٍ موحَّدة مَكْسُوةر، وقرأ طَلْحَة بن مُصَرِّف: «قَبْلاً» بفتح القَافِ وسُكون البَاء.
فأما قِرَاءة نَافِع، وابن عَامِر ففيها وجهان:
أحدهما: أنَّها مُقَابَلَة، أي: مُعَايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتِصَابُه على هذا الحَالِ قاله أبو عُبَيْدة، والفرَّاء، والزَّجَّاج ونقله الوَاحِدي أيضاً عن جَمِيع أهْل اللُّغة، يُقَال: «لَقِيته قِبَلاً» أي عِيَاناً.
وقال ابن الأنْبَاري: «قال أبُو ذَرّ: قُلْت للنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنبيّاً كان آدم؟ فقال: نعم، كان نبيّاً كلَّمه الله قبلاً» وبذلك فسًّرها ابن عبَّاس، وقتادة، وابن زَيْد، ولم يَحْكِ الزَّمَخْشَرِي غَيْره، فهو مَصْدر في مَوْضَع الحَال كما تقدَّم.
والثاني: أنَّها بمعنى نَاحِية وجِهَة قاله المُبَرِّد، وجماعة من أهل اللُّغَة كأبي زَيْد، وانتصابه حينئذٍ على الظَّرْف، كقولهم: «لي قِبَلُ فلان دَيْنُ» و «ما قِبَلك حَقُّ» ويقال: «
379
لقِيْتُ فلاناً قِبَلا، ومُقابلة، وقُبُلاً، وقُبَلاً وقَبْلِياً، وقَبِيلاً» كله بِمَعْنَى واحد، ذكر ذلك أبُو زيد، وأتْبَعه بِكَلام طويل مُفيد ف رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى - وجزاه اللَّه خيراً.
وأمَّا قِرَاءة البَاقِين هُنَا ففيها أوْجُه:
أحدهما: أن يكون «قُبُلاً» جمع قِبِيل، بمعنى: كَلِيل؛ «كرغيف» و «رُغُف»، و «قضيب» و «قُضُب» و «نَصِيب» ون «نُصُب».
وانْتَصَابه حالاً.
قال الفرَّاء والزَّجَّاج: جَمْع قِبِيل بمعْنَى: كفيل أي: كَفِيلاً بِصِدْق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -، ويقال: قَبَلْتُ الرِّجل أقْبَلُه قَبالة بفَتْح البَاء في الماضي والقاف في المَصْدَر، أي: تكفَّلْت به، والقَبِيل، والكَفِيل، والزَّعِيم، والأذِين والضّمِين، والحَمِيل، وبمعنى وَاحِد.
وإنما سُمِّيت الكَفَالة قَبَالة؛ لأنَّها أوْكَد تَقَبُّل، وباعْتِبَار معنى الكَفَالة سُمِّي العَهْد المَكْتوب: قَبالة.
وقال الفرًّاء في سُورة الأنعام: «قُبُلاً» جَمْع «قَبِيل» وهو «الكَفِيل» قال: وإنَّما اخْتَرت هنا أن يكُون القُبُل في المعنى الكفالة؛ لقولهم: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٩٢] يَضْمَنُون ذلك.
الثاني: أن يَكُون جَمْع قِبِيل، بِمَعْنى: جماعةً جماعةً، أو صنْفاً صنفاً.
والمعنى: «وحَشَرْنا عَلَيْهم كلَّ فوْجاً فوْجاً، ونوْعاً نوْعاً من سَائِر المَخْلُوقات».
الثالث: أن يكون «قُبُلاً» بِمَعْنى: قِبَلاً كالقِرَاءة الأولَى في أحد وجْهَيْهَا وهو المُواجَهة أي: مُواجَهَةً ومُعَايَنةً، ومنه «آتِيكَ قُبُلاً لا دُبُراً» اي: آتِيك من قِبَل وَجْهِك، وقال تعالى: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦] وقُرئ: «لقبل عدتهن» [الطلاق: ٤١]، أي: لاسْتِقْبَالها، وقال الفرَّاء: «وقد يكون قُبُلاً:» من قِبَل وُجُوهِهِم «.
وأمَّا الذي في سُورة الكَهْف: فإنه يَصِحُّ فيه مَعْنى المُواجهة، والمُعَاينة، والجماعة صنْفاً صنْفاً، لأن المُراد بالعَذَاب: الجِنْس، وسَيَأتي له مَزِيد بَيَان. و»
قُبُلاً «نَصْب على الحَالِ - كما مَرَّ - من» كلِّ «، وإن كان نكرة؛ لِعُمُومه، وتقدَّم أنَّه في أحد أوْجُهِهِ يُنْصَبُ على الظَّرف عند المُبَرِّد.
380
وأمّا قراءة الحسن فمخفَّفَة من المَضْمُوم، وقرأه أبَيُّ بالأصْل وهو المُفْرَدِ.
وأما قراءة طَلْحَة فهو ظَرْف مَقْطُوع عن الإضَافة، مَعْنَاه: أو يَأتِيَ باللَّه والملائِكَة قَبْلَه، ولكن كَانَ يَنْبَغِي أن يُبْنَى؛ لأن الإضافة مُرادَة.
قوله:» مَا كَانُوا «جواب» لَوْ «وقد تقدَّم أنَّه إذا كَانَ مَنْفيّاً، امتَنَعت اللاَّم.
وقال الحُوفِي:»
التَّقْدِير لما كَانُوا حُذِفَت اللاَّم وهي مُرَادة «وهذا لَيْس بجيَّد؛ لأن الجواب المَنْفِي ب» مَا «يَقِلُّ دُخُولها، بل لا يَجُوز عند بَعْضِهم، والمَنْفِي ب» لم «مُمْتَنِع ألْبَتَّة.
وهذه اللاَّم لا م الجُحُود جارَّة للمصْدَر المؤوّل من»
أنْ «والمنْصُوب بِهَا، وقد تقدَّم تَحْقِيقه - بعون الله تعالى -.
قوله: «إلا أنْ يشاء اللَّه»
يجُوز أن يكُون مُتَّصِلاً، أي: ما كانُوا لِيُؤمِنُوا في سَائرِ الأحْوال إلاَّ في حَالِ مَشِيئة اللَّه، أو في سَائرِ الأزْمَان إلا في زَمَان مَشِيئَتِه.
وقيل: إنه اسْتِثْنَاء من عِلَّة عامَّة، أي: «ما كانوا لِيُؤمِنُوا لِشَيء من الأشْيَاء إلاَّ لمشيئة الله تعالى».
والثاني: أن يكُون مُنْقَطعاً، نقل ذلك الحُوفِيُّ وأبُو البَقَاء، واسْتَبْعَده أبو حيَّان.

فصل في معنى الآية ودحض شبه المعتزلة


معنى الآية الكَريمة: أنه - تعالى لو أظْهَر جميع تِلْك الأشْيَاء العَجِيبَة لِهَؤلاء الكُفَّار؛ فإنَّهم لا يُؤمِنُون إلا أن يَشَاء اللَّه إيمانهم.
قال أهْل السُّنَّة: فلمَّا لَمْ يُؤمنوا دّلَّ على أنَّه - تعالى - ما شَاء مِنْهُم الإيمان، وهذا نَصُّ في المسْألة.
قالت المُعْتَزِلة: دل الدَّليل على أنَّه - تبارك وتعالى - أراد الإيمان من جَميع الكُفَّار، وذكر الجُبَّائِيُّ الوُجُوه المَذْكُورة المَشْهُورة.
أولها: أنَّه - تبارك وتعالى - لو لم يُرِد منهم الإيمان، لما أمَرَهُم، ولم يَجِبْ عليهم.
وثانيها: لو أراد الكُفْر من الكَافِر، لكان الكَافِر مُطِيعاً لله تعالى بِفِعْل الكُفْر، لجاز أن يأمُرَ بِهِ.
وثالثها: لو جاز من الله أن يريد منهم الكُفْرَ، لجاز أن يأمر به.
رابعها: لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر. قالوا:
381
فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلاَّ الإيمان منهم وظاهر هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل مُمْتَنِع، فوجب الجَمع، وطَريقُه أن نقُول: إنه - تبارك وتعالى - شَاء من الكُلِّ الإيمان الذي يَفْعَلُونه على سَبيل الاخْتيار، وأنَّه - تعالى - ما شاء منهم الإيمان على سبيل الإلجَاء والقَهْر، وبهذا الطَّريق زال الإشْكَال، وهذا كلامٌ ضعيفٌ من وُجُوه:
الأول: أن الإيمان الَّذِي سمَّوْه بالإيمان الاخْتِيَاري إن عَنُوْا به أنَّ قُدْرَته صَالِحَة إلى الإيمان والكُفْر على السَّويَّة، ثمَّ إنه يَصْدر عَنْها الإيمان دُون الكُفْر لا لداعية مُرَجَّحَة، ولإرادة مُمَيِّزة، فَهَذَا قَوْل برجْحَان أحَد طَرَفي المُمْكن على الآخر، لا لِمُرَجِّح وهو مُحَال، وأيضاً: فبتقدير أنْ يَكُون ذلك مَعْقُولاً في الجُمْلَة، إلاَّ أنَّ حُصُول ذَلِك الإيمان لا يَكُون منه، بل يَكُون حَادِثاً لا لِسَبَب ولا مُؤثِّر أصْلاً؛ أن الحَاصِل هَنَا لي إلاَّ القُدْرَة، وهي بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّيْن على السَّويَّة، ولم يَصْدر من هَذَا القدر تَخْصِيً لأحد الطَّرَفَيْن على الآخر بالوُقُوع والرُّجْحَانِ، ثم إنّ احد الطَّرفين قد حصل بنفْسِه، فهذا لا يَكُون صَادراً منه، بل يكون صادراً لا عن سَبَب ألْبَتَّةَ، وذلك يُبْطِل القَوْل بالفِعْل، والفَاعِل، والتَّأثِير والمؤثِّر أصْلاً، وذلك لا يَقْوله عَاقِل، وأمَّا إنْ كان هذا الذي سَسَّوه بالإيمان الاخْتِيَاري، هو أنَّ قُدْرَته وإن كانت صَالِحة للضَّدَّين، إلاَّ أنَّه لا تَصِير مَصْدراً للإيمان، إلاَّ إذا انْضَمَّ إلى تِلْك القُدْرَة حُصُول داعِيَة الإيمان، فهذا قَوْلٌ بأن مَصْدر الإيمان هو مَجْمُوع القُدْرَة على الدَّاعي، وذلك المَجْمُوع مُوجبٌ للإيمان، فهذا عين ما يسمونه بالجبر، وأنتم تنكرونه، فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاخْتِيَاريِّ لم يَحْصُل منه مَعْنى مَعْقُول مفهوم، وهذا كلام في غاية القُوَّة.
الوجه الثاني: سلَّمنا أن الإيمان الاخْتِيَاري متميِّزٌ عن الإيمان الحَاصِل بتَكْوِين اللَّه - تعالى -، إلاَّ أنا نَقُول قوله - تعالى -: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة﴾ وكذا ﴿مَّا كَانُواْ ليؤمنوا﴾ مَعْنَاه: ما كانوا لِيُؤمِنُوا إيماناً اخْتِيَاريّاً، بدلِيل أنَّ عند ظُهُور هذه الأشْيَاء لا يَبْعُد أن يُؤمِنُوا إيماناً على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر، فَثَبت أن قوله: ﴿مَّا كَانُواْ ليؤمنوا﴾ على سَبِيل الاخْتِيَار، ثُمَّ استَثْنَى عَنْه، وقال: «إلاَّ أنْ يَشَاءَ اللَّه» والمُسْتَثْنَى يَجِبُ أن يَكُون من جِنْس المُسْتَثْنى مِنْه، والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاء والقَهْر ليس من جِنْس الإيمان الاخْتِيَاريّ، فَثبت أنَّه لا يجُوز أنْ يَكُون المُرَاد منه الإيمان الاخْتِيَاري؛ وحينئذٍ يتوجَّه دَلِيل أهل السُّنَّة، وتَسْقُط أقوال المُعْتَزلَة.

فصل ف دحض شبهة المعتزلة


قال الجُبَّائي: قوله - تبارك وتعالى -: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ يدلُّ على حُدُوث
382
المَشِيئَة؛ لأنَّها لو كَانَت قَدِيمَة لَمْ يَجُز أنْ يُقَال ذَلِك، كما لا يُقَلا: لا يَذْهب زَيْد إلى البَصْرة، إلاَّ أن يُوَحِّد الله، وتَقْرِيره: أنَّا قُلْنَا لا يَكُون كذا إلاَّ أنْ يَشَاء اللَّه، فهذا يَقْتَضِي تَعْلِيق حُدُوث هذا الجَزَاء على حُصُول المَشْرُوط، فَيَلْزَم كَوْن الجَزَاءِ قَدِيماً، والحس على أنَّه مَحْدَث، فوجب كَوْن الشَّرْط حَادِثاً، وإذا كان الشَّرْط هو المَشِيئَة لَزِم القَوْل بكون المَشِيئَة حَادِثَة.
والجواب أنَّ المَشِيئة وإن كانت قَدِيمة، إلاَّ أنَّ تعلُّقَهَا بإحْدَاث ذَلِك المُحْدث في الحالِ، إضاَفة حَادِثَة وهذا القَدْر يَكْفي لِصِحَّة هذا الكلام. ثمَّ قال - تعالى -: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ أي: يَجْهَلُون بأنّ الكُلَّ من قَضَاء اللَّه وبِقَضَائه وقدره.
وقالت المعتزلة: المُرَاد: أنَّهم يبقون كُفَّاراً عِنْد ظُهُور الآيات الَّتِي طلبوها، والمعجزات التي اقْتَرَحُوها وكان أكْثَرهُم يَظُنُّون ذلك.
383
الكاف في «كَذِلِك» في محلِّ نَصْب، نعتاً لِمَصْدَر مَحْذُوف، فقدَّره الزَّمَخْشَري: «ما خَلَّيْنا بَيْنَك وبين أعْدَائِك، كذلك فَعَلْنا بِمَنْ قَبْلك».
وقال الوَاحِدي: «وكذلك» منسُوق على قوله: «وكَذَلِكَ زَيَّنَّا» أي: فَعَلْنا ذَلِك كذلك «جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عَدُوًّا»، ثم قال: وقيل: مَعْنَاه جَعَلْنا لَكَ عَدُوًّا كما جَعْلْنا لمن قَبْلَك من الأنْبِيَاء، فَيَكُون قوله: «وكذلك» عَطْفاً على مَعْنَى ما تقدَّم من الكلام، وما تقدَّم من الكلام، وما تقدَّم يدلُّ مَعْنَاهُ علىأنَّه جعل له أعْدَاء [والمراد: تَسْلِيَة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: كما ابتُليت بِهَؤلاء القَوْم، فكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ قَبْلك أعْدَاء].
و «جَعَلَ» يتعدى لاثْنَيْن بمعنى: صَيَّر. وأعْرَب الزَّمَخْشَري، وأبو البقاء والحوفي هنا نحو إعرابهم في قوله: تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾ [الأنعام: ١٠٠] فَيَكُون المَفْعُول الأول «شَيَاطِين الإنْس»، والثاني «عَدُواً»، و «لكلِّ» : حال من «عَدُواً» لأنَّه صفته في الأصْل، أو مُتعلِّق بالحَعْل قَبْلَه، ويَجُوز أن يكون المَفْعُول الأول «عُدُوّاً» و «لكلِّ» هو الثَّانِي قُدِّم، و «شياطين» : بَدَل من المفعول الأوّل.
والإضافة في: «شَيَاطِين الإنْس» يحتمل أن تكون من بابِ إضافَة الصِّفةِ لِمَوْصُوفها، والأصْل: الإنْس والجن الشَّياطين، نحو: جَرْد قَطِيفَة، ورجَّحْتُه؛ بأنَّ المقصود: التَّسلِّي والاتِّسَاءُ بمن سَبَق من الأنْبِيَاء، إذ كان في أمَمِهم مَنْ يُعادِلُهم، كما في أمَّة محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ،
383
ويحتمل أن تكُون من الإضافة الَّتِي بَمَعْنَى اللام، وليست من بابِ إضافة صِفَة لِمَوصُوف، والمعنى: الشَّياطين التي للإنْس، والشَّياطين التي لِلْجِنّ، فإن إلْليس قَسَّم جُنْده قسمين: قِسْمُ مُتسَلِّط على الإنْسِ، وآخر على الجِنِّ، كذا جاء في التَّفْسِير. ووقع «عَدُواً» مفعولاً ثَانِياً ل «شَيَاطِين» على أحَد الإعْرَابَيْنِ بِلَفْظ الإفْراد؛ لأنَّهُ يُكْتَفى به في ذلك، وتقدَّم شَوَاهِده، ومِنْه ما أنْشَده ابن الأنْبَارِي: [الطويل]
٢٢٨٦ - إذَا أنَا لَمْ أنْفَعْ صَدِيقِي بِوْدِّهِ فإنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي
فأعاد الضَّمير مِنْ «يَضُرَّهُم» على «عَدُوّ» فدل على جَمْعِيَّته؛ وكقوله تعالى: ﴿ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين﴾ [الذاريات: ٢٤]، ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ﴾ [النور: ٣١] ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [العصر: ٢، ٣].
وقيل لا حَاجَة إلى هذا التَّكْليف، والتَّقْدِير وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ واحد من الأنْبِيَاء عُدُوّاً واحِداً، إذ لا يَجِبُ أن يَكُون واحدٍ من الأنْبِيَاء أكْثَر من عُدوّ واحد.

فصل في دلالة الآية


دلَّ ظاهر قوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً﴾ على أنَّه - تبارك وتعالى - هو الذي جَعَل أولَئِك الأعْداء أعْدَاءً للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا شكَّ أن تلك العدَاوة مَعْصِيَة وكُفْر، فهذا يَقْتَضِي أن خَالِق الخَيْر، والشَّر، والطَّاعة، والمَعْصِيَة، والإيمان والكُفْر هُواللَّه تعالى.
وأجاب الجُبَّائي عَنْه؛ بأن المُرَاد من هذا الجَعْل: الحُكم والبَيَان فإن الرَّجُل إذا حَكَم بِكُفْر إنْسَان، قيل: كإنه كَفَّرَه، وإذا أخْبر عن عَدَالتِه، قيل إنه عدّله، فكذا ههنا أنَّه - تعالى - لما بيَّن للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كونهم أعْدَاء له لا جَرَم قال: إنَّه جعلهُم أعْدَاءً له وأجاب الأصَمُّ: بأنه - تعالى - لما أرْسَل محَمّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى العَلمِيَن، وخصَّه بِتِلْكَ المُعْجِزات، حسدُوه، وصار ذلك الحَسَد سَبَاً للعَداوَة القَوِيّضة فَلِهَاذا قال إنَّه - تعالى -: جعلهم أعْدَاء له ونَظِيرُه قول المُتَنَبِّي: [الطويل]
٢٢٨٧ -................ وأنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ [لِيَ] حُسَّدَا
وأجاب الكَعْبِي عنه: بأنَّه - تبارك وتعالى - أمَر الأنْبِيَاء بعَداوتهم، وأعْلَمهم
384
كونهم أعْداءً له، وذَلِك يَقْتَضِي صَيْرُورتهم أعْداءً للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام -؛ لأنَّ العَدَاوَة لا تَحْصُل إلاَّ من الجَانِبَيْن، فلهذا أنْ يُقَال: إنه - تعالى - جعلهم أعْدَاء للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام -.
وهذه أوجوبه ضَعِيفَة لما تقدَّم الأفْعَال مُسنَدة إلى الدَّواعي، وهي حَادِثة من قبل اللَّه - تعالى - وإذا كان كذلك، صَحَّ مَذْهَبُنَا، ثم هَهُنا بَحْث آخر، وهُو أنَّ العَدَاوَة، والصداقة يمتنع أن تَحْصُل باخْتِيَار الإنْسَان؛ فإن الرَّجُل قد يَبْلُغ في عَدَاوَة غَيره إلى حَيْث لا يَقْدِر ألْبَتَّة على إزَالة تلك الحَالَةِ عن قَلْبَه، بل قَدْ لا يَقْدِر على إخْفَاء آثَار تلك العَداوة، ولو أتى بكل تَكِلُّفِ وحيلة، لعجز عنه، ولو كان حُصُول العَدَاوة والصَّداقة في القَلْبِ باختيار الإنْسَان، لوجَبَ أن يَكُونَ الإنْسَان متمكناً مِن قَلْب العَدَاوة بالصَّداقة، وبالعَكْس، فكيف لا، والشُّعَراء عَرَفُوا أنّ ذلك خَارجٌ عن الوُسْع قال المُتَنَبِّي [المتقارب]
٢٢٨٨ - يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل
والعاشق الَّذِي يشتد عِشْقُه [قد] يَحْتَال بجميع الحِيَل في إزالة عِشْقِه، ولا يقدر عَلَيْه ولو كان حُصُول ذلك الحُبِّ والبَغْضِ باخْتِيَاره، لما عَجَز عن إزَالَتِهِ.

فصل في معنى الآية


قال عِكْرمة، والضَّحَّاك، والكَلْبِي: المعنى: شَيَاطِين الإنْس الَّتِي مع شَيَاطِين الجِنِّ، وذلك أنَّ إبْلِيس قَسَّم جنده فَرِيقَيْن، فبعث فَريقاً منهم إلى الإنْس، وفريقاً إلى الجِنِّ، وكلا الفَرِيقَيْن أعْداءٌ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأوْلِيَائه، وهم يَلْتَقُون في كل حين، فيقول شَيْطان الإنْس لشيطان الجنِّ: أضَلْلت صَاحِبي بكَذا، فأضلل صَحِبك بِمُله، ويقول شَيْطَان الجن لشيطان الإنس كذلك. فلذلك وصَّى بَعْضُهم إلى بَعْض.
وقال قتَادة، وَمُجاهِد، والحَسَن: إن من الإنْس شَيَاطين، كما أن من الجنِّ شياطين، والشَّيْطَان الثَّاني المتمرد من كُلِّ شَيْء.
قالُوا: إن الشَّيْطان إذا أعْيَاه المُؤمِن، وعَجز عن إغوائه، ذهب إلى مُتَمَرِّد من الإنْس: وهو شَيْطَان الإنْس، فأغراه بالمُؤمِن ليفتنه، يدلُّ عليه ما «رُوِي عن أبِي ذرِّ، قال: قال رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هل تَعَوَّذت باللَّه من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس، قلت يا رسُول الله، وهل للإنْس من شَيَاطين، قال نَعَمْ، هم شرُّ من شَيَاطين الجِن».
385
وقال مَالك بن دِينَار: إن شَيَاطين الإنْس أشَد عليَّ من شَيَاطِين الجِنِّ، وذلك أنِّي إذَا تعَوَّذت باللَّه، ذهب عني شَيَطان الجِنِّ، وشيطان الإنس يجيبني، فَيَجرُّني إلى المَعَاصي.
قوله: «يُوحي» يُحْتَمل أن يكون مُسْتَأنفاً، أخبْرَ عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من «شياطين» وأن يكون وَصْفاً ل «عَدُوّاً» وقد تقدَّم وَاقِع مَوْقع أعْدَاء، فَلذلك عَادَ الضَّمِير عَلَيْه جَمْعاً في قوله «بَعْضُهم» انتهى.

فصل في معنى قوله: «يوحي»


الوحي: هو عِبَارة عن الإيماءِ، والقَوْل السَّريع، والزُّخْرُف هو الذي يَكُون بَاطِنُه باطلاً، وظاهر مُزَيَّناً، يقال: فلان يزخرف كلامه، إذا زَيَّنه بالبَاطِل والكذب، وكلُّ شيء حَسَن مَمَوّه، فهو مُزَخْرَف والزُّخْرف: الزِّينة، وكلام مُزَخْرَف، [أي] : مُنَمَّق، وأصله الذَّهب، ولما كان الذَّهب مُعْجِبٌ لكل أحَد، قيل لكل مُسْتَحْسن مزين: زُخْرُف.
وقال أبو عُبَيْدة: كل ما حَسَّنْتَه، وزيَّنته، وهو بَاطِل: فهو زُخْرُف، وهذا لا يَلْزَم، إذ قد يُطْلَق على مَا هُو زِينَة حَقّ، وبيت مُزَخْرَف، أي: مُزَيَّن بالنَّقْش، ومنه الحَدِيث: أنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَدْخُل الكَعْبَة حتى أمر بالزُّخْرف فَنُحِّيَ يعني: أنهم كَانُوا يُزَيِّنُون الكعبة بِنُقُوش ووتصاوير مُمَوِّهة بالذَّهب، فأمر بإخْرَاجِها.
قوله: «غُرُواً» قيل: نُصِب على المَفْعُول له، أي: لا يَغُرُّوا غيرهم.
وقيل: هو مَصْدر في مَوْضِع الحَالِ، أي: غارِّين، وأن يَكُون مَنْصُوباً على المَصْدَر؛ لأن العَامِل فيه بِمَعْنَاه، كأنه قِيل: «يَغُرُّون غُرواً بالوَحي».
قوله: «ولَوْ شَاءً ربُّكَ ما فَعَلُوه» ما ألْقواه من الوسْوَسة في القُلُوب، وقد تقدَّم الكلام في المَشِيئَة ومَدْلُولِها مع المُعتزلة.
قوله: «وما يَفْتَرُون» «ما» موصولة اسميَّة، أو نكرة مَوْصُوفة، والعَائِد على كلا هَذَين القَوْلَيْن محذُوفٌ، أي: «وما يَفْتَرُونَه» أو مصدريَّة، وعلى كُلِّ قوله فمحلُّهَا نَصْب، وفيه وَجهَان:
أحدهما: أنها نَسَق على المَفْعُول في: «فَذَرْهُمْ» أي: اتْرُكْهُم، واترك افْتِرَاءهم.
والثاني: أنَّها مفعول مَعَه، وهو مَرْجُوحٌ، لأنه متى أمكن العَطْف من غير ضَعْفٍ في التركب، أو في المَعْنَى، كان أوْلَى من المَفْعُول معه.
قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يُرِيد بقوله: «فَذَرْهُم وما يَفْتَرون» : ما زيَّن لهم إبْليس وغرَّهُم.
386
في هذه اللاَّم ثلاثة أوْجُه:
أحدها: أنها لام «كَيْ» والفِعْل بعدها مَنْصُوب بإضمار «أن» وفيما يتعلَّق به احتمالان:
الاحتمال الأول: أن يتعلَّق ب «يُوحِي» على أنَّها نَسَق على «غُرُوراً» و «غُرُوراً» مفعول له، والتقدير: «ويحي بَعْضُهم إلى بَعْض للغُرُور وللصَّغْو»، ولكن لما كان المَفْعُول له الأوَّل مُسْتَكْمِلاً لِشُروط النَّصْب، نُصِب، ولما كان هذا غير مُسْتكملٍ للشُّروطِ، وصل افعل إليه بِحَرف العِلَّة، وقد فَاتَه من الشَّروط كونه لم يتَّحِد فيه الفَاعِل، فإنَّ فاعل الوحي: «بَعْضُهم»، وفاعل الصَّغْو: «الأفئدة» وفات أيضاً من الشُّروط صَريح المصدريَّة.
والاحتمال الثاني: أن يتعلَّقِ بِمَحْذُوف متَأخِّر بَعْدَها، فقدَّره الزَّجَّاج، ولِتَصْغى إليه فَعَلُوا ذَلِك، وكذا قدَّره الزَّمَخْشَرِي، فقال: ولِتَصْغى جَوَابُه مَحْذُوف، تقديره: وليكون ذَلِك جَعَلْنا لكُلِّ نبي عدُواً على أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة.
والوجه الثاني: أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة وهي الَّتِي يعبِّرون عنها بِلام العاقِبَة، وهي رأي الزَّمَخْشَري، كما تقدَّم حكايته عنه.
الوجه الثالث: أنها لام القَسَم.
قال أبو البقاء: «إلا أنَّها كُسِرتْ لمَّا لم يؤكد الفِعْل بالنُّون» وما قَالَه غير مَعْرُوف، بل المَعْرُوف في هذا القَول: أنَّ هذه لام كَيْ، وهي جوابُ قسم مَحْذُوف، تقديره: واللَّه لتَصْغَى فوضع «لِتَصْغَى» موضع «لَتَصْغَيَنَّ» فصار دواب القَسَم من قَبِيل المُفْرَد؛ كقولك: «والله ليقومُ زيد» أي: «أحْلِفُ بالله لَقيامُ زيد» هذا مَذْهبُ الأخْفَش وأنشد: [الطويل]
٢٢٨٩ - إذَا قُلْتُ قَدْنِي قَالَ بِاللَّه حَلْفَةً لِتُغْنِيَ عَنِّي ذَا إنَائِكَ أجْمَعَا
فقوله: «لتُغْني» جواب القَسَم، فقد ظَهَر أن هذا القَائِل يَقُول بكونها لام كي، غاية
387
ما في الباب أنَّها وقعت مَوْقِع جواب القَسَم لا أنَّها جوابٌ بِنَفْسِها، وكُسِرَتْ لمَّا حُذِفَتْ منها نون التَّوكيد، ويدلُّ على فساد ذلك، أنَّ النُّونَ قد حُذِفَتْ، ولامَ الجواب بَاقِية على فَتْحِها، قال القَائِل في ذلك: [الطويل]
٢٢٩٠ - لئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فقوله: «لَيَعْلَمُ» جوابُ القَسَم الموطَّأ له باللاَّم في «لَئِنْ» ومع ذلك فَهِي مَفْتُوحة مع حَذْفِ نُونِ التَّوْكِيد.
والضَّمِير في قوله: «مَا فَعَلُوه» وفي: «إليه» يَعُود: إمَّا على الوَحْي، وإمَّا على الزُّخْرُف، وإما على القَوْل، وإمَّا عَلَى الغُرُور، وإمّا على العداوة؛ لأنَّها بمعنى: التَّعَادي.
ولتصغى أي تميل وهذ المادَّة تدل على الميْل، ومنه قوله - تعالى -: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]، وفي الحديث: «فأصْغى لها الإنَاء» وصاغِيَةُ الرجل: قَرَابَتُه الَّذِين يَمِيلون إليه، وعين صَغْوى أي: مائِلَة، قال الأعْشَى: [الطويل]
٢٢٩١ - تَرَى عَينَهَا صَغْوَاء فِي جَنْبِ مُؤقِهَا تُرَاقِبُ فِي كَفِّي القَطِيعَ المُحَرَّمَا
والصَّغَا: مَيْلٌ في الحَنَك العَيْن، وصغت الشمس والنجوم: أي مالت للغُرُوب.
ويقال: «صَغَوْتُ، وصَغِيتُ وصَغَيْتُ» فاللاَّم واو أو ياء، ومع الياء تُكْسَرُ عين المَاضِي وتُفْتَحُ.
قال أبو حيَّان: «فَمَصْدر الأوَّل صَغْوٌ، والثَّاني صُغيُّ والثالث صَغاً، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين».
قال شهاب الدِّين: قد حَكَى الأصْمَعِيُّ في مصدر صَغَا يَصْغُوا صَغاً، فليس «صَغاً» مُخْتَصاً بكونه مَصْداً ل «صَغِي» بالكَسْر.
وزاد القرَّاء: «صُغِياً» و «صُغُواً» بالياء والواو مُشَدَّدتين، وأما قوله: «ومُضارِعُها، أي مُضارع الأفعال الثلاثة: يَصْغَى بِفَتْح الغين» فقد حكى أبُو عُبَيْد عن الكسَائِي: صَغَوتُ أصْغُو، وكذا ابن السِّكِّيت حَكَى: صَغَوتُ أصْغُو، فقد خَالَفُوا بين مُضارعِها، وصَغَوْتُ أصْغُو هو القياس الفَاشِي، فإن فعل المُعْتَل اللاَّم بالواو قِيَاس مُضَارعه: يَفْعُل بضمِّ العَيْن.
388
وقال أبو حيَّان أيضاً: «وهي - يعني الأفعال الثلاثة - لازمة» أي: لا تتعدَّى، وأصْغَى مثلْها لازم، ويأتِي متعدِّياً، فتكون الهَمْزَة للنَّقْل، وأنشد على «أصْغَى» اللاَّزم قول الشاعر: [البسيط]
٢٢٩٢ - تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ زَيَغٌ وَفِيهِ إلى التَّشْبيه إصْغَاءُ
قال شهاب الدِّين: ومثله قول الآخر: [البسيط]
٢٢٩٣ - تُصْغِي إذَا شَدَّهَا بالرَّحْلِ جَانِحَةً حَتَّى إذا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَأ تَثِبُ
وفي الحديث: فأصْغَى لها الإنَاء «وهذا الذي زَعَمه من كَوْن صغَى، أو صَغِيَ، أو صَغاً يكون لازماً غير مُوافَقٍ عليه، بل قد حَكى الرَّاغب أنه يُقَال: صَغَيْتُ الإنَاء وأصغَيْتُه [وصَغِيت بكسر الغَيْن] يُحْتَمل أن يَكُن من ذَوَات اليَاءِ، ويُحْتَمل أن يكُون من ذَواتَ الواوِ، وإنَّما قُلِبَت الواوُ ياءً؛ لانكسار ما قَبْلَها؛ كقَوِي، وهُو من القُوَّة.
وقراءة النَّخْعِي، والجَرَّاح بن عبد الله:»
ولِتُصْغَى «من أصغَى رباعياً وهو هُنا لاَزِم.
وقرأ الحسن:»
وَلْتَصْغى وليَرْضَوْه ولْيَقْتَرِفوا «بسكون اللاَّم في الثَّلاثة، وقال أبو عمرو الداني:» قراءة الحَسَن إنَّما هُو: «ولِتَصْغِي» بكَسْر الغَيْن «.
قال شهاب الدِّين: فتكون كقراءة النَّخَعِيِّ.
وقيل: قرأ الحسن:»
ولتصغي «بكَسْر اللاَّم كالعامَّة، ولْيَرْضوه ولْيَقْتَرِفوا بسكون اللاَّم، خرَّجوا تَسْكين اللاَّم على أحَدِ وَجْهَين: إمَّا أنها لام كي، وإنَّما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع بَعْدها مُجْرى كَبِد، ونَمِر.
389
قال ابن جِنِّي:» وهو قَوِيٌّ في القِيَاس، شاذٌّ في السَّماع «.
والثاني: أنَّها لام الأمْر، وهذا وإن تَمشَّى في»
لِيرْضَوْه ولِيَقْتَرِفوا: فلا يتمشَّى في: «ولِتَصْغى» إذ حرف العلة يحذف جزماً.
قال أبُو البقاء: «ولَيْست لام الأمْر؛ لأنه لَمْ يَجْزِم الفعل».
قال شهاب الدِّين: قد ثبت حَرْف العِلَّة جَزْماً في المُتَواتِر، فمنها: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ [يوسف: ١٢] ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله﴾ [يوسف: ٩٠] ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾
[طه: ٧٧] وفي كُلِّ ذلك تَاويلات سَتَقِف عَلَيْها - إن شاء الله تعالى - فتلكن هذه القراءة الشَّاذَّى مثل هذه المَوَاضِع، والقولُ بكون لام «لتصغى» لام «كَيْ» سُكِنت؛ لِتَوالي الحَرَكات واللاَّمين بَعْدَها لامَيْ أمْر بعيدٌ وتَشَهٍّ.
وقال النَّحَّاس: ويُقْرأ: «ولْيَقْتَرِفُوا» يعني بالسُّكُون، قال: «وفيه مَعْنى التَّهْديد».
يريد: أنَّه أمر تَهْديد؛ كقوله: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فصلت: ٤٠] ولم يحك التَّسْكِين في «لِتَصْغَى»، ولا في «لِتَرْضَوه».
و «مَا» في «ما هم مُقْتَرِفون» مَوْصُولة اسميَّة، أو نكرة مَوْصُوفة مصدريَّة، والعَائِد على كلا القولَين الأولين مَحْذُوف، أيك «ما هم مُقْتَرِفُوه».
[و] قال أبُو البقاء: «وأثبت النُّون لما حُذِفَت الهاء» يريد: أن الضَّمير المتَّصِل باسم الفاعل المُثَنًّى والمجموع على حَدِّه، تُحْذَفُ له نُون التَّثْنِيَة والجمع، نحو: «هَذَانِ ضَارِبَاه» و «هؤلاء ضَارِبُوه» فغذا حذفَ الضَّمِير، وقد ثَبَتت؛ قال القائل: [الطويل]
٢٢٩٥ - وَلَم يَرْتَقِقْ والنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ جَمِيعاً وأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُهْ
وقال القائل في ذلك: [الطويل]
٢٢٦٩ - هُمُ الفَاعِلون الخَيْرَ والآمِرُونَهُ............................
والاقْتِرَاف: الاكْتِساب، واقترف فُلان لأهْله، أي: اكْتَسَب، وأكثر ما يُقَال في الشَّرِّ والذَّنْب، ويطْلَق في الخَيْر، قال - تعالى - ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً﴾ [الشورى: ٢٣].
وقال ابن الأنْبَارِيِّ: «قَرَفَ واقْتَرَفَ: اكتسب» وأنْشَد في ذلك: [الطويل]
390
٢٢٩٧ - وإنِّي لآتٍ مَا أتَيْتُ وَإنِّنِي لِمَا اقْتَرَفَت نَفْسِي عَلَيَّ لَرَاهِبُ
وأصل القِرْفِ والاقْتِرَاف: قِشْرُ لحاء الشَّجر، والجِلْدَةُ من أعَلَى الحرج وا يؤخَذُ منه قَرف، ثُمَّ استُعِير الاقْتِرَاف للاكْتِسَاب حَسَناً كان، أو سِّئاً وفي السيّئ أكثر اسْتِعْملاً وقارف فلان أمْراً: تَعَاطى ما يُعَاب به.
وقيل: الاعْتراف يُزِيل الاقْتِرَاف، ورجل مُقْرِف، أي: هجين: قال الشَّاعر: [الرمل]
٢٢٩٨ - كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلَى وشَريفٍ بُخْلُهُ قَدْ وَضَعهْ
وقَرَفْتُه بكذا: اتَّهَمْتُه، أو عِبْتُه به، وقارف الذَّنْب وعَبَره، إذا أتَاه ولا صقَهُ، وقارف امْرَأتَهُ، وإذا جَامَعها، والمُقْتَرِف من الخَيْل: الهَجِين، وهو الَّذي أمُّه برذون، وأبُوه عَرَبِيّ.
وقيل: بالعَكْس.
وقيل: هُو الَّذي دان الهجنة وقَارَفَها، ومن حَدِيب عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كتب إلى أبِي مُوسى في البَراذِين ما قَارفَ العِتَاق مِنْهَا، فأجْعَل لَهُ منهما واحٍداً، أي: قَارَبَهَا ودَانَاهَا، نقله ابن الأثير.

فصل في تقدير الآية


قال ابن الخِطِيب [قال أصْحَابنا] تقدير الآية الكَرِيمة: وكذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نِبِيِّ عدوّاً من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس، وصفته: أنَّه يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل غَرُواً، وإنَّما فَعَلْنا ذلك لِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدة الذين لا يُؤمِنُون بالآخرة أي: أوْجدنا العداوة في قَلْب الشَّيَاطين الذين من صفتهم ما ذَكرْنَاهُ، ليكون كلامهم المُزَخْرَف مَقْبُولاً عند هؤلاء الكُفَّار.
قالوا: وإذ حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه، يظهر أنَّه - تبارك وتعالى - يُريد الكُفْر من الكَافِر.
أجاب المُعْتَزِلَة عنه من ثلاثة أوْجُه:
الأول: قال الجُبَّائي: إن هذا الكلام خرج مَخْرج الأمر، ومعناه: الزَّجْر؛ كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم﴾ [الإسراء: ٦٤] وكذا قوله: «وَلِيَرْضَوْه، ولِيقْتَرِفُوا» وتقدير الكلام: كأنَّه قال للرَّسُول - عليه السَّلام -: «فّذرْهُم
391
وما يَفْتَرون» ثم اقال لَهُم على سَبِيل التَّهديد «ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَتُهم، وليَرْضَوه وليقترفوا ما هُم مُقْتِرَفُون».
الوجه الثاني: قال الكَعْبِي إنّ هذه اللاَّم لام العاقبة، أي: ستئول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحْوال.
قال القَاضِي: ويبعُد أن يقال: هذه العاقبة تحصُل في الآخِرة؛ لأن الإلْجَاء حَاصِل في الآخِرَة.
قال: فلا يجُوز أن تِمَيل قُلُوب الكُفَّار إلى قُبُول المَذْهَب البَاطِل، ولا أن يَرْضَوْه، ولا أنْ يقترفوا الُّنُوب، بل يَحْبُ أن تُحْمَل على أنَّ عاقبة أمْرِهم في الدُّنْيَا تئول إلى أنْ يَقْبَلوا الأبَاطِيل، ويرضوا بها، ويَعْملُوا بها.
الوجه الثالث: وهو الذي اختاره أبو مُسْلِم، قال: اللاَّم في قوله: «ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ» متعلِّق بقوله: «يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً» والتَّقْدير: أن بَعْضَهم يُوحِي إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل ليغُرُّوا بذلك، ﴿ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ﴾ الذُّنُوب، ويكون المُرَاد أنَّ مَقْصُود الشَّياطين من ذلك الإيحاء: هو مَجْمُوع هذه المَعَانِي.
والجواب عمّا الجُبَّائي من وُجُوه، ذكرها القَاضِي:
أحدها: أن الواوَ في قوله: «ولِتَصْغَى» تقتضي تَعَلُّقَه بما قبْلَه، فحملُه على الابتداء بَعيدٌ.
وثانيها: أن اللاَّم في قول: «ولِتَصْغَى» لام كَيْ، فيبعد أن يُقَال إنَّه لام الأمْر، ويَقْرُب ذلك من أنْ يَكُون تَحْرِيفاً لِكَلام اللَّه - تعالى -، وأنه لا يَجُوز، وأمَّا قول الكَعْبِي: بأنَّها لام العَاقِبَة، فضعيفح لأنهم أجْمَعُوا على أن هذا مَجَازٌ، وحَمْلُه على «كي» حَقِيقةً أوْلى، وأمَّا قَوْل أبِي مُسَلم، فهو أحسنُها، إلاَّ أنْ قوله: «يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْلِ غُرُواً» يقتضي ان يكُون الغَرَض من ذلك الإيحاء: هو التَّغْرير، وإذا عَطَّفْنَا عليه قوله: «ولِتَصْغَى إليْه أقْئِدَة» فهذا أيضاً عَيْن التغرير، لا معنى التغرير؛ لأنه يَسْتَمِيل إلى ما يكون بَاطِنُه قَبِيحاً، وظاهره حَسَنَاً.
قوله: «ولِتَصْغَى إليه أفْئِدَة» عين هذه الاسْتِمَالة فلو عَطَفْنَأ عليه، لَزِم أن يَكُن المَعْطُوف عين المَعْطُف عَلَيْه، وأنَّه لا يجوز، أمَّا إذا قُلْنَا: تَقْدير الكلام: وكذلك جَعَلْنَا لكُلِّ نَبِيّ عُدُوّاً من شَأنه أن يُوحِي زُخْرُف القَوْل؛ لأجل التَّغرير، وإنما جَعَلْنا مثل هذا الشَّخْص عَدُواً للنَّبِي؛ لتصْغَى إليه أفْئِدَة الكُفَّار، فَيَبْعُدوا بذلك السَّبَبِ عن قُبُول دَعْوة ذلك النَّبِيِّ، وحنيئذٍ لا يَلْزَم منه عَطْف الشَّيء على نَفْسِه، فما ذَكَرنَاه أوْلى.
392

فصل في معنى الإنسان


قالوا: الإنسان شيء مُغَاير للبَدَن، ثم اخْتَلَفُوا: منهم من قال: المُتَعلِّق الأوَّل هو القَلْب، وبواسطته تتعلَّق النَّفْس؛ كسائر الأعْضَاء، كالدِّمَاغ، والكَبْد، ومنهم مَنْ قَال: القَلْب متعلِّق النَّفس الحَيَوانيَّة، والدِّمَاع متعلَّق النَّفْس النَّاطِقَة، والكَبِد متعلَّق النَّفْس الطَّبِيعيَّة، والأوَّلون تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة؛ فإنه - تبارك وتعالى - جَعَل مَحَلَّ الصَّغى الذي هُو عِبَارة عن المَيْل والإرادة: القَلْب، فدلّ على أنَّ مُتعلِّق النَّفْس: القَلْب.
393
لمّا حَكَى عن الكُفَّار أنَّهم أقْسَمُوا باللَّه جَهْد أيْمانهم، لَشِن جَاءَتْهُم آية، ليُؤمِنُنَّ بها، وأجاب عَنْه: بأنه لا فَائِدة في إظْهَار تلك الآيَات؛ لأنَّه - تعالى - لو أظْهَرَهَا، لبقوا مُصِرِّين على كُفْرِهم، بيَّن في هذه الآيَة أنَّ الدَّلِيل على نُبُوته، قد حَصَل فكلُّ ما طَلَبُوه من الزِّيادة، لا يَجب الالْتِفَات إليه.
قوله: «افَغَيْرَ» يجوز نَصْب «غَيْرَ» من وَجْهَين:
أحدهما: أنَّه مَفْعُول ل «أبْتَغي» مقدَّماً عليه، ووَلِيَ الهَمْزَة لما تقدَّم في قوله: ﴿أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ [الأنعام: ١٤] ويكُون «حَكَماً» حنيئذٍ: إمَّا حالاً، وإمَّا تَمْيِيزاً ل «غَيْر» ذكره الحُوفِيُّ: وأبُو البَقَاء، وابْنُ عَطِيَّة؛ كقولهم: «إنَّ غَيْرَها إبلاً».
الثاني: أن يَنْتَصِب «غَيْر» على الحَالِ مِنْ «حَكَماً: لأنَّه في الأصْل يَجُوز أن يَكُون وَصْفاً له، و» حَكَماً «هذا المَفْعُول به؛ فتحصَّل في نَصْب» غَيْر «وجهاان، وفي نصب» حَكَماً «ثلاثة أوجه: كونه حالاً، أو مَفْعُولاً، أو تَمْيِيزاً. والحَكَمُ أبلغ من الحَاكِم.
قيل: لأنَّ الحَكَمَ لا يَحْكُم إلا بالعَدْل، ولاحاكم قد يَجُوز، ومَعْنى الآية الكريمة: قُلْ لَهُم يا محمَّد: أفَغَير اللَّه أطْلب قَاضياً بَيْنِي وبَيْنَكُمن وذلك أنَّهم كَانُوا يَقُولُون للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجعل بَيْنَنا وبَيْنَك حَكَماً، فأجابَهُم به.
قوله:»
وهُو الَّذي أنْزَل «هذه الجُمْلة في مَحَلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعِل:» أبْتَغِي «، و» مُفَصَّلاً «: حَالٌ من» الكِتَاب «أي مُبينَّاً فيه أمْرُه ونهيه، والمراد بالكِتَاب: القُرآن العَظِيم، وقيل» مُفَصَّلاً «أي: خَمْساً خَمْساً، وعَشْراً عَشْراً، كما قال: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢].
وقوله:»
والذين آتيْنَاهم الكِتَاب «: مُبْتَدأ، و» يعْلَمُونَ «: خَبَره، والجُمْلَة مُسْتَأنَفَة،
393
والمراد بِهِم: عُلَماء اليَهُود والنَّصارى الذين آتيْناهم التَّوْراة والإنْجِيل.
وقيل: هم مُؤمِنوا أهل الكِتَاب، وقال عطاء: رُؤسَاء أصْحَاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالكِتَاب: القُرْآن العَظِيم، يَعْلَمون أنه مَنَزَّلٌ.
قرأ ابنُ عامر، وحَفْص عن عاصم:» مُنَزَّل «بتشْدِيد الزَّاي، والباقُون بِتَخْفِيِيها، وقد تقدَّم: أنَّ أنزل ونزَّل لُغَتَان، أو بَيْنَهُما فَرْق، و» من ربِّك «لابْتِداء الغَايةِ مَجازاً، و» بالحقِّ «حال من الضَّمِير المُسْتكنِّ في» مُنَزَّل «أي: مُلْتَبِساً بالحَقِّ، فالباء للمُصَاحَبَة.
قوله:»
فَلا تكُونَنَّ من المُمْترِين «أي: من الشَّاكين أنَّهم يَعْلَمُون ذلك.
وقيل: هذا من بابِ التَّهْييج والإلْهَاب؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ [الأنعام: ١٤].
وقيل: هذا خِطَاب لِكُلِّ أحد، والمعنى: لما ظهرت الدَّلائِل، فلا يَنْبَغِي أنْ يَمْتِرِي فيه أحَد.
وقيل: هذا الخِطَاب وإن كان في الظَّاهِر للرَّسُول، إلاَّ أن المراد أمته.
394
في نصب «صِدْقاً وعَدْلاً» ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يَكُونا مَصْدَرَيْن في مَوِضِع الحال، أي: تَمَّتَ الكَلِمَات صَادِقَات في الوَعْد، عَادِلات في الوعيدِ.
الثاني: أنهما نَصْب على التَّمْييز.
قال ابن عطيَّة: «وهو غَيْر صَوَاب» وممن قَالَ بِكَوْنه تَمِييزاً: الطَّبِريُّ، وأبُو البقاء.
الثالث: انهما نصب على المَفْعُول من أجْله، أي: تَمَّتْ لأجْل الصِّدْق والعَدْل الواقِعَين مِنْهُما، وهو مَحَلُّ نظر، ذكر هذا الوَجْه أبُو البَقَاء.
وقرأ الكوفِيُّون هنا، وفي يونس في قوله: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا﴾ [يونس: ٣٣]، ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ [يونس: ٩٦] موضعان، فوي غافر: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ [غافر: ٦] «كلمة» بالإفراد، وافقهم ابنُ كثير، وابُو عمرو على
394
مَا في يُونُس وغافر، دون هذه السُّورة، والباقون: بالجَمع في المَواضِع الثُّلاثة.
قال أبو حيَّان: «قرأ الكُوفِيُّون هُنَا وفي يُونُس في الموضعين وفي المؤمن:» كلمة «بالإفْرَاد، ونَافِع جميع ذلك» كلمات «بالجَمع، تابعه أبُو عَمْرو، وبان كثير هُنَا»
قال شهاب الدِّين: كيف نَسِي ابن عامر؟ لا يُقَال: إنَّه قد أسْقَطَه النَّاسِخ وكان الأصْل «ونَافِع وابن عامر» ؛ لأنَّه قال: «تَابَعَهه» ولو كان كَذَلِكَ، لقال: «تَابَعَهُمَا».
ووجه الإفراد: إرادة الجِنْس، وهو نظير: رسالته ورسالاته.
وقولهم: قال زهير في كلمته، أي: قصيدته، وقال قُسّ في كَلمته، أي: خُطْبَته، فكذا مَجْمُوع القُرآن العَظِيم، وقراءة الجَمْع ظَاهِرة؛ لأن كَلِمَاته - تعالى مَتْبُوعة بالنِّسْبة إلى الأمْر، والنَّهِي، والوعد، والوعيد وأراد بالكلمات: أمْرَه ونَهْيَهُ ووعْدَه ووَعِيدَه، في الأمْر والنَّهْي.
وقال قتادة: ومُقاتل: صِدْقاً فيما وعد عدلاً فيما حَكَم، وهذا الكلام كما يَدُل على أن الخُلْف في وَعْد اللَّه مُحَال؛ فيدلُّ أيضاً: على أنَّ الخُلْفَ في وعيده مُحَال، بخلاف ما قالهُ الوَاحِدِيّ في تَفْسِير قوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ [النساء: ٩٣] إن الخُلْف في وعيد اللَّه جَائِزٌ، لأن وعد اللَّه ووعِيدَه كلمة اللَّه، فيجب كَوْنَها موصُوفَةٌ بالصِّدق؛ لأن الكذب نَقْص، والنَّقْص على اللَّه مُحَال، ولا يَجُةز إثْبات أنَّ الكَذِب على اللَّه مُحَال، فلو أثبتنا امتِنَاع أن الكذب على الله مُحَال] لزم الدَّوْر، وهو بَاطِل، وأجْمَعُوا على الجَمْع في قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ﴾ ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ [الأنعام: ٣٤].
قوله: «لا مبدِّل لِكلماتِه» يحتمل أن يكُون لَهَا مَحلُّ من الإعراب؛ لأنَّها مُسْتَأنفة، وأن تكون جُمْلة حَاليّضة من فاعل «تَمَّتْ».
فإن قُلْت: فأين الرَّابِط بين ذي الحَالِ، والحَالِ؟
فالجواب أنَّ الرَّبْط حصل بالظَّاهر، والأصْل: لا مبدِّل لها، وإنَّما أبرزت ظَاهِرة؛ تَعْظِيماً لها ولإضافتها إلى لَفْظ الجلالة الشَّريفة.
قال أبو البَقَاء: ولا يجُوز حالاً من «ربِّك» لئلا يُفْصَلَ بين الحَالِ
395
وصاحبها الأجْنَبِيِّ، وهو: «صدقاً وعدلاً» إلا أن يُجْعَلَ «صِدْقاً وعَدْلاً» : حالاً من «ربِّك» لا من «الكَلِمَات».
قال شهاب الدِّين: فإنه إذا جعل «صدقاً وعدلاً» : حالاً من «ربِّك» لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ؛ لأنَّها حالان لذي حال، ولكنّ قَاعدته تَمْنَع تَعَدُّد الحال لذي حالٍ واحدة، وتمنع أيضاً مَجِيء الحَالِ من المُضاف إلَيْه، وإن كان المُضَاف بَعْض الثُّانِي، ولم يُمْنعن هنا بِشَيْء من ذلك، والرسم في «كَلِمَات» في المواضعِ الِّتِي أشَرْتُ [إلى] اخْتِلاف القُرَّاء فيها مُحْتَمِل لِخِلافِهِهم، فإنه في المُصْحَف الكَرِيم من غير ألِف بعد الميم.
[وقوله تعالى: «إن يتَّبْعُون»، و «إن إلا يَخْرصُون» «إن» نافية، بمعنى: ما في الموضعين و «الخَرْص» : الحَزْر ويُعَتبر به عن الكذب والافْتِراء، وأصله من التَّظَنِّي، وهو قول ما لم يُسْتَيْقَن، ويتحقق؛ قاله الأزْهِري.
ومنه خرص النَّخل، يقال: «خَرَصًها» الخَارِص خَرْصاً، فهي «خِرْص» فالمَفْتُوح مَصْدر، ولامكْسُور بِمَعْنَى: مَفْعُول؛ كالنَّقض والنِّقض، والذَّبْح]

فصل في معنى الآية


قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - مَعْنَى «لا مُبَدِّل لِكَلماته» : لا رادَّ لِقَضَائِه ولا مُغَيِّر لِحكمه، ولا خُلْف لوعْدِه، وهو السَّمِيع العَلِيم.
وقيل المُرَاد «الكَلِمَات» القرآن لا مُبَدِّل له لا يَزيد في المُفتَرُون، ولا يُنْقِصُون؛ كقوله - تبارك وتعالى - ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
وقيل: المُراد: أنها محفوظة عن التَّنَاقُض؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢].
وقيل المراد: أنَّ أحْكام اللَّه - تبارك وتعالى - لا تَقْبَل التَّبْدِيل والزَّوَال؛ لأنَّها أزَلِيَّة، والأزَليُّ لا يَزُول، وهذا الوَجْه أحَد الأصُ ل القَوِيَّة في إثْبات الخَير؛ لأنه - تبراك وتعالى - لمَّا حظضكظَم على زَيْد بالسَّعادة، وعلى عَمْرو بالشَّقاوة، ثمَّ قال: «لا مُبَدِّل لكلمات الله» لزم منه امْتِناع أنْ يِقْلِب السَّعيد شقّاً، والشَّقِي سعيداً، وهو مَعْنَى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: جَفَّ القَلَم بما هو كَائِنٌ إلى يَوْم القِيَامَة.
396
لمَّا أجاب عن شُبَهة الكُفَّار، وبيَّن صحَّة نُبُوة مُحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدليل، بيَّن بعد زوال
396
الشُّبْهة، وظهور الحُجَّة، أنه لا يَنْبَغِي للعَاقِل أن يَلْتَفِت إلى كَلِمات الجُهَّال، وهذه الآية الكريمة تَدُلُّ على أنَّ أكْثَر أهْلِ الأرْض كانوا ضُلالاً.
وقي إنَّهم جادّلُوا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمُؤمنين في أكل المَيْتَة، فقالُوا: تأكلون ما تَقْتُلون، ولا تأكلون ما قَتَلَه اللَّه، فقال الله - تعالى -: ﴿وإن تُطِع أكْثر مَنْ فِي الأرْض﴾
أي: ان تُطِعْهُم في أكل المَيْتَة، يُضِلُّوك عن سَبيل اللَّه، أي: عن الطَّرِيق الحقِّ، ثم قال: «غن يَتِّبِعُون إى الظَّنَّ» يريد: أنَّ دينَهُم الذي هُم عليه ظَنٌّ، وهوى لم يأخُذُوه على بَصِيرة «وإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُون» : يكْذِبُون في ادِّعاء القَطْع.

فصل في رد شبه نفاة القياس


تمسَّك نُفَاة القِيَاس بهذه الآية الكريمة؛ لأن اللَّه - تبارك وتعالى - بَالَغ في ذَمِّ الكُفَّار في كَثِير من آيَات القُرْآن العَظِيم بكونهم مُتَّبِعين للظَّن، والشِّيء الذَّي جعله اللَّه - تبارك وتعالى - موجباً للذَّمِّ، [لا بد و، يكون في أقْصَى مَراتِب الذَّمِّ، والعمل بالقياس يُوجِب اتِّبَاع الظَّنِّ، فوجب كَوْنه مَذْمُوماً] محرماً لا يُقَال: لما ورد الدَّليل القَاطِع بكونه حُجَّة، كان العمل به عملاً بِدَليل القَاطِع: إمَّا أن يَكُون عَقْلِيّاً، أو سَمْعِياً، والأوّلأ بَاطِل؛ لأنَّ العَقْل لا مَجَال له في أنَّ العمل بالقِيَاس جَائِزٌ، أو غير جَائِز، ولا سيَّما عند مَن يُنْكِر تَحْسين العَقْل وتَقْبيحه.
والثاني أيضاً بَاطِل؛ لأن الدَّلِيل السَّمْعِي إنَّما يكون قَاطِعاً لَوْ كان مُتَوَاتِراً، وكانت الدَّلالة قَاطِعَ’ غير مُحْتَمَلة لوجه آخَر سوى هذا المَعْنَى الوَاحِد، ولو حَصَل مِثُل هذا الدَّلِيل، لعلم النَّاس بالضَّرُورةَ كون القِيَاس حُجَّة، ولارتفع الخلاف فيه، فَحَيْث لم يُوجَد ذلك، عَلِمْنا أن الدَّليل القَاطِع على صحَّة القياس مفقُود.
الثاني: هب أنه الدَّليلُ القاطع على أن القياس حُجَّة، إلاَّ أنَّ ذلك لا يتم العمل بالقياس إلاَّ مع اتِّباع الظَّنِّ؛ لأن التَّمسُّك بالقياس مَبْنَيُّ على مَقَامَيْن.
أحدهما: أن الحُكْم في محلِّ الوِفَاق معلِّلٌ بِكَذا.
والثاني: أن ذلك المَعْنَى حاصل في حلِّ الخلاف، فهذهان المقامان إن كانَا مَعلُومَيْن على سَبيل القَطْع واليَقِين، فهذا ممَّا لا خِلاف في صِحَّته بين العُقلاء، وإن كان مَجْمُوعُهُمَا أو كان أحدهما ظَنِّيَّا؛ فحينئذٍ لا يتمُّ العمل بهذا القياسِ إلاَّ بِمُتَابَعة الظَّنِّ، وحينئذٍ يدخل تحت النَّصِّ الدَّال على أنَّ متابعة الظّنِّ مَذْمُومة.
والجواب: لم لا يجوز أن يُقال: إن الظَّنِّ عبارىة عن الاعْتِقَاد الرَّاجِح إذا لم يُسْنَد
397
إلى أمَارة، [وهو مثل اعتقاد الكُفَّار أمَّا إذا كان الاعْتِقَاد الرَّاجِحُ مستنداً إلى أمارة]
فهذا الاعتقادِ لا يُسَمَّى ظنَّا، وبهذا الطَّريق سَقَط الاسْتِدلال.
398
في «أعلم» قولان:
أحدهما: أنَّها ليست للتَّقْضِيل، بل بِمَعْنَى اسم فاعل في قوتهن كأنه قيل: إن ربَّك هو يَعْلَم.
قال الواحدي - رحمها لله -: «ولا يجوز ذلك؛ لأنَّه لا يطَابِق: وهو أعْلَم بالمُهتَدين».
والثاني: أنَّها على بابها من التَّفْضِيل، ثم اختلف هؤلاء في محلِّ «مَنْ» : فقال بعض البصْريِّين: هو جَرٌّ بحرف مُقَدَّر حُذِف وبقي عمله؛ قولة الدَّلالة عليه بِقَوْله: «وهو أعْلَمُ بالمُهْتَدين» وهذا ليس بِشَيء؛ لأنه لا يُحْذَف الجَارُّ ويبقى أثَرُه إلا في مواضع تقدَّم التَّنْبِيه عليها، ما ورد بخلافها، فضرورةٌ؛ كقوله: [الطويل]
٢٢٩٩ -.............. أشَارَتْ كُلَيْبٍ بالأكُفِّ الأصَابِعُ
وقوله: [الكامل]
٢٣٠٠ -................ حَتَّى تَبَذَّخَ فارْتَقَى الأعلامِ
الثاني: أنَّها في محلِّ نَصْب على إسْقاط الخَافِض؛ كقوله: [الوافر]
٢٣٠١ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ ولَمْ تَعوجُوا..................
قاله أبُو الفَتْح. وهو مَردُودٌ من وجهين:
الأول أن ذلك لا يطَّرِد.
الثاني: أن أفْعَل التَّفْضِيل لا تَنْصِبُ بِنَفْسِها؛ لضَعْفها.
الثالث: وهو قَوْل الكُوفيين - أنّه نصب بنفس أفْعَل، فإنها عندهم تَعْمل عمل الفِعْل.
الرابع: أنها مَنْصُوبة بِفعل مُقَدَّر يدل عليه أفْعَل، قاله الفَارسيُّ؛ وعلي خَرَّج قول الشاعر: [الطويل]
٢٣٠٢ - أكَرَّ وأحْمَى لِلْحَقيقةِ مِنْهُمُ وأضْرَبَ مَنَّا بالسُّيُونفِ القَوَانِسَا
ف «القوانِس» نُصِب بإضمار فعلٍ، أي: يَضْرِبُ القَوانِسَ؛ لأن أفَعَل ضَعِيفة كما تقرَّر.
398
الخامس: أنَّها مَرْفُوعة المحلِّ بالابْتِداء، و «يَضِل» : خَبَره، والجُمْلَة مُعَلِّقة لأفْعَل التَّفْضِيل؛ فهي محلِّ نَصْب بها؛ كأنه قيل: أعلم أيُّ النَّاسِ يَضِل كقوله: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى﴾ [الكهف: ١٢]، وهذا رأي الكسائِي، والزَّجَّاج، والمُبَرِّد، ومَكّي، وإلاا أن أبا حيَّان ردَّ هذا؛ بان التَّعْلِيق فرع ثُبُوت العمل في المَفْعُول به، وأفْعَل لا يَعْمل فيه، فلا يُعَلَّق.
والرَّاجِح من هذه الأقْوَال: نَصْبُها بمضمر، وهو قول الفَارسيِّ، وقواعد البصريين مُوافِقَةٌ لَه، ولا يَجُوز ان تكون «مَنْ» في محلِّ جرِّ بإضافة أفْعل إليْها؛ لئلاً يلزم مَحْذُور عَظِيم، وذلك أنَّ أفعل التَّفْضِيل لا تُضَاف إلاَّ إلى جنْسِها، فإذا قُلْتَ: «زَيْد أعْلَم الضَّالِّين» لَزِم أن يكون «زَيْد» بَعْض الضَّالِّين، أي: مُتَّصِفٌ بالضَّلال، فهذا الوَجْه مُسْتَحيل في الآية الكريمة، وهذا عند من قرأ «يَضِلُّ» يفتح حَرْف المُضارعة، أمَّا من قرأ بضمِّه: «يُضِلّ» - وهو الحسن، وأحمد بن أبي سُرَيْج -، فقال أبُو البقاءِ: «يجُوز أن تكون» مَنْ «في موضع جرِّ بإضافة» أفعل «» إليها «.
قال:»
إمَّا على مَعْنَى: هو أعْلَم المُضِلِّين، أي: من يجد الضَّلال وهو من أضْلَلْتُه، أي: وَجَدْته ضالاً؛ مثل أحْدَتُه، أي: وَجَدته مَحْمُوداً، أو بِمَعْنى: أنه يَضِلُّ عن الهدى «.
قال شهبا الدِّين: ولا حَاجَة إلى ارْتِكَاب مِثْل الأمَاكن الحَرِجة، وكان قد عبَّر قَبْل ذلك بِعِبَارات اسْتَعْظَمتُ النُّطْق بها، فَضَربْت عَنْها إلى أمْثِلةٍ من قوْلي، والَّذِي تُحْملُ عليه هذه القراءة، ما تقدّضم من المُخْتَار؛ وهو النَّصْب بِمُضْمَر، وفاعل «يُضِلّ» على هذه القراءة: ضمير يَعُود على اللَّه - تعالى - على مَعْنَى: يَجِدُه ضالاً، أو يَخْلُق فيه الضَّلال «لا يسأل عمَّا يَفْعَل» ويجُوز أن يكُون ضمير «مَنْ» أيْ: أعْلَم مَنْ يضِلُّ النَّاس، والمَفْعُول مَحْذُوف، وأمَّا على القراءة الشَّهيرة، فالفَاعِل ضمير «مَنْ» فقط، و «مَنْ» يجُوز أن تكُن موصُولة، وهو الظَّاهر، وأن تكون نَكِرة مَوْصُوفة، ذكره أبثو البقاء.
فإن قيل هو «أعْلَم بالمُهْتَدِين» يوجب وقوع التَّفَاوت في عِلْم اللَّه، وهو مُحَال؟
فالجواب: أن حُصُول التَّفَاوُت في علم اللَّه مُحَال، إلاَّ أن المَقْصُود من هذا اللَّفْظِ:
العِنَاية بإظْهَار هداية المُهْتَدين فوق الهداية بإظهار ضلال الضَّالِّين، ونظيرُه قوله تعالى -:
399
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] فذكر الإحْسَان مَرَّتَيْن، والإساءة مرَّة واحدة، ومَعْنَى: قوله - تعالى -: ﴿أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي: يُجَازي كُلاَّ بما يستحقُّونَ.
400
في هذه الفَاءِ وجهان:
أحدهما: أنَّها جواب شَرْط مُقدَّر.
قال الزَّمخْشَريُّ بعد كلام: فقيل للمُسْلِمِين: إن كُنْتم مُتَحَقِّقِين بالإيمان، فكُلوا [وذلك أنَّهم كانوا يَقُلون للمُسْلِمين: إنَّكم تَزْعُمون أنَّكم تَعْبُدُون اللَّه، فما قتله الله أحَقُّ أن تَأكُلُوا ممَّا قَتَلْتُمُوه أنْتُم، وقال الله - تعالى - للمسلمين: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾.
والثاني: أنها عَاطِفَة على مَحْذُوف.
قال الواحدي: «ودخَلَت الفاءُ للعطْف على ما دلَّ عليه أوَّل الكلام، كأنه قِيل: كونوا على الهُدَى، فكُلُوا». والظَّاهر: أنَّها عَاطِفة على ما تقدَّم من مَضْمُون الجُمَل المُتقدّمَة كأنه قيل: «اتَّبِعُوا ما أمركُم اللَّه تعالى من أكْلِ المُذَكَّى دون الميتة، فكُلُوا».
فإن قيل: إنهم كَانُوا يُبيحُون أكْل ما ذُبِح على اسْمِ اللَّه - تعالى -، ولا يُنَازعون فيه، وإنما النِّزاع في أنَّهم أيْضاً كَانُوا يُبِيحُون أكْل الميتة، والمُسْلِمُون كَانُوا يَحْرِّمُونها، وإذا كان كذلك، كان وُرُود الأمْر بإبَاحة ما ذُكِر اسم الله عليه عِبْئاً، لأنَّه يقتضي إثْبَات الحُكْم في المتَّفْقِ عليه، وترك الحُكْم في المُخْتَلِف فيه.
فالجواب: لعلَّ القوم يحرِّمُون أكْل المُذَكَّاة، ويُبِيحُون أكْل المَيْتَة، فاللَّه - تبارك وتعالى - ردَّ عليهم في الأمْرَيْن، فحكم بحلِّل المُذَكَّاة بقوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾ وبتحريم المَيْتَة بقوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ٢١] أو يُحْمل قوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾ على أن المُرَاد: اجْعَلوا أكْلَكُم مقصوراً على ما ذكر اسْمُ الله عليه، فيكون المَعْنَى على هذا الوجه، تَحْرِيم أكْل المَيْتَة فقط.
قوله: «ومَا لَكُمْ» مُبْتَدأ وخبر، وقوله: «ألاَّ تَأكُلوا» فيه قولان:
أحدهما: هو حَذْف حَرْف الجرِّ، أيك أيُّ اسْتَقَرَّ في مَنْع الأكْل ممَّا ذكر اسْم اللَّه عليه؛ وهو قول أبي إسْحَاق الزَّجَّاج فلما حُذِفَتْ «في» جَرَى القولان
400
المَشْهُوران، ولم يذكر الزَّمَخْشَرِيُّ غير هذا الوجه.
الثاني: أنَّها في محل نَصْبٍ على الحالِ، والتَّقْدير: وأيُّ شَيْء لَكُم تَاركين للأكْل، ويؤيِّد ذلك وُقوع الحالِ الصَّريحة في مِثْل التَّركيب كَثِيراً، نحو: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] إلاَّ أن هذا مَرْدُود بِوَجْهَيْن:
أحدهما: أنَّ «أنْ» تُخَلِّص الفِعْل للاسْتِقْبَال، فكيف يَقَعُ ما بَعْدَها حالاً؟
والثاني: أنَّها مع ما بعدها مُؤوَّلة بالمصدر، وهو أشْبَه بالمُضْمَرَات كما تقدَّم تحريره، والحال إنَّما تكُون نكرة.
قال أبُو البقاء: إلاَّ أن يُقَدَّر حَذْفُ مُضاف، فَيَجُوز، أي: «وما لَكُم ذَوِي ألا تَأكلوا» وفي تَكَلُّ، فمفعول «تَأكُلُوا» مَحْذوف بَقِيتْ صفَته، تقديره: «شَيْئاً مما ذُكِر اسْمُ اللَّه» ويجُوز ألاَ يُراد مَفْعُول، بل المُراد: ومَال لكُم ألا يقع منكم الأكْل، وتكون «مِنْ» لابْتِدَاء الغَاية، أي: أن لا تَبْتَدِئُوا بالأكْل من المَذْكُور عليه اسم اللَّه، وزُعِم، أنَّ «لاَ» مَزِيدة، وهذا فَاسِدٌ؛ إذا لا داعِي لِزيَادتها.
قوله: «وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم» قرأ ابْنُ كَثِير، وأبُو عَمْرو، وابنُ عَامِر: ببنائهما للمفعُول: ونافع، وحفصٌ عن عاصم: ببنَائِهَما للفاعل، وحمزة، والكسَائِيُّ، وأبُو بكر عن عاصم: ببناء الأوَّل للفاعل، وبناء الثُّانِي للمَفْعُول، ولم يأتي عكس هذه، وقرأ عطيَّة العُوفيُّ كقراءة الأخَويْن، إلاَّ أنَّه خفف الصَّاد من «فَصَّل» والقَائِم مقام الفاعل: هو المَوْصُول، وعائده من قوله: «حرَّم عَلَيْكُم». والفَاعِل في قراءة مَنْ بَنَى للفَاعِل ضمير اللَّه - تعالى -، والجُمْلَة في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ.

فصل في المراد من الآية


قوله: «فَصَّل لَكُم ما حرَّم عَلَيْكُم» قال أكثر المُفَسِّرين: هو المُراد من قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير﴾ في أوَّل المائدة [الآية: ٣]، وفيه إشْكَالٌ، وهو أنَّ سُورة الأنْعَام مَكيَّة، وسُورة المائدة من آخر ما أنْزَل اللَّه - تعالى - بالمدينة، فقوله: «فصَّل» يَجِبُ أن يكُون ذلك المُفَصَّل متقدِّماً على هذا المُجْمَل، والمَدَنِيّ متأخِّر عن المَكِيّ، فيمتنع كونه مُتقدِّماً، ولقَائِل أن يقول: المُفَصّل: هو قوله - تبارك وتعالى - بعد هذه الاية الكريمة: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، الآية، وهي هو المُرَاد، خُصُوصاً أن بعد هذه الآية بقليل، إلا أنَّ هذا القَدْر من التَّاخير لا يمنع أن يكُون هو المُرَاد، خُصُوصاً أن السُّورة نزلت دَفْعَة واحِدَة بإجْماع المُفَسِّرين على ما تقدَّم، فيكون في حُكْم المُقارن.
401
قوله: «إلاَّ ما اضْطُرِرْتُم إليه» في الاسْتِثْنَاء وجهان:
أحدهما: أنَّه مُنْقَطِع، قاله ابن عطيَّة والحُوفِي.
والثاني: أنه [اسْتِثْنَاء] متَّصِل.
قال أبو البقاء: «ما» في مَوْضِع نَصْبٍ على الاسْتِثْنَاء من الجِنْس من طريق المَعْنى؛ لأنه وبِّخَهُم بترك الأكل مِمَّا سُمِّي عليه، وذلك يَتَضَمّن الإباحة مُطْلَقاً.
قال شهاب الدِّين: الأوَّل أوْضَح والاتِّصال قلق المَعْنَى، ثم قال: «وقوله:» وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم عليكم «أي: في حَالِ الاخْتِيَار، وذلك حلالٌ حال الاضْطِرارِ».
قوله: «وإنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّون» قرأ الكوفيُّون بضمِّ الياء، وكذا الَّتِي في يُونس: ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ﴾ [الآية: ٨٨] والباقون: بالفَتْح، وسيأتي لذلك نَظَائِر في إبْراهيم وغيرها، والقراءتان واضِحَتَان؛ فإنه يٌقال: ضلَّ في نَفْسَه، وأضَلَّ غيره، فالمَفْعُول مَحْذُوف على قراءة الكُوفيين: وهي أبْلَغ في الذَّمِّ، فإنها تتضَّمن قُبْحَ فِعْلِهم، حَيْث ضلوا في أنْفُسِهِم، وأضَلُّوا غيرهم؛ كقوله - تعالى -: ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ [المائدة: ٧٧].
قيل المُراد بِه: عمرو بن لُحَيّ فمن دُونه من المشركين الَّذين اتخذوا البَحَائِر والسَّوَائِب وقراءة الفَتح لا تُحوِجُ إلى حذف، فرجَّحها بَعْضُهم بهذا وأيضاً: فإنهم أجْمَعُوا على الفَتْح في «ص» عند قوله:
﴿إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [٢٦].
وقوله: «بِأهْوَائِهِم» متعلِّق ب «يَضِلُّونَ» والباءُ سَبَبيَّة، أي: اتِّباعهم أهْواءَهم، وشهواتهم.
وقوله: «بغير عِلْم» متعلِّق بِمَحْذُوف، لأنه حالٌ، أي: يَضِلُّون مُصَاحِبِين للجَهْلِ أي: مُلْتَبِسين بغير علمٍ.

فصل في المراد بالآية


قيل: المُرَاد: عمرو بن لُحَيّ كما تقدَّم؛ لأنَّه أول من غير دين إسماعيل.
وقال الزَّجَّاج: المراد منه الَّذِين يُحَلِّلُون المَيْتَة، ويناظِرُونكم في إحلالها، ويَحْتَجون عليهخا بقولهم لما أحَلَّ أنْتُم، فَبأن يحلَّ ما يَذْبَحُه الله أوْلَى، وكذلك كل ما يَضِلُّون فيه من عبادة الأوثان، والطَّعن في نُبُوّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما يتِّبِعُون فيه الهوى
402
والشَّهوة [بغير عِلْمن وهذه الآية تدلُّ على أن التقليد حَرَام؛ لأنَّه قول بمحض الَوَى والشَّهءةوة] ثم قال: «إنَّ رَبَّك هُوَ أعْلم بالمُهَْدين» أي: هو العالم بما في ضَمَائِرِهم من التَّعَدِّي، وطلب نُصْرة البَاطِل، والسَّعي في إخْفَاء الحقِّ، وإذا كان عَالِماً بأحْوَالهم وقَادِراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصُود منه التَّهْديدي والتخويف.
403
قوله :" ومَا لَكُمْ " مُبْتَدأ وخبر، وقوله :" ألاَّ تَأكُلوا " فيه قولان :
أحدهما : هو على حَذْف حَرْف الجرِّ، أي : أيُّ شيء اسْتَقَرَّ في مَنْع الأكْل ممَّا ذكر اسْم اللَّه عليه ؛ وهو قول أبي إسْحَاق١ الزَّجَّاج، فلما حُذِفَتْ " في " جَرَى القولان المَشْهُوران، ولم يذكر الزَّمَخْشَرِيُّ غير هذا الوجه٢.
الثاني : أنَّها في محل نَصْبٍ على الحالِ، والتَّقْدير : وأيُّ شَيْء لَكُم تَاركين للأكْل، ويؤيِّد ذلك وُقوع الحالِ الصَّريحة في مِثْل هذا التَّركيب كَثِيراً، نحو :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ] إلاَّ أن هذا مَرْدُود بِوَجْهَيْن :
أحدهما : أنَّ " أنْ " تُخَلِّص الفِعْل للاسْتِقْبَال، فكيف يَقَعُ ما بَعْدَها حالاً ؟
والثاني : أنَّها مع ما بعدها مُؤوَّلة بالمصدر، وهو أشْبَه بالمُضْمَرَات كما تقدَّم تحريره، والحال إنَّما تكُون نكرة.
قال أبُو البقاء٣ : إلاَّ أن يُقَدَّر حَذْفُ مُضاف، فَيَجُوز، أي :" وما لَكُم ذَوِي ألا تأكُلوا " وفي تَكَلُّف، فمفعول " تَأكُلُوا " مَحْذوف بَقِيتْ صفَته، تقديره :" شَيْئاً مما ذُكِر اسْمُ اللَّه " ويجُوز ألاَ يُراد مَفْعُول، بل المُراد : ومَا لكُم ألا يقع منكم الأكْل، وتكون " مِنْ " لابْتِدَاء الغَاية، أي : أن لا تَبْتَدِئُوا بالأكْل من المَذْكُور عليه اسم اللَّه، وزُعِم، أنَّ " لاَ " مَزِيدة، وهذا فَاسِدٌ ؛ إذا لا داعِي لِزيَادتها.
قوله :" وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم " قرأ٤ ابْنُ كَثِير، وأبُو عَمْرو، وابنُ عَامِر : ببنائهما للمفعُول : ونافع، وحفصٌ عن عاصم : ببنَائِهَما للفاعل، وحمزة، والكسَائِيُّ، وأبُو بكر عن عاصم٥ : ببناء الأوَّل للفاعل، وبناء الثّانِي للمَفْعُول، ولم يأتي عكس هذه، وقرأ عطيَّة العُوفيُّ كقراءة الأخَويْن، إلاَّ أنَّه خفف الصَّاد من " فَصَّل " والقَائِم مقام الفاعل : هو المَوْصُول، وعائده من قوله :" حرَّم عَلَيْكُم ". والفَاعِل في قراءة مَنْ بَنَى للفَاعِل ضمير اللَّه -تعالى-، والجُمْلَة في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ.

فصل في المراد من الآية


قوله :" فَصَّل لَكُم ما حرَّم عَلَيْكُم " قال أكثر المُفَسِّرين : هو المُراد من قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير ﴾ في أوَّل المائدة [ الآية : ٣ ]، وفيه إشْكَالٌ، وهو أنَّ سُورة الأنْعَام مَكيَّة، وسُورة المائدة من آخر ما أنْزَل اللَّه -تعالى- بالمدينة، فقوله :" فصَّل " يَجِبُ أن يكُون ذلك المُفَصَّل متقدِّماً على هذا المُجْمَل، والمَدَنِيّ متأخِّر عن المَكِيّ، فيمتنع كونه مُتقدِّماً، ولقَائِل أن يقول : المُفَصّل : هو قوله - تبارك وتعالى- بعد هذه الآية الكريمة :﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ]، الآية، وهي وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل، إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المُرَاد، خُصُوصاً أن السُّورة نزلت دَفْعَة واحِدَة بإجْماع المُفَسِّرين على ما تقدَّم، فيكون في حُكْم المُقارن.
قوله :" إلاَّ ما اضْطُرِرْتُم إليه " في الاسْتِثْنَاء وجهان :
أحدهما : أنَّه مُنْقَطِع، قاله ابن عطيَّة والحُوفِي.
والثاني : أنه [ اسْتِثْنَاء ]٦ متَّصِل.
قال أبو البقاء٧ :" ما " في مَوْضِع نَصْبٍ على الاسْتِثْنَاء من الجِنْس من طريق المَعْنى ؛ لأنه وبَّخَهُم بترك الأكل مِمَّا سُمِّي عليه، وذلك يَتَضَمّن الإباحة مُطْلَقاً.
قال شهاب الدِّين٨ : الأوَّل أوْضَح والاتِّصال قلق المَعْنَى، ثم قال :" وقوله :" وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم عليكم " أي : في حَالِ الاخْتِيَار، وذلك حلالٌ حال الاضْطِرارِ ".
قوله :" وإنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّون " قرأ الكوفيُّون٩ بضمِّ الياء، وكذا الَّتِي في يُونس :﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ ﴾ [ الآية : ٨٨ ] والباقون : بالفَتْح، وسيأتي لذلك نَظَائِر في إبْراهيم وغيرها، والقراءتان واضِحَتَان ؛ فإنه يٌقال : ضلَّ في نَفْسَه، وأضَلَّ غيره، فالمَفْعُول مَحْذُوف على قراءة الكُوفيين : وهي أبْلَغ في الذَّمِّ، فإنها تتضَّمن قُبْحَ فِعْلِهم، حَيْث ضلوا في أنْفُسِهِم، وأضَلُّوا غيرهم ؛ كقوله - تعالى- :﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل ﴾ [ المائدة : ٧٧ ].
قيل المُراد بِه : عمرو بن لُحَيّ فمن دُونه من المشركين الَّذين اتخذوا البَحَائِر والسَّوَائِب وقراءة الفَتح لا تُحوِجُ إلى حذف، فرجَّحها بَعْضُهم بهذا وأيضاً : فإنهم أجْمَعُوا على الفَتْح في " ص " عند قوله :﴿ إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ ٢٦ ].
وقوله :" بِأهْوَائِهِم " متعلِّق ب " يَضِلُّونَ " والباءُ سَبَبيَّة، أي : اتِّباعهم أهْواءَهم، وشهواتهم.
وقوله :" بغير عِلْم " متعلِّق بِمَحْذُوف، لأنه حالٌ، أي : يَضِلُّون مُصَاحِبِين للجَهْلِ، أي : مُلْتَبِسين بغير علمٍ.

فصل في المراد بالآية


قيل : المُرَاد : عمرو بن لُحَيّ كما تقدَّم ؛ لأنَّه أول من غير دين إسماعيل.
وقال الزَّجَّاج١٠ : المراد منه الَّذِين يُحَلِّلُون المَيْتَة، ويناظِرُونكم في إحلالها، ويَحْتَجون عليهخا بقولهم لما أحَلَّ ما تذبحونه أنْتُم، فَبأن يحلَّ ما يَذْبَحُه الله أوْلَى، وكذلك كل ما يَضِلُّون فيه من عبادة الأوثان، والطَّعن في نُبُوّة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما يتِّبِعُون فيه الهوى والشَّهوة [ بغير عِلْمن وهذه الآية تدلُّ على أن التقليد حَرَام ؛ لأنَّه قول بمحض الَوَى والشَّهوة ]١١ ثم قال :" إنَّ رَبَّك هُوَ أعْلم بالمُهْتدين " أي : هو العالم بما في ضَمَائِرِهم من التَّعَدِّي، وطلب نُصْرة البَاطِل، والسَّعي في إخْفَاء الحقِّ، وإذا كان عَالِماً بأحْوَالهم وقَادِراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصُود منه التَّهْديد والتخويف.
١ ينظر: معاني القرآن ٢/٣١٤..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٦١..
٣ ينظر: الإملاء ١/٢٥٩..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/١٦٨. إعراب القراءات ١/٦٨، إتحاف فضلاء البشر ٢/٢٩..
٥ ينظر: الدر المصون ٣/١٦٨، المحرر الوجيز ٢/٣٣٩..
٦ سقط في ب..
٧ ينظر: الإملاء ١/٢٥٩..
٨ ينظر: الدر المصون ٣/١٦٨..
٩ ينظر: الدر المصون ٣/١٦٨، المحرر الوجيز ٢/٣٣٩..
١٠ ينظر: معاني القرآن ١٣/١٣٦..
١١ سقط في أ..
لما بين أنَّه فَصَّل المُحَرَّمات، أتْبَعه بما يَجِبُ تَرْكُه بالكُلِّية، والمُرَادُ به: ما يُوجِبُ الإثْمَ، وهي الذُنُونب كُلُّها.
قال قتادة: المُراد «بِبَاطِنه وظَاهره» عَلانيته وسِرَّه.
وقال مُجَاهِد: ظاهرة مِمَّا يَعْمَلُه الإنْسَان بالجوارح من الذُّنُوب، وباطنه: ما يَنْويه ويَقْصده بقلبه؛ كالمُصِرِّ على الذَّنْب.
وقال الكَلْبِيُّ: ظاهِره: الزِّنَا، وبَاطنه المُخَالة، وأكثر المُفَسِّرين على أنَّ ظَاهِره: الإعلان بالزِّنَا، وهم أصْحاب الرَّايَات، وباطنه: الاسْتِسْرَاء، وكانت العرب يُحِبُّون الزِّنَا، وكان الشَّرِيف يَسْتَسِرُّ به، وغير الشَّريف لا يُبِالي به، فَيُظْهره.
وقال سعيد بن جُبَيْر: ظاهر الإثْم: نكاح المحارم، وباطنه الزِّنا.
وقال ابن زَيْد: ظاهره: التَّعرِّي من الثياب في الطَّواف والباطِن: الزِّنَا، وروى حيَّان عن الكَلْبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِر الإثْم: طَواف الرِّجَال بالبّيْت نَهَاراً عُرَاةً، وباطنه، طَوَاف النِّسَاء باللَّيْل عُرَاة.
وقيل هذا النَّهي عامٌ في جميع المُحَرَّمات، وهو الأصحُّ؛ لأن تَخْصِيص اللَّفظ العام بصُورة مُعَيَّنة من غَيْر دليل، غير جائز، ثم قال: «إنَّ الذين يَكْسِبُون الإثْم سَيُجُزون بِمَا كَانُوا يَقْتِرفُون» والاقْتِرَاف: الاكِتسَاب كما تقدَّم، وظاهر النَّصِّ يدلُّ على أنَّه لا بُدَّ وأنْ
403
يُعَاقب المُذنب على الذَّنب، إلا أنَّ المُسْلِمين أجْمَعُوا على أنَّه إذا تاب، ولم يُعاقب، وأهْل السُّنَّة زادُوا شَرْطاً، وهو أنَّه - تبارك وتعالى - قد يَعْفُو عن المُذْنِب؛ لقوله - تبارك وتعالى -: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨] الآية.
404
لما بين حِلَّ كُلِّ ما ذُبِح على اسْم اللَّه - تعالى - ذكر بعده تَحْرِيم ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه، ويَدْخُل فيه المَيْتَة، وما ذُبح على ذِكْر الأصْنَام.
قال عضاء: كُل مَا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عليه من طعامٍ أو شرابٍ، فهو حرام؛ لعُمُوم الآية:
وقال ابنُ عبَّاسٍ: الآية الكريمة في تَحْرِيم الميتات وما فِي مَعْناها، ونُقِل عن عَطَاء الآية الكريمة، وفي تَحْرِيم الذَّبَائح الَّتي كانُوا يَذْبحونها على اسْم الأصْنَام، واخْتَلف العُلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في ذَبِيحَة المُسْلِم، إذا لَمْ يُذْكَر اسم اللَّه علَيه.
فذهب قَوْمٌ إلى تَحْرِيمها سواءً ترك التَّسْمِيةَ عامداً أوْ نَاسِياً، وهُوَ قَوْل ابن سيرين، والشَّعْبِين وأحمد في رواية، وطائفة من المُتَكَلِّمين لِظَاهر الآية الكريمة.
وذه قَوْم إلى تَحْلِيلها، يُرْوَى ذلك عن ابْن عبَّاس، وهُو قول مَالِك، والشَّافِعي، وأحْمَد في رِوَاية.
وذهب قوم إلى أنه إنْ ترك التَّسْمِية عامداً، لم يحلِّ، وإن تركها سَهْواً، أحلت، وهُو قَوْل الثَّوْري، وأصْحاب الرَّأي، ومَذْهَب أحمد.
ومن أبَاحَهَا، قال: المُرَاد من الآية الكريمة: وما ذُبِح على غَيْر اسْم اللَّه؛ لقوله: «وإن لفسق» والفسق في غَيْر ذِكْر اسْم اللَّه؛ كما قال في آخر السُّورَة العَظِيمة: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥] إلى قوله ﴿أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله﴾ وأجمع المُسْلِمُون على أنَّه لا يُفَسَّق آكل ذَبيحَةِ المُسْلِم الذي ترك التَّسْمِية، وأيضاً: وقوله - تعالى: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ وهذه المُنَاظَرَة إنَّما كانت في مَسْألة المَيْتَة على أنَّ المُشْركين قَالُوا للمسلمين: ما يَقْتله الصَّقْر والكَلْبُ تَأكُلُونَن، وما يَقْتُله الله
404
فلا تَأكُلُونَهُ، وعن ابن عباسٍ: إنَّهم قالُوا: تأكلون ما تَقْتُلُونَه، ولا تَأكُلُون ما يَقْتُله اللَّه - تعالى -، وهذه المناظرات مَخْصُوصة بأكل المَيْتَة، وقال تبارك وتعالى -: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ وهذا مَخْصُوص بِمَا ذُبِح على اسْم النُّصُب، يعني: لو رَضِيتُم بهذه الذَّبيحة الَّتِي ذُبِحَ على اسْم الهديَّة للأوثان، فقد رَضِيتُم بإلهيَّتِها فذلك يُوجِب الشِّرْك.
قال الشَّافعي: فأوَّل الآية الكريمة، وإن كان عامَّا بحسب الصِّيغة، إلاَّ أن آخِرَها لمَّا حَصَلتْ فيه هذه القُيُود الثلاثة، علمنا أن المُرَاد من العموم: الخصوص، وعن عائشة: رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالوا يا رسول الله إن هُنَا أقْوَاماً حَدِيثٌ عَهْدهم بِشِرْكٍ يأتُونَنَا باللَّحْم، لا يُدْرَى يَذْكُرون اسْم اللَّه عليها أمْ لا، قال: «اذْكُروا أنْتم اسْم اللَّه، وكلوا» ولو كانت التَّسْمِية شَرْطاً للإبَاحَة، كان الشكُّ في وُجودها مَانِعاً كالشكَّ في أصْل الذَّبْح.
قوله: «وإنَّه لَفِسْقٌ» هذه الجُمْلَة فيها أرْبَعَة أوْجُه:
أحدها: أنَّها مُسْتأنَفة، قالوأ: ولا يَجُوز أن تكُون مَنْسُوقة على ما قَبْلَها؛ لأن الأولَى طلبيَّة، وهي خَبَرِيَّة، وتُسَمَّى هذه الواوُ، واو الاسْتِئْنَافِ.
والثاني: أنَّها مَنْسُوقة على ما قَبْلَها، ولا يُبَالَى بِتَخَلُفِهما، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْه، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك، [وقد أوْرَدْتُ من ذَلِك شَواهِد صالِحَة من شِعْر وغيره].
الثالث: أنَّها حاليَّة، أي: «لا تَأكُلوه، الحالُ: أنَّه فِسْق» وقد تبجَّح الإمام الرَّازي بهذا الوَجْه على الحَنَفيَّة، حيث قَلَب دَليلَهُم عليهم بهذا الوَجْه، وذلك أنَّهم يَمْنِعُون من أكْل مَتْروك التَّسْمِيَة، والشَّافعيَّ’ لا يَمْنعَون منه استدل عيهم الحَنَفِيَّة بِظَاهِر هذه الآية.
فقال الرَّازي: هذه الجُملَة حاليَّة، ولا يَجُوز أن تَكُون مَعْطُوفة لِتخَالُفِهَمَا طَلَباً وخبراً، فتعيَّن أن تكون حاليَّة، وإذا كان حاليَّة، كان المعنى: «لا تَكُلُوه حال كَوْنهِ مُفَسَّقاً»، ثم هذا الفِسْق مُجْمَل قد فَسَّره اللَّه تعالى في مَوْضِع آخرَرن فقال: «او فِسْقاً أهِلَّ لِغَير اللَّه به» يعني: أنه إذَا ذُكشر على الذَّبيحة غَيْر اسم اللَّه، فإنَّه لا يَجُوزظ أكْلُها؛ لأنَّه فِسقٌ.
ونحن نقُول به، ولا يَلْزَم من ذَلِك أنَّه إذا لم يُذْكر اسْم اللَّه، ولا اسْم غيره، أن تكون حَرَاماً؛ لأنه لَيْس بالتَّفْسِير الذي ذَكْرنَاه، والنِّزاع فيه مُحَال من وُجُوه:
منها: أنّنا لا نُسَلِّم امْتِناع عَطْفِ الخَبَر على الطَّلَب، والعَكْس، كما قدَّمتُه عن سِيبوَيْه، وإن سُلِّم، فالواو للاسْتِئْنَاف، كما تقدم، وما بَعْدَها مُسْتأنفُ، وإن سُلِّم أيضاً،
405
فلا نسلم أن «فِسْقاً» في الآية الأخرى مُبَيَّن للقِسق في هذه الآية، فإن هذا لَيْس من بابِ المُجْمَل والمُبَيَّن؛ لأن له شُرُوطاً لَيْسَت مَوجُودَة هُنَا. وهذا الذي قاله مُشْتَمِلٌ من كلام الزَّمَخْشَرِي: فإنه قال:
فإن قُلْت: قد ذَهَبَ جماعة من المُجْتَهِدين إلى جَوازِ أكْل ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه بِنِسْيَان أوْ عَمْد.
قلت: قد تأوَّله هؤلاء بالمَيْتَة، وبما ذُكِر غَيْر اسْم اللَّه عليه؛ كقوله: «أو قِسْقاً أهلِّ لِغَيْر اللَّه به» فهذا أصْل ما ذكره ابن الخَطِيب وتبجَّ به والضَّمير في «أنَّه» يُحْتَمل أن يعُود على الأكْل المَدْلُول عليه ب «لا تأكُلُوا»، وأن يعُود على الموصُول، وفيه حنئيذٍ تأويلان:
أن تَجْعَل الموصُول نَفْس الفِسْق مبالغة.
أو على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: «وإنَّ أكله لَفِسْق» أو على الذكْر المَفْهُوم من قوله: «ذكر» قال أبوُ حيَّان: «والضَّمِ] ر في» إنَّه «: يعُوج على الأكْل، قاله الزَّمَخْشَري، واقْتَصَر عليه».
قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذَكَر: أنَّه يحُوز أن يَعُوج على المَوصُول، وذكر التَّأويلين المُتقدِّمين، فقال: «الضَّمير راجع على مَصْدر الفِعْل الدَّاخل عليه حَرْف النَّهْي، بمعنى: وإنَّ الأكل منه لَفِسْق، أو على الموصُول على أنَّ أكْلَه لِفِسْق، أو جعل ما لَمْ يُذكَر اسْمُ اللَّه عليه في نفس قِسْقاً».
قوله: «وإنّ الشَّياطين ليوحون إلى أوليَائِهم» من المُشْركين لِيُخَاصِموا مُحمَّداً وأصحابه في أكْل المَيْتَ.
وقال عِكْرِمة: المراد بالشَّيَاطِين: مَرَدة المجُوس، ليُوحون إلى أوْلِيَائِهم من مُشْرِكي قُرَيْش، وذلك لأنَّه لما نزل تَحْريم المَيْتَة، سَمِعه المجُوسُ من أهْل فَارِس، فكتَبُوا إلى قُرَيش - وكانت بَيْنَهُم مُكَاتبة - أنَّ محمَّداً وأصاحابه يَزْعُمون أنَّهم يَتْبَعُون أمْ اللَّه - تعالى - ثم يَزعُمُون أن ما يَذْبَحُونه حلالاً، وما يَذْبَحُه اللَّه حرامٌ فوقع في نَفْس ناسٍ من المُسْلِمين من ذلك، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الكَرِيمة.
406
قوله: «لِيُجَادِلُوكُم» متعلِّق ب «يُوحُون» أي: «يُوحُون لأجْل مُجَادَلَتِكم»، وأصْل «يُوحُون» يُوحِيُون؛ فأعِلّ.
قوله: «وإن أطَعْتُمُوهم» قيل: إنَّ التَّوْطِئة للقسم، فلذلك أجيب القسم المُقَدَّر بقوله: «إنكم لمُشْرِكُون» وحذف جواب الشَّرْط بِلَفْظِ الماضِي، وهو ههنا كذلك، وهو قوله: «وإنْ أطَعْتُمُوهُم».
قال شهاب الدِّين: كأنه زعم: أنَّ جواب الشَّرْط هو الجُمْلَة من قوه: «إنَّكُم لَمُشْرِكُون» والأصل: «فإنكُم» بالفاء؛ لأنَّها جُمْلَة اسميَّة، ثم حُذِفَت الفاء؛ لكون فِعْل الشَّرْط بِلَفْظِ المُضِيِّ، وهذا لَيْس بِشَيء؛ فإن القَسَم مُقدَّر قَبْل الشَّرْط ويدُل على ذلك حَذْف اللاَّم المُوَطِّئَة قبل «إن» الشَّرْطية، ولَيْس فِعْل الشَّرْط مَاضِياً؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ﴾ [الأعراف: ٣] فَهَهُنَا لا يُمْكنه أن يقُول: إن الفاء مَحذُوفة؛ لأن فِعْل الشَّرْط مُضارعٌ، وكأن أبا البقاء - والله أعلم - أخذ هذا من الحُوفيِّ؛ فإني رَأيْتُه فيه كما ذَكَرَهُ أبُو البقاء، ورَدَّه أبُو حيَّان بنحو ما تقدم.

فصل في معنى الآية


والمَعْنَى: وإنْ أطعتُمُوهُم في استِحْلال المَيْتَة، إنكم لَمُشْرِكُ ن، وإنَّما سُمِّي مُشْرِكاً؛ لأنه أثْبَت حَاكِماً سِوَى اللَّه، وهذا هو الشِّرك.
وقال الزَّجَّاج: وفيه دَلِيل على أنَّ كُلَّ مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرَّم اللَّه، وحرَّم ما أحَلَّ اللَّه، فهو مُشْرِك.
407
لما ذكر تعالى في الآيَة الأولَى؛ أنَّ المُشْرِكين يُجَادِلُون المُؤمنين في دين الله - تعالى - ذكر مثلاً يدُلُّ على حَالِ المُؤمِن المهْتَدي، وعلى حَالِ الكَافرِ الضال فبَيَّن أن المؤمن بِمَنْزِلة مَنْ كَانَ مَيْتاً؛ فَجُعِل حَيّاً بعد ذلك، وأعْطِي نُوراً يَهْتَدِي به في مَصَالِحِه، وأنَّ الكَافِر بمنْزِلَة المُنْغَمِس في ظُلُمَاتٍ لا خَلاصَ له مِنْهَا، فيكون مُتَحَيِّراً دائماً.
قوله: «أو مَنْ كَانَ» تقدَّم أن الهَمْزَة يَجُوز أن تكُون مقدَّمة على حرف العطْفِ، وهو رَأي الجُمْهُور، وأن تكُون على حَالِها وبَيْنها وبيْن فِعْل مُضْمَر، و «مَنْ» في محلِّ رفع
407
بالابتداء، و «كمَنْ» خَبَرْهُ، وهي مَوْصُولة، و «يمشي» في محلِّ نَصْب صِفَة ل «نُوراً».
قال قتادة: أراد ب «النور» : كَتَاب اللَّه - تعالى - بيّنه مع المُؤمن، بها يعمل، وبها يَأخُذ، وإليها يَنْتَهِي، و «مَثَلُه» مُبْتَدأ و «فِي الظُّلُمات» : خَبَرُه، والجُمْلَةُ صِلَةُ «مَنْ» الأولى و «ليس بِخَارج» في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الموصُول، أي: «مِثْل الَّذي اسْتَقَرَّ في الظُّلُمات حالً كَوْنه مُقِمياً فيها».
وقال أبُو البقاء: «لَيْس بِخَارج في مَوْضِع الحَالِ من الضَّمِير في» منْها «ولا يَجُوز أن يكُون حالاً من الهَاءِ في» مَثَلُه «للفَصْل بَيْنَه وبيْن الحَال بالخبر».
وجعل مَكِّي الجُمْلَة حالاً من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في «الظُّلُمات» وقرأ طَلْحَة بن مُصْرِّف: «أفَمَنْ كَانَ» بالفَاءِ بدل الواو.

فصل في المراد بالآية


اخْتَلَفُوا في هذه الآية الكَرِيمة على قَوْلَيْن:
أحدهما: أنَّها نزلت في رَجُلَيْن بأعْيَانِهِمَا.
قال ابْن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «جَعَلْنَأ لَهُ نُوراً» يريد: حَمْزة بن عَبْد المُطَّلِب، «كمن مَثَلُه في الظُّلُماتِ» يريد: أبا جَهْل بْن هِشَام، وذلك أنَّ أبا جَهْل رَمَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفَرْثٍ، فأخْبِر حمزة بما فعل أبُو جَهْل وهو رَاجِعٌ من قُدومِهِ من صَيْدٍ، وبِيَده قَوْس وحَمْزة لَمْ يؤمن بعد، فأقبل غضْباناً حتى علا أبَا جَهْلٍ بالقَوْس، وهو يَتَضَرَّع إلَيْه، ويَقُول: أبا يَعْلى، أما ترى ما جَاءً به، سَفَّه عُقُولنا، وسَبَّ آلهتنا، وخالف آباءنا، فقال حَمْزَة: ومن أسْفَه مِنْكُم، تَعْبُدون الحِجَارة من دُونِ اللَّه؛ أشْهَدُ ألاّ إله إلاَّ الله وأشْهَد أنَّ محمَّداً عَبْده ورَسُوله، فأنْزَل اللَّه الآية.
وقال الضَّحَّاك: نَزَلَت في عُمر بن الخَطَّاب، وأبي جَهْل.
وقال عِكْرِمَة، والكلبي: نزلت في عمَّار بن يَاسِر، وأبي جَهْل.
408
وقال مُقَاتِل: نزلت في النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبِي جَهْل، وذلك أنَّه قال: زَاحَمَنا بنو عَبْد مَنَاف في الشَّرف، حتى إذا صِرْنا كفرسي رهان قالوا: مِنَّا يُوحى إلَيْه، والله لا نُؤمِنُ به إلاَّ أن يَأتِينَا وَحْي كما يَأتِيه، فنزلت الآية الكريمة.
القول الثاني: أنَّ هذه الآية الكريمة عَامَّة في حقِّ المؤمنين والكَافِرين، وهذا هو الحَقُّ؛ لأن تَخْصِيص العَامِّ بغير دَلِيل تحكُّم؛ وأيضاً: فلقولهم إن السُّورة نزلت دَفْعَةً واحدة، فالقَوْل بأنَّ سَبَبَ هذه الآيَة الكريمة المُعَيَّنة كذا وكذا مُشْكل.
قوله: «كَذَلك زُيِّن» نعتُ لِمَصْدَر، فقدَّره بَعْضُهم: «زُيِّن للكَافِرين تَزْيناً كما أحْيَيْنا المُؤمنين» وقدَّره آخرَرُون: «زين لِلْكَافرين تَزْييناً لكون الكَافرين في ظُلُمات مُقِيمين فيها» والفاعل المَحْذُوف من «زُيِّن» المنُوبُ عنه هو اللَّه - تعالى - ويجُوز أنْ يَكُون الشَّيْطَان، وقد صرَّح بكُلِّ من الفَاعِليْن مَعَ لفظ «زيَّن»، قال - تعالى - ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٤]، وقال - تعالى - ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ [العنكبوت: ٣٨] و «مَا كَانُوا يَعْمَلُون» : هو القَائِم مقام الفَاعِل، و «ما» يَجُوز أن نُون مَوْصُولة اسميَّة أو حَرْفِيَّة أوْ نَكِرة مَوْصُوفة والعائدُ على القولِ الأولِ والثالث محذوفٌ، دون الثاني عند الجُمْهورِ، على ما عُرِفَ غير مرَّةٍ.
وقال الزجاجُ: «موضعُ الكافِ رفعٌ، والمعنى: مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك، زُيِّن للكافرين أعمالهم».

فصل في بيان خلق الأفعال


دلّت هذه الآيةُ الكريمةُ على أن الكُفْر، والإيمانَ من الله تعالى؛ لأن قوله «فَأحيَيْنَاهُ» وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس﴾ كنايةٌ عن المعرفةِ، والهدى؛ وذلك يدلُّ على أنَّ هذه الأمورَ من الله - تبارك وتعالى - والدلائلُ العقليةُ ساعدت على صِحَّتِه، وهو دليلُ الداعي المتقدم.
وأيضاً فالعاقُل لا يختار الجهل، والكفر لنفسه؛ فمن المحال أنْ يختارَ الإنسانُ جَعْلَ نَفْسِه كافراً جاهلاً، فلما قصد لتحصيل الإيمانِ والمعرفةِ، ولم يحصلء له ذلك، وإنما حصل ضدُّه، وهو: الكُفْرُ، والجَهْلُ؛ علمْنَا أنَّ ذلك بإيجاد غَيْره.
فإن قيل: إنَّما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل، أنَّه عِلْمٌ.
فالجواب: أنَّ حاصِلَ هذا الكلامِ أنه إنما اختار هذا الجهْلَ لسابقَةِ جَهْل آخر، والكلام في ذلك الجَهْلِ السَّابِقِ كذلك إلى غَيْرِ نهاية، فوجب الانتهاءُ إلى جَهْل يحصل فيه لا بإيجاده، وهو المطلوبُ.
409
قيل «كذلك» نَسَقٌ على «كَذَلِكَ» قبلها ففيها ما فيها.
وقدَّرَهُ الزَّمْخَشَرِيُّ بأنّ معناه: «وكما جعلنا في مكَّةَ المشرفةِ صَنَاديدَهَا لِيَمْكُرُوا» يجوزُ أن تكون فيها، كذلك جعلْنَا في كل قريةٍ أكابرَ مجْرِميها «واللامُ في» لِيَمْكُرُوا «يجوزُ أن تكون للعقاقبة؛ وأنْ تكونَ للعلَّة مَجَازاً، و» جَعَلَ «تَصْييريَّة، فتتعدَّى لاثنَيْنِ، واختُلِف في تقديرهما: والصحيحُ أنء تكُونَ» فِي قَرْيةٍ «مَفْعُولاً ثايناً قُدِّم على الأوَّل، والأولُ» أكابِر «مُضَافاً لمجرميها.
الثاني: أنَّ»
فِي كُلَّ قَرْيَةٍ «مفعولٌ - مقدَّمٌ، و» أكَابِر «هو الأول، و» مُجْرِمِيهَا «بدلٌ من» أكَابِر «؛ ذكر ذلك أبُو البقاء.
الثالث: أن يكُون»
أكَابِر «معفولاً ثانياً قُدِّم، و» مُجْرِيمها «مَفْعُولٌ أول أخِّر، والتقديرُ: جَعَلءنا في كُلِّ قريةٍ مجرميها أكَابِرَ، فيتعلق الجارُّ بنفسِ الفِعْلِ قبلهح ذكر ذلك ابنُ عَطِيَّة.
قال أبُو حيَّان:»
وما أجَازَاهُ - يعني: أبَا البَقَاءِ، وابنُ عَطيَّةَ٠ خطأٌ وذهولٌ عن قاعدةٍ نَحْويَّةٍ، وهي أنَّ أفْعَلَ التفضيلِ إذا كانت ب «مِنْ» مَلْفُوظاً بها، أو مقدرةً، أو مُضَافة إلى نِكَرَة كانت مُفردةً على كُل حالٍ، سواءٌ كانت لمذكر، أم مؤنث، مُفْرَدٍ أم مُثَنى أمْ مَجْمُوعٍ، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعَتْ أو أنِّثَتْ وطابَقَتْ ما هي له، لَزِمَها أحَدُ أمْرَيْنِ: إمَّا الألف واللام، وإمَّا الإضافة لمعرفة.
وإذا تقرَّرَ ذلك، فالقولُ بكوْنِ «مُجْرِميهَا» بدلاً، أو بكونه مفعولاً أول، و «أكابر» مَفعولٌ ثانٍ - خَطَأٌ؛ لاسْتلْزام أنْ يبقى «أكَابِرَ» مَجْمُوعاً وليست في ألِفٌ ولامٌ، ولا هِيَ مُضَافة لمعرفةٍ «. قال:» وقد تنبِّه الكرمَانِيُّ إلى هذه القاعدة فقال: أضَاف «أكَابِر» إلى «مُجْرِميها» لأن أفْعَلَ لا يُجْمَعُ إلاَّ مع الألفِ واللامِ، أو مع الإضافة «.
قال أبُو حيَّان:»
وكان يَنْبَغِي أنْ يُقَيَّد بالإضافة إلى معرفةٍ «.
قال شهابُ الدِّين: أما هذه القاعدةُ فمسلمة، ولكن قد ذكر مكِّي مِثْلَ ما ذُكِر عن ابْن عَطيَّة سواء، وما أظُنّه أخذ إلاَّ منه، وكذلك الواحديُّ أيضاً، ومنع أنْ تُجوَّز إضافةُ»
أكَابر «إلى مجرميها» ؛ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «والآيةُ على التَّقْديمِ، والتأخير تقديرُه: "
410
جَعَلْنَاه مُجْرِميها أكَابر" ولا يجوز أن تكون الأكَابِر مضافةً؛ لأنه لا يتمُّ المعنى، ويحتاجُ إلى إضْمار المفعول الثاني للجعل؛ لأنك إذا قلت:» جعلتُ زَيْداً «وسكتَّ لم يُفِد الكلامُ حتى تقول: رَئِيساً أو َلِيلاً، أو ما أشبه ذلك، ولأنَّك إذا أضَفْتَ الأكَابِر، فقد أضَفْتَ النعتَ إلى المنعوت؛ وذلك لا يجوزُ عند البَصْريِّين».
قال شهابُ الدِّين: هذان الوجْهَانِ اللذان ردِّ بهما الواحديُّ لَيْسَا بِشَيْءٍ.
أمَّا الأولُ فلا نسلم أنا نُضْمِرُ المعفول الثاني، وأنه يَصِيرُ الكلامُ غيرَ مُفِيد، وأمَّا ما أوْرَده من الأمْثِلَةِ، فليس مُطَابِقاً؛ لأنَّا نقولُ: إنَّ المفعول الثَّانِي - هنا - مذكورٌ مصرّحٌ به، هو الجارُّ والمجرورُ السابقُ.
وأما الثاني: فلا نُسَلِّم محذوفٌ، قالوا: وتقديرُه: «جعلنا في كُلِّ قرية أكَابر مُجْرميها فُسَّقاً لِيَمْكُرُوا» وهذا لَيْس بِشَيءٍ؛ لأنه لا يحذفُ شيء إلاَّ لدليلٍ، والدليلُ على ما ذكروه غيرُ واضحٍ.
وقال ابنُ عطيَّة: «ويقالُ أكابرة كما يقالُ أحْمر وأحَامِرةَ» ؛ قال الشاعر: [الكامل]
٢٣٠٣ - إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثةَ أتْلَفَتْ مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدْماً مُؤْلَعاَ
قال ابو حيان: «ولا أعْلَمُ أحَداً أجاز في جَمْع أفْضَل أفَاضِلَة، بل نَصَّ النحويون على أن: أفْعَل التَّفْضِيل يجمعُ للمذكَّرِ على الأفضَلِين، أو على الأفاضل».
قال شهابُ الدين: وهذه التاءُ يذكرها النحويونُ أنها تكون دَالَّةً على النسب في مِثْلِ هذه البنية، قالوا: الأزَارَقَة، والأشاعِثَة، وفي الأزْرَقِ ورهطه، والأشْعَث وبنيه، ولي بقياسٍ، ولَيْس هذا مِنْ ذلك في شَيْءٍ.
والجمهورُ على «أكَابِرَ» جَمْعاً.
وقرأ ابنُ مُسْلِم: «أكبر مجرميها» بالإفْرَادِ، وهو جائِزٌ، وذلك أنَّ أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأُريد بها غيرُ الإفْرَادِ، والتذكير؛ جاز أنْ يُطابِق، كالقراءةِ المشهُورةِ
411
هنا، وفي الحديث: «أحَسنكم أخلاقاً» وجاز أن يُفْرَج، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس﴾ [البقرة: ٩٦].

فصل


قال الزجاجُ: إنما جعل المجرمينَ أكَابر لأنهم لأجْل رياستهم أقْدَر على المكْرِ [والغدْرِ]، وترويج الأبَاطيل على الناسِ مِنْ غيرهم، ولأن كثرة المالِ، والجاهِ تحمل الغَدْرِ، والمكْرِ، والكَذِب، والغَيْبةِ، والنمِيمَةِ، والإيْمانِ الكَاذِبَة، ولو لم يكُنْ للمالِ والجَاهِ سِوَى أنَّ اللَّه - تبارك وتعالى - وصف بهذه الصفاتِ الذَّميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه لكفى ذلك دَلِيلاً على خَسَاسَةِ المال والجاه.
قوله: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
والمرادُ ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣].
واعلَمْ أنَّ سُنّة الله [- تبارك و] تعالى - أنه يجعلُ في كُلِّ قريةٍ اتباعَ الرسل ضاعفهم لقوله في قصة نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: ١١١] وجعل فساقهم أكابرهم ليمْكُروا فيها، وذلك أنهم أجْلَسُوا في كُلِّ طَريقٍ من طُرُقِ مكَّةَ [المشرفَة] أرْبَعَةً نَفَرٍ لِيصْرِفُوا النَّاسَ عن الإيمانِ بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُونَ لكل مَنْ يقدَمُ: إياكم وهذا الرجُلَ، فإنه كَاهِنٌ، ساحِرٌ، كذََّابٌ.
وقولُه: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [لأنَّ وبال مَكْرِهمْ عليهم وهم ما يشعرون أنه كذلك.
قال المعتزلة: «وما يَمْكُرونَ إلاَّ بِأنْفُسِهمْ» ] مذكورٌ في مَعْرض التهديد، والزَّجْرِ، فلو كان ما قل هذه الآيةِ الكريمةِ، يدلُّ على أنه تعالى ارادَ مِنْهم أنْ يمكرُوا بالناسِِ - فكَيْفَ يلِيقُ بالرَّحيم الحَكِيم أنْ يُريد منهم المَكْرَ، ويخلقه فيهم، ثُمَّ يُهَدِّدُهُمْ عليه، ويعاقِبُهُمْ أشَدَّ العِقابِ، ومعارضتُهم تقدَّمَتْ مِرَاراً.
412
قال المفسِّرُونَ: إنَّ الوليدَ بن المغيرةِ قال: والله لو كانت النُّبُوة حقاً لكنتُ أوْلَى
412
بها مِنْك؛ لأني أكبرُ مِنْك سِنَّا، وأكثرُ مِنْك مَالاً، وولداً؛ فنزلت الآيةُ الكريمةُ.
وقال الضحاكُ: أرَادَ كُلُّ واحدٍ منهم أنْ يخصَّ بالوءحِي، والرسالةِ؛ كما أخبر تعالى عنهم: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾ [المدثر: ٥٢] فظاهر هذه الآية الكريمة التي نحن في تَفْسِيرها يدُلُّ على ذلك أيضاً، وهذا يدلُّ على أنَّ جماعةً منهم كانوا يَقُولُونَ هذا الكلام.
وقال مُقَاتِلٌ: نزلَتْ في أبِي جَهْلٍ؛ وذلك أنَّه قال: زَاحَمَنَا بنُو عَبْدِ منافٍ في الشرف؛ حَتَّى إذَا صِرْنًا كَفَرسَيْ هانٍ، قالوا مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إليه، والله لَنْ نُؤمِنَ به، ولن نَتِّبعَهُ أبَداً؛ إلاَّ أنء يَأتِينَا وحي، كما يَأتيه؛ فأنْزَل اللَّهُ - تبارك وتعالى - الآية.
وقوله: ﴿لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله﴾.
فيه قولان:
أشهرهما: أن القومَ أرادُوا أنْ تحصُلَ لهم النبوةُ، والرِّسَالَةُ، كما حَصَلَتْ لمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنْ يكُونُوا مَتْبُوعِينَ لا تَابِعِينَ.
والوقول الثاني: نُقِل عن الحس، وابن عبَّاس أن المعنى: وإذا جاءتُهْم آيةٌ من القرآنِ تأمُرهم باتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: «لَنْ نُؤمِنَ لك حتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأرْض يَنْبُوعاً....» إلى قوله: ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: ٩٣] مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - إلى أبي جَهْلٍ، وإلى فلانٍ وفُلانٍ، كتاباً على حدَةٍ؛ وعلى هذا فالتقديرُ ما طلبوا النبوة وإنَّما طلَبُوا انْ يَاتِيهُمْ بآياتٍ قَاهِرَةٍ مثل مُعْجزاتِ الأنْبياءِ المتقدمين؛ كي تدل على صِحًّة نبوّة محمدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
قال المحقِّقُون: والأوَّلُ أقْوَى لأنَّ قولهُ تبارك وتعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ لا يَلِيقُ إلاَّ بالقولِ الأوَّلِ.
وقوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ فيه تنبيهٌ على أنَّ أقلَّ ما لا بُدَّ مِنْهُ في حُصُولِ النُّبُوةِ، والرسالةِ؛ الباراءةُ عن المكْر، والخَدِيعَةِ، والغَدْر، والغِلِّ، والحَسَدِ وقولهم ﴿لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله﴾ عينُ المكرِ، والغل والحسد؛ فكيف تحصلُ النبوةُ، والرسالةُ مع هذه الصفات الذَّمِيمة؟.
قوله تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
في «حَيْثُ» هذه وجهان:
أحدهما: أنَّها خرجتْ عن الظرفيَّة، وصارت مَفْعُولاً بها على السِّعَةِ، وليس العامِلُ «
413
أعْلَمُ هذه؛ لما تقدَّم مِنْ أنَّ أفْعَلَ لا تنصبُ المفعول به.
قال أبُو عَلِيّ:» لا يجوزُ أنْ يكُونَ العامِلُ في «حَيْثُ» : فِعلاً يدُلُّ عليه «أعْلَمُ» و «حَيْثُ» لا يكونُ ظَرْفاً، بل يكونُ اسْماً، وانتصابُه على المفعلول به على الاتِّساعِن وملُ ذلك في انتصابِ «حَيْثُ» على المفعولِ به اتساعاً قولُ الشَّمَّاخِ: [الطويل]
٢٣٠٤ - وحَلأهَا عَنْ ذِي الأرَاكَةِ عَامِرٌ أخُو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاجِزُ
ف «حَيْثُ» مفعولةٌ، لأنه لي يُريدُ أنه يَرْمِي شَيْئاً حيث تكون النواجِز، إنما يريدُ أنه يرمي ذلك الموضع «. وتبع الناسُ الفَارسيَّ على هذا القول.
فقال الحوفِيُّ:»
لَيْسَتْ ظَرْفاً؛ لأنه تعالى لا يكُون فِي مكانٍ أعْلمَ منه في مكانِ آخر، وإذَا لم تكن ظَرْفاً، كان مَفْعُلاً بها؛ على السِّعَةِ، وإذا كانت مَفْعُولاً، لم يعملْ فيها «أعْلَمُ» ؛ لأن «أعْلَمُ» لا يعملُ في المفعولِ بهِ فيقدّرُ لها فِعْلٌ «وعبارةُ ابْنِ عطيَّة، وأبِي البَقَاءِ نحو مِنْ هذا.
وأخذ البرِيزيُّ كلام الفارسيِّ [فنقله]، وأنْشدَ البيتَ المتقدِّمَ.
والثاني: أنَّها باقيةٌ على ظَرْفِيَّتِهَا بطري المجاز، وهذا القولُ لَيْسَ بشيءٍ، ولكنْ أجَازَهُ أبُو حيَّان مختاراً له على ما تقدم.
فقال:»
وما أجازُواه مِنْ أنَّهُ مفعولٌ به على السعة أو مفعولٌ به على غيْرِ السعة - تَأبَاهُ قواعِدُ النَّحْو؛ لأن النحويِّينَ نَصُّوا على أنَّ «حَيْثُ» مِنَ الظرُوفِ التي لا تتصرفُ، وشذَّ إضافةُ «لَدى» إليها، وجرِّها «بالياء»، وب «في»، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّعَ فيه لا يكونُ إلاَّ مُتَصرِّفاً، وإذا كان كذلك، امتنع نصبُ «حَيْثُ» على المفعُولِ به، لا على السِّعَة، ولا على غَيْرها.
والذي يَظْهَرُ لِي إقْرارُ «حَيْثُ» على الظَّرفيةِ المجازيَّةِ، على أنْ يُضَمَّنَ «أعْلَمُ» مَعْنَى ما تيعدِّى إلى الظرفِ، فيكون التقديرُ: «اللَّهُ أنْفَذُ عِلْماً حَيْثُ يجعلُ رِسَالاه» أي: «هو نافِذُ العلم في لاموضع الذي يجعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجازٌ كما قلنا».
قال شهابُ الدِّين: قد ترك ما قاله الجمهورُ، وتتابعوا عليه، وتأوَّل شَيْئاً هو
414
أعْظَم مما فَرَّ مِنْه الجمهورُ، وذلك أنه ليزمه على ما قدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نَفْسِه يتفاوت بالنسْبَة إلى الأمْكِنَة، فيكونُ في مكانِ أبْعَدَ مِنْه في مكانٍ، ودعواه مجازُ الظرفيَّةِ لا ينفعهُ؛ فيما ذكرته من الإشْكَال، وكيف يُقَالُ مِثْلُ هذا؟ وقوله: «نَصَّ النحاةُ على عدم تصرُّفها» هذا معارضٌ - أيضاً - بأنهم نصُّا على أنها قد تتصرَّفُ بغير ما ذكر هو مِنْ كونها مجروةً ب «لَدَى» أو «إلى» أو «فِي» فمنه: أنها جاءت اسماً ل «إنَّ» في قوله الشاعر: [الخفيف]
٢٣٠٥ - إنَّ حَيْثُ اسْتَقَرَّ مَنْ أنْتَ رَاجي هِ حِمًى فِيه عِزَّةٌ وأمَان
ف «حيثُ» اسمُ «إن»، و «حِمًى» خبرُها، أيْ: إنَّ مكاناً استقرَّ من أنتن راعية مكانٌ يحمي فيه العزُّ والأمانْ ومِنْ مَجِيئها مجروةً ب «إلى» قول القائل في ذلك: [الطويل]
٢٣٠٦ - فَشَدَّ وَلَمْ يُنْظِرْ بُيُوتاً كَثِيرةً إلَى حَيْثُ ألْقَتْ رَحْلَهَا أمُّ قَشْعَمِ
وقد يجابُ عن الإشْكال الذي أوْرَدْتُه عليه، بأنه لم يُرِدْ بقوله «أنْفَذُ عِلْماً» التفضيل، وإنْ كان هو الظاهِرُ بل يُريد مُجَردَ الوصْفِ؛ ويدلُّ على ذلك قوه: أي هُوَ نَافِذُ العلمل في الموضع الذي يَجْعَلُ فيه رِسَالاته، ولكن كان يَنْبَغِي أنْ يصرِّحَ بذلك، فيقول: ولَيٍ المراد التفضيل.
وروي «حَيْثَ يَجْعَلُ» بفتح الثاء، وفيها احتمالان:
أحدهما: أنها فتحةُ بناْءٍ؛ طَرْداً للباب.
والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ؛ لأنها معربةٌ في لغةِ بَنِي فَقْعس، حكاها الكسَائِيُ.
[وفي «حَيْثُ» سِتُّ لُغَاتِ: حَيْثُ: بالياء بتَثْلِيث الثاءِ، وحَوْثُ: بالواو، مع تَثْلِيث الثاء].
وقرأ ابنُ كثير، وحَفْصٌ عن عَاصم «رسالَتَه» بالإفراد، والباقون: «رِسَالاتِهِ» بالجمع، وقد تقدَّم توجيهُ ذلك في المائدة؛ إلا أن بَعْضَ مَنْ قر هُناك بالجمْع - وهوحَفْصٌ - قرأ هنا بالإفْرادِ، وبعضُ مَنْ قرأ هناك بالإفْرَادِ - وهو أبو عَمْرو، والأخوانِ، وأبُو بَكْرٍ، عَنْ عاصم - قرأ هنا بالجمع، ومعنى الكلام: «اللهُ أعْلَمُ بمَنْ هُوَ أحَقُّ بالرِّسالةِ».
قوله: ﴿سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله﴾ قِيلَ: المرادُ بالصِّغَارِ ذلك وهوان يحصلُ لهم في الآخرة.
415
وقيل: الصغارُ في الدنيا، وعذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة.
قوله: «عِنْدَ اللًّهِ» يجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ ب «يُصِيب» ويجوز أن ينتصبَ ب «صَغَار» ؛ لأنه مصدرٌ، وأجازُوا أن يكون صِفَةً ل «صغار» ؛ فيتعلق بمحذوفٍ، وقدَّره الزجاجُ فقال: ثَابِتٌ عن الله تعالى «.
والصِّغارُ: الذلُّ والهوان، يقالُ منه: صَغُر يَصْغَر صِغْراً فهو صغِيرٌ، هذا قولُ اللَّيْثِ، فوقع الفرقُ بين المعْنَيَيْنِ بالمصدرِ، والفعلِ.
وقال غيره: إنه يُقالُ: صَغُر، وصغَر من الذل.
والعِنْديَّةُ هنا: مجازٌ عن حَشْرِهم يوم القيامةِ، أو عَنْ حُكمه وقضائه بذلك؛ كقولك: ثَبَتَ عند فلانٍ القاضِي، أيْ: في حكمه، ولذلك قدَّم الصَّغار على العذاب؛ لأنه يُصيبهُمْ في الدنيا.
و»
بما كانوا «الباء للسببيّة أي: إنما يُصيبهم ذلك بسبب مَكْرِهم، وكَيْدِهم، وحَسَدِهم و» مَا «مصدرية، ويجوز أتكون معنى الذي.
416
قال المفَسِّرُون: لمَّا نزلت هذه، سُئِل رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن شَرْح الصًّدر، قال: «نُورٌ يَقْذِفُهُ الًّهُ - تعالى - في قَلْبِ المُؤمِن، فَيَنْشَرحُ لهُ ويَنْفِسِحُ» قيل: فَهْل لذلك أمَارَةٌ.
قال: «نَعَم، الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَّجَافِي عن دَارِ الغُرُور، والاسْتِعْداد للموت قبل نُزُولِهِ».
قوله: ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ﴾ كقوله: «مَنْ يَشأ اللًّهُ يُضْلِلْه» و «مَنْ» يَجُوزُ أن تكُون مَرْفُوعة بالابتداء، وأن تكون مَنْصُوبَةً بمقدِّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال، أي: مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ، وأنْ تكون مَنْصُوبَةً بمقدِّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال، أي: مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ، و «أنْ يَهْدِيَهُ» مَفْعُول الإرادَة، والشَّرْح: البَسْطُ والسِّعَة، قاله الليث.
وقال ابن قُتَيْبَة: «هو الفَتْحُن ومنه: شَرَحْتُ اللًّحم، أي: فَتَحْتُه» وشرح الكلام:
416
بَسَطَهَ وفتح مغْلَقَه، وهو استِعَارةٌ في المَعانِي، حَقِيقَةٌ في الأعْيَان. و «للإسْلام» أيك: لِقُبُولِهِ.
قوله: ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾.
يجُوز أن يَكُون الجَعْلُ هنا بمعْنَى التَّصْيير، وأن يَكُون بمَعْنَى الخَلْقِ، وأن يكون يمعنى سَمًّى، وهذا الثًّالثُ ذهب إليه المعتزلة، كالفارسي وغيره من مُعْتَزِلَة النُّحَاةِ؛ لأن الله - تعالى - لا يُصَيِّر ولا يَخْلُق أحَداً كذا، فعلى الأوًّلِ يكون «ضَيِّقاً مَفْعُولاً ثايناً عند مَنْ شدًّدَ يَاءَهُ، وهم العَامَّة غَيْر بان كثير، وكذلك عند مَنْ خَفًّفَها سَاكنَةً، ويكون فِيهِ لُغتانِ: التًّثقيل والتَّخْفيفُ؛ كميِّت ومَيْت، وهيِّن وهَيْنن.
وقيل: المخَفًّف مصدرُ ضاقَ يَضِيقُ ضيقاً، كقوله - تعالى - ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ [النحل: ١٢٧]، يقال: ضَاقَ يضيقُ ضَيْقاً بفتح الضًّادِ وكَسْرِها.
وبالكَسْر قرأ ابن كثير في النحل والنَّمْل، فعلى جعله مصدراً يَجِيءُ فيه الأوْجُه الثلاثة في المصدرِ الواقع وَصْفاً ل»
جُثًّة «، نحو:» رجُلٌ عَدْلٌ «ويه حَذْفُ مُضَاف، والمُبَالغَة، أوْ وُقُوعه مَوْقع اسْم الفاعل، أي: يَجْعَلُ صدره ذا ضيق، أو ضَائقاً، أو نَفْس الضِّيق؛ مُبالغةً، والذي يَظْهَرُ من قارءة ابن كثير: أنه عِنْدهُ اسم صِفَةٍ مخَفًّف مِن» فَيْعل «وذلك أنَّه اسْتَغْرَب قراءَتَهُ في مَصْدَر هذا الفِعْلِ، دُون الفَتْح في سُورة النًّحْل والنًّمْل، فَلَوْ كان هذا عِنْدَهُ مَصْدَراً، لكان الظَّاهرُ في قراءته الكَسْرَ كالموضِعَيْنِ المُشَارِ إليْهما، وهذا من مَحَاسِنِ علم النَّحْو والقراءاتِ، والخلافُ الجَارِي هُنَا جارٍ في الفُرقَانِ.
قوال الكسائي:»
الضِّيِّق بالتًّشْديد في الأجْرَام، وبالتًّخْفيف في المَعَانِي «.
ووزن ضيِّق:»
فَيْعل «كميِّت وسيِّد عند جُمْهُور النَّحْويِّين ثم أدْغِم، ويجوز تَخْفِيفُه كما تقدَّم تَحْريرُه.
قال الفَارِسي:»
والياءُ الواوِ في الحَذْفِ وإن لم تَعْتَلَّ بالقَلْبِ كما اعتَلَّتِ الواوُ، اتْبعِتِ اليَاءُ الواو في هذا؛ كما أتبعت في قولهم: «أتِّسَرَ» من اليُسْر، فجُعِلَتْ بمنزلة اتَّعَدَ «.
وقال ابن الأنْبَاريّ: «الذي يُثَقِّل اليَاء يقول: وَزْنُه من الفِعْل»
فَعِيل «والأصْل فيه ضَييق على مِثَال كَريم» و «نَبِيل» فجعلُوا اليَاءَ الأولى ألِفاً؛ لتحرَّكِها وانْفِتَاح ما قَبْلَها من حَيْثُ أعَلُّوا ضَاقَ يَضِيقُ، ثم أسْقَطُوا الألِفَ بِسُكُونها وسُكُون ياء «فَعِيل» فأشْفَقُوا مِنْ أنْ
417
يَلْتَبِس «فَعِيل» ب «فَعْل» فزادوا ياء على الياءِ ليكمل بها بِنَاء الحَرْفِ، ويقعُ فيها قَرْقٌ بين «فَعِيل» و «فَعْل».
والذين خَفًّفُوا اليَاءَ قالوا: «أمِن الَّبس؛ لأنَّه قد عُرِفَ أصْلُ هذا الحرفِ، فالثِّقَةُ بمعْرِفته مَانِعَةٌ من الَّبْسِ».
وقال البصريون [وزنه من الفِعْل «فَيْعِل»، فأدْغِمَت الياءُ في الَّتِي بَعْدَهَأ، فَشْدِّدَ ثم جَاءَ التَّخْفِيفُ، قال: وقد ردَّ الفَرَّاءُ وأصْحَابَهُ هذا على الَبصْريِّين] وقالوا: «لا يُعْرَفُ في كلام العربِ اسمٌ على وَزن» فَيْعِل «يَعْنُون: بكسر العيْنِ، إنما يُعْرَف» فَيْعَل «يعنون: بفتحها، نحو:» صَيْقَل «و» هَيْكَل «فمتى ادّعَى مُدَّع في اسْم مُعْتَل ما لا يُعْرَفُ في السَّالِم، كانت دَعْوَاهُ مردُودَةً» وقد تقدَّم تحْرِيرُ هذه الأقوال عِنْد قوله - تبارك وتعالى -: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] فليُراجَعْ ثَمًّةَ.
وإذا قُلْنَا: إنَّهُ مُخَفًّفٌ من المشدَّدِ؛ فهل المَحْذُوفُ اليَاء الأولى أو الثَّانِيَة «خِلافٌ مرَّت له نَظَائِرُهُ.
وإذا كانت»
يَجْعَل «بمعنى: يَخْلُق، فيكون» ضَيِّقاً «حالاً، وإن كانَتْ يمعنى» سَمًّى «، كانَتْ مفعُولاً ثانياً، والكلام عليه بالنًّسْبَة إلى التَّشْدِيد والتَّخْفِيف، وتقدير المَعَانِي كالكلام عليه أوّلاً.
و»
حَرَجاً «حَرِجاً» بفتح الرَّاء وكَسْرها: هو المُتزايد في الضِّيق، فهُو أخَصُّ من الأوَّل، فكل حَرَج من غير عَكْس، وعلى هَذَا فالمَفْتُوح والمكْسُور بمَعْنَى واحد، يقال «رَجُل حَرِجٌ وحَرَحٌ» قال الشَّاعر: [الرجز]
٢٣٠٧ - لا حَرِجُ الصِّدْرِ ولا عَنِيفُ... قال الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو في كَسْرِه ونَصْبِه بمَنْزِلَة «الوَحَد» و «الوحِد»، و «الفَرَد» و «الفَرِد» و «الدَّنِف» و «الدَّنِف».
وفرَّق الزَّجَّاج والفرسيَّ بينهُمَا فقالا: «المَفْتُوح مَصْدر، والمكْسُور اسْمُ فَاعِل».
قال الزَّجَّاج: «الحَرَجُ أضْيَقُ الضِّيقِ، فَمَنْ قال: رَجُلٌ حَرَجٌ - يعني بالفَتْح - فمعناه: ذُو حَرَجٍ في صَدْرِهِ، ومن قال حِرِجٌ - يعني بالكَسْر - جعله فَاعِلاً، وكذلك دْنف ودَنف».
وقال الفارسي: «مَنْ فتح الرَّاء، كان وصْفاً بالمصدر، نحو: قَمَنْ وحَرَى ودنَف، ونحو ذلك من المصادرِ التي يُوصَفُ بها، ولا تكُون» كَبَطَل «لأن اسْم الفاعل في الأمْر العَام إنَّما على فَعِل».
418
ومن قرأ «حِرجاً» - يعني بكسْر الرَّاء - فهو مثل «دَنِف وفَرِق بكَسْر العَيْن».
وقيل: «الحَرَجُ بالفَتْح جمع حَرَجَة؛ كقَصَبَ وقَصَب، والمكْسُور صِفَة؛ كذَنِف وأصل المادَّة من التَّشَابُك وشِدَّة التَّضَايُقِ، فإنَّ الحَرَجة غَيْضَة من شَجَر السَّلَم ملتفة لا يَقْدِرُ أحَدٌ أن يَصِل إليها.
قال العجَّاج: [الزجر]
٢٣٠٨ - عَايَنَ حَيَّا كَالحِرَاجِ نَعَمُهْ... الحِراج: جَمْع حِرْج، وحِرْج جَمْع حَرَجَة، ومن غَريب ما يُحكَى: أن ابْن عَبَّاس قرأ هذه الآية، فقال: هل هُنَا أحَدٌ من بَنِي بَكْرِ؟ فقال رَجُلٌ: نعم، قال: ما الحَرَجَة فِيكُم؟ قال: الوَادِي الكَثِير الشًّجَر المسْتَمْسِكُ؛ الذي لا طريقَ فيه. فقال ابن عبَّاس:»
فَهَكَذَا قَلْبُ الكَافِرِ «هذه رواية عُبَيْج بن عُمَيْر. وقد حَكَى أبو الصَّلْت الثَّقْفِي هَذِهِ الحكَايَة بأطْوَال مِنْ هذا، عن عُمَر بن الخطابِ، فقال: قرأ عُمِر بن الخطَّابِ هذه الآية فقال:» ابْغُونِي رَجُلاً من بَنِي كِنَانَة، واجْعَلُوه راعِياً «فأتوهُ به، فقال لَهُ عُمر:» يا فتى ما الحَرََةُ فِيكُم «؟ قال:» الحَرَجَةُ فِينَا الشًّجَرةُ تُحْدِقُ بها الأشْجَارٌ فلا تَصِلُ إليها رَاعِيةٌ ولا وَحْشيَّةٌ «. فقال عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» وكذلك قُلْبُ الكافر لا يَصِلُ إلهي شيءٌ من الخَيْرِ «.
وبعضهُم يحْكِي هذه الكاية عن عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كالمُنْتَصِر لمن قَرأ بالكَسْرِ قال: قرَأهَا بَعْضُ أصْحَاب عُمَر له بالكَسْر، فقال:»
ابْغُوني رجلاً من كِنَانَة رَاعِياً، وليَكُون من بني مُدْلج «. فأتوه به، فقال:» يا فَتَى، ما الحَرَجَةُ تكُون عِنْدكُم «؟ فقال:» شَجَرَةٌ تكُون بيْن الأشْجَار لا يَصِلُ إلَيْهَا رَاعِيَة ولا وَحِشِيَّة «. فقال: كذلِك قَلْبُ الكَافِر، ولا يَصلُ إليه شيءٌ [من الخَيْرِ].
قال أبو حيَّان:»
وهذا تَنْبِيه - والله أعلم - على اشْتِقَاقِ الفِعْل من اسْم العَيْن «كاسْتَنْوقَ واستَحَجَر».
قال شهاب الدين: لَيْس هذا من بابِ اسْتَنْوَقَ واسْتَحْجَرَ في شَيْءٍ؛ لأن هذا مَعْنَى
419
مستَقِلٌّ، ومادَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَصَرِّفَة، نحو: «حَرِجَ يَحْرَجُ فهو حَرِجٌ وحَارِجٌ» بخلاف تِيكَ الألفاظ، فإنَّ معناها يُضْطَرُّ فيه إلى الأخْذِ من الأسْمَاء الجَامِدَة، فإن مَعْنَى قولك: استَنْوَقَ الجمل، أي: «صار كالنَّاقِة»، واسْتَحْجر والنَّاقَةِ، وأنْتَ إذا قُلْتَ: حَرِج صَدْرُه لَيْس بِكَ ضَرورَة أن تَقُولك «ص كالحَرَجَةِ» بل مَعْنَاه: «تَزايد ضِيقُه»، وأما تَشْبِيهُ عُمَر بن الخطَّاب، فلإبْرَازه المَعَانِي في قوالِبِ الأعْيَانِ؛ مبالغة في البيانِ.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: «حَرِجاً» بكَسْر الراء والباقون: بفتحها وقد عُرِفَا، فأمّا على قراءةِ الفَتْح، فإن كان مَصْدراً، جاءت فيه الأوْجُهُ الثلاثة المقدِّمَة في نَظَائِرِه، وإن جُعِلَ صِفَ’ فلا تأويلَ.
ونَصْبُه على القراءتَيْن: إمَّا على كونِهِ نَعْتاً ل «ضَيِّقاً»، وإمَّا على كَوْنه مَفْعُولاً به تعدَّد، وذلك أنَّ الأفْعَال النَّواسِخَ إذا دَخَلَت على مُبْتَدأ وخبر، كان الخبرانِ على حَالِهما، فكما يَجُوز تعدُّدُ الخبر مُطْلقاً أو بتَأويل في المبتدأ والخبر الصَّريحَيْن، كذلك في المَنْسُوخَيْن حين تَقُول: «زَيْدٌ كَاتِبٌ شَاعِرٌ فقيهٌ» ثم تقُول: ظنَنْتُ زيداً كِاتِباً شاعراً فِقِيهاً، فتقول: «زَيْداً» مَفْعُول أوَّل، «كاتباً» مَفْعُول ثانٍ، «شَاعِراً» مفعول ثالث، «فِقِيهاً» مَفْعُول رَابع؛ كما تَقُول: خبر ثانٍ وثالث ورابع ولا يَلْزَمُ من هذا أن يتعدًّى الفِعْل لثلاثة ولا أرْبَعَة؛ لأن ذلك بالنِّسْبَة إلى تَعَدُّد الألْفَاظِ، فلِيْس هذا كقول: في: أعْلَمْتُ زيداً عمراً فلاضلاً، إذا المَفْعُول الثُّالِثُ هناك لَيْس متكَرِّراً لشَيْء واحِدٍ؛ وإنما بَيًّنْتُ هذا لأن بَعْضَ النَّاسِ وهم في فَهْمِه، وقد ظَهَر لك ممَّا تقدَّم أن قوله: «ضيِّقاً حَرَجاً» لي في تكْرَار.
وقال مَكِّي: «ومعنى حَرِجٌ - يعني بالكَسْرِ - كمعنى ضيِّق، كرِّر لاخْتِلاف لفْظِه للتأكيد».
قال شهاب الدِّين: إنما يكون للتَّأكيد حيث لم يَظْهَر بَيْنَها فَارِقٌ فَتَقُول: كُرِّر لاخْتِلاف اللًّفْظِ؛ كقوله: ﴿صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: ١٥٧] وكقوله: [الوافر]
٢٣٠٩ -................... وَألْقَى قَوْلَهَا كَذِباً ومَيْنَا
وقوله: [الطويل]
٢٣١٠ -.................... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وأما هُنَا فقد تقدَّم الفَرْقُ بالعُمُوم والخُصُوص أو غير ذَلِك.
وقال أبو البقاء: «وقيل: هو جَمْع» حَرَجَة «مثل قصبة وقَصَب، والهاءُ فيه للمُبالغَة».
420
قال شهاب الدين: «ولا أدْري كَيْفَ توهَّم كَوْنَ هذه الهاء الدَّالَّة على الوَحْدَةِ في مُفْرِدَ أسْمَاء الأجْنَاسِ؛ كثمرة وبُرَّة ونَبِقَة للمُبالغة، كِهِي في رَوايةٍ ونَسَّابَة وفرُوقة؟

فصل في الدلالة من الآية


تمسَّك أهل السُّنَّةِ بهذه الاية الكَريمة في أن الهِدَاية والضَّلال مِنَ اللَّه - تعالى -؛ لأن لَفْظَهَا يدلُّ على المسألةِ، ويدل على الدَّليل العَقْلِيّ المقتدّم في المسألةِ وهو العِلْمُ والدَّاعِي، وبيانُه أن العَبْد قَادِرٌ على الإيمانِ والكَفْر، وقُدْرَتُه بالنِّسْبَة إلى هَذَيْن الأمْرَيْن على السَّويَّة، فيمتنع صُدُور الإيمان عَنْهُ بدلاً من الكُفْر، أو الكُفْر بدلاً من الإيمانِ، إلاَّ إذا حَصَلَ في القَلْبِ دَاعِيَةٌ إلَيْه، وتلك الدَّاعِيةُ لا مَعْنَآ لها، إلاَّ عِلْمُه أو اعتِقَادُه أو طَنُّه بِكَون ذلك الفِعْلِ مُشْتِمَلاً على مَصْلَحةٍ زائدة، ومَنْفَعَةٍ رَاجَحَة، فإذا حصل هذا المَعْنَى في قِلْبِهِ، دَعَاه ذَلِكَ إلى فِعْل ذلك الشَّيْء، وإن حَصَلَ في القَلْب عِلْمٌ أو اعْتِقَادٌ أوْ ظَنٌّ بكون ذلك الفِعْلِ مُشْتَملاً على مَفْسِدة رَاجِحَةٍ وصُور زَائِدَة، دَعَاه ذَلِك إلى تركه، وثبت أن حُصُولَ هذه الدًّواعِي لا بُدَّ وأن تَكُون من اللَّهِ - تعالى، وإذا ثَبَتَ ذَلِك فنقول: يَسْتحِيلُ أن يَصْدُر إيمانُ عن العبْد إلاَّ إذا خَلَق اللَّهُ في قَلْبِهِ اعْتِقَاد أنَّ الإيمان رَاجِح المَنْقَعَةِ، زائد المَصْلَحَةِ، فحينئذٍ يميل قَلْبُهُ وتَرْغَب نَفْسُه في تَحْصِيله، وهذا هو انْشِرَاحُ الصَّدرِ للإيمان، فإن حَصَلَ في القَلْبِ أنَّه مَفْسدةٌ عَظِيمَةٌ في الدِّين والدُّنْيَا، وأنه يُوجِب المَضَار الكَثِيرَة، فحينئذ يَتَرتَّب على هذا الاعْتِقَاد نَفْرَة عَظِيمةَ عن الإيمان، وهذا هُوَ المُرَادُ من أنَّه - تبارك وتعالى - يَجْعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً.
قال المعتزلة: لنا هَهُنَا مَقَامَان:
الأوَّل: في بَيَان أنَّهُ لا دلالة لَكُم في هَذِه الآية الكريمة.
الثاني: التَّأويل المُطابق لمذْهَبنا.
أما المقام الأول: فتَقْرِيرُه من وُجُوه:
أحدها: أن هذه الآية الكريمة لَيْسَ فيها أنه - تبارك وتعالى - أضَلَّ قَوْماً أوْ يُضِلُّهم؛ لأنَّه لَيْسَ فِيَهَا إلاَّ أنه [مَتَى أرَاد أن يَهْديَ إنْساناً، فعل به كَيْتَ وكَيْتَ، وإذا أرَادَ إضْلالهُ فعل كَيْتَ كَيْتَ، ولَيْست الآيةُ أنَّه]- تعالى يُريد ذَلِكَ أو لا يُريدُ ذلك، ويدُلُّ عليه قولُه - تبارك وتعالى -: ﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٧]، فبين أنه - تبارك وتعالى - كَيْفَ يفْعَل اللَّهْو لو أرَادَهُ، ولا خِلاف أنَّه - تبارك وتعالى - لا يُرِيُد ذلك ولا يَفْعَلُه.
وثانيها: أنه - تعالى - لم يَقُل: ومن يُرد أن يُضِلَّه عن الإسلام، بل قال: «ومَنْ يُرِدْ
421
أنْ يُضِلَّهُ» فلم قُلْتُم: إن المُرَادَ: ومَنْ يُرِد أنْ يُضْلِلْهُ عن الإيمان.
وثالثها: أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في آخرِ الآية الكريمة، أنه إنَّما يَفْعَلُ هذا الفِعْلَ بهذا الكَافِرَ جَزاءً على كُفْرِه، وأنَّه ليس ذلك على سَبيل الابْتِدَاء، فقال: ﴿كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
ورابعها: أنّ قوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ يدلُّ على تقدم الضِّيق والحَرَج على حُصُول الضِّلالِ، وأن لِحُصُول ذَلِك المتقدِّم أثَرٌ في حُصُول الضِّلالِ، وذلك بَاطِلٌ بالإجْمَاعِ، أما عِنْدَنا، فلا نَقُول بِهِ وأمَّا عندكم؛ فلأن المقْتَضي لِحُصُول الجَهْلِ والظِّلالِ هو الله - تبارك وتعالى - يَخْلُقُه فيه بِقُدْرَتِهِ.
وأما المقام الثاني: فهو تَفْسير الآية الكريمة على ما يُطَابِقُ مَذِهَبَنا، وذلك من وُجُوهٍ:
الأول: وهو اخْتِيارُ الجُبَّائي، ونَصَرَهُ القَاضِي أن تَقْدِير الآية الكريمة: فمن يُرِدِ اللَّهُ أن يَهْدِيَه إلى طَريق الجَنَّةِ، يَشْرَح صَدْرَه للإسْلام، حتنى يَثْبُت عَلَيْه ولا يَزُولُ عنه، وتَفْسِيره هذا الشَّرْح: هو أنَّه - تعالى - يَفْعَلُ به الْطَافاً تَدْعُوه إلى البقاءِ على الإيمانِ يَدْعُوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه، وإليه الإشارةُ بقوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: ١١] وبقوله: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩]، فإذا آمن العَبْد وأراد ثَبَاتَهُ على الإيمانِ، فحينئذٍ يَشْرَح صَدْرَه، أي: يَفْعَلُ به الألْطَافَ الَّتِي تَقْتَضِ ثَبَاتَهُ على الإيمان ودَاوامَهُ عليه، وأمَّا إذا كَفَر وعَانَد وأراد اللَّه٠ تبارك وتعالى - أن يُضِلَّهُ عن طَرِيق الجنَّة، فعند ذلك يُلْقِي في صَدْرِه الضِّيق والحَرَج، ثم سألَ الجُبَّائي نَفْسَه، فقالك كَيْف يصِحُّ ذلك ونَجِد الكُفَّار طيِّبي النُّفُوس، ولا غَمَّ لهم ألْبَتَّة ولا حُزْنَ.
وأجاب عنه: بأنَّه - تبارك وتعالى - لم يُخْبِر بأنَّه؛ يَفْعَلُ بِهم ذَلِك في كُلِّ وقْتٍ، فلا يُمْتَنَع كَوْنهم في بَعْضِ الأوْقاتِ طيِّبي القُلُوب، وسأل القَاضِي نفْسَه ذلك الضيِّق في بَعْضِ الأوْقَاتِ.
وأجاب عنه: بأنَّه قال: وَكَذَلِكَ نَقوُل ودَفْع ذَلِك لا يُمْكِن خُصُوصاً عند ورُودِ أدلَّة اللَّه - تبارك وتعالى، وعند ظُهُورِ نُصْرَة الله للمُؤمنين، وعِنْد ظُهُور الذِّلَّة والصِّغَار فيهم.
التَّأويل الثاني: أن المراد: فَمَنْ يُرد اللَّه أن يَهْدِيه إلى الجَنَّةِ، فَيَشْرَح صَدْره للإسْلام [
422
اي: يشرح صَدْرَه للإسْلام] في ذلك الوَقْتِ الَّذِي يَهْدِيه فيه إلى الجَنَّةِ؛ لأنه لما رَأى أنَّ بسبب الإيمان وجد هذه الدَّرجة العَالِيَة، يزدْادُ رغْبَتُه في الإيمان، ويَحْصُل مَزيدُ انْشراح [في صَدْرِهِ]، ومن يُرِدْ أن يُضِلِّه يَوْم القيامةِ عن طريق الجنَّة، فَقِي ذلك الوَقْتِ يَضِيقُ صَدْرُوه؛ بسبَبِ الحُزْن الَّذِي نَالَهُ عن الحِرْمَانِ من الجَنَّةِ والدُّخُول في النَّار.
التأويل الثالث: أن في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: من شَرَح صَدْر نَفْسِهِ بالإيمان، فقد أراد اللَّه أن يَهْدِيَهُ، أي: يَخُصه بالألْطَافِ الدَّاعِيَة إلى الثَّبَات على الإيمان، هذا مَجْمُوع كَلامِهِم.
والجواب عن قَوْلِهِم أولاً: أنه لم يَقُل في هَذِه الآية أنه يُضِلُّه، بل قال: إنَّه أو أرَادَ أن يُضلَّهُ، لفعل كذا وكذا، فنَقُولُ، إن قَوْلَهُ في آخر الآية الكريمة: «كذلك يَجْعَلُ اللَّهُ لرِّجْسَ على الَّذِين لا يُؤمِنُون» تَصْرِيحٌ بأنَّه يَفْعَلُ بهم ذلك الضَّلال، لأن حَرْف «الكَافِ» في قوله: «كَذَلِك» يُفِيدُ التَّشْبيه، والتَّقْدِير: وكما جَعَلْنا ذلك الضِّيق والحَرَجِ في صَدْرِه، فكذلك يَجْعَلُ اللَّه الرِّجْس على قُلُوب الَّذِين لا يُؤمِنُون.
والجواب عن الثَّانِي: وهو أن قوله: «ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلًّهُ» لَيْس فيه بِيَانُ أنْ يُضِلَّه عن الدِّين، فَنَقُول: إن قَولَهُ في آخر الآية: ﴿كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ تصريح بأن المراد من قوله: «ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضلَّه» هو أن يُضِلَّه عن الدِّين.
والجواب عن الثالث: وهو أنَّه - تبارك وتعالى - إنَّما يُلْقِي الضِّيق والحَرَجَ في صَدُورهم جزاء على كُفْرِهِم فنقول: لا نُسْلِّم أن المُراد ذلِك، بل المُرَاد: كذلك يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ على قُلُوبِ الَّذين قضى عليهم بأنهم لا يُؤمِنُون، وإذا جَعَلْنَا الاية على الوَجْهِ، سقط ما ذكَرُوهُ.
والجواب عن قولهم: إنَّ ظاهِر الآية الكريمة يَقْتَضِي أن يكُون ضِيقُ الصَّدْرِ وحَرَجْه شيئاً متقدِّماً على الضَّلالِ، أو مُوجباً لَهُ، فنقول: والأمْر كذلك؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا خَلَق في قَلْبِه اعْتِقَاداً بأنَّ الإيمان بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُوجِبُ الذَّم في الدُّنْيَا، والعُقُوبَة في الآخِرَة، فهذا الاعتِقَادُ يوجبُ اعراض النَّفْس عن قُبُول ذلك الإيمانِ، وهذه الحَالَةُ شَبيهَةٌ بالطَّريق الضَّيِّقن لأن الطَّريق إذا كان ضيِّقاً، لم يَقْدِر الدَّاخِل أنْ يَدْخُل فيه فذلك القَلْبُ إذا حَصَل فيه ذلك الاعتِقَاد، امْتَنع دُخُول الإيمان فيهِ فلأجل حُصُول المُشابَه’ من هذا الوَجْهِ، جاز إطلاقُ لَفْظِ الضِّيقِ والحَرَِ عَلَيْه.
وأما لاجوابُ عن التَّأويلات الثلاثة فَنَقُول:
أما الأوَّل: فإن حَاصِلَ ذلك الكلام يَرْجَعُ إلى تَفْسير الضيق والحَرَجَ، فلمَّا كان المُرَادُ منه حُصُول الغَمِّ والحُزْنِ في قَلْبِ الكَافِر، فذلك يُوجِبُ أن يكُون ما يَحْصُل في
423
قَلْبِ المُؤمِن زِيَادة يَعْرِفُها كُلُّ أحَدن ومعلوم أن الأمْرَ ليس كَذلك، بل الأمْرُ في حُزْنِ الكَافِر والمؤمن على السَّويَّة، بل كان الحُزْن والبلاء في حقِّ المؤمن أكْثَر، قال - تبارك وتعالى -: ﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خُصَّ البلاءُ بالأنْبيَاءِ ثُمَّ بالأمْثَلِ فالأمْثل».
والجوابُ عن الثُّاني: أنه مَدْفُوع؛ لأنه يَرْجِعُ حاصلة إلى إيضاح الواضِحَاتِ؛ لأن كل أحَدٍ يعْلَمُ بالضَّرُورةِ، أن كُلَّ من هَدَاه اللهُ إلى الجَنَّةِ بسبب الإيمانِ يَفْرَحُ بسبِب تِلْكَ الهداية، ويَنْشَرح صَدْرُهُ للإيمان مَزيج انْشِرَاح في ذلك الوقْتِ، وكذلك القَوْلُ في قوله: المُرَادُ: ومن يُضلُّه عن طريق الجنَّةِ بأنه يضيقُّ قَلْبُه في ذلكِ الوقْتِ، فحُصُول هذا المَعْنَى معلُوم بالضَّرُورة، وحمْلُ الآية الكريمة عليه إخْرَاجٌ للآيةِ عن الفَائِدةِ.
والجواب عن التَّأويل الثالث: فهو يَقْتَضِي تَفْكِيك نَظْم الآية؛ لأن الآية الكريمة تقْتَضِي أن يَحْصُل انْشِرَاح الصَّدْر من قِبَل اللَّه - تبارك وتعالى - أولاً، ثم يَتَرتَّب عليه حُصُول الهداية والإيمان، وأنتم عَكَسْتُم القَضِيَّة، فقلتم: العَبْدُ يجعل نفسه أولاً مُنْشَرح الصَّدْر، ثم إن الله - تبارك وتعالى - أوَّلاً بعد ذلك يَهْدِيه، بمعنى أنه يَخُصُّه يمزيد الألْطَاف الدَّاعية لَهُ إلى الثُّبَاتِ على الإيمان، والدَّلائل اللّفْظِية، إنما يمكِنُ التَّمَسُّك [بِهَا إذَا أبْقَيْنَا ما فيها من التركِيبَات والترتيبَات، فأمَّا إذا أبْطَلْنَاهَا وأزَلْنَاهَا، لم يمكن التَّمَسُّك] بشيء مِنْهَ أصْلاً، وفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ ألاَّ يُمْكِن التَّمَسُّك بشَيءٍ من الآيَات، ولكن طَعْن في القُرآنِ العَظِيم، وإخْراجٌ له عن كَوْنِهِ حُجَّةً.
قوله: «كَانَّمًا» «مَا» هذه مُهَيِّئَة لِدُخُول كأنَّ على الجمل الفعلية؛ كَهِي في ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ﴾ [آل عمران: ١٨٥].
قوله: «يَصَّعَّدُ» وقرأ ابن كثير: «يَصْعَدُ ساكن الصَّادِ، مخَفِّق العَيْن، مضارع» صَعِيد «أي: ارتفع، وأبُو بكْر عن عاصم:» يصَّاعَدُ «بتشديد الصَّاد بعدها ألِفٌ، وأصْلُها يتصاعَدُ، أي:» يتعَاطى الصُّعُود وَتَكَلَّفه «فأدْغم التَّاءً في الصَّادِ تَخْفيفاً، والباقون:» يَصَّعَّد «بتَشْديد الصَّاد والعَيْن دون ألِفٍ بَْنَهُما، ومِنْ» يصَّعَّندط أيكي يَفْعَل الصُّعُود ويُكَلَّفه، والأصْل: «يَتَصَعَّد» فأدغم كما في قِراءَة شُعْبَة وهذه الجُمْلَة التشبيهيَّة يحتمل أن يتكُونَ مُسْتَانفة، شبَّه فيها حَالَ مَنْ جَعَل اللَّهُ صدْرهُ ضيِّقاً حَرَجاً، بأنه يِمَنْزِلَة من يَطْلُب الصُّعُود إلى السَّماء المظللة أو إلى مكان مرتفع [وعْرٍ] كالعَقَبَةِ الكَؤود.
والمعنى: أنه يَسْبِقُ عليه الإيمانُ كما يَسْبقُ عليه صُعُود السَّماء، وجوَّزوا فيها وَجْهَيْن آخرين:
424
أحدهما: أن يكون مَفْعُولاً آخر تعدَّد كما تعدَّد ما قَبْلَها.
والثاني: ان يكُون حالاً وفي صاحبها احتمالان:
أحدهما: هو الضَّمِيرُ المسْتَكِنُّ في «ضَيِّقاً».
والثاني: هو الضَّمِير في «حَرَجاً»، و «في السَّماءِ» متعلِّقٌ بما قَبْلَه.
قوله: «كَذَلِكَ يَجْعَلُ» هو كنظائهر وقدَّره الزَّجَّاج: «مثل ما قَصَصْنَا علَلَيْك يَجْعَل» أي: فيكون مُبْتَدأ وخبراً، أو نَعْت مَصْدر مَحْذُوف، فلَكَ أن تَرْفَعَ «مِثْل» وأن تَنْصِبَها بالاعْتِبَاريْن عِنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مَصْدَر مُنَاسِبٌ كما قدره النَّاسُ، وهو مِثْل ذلك الجَعْل - أي: جَعْلِ الصَّدر ضَيِّقاً حَرَجاً - «يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ» كذا قدَّره مكي وغيره، و «يَجْعَل» يحتمل أن تكُونَ بمعْنَى «ألْقَى» وهو الظَّاهِرُ، فتتعدَّى لواحدس بنَفْسها وللآخر بحَرْف الجرَّ، ولذلك تعدَّتْ هُنَا ب «عَلَى» والمَعْنَى: «كذلِكَ يُلْقي الله العذابَ على الَّذِين لا يُؤمِنُون».
ويجوز ان تكُون بمعْنَى صَيَّر أي: «يُصيِّره مُسْتعْلياً عليهم مُحِيطاً بِهِم»، والتَّقْدير الصِّناعي: مستَقِرّاً عليهم.

فصل في بيان معنى الرجس


قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الرِّجْسُ هو الشَّيْطَان.
وقال الكَلْبِي: هو المأثم.
وقال مُجَاهِد: الرِّجْس: ما لا خَيْرَ فيه.
وقال عطاء: الرِّجْس العذاب مثل الرِّجْزِ.
وقيل هو النَّجِس؛ رُوِي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان إذَا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْس والنِّجِس».
وقال الزَّجَّاد: الرِّجْس: اللَّعْنَة في الدُّنْيَا، والعذاب في الآخرَة.
425
«هذا» إشارةٌ إلى ما تقدَّم تَقْرِيرُهن وهو أن الفِعْل يتوقَّقُ على الدَّاعِي، وحُصُول تلك الدَّاعية من اللَّهِ - تبارك وتعالى - فوجَبَ كون الفِعْل من اللِِّ - تعالى -، وذك يوجب التَّوْحِيد المَحْضَن وسماه صِرَاطاً؛ لأن العِلْمَ به يؤدِّ إلى العِلْمِ بالتَّوحيد الحق.
وقيل: «هذا إشارَةٌ إلى الَّذِي أنْتَ عليه يا مُحَمَّد طريق ربِّك ودينه الذي ارتَضَى لنَفْسِهِن مسْتقِيماً لا عَوِجَ فيه وهُو الإسْلامُ.
وقال ابن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - و»
هذا «إشَارةٌ إلى القُرآن الكريم.
قوله - تعالى -:»
مُسْتَقِيماً «حال من» صِرَاط «والعَامِل فيه أحَد شَيْئَيْن: إمَّا» هَا «لما فيها من مَعْنَى التَّنْبيه، وإمَّا» ذَا «لما فِيهِ من مَعْنَى الإشارةِ، وهي حظَال مؤكدَةٌ لا مُبَيَّنة؛ لأن صرَاط اللَّه لا يكُون إلاَّ كذلِك.
قال الواحدي: انْتَصَب»
مُسْتَقِيماً «عال الحَالِ، والعَامِل فيه مَعْنَى هذا، وذلك أن» ذَا «يَتَضَمَّن مَعْنَى الإشارة؛ كقولك: هذا زَيْدٌ قَائِماً، مَعْنَاه: أشِيرُ إليه في حَالِ قِيَامِه، وإذا كان العَامِلُ في الحَالِ مَعْنَآ الفِعْل لا الفِعْل، لم يَجُزْ تقديمُ الحالِ عليه، لا يَجُوز:» قَائِماً هذا زَيْد «و [يجوز] ضَاحِكَاً جَاءَ زَيْدٌ.
ثم قال تبارك وتعالى: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي: ذكرناها فَصْلاً فَصْلاً، بحيث لا يَخْتَلِطُ وَاحِدٌ منها بالآخَرِ إلاَّ لِمُرَجِّح، فكأنَّه - تبارك وتعالى - يَقُول للمْعَتزِليّ: أيها المعتَزِلِيّ، تذكِّر ما تقرَّر في عَقْلِك أن الممْكِني؛ لا يتَرجَّحُ أحَدُ طَرَفَيْه على الآخَرِة إلاَّ لمرجِّحِ، حتَّى تزولَ الشُّبْهَة عن قَلْبِك بالكُلِّية في مَسْألة القَضَاء والقَدَرِ.
قوله - تعالى - ﴿لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يحتمل أن تكُون هذه الجُمْلَة مُسْتَأنفة، فلا مَحَلَّ لها؛ كأن سَائِلاً سَأل عمّا أعدَّ اللَّه لهمن فَقِيل له ذلِك، ويُحْتَمَل أن يَكُون حالاً من فَاعِل «يذِّكرُون»، ويُحْتَمل أن يَكُون وَصْفاً لِقَوْم، وعلى هَذَيْن الوَجْهَيْن فَيَجُوز أن تكُون الحَالُ أوالوصْفُ الجَارُّ والمجْرُور فَقَط، ويَرْتَفِعث «دَار السَّلام» بالفَاعِليَّة، وهذا عِنْدَهُم أوْلى؛ لأنه أقْرَبُ إلى المُفْرَد من الجُمْلَة، والأصْل في الوَصْفِ والحَالِ والخَبَر الإفْرَاد، فما قَرُبَ إليه فهو أوْلَى.
426
و «عِنْد ربِّهِمْ» حال من «دارُ» ويجُوز أن يَنْتَصِب «عِنْدَ» بنَفْس «السَّلام» ؛ لأنه مَصْدَرٌ، أي: يُسَلَّم عليهم عِنْدَ ربِّهِم، أي: في جَنَّتهِ، ويجُوز أن يَنْتَصِب بالاسْتِقْرَار في «لَهُمْ».
وقوله: «وهُوَ وَليُّهم» يحتمل أيضاً الاسْتِئْنَاف، وأن يكون حالاً، أي: لهُمْ دارُ السلام، والحال أن اللَّه وَلِيُّهم ونَاصِرُهم.
«وبما كانوا» الباء سَبَبِيَّة، و «مَا» بمعْنَى الِّذِي، أو نَكِرة أو مَصدريَّة.

فصل في معنى السلام


قيل: السَّلام اسم من أسْمَاء الله - تعالى - والمعنى: دار الله كما قِيلَ: الكَعْبَة بَيْتُ اللَّهِ، والخِلِيفَةُ عبدُ اللَّهِ.
وقيل: السَّلام صفة الدَّار بمعْنَى: دَارِ السَّلامةِ، والعرب تُلْحِقُ هذه الهَاءَ في كثير من المَصَادِر وتحذفُها، يقولون: ضَلالَ وضَلاَلة، وسَفَاة وسَفَاهَة، ورَضَاع ورَضَاعة، ولَذاذ ولَذَاذَة.
وقيل: السَّلام جمع السَّلامةِ، وإنَّما سُمّيت الجَنَّة بهذا الاسْمِ؛ لأن أنواع السَّلامة بأسْرِها حَاصِلَة فِيهَان وفي المُرَاد بهذه العِنْدِيَّة وجوه:
أحدها: أنَّها مُعَدَّة عنده كما تَكُون الحُقُوقُ مُعَدَّة مهيأة حَاضِرَة؛ كقوله: ﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [البينة: ٨].
ثانيها: ان هذه العِنْديَّة تُشْعِر بأن هذا الأمْر المؤخَّر موصُوف بالقُربِ من اللَّهِ - تبارك وتعالى - وهذا لَيْس قُرْبٌ بالمكانِ والجهة، فوجب كَوْنُه بالشَّرْفِ والرُّتْبَة، وذلك يَدُلُّ على أن ذَلِك الشَّيْء بَلَغ في الكمالِ والرِّفْعَة إلى حَيْثُ لا يُعْرَفُ كنْهُهُ، إلاَّ أنه كقوله: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧].
وثالثها: هي كقوله في صفة الملائكة: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩]، وقوله: «أنَا عِنْد المنْكَسِرَة قُلُوبُهُم»، و «أنا عِنْد ظَنِّ عَبْدِي بِي»، وقال - تعالى -: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ [القمر: ٥٥] وقال: ﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [البينة: ٨] وكل ذلك يَدُلُّ على أنَّ حُصُول كمال صِفَة العِنْديَّة بواسِطَة صِفَة العُبُوديَّة.
وقوله: «وهُوَ وَلِيُّهُم» يدل على قُرْبِهم من اللَّه؛ لأن الوليَّ معناه القَريبُ، لا وَلِيّ لهم إلاَّ هُو، ثم قالك «بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» ؛ وإنما ذكر ذلِك لِئَلاً يَنْقَطِع العَبْدُ عن العَمَلِ.
427
لما بين حال من يتمسَّكُ بالصِّراط المسْتَقِيم، بيَّن بعده حال من يكُونُ بالضِّدِّ من ذلك؛ ليكون قِصَّة أهْل الجنَّة مُرْدَفَة بقِصَّة أهْل النَّارِ، وليَكُون الوَعِيدُ مذْكُوراً بعد الوَعْدِ.
قوله: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم» يَجُوز أن يَنْتَصيب بفِعْل مقَدَّر، فقدَّره أبو البقاءِ تارة ب «اذْكُرْ» وتارة بالقَوْلِ المَحْذُوف العَامِل في جُمْلَة النِّداءِ من قوله: «يَا مَعْشَر» أي: ويقُول: «يا مَعْشَر يَوْمَ نَحْشُرُهُم»، وقدَّره الزَّمَخْشَرِي: «ويَوْمَ يَحْشُرُهم وقلنا يا معشر كان ما لا يُوصَفُ لفظَاعتِهِ».
قال أبُو حيَّان: «وما قُلْنَاه أوْلَى» يعني: من كَوْنِهِ مَنْصُوباً ب «يَقُولُ» المحكي به جُمْلَة النِّداء، قال: «لاسْتِلْزَامِه حذف جُمْلَتَيْن: إحْداهما جُمْلَة» وقُلْنَا «، والاخْرى العَامِلة في الظَّرْف» وقدَّره الزَّجَّاج بفِعْل قَول مبْنِي للمفْعُول: «يقال لَهُم: يا مَعْشَر يَوْم نَحْشرهُم» وهو مَعْنًى حَسَن؛ كأن نَظَر إلى مَعْنَى قوله: «ولا يُكَلِّمُهُم ولا يُزَكِّيهم» فبَنَاه للمفْعُول، ويجوز أن يَنْتَصب «يَوْمَ» بقوله: «وَلِيُّهُم» لما فِيهِ من مَعْنَى الفِعْل، أي: «وهُوَ يتولاَّهُم بما كَانُوا يَعْمَلُون، وويتولاَّهُم يوم يَحْشُرُهُم»، و «جَمِيعاً» حَالٌ أو تَوْكِيدٌ على قَوْل بَعْض النَّحْويِّين.
وقرأ حفص: «يَحْشُرُهُم» بياء الغَيْبَة رداً على قوله: «ربهم» أي: «ويوم يَحْشرُهُم ربُّهُم» والضِّمِيرُ في «يَحْشُرُهُم» يعود إلى الجنِّ والإنْسِ بجمعهم في يَوءم القِيامَةِ.
وقيل: يعود إلى الشَّياطين الَّذِين تقدم ذِكْرُهم في قوله: «وكَذَلِك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيِّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ».
قوله: «يا مَعْشَر» في مَحَلِّ نصْبٍ بذلك القَوْل المضْمَر، أي: «نقول أو قُلْنَا»، وعلى تَقْدير الزَّجَّاج يكون في مَحَلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفَاعِل المَنُوب عَنْهُ، والمعشر: الجَمَاعةَ؛ قال القائل: [الوافر]
428
والجمع: مَعَاشِر؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «نَحْنُ مَعَاشِر الأنْبيَاء لا نُوَرِّث» قال الأودي: [البسيط]
٢٣١١ - وأبْغَضُ مَنْ وَضَعْتُ إليَّ فِيهِ لِسَانِي مَعْشَرٌ عَنْهُم أذُودُ
٢٣١٢ - فِينَا مَعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَومِهِمُ وإنْ بَنَى قَوْمُهُم مَا أفْسَدُوا عَادُوا
قوله تعالى: «مِنَ الإنْس» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: أوْلِيَاءَهُم كانوا إنْساً وجِناً، والتقدير: أوْلِيَاؤهم الذين هم الإنْسُ، و «ربِّنا» حُذِفَ منه حَرْف النِّداء.
وقوله: «قال أوْلِيَاؤهُم مِنَ الإنْس» يعني: أوْلياء الشَّياطين الَّذِين أطاعُوهُم من الإنْسِ، «ربَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض» والمَعْنَى: استَكْثَرْتُم من الإنْسِ بالإضلالِ والإغْواء، أي: أضْلَلْتُم كَثِيراً.
وقال الكَلْبِيّ: استِمْتَاع الإنْس بالجنِّ هو الرَّجُل كان إذا سَافر وتُرِكَ بأرض قَفْر، وخاف على نَفْسِهِ من الجِنِّ، قال: أعوذ بسَيِّد هذا الوَادِي من سُفَهاء قَوْمه، فيبيتُ آمناً في جوارهم، وأما استِمْتَاعُ الجنِّ بالإنْسِ، فهو أنَّهُم قالُوا: قد سَعْدْنَا الإنس مع الجِنِّ، حتى عاذوا بِنَا فَيَزْدَادوا شَرَفاً في قَوْمِهِم وعظماً في أنْفُسِهِم، كقوله - تبارك وتعالى -:
﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً﴾ [الجن: ٦].
وقيل: استِمْتَاعُ الإنْس بالجِنِّ ما كَانُوا يلْقثون غلأهيم من الأرَاجِيفِ، والسِّحْرِ والكَهَانَةِ، وتزيينهم لهم الأمور التي يَهْوُونَها، وتَسْهيل سَبيلِها عليهم، واستِمْتَاع الجن بالإنْس طاعة الإنْسِ لهم فيما يُزيِّنُون لَهُمْ من الضَّلالة والمَعَاصِي.
وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظيك هو طاعةُ بعضِهِمْ بَعْضاً، وقيل: قوله: «ربِّنَا اسْتَمْتَع بَعْضُنَا بِبَعْض» كلام الإنْس خَاصَّة.
قوله: ﴿وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ قرأ الجمهور: «أجَلَنا» بالإفْرَاد؛ لقوله: «الَّذِيط وقُرِئ:» آجَالَنا «بالجَمْع على أفْعَال» الَّذِي «بالإفْرَاد والتَّذْكير وهو نَعْتُ للجَمْعِ.
فقال ابو عَلِيّ: هو جنْس أوقع»
الَّذِي «مَوْقِع» الَّتِي «.
قال أبو حيَّان: وإعْرابه عِنْدِي بدل؛ كأنه قيل:»
الوَقْتُ الَّذِي «وحينئذٍ يكون جِنْساً ولا يَكُون إعْرَابُه نَعْتاً؛ لعدم المُطابَقَة بينَهُمَا، وفيه نَظَر؛ لأن المُطَابقة تُشْتَرطُ في البَدَلِ أيْضاً، وكذلك نصُّ النُّحَاة على قَوْل النَّابِغة: [الطويل]
429
٢٣١٣ - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَأ فَعَرَفْتُهُا لِسِتًّةٍ أعْوَام وَذَا العَامُ سابعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأياً أبِينُهُ وَنُوي كجذْم الحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
أي: رماد ونَوَى مَقْطُوعان على» هما رمادٌ ونوى «لا بدل من آياتٍ لِعَدم المُطابَقَة، ولِذلكِ لم يُرْوَيَا إلاَّ مرْفُوعَيْن لا مَنْصُوبَيْن.

فصل في المراد بالآية


معنى الآية: أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجَلٍ معيَّن ووقْتٍ مَحْدودٍ، ثمَّ جَاءَت الخَيْبَة والحَسْرَة والنَّدامَة من حَيْيُ لا دَفعن واخْتَلَفُوا في ذَلِك الأجَلِ.
فقيل: هو وقْتُ الموْتِ.
وقيل: هو وَقْتُ البَعْثِ والقِيامة، والَّذين قَالُوا بالقَوْل الأوَّل قالوا: إنه بَدَلٌ على أن كُلِّ من مَاتَ من مَقْتُول وغَيْرِه، فإن يَمُوتُ بأجَلِهِ؛ لأنهم أقَرُّوا بأنَّا بلغْنَا أجَلَنا الَّذِي أجَّلْت لنان وفيهم المَقْتُول وغير المَفْتُول، ثم قال - تعالى -:»
النَّارُ مَثْوَاكُم «أي: المَقَام والمَقرّ والمَصِير.
قوله:»
خَالِدينَ فِيَهَا «مَنْصُوبُ على الحالِ، وهي حالٌم مُقَدَّرة، وفي العامل فيها ثلاثة أوْجُه:
أحدها: أنه مَثْواكم»
لأنه هُنَا مَصْدرٍ لا اسم مكان، والمعنى: النَّارُ ذات تُوائِكُم، أي: «النَّار مَكَان ثُوَائِكُم» أي: إقامتكُم.
قال الفَارسِيُّ: «المَثْوى عِنْدي في الآية: اسْمٌ للمصْدرِ دون المكان؛ لحُصُول الحالِ مُعْمَلاً فِيهَا واسْمُ المكانِ لا يَعْمَل علم الفِعْلِ؛ لأنه لا مَعْنَى للفِعْل فيه، وإذا لم يَكُون مَكَاناً، ثبت أنَّه مَصْدر، والمَعْنَى:» النَّار ذاتِ إقامَتِكُم فيها خَفْضاً بالإضَافة؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل]
٢٣١٤ - ومَا هي إلاَّ في إزَارِ وعِلْقَةٍ مَغَارَ ابْنِ هَمَّام عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا
وهذا يدلُّ على حَذْفِ المُضافِ، المعنى: «ومَا هِي إلا إزَارٌ وعِلْقَةٌ وقت إغَارَة ابن
430
همَّام»، ولذلك عدَّاه ب «عَلَى» ولو كان مَكَاناً، لما عدَّاه؛ فثَبَت أنَّهُ اسْمُ مصدر لا مَكَان، فهو كقولك: «آتِيكَ خُفُوقَ النَّجْم ومَقْدِم الحَاجِّ»، ثم قال «وإنَّما حَسُن ذَلِك في المَصَادِر لمُطَابقتِهَا الزَّمان، ألا ترى أنَّه مُنْقض غير باقٍ كما أنَّ الزِّمان كَذَلِك».
والثاني: أن العَامِل فيها فِعْلٌ مَحْذُوف، أي: يَثُوُون فيها خَالِدِين، ويَدُلُّ على هذا الفِعْلِ المقدَّرِ «مَثْوَاكُمْ» ويراد ب «مَثْوَاكُمْ» مكان التَّواءِ، وهذا جوابٌ عن قول الفَارِسيَ المعْتَرِض به على الزَّجَّاج.
الثالث: قاله ابو البقاء: أنَّ العَامِل معنى الإضافة، ومعنى الإضافةِ لا يَصْلُح ان يكون عَامِلاً ألْبَتَّة، فليس بِشَيْءٍ.
قوله: «إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ» اختلفُوا في المسْتَثْنَى منه:
فقال: الجُمْهُور: هو الجُمْلَة التي تَلِيها، وهي قوله: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدين فِيَهاَ﴾ وسأتي بيانه عن قُرْب.
وقال أبو مُسْلِم: «هو مستَثْنَى من قوله:» وبَلَغْنا أجَلَنَا الَّذِي أجَّلْتَ لَنَا «أي: إلا مَنْ أهْلَكْتَهُ واخْتَرَمْتَه قبل الأجَلِ الذي سَمَّيْتَه لِكُفْره وضلاله». وقد ردَّ النَّاس عليه هذا المَذْهَب من حَيْثُ الصِّناعة، من حَيْثُ المَعْنى. أمَّا الصِّناعة فَمِنْ وَجْهَين:
أحدهما: أنَّه لو كان الأمْرُ كذلك، لكان التَّرْكيبُ «إلاَّ ما شِئْتَ» ليُطابق قوله: «أجَّلْتَ».
والثاني: أنه قَدْ فصل بين المُسَتثْنَى منه بقوله: «قَالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدينَ فيها» ومثل ذلك لا يَجُوزُ.
وأما المَعْنَى: فلأن القَوْل بالأجَلَيْن: أجل الاخْتِرام، والأجَل المسَمَّى باطل؛ لدلائل مقرَّرَة في غَيْر هذا الموضع.
ثم اختلفوا في هذا الاسْتِثْنَاء: هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنْقَطِعٌ؟ على قولين:
والمعنى: «قال النَّار مَثْواكُم إلاَّ مَنْ مِنْكُمْ في الدُّنْيَا» كقوله: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦] أي: لكن الموْتَة الأولى، فإنهم قَدْ ذَاقُوهَا في الدنيا كذلك هذا؛ لكن الِّذِين شَاءَهُم الله أن يُؤمِنُوا مِنْكظُم في الدُّنيا، وفيه بُعْدٌ، وذهب آخرُون إلى أنَّه مُتَّصِلٌ، ثم اخْتَلَفُوا في المسْتَثْنَى منه مَا هُو؟
فقالك قوم: هو ضمير المخَاطَبين في قوله: «مَثْوَاكُمْ» أي: إلا من آمن في الدُّنْيَا بعد
431
أن كان من هؤلاء الكفرة، علله ابن عبَّاسٍ، و «ما» هُنَا بمعنى «مَنْ» التي لِلْعُقلاءِ، وساغ وُقُوعها هُنَا؛ لأن المراد بالمسْتَثْنَى نوع وصنف، و «ما» تقع على أنْواعِ من يَعْقِلُ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣].
ولكن قد اسْتُبِعد هذا؛ من حيث إن المسْتَثْنَى مخالِفٌ للمسْتَثْنَى مِنْه في زمان الحُكْم علهيما، ولا بُدَّ أن يَشْترِكَا في الزَّمَانِ، لو قالت: «قاَمَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً»، وكان مَعْنَاه [إلا زَيْداً فإنه لم يَقُمْ، ولا يَصِحُّ أن يكون المَعْنَى: فإنه سيَقُومُ في المسْتَقْبل، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: فإني ضَرَبْتُه فيما مَضَى اللَّهُم إلا أنْ يُجْعَلَ استثْنَاء منْقَطِعاً كما تقدَّم تَفْسيره.
وذهب قَوْمٌ: إلى أن المسْتَثْنَى منه زمان، ثم اخْتلف القَائِلُون بذلك:
فمنهم من قال ذلك الزَّمان هو مُدَّة إقامتهم في البَرْزَخِ، أي: «القُبُور».
وقيل: «هو المُدَّة التي بَيْن حَشْرِهم إلى دُخُولِهِم النَّار». وها قول الطَّبري قال: «وساغَ ذلك من حَيْثُ إنّ العِبَارة بقوله:» النَّارُ مَثْواكُم «لا يخصُّ بها مسْتَقْبَل الزَّمَان دون غيره».
وقال الزجاج: «هو مَجْمُوع الزمَانَينِ، أي: مدَّة إقامتهم في القُبُور، ومُدَّة حَشرِهم إلى دخُولهم النَّارِ».
وقال الزمخشري: «إلا ما شاء الله، أي: يُخَلِّدون في عَذَاب النَّارِ الأبد كُلّه إلا ما شاء الله إلا الأوْقَات الَّتِي يُنْقَلُون فيها من عذاب النَّارِ إلى عذاب الزَّمْهِرير؛ فقد رُويَ: أنهم يَدْخُلون وادياً فيه من الزَّمْهَرير ما يَقْطَعُ أوْصَالَهُم، فيتعاوَوْن ويطْلُبُون الرَّدَّ إلى الجَحِيم».
وقال قوم «» إلا ما شاء اللَّه «هم العُصَاةُ الِّذِين يدخُلُون النَّار من أهل التَّوحيد، ووقعت» مَا «عليهم؛ لأنَّهم نوع كأنه قيل: إلا النَّوع الذي دَخَلَها من العُصَاة، فإنهم لا يُخَلِّدون فيها، والظاهر أن هذا استِثْنَاء حَقِيقَة؛ بل يجب أن يَكُون كذلِك.
وزعم الزَّمَخْشَريّ: أنه يكون من بابِ قَوْل المْوتُور الذي ظَفَر بواتِرِه، ولم يَزَلْ يُحَرِّقِ عليه أنْيَابَه، وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خِنَاقهِ:»
أهْلَكَنِي الَّه إن نَفَّسْتُ عَنْكَ إلا إذا شِئْت «وقد عَلِم أنه لا يَشَاءُ ذلك التَّشَفِّي منه بأقْصَى ما يَقْدِر عليه من التَّشْديد والتَّعْنِيفِ، فكيون قوله:» إلاَّ إذا شِئْت «من أشد الوعيد مع تهَكُم.
قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى ادِّعَاء ذلك مع ظُهُور مَعْنَى الاسْتِثْنَاء فيه،
432
وارتكاب المجازِ وإبْرازِ ما لم يَقَعُ في صُورةِ الواقِعِ.
وقال الحسن البَصْرِيُّ:» إلا ما شَاء اللَّه؛ أي: من كَونهم في الدُّنْيَا بغير عذابٍ «
فجعل المسْتَثْنى زمن حَيَاتهم، وهو أبْعد ممَّا تقدَّم.
وقال الفرَّاء - وإليه نحا الزَّمخْشَري -:»
والمعنى: إلا ما شَاءَ اللَّه من زيادة في العذابِ «.
وقال غيره: إلا ما شاء اللَّهُ من النِّكار، وكُلُّ هذا إنَّما يتمَشَّى على الاستِثْنَاء المنقَطِع.
قال أبو حيَّان:»
وهذا رَاجِعٌ إلى الاسْتِثْنَاء من المصْدر الذي يَدُلُّ عليه مَعْنَى الكلام؛ إذ المْعْنَى: يُعَذَّبون في النَّارِ خَالِدين فهيا إلا ما شَاء اللَّهُ من العذاب الزَّائد على النَّارِ، فإن يُعَذِّبهم، ويكُون إذ ذاك استِثْنَا منقطعاً، إذ العذابُ الزَّائد على عذابِ النَّارِ لم ينْدَرج تَحْتَ عذاب النَّار «.
وقال ابن عطيَّة: «ويتَّجه عندي في هذا الاستِثْنَاء أن يكون مُخَاطَبَة للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته، ولَيْس مما يُقالُ يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم اللَّهِ؛ كأنه لما أخْبَرَهُم أنه يُقَال للكُفَّرا:»
النَّارُ مَثْوَاكُم «استثنى لهم من يُمْكِن أن يُؤمِين ممَّن يَرَوْنَهُ يومئذ كافراً، وتقع» مَا «على صِفَة من يَعْقل، ويؤيِّ هذا التَّأويل أيضاً قوله:» إنَّ ربِّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ «أي: بمن يُمْكِنُ أن يُؤمِنَ منهم».
قال أبو حيان: «وهو تَأويلٌ حسن، وكان قد قال قبل ذلك:» والظَّاهر أن هذا الاسْتِثْنَاء هو من كلام اللَّه - تعالى - للمخَاطَبين، وعليه جَاءَت تفاسير الاستِثْنَاء «وقال ابن عطيَّة ثم ساقه إلى أخِرِه، فكيف يسْتَحْسِنُ شيئاً حُكِم عليه بأنَّه خلاف الظَّاهِر من غير قَرِينَةٍ قويَّة مُخْرِجة للَّفْظِ عن ظَاهِرِه؟
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ أي: فيما يَفْعَلهُ من ثواب وعقاب وسائر وُجُوه المجازِ، أو كأنَّه، يقول: إنما حَكَمْتُ لهؤلاء الكُفَّارِ بعذاب الأبَدِ، لعلمي أنَّهُم يستَحِقُّونَ ذلك.
وقيل:»
عليم «بالَّذي استَثْنَاهُ وبِمَا في قُلُوبهم من البرِّ والتَّقْوَى.
433
قوله: «وكَذَلِك نُوَلِّي» أي: كما خَذَلْنَا عُصَاة الإنْس والجِنِّ حتى اسْتَمْتَع بعضُهم ببَعْصٍ، كذلك نَكِلُ بَعْضَهُم إلى بَعْض في النُّصْرة والمعُونة وقيل: نُسَلِّط بَعْضُهم على
433
بَعْضِ، فَيَاخذ من الظَّالم بالظَّالم؛ كما جاء «من أعَان ظالماً، سَلَّطه اللَّهُ عليه».
قال قتادة: نجعل بَعْضَهُم اولياء لِبَعْضٍ، فالمؤمِنُ ولي المؤمن أين كان، والكَافِرُ ولِيُّ الكافِر حَيْثُ كان.
وروى مَعْمَر عن قتادة: يتبع بَعْضُهم بَعْضاً في النَّارِ من المْولاة.
وقيل: مَعْنَاه: نُولي طلمَة الجِنِّ ظلمة الإنْس، ونُولي ظلَمَة الإنْس ظلممَة الجِنِّ، أيك نَكِل بَعْضَهم إلى بَعْضِ؛ كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى﴾ [النساء: ١١٥] فهي نَعْتٌ لمَصْدَر مَحْذُوف، أو في محلِّ رَفْعٍ، أي: الأمَرُ مثل تَوْلِيَة الظالمين، وهو رَايُ الزَّجَّاج في غَيْر مَوْضِع.
وروى الكَلْبِيُّ عن أبي صالح في تفْسيرها: هو أنَّ الله - تبارك وتعالى - إذا أرادَ بقوم خَيْراً ولِّي أمرهم خِيَارَهُم، وإذا أرَادَ بِقَوْم شَرّاً وَلِّي أمْرَهم شرارهُم.
وروى مَالِك بن دينارٍ قال جَاءَ في [بَعْضِ] كتب الله المنَّزلة أنَّا الله مَالِك المُلُوك، قُلُوب المُلُوكِ بِيَدي، فمن أطاعَنِي، جَعَلْتُهُم عليه رَحْمَة، ومن عَصَانِي جَعَلْتُم عليه نِقْمَة، لا تَشْغَلُوا أنْفُسَكُم بسبب المُلُوكِ، لكن تُوبُوا إليّ أعَطِّفُهم عليكم.
وقوله: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ «تقدَّم نظيره.
434
هذه الآية من بَقِيَّة توبيخ الكُفَّارِ يوم القيامة.
قال أهل اللُّغة: المَعْشَر كُل جماعةِ أمْرُهُم واحد، ويَحصُل بنيهم مُعَاشَرة ومُخالطة، والجَمْع: مَعَاشر.
قوله: «مِنْكُم» في محلِّ رفعٍ صلة لرسُل، فيتعلَّق بمحْذُوفٍ، وقوله: «يَقُصُّونَ» يحتمل أن يكون صِفَة ثَانِيةَ، وجاءت كذا مَجِيئاً حَسَناً، حيث تَقدَّم ما هو قَرِيبٌ من المُفْرَد على الجُمْلَة، ويحْتَمل أن يكُون في مَحَلِّ نصب على الحالِ، وفي صَاحِبها وجهان:
434
أحدهما: هو رُسُل وجَازَ ذَلِك وإن كان نَكِرَة؛ لتخَصُّصِه بالوَصْفِ.
والثاني: أنه الضَّمير المسْتَتِر في «مِنْكُم» وقوله: «رُسُلٌ مِنْكم» زعم الفرَّاء: أن في هذه الآيَةِ حَذْف مُضَافٍ، أي: «ألم يَأتِكُم رُسُلٌ من أحَدِكم، يعني: من جِنْس الإنْس» قال: كقوله - تعالى -: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، وإنما يَخْرُجَان من المِلْح ﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً﴾ [نوح: ١٦] وإنما هو في بَعْضِها، فالتَّقدير: يَخْرُجُ من أحدهما، وجعل القمر في إحْدَاهُنَّ فحذف للعِلْم به، وإنما احْتَاج الفرَّاء إلى ذلك؛ لأن الرُّسُل عنده مُخْتَصَّة بالإنْسِ، يعني: أنه لم يعْتَقِد أنَّ اللَّه أرْسَل للجِنِّ رَسَولاً مِنْهُم، بل إنما أرْسَل إليهم الإنْس، كما يُرْوَى في التَّفْسيرن وعلي قَامَ الإجْمَاع أن النَّبِي محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرسلٌ للإنْسِ والجِنِّ، وهذا هو الحَقُّ، أعني: أن الجِنِّ، وهذا هو الحَقُّ، أعني: ان الجِنَّ لم يُرْسَل منهم إلا بواسطةِ رِسالَة الإنْس؛ كما جاء في الحَدِيث مع الجِنِّ الذين لمَّا سَمِعُوا القُرآن ولَّوءا إلى قََوْمِهِم مُنْذِرين، ولكن لا يَحْتَاجُ إلى تَقْدير مُضَافٍ، وإن قلنا: إن رُسُل الجنِّ من الإنس للمَعْنى الذي ذَكّرْنَاهن وهو أنه يُطْلَق عليهم رُسُل مجازاً؛ لكونهم رُسُلاً بواسطة رسالة الإنْسِ، وزعم قومٌ منهم الضَّحًّاك: أن الله أرْسَل للجِنِّ رسُولاً منهم يُسَمَّى يُوسُف.
قال ابن الخطيب: ودَعْوَى الإجماع في هذا بعيدٌ؛ لأنه كَيْف ينعقد الإجماعُ مع حُصُول الاختلافِ، قال: ويمكنُ أن يَحْتَجَّ الضحَّاك بقوله - تبارك وتعالى -: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام: ٩].
قال المفسِّرُون: والسَّبب في أن استِئْنَاسَ الإنسان بالإنْسَانِ أكْمل من استِئْنَاسه بالملك، فوجب في حُكم اللَّه - تبارك وتعالى - أن يَجْعَل رُسُل الإنْس من الإنْس؛ ليكمل الاستِئْنَاسُ، وهذا المَعْنَى حَاصِلٌ في الجنِّ، فوحب أن يكُون رُسُل الجِنِّ من الجِنِّ، لتزول النَّفْرَة ويَحْصُل كمال الاستِئْنَاسِ.
وقال الكلبي: كانت الرُّسُل قبل أن يُبْعث محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُبْعَثُون إلى الحِنِّ وإلى الإنْسِ جَمِيعاً.
وقال مُجَاهد: الرُّسُل من الإنس والنُّذُر من الجنِّ، ثم قرأ [قوله تعالى] :﴿وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٩]، وهم قوم يَسْمَعُون كلام الرُّسُل فِيُبَلِّغُون الجِنِّ ما سَمِعُوا، ولي للجِنِّ رُسُلٌ.
ثم قال: «يَقُصُّونَ عليكم آيَاتِي» أي: يَقْرءُون عليكم كُتُبِي «ويُنْذِرونكم لقاءً يَوْمِكُمْ هذا» وهو يوم القيامة، فلم يِجِدُوا عند ذلك إلا الاعتراف، فذلك قالوا: شَهِدْنَا على أنْفُسِنَا.
435
فإن قيل: كيف أقَرُّوا في هذه الآية الكريمة بالكُفْرِن وجَحَدوا في قوله: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣].
فالجواب: يوم القيامة يوم طَويلٌ، والأحْوال في مُخْتَلِفَةٌ، فتارة يُقِرُّون وأخْرى يَجْحَدُون، وذلك يَدُلُّ على شِدَّة الخَوْفِ واضْطِرَاب أحْوالِهم، فإن من عَطُمَ خَوْفُه، كَثُر الاضْطِرَابُ في كلامه، قال - تبارك وتعالى -: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي: أنهم إنِّما وقعُوا في الكُفر بسبب أنَّ الحياة الدُّنْيا غَرَّتْهُم، حتى لم يُؤمِنُوا وشَهِدُوا على أنْفُسِهِم أنَّهم كَانُوا كافِرين، وحمل مُقَاتِل قوله «وشَهِدُوا على أنْفُسهمْ» بأنه تِشْهد عَلَيْهِم الجَوَارحُ بالشِّرْك والكُفْر ومَقْصُوده دفع التكْرَار عن الآية الكريمة، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّه لا يتَكِليف قَبْل ورُودِ الشَّرْع، وإلاَّ لم يَكُون لهذا التَّعْلِيل فَائِدَة.
قوله
: ﴿ذلك
أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ﴾
فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الخَبَر، أي: ذَلِك الأمر.
الثاني: عكس ذلك الأمر.
الثالث: أنه مَنْصُوب فِعْل، أي: فَعَلْنَا ذلك، وإنما يَظْهَر المَعْنَى إذا عُرِف المُشَارُ إليه، وهو يُحْتَمل أن يكُون إتْيَات الرُّسُل وأمْر من كذَّب، ويحتمل أن يكون إشَارَةً إلى السُّؤال المَفْهُوم من قوله: «ألَمْ يَأتِكُمْ» وقوله: «أنْ لَمْ يَكُنْ» يَجُوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه على حَذْفِ لام العِلَّة أي: ذلك الأمر الَّذي قَصًَصْنا، أو ذلك الإتْيان، أو ذلك السُّؤال لأجْل «أنْ لَمْ يَكُن» فلما حُذِفَت اللاَّم احتمل مَوْضِعُها الجَرّ والنَّصْب كما عُرِف مِرَاراً.
والثاني: أن يكُونَ بدلاً من ذلك.
قال الزَّمَخْشَري: ولك أن تَجْعَله بَدَلاً من ذلك؛ كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ [الحجر: ٦٦].
فيجوز أن يَكُون في محلِ رفع أو نصب على ما تقدَّم في ذلك، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِي القائل بالبَدليَّة لم يَذْكُر لأجْل ذلك إلاَّ الرَّفْع على خَبَر مُبْتَدأ مُضْمَر، و «أنْ» يجوز أن تكثون النَّاصِبَة للمُضَارع، وأن تكُون مُخَفَّفَة، واسْمُهَا ضَمِير الشَّأن، و «لَمْ يَكُنْ» في محلِّ رفع خبرها، وهو نظير قوله: ﴿أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ﴾ [طه: ٨٩].
وقوله: [البسيط]
436
٢٣١٥ - في فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْدِ قََدْ عَلَمُوا أنْ هَالِكٌُ كُلُّ مَنْ يَخْفَى ويَنْتَعِلُ
و «بِظُلَم» يجُوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من «ربُّطَ» أو من الضَّمير في «مُهْلِكَ» أي: لم يَكُون مُهْلِك القُرى مُلْتِبِساً بِظُلْمٍ، ويجُوز أن يكُون حالاً من القُرَى، أي: مُلْتَبِسَة بذُنُوبها، والمعْنَيَان منْقُولان في التَّفْسِير. والثاني: أن يتعلَّق ب «مُهْلِكَ على أنَّه مَفْعُول وهو بَعِيد، وقد ذكرَهُ أبو البقاء.
وقوله:»
وأهْلُهَا غَافِلُون «جُمْلَة حالية أي: لم يُنْذَرُوا حتى يَبْعَث إليهم رُسُلاً تُنْذرهُم، وقال الكَلْبِي: يُهْلِكُهم بذُنُوبِهم من قَبْل أنْ يَأتيهمُ الرُّسُل.
وقيل: مَعْنَاه لم يَكُون لِيُهْلِكَهُم دون التَّنْبيه والتَّذْكِير بالرُّسُل، فيكون قد ظَلَمَهُم؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أجْرى السُّنَّة ألا يَأخذ أحداً إلا بعد وُجُود الذَّنْبِ، وإنما يَكُون مُذْنِباً إذا أمِر فَلَمْ يأتَمِر، ونُهِيَ فلم يَنْتَهِ، وذلك إنما يكون بعد إنْذَار الرُّسُل، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وُجُوب ولا تَكْلِيف قِبْلَ ورود الشَّرْع.
437
أي: ولكل درجاتٌ في الثَّواب والعقابِ، على قَدْرِ أعْمَالهم في الدُّنيا، وحذف المُضاف إلَيْه للعِلْمِ به، أي: ولكُلِّ فريقِ منهم من الجنِّ والإنْسِ.
قوله: «مِمَّا عَمِلُوا» في محلِّ رفع نعتاً ل «دَرَجَات».
وقيل: ولكلِّ من المؤمنين خاصَّة.
وقيل: ولكلِّ من الكُفَّار خاصَّة؛ لأنها جَاءَت عَقِيب خطاب الكُفَّارِ؛ إلا أنَّه يبعده قوله: «دَرَجَاتٌ» وقد يُقَال: إن المُرَاد به هُنَا المراتِب، وإن غلب استْعِمَالُها في الخير «وما ربُّكَ بغافلٍ عمَّا يعَمْلثونَ» قرأ العامّة بالغيبة رَدّاً على قوله: «ولكُلِّ درَجَاتٌ» وقرأ ابن عامرٍ بالخطابِ مُراعَاةً لما بَعْدَهُ في قوله: «يُذْهبْكم»، «مِنْ بَعْدِكُمْ»، كما «أنشأكم».
لما بيَّن ثواب المطيعينَ وعقاب العاصين، وبيَّن أن لكلِّ قوْم درجة مَخْصُوصَة في
437
الثَّواب والعقابِ، بيَّن أنه غَيْر مُحْتاج إلى ثوابِ المطيعين، أو ينْتَقِص بِمَعْصية المذنِبِين؛ لأنه - تعالى - غنِيُّ لذاته عن جَمِيع العَالمين، ومع كوْنه غَنِياً، فإنَّ رحمته عامَّة كَامِلَة.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ذُو الرَّحْمَة بأوْلِيَائه وأهل طاعته.
قوله: «وربُّك الغِنِيُّ» يجوز أن يكون الغَنِيُّ والرَّحْمَة خَبَريْن أو وصفين، و «إن يشأ» وما بَعْدَهُ خبرا لأوَّل، أو يكون «الغَنِيّ» وصْفاً و «ذُو الرَّحْمَة» خبراً، والجُمْلَة الشَّرطيَّة خبر ثاني أو مُسْتَأنَف.

فصل في دحض شهبة للمعتزلة


قالت المعتزلة: هذه الآية الكريمة دالَّة على كَوْنه عادِلاً منزَّهاً عن فِعْلِ القَبِيح، وعلى كَوْنه رَحِيماً مُحْسِناً بعِبَادِه؛ لأنه - تبارك وتعالى - عَالم بقبح القَبَائِح، وعالم بكوْنه غَنِيًّا مَذْكُورٍ في الآيَةِ لغَاية ظُهُوره.
وثانيها: أنه - تعالى - عالمٌ بالمعْلُومات؛ لقوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ١٣٢].
وثالثها: أنه - تعالى - غَنِيُّ عن الحاجات؛ لقوله: «وربُّكَ الغَنِيُّ» وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدِّمَات، ثبت أنه عَلِمٌ بُقُبْح القَبَائح وعَالِمٌ بكون غَنِيًّا عنها، وإذا ثبت هذا، امْتَنَع كوْنه فَاعِلاً لها؛ لأن المُقْدِم على فِعْل القَبيح إمَّا أن يكُون إقْدَامُه لجَهْلِهِ بكونه قِبيحاً، وإما لاحْتِيَاجِهِ، فإذا كان عَالِماً بالكُلِّ، امْتَنَعَ كَوْنه جَاهِلاً بقُبْح القَبَائِح، وذلك يَدُلُّ على أنه - تعالى - منزَه عن فِعْل القَبيح، فحينئذٍ يقْطَع بانه لا يَظْلِم أحَداً فلما كَلًَّف عِبِيدَه الأفْعَال الشَّاقَّة، وجب أن يُثِيبَهُم عليها، ولما رتَّب العِقَاب على فِعْل المَعَاصي، وجب أن يَكُون عَادِلاً فيها، فحينئذٍ انتفى الظُّلْمُ عن اللَّه - تعالى، فما الفائدة في التكليف؟.
قال ابن الخطيب: والجوابُ أن التكْلِيفَ إحْسَانٌ ورَحْمَة على ما قُرِّر في كُتُب الكلام. قوله: «إنْ يَشَأ يُذْهِبْكُم» فقيل: المراد يُهْلِككُمْ يا أهْل مكَّة، وقيل: يُمِيتتُكثم، وقيل: يحتَمَلُ ألاَّ يُبْلِغَهُم مَبْلَغ التَّكْلِيف، ويَسْتَخْلِف من بعد إذْهَابِكُم؛ لأن الاسْتِخْلاف لا يَكُون إلى على طَرِيق الَبدَلِ.
قوله: «مَا يَشَاءُ» يجُوز أن تكُون «مَا» واقِعَة على ما هُو من جِنْسِ الآدَميِّين، وإنَّما أتى ب «مَا» وهي لِغَيْر العَاقِل للإبْهَام الحَاصِل، ويجُوزُ أن تكُون وَاقِعَة على غَيْر العَاقِل وأنَّه يأتي بجِنْسٍ آخر، ويجُوز أن تكُون وَاقِعَة على النَّوْع من العُقَلاء كَمَا تقدَّم.
438
قوله: «كَمَا أنْشَأكُمْ» في هو جهان:
أحدهما: أنه مَصْدَر على غِيْرِ المَصْدَر؛ لقوله: «ويَسْتَخْلِفْ» لأن مَعْنَى «يَسْتَخْلِفْ» : يُنْشىِءُ.
والثاني: أنها نَعْتُ مَصْدَر مَحْذُوف، تقديره: استِخْلافاً مثل ما أنْشَأكُم.
وقوله: «مِنْ ذُرِّيَّةِ» متعلق ب «أنْشَأكُم» وفي «مَنْ» هذه وْجُه: أحدها: انها لابتداء الغايةِ، أي: ابْتَدأ إنْشَاءَكُم من ذُرِّيَّة قَوْم.
الثانيك أنَّها تَبْعِيضيَّة، قاله ابن عطيَّة.
الثالث: بمعنى البدل، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب: هي كقولك: «أخَذْتُ من ثَوْبِي دِرْهَماً» أي: بَدَله وعوضه، وكون «مِنْ» بمعنى البدل قَلِيلٌ أو مُمْتَنِعٌ، وما ورد منع مُؤوَّل؛ كقوله - تعالى -: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: ٦٠] أي: بَدَلَكُم.
وقوله: [الزجر]
٢٣١٦ - جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُلِ المُرَقَّقَا ولَمْ تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا
أي: بدل البُقُول، والمعنى: من أوْلاد قوم مُتقدِّمين أصْلهم آدَمُ.
وقال الزَّمَخْشَرِي: من أولاد قَوءم آخرينِ لم يكُونُوا على مِثْلِ صِفَتِكُم، وهم أهْلُ سَفِينةَ نُوح. وقرأ ابيُّ بنُ كَعْب: «ذَرِّيَّة» بفتح الذَّالِ، وأبان بني عُثْمَان: «ذَرِيَّة» بتخفيف الرَّاء مَكْسُور، ويروى عَنْه أيْضاً: «ذَرْيَة». بزنة ضَرْبَة، وقد تقدَّم تحقيقه، وقرأ زَيْد بن ثَابِت: «ذَِرِّيَّة» بكسر الذال، قال الكسائي هُمَا لُغَتَان.
قوله: «إنَّ تُوعدون لآتٍ» «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي وليست الكَافَّة، و «تُوعَدُون» صلتها، والعَائِد مَحْذُوف، أي: إنَّ ما تُوعدُونَهُ و «لآتٍ» خبر مؤكَّد باللاَّمٍ.
قال الحسن: «ما تُوعَدُون» من مَجِيء السَّاعة؛ لأنهم كَانُوا يُنْكِرُون الحَشْر.
وقيل: يحتمل الوَعْد والوَعِيدن ولما ذكر الوَعْد، جزم بكَوْنه آتِياً، ولما ذكر الوَعِيد، ما ذاد على قوله: «وما أنْتُم بِمُعْجِزينَ» وذلك يَدُلُّ على أن جَانبَ الرَّحْمَة والإحْسَان غالب.
439
قوله :" إنَّ ما تُوعدون لآتٍ " " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي وليست الكَافَّة، و " تُوعَدُون " صلتها، والعَائِد مَحْذُوف، أي : إنَّ ما تُوعدُونَهُ و " لآتٍ " خبر مؤكَّد باللاَّمٍ.
قال الحسن :" ما تُوعَدُون " من مَجِيء السَّاعة ؛ لأنهم كَانُوا يُنْكِرُون الحَشْر١.
وقيل : يحتمل الوَعْد والوَعِيد، ولما ذكر الوَعْد، جزم بكَوْنه آتِياً، ولما ذكر الوَعِيد، ما ذاد على قوله :" وما أنْتُم بِمُعْجِزينَ " وذلك يَدُلُّ على أن جَانبَ الرَّحْمَة والإحْسَان غالب.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٧/٥٨) والرازي (١٣/١٦٦)..
لما بيَّن أن ما تُوعَدُن، لآتٍ، أمر رَسُوله بَعْدَه أن يُهَدِّد من يُنْكر البَعْث من الكُفَّارِ.
وقرأ أبو بكر عن عَاصِم «مَكَانَاتِكُمْ» بالجَميع في كُلِّ القُرْآن، أي: على تَمَكُّنِكُمْ.
وقال عطاء: على حَالاتِكُم التي أنْتُم عليها، والباقون: مَكَانَتِكُمْ.
قال الواحدي: والوَجْه الإفْرَادُ؛ لأنه مَصْدر، والمصادِرُ في أكْثر الأمْر مفْرَدة، وقد يُجْمَع في بعض الأحوالِ إلا أنَّ الغالبَ هو الأوَّل، فمن أفْرَد فلإرادة الجِنْسِ، ومن جَمَع فَليُطَابق ما بَعْدَه، فإن المخَاطِبين جماعة، وقد أُضِيفَت إلَيْهم، وقد علم أن الكُلَّ وَاحِد مَكانه.
قال الزمخشري: المكانَةُ تكون مَصْدراً؛ يقال: مكَنَ مَكَانَةً إذا تمكَّنَ أبْلَغ التمكّن، وبعنى المكان؛ يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة، فقوله: «اعْملُوا على مَكَانِتِكُم» يحتمل «اعْملُوا» على تمكُّنِكُم من أمْرِكُم وأقْصَى اسْتِطَاعَتِكُم وإمكَانِكُم وإمْكانكم، قال معْنَاه أبو إسحاق الزَّجَّاج، وعلى الثاني: أعْمَلُوا على جِهْتِكم وحَالِكُم التي أنْتُم عليها.
قوله: «إني عامل» على مَكَانتي الَّتِي أنا عليها، والمعنى: أثْبُتُوا على عَدَاوَتِكُم وكُفْرِكُم، فإني ثابتٌ على الإسلام وعلى مَضَارَّتِكُم، «فَسوْفَ تَعْلَمُون» أيُّنَا يَنَال العَاقِبة المحمُودة، وهذا أمْر تَهْدِيد؛ كقوله: «اعملُوا ما شِئْتُم».
قوله: «مَنْ تَكُونُ لَهُ» يَجُوز في «مَنْ» هذه وجهان: أحدهما: أن تكون موصولة وهو الظَّاهِر، فهي في محلَِّ نَصْب مفْعُولاً به، و «عَلِمَ هنا مُتَعَدِّية لواحد؛ لأنَّها بمعنى العِرْفَان.
440
الثاني: أن تكون استِفْهَاميَّة، فتكون في محلِّ رفع بالابتداء، و» تكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ «تكون واسْمُهَا وخَبَرُهَا في محلِّ رفع خبراً لها، وهي خبرها في محلِّ نَصْبٍ: إمَّا لسَدِّها مَسَدَّ مَفْعُول وَاحِدٍ إن كانت» عَلِمَ «عِرْفَانيَّة، وإمَّا لسدِّها مسدَّ اثنين إن كان يقينيّة. وقرأ الأخوان:» مَنْ يكُون لَهُ عَاقِبةُ الدَّارِ «هنا، وفي» القصص « [الآية: ٣٧] بالياء، والباقون: بالتاء من فوق، وهما واضحتان، فإن تأنيثها غير حَقِيقِيّ، وقد تقدم ذَلِك في قوله: ﴿وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقر: ١٢٣].
وقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾.
قال ابن عباس: أي لا يَسْعَد من كَفَر بي وأشْرَك.
وقال الضَّحَّاك: لا يَفُوز.
441
لما بيَّن قُبح طريقهم في إنْكَار البَعْثِ، ذكر بعْده أنواعاً من جهالتِهم؛ تنبيهاً على ضَعْفِ عُقُولهم وتَنْفِيراً للعُقلاء عن الالْتِفَات إلى كَلِمَاتِهِم، فمن جملتها أن يَجْعَلُوا لله من حَرْثِهِم ومن أنْعَامِهِم نَصِيباً.
و «جَعَل» هنا بمعنى «صيَّر» فيتعدَّى لاثْنَيْن: أولهما: «نَصِيباً، والثاني: قوله» لِلَّه «ط و» ممَّا ذَرَأ «يجُوز أن يتعلَّق ب» الجَعْل «وأن يتعلَّق بمحذُوف؛ لأنه كان في الأصْلِ صِفَة ل» نَصِيباً «فلما قُدِّم عليه انْتَصب حالاً، والتقدير: وجَعَلُوا نصيباً ممَا ذَرَأ [اللَّه] و» مِنْ الحَرْثِ «يجُوز أن يكُون بدلاً» ممَّا ذَرَا «بإعادة العَامِل؛ كأنه قيل وجعلُوا لِلَّه من الحَرْث والأنْعَام نَصِيباً، ويجُوز أن يتعلَّق ب» ذَرَأ «وأن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنه حال: إمَّا من» مَا «الموصُولة، وأو مِنْ عَائِدِها المحْذُوف، وفي الكلام حَذْف مَفْعُول اقْتَضَاه [التقْسِيم]، والتقدير: وجَعَلُوا للَّه نَصيباً من كذا، ولشُركَائِهِم نَصيباً منه يدلُّ عليه ما بَعْدَه من قوله: ﴿فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا﴾ [و» هذا لِلَّه «جملة مَنْصُوبة المَحَلِّ بالقولِ، وكذلك قوله:» وهَذَا لِشُرَكَائِنَا «] وقوله:» بزَعْمِهِم «فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب»
قَالُوا «أي: فقالُوا ذلك القَوْل بزَعْم لا بيقينٍ واسْتِبْصَار.
441
وقيل: هو متعلِّق بما تعلَّق به الاسْتِقْرَار من قوله:» لِلَّهِ «.
وقرأ العامَّة بفتح الزَّاي من»
زَعْمِهِم «في الموْضَعيْن، وهذه لغة الحَجَاز ويه الفُصْحَى، وقرأ الكَسَائيّ:» بِزُعْمِهِم «بالضَّمِّ وهو لُغة بني أسَد، وهل الفَتْح والضَّمُّ بمعْنًى واحد، أو المفْتُوح مَصْدَر والمضْمُوم اسْم؟ خلاف مشهور.
وقرأ ابن أبي عبلة»
بزعَمِهِم «بفتح الزَّاي والعين.
وفيه لُغَةٌ رابِعَةٌ لبعض قَيْس، وبني تَميم وهي كَسْر الزَّاي، ولم يُقْرأ بِهَذِه اللُّغة فيما علمنا، وقد تقدَّم تَحْقِيقُ»
الزَّعْم « [في النساء آية ٦٠].
وقوله:»
لِشُرَكَائِنَا «يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن الشُّركَاء من الشِّرْك، ويعنون بهم: آلِهَتَهُم التي أشْركُوا بَيْنَها وبين البَاري - تعالى - في العِبادة، وليست الإضَافةُ إلى فاعِل ولا إلى مَفْعُولٍ، بل هي إضافَة تَخْصِيص، والمعْنى: الشركاء الذين أشْركُوا بَيْنَهُم وبين الله - تعالى - في العِبَادة.
والثانيك أن الشُّركاء من الشركةِ، ومعنى كَوْنِهم سَمُّوا آلِهَتَهُم شُرَكَاءهُم: أنهم جَعَلُوهم شُرَكَاء في أمْوَالِهِم، وزُرُعِهِم، وأنْعَامهم، ومَتَاجِرهم وغير ذلك، فتكون الإضافَةُ إضافَة لَفْظِيَّة: إما إلى المفعُول أي: شُرَكَائِنا الَّذِين شَارَكُونا في أمْوَالِنَا، وإما إلى الفَاعِل، أي: الَّذِين أشْرَكْنَاهُم في أمْوَالِنا.

فصل في المراد بالآية


قال ابن عبَّاس: كان المُشْرِكُون يَجْعَلُون لله من حُرُوثِهِم وأنْعَامِهِم نَصيباً، وللأوْثَان نَصِيباً، فما كان للصَّنَم أنْفَقُوه على الأصْنَامِ وحدها، وما جعلوه للَّه أطْعَمُوه الضِّيفَان والمسَاكِين، ولا يأكُلُون مه ألْبَتَّة، وإن سقط من نَصِيب الأوْثَان فيما جَعَلُوه لله؛ ردّوه إلى الأوْثَانِ، وقالوا: إنَّها مُحْتَاجَة، وإن سقط شَيءٌ مما جَعَلُوه لله في نَصيب الأوْثَانِ، وقالوا: إنَّها مُحْتَاجَة، وإن سقط شَيءٌ مما جَعَلُوه للَّه في نَصِيب الأوْثَانِ، تركُوهُ وقالوا: إنَّ اللَّه غَنِيُّ عن هذا.
وقال الحسن والسُّدِّيي: كان إذا هَلَك وانْتَقَص شيء ممَّا جعلُوه للأصْنَامِ خَيَّروه بما جَعَلُوه للَّه ولا يَفْعَلُون مِثْلَ ذلك فيما للَّه - عزَّ وجلَّ.
وقال مجاهد: المَعْنَى: انه إذا انْفَجَر من سَقْي ما جعلُوه للشَّيْطان في نَصِيب الله - تعالى - سَدُّوه، وإن كان على ضِدِّ ذلِك، تركوه.
442
وقال قتادة: إذا أصَابَهُم القَحْط، استَعَانُوا باللَّه ووفَّرُوا ما جَعَلُوه لشُرَكَائهم.
وقال مقاتل: إن زَكَا ونما نَصِيبُ الآلِهَة، ولم يَزْكُ نصب اللَّهِ، تركوا نَصِيب الآلِهَة، وإن زكَا نَصٍبُ اللَّه ولَمْ يَزْكُ نَصيب الآلهة، أخذوا نَصِيبَ اللَّه - تعالى - وقالوا: لا بُدَّ لآلِهَتِنَا من نفقةٍ، فأخذوا نَصِيبٌ اللَّهِ فأعطوه السَّدَنَة، فذلك قوله: «فَمَا كان لِشُركَائِهم فلا يَصِلُ إلى اللَّهِ وما كان لِلَّه فهو يَصِلُ إلى شركَائِهم»، يغني من نماء الحَرْث والأنْعَام، فلا يَصل إلى اللَّه - تعالى - يعني: إلى المَسَاكين، وإنَّما قال: إلى اللَّه؛ أنهم كَانُوا يَفْرِزُونَه للَّه - تعالى - ويسمونهُ نَصِيب اللَّه، وما كان للَّه فَهُو يَصِل إليهم.
قوله: «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» قد تَقَدَّم نَظِيرُه، وقد أعْرَبَها الحُوفِي هُنَا، فقال: «ما» بمعنى الَّذي، والتقدير: ساء الَّذِي يحْكُمُون حُكْمهم، فيكون «حُكْمُهُمُ» مبتدأ وما قَبْلَه الخبر، وحذف لدلالة «يَحْكُمُون» عليه ويجُوز أن تكون «ما» تَمْييِزاً، على مَذْهَبِ من يُجِيز ذلك في «بِئْسَمَا» فتكون في مَوْضع نَصْبٍ، التقدير: ساء حُكْماً حُكْمُهُم، ولا يكون «يَحْكُمُون» صِفَة ل «مَا» لأن الغرضَ الإبْهام، ولكن في الكلامِ حَذْف يدلُّ عليه «مَا» والتقدير: ساء ما يَحْكُمُون فحذف «ما» الثانية.
قال شهاب الدِّين: و «ما» هذه إن كان مَوْصُولة، فمذْهَبُ البَصْريِّين أن حَذْف الموصُول لا يجُوز وقد عُرَِف ذلك، وإن كانَتْ نكرة موْصُوفة، فَفِيه نَظَر؛ لأنه لم يُعْهَدْ حَذْفُ «مَا» نَكِرة مَوْصُوفة.
وقال ابن عطية: و «مَا» في مَوْضع رَفْع؛ كأنه قال: سَاءَ الذي يَحْكُمُون ولا يَتِّجِه عِنْدي أن تَجْري «سَاءَ» هنا مُجْرَى «نِعْم» و «بِئْسَ» ؛ لأن المفسِّر هنا مُضْمَر، ولا بُد من إظْهَارِهِ باتِّفَاق من النُّحاة وإنَّما اتَّجَه أن يَجْرِي مُجْرى «بِئْسَ» في قوله: ﴿سَآءَ مَثَلاً القوم﴾ [الأعراف: ١٧٧] لأن المفسِّر ظاهر في الكلام.
قال أبو حيَّان: «وهذا كلامٌ من لم تَرْسَخْ قدمُهُ في الغربيَّة، بل شذَّ فيها شَيْئاً يسيراً؛ لأنه إذا جَرَت» سَاءَ «مَجْرَى» بِئْسَ «كان حُكْمُها كحكْمِها سواءً لا يَخْتَلِفُ في شيء ألْبَتَّة من فَاعِل ظاهِر أو مُضمَر، أو تمييز ولا خلاف في جواز حَذْفِ المخْصُوصُ بالمَدْحِ أو الذَّمِّ، والتمييز بها لِدلالة الكلام عليه».
فقوله: «لأن المفسِّر هنا مُضْمَر، ولا بُدَّ من إظْهَار باتِّفَاق» قوله سَاقِط ودعْوَاه الاتِّفاق على ذلك - مع أن الاتِّفاق على خلافه - عجبٌ عُجابٌ.
443
هذا نوع آخر من أحْكَامِهِم الفاسدة ومذاهبهم البَاطِلة. قوله: «وكذلِكَ زيَّنَ» هذا في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذُوف كنظائره، فقدَّره الزمخشري تقديرين، فقال: «ومِثْل ذلك التَّزْيين وهو تَزْيين الشِّرْك في قِسْمَة القُرْبَان بين اللَّهِ والآلهة، أو: ومثل ذلك التَّزيين البَلِيغ الذي عُلِم من الشَّياطين».
قال أبو حيَّان: قال ابن الأنْبَاري: ويجُوز أن يكون «كَذَلِكَ» مستَأنفاً غير مُشَارٍ به إلى ما قَبْله، فيكون المَعْنَى: وهكذا زيَّن.
قال شهاب الدِّين: والمنْقُول عن ابن الانْبَاري أن مُشَارٌ به إلى ما قبله، نقل الواحِدِي عنه؛ أنه قال: «ذَلِكَ» إشارةٌ إلى ما نَعَاه اللَّه عليهم من قَسْمِهِم ما قَسَمُوا بالجَهْل، فكأنه قِيلَ: ومثل ذلك الذي أتَوْه في القَسْم جهلاً وخطأ زيِّن لكَثِير من المُشْركين، فشبَّه تَزْيين الشرُّكَاء بخِطَابهم في القَسْمِ وهذا معنى قول الزَّجَّاج، وفي هذه الآية قراءات كَثِيرة، والمُتواتِر منها ثِنْتَان.
الأولى: قرأ العامّة «زَيَّنَ» مبنياً للفَاعِل و «قَتْلَ» نصب على المفعُوليَّة و «أوْلادَهُم» نَصْباً على المفعُول بالمصْدَر، «شُركَائِهِم» خفضاً على إضافة المصدر إلأيه فَاعِلاً، وهذه القراءة مُتواتِرة صحيحة، وقد تجرأ كَثِيرةٌ من النَّاسِ على قَارِئهَا بما لا يَنْبَغي، وهو أعلى القُرَّاء السَّبْعَة سَنَداً وأقدمهم هِجْرَة.
أمَّا عُلُوِّ سنده: فإنَّه قرأ على أبِي الدَّرْدَاء، وواثِلة بن الأسْقَع، وفَضَالةِ بن عُبَيْد، ومعاوية بن أبي سُفْيَان، والمُغِيرةَ المَخْزُومِي، ونقل يَحْيَى الذُّماري أنه قرأ على عُثْمَان نفسه.
وأما قَدَم هِجْرَته فإنَّه وُلِد في حَيَاة رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونَاهِيك به أن هشام بن عمَّار أحد شُيُوخ البُخَارِيّ أخّذ عن أصْحاب أصحابه وتَرْجَمَته مُتَّسِعَة ذكرتُها في «شرح القصيد».
444
وإنَّما ذكرت هُنَا هَذِه العُجَالة تَنْبيهاً على خَطَإٍ من رَدَّ قراءته ونَسَبَه إلى لَحْنٍ، وأو اتِّبَاع مجرَّد المَرْسُوم فقط.
قال أبو جَعْفَر النحاس: وهذا يَعْني أنّ الفَصْل بين المُضَافِ والمضافِ إليه بالظَّرْفِ أو غيره لا يجُوز في شِعْرٍ ولا غيره، وهذا خطأ من أبي جَعْفَر؛ لما سنذكره من لسَان العرب.
وقال أبو علي الفارسيّ: هذا قَبيحٌ قليل في الاسْتِعْمَال، ولو عَدَل عَنْهَا - يعني ابن عامر -، كان أولى؛ لأنهم لم يَفْصِلُوا بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالظَّرف في الكلام مع اتِّساعهم في الظَّرُوفِ، وإنَّما أجَازُوه في الشِّعْر «قال:» وقد فَصَلُوا به - أي بالظَّرف - في كَثِير من المواضع، نحو قوله تعالى ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢] ؛ وقال الشاعر في ذلك: [المتقارب]
٢٣١٧ - عَلَى أنَّنِي بَعْدَمَا قَدْ مَضَى ثلاثُونَ - لِلْهَجْرِ - حَوْلاً كَمِيلاً
وقول الآخر في هذا البيت: [الطويل]
٢٣١٨ - فَلاَ تَلْحَنِي فيها فإنَّ - بِخُبِّهَا - أخَاكَ مُصَابُ القَلْبِ جَمٌّ بلابِلُهْ
ففصل بين «إنَّ» واسْمَها بما يتعلَّق بخبَرِهَا، ولو كان بِغَيْر الظرف، لم يَجُزْ، ألا تَرَى أنَّك لو قُلْتَ: «إنَّ زَيْداً عَمْراً ضَارِب» على أن يكون «زَيْداً» منصُوباً ب «ضَارِب» لم يَجز، فإذا لم يُجِيزُوا الفَصْل بين المُضَافِ والمُضافِ إلَيْهِ في الكلامِ بالظرفِ مع اتِّساعهم فيه في الكلام، وإنما يجُوزُ في الشَّعْر؛ كقوله: [الوافر]
٢٣١٩ - كَمَا خُطَّ الكِتَاب بَكَفِّ - يَوْماً - يَهْودِيِّ يُقَاربُ أوْ يُزيلُ
فأن لا يجوز بالمفعُول الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفَصْلِ أجْدَر، ووجه ذلك على ضَعْفَه وقلَّة الاسْتِعَمال: أنه قد جَاءَ في الشِّعْر على حدِّ ما قَرَأهُ قال الطَّرْمَاح: [الطويل]
٢٣٢٠ - يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَم تَرُعْ بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيِّ - الكَنَائِنِ
وأنشد أبو الحسن: [مجزوء الكامل]
٢٣٢١ -....................
445
زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادهُْ
وقال أبو عُبَيْد: وكان عبْدُ اللَّه بن عَامِر، وأهل الشام يَقْرءُونها: «زُيِّن» بضم الزَّاي «قُتْلُ» بالرَّفْع، «أولادَهُم» بالنَّصْب، «شُرَكَائهم» بالخَفْضِ، ويتأولون «قَتْلَ شُرَكَائِهِم أوْلادَهم» فيفرقون بين الفِعْل وفاعله.
قال أبو عبيد: «ولا أحِبُّ هذه القراءة؛ لما فيها من الاسْتِكْرَاه والقِراءة عِنْدنَا هي الأولَى؛ لصحِّتِها في العربيِّة، مع إجْماع أهْل الحَرْمَيْن والمِصْرَين بالعراق عَلَيْهَا».
وقال سيبويْه في قولهم:
٢٣٢٢ - يا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارْ... بخفض «اللَّيْلَةِ» على التَّجُّوز وبنصب «الأهْلِ» على المَفْعُولِيَّة، ولا يجُوز «يا سَارِقَ اللَّيْلَة أهْلَ الدَّار» إلاَّ في شِعْر؛ كراهة أن يَفْصِلُوا بين الجَارِّ والمجْرُور، ثم قال: وممَّا جَاء في الشِّعْر قد فُصِل بَيْنَهُ وبين المَجْرُور قول عمرو بن قميئة: [السريع]
٢٣٢٣ - لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ لِلَّهِ دَرُّ - اليَومَ - مَنْ لاَمَهَا
وذكر أبْيَاتاً أُخَر.
وقال أبو الفتح بن جني: «الفَصْل بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه بالظَّرْف والجَارِّ والمَجْرُور كَثِيرٌ، لكنه من ضَرُورَة الشَّاعِر».
وقال مكي بن أبي طالب: «ومن قَرَأ هذه القراءة ونَصَب» الأوْلادَ «وخفض» الشُّركاء «فيه قراءة بعيدةٌ، وقد رُويَتْ عن ابْن عامر، ومجازها على التَّفْرِقَة بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالمفعُول، وذلك إنَّما يجُوزُ عند النَّحويِّين في الشِّعْر، وأكثر ما يَكُون بالظَّرْفِ».
446
قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذه قراءةٌ ضَعِيفَة في اسْتِعْمَال العرب، وذلك أنَّه أضاف الفِعْلَ إلى الفاعل، وهو الشُّرَكَاء، ثُمَّ فصل بين المُضافِ والمُضافِ إليه بالمفْعُول، ورُؤسَاء العربيَّة لا يُجيزُون الفَصْل بالظُّرُوف في مِثْل هذا إلا في شِعْرٍ؛ كقوله: [الوافر]
٢٣٢٤ - كَمَا خُطَّ - الكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً... يَهْودِيِّ.......................
البَيْت فكيف بالمَفْعُول في أفْصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضَعْفِها: أنَّها وردت في بَيْتٍ شّاذِّ أنْشَدَهُ أبو الحَسَن الأخْفَش، فقال: [مجزوء الكامل]
٢٣٢٥ - فَزَجَجْتُهَا بِمَزجَّةٍ زَجَّ - القلُوصَ - أبي مَزَادَهْ
وفي بيت الطِّرمَّاح، وهو قوله: [الطويل]
٢٣٢٦ - يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَمْ تَرُعْ بِوَادِيهِ مِنْ قَرْع - القِسِيَّ - الكَنَائِنِ
وقال الزَّمخشري - فأغْلظ وأسَاء في عبارتهِ - «وأم قِرَاءة ابن عامرٍ - فذكرها - فشيء لو كان في مكان الضرُورة وهو الشِّعْر، لكان سَمِجاً مرْدُوداً كما سَمُج ورورد:
[مجزوء الكامل]
٢٣٢٧ -................... زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادَهْ
فكيف به في الكلام المَنْثُور؟ كيف به في القُرْآن المُعْجِز بحُسْن نَظْمِه وجَزَالَتِه؟ الذي حمله على ذلك: أنْ رأى في بَعْض المَصَاحف»
شُرَكَائِهِم «مكْتُوباً بالياءِ، ولو قرأ بجرِّ» الأوْلاد «و» الشُّركاء «- لأن الأولاد شُرَكَاؤهم في أموالهم - لوجَد في ذلك مَنْدُوحة عن هذا الارتكاب».
قال شهاب الدين: «سَيَأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسِم أن يَقْرَأه ابن عَامرٍ، وأنه قد قرأ به، فكأنَّ الزَّمَخْشَرِيّ لم يَطَّلِعْ على ذلك، فلهذا تَمَنَّاه».
وهذه الأقوال التي ذكرتها جَمِيعاً لا يَنْبَغِي أن يُلْتَفَت إليها؛ لأنها طَعْن في المُتَواتِر، وإن كانت صَادِرةً عن أئِمَّةٍ أكَابِر، وأيضاً فقد انْتصَر لها من يُقَابِلُهُم وأوْرَد من لسانِ العربِ نَظْمهِ ونَثْرِه ما يَشْهَد لصِحَّة هذه القراءة لُغَة.
قال أبو بَكْر بن الأنْبَاريّ: «هذه قِرَاءة صَحيحَةٌ وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بني المُتضَايفين بالجُمْلَة في قولهم:» هُو غُلامُ - إن شَاءَ اللَّه - أخِيكَ «يُرِيدون: هو غلام أخِيكَ، فأنْ يُفْصَل بالمفْرَد أسْهَل» انتهى.
وسمع الكَسَائِي قول بعضهم: «إن الشَّاةُ لتجترُّ فتَسْمع صَوْت واللَّه ربِّهَا»، أي:
447
صَوْت ربِّها واللَّه، ففصل بالقسم وهو في قُوَّة الجُمْلَة، وقرأ بَعْض السَّلَف: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ [إبراهيم: ٤٧] بنصب «وَعْدَهُ» وخفض «رُسُلِهِ» وفي الحديث عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «هَلْ أنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبي، تَارِكُوا لِي امْرَأتِي» أي تاركو صَاحِبي لي، تَارِكُو امْرَأتِي لي.
وقال ابن جِنِّي في كتاب «الخصائص» : باب ما يَرِدُ عن العَرَبِيّ مُخَالِفاً للجُمْهُور، إذا اتَّفق شَيْءٌ من ذلك، نُظِر في ذلك العربي وفيما جَاءً بهِ: فإن كان فَصِيحاً وكان مَا جَاء به يَقْبَلُه القِيَاسُ، فَيَحْسُن الظَّنُّ به؛ لأنه يمكن أن يَكُون قَدْ وَقَع إليه ذَلِك من لُغَةٍ قديمة، قد طَال عَهْدُها وعَفَا رَسْمُهَا.
أخرنا أبُو بكْر جعفر بن مُحَمَّد بن أبي الحَجَّاج، عن أبي خَلِيفَة الفَضْل بن الحباب، قال: قال ابن عَوْف عن ابن سيرين: قال عُمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «كان الشِّعْر عِلْمَ قَوْم لم يَكُونْ لَهُم عِلْمٌ منه؛ فجاء الإسْلام فتشاغَلَت عَنْه العَرَب بالجِهَاد وغَزْو فَارِس والرُّوم، ولَهَت عن الشِّعر وروايته، فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفُتُوح، وأطْمَأنَّت العرب في الإمْصَارِ، راجَعُوا رواية الشِّعْرِ فلم يَئُولوا إلى دِيوانٍ مُدَوَّنٍ، ولا إلى كِتاب مكْتُوبٍ، وألِفُوا ذلك وقد هَلَك مَنْ هَلَك من العربِ بالموت والقَتْلِ، فَحَفِظُوا أقل ذلك وذهب عَنْهُم كَثِيرُه».
قال: وحدَّثنا أبو بكر، عن أبِي خَلِيفَة عن يُونُس بن حَبِيب، عن أبِي عَمْرو بن العلاء. قال: «ما انْتَهى إليكم مما قالت العَرَب إلا أقَلُّه، ولو جَاءَكُم وافراً لجَاءَكُم عِلْمٌ وشِعْر كَثِير». وقال أبو الفَتْح: «فإذا كان الأمْر كَذَلِك، لم نَقْطَع على الفَصِيح إذا سُمِع مِنْه ما يُخَال الجُمْهُور بالخَطَإ، ما وُجِد طَريقٌ إلى تَقَبُّل ما يُورِدُه، إلا إذا كان القِيَاسُ يُعَاضِدُه».
قال شهاب الدِّين: وقراءة هذا الإمام بهذه الحيثيَّة، بل بطريق الأولَى والأحْرَى لو لم تكُن مُتَوَاتِرة، فكيف وهي مُتواتِرَة؟ وقال ابن ذَكْوَان: سألَني الكَسَائِي عن هذا الحَرْفِ وما بَلَغَهُ من قِرَاْتنا، فرأيْتُه كأنه أعْجَبَه وتَرَنِّم بهذا البيت: [البسيط]
٢٣٢٨ - تَنْفِي يَدَهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ نَفْيَ - الدَّرَاهِيمَ - تَنْقَادِ الصَّيَارِيفِ
بنصب «الدَّرَاهِيم» [وجَرِّ «تَنْقَاد»، وقد رُوِي بخفض «الدَّرَاهِيم» ورفع «تَنْقَادُ» وهو الأصْل، وهو المَشْهُور في الرِّواية].
448
وقال الكرمَانِيّ: «قراءة انب عَامرٍ وإن ضَعُفَتْ في العَرَبِيَّة للإحَالَة بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه فَقَويَّةٌ في الرَّواية عَالِيةٌ» انتهى.
وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثَق بعربيَّته: «تَرْكُ يَوْماً نَفْسِك وهَوَاهَا سَعْيٌ في رَادَاهَا» أي: تَرْكُ نَفْسِك يَوْماً مع هَوَاهَا سَعْيٌ في هَلاكِهَا.
وأما ما ورد في النَّظْمِ من الفَصْلِ بين المُتَضَايفين بالظَّرْف، وحَرْف الجرِّ، وبالمفعول فكَثِيرٌ، وبغير ذلك قَلِيل، فمن الفَصْل بالظَّرْفِ قول الآخر: [الوافر]
٢٣٣٠ - كَمَا خُطَّ الكِتَابُ بَكَفِّ - يَوْماً -... يَهْودِيِّ........
وقول الآخر: [السريع]
٢٣٣١ - قَدْ سَألَتْنِي أمُّ عَمْرٍو عَنِ ال أرْضِ الَّتِي تَجْهَلُ أعلامَهَا
لمَّار رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ لِلِّهِ دَرُّ - اليَوْمَ - مَنْ لاَمَها
تَذَكَّرَتْ أرْضاً بِهَا أهْلُهَا أخْوالَهَا فِيهَا وأعْمَامَهَا
يريد: للَّه دَرُّ مَنْ لامَها اليَومْ، و «ساتِيدمَا» قيل: هو مرَكَّب والأصْل: «سَاتِي دَما» ثم سمِّي به هذا الجبل؛ أنه قُتِل عِنْدَه، قيل: ولا تَبْرح القَتْلَى عند، وقيل: «سَاتِيد» كله اسْمٌ و «مَا» مَزِيدة؛ ومثال الفَصْل بالجار قوله: [الطويل]
٢٣٣٢ - هُمَا أخَوَا - فِي الحرْب - مَنْ لا أخَا لَهُ إذا خَافَ يَوْمَاً نَبْوَةً فَدَعَاهُمَا
وقال الآخر في ذلك: [البسيط]
٢٣٣٣ - لأنْتَ مُعْتَادُ - فِي الهَيْجَا - مُصَابَرَةٍ يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا
وقوله أيضاً: [البسيط]
449
٢٣٣٤ - كَأنَّ أصْوَات - مِنء إيغَالِهِنَّ بِنَا - أوَاخِر المَيْسِ أصْواتُ الفَرَارِيجِ
قوله أيضاً: [الطويل]
٢٣٣٥ - تَمُرُّ على ما تَسْتِمِرُّ وَقَدْ شَفَتْ غَلائِلَ - عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا - صُدُورِهَا
يريد: هما أخَواَ مَنْ لا أخَا لَهُ في الحربِ، ولانْتَ مُعْتَادُ مُصَابرةٍ في الهَيْجاء، وكأن أصوات أواخر الميس وغَلائِل صُدُورها، ومن الفَصْل بالمفعُول قول الشاعر في ذلك: [مجزوء الكامل]
٢٣٣٦ - فَزَجَحْتُهَا بِمَزَجَّةٍ زَجَّ - القُلُوصَ - أبِي مَزادَهْ
ويروي: فَزَجَجْتُها فتدافعتْ، ويروى: فزجَجْتُهَا متمكِّنَا، وهذا البيت كما تقدم أنْشَده الأخْفَش بِنْصَب «القَلُوصَ» فاصلاً بين المصدر وفاعل المعْنوِيّ، إلا أن القرَّاء قال بعد إنشاده لهذا البيتِ: أهل المدينة يُنْشِدون هذا البَيْتَ يعني: بِنَصْب «القَلُوص». قال: «والصَّواب: زَجَّ القَلُوصِ بالخَفْض». قال شهاب الدِّين: وقوله: «والصَّواب يُحْتَمل أن يكُون من حَيْث الرِّوَاية الصَّحيحة وأن يكُون من حَيْثُ القياس، وإن لم يُرْوَ إلا بالنَّصْب، وقال في مَوْضِع آخر من كتابه» مَعَانِي القُرْآن «:» وهذا ممَّا كان يقُولُه نَحْوي ُّو أهل الحِجَاز، ولم نَجِد مِثْلَه في العربيَّةط وقال أبو الفَتْح: «في هذا البيت فُصِل بينهُمَا بالمفعُول به هذا مع قُدْرته على أنْ يقُول: زَجَّ القَلُوص أبو مزادة؛ كقولك:» سَرَّنَي أكلُ الخُبْزِ زَيْدٌ «بمعنى: أنه كان يَيْبَغِي أن يُضِيفَ المَصْدَر إلى مَفْعُوله، فَيَبْقى الفاعل مَرْفُوعاً على أصْلِه، وهذا مَعْنَى قول الفرَّاء الأوَّل» والصَّواب جر القَلُوص «سيعني ورفع الفاعل».
ثم قال ابن جِيني: وفي هذا البَيْت عِنْدي دَلِيلٌ على قُوَّة إضافَةِ المَصْدَر إلى الفَاعِل عِنْدَهُم، وأنه في نُفُوسِهِم أقْوَى من إضافته إلى المَفْعُول؛ ألا تراه ارْتَكب هذه الضَّرُورة
450
مع تمكُّنِهِ من تركِهَا لا لِشَيْءٍ غير الرَّغْبة في إضافة المصْدَرِ إلى الفاعل دُون المَفْعُول، ومن الفَصْلِ بالمفعُول به أيضاً قول الآخر في ذلك: [الرجز]
٢٣٣٧ - وحِلَقِ المَاذِيِّ والقَوانِسِ فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ
أي: دوس الدائس الحصادَ.
ومثله قول الآخر: [الرجز]
٢٣٣٨ - يَفْرُكُ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ بالقَاعِ فَرْكَ - القُطُنَ - المُحَالِجِ
يريد: فَرْك المُحَالِجِ القُطْن، وقول الطِّرمَّاحِ في ذلك: [الطويل]
٢٣٣٩ -................... بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيَّ - الكَنَائَنِ
يريد: قَرْع الكَنَائِنِ القِسِيَّ. قال ابن جِنِّي في هذا البيت: «لم نَجِد فيه بُداً من الفَصْلِ؛ لأن القوافي مَجْرُورَة» وقال في «زَجِّ القَلُوصِ» فصل بَيْنَهُما بالمَفْعُول به، هذا ما قُدْرَته إلى آخَر كلامهِ المتقدِّم، يعني: أنَّه لو أنْشَد بَيْت الطِّرْمَاح بخَفْضِ «القِسِيِّط ورفع» الكَنَائِنِ «لم يَجُز؛ لأن القَوافِي مَجْرُورة بِخِلاف بَيْت الأخْفَش؛ فإنه لو خفض» القَلُوص «ورَفع» أبُو مَزَادَة «لم تَخْتَلِف فيه قَافيِتَه ولمْ يَنْكَسِر وَزْنَه.
قال شهاب الدِّين: ولو رفع»
الكَنَائِن «في البيت، لكان جَائِزاً وإن كانتِ القوافي مَجْرُورة، ويكُون ذلك إقْوَاءً، وهو أن تكُون بَعْضُ القَوَافي مَجْرُورة وبَعْضُها مَرْفُوعة؛ كقول امرئ القيس: [الكامل]
٢٣٤١ - جَالَتْ لِتصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصِري إنِّ امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
قالميمُ مَحْفُوضة في الأوَّل، مَرْفُوعة في الثَّاني. فإن قيل: هذا عَيْبٌ في الشِّعْر.
قيل: لا يتقاعد ذلك عن أنْ يَكُون مِثْل هذه للضَّرُورةَ، والحقُّ أن الإقْواء أفْحَشُ
451
وأكثر عَيْباً من الفَصْل المَذْكُور، ومن ذلك أيضاً: [الوافر]
٢٣٤٢ - فإنْ يَكُنِ النِّكَاحُ أحَلِّ شَيءٍ فإنَّ نِكَاحَهَا مَطَرٍ حَرَامُ
أي: فإنَّ نِكَاحَ مطرٍ إيَّاها، فلما قدَّم المفْعُول فَاصِلاً بين المَصْدَر وفاعله، اتَّصَل بعامِلهِ؛ أنه قدر عليه مُتَّصِلاً فلا يَعْدل إليه مُنْفَصِلاً، وقد وقع في شِعْر أبي الطَّيَّب الفَصْل بني المَصْدَر المُضافِ على فَاعِلهِ بالمَفْعُول؛ كقوله: [الطويل]
٢٣٤٣ - بَعَثْتُ إلَيْهِ مِنْ لِسَانِي حَدِيقَةَ سَقَهَا الحَيَا سَقْي - الرِّياضَ - السَّحائبِ
أي: سقي السَّحائب الرِّياضَ، وأما الفَصْل بغير ما تقدَّم فهو قَلِيلٌ، فمنه الفَصْل بالفاعل.
كقوله: [الطويل]
٢٣٤٤ -................... غَلاَئِلَ عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا صُدورِهَا
فَفَصَل بين «غَلائِلَ» وبين «صُدُورَهَا» بالفاعل وهو «عبْدُ القَيْسِ»، وبالجار وهو «مِنْهَا: كما تقدَّم بيانه؛ ومثله قول الآخر: [الطويل]
٢٣٤٥ - نَرى أسْهُماً لِلْمَوْتِ تُصْمِي وَلاَ تُنْمي ولا تَرْعَوِي عَنْ نَقْضِ - أهْوَاؤنَا - العَزْومِ
فأهْوَاؤنا فاعل بالمصدر، وهو»
نَقْض «وقد فصل به بين المَصْدَر وبين المُضَاف إلَيْه وهو العَزم؛ ومثله قول الآخر: [المنسرح]
٢٣٤٦ - أنْجَبَ أيَّام - والدهُ بِهِ - إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلا
يريد: أيَّام إذ نجلاه، ففصل بالفاعل وهو»
والدهُ «المرفوع ب» أنْجَبَ «بين المُتضايفين وهما» أيَّام - إذْ ولداه «.
قال ابن خَرُوف:»
يجوزُ الفصل بين المصْدَر والمضاف إليه بالمفعُول؛ لكوْنِهِ في غير محلِّه، ولا يُجُوزُ بالفاعل لكوْنِهِ في محلَّه وعليه قراءة ابن عَامِر «.
قال شهاب الدِّين: هذا فَرْقٌ بين الفاعل والمفعُول حيث اسْتَحْسن الفَصْل بالمفْعُول دون الفاعل، ومن الفَصْل بغير ما تقدَّم أيضاً الفَصْل بالنِّداء؛ كقوله: [البسيط]
452
٢٣٤٧ - وفَاقُ - كَعْبُ - بُجَيْر مُنْقِذٌ لَكَ مِنْ تَعْجِيلِ مُهْلَكَةٍ والخُلْدِ في سَقَرِ
وقول الآخر: [الطويل]
٢٣٤٨ - إذَا مَا - أبَا حَفْصٍ - أتَتْكَ رَأيْتَهَا عَلَى شُقراءِ النَّاسِ يَعْلُو قَصِيدُهَا
وقول الآخر في ذلك: [الزجر]
٢٣٤٩ - كأنَّ بِرْذَوْنَ - أبَا عِصَامِ - زَيْدٍ حِمَارٌ دُقَّ بِاللِّجَامِ
يريد:» وفاق يجَيْر يا كَعْب «و» إذا ما أتَتْكَ يا أبَا حَفْصٍ «و» كأن بِرْذَوْنَ زَيْد يا أبا عِصَام «.
ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالنَّعْتِ؛ كقول مُعَاوِية يُخاطِب به عَمْرو بن العَاص: [الطويل]
٢٣٥٠ - نَجَوْتَ وَقَدْ بَلَّ المُرَادِيُ سَيْفَهُ مِن ابْنِ أبِي شَيْخِ الأبَاطِح طَالبِ
وقول الآخر في ذلك: [الكامل]
٢٣٥١ - وَلَئِنْ حَلَفْتُ عَلَى يَدَيْكَ لأحْلِفَنْ بيَمِينِ أصْدَقَ مِنْ يَمينكَ مُقْسِمِ
يريد: من ابن أبي طَالِب شَيْخ الأبَاطِح، فشيخ الأباطح نعْت لأبي طالب، فصل به بَيْن أبي، وبَيْن طالب، ويريد: لأحْلِفَن بيمين مُقْسِم أصْدَق من يَمِينِك؛ ف»
أصدق «نعت لَقَوْله بيمين، فصل به بَيْن» يَمِين «وبَيْن» مُقْسِمِ «ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالفِعْل المُلْغَى؛ كقوله في ذلك: [الوافر]
٢٣٥٢ - ألا يَا صَاحِبَيَّ قِفَا المَهَارَى نُسَائِلْ حَيَّ بَثْنَةَ ايْنَ سَارَا؟ بأيِّ تَرَاهُم الأرَضِين حَلُّوا
أألدَّبَرَانِ أمْ عَسَفُوا الكِفَارَا؟...
453
يريد: بأي الأرضين تراهم حَلُّوا، ففصل بقوله «تَرَاهمُ» بين «أيّ» وبين الأرضين.
ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بمفْعُول «لَيْس» معمولاً للمصدر المُضاف إلى فاعل؛ كقول الشاعر: [البيسط]
٢٣٥٣ - تَسْقِي ندى ريقتها المِسْوَاك ف «المِسْواكَ ريقَتها كَمَا تَضَمَّن مَاءَ المُزْنَةِ الرَّصِفُ
أي: تسْقِي ندى ريقتها المِسْوَاك ف» المِسْوَالك «مفْعُول به نَاصبة» تَسْقِي «فصل به بين» نَدَى «وبين» ريقتهَا «، وإذ قد عَرَفْت هذا، فاعْلَم أنَّ قِرَاءة ابن عَامِر صحيحَة؛ من حيث اللُّغَةِ كما هي صَحيحة من حَيْث النَّقْل، ولا التِفَات إلى قَوْل من قال: إنه اعْتَمَد في ذلك على رسْم مُصْحَفِ الشَّام الذي أرْسَلَه عُثْمَان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأنه لم يُوجَد فيه إلا كَتَابة» شُرَكَائِهِم «بالياء وهذا وإن كافياً في الدَّلالة على جَرِّ» شُرَكائِهِم «، فليس فيه ما يَدُلُّ على نَصْب» أوْلادَهُم «؛ إذا المصْحَفُ مُهْمَلٌ من شكْل ونقط، فلم يَبْقَ له حُجَّة في نَصْب الأولاد إلاَّ النَّقْل المحض.
وقد نقد عن ابن عامرٍ؛ أنه قرأ بِجَرِّ»
الأوْلاد «كما سيأتي بَيَانَهُ وتَخْريجُه، وأيضاً فليس رسْمها» شُرَكَائِهم «بالياء مخْتَصاً بمصْحَف الشَّامِ، بل هي كذلك أيضاً في مُصْحَف أهْل الحِجَاز.
قال أبو البرهسم:»
فِي سُورة الأنْعَام في إمَام أهْل الشَّم وأهْل الحجاز: «أوْلادَهُم شُرَكَائِهِم» بالياء، وفي إمان أهل العراق «شُرَكَاؤهُم» ولم يَقْرَأ أهل الحجاز بالخفضِ في «شُرَكَائِهِم» لأن الرَّسءم سُنَّةُ مُتَّبعة قد تُوافِقُهَا التِّلاوة وقَدء لا تُوَافِقُ «.
إلاَّ أن الشيخ أبا شَامَةَ قال:»
ولم تُرْسم كذلك إلا باعتبار قراءَتَيْن: فالمضموم عليه قِراءة معْظم القُرَّاء «ثم قال:» وأمَّا «شُركَائهم» بالخَفْضِ؛ فيحتلم قراءة ابن عمر «قال شهاب الدين: وسيأتي كلام أبِي شَامَ’ هذا بتَمَامة في موْضِعه، وإما أخَذْتُ منه [بقَدر] الحَاجَة هُنَا.
فقوله:»
إن كُلَّ قراءة تَابِعَة لرسءم مُصْحَفِها «تُشْكِلُ بما ذكرنا لك من أنَّ مصحَفَ الحِجَازيِّين بالياءِ، [مع أنَّهُم لم يَقْرءُوا بذلِك].
وقد نقل أبُو عَمْرو والدَّانيِ أن:»
شُرَكَائِهِم «بالياء]، إنَّما هو في مُصْحف الشَّامِ دون مَصَاحِف الأمْصَار؛ فقال:» في مَصَحِف أهْل الشَّامِ «أوْلادَهُم شُركَائِهم» بالياء، وفي سائر المصاحف شُركَاؤُهُم بالواوِ «.
454
قال شهاب الدين: هذا هو المَشْهُور عند النَّاس، أعني اختصاص الياءِ بمصاحفِ الشَّام، ولكن أبُو البرهسم ثِقَة أْيضاً، فنَقْبَل ما ينقله. وقد تقدَّم قول الزَّمَخْشَري: و» الَذي حَمَلَه على ذِلَك أنْ رَألا في بعض المَصاحِف «شُرَكَائِهِم» مكتوباً بالياء «.
وقال الشَّيْخ [شهاب الدِّين] أبو شامة: «ولا بُعْد فيما اسْتَبْعَده أهل النَّحْو من جِهَة المَعْنَى؛ وذلك أنه قَدْ عُهِد المفعُول على الفاعل المَرْفُوع تقديراً، فإنَّ المَصْدر لو كان مُنَوّناً لجاز تَقْدِيم المفعُول على فاعله، نحو:»
أعْجَبَنِي ضَرْب عَمْراً زَيْدٌ «فكذا في الإضَافَة، وقد ثبت جواز الفَصْل بين حَرْف الجرِّ ومجْرُوره مع شِدَّة الاتِّصال بَيْنَهُمَا أكْثَر من شِدَّته بني المُضَافِ والمُضافِ إليه؛ كقوله - تعالى -: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥]، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ [آل عمران: ١٥٩] ف» مَا «زَائِده في اللَّفْظِ، فكأنه مؤخَّر لَفْظاً، ولا التِفَات إلى قَوْل من زَعَم أنه لم يَأتِ في الكلام المَنْثُور مثله؛ لأنه نَافِ، ومن أسْنَد هذه القِراءة مُثْبِت، والإثْبات مُرَجَّح على النَّفْي بإجْمضاع، ولو نقل إلى هذا الزّاعِم عن بَعْضِ العرب أنه اسْتَعَمَلَهُ في النَّثْر، لرجع إلَيْه، فما بالُه لا يكْتَفِي بناقل القراءة من التَّابعين عن الصَّحابَةِ؟ ثم الذي حَكَاه ابن الأنْبَاري يَعْني ممَّا تقدَّم حِكاتيه من قوله:» هو غُلامُ إن شاء اللَّه أخيك «فيه الفَصْل من غير الشِّعْر بجُمْلَة».
وقرأ أبو عبد الرَّحْمن السلمي، والحسن البصري، وعبد الملك قَاضِي الجند صَاحِب أن عامِر: «زُيِّن» مبْنِياً للمفعُول، «قَتْلُ» رفعاً على ما تقدَّم، «أوْلادِهم» خفْضاً بالإضافة، «شُرَكَاؤهم» رفْعاً، وفي رفْعِه تخريجان:
أحدهما - وهو تَخْريج سيبويه -: أنه مَرْفُوع بفعل مُقَدَّر، تقديره: زَيَّنَه شركَاؤهُم، [فهو جواب لِسُؤال] مقدر كأنَّه قيل: مَنْ زَيَّنة لَهُم؟ فقيل: «شركَاؤُهُم» ؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رجَالٌ﴾ [النور: ٣٦] أي: يُسَبِّحُهُ.
وقال الآخر: [الطويل]
٢٣٥٤ - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ....................
والثاني: خرجه قُطْرُب - أن يكُون «شُرَكَاؤهُم» رفعاً على الفاعليَّة بالمَصْدَر، والتقدير: زُيِّن للمشركِين أن قَتْلَ أوْلادهم شُركَاؤُهُم؛ كما تَقُول: «حُبِّب لِي رُكوبُ الفرسِ زَيْدٌ» تقديره: حُبِّب لِي أنْ ركب الفَرَس زَيْد، والفرق بني التَّخْرِيجَيْن: أن التَّخريج
455
الأوَّل يؤدِّي إلى أن تكُونَ هذه القِرَاءةُ في المَعْنَى، كالقراءة المَنْسُوبة للعَامَّة في كون الشُّركَاء مُزَيِّين للقَتْلِ، وليسوا قَاتِلِين. [والثاني: أن يكون الشُّركاء قَاتِلين]، ولكن ذلك على سبيل المجازِ؛ لأنهم لما زيَّنُوا قَتْلَهم لآباَائِهِم، وكانوا سَبَاً فيه، نُسِبَ إليهم القَتْل مجازاً.
وقال أبو البقاء: «ويمكن أن يَقَع القَتْل منهم حَقِيقَة»، وفي نظر؛ لقوله - تبارك وتعالى -: «زَيَّن» والإنْسَان إنما يُزَيَّن له فِعْل نَفْسِه؛ كقوله - تعالى -: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً﴾ [فاطر: ٨] وقال غير أبي عُبَيْد: «وقرأ أهْل الشام كقِرَاءة ابن عامر، إلا أنهم خفَضُوا» الأولاد «أيضاً، وتخريجها سَهْل؛ وهو أن تَجْعَل» شُرَكَائِهم «بدلاً من» أولادِهِم «بمعنى أنهم يُشْرِكُونهم في النَّسب، والمالِ، وغير ذلك».
قال الزَّجَّاج: «وقد رُوِيت» شُركَائِهم «بالياء في بَعْض المصاحفِ، ولكن لا يَجُوز إلاَّ على أن يكُون» شُركَاؤُهم «من نَعْت الأولاد؛ لأن أولادهم شُرَكَاؤهُم في أمْوالهم».
وقال الفراء بعد أنْ ذكر قِرَاءة العامَّة وهي «زَيَّن» مبنياً للفاعل، «شركَاؤُهُم» مرفوعاً على أنَّه فاعِل - «وقراءة» زُيِّن «مبنياً للمفعُول،» شركَاؤُهُم «رَفْعاً على ما تقدَّم من أنه بإضْمار فعل، وفي مُصْحَف أهْل الشَّام» شُركَايهم «بالياء، فإن تكُن مُثْبتة عن الأوَّلين، فينبغي أن تقرأ» زُيِّن «ويكون الشُّركَاء هم الأوْلاَد؛ لأنهم مِنءهُم في النَّسْب والمِيراث. وإن كانوا يَقْرَءُون:» زَيِّن «- يعني بفتح الزاي - فَلَسْت أعرف جِهَتَهَا إلا أن يكُونُوا فيها آخِذِين بلُغَة قَوءم يَقُولون: أتْيتُها عَشَايَانَا، ويقولون في تثنية حَمْراء: حَمْرَايَان فهذا وَجْه أن يكُونُوا أرَادُوا: زَيَّن لكثير من المشْرِكِين قتل أوْلادهم شُركَايُهم، يعني بياء مَضْمُومة؛ لأن» شركَاؤُهُم «فاعل كما مَرَّ في قرَاءة العَامَّة.
قال:»
وإن شِئْتَ جَعَلْتَ «زَيَّن» فعلاً إذا فَتَحْتَهُ لا يُلبس، ثم تَخْفِض الشركاء بإتباع الأولاد «.
قال أبو شامة:»
يعني تَقْدير الكلام: «زَيَّن مُزَيّنٌ» فقد أتَّجَه «شركَائِهِم» بالجرِّ أن يكون نعتاً للأوْلاَد، سواءٌ قُرئ زَيّن بالفتح أو الضم «.
وقرأت فِرْقة من أهْل الشَّامِ - ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً -»
زِينَ «بكسر الزاي بعدها ياء سَاكِنة؛ على أنه فِعْل مبْنِيّ للمْجُهول على حَدِّ قِيلَ وبيعَ.
وقيل: مَرْفُوع على ما يُسَمَّ فَاعِله، و»
أولادهُم «بالنصب، و» شُرَكَائِهِم «بالخَفْضِ، والتَّوْجه واضح مما تقدَّم، فهي [و] القراءة الأولى سواء، غاية ما في البابِ:
456
أنَّه أُخذ مِنْ زَانَ الثُّلاثِي، وبين للمَفْعُول، فاعِلَّ بما قد عَرَفْتَهُ في أول البَقَرة.
واللام من قوله» لِكثير من المشْركينَ «متعلِّقة ب» زَيَّن «، وكذلك اللاَّمُ في قوله:» ليُرْدُهُم «.
فإن قيل: كيف تُعَلَّق حرفَيْ جر بلفْظٍ واحِد وبمعنى واحد بعامل واحد، من غَيْر بَدَلِيَّة ولا عَطْف؟.
فالجواب: أن مَعْنَاها مختلِفٌ؛ فإن الأولى للتَعْدِيَة والثَّانية للعِلِّيَّة.
قال الزمخشري:»
إن كان التَّزيين من الشَّياطين، فهي على حقيقةِ التَّعْليل، وإن كان من السَّدنَةِ، فهي للصَّيْرُورة «يعني: ان الشَّيْطَان يَفْعَل التَّزْيين وغرضُه بذلك الإرْدَاءُ، فالتعْلِيل فيه واضِحٌ، وأمَا السَّدَنةُ فإنهم لم يُزَيِّنوا لهم ذَلِك، وغرضهم إهْلاكُهم، ولكن لما مآل حَالِهِم إلى الإرْدَاءِ، أتى باللاَّم الدَّالَّة على العَاقِبة والمآل.

فصل في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية


كان أهْل الجَاهِليَّة يدْفِنُون بَنَاتَهم أحْياء خَوْفاً من الفَقْر والتَّزْويج، واخْتلفُوا في المراد بالشُّركَاءِ.
فقال مجاهد: شُرَكَاؤُهم شَيَاطينُهم أمَرُوهم بأن يَقْتُلوا أولادَهم خَشْيَة الغِيلَة، وسمِّيت الشَّياطين شُرَكَاء؛ لأنهم اتخذوها شُرَكَاء لقوله - تبارك وتعالى -:
﴿أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ مِن دُونِ اللهِ﴾ [الأنعام: ٢٢].
وقال الكَلْبِيّ: الشركاء سَدَنة آلِهَتِهم وخُدَّامهم، وهُمُ الَّذِين كَانُوا يُزَيِّنُون للكُفَّار قَتْل أولادهم، وكان الرَّجُل يَقُوم في الجَاهلِيَّة فيحلف باللَّه إن ولد له كَذَا غُلاماً لَيَنْحَرَنَّ أحدهم، كما حلف عَبْد المُطَلِّب على ابْنه عبد الله، وسُمِّيت السَّدَنَة شُرَكَاء كما سُمِّيت الشَّياطِين شُرَكَاء في قَوْل مُجَاهِد، وقوله «لِيُرْدُوهُم»
الإرْدَاء في لُغة القُرْآن الإهلاك ﴿إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾ [الصافات: ٥٦].
قال ابن عبَّاس: «لِيُرْدُوهم في النَّار» واللاَّم هَهُنَا لام العَاقِبة؛ كقوله: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
«ولِيلبِسُوا عَلَيْهِم دِينَهُم» أي: يَخْلِطُوا عليه دِينَهُم.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ليُدْخِلُوا عليهم الشَّك في دينهم، وكانوا على دِين إسْمَاعيل فَرَجَعُوا عنه بلبس الشَّياطين.
قوله: «وليَلْبِسُوا» عطف على «ليُرْدُوا» علل التَّزْيين بشَيْئَيْن:
457
بالإراداء وبالتخليط وإدْخَال الشُّبْهَة عليهم في دينهم.
والجمهور على «وليَلْبِسُوا» بكسر الباء مِنْ لَبَسْتُ عليه الأمْر ألبِسُه، بفتح العَيْن في المَاضِي وكَسْرِها في المُضَارع؛ إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشُّبْهَة وخَلَطْتَهُ فيه.
وقد تقدَّم بَيَانُه في قوله: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩]. وقرأ النخعي: «وليلبسوا» بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذْكُور، تقول: «لَبِسْتُ عليه الأمْر بفتح الباء وكسرها ألْبَسه وألبَسَهُ» والصَّحِيح أن لَبِس بالكَسْر بمعنى لَبِس الثياب، وبالفَتْح بمعْنى الخَلْط، فالصَّحيح أنه اسْتَعار اللِّبَاس لشِدَّة المخالطة الحَاصِلَة بَيْنَهم وبين التَخْليط؛ حتى كأنَّهم لَبْسُوا كالثياب، وصارت مُحِيطة بهم.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ﴾ والضَّمير المرفُوع لكَثِير والمنصُوب للقَتْل للتصريح به، ولأنَّه المسُوق للحديث عنه.
وقيل: المَرْفُوع للشُّركاء والمنْصُوب للتَّزِيين.
وقيل: المَنْصُوب لِلَّبْسِ المَفْهُوم من الفِعْل قَبْله وهو بَعِيد.
وقال الزَّمَخْشَري: «لما فَعَل المُشْرِكُون ما زُيِّن لَهُم من القَتْلِ، أو لما فَعَل الشَّياطين أو السَّدَنَة التَّزْيين أو الإرْدَاء أو اللِّبْس، أو جَمِيع ذلِك إن جَعلْتَ الضمير جَارياً مَجْرَى اسم الإشارة».
قوله: «فَذَرْهُم وما يَفْتَرُون» تقدَّم نظيره.

فصل في المراد من الآية


المعنى: ولو شاء اللَّه لَعصَمْهم حتى ما فَعَلُوا ذلِك من تَحْريم الحَرْث والأنْعَام، وقتل الأولاد فذرهم يا مُحَمَّد وما يَفْتَرُون يختلِقُون في الكَذِب، فإن اللَّه لهم بالمِرصَاد.
قال أهل السُّنَّة: وهذا يَدُلُّ على أن كُلَّ ما فَعلَهُ المشرِكُون - فهو بِمَشِيئَة الله - تبارك وتعالى -.
وقال المعتزلة: إنه مَحْمُول على مَشِيئَة الإلْجَاء كما سَبَق.
458
وهذا نوع ثَالِثٌ من أحْكَامِهم الفَاسِدةِ، وهو أنَّهُم قسموا أنْعَامهم اقْسَاماً:
458
فأولها: قولهم: هذه أنْعَام وحرْثٌ حِجْر «لا يَطْعَمُها».
قرا الجمهور «أنْعَام» بصِيغَة الجَمْعِ وأبان بن عثمان «نَعَمٌ» بالإفْرَاد، وهو قَرِيبٌ لأن اسْم الجِنْس يقُوم مقام الجَمْعِ، وقرأ الجمهور: «حِجْر» بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم.
وقرأ الحسن وقتادة والأعْرَج: بضم الحَاءِ وسُكُون الجيم.
ونقل عن الحسن وقتادة أيضاً: فتح الحضاءِ وسكن الجيم، ونقل عن أبان بن عُثْمَان: ضمُّ الحاء الجيم معاً.
وقال هَارُون: كان الحسن يَضُمَّ الحاء من «حِجْر» حيث وقع في القُرْآن إلاَّ موضعاً واحداً [وهو] :﴿وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ [الفرقان: ٥٣]
والحاصل: أن هذه المادَّة تدل على المَنْع والحَصْر؛ ومنه: فلان في حِجْر القَاضِي أي: في مَنْعِه، وفي حِجْري، أي: ما يَمْنَع من الثُّوْاب أن ينْفَلِت منه شَيْءٌ، وقد تقدم تَحْقِيق ذلك في النِّسَاء.
فقوله: «وحَرْث حِجْر» أي: مَمْنُوع ف «فِعْل» بمعنى مَفْعُول؛ كالذَّبْح والنَّطْح بمعنى مَذْبُوح ومَنْطُوح.
فإن قيل: قد تقدَّم شيئان: وهما أنْعَام وحَرْث، وجيء بالصَّفَة مفردة.
فالجواب: أنه في الأصْل يُذكَّر ويُوحَّد مطلقاً.
قال الزَّمَخْشَري: «ويستوي في الوَصْف به المذكَّر والمؤنَّث والواحد والجمع؛ لأن حكمه حكم الأسْمَاء غير الصِّفاتِ» يعني بكونه حُكْمُه حكم الأسْمَاء: انه في الأصْل مصْدَر لا صِفَة، فالاسم هنا يُرَادُ به المَصْدَر، وهومُقَابِلُ الصِّفة.
وأما بقية القراءات: فقال أبُو البقاء: «إنها لُغَاتٌ في الكَلِمَةِ» وفسر معناها بالممْنُوع.
قال شهاب الدين: ويجوز أن يكُون المَضْمُوم الحاء والجيم مَصْدراً، وقد جاء من المصادر للثُّلاثي ما هُو عل وَزْن «فُعُل» بضمِّ الفاء والعَيْن، نحو حُلُم، ويجُوز أن يكون جَمْع «حَجْر» بفتح الحاءِ وسكون الجيم، و «فُعُل» قد جاء قَلِيلاً جمعاً «لفَعْل» نحو: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن، وأن يكون جَمْعاً ل «فِعْل» بكسر الفاء، و «فُعُل» أيضاً قد جَاء جمعاً «لفِعْل» بكسر الفاءِ وسُكُون العين، حو: حِدْج وحُدُج، وأما حُجْر
459
بضمِّ الحاء وسُكُون الجيم: فهو مخَفَّفٌ من المضمُمة، فيجوز أن يكُون وأن يكون جَمْعاً لحَجْر أو حِجْر.
وقرأ أبَيّ بن كَعْب، وعبد الله بن العبَّاس، وعبد الله بن مسعود، وعبد اللَّه بن الزُّبَيْر، وعِكْرِمَة، وعمرو بن دِينَار، والأعمش: حِرج بكسْر الحاَء وراء سَاكِنَة مقدَّمة على الجيم، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنَّهَا من مادة الحَرَج وهُو التَّضْييق.
قال أبو البقاء: واصلُه «حَرِج» بفتح الحاء وكسر الراء، ولكنه خُفِّف ونُقِل؛ مثل فَخْذ في فَخِذ.
قال شهاب الدِّين: ولا حَاجَة إلى ادِّعاء ذلك، بل هذا جَاءَ بطَريق الأصَالة على وَزْن فِعْل.
والثاني: أنه مَقْلُوب من حجر، قُدِّمَتْ لامُ الكَلِمَة على عَيْنها، ووزنه «فِلْع» ؛ كقولهم: نَاء في نَأى، ومعيق في عَمِيق، والقَلْب قليل في لسانهم، وقد قدَّمت منه جُمْلَة في المائدة عند قوله - تبارك وتعالى -: ﴿أَشْيَآءَ﴾ [المائدة: ١٠١].
قوله: «لا يَطْعَهُما إلى مَنْ نَشَاءُ» هذه الجُمْلَة في محلِّ رفْع نَعْتًا ل «أنعام» وصفٌوه بوَصْفَيْن:
أحدهما: أنه حِجْرٌ.
والثاني: أنه لا يَأكُلُه إلا من شَاءُوا وهم الرِّجال دُون النِّساء، أو سَدَنه الأصْنَام.
قال مُجَاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني بالأنْعَام: البَحِيرة والسَّائِبَة والوصِيلَة والحَامِي، لا يَطْعَمُهَا ولا يأكُلها إلا الرِّجَال دُون النِّساء.
وقال غيره: الأنْعام ما جَعَلُوها للَّه ولآلهتهم على ما تقدم [ «ومَنْ نَشَاءُ» فاعل ب «يَطْعَمُهَا» وهو استِثْنَاء مفرَّغ، و «بزعمهم» : حالٌ كما تقدَّم] في نظيره.
قوله: «وأنْعَامٌ حُرِّمتْ ظُهُورُهَا» وهي البَحَائِر والسَّوائب والحَوَامِي، وهذا هو القَسْم الثَّاني وقد تقدَّم في المَائِدةَ، والقسم الثالث: أنعام لا يَذْكُرُون اسْم اللَّه عليها بالذَّبْح، وإنما يَذْكُرُون عليها اسْمَاء الأصْنَام.
وقيل: لا يَحُجُّون عليها، ولا يُلَبُون على ظُهُورهِا، ولا يَرْكَبُونها لفعل الخَيْرِ؛ لأنه لما جرت العادة بِذِكْر اسْم اللَّه على فِعْل الخَيْر.
قوله: «افْتِرَاءٌ» فيه أربعة أوجه:
460
أحدها - وهو مذهب سيبويه -: أنه مَفْعُول من أجْلِه، أيك قالوا ما تقدَّم لأجْل الافْتِرَاء على البَاري - تبارك وتعالى - أي: يزْعُمُون أن الله أمِرهُم به افْتِرَاء عليه.
الثاني: مَصْدر على غير الصَّدْر؛ لأن قَوْلَهُم المحْكي عنهم افْتِرَاءن فهو نَظير «قَعَد القُرْفُضَاء» وهو قول الزَّجَّاج.
الثالث: أنه مصدر عامله من لَفْظِه مُقَدَّر، أي: افْتَروا ذلك افْتِرَاء.
الرابع: أنه مَصْدَر في موضع الحالِ، أي: قالوا ذلك حَال افْتِرَائهم، وهي تُشْبِه الحال المؤكِّدة؛ لأن هذا القَوْل المَخْصُوص لا يَكُون قَائِلُه إلا مُفْتَرِياً.
وقوله: «عَلَى اللَّه» يجوز تعلُّقه ب «افْتِرَاءً» على القول الأوَّل والرَّابع، وعلى الثاني والثَّالث ب «قالوا» لا ب «افْتِرَاءً» ؛ لأن المصدر المؤكد لا يَعْمَل، ويجُوز ان يتعلَّق بمحذُوف صِفَة ل «افْتِراءً» وهذا جَائِزٌ على كل الأقوالِ.
قوله: ﴿سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ والمقصود منه الوعيد، و «الباء» في قوله: «بِمَا» سببيّة، و «مَا» مَصْدَريَّة، أو موصُوفة، أو بمَعْنَى الَّذِي.
461
هذا نوع رَابعٌ من قضَايَاهُم الفَاسِدَة.
قال ابن عبَّاس، وقتادة والشعبي: أراد أجنَّة البَحَائِر والسَّوائب، فما وُلِد منها حَيَّا، فهو خَالِصٌ للرِّجَال دون النِّساء، وما وُلِد منها مَيِّتاً، أكله الرِّجَال والنِّسَاء جميعاً.
والجمهور على «خَالِصَة» بالتَّأنيث مَرْفُوعاً على أنه خَبَرَ «مَا» الموصُولة، والتَّأنيث: إمَّا حَمْلاً على المَعْنَى؛ لأن الذي في بُطُونِ الأنْعَام أنْعَامٌ، ثم حمل على لَفْظِها في قوله: «ومُحَرَّمٌ» وإمَّا لأنَّ التَّأنِيث للمُبالغة كهو في «عَلاَّمَة» و «نسَّابَة و» رَاوِيَة «و» الخاصَّة «و» العامَّة «وإما لأنَّ» خَالِصَة «مصْدَر على وَزْنَ» فَاعِلة «كالعَاقِبة والعَافِية؛ وقال - تبارك وتعالى -: ﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار﴾ [ص: ٤٦] وهذا
461
القَوْل قول الفرَّاء والأوَّل لَهً ولأبِي إسْحاق الزَّجَّاج، والثاني للكسَائِي، وإذا قيل: إنها مَصْدرٌ كان ذلِك على حّذْف مُضَافِ، أي: ذُو خُلُوصٍ، أو على المُبَالَغَة، أو على وقُوعِ المصدر مَوْقِع اسْمِ الفاعلِ؛ كَنَظَائِره كقول الشاعر:
٢٣٥٥ - وَكُنْتِ أمنِيَّتِي وَكُنْتِ خَالِصَتِي وَلَيْس كلُّ امْرِىءٍ بِمُؤتَمَنِ
قال الكسائي: خَالِص وخَالِصَة واحد، مثل وَعْظ ومَوْعِظَة.
وهو مستفيض في لسانهم: فلان خَالِصَتي، أي: ذُوخُلُوصي.
و» لِذُكرونا «مُتعلِّق به، ويجوز أن يتعلَّق بممحذُوف على أنَّه وَصْف ل» خَالِصَة «، وليس بالقَوِيّ.
وقرأ عبد الله وابن جُبَيْر، وأبُو العالية والضَّحَّاك، وابن أبي عَبْلَة:»
خَالِصٌ «مَرْفُوعاً على ما تقدَّم من غير هَاءِ، و» لِذُكُورِنَا «متعلِّق به، أو بمَحْذُوف كما تقدَّم، وقرأ ابن جُبَيْر، نقله عنه ابن جنِّي:» خَالِصاً «نصباً من غير تَاءِ، ونصبه على الحَالِ وفي صاحبه وجهان:
أظهرهما: أنه الضَّمَير المستتر في الصِّلة.
الثاني: أنه الضَّمِير المسْتَتِر في»
لِذُكُورِنَا «فإن» لِذُكُورنَا «على هذه القراءة خَبَر المُبْتَدأ، وهذا إنَّما يَجُوز على مَذْهَب أبِي الحَسَن؛ لأنه يُجِيزُ تَقْدِيم الحال على عَامِلهِا المَعْنَوِيّ، نحو:» زيْدٌ مستَقِرٌّ في الدَّارِ «والجمهور يَمْنَعُونَه، وقد تقدَّم تحقيقُهُ.
وقرأ ابن عباس أيْضَا والأعرج، وقتادة:»
خَالِصَةً «نصابً بالتَّأنيث، والكلام في نصْبِه وتأنِيثِه كما تقدَّم في نَظِيره، وخرَّجه الزمخشري على أنه مَصْدَر مُؤكِّد كالعَاقِبَة.
وقرأ ابن عبَّاس أيضاً، وأبُو رَزِين، وعِكْرمة، وأبو حَيْوة:»
خَالِصة «برَفْع» خالص «مُضَافَا إلى ضَمِير» مَاَ «ورفعُه على أحد وجهين:
إما على البدل من الموصُول، بلد بَعْضَ من كُلِّ، وم»
لِذُكُورِنَا «خبر المَوْصُول.
وإما على أنَّه مُبْتَدأ، و»
لِذكُورنَا «خبره، والجُمْلة خبر الموصُول، وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّم أنه حَيْثَ قُلْنَا: إن» خَالِصة «مصدر أو هي للمُبَالغَة، فليس في الكلام حَمْل على مَعْنَى ثم على لَفْظ، وإن قلنا: إن التَّأنثِ ما فِي البُطُونِ، كان في الكلام الحَمْلُ على المَعْنَى أوَّلاً [ثم على اللَّفْظ في قوله:» مُحَرَّمٌ «ثانياً، وليس لِذَلك في القُرْآن نَظِير، أعني: الحَمْل على المَعْنَى أوّلاً] ثم على اللَّفْظِ ثانياً، إلاَّ أن مَكِّياً زعم فير غَيْر
462
إعْراب القُرْآن الكَريم، له: أنَّ لِهَذِه الآيَةِ نظائِر فذكرها وأما في إعرابه: فلم يَذْكُر أنَّ غيرها في القُرْآن شَارَكها في ذلك؛ فقال في إعرابه:» وإنَّما أنَّثَ الخَبَر؛ لأن مَا فِي بُطُون الأنْعَام أنْعَام؛ فحلم التأنيث على المَعْنَى، ثم قال: «ومُحَرَّم» فذكَّر حَمْلاً على لَفْظِ «مَا» وهذا نَادِر لا نَظِير له، وإنَّما يَأتِي في «مَنْ» حَمْل الكلام أوَّلاً على اللَّفْظِ ثم على المَعْنَى بعد ذلك، فاعرفه فإنه قَلِيلٌ «.
قوال في غير «الإعْرَاب»
:«هذه الآيةُ في قرءاة الجماعة أتَتْ على خلاف نظائِرِهَا في القُرْآن؛ أن كلما يُحْمل على اللفظِ مرة وعلى المَعْنَى مرَّة، إنما يبتَدِئ أولاً بالحَمْل على اللَّفْظِ ثم يليه الحَمْل على المَعْنِى، نحو: ﴿مَنْ آمَنَ بالله﴾ [البقرة: ٦٢] [ثم قال] :» فَلَهُم أجرُهم «هكذا يأيت في القُرْآن وكلام العرب، وهذه الآيةُ تقدَّم فيها الحملُ على المَعْنِى، فقال:» خَالِصَة «ثم حَمَل على اللَّفظِ، فقال:» وحُرِّمَ «ومثله ﴿كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ﴾ [الإسراء: ٣٨] في قراءة نافع ومن تابعه، فأنَّث على معنى» كُلَ «لأنها اسْم لجَمِيع ما تقدَّم ممَّا نهى عنه من الخَطَايَا، ثم قال:» عند ربِّك مَكْرُوهاً «فذكر على لَفْظِ» كُلّ «وكذلك ﴿مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ﴾ [الرخرف: ١٢، ١٣] جَمَعَ الظُّهُور حملاً على مَعْنَى» ما « [ووحَّد الهاء حَمْلاً على لَفْظ» مَا «، وحُكي عن العرب:» هذا الجَرَادُ قد ذَهَب فأراحَنَا مِنْ أنْفُسِهِ جمع الأنْفُس] ووحد الهَاء وذكَّرها «.
قال شهاب الدين: أما قوله:»
هكذا أتى في القُرْآنِ «فصحيح، وأمَّا قوله:» وكلام العرب «فليس ذلك بِمُسَلَّم؛ إذ في كلام العرب البداية بالحَمْل على المَعْنَى ثم على اللَّفْظِ، وإن كان عَكْسُه هوالكَثِير، وأمَّا ما جعله نَظِير هذه الآية في الحَمْل على المَعْنَى أوَّلاَ ثم على اللَّفْظ ثانياً، فلي بمُسَلَّم أيضاً، وكذلك لا نُسَلِّم أن هذه الآية مما حُمِل فيها على المَعْنَى أولاً ثم على اللفظِ ثانياً.
وبيان ذلك: أن لقَائِل أن يَقُول: صِلَة»
مَا «جارّ ومجرور وهُو مُتعلِّق بمحْذُوف، فتقدريه مُسْنَداً لضمير مذكر، أي: ما ستقرَّ في بُطُون هذه الأنْعَام، ويبعد تَقْديرهُ باسْتَقَرَّت، إذا عرف هذا، فيكُون قد حُمَل أوَّلاً على اللَّفْظ في الصِّلة المقدَّرة ثم على المَعْنَى ثانياً، وأما» كُلُّ ذَلِك كان شَيِّئةُ «فَبَدأ فيه أيضاً بالحَمْل على اللَّفْظِ في قوله:» كَانَ «فإنه ذكر ضَميرَهُ المسْتَتِر في» كَانَ «، ثم حمل على المعنى في قوله:» سَيِّئهُ «فأنَّث، وكذلك
﴿لِتَسْتَوُواْ
على
ظُهُورِهِ
[الزخرف: ١٣] فإن قبله «مَا تَرْكَبُون»
والتقدير: ما تركَبُونه، فحلم العِائِد المحذُوف على اللَّفْظ أوَّلاً ثم حُمِل على المَعْنَى
463
ثانياً، وكذلك في قولهم: «هذا الجَرادُ قَدْ ذَهَب» حَمَل على اللَّفْظ فأفْرَد الضمير في «ذَهَبَ» ثم حمل على المعْنَى ثَانِياً، فجمع في قوله: «انْفُسِهِ» وفي هذه المواضع يكون قد حَمَل فيها أوَّلاً على اللَّفْظ، ثم على المَعْنَى ثم على اللَّفْظ، وكُنْتُ قد قدَّمْتُ أن في القُرْآن من ذلك أيْضاً ثلاثة مواضع: آية المَائِدة: ﴿وَعَبَدَ الطاغوت﴾ [المائدة: ٦٠]، ولقمان: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث﴾ [لقمان: ٦]، والطلاق: ﴿مَن يُؤْمِن بالله﴾ [الطلاق: ١١].
قوله «:» وإن يكن مَيْتَةً «قرأ ابن كَثِير:» يَكُنْ «بياء الغَيبة» مَيْتَةٌ رفعاً، وابن عامر: «تكُنْ» بتاء التَّأنيث، «مَيْتَةٌ» رفعاً، وعاصم في رواية أبي بكر «تَكُنْ» بتاء التَّأنيث، «مَيْتَةً» نصباً، والباقون «تكن» كابن كَثِير «مَيْتَةً» كأبي بكر والتَّذكير والتَّأنيث واضحان؛ لأن المَيْتَة تأنيث مَجَازِيّ؛ أنها تقع على الذَّكَر والأنثى من الحيوان فَمَنْ انَّث فبِاغْتِبَار اللَّفْظِ، ومن ذَكَّر فباعْتِبار المَعْنَى، ها عند من يرفع «مَيْتَةٌ» ب «تَكُنْ» أمَّا «من يَنْصِبُها، فإنه يسند الفِعْل حينئذٍ إلى ضَمير فيذكر باعْتِبار لَفْظ» مَا «في قوله:» مَا فِي بُطثون «ويؤنِّث باعتِبَار مَعْنَاها، ومن نصب» مَيْتَةً «فعلى خبر» كان «النَّاقِصة، ومن رفع فَيْحْتَمل وجهين:
أحدهما: أن تكون التَّامَّة، وهذا هو الظَّاهر، أي: وإن وُجِدَ مَيْتَةٌ أو حَدَثَتْ، وأن تكون الناقصة وحنيئذٍ يكون خَبَرُوها مَحْذُوفاً، أي: وإن تكُون هُناكَ أو فِي البُطُون مَيْتَة وهذا رأي الأخْفَش، فيكون تَقْدير قراءة ابن كَثِير: وإن يَحْدُثْ حيوانٌ مَيْتَةٌ، أو وإن يَكُن في البُطُون مَيْتَةٌ على حَسَب التقديرين تماماً ونقصاناً، وتقدير قراءة ابن عَامِر كتقدير قراءته، إلا أنه أنَّث الفِعْل باعْتِبَار لفظ مَرْفُوعه، وتقدير قِراءة أبِي بكر: وإن تكُون الأنْعَام أو الأجنَّة مَيْتَة، فأنَّث حَمْلاً على المَعْنَى، وقراءة البَاقِين كتقدير قراءته، إلا أنَّهُم ذكروا باعتبار اللَّفْظِ.
قال أبو عمرو بن العلاء: ويُقَوِّي هذه القراءة - يعني قراءة التَّذْكِير والنَّصْب - قوله:»
فَهْمْ فِيهِ «ولم يَقُل:» فِها «ورُدَّ على أبي عَمْرو: بأن المَيْتَة لكل مَيِّتٍ ذكراً كان أوء أنْثَى، فكأنه قيل: وإن يَكُون مَيِّتَاً فهم فيه، يعني: فَلَمْ يَصِر له في تَذْكِير الضَّمير في» فِيهِ «حُجَّةٌ.
ونقل الزَّمَخْشَرِي قراءة ابن عَامِرِ عن أهْل مكَّة، فقال:»
قرأ أهْل مكَّة «وإن تكنْ مَيْتَةٌ» بالتأنيث والرَّفْع «فإن عنى بأهل مَكَّة ابن كَثير٠ ولا أظنه عَنَاهُ - فليس كذلِك، وإن عنى غيره، فَيَجُوز على أنه يُجَوِزُ أن يكُون ابن كَثِير قرأ بالتَّأنيث أيضاً لكن لم يَشْتَهِر عنه اشْتِهَار التَّذْكِير.
وقرأ يزيد «مَيِّتَة»
بالتَّشْدِي وقرأ عبد الله: «فَهُمْ فيه سَوَاء» قال شهاب الدِّين: وأظنُّها تفسير لا قراءة، لمخالفتها السَّواد، وقوله: «وهُمْ فِيهِ» أي: أن الرِّجَال والنساء فيه شُرَكَاء.
464
قوله: «سَيْجزِيهم وَصْفهُم» أي: بوصفهم أو على وَصْفِهِم بالكذبِ على اللَّهِ سبحانه وتعالى: إنه حَكِيم عَلِيم.
465
هذا جواب قسم مَحْذُوف وقرأ ابن كثير وابن عامر، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن: «قَتَّلُوا» بالتشديد؛ مُبَالغَة وتكثيراً، والباقون بالتّخْفِيفِ.
و «سَفَهاً» نصب على الحالِ، أي: ذوي سَفَهٍ أو على المَفْعُول من أجْلِه، وفيه بَعْدٌ؛ لأنه ليس عِلَّة بَاعِثة أو عَلَى أنه مصدر لِفِعْل مقدَّر، أي: سَفَهُوا سَفَهاً أو على أنه مَصْدر على غير الصَّدْر؛ لأن هذا القَتْل سَفَهٌ.
وقرأ اليماني «سُفَهاء» على الجَمْع، وهي حال وهذه تقوِّي كون قراءة العامَّة مَصْدراً في موضع الحال، حيث صرّح بها، و «بِغَيْر علِمٍ» : إما حالٌ أيضاً وإما صِفَة ل «سَفَهاً» وليس بِذَالكَ.

فصل في إلزام الكفار الخسران


واعلم أنه - تبارك وتعالى - ذر فيما تقدَّم قَتْلضهم أولادهم وتحريمهم ما رَزَقَهم الله، ثم إنه - تبارك وتعالى - جمع هَذَيْن الأمْرَيْن في هذه الآية الكريمة، وبيَّن ما لَزمهم على هذا الحكم هو الخُسْرَان والسَّفَاهة وعدم العِلم، وتَحْرِيم ما رَزَقَهم الله والافتراء على اللَّه، والضَّلال وعدم الاهْتِداء، فهذه أمور سَبْعَة وكل واحد منها سَبَبٌ تامٌّ في حصول الذَّمِّ، أما الخُسْرَان: فلأن الولد نِعْمة عَظِيمة على العَبْد من الله، فمن سَعَى في إبْطَالهِ، فق خَسِر خُسْرَاناً عظيماً، ولا سيِّما يستحق على ذلك الإبْطَال الذَّم العَظِيم في الدُّنْيَا والعِقَاب في الآخرة، أما لذم في الدُّنيا: فلأن النَّاسَ يَقُولون: قَتَلَ وَلَدَهُ خوفاً من أن يَأكُل طعامه، وليس في الدُّنْيا ذَمٌّ أشد منه.
وأما العِقَاب في الآخِرة: فلأن قرارة الولادَة أعظم مُوجبات المحبَّة، فمع حُصُولها إذا أقدم على إلْحاق أعْظَم المَضارِّ به، كان ذلك أعْظَم الذُنُوب، فكان مُوجباًلأعْظَم أنْواع العقاب.
وأما السَّفَاهة: فهي عِبَارة عن الخِفَّة المذمومة؛ وذلك لأن قَتْل الولد إنما يكون
465
للخَوف من الفَقْر، والفقر كان ضَرراً إلاَّ أن القَتْل أعْظَم منه، وأيضاً فهذا القَتْل نَاجِزٌ وذلك الفقر مَوْهُوم، فالتزام أعْظَم المضارِّ على سبيل القَطْع حَذَراً من ضرر موهُوم لا شَكَّ أنه سَفَاهة.
وأما قوله: «بِغَيْر عِلْمِ» فالمقصود أن هذه السِّفاهة إنما تولَّدت من عدم العلم، ولا شك أن الجهل أعظم المُنْكَرات والقَبَائح.
وأما تَحْرِيم ما رَزَقَهُم اللَّه: فهو من أعْظَم أنْواع الحَمَاقَة؛ لأنه يتبعه أعْظَم أنْوَاع العذاب.
وأما الافْتِراء على اللَّه: فلا شَكَّ أن الجُرْأة على اللَّه، والافْتِرَاء عليه أعظم الذُّنُوب وأكبر الكبائر.
وأما الضلال: فهو عِبَارة عن الضَّلال عن الرُّشد في مصالح الدِّين ومنافع الدُّنْيَا.
وأم اقوله: «وما كَانُوا مُهْتَدِين» فالفَائِدة فيه أنَّه قد يضِلُّ الإنْسَان عن الحقِّ، إلا أنَّه يعُود إلى الاهتداء، فبين - تبارك وتعالى - أنَّهُم قد ضَلُّوا ولم يَحْصل لهم الاهْتِداء قط، وهذا نِهَاية المُبَالغة في الذِّمِّ.

فصل في نزول الآية


قال المفسِّرون: نزلت هذه الآية في رَبِيعة ومُضَر وبَعْض من العرب وغيرهم، كانوا يَدْفِنُون البَنَات أحْيَاء مخافة السَّبْي والفَقْر، وكان بنو كَنَانة لا يَفْعَلُون ذلك وحَرَّموا ما رَزَقَهُم اللَّه يعني بالبَحيرة والسَّائِبة والوَصيلة والحَامِي افترِاءً على اللَّهِ، حيث قَالُوا: إن الله أمَرهُم بهذا ﴿قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾.
466
اعلم أنه - تعالى - لما جعل مدار هذا الكتاب الشَّريف على تقرير التَّوْحيد والنبوة والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، وإنه تبارك وتعالى - بالغ في تَقْرِير هذه الأصُول، ثم شرح أحْوَال السُّعداء والأشْقِياء وانْتَقَل إلى تهْجِين طَريِقَة منْكِري البَعْث، ونبه على ضَعْف عُقُولِهِم، وتَنْفِير النَّاسِ عن الالْتِفَات إلى قوهم والاعْتِزَاء بشُبُهاتهم، عاد بعدها إلى المقصُود الأصْلي، وهو إقامة الدَّلائِل على تَقْرير التًّوحيد، فقال - تعالى -: ﴿وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ﴾ وهذا الدَّليل قد سبق في هذه السُّورة، وهو قوله - تعالى -: {وَهُوَ
466
الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: ٩٩] فالآية المتقدمة ذكر فيها خَمْسة أنواع: وهي الزَّرع، والنخل، وجنَّات من أعْناب، والزيتون والرُّمَان، وذكر في هذه الآية الكريمة [هذه الخمسة وقال:] «مشتبهاً وغَيْر مُتَشَابِه» وهنا «مَتَشابِهاً وغير مُتَشَابه» وذكر في الآية المتقدمة: «انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَر وينعهِ» وذكر في هذه الآية: «كُلُوا مِنْ ثَمَره إذا أثْمر وآتوا حقَّهُ يوم حَصَادِهِ» فأذن في الانتفاع بها، وأم بِصَرف جُزْء مِنْها إلى الفُقَراء، فالذي حَصَل به الامْتِيَاز بين الآيتين: أن هُنَاك أمر بالاسْتِدْلال بها على الصَّانع الحكيم وههنا أذن في الانْتِفَاع بها، وذلك تَنْبِيهٌ على أن الأمْرَ بالاسْتِدْلال بها على الصَّانِع الحَكيم مقدَّم على الإذن في الانتفاع، لأن الاستدلال على الصَّانِع يَحْصُل به سعادة جُسْمانِيَّة سريعة الانْقضَاء والأول أولى بالتَّقْديم.
وقال القرطبي: ووجه اتِّصَال هذا بما قَبْلَه: أن الكُفَّار لما افْتَروا على الله الكذب، وأشْركُوا معه وحَلَّلُوا أو حَرَّمُوا، دَلَّهم على وحْدانِيَّته بأنه خَالِق الأشْيَاءِ، وأنه جَعَل هذه الأشْيَاء أرْزَاقاً لهُمْ.
قوله: «أنْشَأ جَنَّاتٍ» أي: خَلَقها، يقال: نشأ الشَّيْء يَنْشَأ ونَشْأه ونَشَاءَةً، إذا طره وراتفع، والله يُنْشِئُه إنْشَاء، أي: يُظْهرُه ويرفعه.
وقوله: «مَعْرُوشَاتٍ» يقال: عَرَشْت الكَرَم أعْرِشُه عَرْشاً وعَرَّشْهُ تَعْريشاً إذا عطفت العيدان الَّتِي تُشَال عليها قُضْباَن الكَرْم، والواحِدُ عَرْشٌ، والجمع عُرُوشٌ، ويُقَال: عَرِيش وجمع عُرُوض، واعْتَرش العِنَبُ العَرِيش اعْتِرَاشاً، وفيه أقوال:
أحدها: قال الضَّحَّاك: إن المَعْرُوشاتِ وغَيْر المَعْرُوشَاتِ كلاهما الكَرْم؛ فإن بَعْضَ الأعناب يُعَرَّش وبَعْضُها لا يُعَرَّش، بل يَبْقَى على وجْهِ الأرْضِ مُنْبَسِطاً.
وثانيها: المَعْرُوشات: العِنَب الَّتِي يجعل لها عُرُوش، وغير المعروشات: كُلُّ ما يَنْبُت منَبِسطاً على وَجْه الأرض؛ مثل القَرْع والبطِّيخ.
وثالها: قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «المَعْرُوشات: ما يُحْتَاجُ أن يتَّخذ له عَرِيشٌ يحمل عَلَيْه؛ مث الكَرْم والبطِّيخ والقَرْع وغيرها، وغير المَعْرُوش: هو القَائِم على سَاقِهِ كالنَّخْلِ والزَّرْع.
ورابعها: المَعْرُوشات: ما يَحْصُل في البَسَاتين والعمرانات مما يغرسه النَّاسِ، وغير المعروشات: مما أنْبَتَهُ اللَّه - تبارك وتعالى - وجني في البَرَارِي والجِبَال.
467

فصل في معنى الزرع والنخل


والزَّرغ والنَّخْل؛ فسر ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - الزَّرْع هَهُنا: لجميع الحُبُوب التي تقْتَات، أي: وأنْشَأ الزَّرْع، وأفْرِدا بالذِّكر وهما دَاخِلان في النِّبات؛ لما فيهما من الفَضِيلَة على ما تقدَّم بيانه في البقرة عند قوله - تعالى -: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ﴾ [البقرة: ٩٨].
قوله - تعالى -: ﴿مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ﴾ : مَنْصُوب على الحَالِ وفيها قولان:
أحدهما: أنها حَالٌ مُقَدَّرة؛ أن النَّخْل والزرع وَقْت خروجهما لا أكْلَ فِيهمَا؛ حتى يقال فيه: مُتَّفِقٌ أو مُخْتَلِف؛ فهو كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]، كقولهم: «مَرَرْت برجُلٍ معه صَقْرٌ صَائِداً به غداً» أي: مُقَدِّراً الاصطِيَاد به.
والثاني: أنها حَالٌ مُقَارِنَة، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: وثمر النَّخْل وحَبُّ الزَّرع، و «أكُلُه» مَرْفُوعٌ ب «مُخْتَلِفاً» [لأنه اسْم فاعل، وشروط الإعْمَال مَوْجُودة، والأكُل: الشَّيْء المَأكُول، وق تقدَّم أنه يُقْرأ بضمّ الكافِ وسُكُونها، ومضى تحقيقُه في البقرة: [٢٦٥] والضَّمِير في «أكُله» الظاهر أنَّه يَعُودُ على الزَّرْعِ فقط:
إمَّا لأنَّه حذف حالاً من النَّخْلِ؛ لدلالة هذه عَلَيْه، تقديره: والنَّخْل مُخْتَلِفاً أكُلُه، والزَّرْع مُخْتَلِفاً] أكله.
وإمَّا لأن الزَّرع هو الظَّاهِر فيه الاخْتِلافُ بالنِّسْبَة إلى المأكُول مِنْه؛ كالقَمْح والشَّعِير والفول والحِمص والعَدس وغير ذلك.
وقيل: إنها تعود عليهما.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: والضَّمِير للنَّخْل والزَّرع داخل في حُكْمِهِ، لكونه مَعْطُوفاً عليه.
وقال أبو حيًّان: وليس بِجيِّد؛ لأن العَطْف بالواوِ، ولا يَجُوز إفْرَاد ضَمير المتَعَاطِفين.
وقال الحُوفِيُّ: «والهاءُ في» أكُلُه «عائدة على ذِكْر ما تقدَّم من هذه الاشْيَاء المُنْشَآت» وعلى هذا الذي ذكرَهُ الحوفي: لا تخْتَصُّ الحَالُ بالنخل والزَّرْعِ، بل يكُون لِمَا تقدَّم جَمِيعه.
قال أبو حيَّان: «ولو كَانَ كما زَعَم، لكان التَّرْكيب:» أكُلُهَا «إلا إنْ أُخِذ ذَلِك على حَذْفِ مُضَافِ، أي: ثَمَرَ جَنَّات، وروعي هذا المَحْذُوف فقيل:» أكُلُه «بالإفْرَاد على
468
مُرَاعَاته، فيكون ذلِك كَقَوْله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] أي: أو كَذَا ظُلُمات، ولذلك أعَادَ الضمير في يَغْشَاهُ عليه».
قال شهابُ الدِّين: فَيَبْقَى التَّقْدِير: مُخْتَلِفاً أكُل ثمر الجنَّاتِ وما بعدها، [وهذا] يلْزَمُ منه إضَافَة الشَّيءِ إلى نَفْسِه؛ لأن الأكل كما تقدَّم غير مرَّة أنه الثَّمَر المأكُول.
قال الزمخشري في الأكُل: «وهُوَ ثمره الذي يُؤكَل».
وقال ابن الأنْبَاريِّ: إن «مُخْتَلِفاً» نصبٌ على القَطْع، فكأنه قال: «والنَّخْل والزَّرْع المختلفُ أكُلُها» وهذا راي الكُوفيِّين، وقد تقدم إيضاحُه غير مرَّةٍ.
وقوله: ﴿والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وقد تقدَّم إيضاحه [الأنعام: ٩٩].
قال القرطبُّي: «والزَّيْتُون والرُّمَّان» عَطفٌ عليه، «مُتَشَابهِاً وغير مُتَشَابِه» نصب على الحالِ، وفي هذه أدلَّة ثلاثة:
أحدهما: ما تقدَّم من إقَامَة الدّلِيل على أنَّ المتغيّرات لا بُدَّ لها من مُغَيَّر.
الثاني: أن الدَّلالة على المِنَّة منه - سبحانه وتعالى - علينا، فلو شَاءَ إذ خَلَقَنَا ألاَّ يَخْلُق لنا غِذَاءً، وإذا خَلَقَهُ ألاّ يَكُون جميلَ المَنْظَر طيِّب الطَّعْم، وإذا خلقَهُ كذلك ألاَّ يكون سَهْل الجَنْي، فلم يَكُن عليه أن يَفْعَل ذلك ابتداء؛ لأنه لا يَجِب عليه شَيْء.
الثالث: الدَّلالة على القُدْرَة في أن يكُون الماءُ الذي مِنْ شَأنه الرسوب، يصعد بقُدْرَةِ علاَّم الغُيُوب من اسَافِل الشَّجَرة إلى أعاليها، حتى إذا انْتَهَى إلى آخِرِها، نشأ فيها أوْرَاق لَيْست من جِنْسِها، وثمر خَارجٌ من الجِرمْ الوَافِر، واللَّوْن الزَّاهِر، والجَنَى الجَديد، والطَّعم اللذيد؛ فأين الطِّبَاع وأجْنَاسُها؟ وأين الفلاسفة أنَسُها؟ هل في قُدْرة الطَّبيعة أن تُنْقِن هذالا الإتْقَان، أو تُرَتِّيب هذا التَّرْتِيب العجيب؟ كلاَّ لم يَتِمَّ ذلك في العُقُول إلاَّ بتَدِبير عالمٍ قديرٍ مريدٍ، فسبحان من لَهُ في كل شيء آية ونهايةَ!.

فصل في المقصود من خَلْق المنافع


لما ذكر كيْفِيَّة خلقِهِ لهذه الأشْيَاءِ، ذكرما هُو المَقْصُود الأصْلِيُّ من خلقها، وهو انْتِفَاع المكَلَّفين؛ فقال: «كلُوا من ثَمِرِهِِ إذَا أثْم» واخْتَلَفُوا ما الفائدة منه؟
قال بَعْضهُم: فائدته الإبَاحَة.
وقال آخَرُون: المَقْصُود منه إبَاحَة الأكل قبل إخْرَاج الحقِّ؛ لأ، هـ تعالى - لمَّا أوجَبَ الحقِّ فيه، كان يجُوزُ أن يَحْرُم على المَالِكِ تَنَاوله لِمُشَاركة المساكين، بل هذا
469
الظَّاهر، فأباح هذا الأكْل وأخرج وُجُوب الحقِّ فيه من أنْ يكون مَانِعاً من هذا التَّصَرُّف.
وقال بعضهم: بل أبَاحَ - تعالى - ذلك ليُبَيِّن أنَّ المقْصِد بِخَلْق هذه النًّعَم الأكْل، وأما تَقْديم ذكر الأكْل على التصدُّق؛ لأن رِعَاية النَّفْسِ متقدِّمة على الغَيْر؛ قال: ﴿وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾ [القصص: ٧٧].

فصل في بيان الأصل في المنافع


تمسَّك بَعْضُهم بقوله: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أثْمَر» بأن الأصْل في المَنَافِع: الإباحة؛ لأن قوله - تعالى -: «كُلُوا» خطاب عَامٌّ يتناول الكُلًّ، فصار كقوله: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض﴾ [البقرة: ٢٩] ويكن التمَسُّك به على أنَّ الأصْل: عدم وُجوب الصِّدَقة؛ لأن من ادَّعى إيجابَهُ، كان هو المُحْتَاج إلى الدَّلِيل، فيُتَمسَّك به في أنَّ المَجْنُون إذا أفَاق في أثْنَاء الشَّهْر، لا يَلْزَمُه قَضَاء ما قَضَى، وفي أنَّ الشَّارع في صوم النَّفْل يجبُ عليه الإتمام.

فصل


قال القُرْطُبيُّ: قوله - تعالى - ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَر﴾ هذان بناءان جاءا بصيغة أفعل. أحدهما: للإباحة؛ كقوله: ﴿فانتشروا فِي الأرض﴾ [الجمعة١٠] والثاني: لوجوب، ولي يَمْتَنِع في الشَّريعة اقتران الإبَاحَة والواجب وبدأ بذكر نِعْمَة الأكْل قبل الأمر بإيتاء الحق؛ ليبيِّن أن الابتداء بالنِّعْمَة كان من فَضْلِه قبل التكليف.
وقال ابن الخَطِيب: وعلى أنَّ صِيغَة الأمْر ترد لِغَيْر الوُجُوب والنًّدْب، وعند هذا، قال بَعْضُهم: الأصْل في الاستِعْمَال: الحَقِيقَة؛ فوجَبَ جعل هذه الصِّيغَة مفيدةً لرفع الحَرَج؛ فلهذا قالوا: الأمْر يقتضي الإبَاحَة إلا أن نَقُول: يُعْلَم بالضَّرُورة من لُغَة العَرَب، أن هذه الصِّيغَة تُفِيد تَرْجِيح جَانِب الفِعْل، فحملُهَا على الإبَاحة لا يُصَار إليه إلاَّ بِدَليلٍ بِفَتْح الحاء: «حَصاده» والباقون بكسرها، وهما لُغَتَان في المَصْدَر؛ كقولهم؛ جَداد وجِدَاد، وقَطَاف وقِطَاف، وحَرَان وحَرَان والصِّرَام والصَّرَام.
قال سيبويه: جاءوا بالمَصْدَر حين أرَادُوا انْتِهاء الزَّمَان على مثال: «فِعَال» وربما
470
قَالُوا فيه: «فَعَال» يعني: أنَّ مَصْدر خَاصٌّ دالٌّ على مَعْنى زَائِد على مُطْلَق المَصْدَر؛ فإن المَصْدَر الأصْلِيُّ إنما هو الحَصْد، فالحَصْد ليس فيه دلالة على انْتِهَاء زَمَان ولا عدمها؛ بخلاف الحَصَاد والحِصَاد.
ونسب الفرَّاء الكَسْر لأهل الحِجَاز، والفتح ل «تميم» و «نَجْد»، واخْتَار أبو عُبَيْد الفَتْحَ؛ قال: للفخامةٍ، وإن كان الأخرى «فَاشِيَةً غير مَدفُوعة»، ومكي الكَسْر؛ قال: «لأنَّه الأصْل، وعليه أكثر الجماعة».
وقوله: «يَوْم حصاده فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَنْصُوب ب»
آتُوا أي: أعْطُوا واجِبة يوم الحَصَادِ، واستَشْكَل بعض النَّاسِ ذلك بأنَّ الإيتاء إنما يكون بعد التَّصْفِيَة، فيكيف يُوجِب الأيتَاء في يَوْم الحَصْد؟
وأجِيبُ: بأنّ ثَمَّ مَحْذُوفاً، والتّقْدير: إلى تَصْفِيتهِ، قالوا: فيكون الحَصاد سَبباً للوُجُوب المُوسَّع، التَّصْفِيَة سَبَبٌ للإدَاءِ، وأحسن من هَذَا أن يَكُونَ المَعْنَى: واهتموُّوا بإيتاءِ الواجِبَة فيه واقْصُدُوه في ذلك اليَوْم.
الثاني: أنه مَنْصُوب بلفظ «حَقَّهُ» على معنى: وأعطوا ما اسْتِحقَّ منه يوم حَصَادِه، فيكون الاستِحْقَاق ثابتاً يوم الحَصَاد والأدَاء بعد التَّصْفِيَة؛ ويؤيد ذلك تَقْدير المَحْذُوف عند بَعْضِهِم كما قَدَّمْتُه، وقال في نَظِير هذه الآية: ﴿انظروا إلى ثَمَرِهِ﴾ [بالأنعام: ٩٩]، وفي هذه: «كُلُوا» قيل: لأن الأولى سيقت للدَّلالة على كَمَال قُدْرَته، وعلى إعْادة الأجْسام من عجب الذنب، فأمر بالنظر والتَّفَكُّر في البدَاية والنِّهاية، وهذه سيقت في مَعْرِض كما ل الامْتِنَان فناسب الأمْر بالأكْلِ، وتحصَّل من مجموع الآيتيْنِ: الانتِفَاعُ الأخْرَوِيّ والدُّنْيَوي، وهذا هو السَّبَب لتقدُّم النَّظَر على الأمْر بالأكْل كما قدمنا.

فصل في معنى الحق هنا


اخْتَلَفُوا في هذا الحق:
فقال ابن عبَّاس في رِوَاية عَطَاء وطاوس والحَسَن وجابر بن زيد وسعيد نب المُسَيَّب: أنَّها الزَّكَاة المفروضَةُ من العُشْر فيما سقَتِ السَّمَاءُ، ونصف العُشْر فيما سُقِي بالكُلْفة.
وقال علي بن الحُسَيْن وعطاء ومُجَاهد وحمَّاد والحكم هو حَقُّ في المال سوى الزَّكَاة أمر بإيتائه، لأن الآية مَكيَّة وفرضت الزَّكاة بالمَدِينَة.
471
قال إبراهيم: هو الضِّغث وقال الرَّبيع: لقاط السُّنْلُل.
وقال مُجَاهد: كانوا يُعَلِّقُون العذق عند الحَرَم، فيأكُلُ مِنْهُ كلُّ من مَرَّ.
وقال يزيد بن الأصَمّ: كان أهْل المَدِينَة إذا أحْرَمثوا يجيئون بالعذق فَيُعَلِّقونه في جانِب المَسْجِد، فيجيء المسْكِينُ فيضْربه بعَصَاه فَيَسْقُط منه.
وقال سَعيد بن جُبَيْر: كان هذا حقاً يُؤمر بإيتَائِه شفي ابْتداء الإسْلام، فصل مَنْسُوخاً بإيجاب العُشْر.
وقال مُقْسِم عن ابن عبَّاس: نسخت الزَّكَاةٌ كُلُّ نفقةٍ في القُرْآنِ.
والصَّحيح الأوَّل؛ لأن قوله - تعالى -: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ إنما يَحْسُن ذكره إذا كان ذلك الحَقُّ مَعْلوماً قبل وُرودِ هذه الآيةِ؛ لئلا تَبْقَى هذه الآية مُجمَلة.
وقال - عليه السلام -: «لَيْسَ في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاة» فوجَبَ أن يكون المُراد بهذا الحقِّ حق الزَّكَاةِ.
قوله: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ بعد ذكر العِنَب والنَّخْل والزَّرْع والزَّيْتُون والرُّمَّان يدلُّ على وُجُوب الزَّكَاةِ في الثِّمار كما يقوله أبو حنيفة، فإن لفظ الحَصَادِ قيل: هو مَخْصُوص بالزَّرْع.
فالجواب: لفظ الحَصْد في اللُّغَة عبارة عن القَطْع، وذلك يتناول الكلَّ، وأيضاً فالضَّمِير في قوله: «حَصَادِهِ» يجب عَوْده إلى أقْرب المذْكُورات وذلك هو الزَّيْتُون والرُّمَّان، فوجَبَ أن يَعُود الضَّمِير.

فصل في بيان زكاة الروع


قال أبو حنيفة: العُشْر واجِبٌ في القَلِيل والكَثِير لهذه الآية.
وقال الأكثرون: لا يِجِب إلاَّ إذا بلغ خَمْسَة أوْسُق؛ لأ، الحَدِيب عن الحقِّ الواجب هَهُنا ما هو.
قال القرطب: وبهذه الآية استَدَلَّ من أوجب العُشْر في الخضْرَواتِ؛ لقوله
472
تعالى: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ والمذكرو قَبْله الزَّيْتُون والرُّمَّان، والمذكور عَقِب الجملة بَنْصَرِف إلى الإخِيرَة بلا خلافٍ قال الكيا الطبري.
قوله: «ولا تُسْرِفُوا» قال أبو العبَّاس عن ابن الأعْرَابيِّ: السَّرَف تجاوز الحدَّ.
وقال غيره: سَرَف المال: ما ذهب منه من غَيْر مَنْفَعَةٍ.
قال القُرْطُبي: الإسْرَاف في اللُّغَة: الخطأ.
قال ابن عبَّاس «وحَقُّ اللَّه» في رواية الكلبي عنه؛ أن ثابت بن قيس ن شماس جَذَذَ خمسمائة نَخْلَةٍن وقسَّمَها في يوم واحدٍ ولم يترك لأهْلِه شَيْئاً؛ فأنزل اللَّه هذه الآية.
وقال السُّدِّيُّ: «لا تُسْرِفُوا؛ أي: لا تعْطُوا أمْوَالُكم فتَقْعُدوا فُقَرَاء».
قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فعلى هذا إذن: إعْضَاء الإنْسَان كل مَالِهِ، ولم يوصل إلى عياله شَيْئاً وقد اسْرَف؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ «.
وقال سيعد بن المسيَّب: مَعْنَاه لا تَمْنَعُوا الصِّدقة فعلى الأوَّل معنى الإسْرَاف؛ تجاوُز [الحَدِّ في الإعْطَاء، وعلى هذا الإسْرَاف: تجاوز»
الحَدِّ في المَنْع.
قوال مُقَاتِل: لا تُسْرِفُوا: لا تُشْرِكُوا الأصْنَام في الحَرْث والأنْعام.
وقال الزُّهري: معناه: لا تُنْفِقُوا في مَعْصية اللَّه - تعالى -.
قال مُجَاهد: لو كان أبُو قُبَيْس ذَهَاباً فأنفقه أحد في سَبيل اللَّه وطاعة اللَّه، لم يكن مُسْرِفاً: لو أنْفق دِرْهَمان في مَعْصِيَة اللًّه، كان مسرفاً، وهذا المَعْنَى أراده الشَّاعِر بقوله: [الوافر]
٢٣٥٦ - ذَهَابُ المَالِ في جُهْدٍ وأجْرٍ... ذَهَابٌ لا يُقَالُ لَهُ: ذَهَابُ
قيل لِحَاتِمٍ الطَائيِّ: لا خير في السَّرفِ، فقال: لا سَرَف في الخَيْر.
ورَوَى ابن وهب عن ابن زيد قال: الخِطَاب إلى السَّلاطين، يَقُول: لا تَأخُذُوا فوق حَقكم، قال - عليه الصَّلاة والسلام - «المعتدي في الصِّدَقَةِ كَمَانِعِهَا».
473
وقال أبو عَبْد الرَّحمن بن زيد بن أسْلَم: الإسْرَاف ما لم يُقْدَر على رَدِّه إلى الصَّلاحِ.
وقال النَّصْر بن شميل: الإسْراف: التَّبْذِير والإفرَاط، والسَّرَف: الغفلة والجَهَلة، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ [الأنعام: ١٤١] المقصود منه الزَّجْر؛ لأن كل مَنْ لا يُحِبُّه الله - تعالى - فهو من أهْل النَّار؛ لقوله - تعالى - ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ [المائدة: ١٨] حين قالوا ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
474
قوله - تعالى - ﴿حَمُولَةً وَفَرْشا﴾ مَنْصُوبان على أنَّهُما نُسِقَا على «جَنَّاتِ» أي: وأنشأ من الأنْعام حَمُولَة، و «الأنْعَام» قيل: هي من الإبل خَاصَّة، وقيل: الإبل والبَقَر والغَنَم.
وقيل: ما أحَلَّه الله - تعالى - من الحيوانِ؛ قاله أحمد بن يَحْيَى، قال القُرْطُبيُّ: وهذا أصَحُّهَا.
وقال القُرْطُبِي: فَعُوله بفتح الفَاءِ، إذَا كانت بمعنى الفَاعِل اسْتَوى فيها المُذَكَّر والمؤنَّث؛ نحو قولك: رَجُل فَرْوقَه للجَبَان والخَائِفِ، ورجل صَرُورَة وامرأة صرورة إذا لم يَحُجَّا؛ ولا جَمْع له فإذا كانت بِمَعْنَى، فرق بين المُذَكَّر والمؤنَّث بالهَّاء، كالحَلُوبة والرَّكُوبة، والحَمُولة بضم الحاءِ: أحْمَال وأما الحُمُول: بالضَّمِّ بغير هاء فهي الإبل الَّتِي عليه الهَوَادِجُ كان فيها نِساءٌ أو لم يَكُنِّ؛ قاله أبو زَيْد.
والحَمُولة: ما أطاق الحمل عَلَيْه من الإبل، والفَرْش: صِغَار هذا هو المشْهُور في اللُّغَة.
وقيل الحَمُولة: كبارُ الأنْعَام، أعني: الإبل والبَقَر والغَنَم، والفَرْشُ: صغارها قال: «ويدُلُ له أنَّهُ أبدل منه قوله بعد ذلك:» ثَمَانِيَة أزْوَاجٍ من الضَّأنِ «كما سيأتيِي لأنها دَانِية من
474
الأرْض بسبب صغَر أجْرَامِها مثل الفَرْشِ وهي الأرْض المَفْرُوشُ عليها».
وقال الزَّجَّاج: أجمع أهْل اللُّغَة على أنّ الفَرْشَ صِغَار الإبل، وأنشد القَائِل: [الزجر]
١٢٥٧ - أوْرَثَنِي حَمُولَةً وَفَرْشَا أمُشُّهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشَّا
وقال الآخر: [الرمل]
٢٣٥٨ - وَحَوَيْنَا الفَرْشَ مِنْ أنْعَامِكُمْ والحَمُولاتِ وَربَّاتِ الحِجَالْ
قال أبو زَيْد: «يحتمل أن يكون سُمِّيَتْ بالمَصْدَر؛ لأن الفَرْشَ في الأصْل مصدر» والفَرْش لفظ مُشْتَرك بين مَعَانِ كثيرة: منها ما تقدَّم، ومنها: مَتَاع البَيْت والفَضَاء الوَاسِع، واتِّسَاع خُفِّ البَعير قليلاً، والأرْض الملساء، عن أبي عَمْرو بن العَلاء، ونباتٌ يلْتَصِق بالأرْضِ، ومنه قول الشاعر: [الزجر]
٢٣٥٩ - كَمِشْفَرِ النَّابِ تلُوكُ الفَرْشَا... وقيل الحَمُولة: كل ما حُمِل عليه من إبل وبَقَر وبَغْل وحِمَار.
والفَرْشُ هنا: ما اتُّخِذَ من صُوفه ووبَرِه وشَعْرِه ما يُفْتَرشُ، وأنشدوا للنَّابعة: [الطويل]
٢٣٦٠ - وَحَلَّتْ بُيُوتِي فِي يَفَاعٍ مُمَنَّعٍ تَخَالُ بِهِ راعِي الحَمُولَةِ طَائِرا
وقال عنترة: [الكامل]
٢٣٦١ - مَا رَاعَنِي إلاَّ حَمُولَةُ أهْلِهَا وَسْط الدِّيار تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ
قوله: ﴿كُلُوا ممَّا رزَقُكم اللَّه﴾ يريد: ما أحَلَّها لكم.
قالت المعتزلة: إنه - تبارك وتعالى - أمر بأكْل الرِّزْقِ، ومنع من أكل الحَرامٍ ينتج أن الرِّزْق ليس بَحَرَام.
ثم قال - تعالى -: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي: التَّخْلِيل والتَّحريم من عِنْد
475
أنْفُسكُم، كما فعله أهْل الجَاهِليَّة، أي: لا تَسْلكُوا طرائق الشَّيْطَان وأبان «أنه لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ» أيك بيَّن العداوة أخرج آدم من الجنَّة، وقوله: ﴿لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٦٢].
قال الزجاج: في خُطُوات الشَّيْطَانِ ثلاثة أوجُه: ضم الطاء، وفتحها، وإسكَانها.
476
قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج﴾ في نصبه ستة أوجه:
أحسنها: أن يكُون بدلاً من «حملوة وفَرْشاً لولا ما نَقَله الزَّجَّاج من الإجماع المُتقدِّم، ولكن ليس فيه أنَّ ذلك مَحْصُول في الإبل، والقَوْل بالبدلِ هو قَوْل الزَّجَّاج والفرَّاء.
والثاني: أنه مَنْصُوب ب»
كُلُوا «الذي قَبْلَه أي: كُلُوا ثمانية أزْوَاج، ويكن قوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُوا﴾ إلى آخره كالمُعَتَرِض بين الفِعْل ومَنْصُوبه، وهو قول عَلِيّ بن سُلَيْمَان وقدَّرَه: كُلُوا لَحْم ثَمَانِية.
وقال أبو البَقَاء - رحمها لله -: هو مَنْصُوب ب»
كُلُوا «تقديره: كلوا مِمَّا رزقَكُم اللَّه ثمانية أزْوَاج،» ولا تسرفوا «مُعْتَرِض بَيْنَهُما.
قال شهاب الدَّين: صوابه أن يقولك»
ولا تَتَّبعُوا «بدل» ولا تُسْرفُوا «؛ لأن كُلُوا - الذي يَلِيه» ولا تُسْرِفوا «- ليس مُنْصَبًّا على هذا؛ لأنه بعيد منه، ولأن بَعْده ما هو أوْلَى منه بالعمل، ويحتمل أن يَكُون الناسخ غَلَط عَلَيْه، وإنما قال هو:» ولا تَتَّبِعُوا «؛ ويدل على ذلك أنه قال:» تقديره: كُلُوا ممَّا رَزَقكُم اللَّه «و» كُلُوا «الأوَّل ليس بَعْدَه» ممَّا رَزقكُم «، إنما هو بَعْد الثَّاني.
الثالث: أنه عَطْف على»
جَنَّاتٍ «أي: أنْشَا ثَمَانِية أزْوَاج، ثم حُذِفَ الفِعْل وحَرْف العَطْفِ؛ وهو مذهب الكسَائِيّ.
قال أبو البقاء:»
وهو ضعيف «.
476
قال شهاب الدين: الأمْر كذلك وقد سُمِع ذلك في كلامهم نَثْراً ونَظْماً: ففي النثر قوله:» أكلتُ لَحْماً سمَكاً تَمْراً «وفي نَظْمِهِم قول الشاعر: [الخفيف]
٢٣٦٢ - كَيْفَ أصْبحْتَ كَيْف أمْسَيْتَ مِمَّا يَزْرَعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَرِيم
أي: أكلت لَحْماً وسمكاً وتمراً، وكيف أصْبَحْت وكيف أمْسَيْت، وهذا على أحَدِ القولين في ذلك.
والقول الثاني: أنه بدل بداء؛ ومنه الحديث:»
إنَّ الرَّجُلَ لَيصَلَّى الصَّلاة، وما كُتِبَ له نِصْفُهَا ثلثُهَا رُبْعُها «إلى أنْ وَصَلَ إلى العُشْرِ.
الرابع: انه مَنْصُوبٌ بفعل مَحْذُوفٍ مدلول عليه بما في اللَّفْظِ، تقديره: كُلُوا ثمانية أزْوَاج؛ وهذا أضْعَفُ مما قبله.
الخامس: أنه مَنْصُوب على الحالِ، تقديره: مُخْتَلفة أو متعدِّدَة، وصاحب الحال:»
الأنْعَام «فالعَامِل في الحال ما تعلَّق به الجَارُّ وهو» مِنْ «
السادس: أنه مَنْصُوب على البدل من محلِّ»
مِمَّا رَزَقَكُم اللَّه «.

فصل في بيان كلمة» زَوْج «


الوَاحِد إذا كان وْحده فهو فَرْد، وإذا كان مَعَهُ غيره من جِنْسِه سُمِّي زَوْجاً وهما زَوْجَانح قال - تعالى_: ﴿خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى﴾ [النجم: ٤٥] وقال:»
ثمانِيَة أزْوَاج «ثم فَسَّرها بقوله:» من الضَّأنِ اثْنَيْنِ ومِن المَعْزِ اثْنَيْنِ ومِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ «.
قال القرطبي: والزَّوْج: خلاف الفَرْدح يقال: زَوْج أو فَرْد كما يقال خَساً أو ذَكاً، شفع، أو وترن فقوله: «ثَمَانِيَة أزْواجِ»
يعني ثمانية أفراد وكُلُّ فرد عنه العرب يحتاج غلى آخر يُسَمَّى زوجاً، يقال للذكر: زوج وللأنثى زَوْجٌ، ويقع لَفْظُ الزَّوْج للواحد والاثْنَيْن، يقال: هما زَوْجَان وهما: زوْجٌ؛ كما يقال: هما سِيَّان وهما سَوَاء، وتقول: اشْتَرْيت زَوْجِيْ حَمَام وأنت تعني: ذكراً وأنْثَى.
قوله: «مِنَ الضَّأنِ اثْنَيْن» في نصب «اثْنَيْنِ» وجهان:
أحدهما: أنه بَدَلٌ من «ثَمَانِيَة أزْوَاج» وهو ظَاهِر قول الزَّمَخْشَري؛ فإنه قال: والدَّلِيلُ عليه «ثَمَانِيَة أزْوَاجٍ» ثم فسَّرها بقوله: «مِنَ الضَّأنِ اثْنَيْنِط الآية؛ وبه صرح أبُو البقاءِ فقال:» واثْنيْنِ بدل من الثَّمانية وقد عُطِف عَلَيْه بقيَّة الثمانِية «.
477
والثاني: أنه مَنْصُوب ب» أنْشَا «مقدَّراً؛ وهو قول الفَارِسيِّ و» مِنْ «تتعلَّق بما نَصَب» اثْنَيْنِ «.
والجُمْهُور على تسْكِين همزة»
الضَّأن «وهو جَمْع ضَائِن وضائنه؛ كتاجِرٍ وتارجة وتَجْر، وصَاحِبٍ وصَاحِبَة وصَحْب، وراكب ورَكْب.
وقرأ الحسن وطلحة بن مُصَرِّف وعيسى نب عمر:»
الضَّأن «بفتحها؛ وهو إمَّا جمع تكْسِير لضَائِنٍ؛ كما يقال: خَادِم وخَدَمن وحَارِس وحَرَس، وطالِب وطَلَب، وإما اسْمُ جمعٍ، ويجمع الضَّأنُ على ضَئِين؛ كما يقال: كَلْب وكَلِيبٌ؛ قال القائل: [الطويل]
٢٣٦٣ - (.................................. فبذت نبلهم وكليب)
وقيل: الضئين والكليب اسما جمع، ويقال: ضئين بكسر الضاد، وكأنها إنباع لكسر الهمزة؛ نحو: بعير وشعير بكسر الباء والشين لكسر العين، و" الضأن " معروف وهو ذو الصوف من الغنم، و" المعز ": ذو الشعر منها.

فصل فيما يقال في الجمع من النَّعم ونحوه


قال الجوهري: يقال: صرمة من الإبل، وقطيع من الغنم، وكوكبة من الفرسان، وكبكبة من الرجال، وخرقة من الغلمان، ولمة من النساء، ورعيل من الخيل، وسرب من الظباء، وعرجلة من السباع، وعصابة من الطير، ورجل من الجراد وحشرم من النَّحْل. وقال غيره: يقال أيضاً: سرب من القطا. قال الشاعر في ذلك: [الطويل]
٢٣٦٤ - أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ لَعَلَّي إلى أرْضِ الحَبيبِ أطِير
وقرا أبان بن عُثْمَان: اثنان بالرَّفْع على الابتداء، والخَبَر الجَارُّ قَبْلَه، وقرأ بان كثير وأبو عمرو وابنُ عامر:»
المَعَز «بفتح العين والباقون بسُكُونِها، وهما لُغَتَان في جَمْع مَاعِز، وقد تقدَّم أن فَاعِلاً يجمع على فَعْلٍ تارة، وعلى فَعَل أخرى؛ كتَاجِر وتَجْر وخَادِم وخَدْم، وتقدَّم تحقيقه، ويُجْمَع أيضاً على مِعْزَى وبها قرأ أبَيٌّ، قال امْرُؤ القيس: [الوافر]
478
٢٣٦٥ - ألا إنْ لا تَكُنْ إبلٌ فَمِعْزَى كَأنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا العصِيُّ
وقال أبو زَيْد: إنه يَجْمَع على أمْعُوزٍ؛ وأنشد: [الكامل]
٢٣٦٦ -.................. كالتِّيْسِ فِي أمْعُوزِهِ المُتَرَبِّل
ويُجْمَع أيضاً على مَعْيز؛ وأنْشَدُوا لامرئ القيس: [الوافر]
٢٣٦٧ - ويَمْنَحُهَا بَنُوا شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ مَعِيزَهُم حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ
قال القُرْطُبِيُّ: والمعْزُ من الغَنَمِ خلاف الضَّأنِ، وهي ذَوَات الأشْعَار والأذْنَاب القَصَار، وهو اسم جِنْسٍ، وكذلك المَعَزَ والمعيزُ والأمعُوز والمِعْزى، وواحد المِعْزَ، ماعز؛ مثل صَاحِب وصَحْبٍ، والأنْثى ماعِزَة وهي العنز والجَمَع مَوَاعِز، وأمْعز القَوْمُ: كثرة مَعْزَاهُم، والمعّاز: صَاحِبُ المِعْزى والمَعَز: الصَّلابة من الأرْضِ، والأمْعَز: المكان الصُّلب الكَثِير الحَصَى، والمعزاء أيضاً، واستمعز الرَّجُل في امْر، جَدَّ، والأبل: اسمُ جَمْع لا وَاحِد له من لَفْظِه بل وَاحِده جَمَلٌ نَاقَةٌ وبَعِير، ولم يَجِيْ اسْم على» فِعِل «عند سيبويه غيره، وزاج غير سبويه بكِراً وإطِلاً ووتِداً ومِشِطاً، وسيأتي لِهَذا مَزيد بيان في [سورة] الغَاشِيَةِ - إن شاء الله تعالى - والنِّسَبة إليه إبَليّ بِفَتْح البَاءِ يَتَوالى كَسْرَتَانِ مع ياءَيْن.
قوله: «آلذَّكرين حَرَّمَ»
آلذّكريْن: منصوب بما بَعْدَه؛ وسبب إيلائه الهمزة ما تقدَّم في قوله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] و «أم» عاطفة للأنْثَيْين على الذَّكَرَيْن؛ وكذلك «أمْ» الثانية عَاطِفة «مَا» الموْصُولة على ما قَبْلَها، فمحلُّها نصب، تقديرُه: أم الَّذِي اشْتَمَلت عليه أرْحَام، فلما التقت الميم سَاكِنَةً مع ما بَعْدَها، وجب الإدْغَام.
قال القُرْطُبي: ووردَت المدَة مع أل الوصْل؛ لتفرق بين الاسْتِفْهَام والخبر، ويجوز حَذْف الهَمْزِة؛ لأن «أم» تَدُلُّ على الاسْتِفْهَام؛ كقوله: [المتقارب]
٢٣٦٨ - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ومَاذَا يَضيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
و «أمْ» في قوله - تعالى -: «أمْ كُنْتُم شُهَداءَ» مُنْقَطِعة ليست عَاطِفَة؛ لأن ما بَعْدَها
479
جُمْلة مستقِلَّةٌ بنفسها فتُقَدَّر ب «بَلْ» والهمزة، والتَّقْدِير: بل أكُنْتُم شُهَدَاء، و «إذا» : مَنْصُوب ب «شُهَدَاء» أنكر عَلَيْهم ما ادَّعُوه، وتهَكَّم بهم في نِسْبتهم إلى الحُضُور في وَقْتِ الإيصَاءِ بذلك، و «بهذا» : إشارة إلى جَمِيع ما تقدَّم ذكره من المُحَرَّمات عندهم.

فصل فيما كان عليه أهل الجاهلية


قال الفسِّرُون: إن أهْل الجاهليَّة كانوا يُقُولون: هَذِه الأنْعَام حرث حجر، وقالوا مَا فِي بُطُون هَذِهِ الأنْعام خَالِصةٌ لذُكُورنا، ومحرَّمٌ على أزْوَاجِنَا وحرّموا البَحِيرة والسَّائِبَة والوَصِيلَة والحَام، وكانوا يُحَرِّمُون بَعْضَها على الرِّجال والنِّساء، وبعضها على النِّساء دون الرِّجَال، فلمَّا قام الإسْلام [وبُيِّنَت] الأحْكَام جادلوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان خَطِيبُهم مَالِك بن عَوف أخُو الأحوص الخيثمي؛ فقالوا: يا مُحَمَّد، بلغنا أنَّك تُحَرِّم أشياء ممَّا كان آبَاؤُنا يفعلونه، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّكم حَرَّمْتُم أصنافاً من النَّعِم على غير أصْل، وإنما خلق اللَّه هذه الأزْواجَ الثمانية للأكل والانْتِفَاع بها، فمن أين جاء هذا التَّحْريم: من قِبَل الذكر، أم من قِبَل الأنْثَى» قال: فسَكَتَ مالكُ بن عَوْف، وتحيَّرَ فلم يَتَكَلَّم، فلوا قال: جَاءَ التَّحْريمُ بسبب الذكورة؛ وجب أن يُحَرَّم جَمِيع الذُّكُورِ، وإن كان بسبب الأنُوثَةِ، وجب أن يُحَرَّم جميع الإناثِ، وإن كان باشْتِمَال الرَّحم عليه، فينْبَغِي أن يُحَرَّم الكُلُّ؛ لأن الرَّحِم لا تَشْتَمِل إلا على ذَكَرِ أو أنْثَى، أمّا تَخْصِيً الرَّحِمِ بالولدِ الخَامِس أو السَّابع، أو بالبعض دون البَعْضِ، فمن أين؟
قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا عِنْدي بعيد جداً؛ لأن لِقَائِل أن يقول: هَبْ أن هذه الأنواع - أعني الضَّأن، والمَعْز، والإبل، والبقرمَحْصُورةٌ في الذِّكَر والإناث، إلاّ أنه لا يَجِبُ أن يكون عِلَّة تَحْرم ما حَكُوا بتحريمه مَحْصُورة في الذَّكُورَة والأنُوثَة؛ بل علة تَحْريمها لكونها بحيرة أو سَائِبَةً أو وَصِيلةَ وحَاماً أو سائر الاعِتبَارات؛ كما أنّا إذا قُلْنَا: إنه - تعالى - حَرَّم ذَبْح بَعْضِ الحيوان لأجل الأكْلز
فإذا قيل: إنَّ ذلك الحيوان إن ان قد حُرِّم كل حيوانٍ ذَكَر، وإن كان قد حُرِّم لكَوْنِه أنْثَى، وجب أن يُحَرَّم كل حيوانٍ أنْثى، ولما لم يَكُن، هذا الكَلاَم لاَزماً علينا، فكذا هذا الوَجْه الَّذِي ذكَرَهُ المُفَسِّرُون في هذه الآية الكريمةن ويجب على العَاقِل أن يَذْكُر في تَفْسِير كلام اللَّه وجهاً صَحِيحاً، فأمّا تَفْسِيرُه بالوَجْه الفَاسِد فا يَجُوز والأقْرَب عِنْدي وجهان:
أحدهما: أن يقال: إن هذا الكلام ما ورد على سَبيل الاسْتِدْلال على بُطْلان قولهم، بل هو اسْتِفَهامٌ على سَبِيل الإنْكَار، يعني: إنكم لا تُقِرُّون بِنُبُوَّة نبيِّ، ولا تعرفُون شريعَة شَارع، فكَيْف تَحْكُمُون بأن هذا يَحِلُّ، وأن ذلك يحَرَّمُ.
480
وثانيها: حُكُمُهم بالبَحِيرة والسَّائبة الوَصِيلَة والحَام مَخْصُوص بالإبل، فاللَّه تبارك وتعالى - بيَّن أن النَّعَم عِبَارة عن هذه الأنواع الأرْبعة فما لم يَحْكُمُوا بهذه الأحْكَام في الأقْسام الثلاثة، وهي: الضَّأن والمَعْز، والبَقَر، فكيف خَصصْتُم الإبلَ بهذا الحُكْم دون الغَيْر، فهذا ما عِنْدشي في هذه الآية.
ثم قال: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا﴾
أي: هل شَاهَدْتُم اللَّه حرم هذا، إن كنتم لا تُؤمِنُون برسُولٍ، وحاصل الكلام من هذه الآية: أنَّكُم لا تُقِرُّونَ بنبوَّةِ أحد من الأنْبِيَاء، وكيف تُثْبِتُون هذه الأحكامَ المُخْتَلِفَةَ.
ولما بيَّن ذلك قال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد عَمْرو بن لُحَيّ؛ لأنه هو الَّذِي غير شريعة إسْماعيل - عليه الصَّلاة والسلام -.
قال ابن الخطيب: «والأقْرَب أن يكُون هذا مَحْمُولاً على كُلِّ من فعل ذلك، لأنَّ اللَّفْظ عامٌّ، والعِلَّة الموجبة لهذا الحُكْمِ عَامَّةٌ، فالتخصيص تَحَكُّمٌ مَحْض».

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


قال القاضي: دلّت الآية على أنَّ الإضْلال عن الدِّين مَذْمُوم، وذلك لا يَلِيقُ بالله - أن تبارك وتعالى -؛ لأنه إذا ذمّ الإضْلال الَّذِي ليس فيه إلاَّ تَحْرِيم المُبَاحِ، فالَّذِي هو أعْظَم منه أوْلَى بالذم.
وأجيب: بأنه ليس لك ما كان مذموماً منها كان مذموماص من اللَّه - تعالى -، ألا ترى أن الجَمْع بين العَبيدِ والإمَاءِ، وتَسْلِيط الشَّهْوةِ عَلَيْهم، وتمكينهم من أسْبَاب الفُجُور مَذْمُوم مِنَّا، وليس مَذْمُوماً من اللَّه فكذا هَهُنَا.
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾.
قال القاضيي: «لا يَهْديهم إلى ثوابه».
وقال أهل السُّنَّة: «المراد لا يَهْدِي أولئك المُشْرِكِين، أيك لا يَنْقُلُهم من ظُلُماَات الكُفْر إلى نُور الإيمانِ»، وتقدَّم الكلام الثانِي.
481
والإبل : اسمُ جَمْع لا وَاحِد له من لَفْظِه بل وَاحِده جَمَلٌ ونَاقَةٌ وبَعِير، ولم يَجِئ اسْم على " فِعِل " عند سيبويه٢٢ غيره، وزاد غير سيبويه بكِراً وإطِلاً ووتِداً ومِشِطاً، وسيأتي لِهَذا مَزيد بيان في [ سورة ] الغَاشِيَةِ- إن شاء الله تعالى - والنِّسَبة إليه إبَليّ بِفَتْح البَاءِ لئلاّ يَتَوالى كَسْرَتَانِ مع ياءَيْن.
قوله :" آلذَّكرين حَرَّمَ " آلذّكريْن : منصوب بما بَعْدَه ؛ وسبب إيلائه الهمزة ما تقدَّم في قوله :﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] و " أم " عاطفة للأنْثَيْين على الذَّكَرَيْن ؛ وكذلك " أمْ " الثانية عَاطِفة " مَا " الموْصُولة على ما قَبْلَها، فمحلُّها نصب، تقديرُه : أم الَّذِي اشْتَمَلت عليه أرْحَام، فلما التقت الميم سَاكِنَةً مع ما بَعْدَها، وجب الإدْغَام.
قال القُرْطُبي : ووردَت المدّة مع ألف الوصْل ؛ لتفرق بين الاسْتِفْهَام والخبر، ويجوز حَذْف الهَمْزة ؛ لأن " أم " تَدُلُّ على الاسْتِفْهَام ؛ كقوله :[ المتقارب ]
تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ومَاذَا يَضيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ٢٣
و " أمْ " في قوله - تعالى- :" أمْ كُنْتُم شُهَداءَ " مُنْقَطِعة ليست عَاطِفَة ؛ لأن ما بَعْدَها جُمْلة مستقِلَّةٌ بنفسها فتُقَدَّر ب " بَلْ " والهمزة، والتَّقْدِير : بل أكُنْتُم شُهَدَاء، و " إذا " : مَنْصُوب ب " شُهَدَاء " أنكر عَلَيْهم ما ادَّعُوه، وتهَكَّم بهم في نِسْبتهم إلى الحُضُور في وَقْتِ الإيصَاءِ بذلك، و " بهذا " : إشارة إلى جَمِيع ما تقدَّم ذكره من المُحَرَّمات عندهم.

فصل فيما كان عليه أهل الجاهلية


قال المفسِّرُون : إن أهْل الجاهليَّة كانوا يقُولون : هَذِه الأنْعَام حرث حجر، وقالوا مَا فِي بُطُون هَذِهِ الأنْعام خَالِصةٌ لذُكُورنا، ومحرَّمٌ على أزْوَاجِنَا وحرّموا البَحِيرة والسَّائِبَة والوَصِيلَة والحَام، وكانوا يُحَرِّمُون بَعْضَها على الرِّجال والنِّساء، وبعضها على النِّساء دون الرِّجَال، فلمَّا قام الإسْلام [ وبُيِّنَت ]٢٤ الأحْكَام، جادلوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان خَطِيبُهم مَالِك بن عَوف أخُو الأحوص الخيثمي ؛ فقالوا : يا مُحَمَّد، بلغنا أنَّك تُحَرِّم أشياء ممَّا كان آبَاؤُنا يفعلونه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّكم حَرَّمْتُم أصنافاً من النَّعم على غير أصْل، وإنما خلق اللَّه هذه الأزْواجَ الثمانية للأكل والانْتِفَاع بها، فمن أين جاء هذا التَّحْريم : من قِبَل الذكر، أم من قِبَل الأنْثَى " قال : فسَكَتَ مالكُ بن عَوْف، وتحيَّرَ فلم يَتَكَلَّم، فلو قال : جَاءَ التَّحْريمُ بسبب الذكورة ؛ وجب أن يُحَرَّم جَمِيع الذُّكُورِ، وإن كان بسبب الأنُوثَةِ، وجب أن يُحَرَّم جميع الإناثِ، وإن كان باشْتِمَال الرَّحم عليه، فينْبَغِي أن يُحَرَّم الكُلُّ ؛ لأن الرَّحِم لا تَشْتَمِل إلا على ذَكَرِ أو أنْثَى، أمّا تَخْصِيً الرَّحِمِ بالولدِ الخَامِس أو السَّابع، أو بالبعض دون البَعْضِ، فمن أين ؟
قال ابن الخطيب٢٥ - رحمه الله- : وهذا عِنْدي بعيد جداً ؛ لأن لِقَائِلٍ أن يقول : هَبْ أن هذه الأنواع- أعني الضَّأن، والمَعْز، والإبل، والبقر مَحْصُورةٌ في الذِّكَر والإناث، إلاّ أنه لا يَجِبُ أن يكون عِلَّة تَحْرم ما حَكُوا بتحريمه مَحْصُورة في الذَّكُورَة والأنُوثَة ؛ بل علة تَحْريمها لكونها بحيرة أو سَائِبَةً أو وَصِيلةَ و حَاماً أو سائر الاعِتبَارات ؛ كما أنّا إذا قُلْنَا : إنه - تعالى- حَرَّم ذَبْح بَعْضِ الحيوان لأجل الأكْل.
فإذا قيل : إنَّ ذلك الحيوان إن كان قد حُرِّم لكونه ذكرا، وجب أن يُحرَّم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حُرّم لكونه أنثى، وجب أن يُحرّم كل حيوانٍ أنْثى، ولما لم يَكُن، هذا الكَلاَم لاَزماً علينا، فكذا هذا الوَجْه الَّذِي ذكَرَهُ المُفَسِّرُون في هذه الآية الكريمة، ويجب على العَاقِل أن يَذْكُر في تَفْسِير كلام اللَّه وجهاً صَحِيحاً، فأمّا تَفْسِيرُه بالوَجْه الفَاسِد فلا يَجُوز، والأقْرَب عِنْدي وجهان :
أحدهما : أن يقال : إن هذا الكلام ما ورد على سَبيل الاسْتِدْلال على بُطْلان قولهم، بل هو اسْتِفَهامٌ على سَبِيل الإنْكَار، يعني : إنكم لا تُقِرُّون بِنُبُوَّة نبيٍّ، ولا تعرفُون شريعَة شَارع، فكَيْف تَحْكُمُون بأن هذا يَحِلُّ، وأن ذلك يحَرَّمُ.
وثانيها : حُكُمُهم بالبَحِيرة والسَّائبة والوَصِيلَة والحَام مَخْصُوص بالإبل، فاللَّه تبارك وتعالى- بيَّن أن النَّعَم عِبَارة عن هذه الأنواع الأرْبعة فما لم يَحْكُمُوا بهذه الأحْكَام في الأقْسام الثلاثة، وهي : الضَّأن والمَعْز، والبَقَر، فكيف خَصصْتُم الإبلَ بهذا الحُكْم دون الغَيْر، فهذا ما عِنْدي في هذه الآية٢٦.
ثم قال :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا ﴾.
أي : هل شَاهَدْتُم اللَّه حرم هذا، إن كنتم لا تُؤمِنُون برسُولٍ، وحاصل الكلام من هذه الآية : أنَّكُم لا تُقِرُّونَ بنبوَّةِ أحد من الأنْبِيَاء، وكيف تُثْبِتُون هذه الأحكامَ المُخْتَلِفَةَ.
ولما بيَّن ذلك قال :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- : يريد عَمْرو بن لُحَيّ ؛ لأنه هو الَّذِي غير شريعة إسْماعيل - عليه الصَّلاة والسلام-٢٧.
قال ابن الخطيب٢٨ :" والأقْرَب أن يكُون هذا مَحْمُولاً على كُلِّ من فعل ذلك، لأنَّ اللَّفْظ عامٌّ، والعِلَّة الموجبة لهذا الحُكْمِ عَامَّةٌ، فالتخصيص تَحَكُّمٌ مَحْض ".

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


قال القاضي : دلّت الآية على أنَّ الإضْلال عن الدِّين مَذْمُوم، وذلك لا يَلِيقُ بالله- أن تبارك وتعالى- ؛ لأنه إذا ذمّ الإضْلال الَّذِي ليس فيه إلاَّ تَحْرِيم المُبَاحِ، فالَّذِي هو أعْظَم منه أوْلَى بالذم.
وأجيب : بأنه ليس لك ما كان مذموماً منها كان مذموما من اللَّه - تعالى- ؛ ألا ترى أن الجَمْع بين العَبيدِ والإمَاءِ، وتَسْلِيط الشَّهْوةِ عَلَيْهم، وتمكينهم من أسْبَاب الفُجُور مَذْمُوم مِنَّا، وليس مَذْمُوماً من اللَّه فكذا هَهُنَا.
قوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾.
قال القاضيي٢٩ :" لا يَهْديهم إلى ثوابه ".
وقال أهل السُّنَّة٣٠ :" المراد لا يَهْدِي أولئك المُشْرِكِين، أي : لا يَنْقُلُهم من ظُلُمات الكُفْر إلى نُور الإيمانِ "، وتقدَّم الكلام الثانِي.
قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً﴾ الآيات.
لمَّا بيَّن فساد طريقة أهْل الجاهليَّة فيما يُحَلُّ ويُحَرَّم من المطعُومَات - أتْبَعهُ بالبيان الصَّحِيح.
رُوي أنهم قالوا: فما المُحَرَّمُ إذن؟ فنزل: قل يا محمد: «لا أجِدُ في ما أوحِي إليَّ» شيئاً «مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه» أي: آكِل يَأكُلُه.
قوله: «مُحَرَّماً» منصوب بقوله: «لا أجِدُ» وهو صِفَة لمَوْصُوف محذوف؛ حذف لدلال قوله: «على طَاعِم يَطْعَمُهُ»، والتقدير: لا أجد طعاماً مُحَرّماً، و «عَلَى طَاعِمٍ» متعلِّق ب «مُحَرَّماً»، و «يَطْعَمُهُ» في محل جرِّ صِفَة ل «طَاعِم».
وقرأ الباقير ونقها مكيِّ عن أبي جَعْفَر -: «يَطَّعِمُهُ» بتشديد الطَّاءِ، وأصلها «يتطعمه» افتعال من الطعم، فأبدلت التاء طاءً لوقوعها بعد طاء للتقارب، فوجب الإدغام.
وقرأت عائشة، ومحمَّد بن الحَنَفِيَّة، وأصحاب عَبْد اللَّه بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «تَطَعَّمه» بالتاء من فَوْق وتشديد العَيْن فعلاً مَاضِياً.
قوله: «إلاَّ أنْ كَكُون مَنْصُوب على الاسْتثْنَاء، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَّصِل قال أبو البقاء:»
استثناء من الجنْس، وموضعُه نَصْب، أي: لا أجد مُحَرَّماً إلا المَيْتَة «.
والثاني: أنه مُنْقَطِع، قال مكِّي:»
وأن يكُون في مَوْضِع نَصْب على الاستِثْناء المُنْقَطع «.
وقال أبو حيان: و»
إلاَّ أنْ يكون «استثناء مُنْقَطِع؛ دلالئله كَوْن، وما قَبْلَه عين، ويَجُوز أنْ يكُون مَوْضِعُه نَصْباً بدلاً على لُغَة تَمِيم، ونَصْباً على الاستثناء على لُغَة الحِجَاز، يعني أن الآستثنْاء المُنْقَطِع في لُغَتان:
إحداهما: لغة الحَجَاز، وهو وُجُوب النَّصْبِ مطلقاً.
وثانيتهما: لغة التَّمِيمِيٍّن - يجعلونه كالمُتَّصِل، فإن كان في الكلامِ نَفْيٌ أو شبْهُه،
482
رُجِّح البدل، وهُنَا الكلام نَفْيٌ فيترَجَّحُ نَصْبُه عند التَّممِيميِّين على البدل، دُون النَّصْب على الاسْتثْنَاء؛ فنصْبه من وَجْهَين، وأمَّا الحِجَاز: فنصبه عِنْدهم من وجْهٍ وَاحِد، وظاهِر كلام أبي القَاسِم الزَّمَخْشَريِّ أن مُتَّصِل؛ فإنه قال:» مُحَرَّماً «أي: طعَاماً مُحَرَّماً من المطاعِم التي حَرَّمْتُمُوهَا إلاَّ أن يكُون مَيْتَة، أي: إلاَّ أن يكون الشَّيء المُحَرَّم مَيْتة.
وقرأ ابن عامر في روايةٍ:»
أوحَى «بفتح الهمزة والحَاءِ منبيا للفَاعِل؛ وقوله تعالى: ﴿قُلءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ وقوله:» نَبِّئُونِي «، وقوله أيضاً:» آلذّكَرَيْن «ثانياً، وقوله:» أمْ كُنْتُم شُهْدَاء «جمل اعْتِرَاض بين المَعْدُودَات الَّتِي وَقَعت تَفْصِيلاً لِثَمانِيَة أزْواج.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ:»
فإن قُلْت: كيف فَصَل بين المَعْدُود وبين بَعْضِه ولم يُوَالِ بَيْنَه؟.
قلت: قد وقع الفَاصِل بَيْنَهُما اعْتِرَاضاً غير أجْنَبيِّ من المَعْدُود؛ وذلك أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - مَنَّ على عِبَاده بإنْشَاء الأنْعام لمَنَافِهِم وبإياحتها لَهُم، فاعترض بالاحْتِجَاج على مَنْ حَرَّمها، والاحْتِجَاجُ على مَنْ حَرَّمَها تأكيدٌ وتَشديدٌ للتَّحْلِيلن والاعْتِراضَات في الكلامِ لا تُسَاقُ إلا للتَّوْكِيد «.
وقرأ ابن عامر: «إلاَّ أنْ تكُون مَيْتَةٌ»
بالتَّأنيث ورفع «مَيْتَةٌ» يعني: إلا أن يوجَد مَيْتَةٌ، فتكون تَامَّة عِنْدَه، ويَجُوز أن تكون النَّاقِصَة والخبرُ محذوف، تقديرهُ: إلا أنْ يَكُون هُنَاك مَيْتَة، وقد تقدَّم أن هذا مَنْقُولٌ عن الأخْفَشِ في قوله قبل ذلك ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ [الأنعام: ١٣٩].
وقال أبو البقاء: «ويقرأ برفع» مَيْتَةٌ «على أن تكون تامَّة، وهو ضعيف؛ لأن المَعْطُوف مَنْصُوب».
قال شهاب الدِّين: كيف يُضَعَّف قراءة مُتواتِرة؟ وأما قوله: «لأن المَعْطُوف مَنْصُوب» فذلك غير لازم؛ لأن النَّصْب على قِرَاءة مَنْ رَفَع «مَيْتَة» يكون نَسَاٌ على مَحَلِّ «أنْ تَكُون» الواقِعَة مسْتَثْنَاة، تقديره: إلاَّ أن يَكُون مَيْتَة، وإلا دماً مَسْفُوحاً، وإلاَّ لَحْم خِنْزِير.
وقال مكِّي: وقرأ أبو جعفر: «إلاَّ أنْ تكُون» بالتَّاء، «مَيْتَةٌ» بالرفع ثم قال: وكان يَلْزَم أبَا جَعْفَر أن يَقْرَأ «أوْ دَمٌ» بالرفع، وكذلك ما بَعْدَه.
483
قال شهاب الدين: هذه قِراءة ابن عامر، نَسَبَها لأبي جَعْفَر يزيد بن القَعْقاع المَدَنِي شَيْخُ نَافِع؛ وهو مُحْتَمل، وقوله: «كان يَلْزَمُه» إلى آخره هو مَعْنى ما ضَعَّفَ به أبُو البقاء هذه القراءة، وتقدَّم جواب ذلك، واتَّقَق أنَّ ابن عامرٍ يقرأ: ﴿وَإِن تَكُنْ مَيْتَةٌ﴾ بالتَّأنيث والرَّفْع وهنا كذلك.
وقرأ ابن كثير وحمزة: «تَكُون» بالتَّأنيث، «مَيْتَة» بالنَّصْب على أن اسْم «تكُونَ» مُضْمَر عَائِدٌ على مُؤنَّث أي: إلا أن يكُون المَأكُولُ أوالنَّفْسُ أو الجُثَّةُ مَيْتَة، ويجوز أن يَعُود الضَّمِير من «تكُون» على «مُحَرَّماً» وإنَّما أنَّث الفعل لتأنيث الخبر؛ كقوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن﴾ [الأنعام: ٢٣] بنصب «فِتْنَتِهم» وتأنيث «تَكُنْ».
وقرأ الباقون: «يَكُونَ» بالتَّذْكير، «مَيْتِةً» نصباً، واسم «يَكُون» يعود على قوله: «مُحَرَّماً» أي: إلاَّ أنْ يَكُون ذلك المُحَرَّم، وقدّره أبُو البقاء ومَكِّي وغيرُهما: «إلاَّ أنْ يكُون المَأكولُ»، أو «ذَلِك مَيْتَةً».
قوله: «أوء دَماً مَسْفُوحاً» «دماً» على قرءاة العامَّة: معطوفُ على خبر «يَكُون» وهو «مَيْتَة» وعلى قراءة ابن عامرٍ وأبي جعفرك معطوف على المُسَتَثْنَى، وهو «أنْ يَكُون» وقد تقدَّم تحرير ذلك.
و «مَسْفُوحاً» صفة ل «دَماً» والسَّفْحُ: الصبُّ، وقيل: «السَّيَلان»، وهو قريبٌ من الأول، و «سَفَحَ» يستعمل قاصِراً ومتعدِّياً؛ يقال: سَفَحَ زيدٌ دَمْعَه ودَمَهُ، أي: أهْرَاقَه، وسَفَح هُو، إلاَّ أن الفَرق بينهما وَقَع باخْتِلاف المَصدر، ففي المُتعدِّي يقال: سَفْح وفي اللاَّزِم يقال: سُفُوح، ومن التّعَدِّي قوله تعالى: ﴿أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ ؛ فإن اسْم المفعُول التَّامَ لا يُبْنَى إلا مِنْ مُتَعَدِّ، ومن اللُّزُوم ما أنْشَده أبو عبيدة لِكُثَيِّرَة عَزَّة: [الطويل]
٢٣٦٩ - أقُولُ وَدَمْعِي وَاكِفٌ عِنْدَ رَسْمِهَا عَلَيْك سلامُ اللَّهِ والدَّمْعُ يَسْفَحُ

فصل فيما كان محرماً بمكة


قال القرطبي: «هذه الآية الكَرِيمة مَكِّيَّة، ولم يَكُن في الشَّريعة في ذلك الوَقْت مُحَرَّم غير هذه الأشْيَاء، ثم نزلت سُورة» المائدة «ب» المدينة «وزيد في المُحَرَّمات؛ كالمُنْخَنِقَة، والموْقُوذَة والمُتَرَدِّية، والنَّطِيحَة، والخَمْر، وغير ذلك، وحرَّم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمَدِينَة أكْلَ كلِّ ذي نَابٍ من السِّبَاع، ومِخْلَب من الطِّيْر» ز
484

فصل في معنى الدم المسفوح


قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد بالدَّم المَسْفُوح: ما خَرَج من الحيوان وهي أحْيَاء، وما يَخْرُج من الأوْدَاج عن الذَّبْح، ولا يَدْخُل فيه الكَبد والطُّحال؛ لأنهما جَامِدَات وقد جاء الشَّرْع بإباحَتِهما، وما اخْتلط باللَّحم من الدَّم؛ لأنه غير سَائل.
قال عِمْرَان بن حُدير: «سألْت أبا مجلز عمَّا يَخْتَلِطُ باللَّحْم من الدَّمِ، وعن القِدْر يُرَى فيها حُمْزة الدِّمِ، فقال: لا بَأسَ به، إنما نُهِي عن الدَّمِ المَسْفُوح».
قال إبْرَاهيم: «لا بأسَ بالدَّم في عِرْق أوْ مُخَّ، إلاَّ المَسْفُوح الذي يتعمد ذلك».
قال عكرمة: «لوْلا هَذِه الآية لاتَّبع المُسْلِمُون من العُرُوق ما تَتبع اليَهُود».
وقوله: ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ أي: حَرَامٌ، والهاء «في» فإنَّه «الظاهر عَوْدُها على» لَحْمَ «المضاف ل» خَنْزير «.
وقال ابن حزم: إنها تعُود على خنزير؛ لأنه أقَرْب مَذْكُور.
ورُجِّحَ الأوَّل: بأنَّ اللَّحم هو المُحَدِّث عنه، والخِنْزير جاء بعَرْضِيَّة الإضافة إليه، ألآ ترى أنَّك إذا قُلْت:»
رأيت غُلام زَيْد فأكْرَمْتُه «أنَّ الهاء تعُود على الغُلام؛ لأنه المُحَدَّث عنه المَقْصُود بالإخْبار عنه، لا على زَيْد لأنه غير مَقْصُود.
ورُجِّح الثاني: بأن التَّحْريم المُضَاف إلى الخَنْزير ليس مُخْتَاً بلحمه، بل شَحْمه وشَعْره وعَظْمِه وظلفه كذلك، فإذا أعَدْنَا الضَّمِير على خنزير، كان وافياً بهذا المَقْصُود، وإذا أعدْنَاهُ على لحم، لم يكن في الايةِ الكريمة تَعَرُّضٌ لتَحْرِيم ما عَدَا اللَّحم ممَّا ذكر.
وأُجيب: بأنَّه إنما اللَّحْم دون غيره، - وإن كان غيره مَقْصُوداً بالتحريم -؛لأنَّه أهَمُّ ما فيه، وأكثر ما يُقْصَد منه اللَّحم كَغَيره من الحَيَوانات - على هذا فلا مَفْهُوم لتَخْصِيص اللَّحْم بالذِّكر، ولو سَلَّمَه، فإنه يكون من باب مَفْهُوم اللَّقَب، وهو ضَعِيف جداً.
وقوله:»
فإنَّهُ رِجْسٌ «إمَّا على المُبَالغَة بأن جُعِلَ نَفْسَ الرِّجْس، أو على حَذْف مضافٍ، وله نَظَائر.
قوله: «أوْ فِسْقاً»
فيه ثلاثة أوجُه:
أحدها: انه عَطْف على خَبَر «يَكُون» أيضاً، أي: إلا أن يكُون فِسْقاً. و «أهلَّ» في
485
محل نصب؛ لأنه صِفَة له؛ كأنه قيل: أو فِسْقاً مُهَلاً به لِغَيْر اللَّه، جعل العَيْن المُحُرَّمَة نَفْس الفِسْق؛ مُبَالغَة، أو على حَذْف مُضَافٍ، ويُفَسِّره ما تقدَّم من قوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ٢١]
الثاني: أنه مَنْصُوب عَطْفا على محلِّ المسْتَثْنَى، أي: إلا أنْ يكون مَيْتَة أو إلاَّ فِسْقاً، وقوله: «فإنَّه رِجْسٌ» اعْتِرَاض بين المُتعاطِفَيْن.
والثالث: أن يكون مَفْعُولاً من أجْلِه، والعَامِل فيه قوله: «أهِلَّ» مقدَّمٌ عليه، ويكون قد فَصَل بين حَرْف العَطْفِ وهو «أوْ» وبَيْن المَعْطُوف وهو اجملة من قوله: «أهِلَّ» بهذا المَفْعُول من أجْلِه؛ ونظيره في تَقْدِيم المَفْعُول له على عَامِلهِ قوله: [الطويل]
٢٣٧٠ - طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البيضِ أطْربُ وَلاَ لِعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
و «أهِلَّ» على هذا الإعْرَاب عَطْفٌ على «يكون» والضَّمِير في «به» عائدٌ على ما عَادَ عليه الضَّمِيرُ المُسْتَتِر في «يَكُون»، وقد تقدم تَحْقِيقه، قاله الزمخشري.
إلاَّ أن أبا حيَّان تعقَّب عليه ذلك؛ فقال: «وهذا إعْرَاب متكَلِّفٌ جداً، وترْكِيبُه على هذا الإعارب خارج عن الفَصَاحةِ، وغير جَائزٍ على قراءة من قرأ» إلا أنْ يكُون مَيْتَةٌ «بالرَّفْع، فيبقى الضَّمير في» به «لَيْس له ما يَعُود عليه، ولا يجوز أن يُتكَلَّف مَحْذُوف حتى يَعُود الضَّمير علي، فيكون التَّقْدير: أو شَيءٌ أهِلَّ لِغَيْر الله به، لأن مِثْل هذا لا يَجُوز إلاَّ في ضَرُورة الشِّعْر».
قال شهاب الدِّين: يَعْنِي بذلك: أنَّه لا يُحْذَف الموصُوف والصِّفَة جُمْلَةً، إلا إذا كان في الكلام «مِنْ» التَّبْعِيضيَّة؛ كقولهم «» مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَام «أي: منا فَريقٌ ظعن، ومنَّا فَرِيقٌ أقَام فإن لم يكن فيه» مِنْ «كان ضَرورة؛ كقوله: [الزجر]
٢٣٧١ - تَرْمِي بِكَفِّيْ كانَ مِنْ أرْمَى البَشَرْ... أي: بكفَّي رَجُلِ؛ وهذا رأي بَعَضهم، وأما غَيْرَه فَيَقُول: متى دلَّ على المَوْصُوف، حُذَِف مُطْلقاً، فقد يجُوز أن يَرَى الزَّمَخْشَري هذا الرَّأي.

فصل في هل التحريم مَقْصُور على هذه الأشياء؟


ذهب بَعْض أهل العِلْم إلى أن التَّحْريم مَقْصُور على هذه الأشياء؛ يُرْوَى ذلك عن عَائِشة وبان عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قالوا: ويَدْخل في المَيْتَة المُنْخَفِقَة والموْقُوذة وما
486
ذكر [في أوَّل سُورة المائدة، وأكْثَر العُلماء على أنَّ التَّحْرِيم لا يختصُّ بهذه الأشياء مما ذكر، فالمحرم بنص الكتاب ما ذكر] ههنا، وقد حرمت السُّنة أشْيَاء:
منها: ما روى ابْن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ قال:» نَهى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ من السِّباع، وكُلِّ ذي مِخْلَب من الطِّيْر «.
ومنها: ما أمر بِقَتْلِه بقوله: «خَمْس فواسِق تُقْتَل في الحِلِّ والحَرَم»
.
ومنها: ما نَهَى عن قَتْلِه؛ كنِهْيه عن قَتْل النَّحْلَة والنَّمْلة؛ فهو حَرَامٌ، وما سوى ذلك فَيُرْجَع إلى الأغْلَب فيه من عَادَات العرب، فما يأكله الأغْلَب مِنْهُم، فهو حلالٌ، وما لا يَأكُلُه الأغْلَب منهم، فهو حَرَام؛ لأن الله - تبارك وتعالى - خاطَبَهم بقوله: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ [المائدة: ٤] فما اسْتَطَابُواه فهو حلال.
وقوله: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
أباح هذه المُحَرَّمَاتِ عند الاضْطِرار في غير العُدوان، وتقدم الكلام عل نَظِيرها في البقرة.
قوله: «وَعَلى الَّذين هَادُوا» متعلَّق ب «حَرَّمْنَا» وقد يُفيد الاخْتِصاص عند بعضهم؛ كالزَّمْخَشَري والرَّازي، وقد صرّح به الرَّازي هنا، أعني: تَقْديم المَعْمُول على عَامِلهِ.
وفي «ظفُر» خمس لغات:
أعلاها: «ظُفُر» بضم الظَّاءِ والفَاءِ، وهي قرءاة العامَّة.
و «ظُفْر» بسكون العين، وهي تَخْفِيف لمَضْمُومِها، وبها قرأ الحسن في رواية وأبيُّ بن كَعْب والأعْرَج.
و «ظِفِر» بكسرا لظَّاء والفاء، ونسبها الوَاحِدي قراءة لأبي السَّمال.
و «ظِفْر» تكسر الظَّاء وسكون الفَاء، وهي تَخْفيفٌ لمكْسُورها، ونسبها النَّاس للحسن أيضاً قراءة
487
واللغة الخامسة: «أظْفُور» ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْنَا؛ وأ، شدوا على ذلك قول الشاعر: [البسيط]
٢٣٧٢ - مَا بَيْنَ لُقْمِتِهَا الأولَى إذَا انْحَدَرَتْ وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيها قِيدُ أظْفُورِ
وجمع الثُّلاثي: أظْفَار، وجمع أظْفُور: أظافير وهو القياس وأظافِر من غير مَدِّ، وليس بِقِياس؛ وهذا كقوله: [الزجر]
٢٣٧٣ - العَيْيَيْنِ والعَوَاوِر... وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك في قوله: ﴿مَفَاتِحُ الغيب﴾ [الأنعام: ٥٩].

فصل في معنى «ذي ظُفُر»


قال الواحديُّ اختلفوا في ذِي الظُّفُر: فروى عطاء عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنه الإبل فقط، ورُوي عنه أيضاً: أنَّه الإبل والنَّعَامة؛ وهو قول مُجَاهد.
قوال عِبْد اللَّهِ بْنُ مُسْلِم: «إنَّه كلُّ ذي مِخْلَبٍ من الطَّير، وكلُّ البَعِير والنَّعامة والإوَزِ والبَط؛ ثم قال: كذلك قال المفسِّرون.
وقال ابن الخطيب:»
وَسُمِّي الحافر ظفراً على الاسْتِعاَرِة «قال ابْنُ الخطيب أمَّا حمل الظُّفُر على الحَافِر فِبَعِيدٌ من وَجْهَيْن:
الأول: أن الحَافِ لا يُسَمَّى ظُفُراً.
والثاني: لو كان الأمْر كذلك، لوجب ا، ب يُقَال: إنه - تبارك وتعالى - حَرَّم عليهم كُلَّ حَيَوان له حَافِر، وذلك بَاطِلٌ؛ أن الآية تدلُّ على أنَّ الغَنَم والبَقَر مُبَاحَان لَهُم مع حُصُول الحافِر لَهُم.
وإذا ثَبَتَ هذا، فَنَقُول: وجب حَمْل الظُّفُر على المَخَالِبِ والبَرْاثِنِ؛ لأن المَخالِب آلات الجَواَرِد في الاصطِيَاد: والبرارثِن آلات السِّبَاع في الاصْطِيَاد، وعلى هذا التقدير
488
يدخل أنواع الكِلاب والسِّباع والسَّنَانِير، ويدخل فيه الطُّيُور اليت تُصْطَاد؛ لأن هذه الصِّفَة تَعْمُّهُم.
وإذا ثبت هذا؛ فنقول: قوله تعالى -: ﴿وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ تخصيصُ هذه الحُرْمَةِ بهم من وجهين:
الأول: أن قوله: «وعلى الَّذِي هَادُوا حَرَّمْنَا» كذا وكذا يفيد الحَصْر في اللُّغَة.
والثاني: أنه لَوْ كانت هذه الحُرْمَة ثابتَة في حَقِّ الكُلِّ، لم يَبْق لِقَوْله: «وعَلَى الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا» فائدة؛ فثبت أنَّ تَحْريم السِّبَاع، وذَوِي المخلَب من الطَّير مختفص باليَّهُود، فوجب ألا تكُون مُحَرَّمة على المُسْلِمِين، وعند هذا نَقُول: مَا رُوي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حرَّم كل ذِي ناب من السِّباع، وكل ذي مِخْلَب من الطَّيْر ضعيفٌ؛ لأنه خبر واحدٌ على خلاف كتابِ اللَّه، فلا يكون مَقْبُولاً، وهذا يُقَوِّي قوله مالِك في هذه المَسْألة.
قوله: «وَمَنَ البَقَرِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَعْطُوف على «كُلِّ ذي» فتتعلَّق «مِنْ» ب «حَرَّمْنَا» الأولى لا الثانية، وإنَّما جيء بالجُمْلَة الثانية مُفسِّرة لما أبْهم في «مِنْ» التَّبْعيضيَّة من المُحَرَّم؛ فقال: «حَرَّمْنَا عَلَيْهم شُحُومَهُمَا».
والثاني: أن يتعلَّق ب «حَرَّمْنَا» المُتَأخِّرة، والتقدير: وحرَّمْنا على الذين هَادُزا من البَقَر والغَنَم وشُحُومَهُمَا، فلا يَجِب هنا تَقْديم المجرُور بها على الفِعْل؛ فيقال: حَرَّمْنا عليهم شُحُوَمُهما من البَقَر والغَنَمِ؛ لئلا يَعُود الضَّمِير على متأخِّر لفظاً ورُتْبَة.
وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكُون» مِنْ البَقَرِ «متعلِّقاً ب» حَرَّمْنَا الثانية «.
قال أبو حيَّان:»
وكأنه قد توهَّم أن عَوْد الضَّمير مانِعٌ من التعَلُّق؛ إذ رُتْبَة المجرُور ب «مِن» التَّأخِير، لكن عن ماذا؛ أما عن الفعل فَمْسَلَّم، وأما عن المَفْعُول فغير مُسَلَّم «يعني: أنه إن أراد أنَّ رُتْبَة قوله:» مِنَ البَقَر «التأخير عن شُحُومَهُمَان فيصير التقدير: حرمنا عليهم شُحُومَهُما من البقر؛ فغيرمُسَلَّم، ثم قال أبو حيَّان:» وإن سَلَّمْنا أن رُتْبَته التَّأخير عن الفِعْل والمفعُول، فليس بِمَمْنُوع، بل يَجُوز ذلك كما جَازَ: «ضربَ غُلامَ المْرأة أبُوهَا» و «غُلامَ المرأة ضَرَبَ أبوها»، وإن كانت رُتْبَة المفْعُول التَّأخير، لكنه وَجَبَ هنا تَقْدِيمُه؛ لعود الضَّمِير الذي في الفاعل الذي رُتْبَتُه التَّقْديم عليه، فكيف بالمَفْعُول الذي هُو والمَجْرُور في رُتْبَةٍ واحِدَةٍ؟ أعني في كَوْنَها فَضْلَه، فلا يبالي فيهما بتَقْدِيم أيَّها شِئْت على الآخَر؛ قال الشاعر: [الطويل]
٢٣٧٤ -...................
489
وَقَدْ رَكَدَتْ وَسَطَ السَّماءِ نُجُومُهَا
فقدَّم الظَّرْف وجوباً؛ لعود الضَّمير الذي اتَّصل بالفَاعِل على المجْرُور بالظَّرْف «.
قال شهاب الدِّين:»
لقائل أن يقُول: لا نُسَلِّم أن أبَا البقاء إنما مَنَع لما ذكرت، حتى يُلْزَم بما ألْزَمْتَه، بل قَدْ يَكُون منعه لأمر مَعْنَوِيِّ «.
والإضافة في قوله: «شُحُومَهُما»
تُفِيد الدَّلالة على تأكييد التَّخْصيص والرَّبْط، إذ لو أتى في الكلام: «مِن البَقَر والغنم حرَّمْنَا عليْهم الشُّحُوم» لكان في الدَّلالة على أنَّه لا يراد إلاَّ شُحُومُ البَقَر والغَنَم؛ هذا كلام أبي حيَّان وهو بَسْط ما قاله الزَّمَخْشَري؛ فإنه قال: «ومن البَقَر والغَنَم حَرَّمْنا عليهم شُحُومَهُما» ؛ كقولك: «مِنْ زَيْد أخَذْت مَالَهُ» تريد بالإضافة زيَادة الرَّبْط.
قوله: «إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورهُمَا» «ما» مَوْصُولة في محل نَصْب على الاستِثْنَاء المُتَّصِل من الشُّحُوم، أيك إن لم يُحَرِّم الشَّحْم المَحْمُول على الظَّهْر، ثم إن شِئت جعَلْت هذا المَوْصُول نعتاً لِمَحْذُوف، أي: إلا الشَّحْم الذي حَمَلَتْهُ ظهورُهُمَا؛ كذا قدَّره أبو حيان، وفيه نظر، لأنه قد نصَّ على أنَّه بذلك غَيْرِه بذلك في مِثْل هذا التقدير: وإن شِئْت جعلْتَهُ موصُوفاٍ بشَيْءٍ محذوف، أي: إلاَّ الذي حملَتْه ظُهُورُهُما من الشَّحْم، وهذا الجَارُّ هو وَصْفٌ معنوي لا صناعي، فإنَّه لو أظْهَر كذا، لكان إعرابُه حالاً.
وقوله: «ظُهُورهما» يحتمل أن يكُون من باب قوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]، بالنسبة إلى ضَمِير [البَقَر] والغَنَم من غير نَظِر إلى جَمْعِيَّتهما في المَعْنَى، ويحتمل أن يَكُون جَمَع «الظُّهُور» لأنَّ المُضَافَ إليه جَمْعٌ في المَعْنَى؛ فهو مثل: «قَطَعْتُ رُؤُوس الخرفان» فالتِّثْنِيةَ في مثل هذا مُمْتِنِعَة.

فصل في تفسير الشحم


قال ابن عبَّاس: «إلا ما عَلِق بالظَّهْر من الشحم، فإنِّي لم أحرمهُ» وقال قتادة: «إلا ما عَلَق بالظَّهْرِ والجَنْبِ من دَاخِل بُطُونِها».
490
قال ابن الخطيب: «وأقول: لَيْس على الظَّهْر شَحْمٌ إلا اللحم الأبْيَض السَّمين المُلْتَصِق باللًّحْم الأحْمَر، وعلى هذا التقدير فذلك اللحم السَّمين الملتَصِق يكوم مُسَمَّى بالشَّحم وبهذا التقدير لو حَلَق ألاَّ يأكُل الشَّحْم، وجَبَ أن يَحْنَث إذا أكل ذلك اللَّحْم السَّمين».
قوله: «أو الحَوَايَا» في موضعها من الإعْراب ثلاثة أوجُه:
أحدها - وهو قول الكسائي: أنَّها في مَوْضع رفْع عَطْفاً على «ظُهُورُهما» أي: وإلاَّ الَّذي حملَتْه الحَوَاياَ من الشَّحْم، فإنه أيضاً غير مُحَرَّم، وهذا هو الظّاهِر.
الثانيك أنَّها في محل نَصْبٍ نَسَقاً على «شُحُومَهُمَا» أي: حَرَّمْنا عليهم الحَوَايَا أيضاً، أو ما اخْتَلَط بعَظْم، فتكون الحوايا والمُخْتَلط مُحَرَّمين، وإلى هذا ذَهَب جماعةٌ قِليلَةٌ، وتكون «أوْ» فيه كَالتَّتِي في قوله - تعالى -: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٢٤] يُراد بها: نَفْي ما يدخُل عليه بطريق الانفِرَاد؛ كما تقول: «هؤلاءِ أهْلٌ أن يُعْصَمْوا فاعْصِ هذا أو هذا» فالمعنى: حرم عليهم هذا وهذا.
وقال الزَّمَخْشَرِي: «أو بمنزلتها في قولهم: جَالِس الحسن أو ابن سيرين».
قال أبو حيَّان: «وقال النَّحْويُّون» «أو» في هذا المثال للإباحَةِ، فيجوز له أن يُجَالِسَهُمَا وأن يُجَالِس أحدهُمَا، والأحْسَن في الآية إذا قُلْنَا: إن «الحوايا» معطوفٌ على «شُحُومَهُمَا»، وأن تكون «أوْ» فيه للتفصيل؛ فصَّل بها ما حرَّم عليهم من البقر والغنم «.
قال شهاب الدِّين: هذه العِبارة التي ذكرها الزَّمَخْشَري سبقه إليها الزَّجَّاج فإنه قال: وقال قوم: حُرِّمَت عليهم الثُّرُوب، وأحِلَّ لهم ما حَمَلَت الظُّهُور، وصارت الحوايا أو ما اخْتَلَط بعَظْم نَسَقاً على ما حَرَّم لا على الاستثناء، والمَعْنَى على هذا القول: حُرِّمت عليهم شُحُومَهُمَاً أو الحوايا أو ما اختلط بعَظْمٍ، إلا ما حملت الظُّهُور فإن غير محرَّم، وأدخلت «أو» على سَبِيل الإبَاحَة؛ كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٢٤] والمعنى: كل هؤلاء أهْلٌ أن يُعْصَى فاعْص هذا أو اعْص هذا و «أو» بَلِغة في هذا المَعْنَى؛ لأنَّك إذا قُلْتَ: «لا تُطِعْ زَيْداً وعَمْراً» فجائز أن تكُون نَهَيْتَي عن طَاعَتهما معاً في حالةٍ، فإذا أطعْتُ زيداً على حَدَته، لم أكُن عَاصياً، وإذا قلت: لا تُطِع زَيْداً أو عمراً أو خالداً، فالمعنى: أن كُلَّ هؤلاءِ أهْلٌ ألاَّ يُطَاع، فلا تُطِع واحداً منهم، ولا تُطِع الجماعة؛ ومثله: جَالِس الحَسَنَ أو أبْنَ سيرين او الشَّعْبي، فليس المَعنى: أني آمُرُكَ بمجَالَسَة واحدٍ منهم، فإن جَالَسْتَ واحِداً منهم فأنْتَ مُصِيبٌ، وإن جَالَسْتَ الجماعة فأنت مُصِيبٌ.
وأمَّا قوله: «فالأحْسَنُ أن تكُون» أو «فيه للتَّفْصِيل» فقد سبقه إلى ذلك أبو البقاء
491
فإنه قال: و «أوْ» هنا بِمَعْنة الواو، لتفصِيل مذاهبهم أو لاخْتِلاف أماكمنها، وقد ذَكرَناَه في قوله: ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١٣٥].
وقال ابن عطيَّة ردّاً على هذا القول - أعين كون «الحَوَايَا نَسَقاُ على شُحُومهما -:» وعلى هذا تَدْخُل «الحَوَايَا» في التَّحْريم، وهذا قَوْلٌ لا يعضدُه لا اللَّفْظ ولا المَعْنَى بل يَدْفَعَانه «ولم يبيِّن وجْه الدَّفْع فيها.
الثالث: أن»
الحَوَايَا «في محلِّ نَصْبٍ عطفاً على المسْتَثْنَى وهو» ما ملت ظُهُورهُمَا «كأنه قيل: إلا ما حَمَلَت الظُّهُور أو الحَوَايا أو إلا ما اختَلَط، نققله مكِّ، وأبو البقاء بدأ به ثم قال:» وقيل «هو مَعْطُوف على الشُّحُوم».
ونقل الواحدي عن الفراء؛ أنَّه قال: يَجُوز أن يكُون في موضع نَصْب بتقدير حذف المضاف على أن يُريدك أو شُحُوم الحَوَايَا فَيَحذِف الشُّحُوم ويكتفي بالحوايا؛ كما قال - تعالى - ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] يريد أهلها، وحكى ابن الأنْبارِي عن أبي عبيد، أنه قال: قلت للفرَّاء: هو بمنزلة قول الشَّاعِر:
٢٣٧٥ - لا يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤنَّسُه باللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُوم والضُّوَعاَ
فقال لي: نَعَم، يذهب إلى أن «الضُّوَع» عَطْف على «النَّئِيم» ولم يُعْطَف على «البُوم» كما عُطِفت الحَوَايَا على «مَا» ولم تُعْطَفْ على الظُهُور.
قال شهاب الدِّين: فمقتضى ما حكاه ابن الأنْبَارِيِّ: أن تكون الحَوَايَا «عَطْفاً على» مَا «المسْتَثْنَاه» وفي مَعْنَى ذلك قلقٌ بيِّنٌ.
و «الحَوَايَا» قيل: هي المَبَاعِر، وقيل: المصَارين والأمْعَاء، وقيل: كل ما تَحْويه البَطْن فاجْتَمع واسْتَدَار، وقيل: هي الدَّوَّارة الَّتِي في بَطْن الشَّاةِ.
واختلف في مُفْرد «الَحَوايَا» فقيل: حَاوِيَة ك «ضَارِبة»، وقيل: حَوِيَّة ك «طَريفَة»، وقيل: حَاويَاء ك «قَاصِعَاء».
وجوَّز الفَارِسيُّ أن يكون جَمْعاً لكلِّ واحدٍ من الثلاثة، يعني: أنه صَالِحٌ لذلك، وقال ابن الأعْرَابِيِّ: هي الحَويَّة والحَاوِيَة «ولم يَذْكر الحَاويَاء. وذكر ابن السَّكِّيت الثلاثة فقال:» يقال: «حَاويَة» و «حَوَايَا» مثل «زَاوَيَا» و «رَاوِيَة» و «رَوَايَا» ومهم من يَقُول: «حَويَّة» و «حَوَايَا» ؛ مثل الحَوية التي تُوضَع على البَعِير ويُرْكَبُ فَوْفَها، ومنهم من يَقُول لواحِدَتها: «حَاوِيَاء» وأنشد قول جَرَير: [البسيط]
492
٢٣٧٦ - تَضْغُو الخَنَانِيصُ والغُولُ الَّتِي أكَلَتْ فِي حَاويَاء رَدُومِ اللَّيل مِجْعَار
وأنشد ابن الأنْبَاري: [الطويل]
٢٣٧٧ - كَأنَّ نَفِيقَ الحَبِّ فِي حَاوِيَائِهِ فَحِيحُ الأفَاعِي أوْ نَقيقُ العَقَارِبِ
فإن كان مُفْرَدُها حَاوِيَة، فوزنها فواعِلٌ؛ كَضَاربة وضَوارب ونظيرها في المُعْتَلِّ: هي عَيْن الكَلِمة هَمْزة؛ لأنها ثاني حَرْفِي لين، اكتنفا مَدّة مفَاعِل، فاستُثْقَلت هَمْزَة مكْسُورة فَقُلِبت يَاءً، فاسْتثْقِلت الكَسْرة على اليَاءِ فجُعِلَتْ فَتْحَة، فَتَحرَّك حَرْف العِلَّة وهو اليَاءُ الَّتِي هي لامُ الكملة بعد فَتْحَةٍ، فقُلِبت ألِفاً [فصارت «حَوَايَا»، وإن شِئْتَ قلت: قُلِبَت الواوُ هَمْزة مَفْتُوحة، فتحركت اليَاءُ وانفتح ما قَبْلَها فقُلبَت ألِفاً] فصارت هَمْزَة مَفْتُوحة بين ألِفين يُشْبِهَانِها فقلبت الهَمْزَة ياءً، وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا في قول: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٨] واخْتِلاف أهل التَّصْريف في ذَلِك.
وإن قلنا: إن مُفْرَدها «حَويَة» فوزنها فعائل كَطَرائف، والأصل: حَوَائي فقُلبت الهَمْزَة ياءً مَفْتُوحة، وقلبت اليَاءُ التي هِيَ لامٌ ألِفاً، فصار اللَّفْظُ «حَوَايَا» أيضاً، فالَّفْظُ مُتَّحِد والعَمَل مُخْتَلِف.
قوله: «أوْ مَا اخْتَلَطَ بَعَظْم» فيه ما تقدّم في «حَوَايَا» ورأيُ الفرَّاء فيه: أنَّه مَنْصوب نَسَاقً على «ماط المسْتَثْنَاة في قوله:» إلاَّ ما حَمَلتْ ظُهُورهُما «المُرَاد به الألْيَة.
وقيل: هو كلُّ شَحْمٍ في الجَنْب والعَيْن والأذُن والقَوَائِم، والمحرَّم الثَّرْبُ وشَحْم الكُلْيَة.

فصل


قال القرطبي: أخْبَر الله - تعالى - أنه كَتَب تَحْريم هذا عليهم في التَّوْرَاة رداً لِكَذِبهم، ونَصُّهُ فيها:»
حرّمتُ عَلَيْكم المَيْتَةَ والذَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِير وكُلَّ دابَّةٍ ليست مَشْقُوقة الحَافِر، وكل حوتٍ ليس في سَفَاسِقٌ «أي: بياضٌ، ثم نسخ الله ذلك كُلَّهُ بشريعة محمّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأباح لهم ما كان مُحَرَّماً عليهم مِنَ الحيوان، وأزال الحرج بمحمَّد - عليه السلام
493
وألزم الخليقة دين الإسلام، بحلِّة وحرمه وأمره ونهيه، فلو ذَبَحُوا أنعامهم فأكَلُوا ما أحَلَّ لَهُم في التَّوْرَاة وترَكُوا ما حرَّم عليهم فهل يحلُّ لنا؟
قال مَالِكٌ في كِتَاب محمَّد: هي مُحُرَّمة وقال في سماع» المبسوط «: هي محلَّلة؛ وبه قال ابن نافع.
وقال ابن القاسم: «أكرَهُه»
والصَّحيح حِلُّه؛ لحديث جواب الشَّحْم الذي رَوَاهُ عبد الله بمن مغفل.
قوله: «ذَلَك جَزَيْنَاهُمْ» فيه أربعة أوْجُه:
أحدهما: أنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: الأمْر ذلك، قاله الحُوفِيُّ؛ ومكِّي وأبو البقاء.
الثاني: أنه مُبْتَدأ، والخبرما بعده، والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: ذلك جَزَيْنَاهُمُوه، قاله أبو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وفيه ضَعْف؛ من حيث إنه حَذَف العَائِد المنْصُوب، وقد تقدّم ما فيه في المَائدةَ في قوله - تعالى ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] وأيضاً فقدَّر العَائِد مُتَّصِلاً، ويَنْبَغي ألا يُقدَّر إلا مُنْفَصِلاً ولكنه يَشْكُل حذفه، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في أوّل البقرة.
وقال ابن عطيَّة: «ذلك في مَوْضِع رَفْعٍ» ولم يُبَيْنْ على أيِّ الوَجْهيْن المتقدِّمَيْن، ويَنْبَغي أن يُحَمَل على الأوَّل؛ لضعف الثَّاني.
الثالث: أنه مَنْصُوب على المَصْدَر، وهو ظاهر كلام الزَّمْخَشَري؛ فإنه قال: «ذلك الجَزَاء جزيْنَاهُم وتَحْريمُ الطِّيِّبات»، وإلا أن هذا قَدْ يَنْخَدِشُ بما نقله ابن مالك، وهو أنَّ المَصْدَر إذا أشِير إليه، وجب أنْ يُتْبَع بذلك المَصْدَرُ؛ فيقال: «ضَرَبْتُ ذلِك الضَّرْبَ» و «قُمْتُ هذا القِيَامَ» ولو قُلْت: «ضَرَبْت زَيْداً ذَلِك» و «قُمْت هذا» لم يَجزْ، ذكر ذلك في الرَّدَّ على من أجَابَ عن قَوْل المُتَنَبِّي: [الكامل]
٢٣٧٨ - هَذِي، بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسا ثُمَّ انْصَرَفءتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسا
فإنهم لَحَّنوا المُتَنَبِي، من حيث إنه حَذَف حَرْف النِّدَاء من اسْم الإشَارة، إذ الأصْل: يَاهَذِي.
494
فأجابوا عنه: بأنَّا لا نُسَلِّم أن «هَذِي» مُنَادى، بل [اسْم] إشارة إلى المَصْدَر، كأنَّه قال: بَرَزْتِ هَذِي البَرْزَة.
فردّ ابن مالك هذا الجواب: بأنَّه لا يَنْتَصب اسْمٌ الإشَارة مُشَاراً به إلى المَصْدَر إلا وهو متبوعٌ بالمَصْدَر.
وإذا سُلِّم هذا فيكُون ظاهر قَوْل الزَّمَخْشَري: «إنه مَنْصُوب على المَصْدَر» مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بَيْت أبي الطَّيب، إلا أن ردّ أبن مالكٍ ليس بِصَحيح؛ لورود اسْم الإشارة مشاراً به إلى المَصْدَرِ غير مَتْبُوع به؛ قال الشاعر: [الطويل]
٢٣٧٩ - يَا عمْرُو إنَّكَ قَدْ مَلِلْت صَحَابَتِي وصَحَابَتيكَ إخَالُ ذَالكَ قَليل
قال النّحْويُّون: «ذالك» إشارةٌ إلى مَصْدَر «خال» المؤكِّد له، وقد أنْشَده هُوَ عَلَى ذلك.
الرابع: أنه مَنْصُوبٌ على أنه مَفْعُول ثانٍ قُدِّم على عَامِله؛ لأن «جَزَى» يتعدِّى لاثْنَين، والتَّقْدير: جَزيْنَاهم ذلك التَّحْريم، وقال أبُو القاء ومكِّي إنَّه في مَوْضع نَصْب ب «جَزَيْنَاهُم» ولم يُبَيِّنَا على أيِّ وَجْهٍ أنتَصَب: هل على المَفْعُول الثَّانِي أو المصدر؟

فصل في معنى قوله «جزيناهم ببغيهم»


والمعنى: إنما خَصَصْنَاهم بهذا التَّحْريم جزاءً على بَغْيِهم، وهو قتلهم الأنْبَياء، وأخْذِهم الرِّبَا، وأكْلِهم أمْوال الناس بالبَاطِل، ونظيره قوله - تعالى -: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠].
قوله: «وإنَّا لَصَادِقُونَ» مَعْمُولة مَحْذُوف، أي: لصادِقُون في إتمام جَزَائِهِم في الآخِرَة؛ إذا هو تَعْرِيضٌ بكَذبهم حَيْث قالُوا: نحن مُقْتَدُون في تَحْريم هذه الأشْيَاء بإسْرَائيل، والمعنى: الصَّادقون في إخْبَارنا عنهم ذلك، ولا يُقَدَّر له مَعْمُول، أي: من شأنِنَا الصِّدْق.
قوله: «فإنْ كَذَّبُوكَ» [الضَّمِير في «كَذَّبُوك» ] الظاهر عودُه على اليَهود؛ لأنَّهم أقرب مذكور.
وقيل: يعود على المُشْركين، لتقدُّم الكلام معهم في قوله: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٤٣] و ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ [الأنعام: ١٤٤] والمعنى: فإن كذَّبُوك في ادِّعَاء النُّبُوة
495
والرِّسَالة «فَقُلْ ربُّكُم ذو رَحْمَة واسِعَة» فلذك لا يُعَجِّل عليكم بالعُقوبة، ثم أخبرهم بما أعَدَّ لهم، من العذاب في الآخرة، و «لا يردُّ بأسه» أي إذَا جَاء الوَقْت.
وقوله: «ذُو رَحْمةٍ» جيء بِهَذه الحُمْلَة اسمِيَّة، وبقوله «ولا يُرَدُّ بأسُهُ» فِعْليَّة [تَنْبيهاً على مُبَالَغة سعَة الرَّحْمة؛ لأن الاسْمِيَّة أدلُّ على الثُّبُوت والتَّوْكيد من الفِعْليَّة.
قوله: «عن القَوْم المُجْرِمين» يحتمل أن يكُون من وَضْع الظَّاهِر موضع المُضْمَر] تنبيهاً على التَّسْجِيل عليهم بذلك، والأصل: ولا يُرَد بَأسُه عنكم.
وقال أبُو البقاء: «فإن كَذَّبُوك» شُرْطٌ، جوابه: «فَقُل رَبُّكُم ذُو رَحءمَة وَاسِعَةٍ» والتقديرُ: «فقل يَصْفَح عَنْكُم بِتَأخير العُقُوبَة» وهذا تفسير معنى لا إعراب.
496
قوله :" وَعَلى الَّذين هَادُوا " متعلَّق ب " حَرَّمْنَا " وقد يُفيد الاخْتِصاص عند بعضهم ؛ كالزَّمْخَشَري١ والرَّازي٢، وقد صرّح به الرَّازي هنا، أعني : تَقْديم المَعْمُول على عَامِلهِ.
وفي " ظُفُر " خمس لغات :
أعلاها :" ظُفُر " بضم الظَّاءِ والفَاءِ، وهي قرءاة العامَّة٣.
و " ظُفْر " بسكون العين، وهي تَخْفِيف لمَضْمُومِها، وبها قرأ الحسن في رواية وأبيُّ بن كَعْب٤ والأعْرَج.
و " ظِفِر " : بكسر الظَّاء والفاء، ونسبها الوَاحِديّ قراءة٥ لأبي السَّمال.
و " ظِفْر " : بكسر الظَّاء وسكون الفَاء، وهي تَخْفيفٌ لمكْسُورها، ونسبها النَّاس للحسن أيضاً قراءة٦.
واللغة الخامسة :" أظْفُور " ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْنَا ؛ وأنشدوا على ذلك قول الشاعر :[ البسيط ]
مَا بَيْنَ لُقْمِتِهَا الأولَى إذَا انْحَدَرَتْ *** وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيها قِيدُ أظْفُورِ٧
وجمع الثُّلاثي : أظْفَار، وجمع أظْفُور : أظافير وهو القياس وأظافِر من غير مَدّ، وليس بِقِياس ؛ وهذا كقوله :[ الزجر ]
العَيْنيْنِ والعَوَاوِر٨ ***. . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك في قوله :﴿ مَفَاتِحُ الغيب ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ].

فصل في معنى " ذي ظُفُر "


قال الواحديُّ اختلفوا في ذِي الظُّفُر : فروى عطاء عن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما- : أنه الإبل فقط٩، ورُوي عنه أيضاً : أنَّه الإبل والنَّعَامة ؛ وهو قول مُجَاهد١٠.
قوال عبْد اللَّهِ بْنُ مُسْلِم١١ :" إنَّه كلُّ ذي مِخْلَبٍ من الطَّير، وكلُّ حافرٍ من الدّواب ".
وقيل : هو كلّ ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطّير مثل البَعِير والنَّعامة والإوَزّ والبَطّ ؛ ثم قال : كذلك قال المفسِّرون.
وقال ابن الخطيب١٢ :" وَسُمِّي الحافر ظفراً على الاسْتِعاَرِة "، قال ابْنُ الخطيب١٣ أمَّا حمل الظُّفُر على الحَافِر فِبَعِيدٌ من وَجْهَيْن :
الأول : أن الحَافِر لا يُسَمَّى ظُفُراً.
والثاني : لو كان الأمْر كذلك، لوجب أن يُقَال : إنه - تبارك وتعالى- حَرَّم عليهم كُلَّ حَيَوان له حَافِر، وذلك بَاطِلٌ ؛ لأن الآية تدلُّ على أنَّ الغَنَم والبَقَر مُبَاحَان لَهُم مع حُصُول الحافِر لَهُم.
وإذا ثَبَتَ هذا، فَنَقُول : وجب حَمْل الظُّفُر على المَخَالِبِ والبَراثِنِ ؛ لأن المَخالِب آلات الجَوارِح في الاصطِيَاد، والبراثِن آلات السِّبَاع في الاصْطِيَاد، وعلى هذا التقدير يدخل أنواع الكِلاب والسِّباع والسَّنَانِير، ويدخل فيه الطُّيُور التي تُصْطَاد ؛ لأن هذه الصِّفَة تَعُمُّهُم.
وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : قوله تعالى- :﴿ وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ تخصيصُ هذه الحُرْمَةِ بهم من وجهين :
الأول : أن قوله :" وعلى الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا " كذا وكذا يفيد الحَصْر في اللُّغَة.
والثاني : أنه لَوْ كانت هذه الحُرْمَة ثابتَة في حَقِّ الكُلِّ، لم يَبْق لِقَوْله :" وعَلَى الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا " فائدة ؛ فثبت أنَّ تَحْريم السِّبَاع، وذَوِي المخلَب من الطَّير مختص باليهُود، فوجب ألا تكُون مُحَرَّمة على المُسْلِمِين، وعند هذا نَقُول : مَا رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام- حرَّم كل ذِي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مِخْلَب من الطَّيْر ضعيفٌ ؛ لأنه خبر واحدٌ على خلاف كتابِ اللَّه، فلا يكون مَقْبُولاً، وهذا يُقَوِّي قول مالِك في هذه المَسْألة.
قوله :" وَمنَ البَقَرِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَعْطُوف على " كُلِّ ذي " فتتعلَّق " مِنْ " ب " حَرَّمْنَا " الأولى لا الثانية، وإنَّما جيء بالجُمْلَة الثانية مُفسِّرة لما أبْهم في " مِنْ " التَّبْعيضيَّة من المُحَرَّم ؛ فقال :" حَرَّمْنَا عَلَيْهم شُحُومَهُمَا ".
والثاني : أن يتعلَّق ب " حَرَّمْنَا " المُتَأخِّرة، والتقدير : وحرَّمْنا على الذين هَادُوا من البَقَر والغَنَم شُحُومَهُمَا، فلا يَجِب هنا تَقْديم المجرُور بها على الفِعْل، بل يجوز تأخره على الفعل كما تقدّم، ولكن لا يجوز تأخيره عن المنصوب بالفعل ؛ فيقال : حَرَّمْنا عليهم شُحُوَمُهما من البَقَر والغَنَمِ ؛ لئلا يَعُود الضَّمِير على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبَة.
وقال أبو البقاء١٤ :" ولا يجوز أن يكُون " مِنْ البَقَرِ " متعلِّقاً ب " حَرَّمْنَا " الثانية ".
قال أبو حيَّان١٥ :" وكأنه قد توهَّم أن عَوْد الضَّمير مانِعٌ من التعَلُّق ؛ إذ رُتْبَة المجرُور ب " مِن " التَّأخِير، لكن عن ماذا ؟ أما عن الفعل فَمُسَلَّم، وأما عن المَفْعُول فغير مُسَلَّم " يعني : أنه إن أراد أنَّ رُتْبَة قوله :" مِنَ البَقَر " التأخير عن شُحُومَهُمَا، فيصير التقدير : حرمنا عليهم شُحُومَهُما من البقر ؛ فغير مُسَلَّم، ثم قال أبو حيَّان :" وإن سَلَّمْنا أن رُتْبَته التَّأخير عن الفِعْل والمفعُول، فليس بِمَمْنُوع، بل يَجُوز ذلك كما جَازَ :" ضربَ غُلامَ المرأة أبُوهَا " و " غُلامَ المرأة ضَرَبَ أبوها "، وإن كانت رُتْبَة المفْعُول التَّأخير، لكنه وَجَبَ هنا تَقْدِيمُه ؛ لعود الضَّمِير الذي في الفاعل الذي رُتْبَتُه التَّقْديم عليه، فكيف بالمَفْعُول الذي هُو والمَجْرُور في رُتْبَةٍ واحِدَةٍ ؟ أعني في كَوْنَها فَضْلَة. فلا يبالي فيهما بتَقْدِيم أيَّهما شِئْت على الآخَر ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّماءِ نُجُومُهَا١٦
فقدَّم الظَّرْف وجوباً ؛ لعود الضَّمير الذي اتَّصل بالفَاعِل على المجْرُور بالظَّرْف ".
قال شهاب الدِّين١٧ :" لقائل أن يقُول : لا نُسَلِّم أن أبَا البقاء، إنما مَنَع لما ذكرت، حتى يُلْزَم بما ألْزَمْتَه، بل قَدْ يَكُون منعه لأمر مَعْنَوِيٍّ ".
والإضافة في قوله :" شُحُومَهُما " تُفِيد الدَّلالة على تأكيد التَّخْصيص والرَّبْط، إذ لو أتى في الكلام :" مِن البَقَر والغنم حرَّمْنَا عليْهم الشُّحُوم " لكان كافياً في الدَّلالة على أنَّه لا يراد إلاَّ شُحُومُ البَقَر والغَنَم ؛ هذا كلام أبي حيَّان، وهو بَسْط ما قاله الزَّمَخْشَري ؛ فإنه قال١٨ :" ومن البَقَر والغَنَم حَرَّمْنا عليهم شُحُومَهُما " ؛ كقولك :" مِنْ زَيْد أخَذْت مَالَهُ " تريد بالإضافة زيَادة الرَّبْط.
قوله :" إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورهُمَا " " ما " مَوْصُولة في محل نَصْب على الاستِثْنَاء المُتَّصِل من الشُّحُوم، أي : إن لم يُحَرِّم الشَّحْم المَحْمُول على الظَّهْر، ثم إن شِئت جعَلْت هذا المَوْصُول نعتاً لِمَحْذُوف، أي : إلا الشَّحْم الذي حَمَلَتْهُ ظهورُهُمَا ؛ كذا قدَّره أبو حيان١٩، وفيه نظر ؛ لأنه قد نصَّ على أنَّه لا يوصف ب " ما " الموصولة وإن كان يوصف بالذي، وقد ردّ هو على غيره بذلك في مثل هذا التقدير، وإن شِئْت جعلْتَهُ موصُوفاٍ بشَيْءٍ محذوف، أي : إلاَّ الذي حملَتْه ظُهُورُهُما من الشَّحْم، وهذا الجَارُّ هو وَصْفٌ معنوي لا صناعي، فإنَّه لو أظْهَر كذا، لكان إعرابُه حالاً.
وقوله :" ظُهُورهما " يحتمل أن يكُون من باب قوله :﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [ التحريم : ٤ ]، بالنسبة إلى ضَمِير [ البَقَر ] والغَنَم من غير نَظرٍ إلى جَمْعِيَّتهما في المَعْنَى، ويحتمل أن يَكُون جَمَع " الظُّهُور " لأنَّ المُضَافَ إليه جَمْعٌ في المَعْنَى ؛ فهو مثل :" قَطَعْتُ رُؤُوس الخرفان " فالتَّثْنِيةَ في مثل هذا مُمْتنِعَة.

فصل في تفسير الشحم


قال ابن عبَّاس :" إلا ما عَلِق بالظَّهْر من الشحم، فإنِّي لم أحرمهُ " ٢٠ وقال قتادة :" إلا ما عَلَق بالظَّهْرِ والجَنْبِ من دَاخِل بُطُونِها " ٢١.
قال ابن الخطيب٢٢ :" وأقول : لَيْس على الظَّهْر شَحْمٌ إلا اللحم الأبْيَض السَّمين المُلْتَصِق باللّحْم الأحْمَر، وعلى هذا التقدير فذلك اللحم السَّمين الملتَصِق يكون مُسَمَّى بالشَّحم وبهذا التقدير لو حَلَق ألاَّ يأكُل الشَّحْم، وجَبَ أن يَحْنَث إذا أكل ذلك اللَّحْم السَّمين ".
قوله :" أو الحَوَايَا " في موضعها من الإعْراب ثلاثة أوجُه :
أحدها - وهو قول الكسائي - : أنَّها في مَوْضع رفْع عَطْفاً على " ظُهُورُهما " أي : وإلاَّ الَّذي حملَتْه الحَوَاياَ من الشَّحْم، فإنه أيضاً غير مُحَرَّم، وهذا هو الظّاهِر.
الثاني : أنَّها في محل نَصْبٍ نَسَقاً على " شُحُومَهُمَا " أي : حَرَّمْنا عليهم الحَوَايَا أيضاً، أو ما اخْتَلَط بعَظْم، فتكون الحوايا والمُخْتَلط مُحَرَّمين، وإلى هذا ذَهَب جماعةٌ قليلَةٌ، وتكون " أو " فيه كالتي في قوله – تعالى - :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ] يُراد بها : نَفْي ما يدخُل عليه بطريق الانفِرَاد ؛ كما تقول :" هؤلاءِ أهْلٌ أن يُعْصَمْوا فاعْصِ هذا أو هذا " فالمعنى : حرم عليهم هذا وهذا.
وقال الزَّمَخْشَرِي٢٣ :" أو بمنزلتها في قولهم : جَالِس الحسن أو ابن سيرين ".
قال أبو حيَّان٢٤ :" وقال النَّحْويُّون " " أو " في هذا المثال للإباحَةِ، فيجوز له أن يُجَالِسَهُمَا وأن يُجَالِس أحدهُمَا، والأحْسَن في الآية إذا قُلْنَا : إن " الحوايا " معطوفٌ على " شُحُومَهُمَا "، أن تكون " أو " فيه للتفصيل ؛ فصَّل بها ما حرَّم عليهم من البقر والغنم ".
قال شهاب الدِّين٢٥ : هذه العِبارة التي ذكرها الزَّمَخْشَري سبقه إليها الزَّجَّاج٢٦ فإنه قال : وقال قوم : حُرِّمَت عليهم الثُّرُوب، وأحِلَّ لهم ما حَمَلَت الظُّهُور، وصارت الحوايا أو ما اخْتَلَط بعَظْم نَسَقاً على ما حَرَّم لا على الاستثناء، والمَعْنَى على هذا القول : حُرِّمت عليهم شُحُومَهُمَا أو الحوايا أو ما اختلط بعَظْمٍ، إلا ما حملت الظُّهُور فإنه غير محرَّم، وأدخلت " أو " على سَبِيل الإبَاحَة ؛ كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ] والمعنى : كل هؤلاء أهْلٌ أن يُعْصَى فاعْص هذا أو اعْص هذا و " أو " بَليغة في هذا المَعْنَى ؛ لأنَّك إذا قُلْتَ :" لا تُطِعْ زَيْداً وعَمْراً " فجائز أن تكُون نَهَيْتَي عن طَاعَتهما معاً في حالةٍ، فإذا أطعْتُ زيداً على حِدَته، لم أكُن عَاصياً، وإذا قلت : لا تُطِع زَيْداً أو عمراً أو خالداً، فالمعنى : أن كُلَّ هؤلاءِ أهْلٌ ألاَّ يُطَاع، فلا تُطِع واحداً منهم، ولا تُطِع الجماعة ؛ ومثله : جَالِس الحَسَنَ أو ابْنَ سيرين أو الشَّعْبي، فليس المَعنى : أني آمُرُكَ بمجَالَسَة واحدٍ منهم، فإن جَالَسْتَ واحِداً منهم فأنْتَ مُصِيبٌ، وإن جَالَسْتَ الجماعة فأنت مُصِيبٌ.
وأمَّا قوله :" فالأحْسَنُ أن تكُون " أو " فيه للتَّفْصِيل " فقد سبقه إلى ذلك أبو البقاء٢٧ ؛ فإنه قال : و " أو " هنا بِمَعْنى الواو، لتفصِيل مذاهبهم أو لاخْتِلاف أماكنها، وقد ذَكرَناَه في قوله :﴿ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى ﴾ [ البقرة : ١٣٥ ].
وق
١ ينظر: الكشاف ٢/٧٥..
٢ ينظر: الرازي ١٣/١٨٢..
٣ ينظر: إتحاف ٢/٣٧. الدر المصون ٣/٢٠٦..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/٢٠٧، المحرر الوجيز ٢/٣٥٧..
٥ ينظر: الدر المصون ٣/٢٠٦. ، المحرر الوجيز ٢/٣٥٧، والبحر المحيط ٤/٢٤٥..
٦ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٤٥، الدر المصون ٣/٢٠٦..
٧ ينظر: اللسان (ظفر) التهذيب ١٤/٣٧٥. الدر المصون ٣/٢٠٦..
٨ البيت لجندل بن المثنى ينظر: الكتاب ٢/٣٧٤، الخصائص ١/١٩٥، المحتسب ١/١٠٧، ابن يعيش ٥/٧٠، والتصريح ٢/٢٦٩، اللسان [عور]، الدر المصون ٣/٢٠٦..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٥/٣٨٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/١٠٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس..
١٠ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٣/١٨٢) وانظر التعليق السابق..
١١ ينظر: الرازي (١٣/١٨٣)..
١٢ ينظر: الرازي ١٣/١٨٣..
١٣ ينظر: المصدر السابق..
١٤ ينظر: الإملاء ١/٢٦٤..
١٥ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٤٥..
١٦ صدر بيت لامرئ القيس وعجزه:
ركود فؤادي الرّبرب المتورق ***................
ينظر: ديوانه (١٧١)، الدر المصون ٣/٢٠٧..

١٧ ينظر: الدر المصون ٣/٢٠٧..
١٨ ينظر: الكشاف ٢/٧٥..
١٩ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٤٦..
٢٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٥/٣٨٤) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس..
٢١ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٣/١٨٣)..
٢٢ ينظر: الرازي ١٣/١٨٣..
٢٣ ينظر: الكشاف ٢/٧٥..
٢٤ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٤٦..
٢٥ ينظر: الدر المصون ٣/٢٠٨..
٢٦ ينظر: معاني القرآن ٢/٣٣١..
٢٧ ينظر: الإملاء ١/٣٣١..
قوله :" فإنْ كَذَّبُوكَ " [ الضَّمِير في " كَذَّبُوك " ] الظاهر عودُه على اليَهود ؛ لأنَّهم أقرب مذكور.
وقيل : يعود على المُشْركين، لتقدُّم الكلام معهم في قوله :﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ ﴾ [ الأنعام : ١٤٣ ]، و﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٤ ] والمعنى : فإن كذَّبُوك في ادِّعَاء النُّبُوّة والرِّسَالة " فَقُلْ ربُّكُم ذو رَحْمَة واسِعَة " فلذك لا يُعَجِّل عليكم بالعُقوبة، ثم أخبرهم بما أعَدَّ لهم، من العذاب في الآخرة، و " لا يردُّ بأسه " أي إذَا جَاء الوَقْت.
وقوله :" ذُو رَحْمةٍ " جيء بِهَذه الجمْلَة اسمِيَّة، وبقوله " ولا يُرَدُّ بأسُهُ " فِعْليَّة [ تَنْبيهاً على مُبَالَغة سعَة الرَّحْمة ؛ لأن الاسْمِيَّة أدلُّ على الثُّبُوت والتَّوْكيد من الفِعْليَّة.
قوله :" عن القَوْم المُجْرِمين " يحتمل أن يكُون من وَضْع الظَّاهِر موضع المُضْمَر ]١ تنبيهاً على التَّسْجِيل عليهم بذلك، والأصل : ولا يُرَد بَأسُه عنكم.
وقال أبُو البقاء٢ :" فإن كَذَّبُوك " شَرْطٌ، جوابه :" فَقُل رَبُّكُم ذُو رَحمَة وَاسِعَةٍ " والتقديرُ :" فقل يَصْفَح عَنْكُم بِتَأخير العُقُوبَة " وهذا تفسير معنى لا إعراب.
١ سقط في أ..
٢ ينظر: الإملاء ١/٢٦٤..
لما حكى عن أهْل الجاهِليَّة إقدامهم على الحُكْم في دين اللَّه بغير دَلِيل_ حكى عُذْرَهُم في كلِّ ما يُقْدِمُون عليه من الكُفْرِيَّات، فيقولون: لَوء شَاء الله مِنَّا ألا نَكْفُر، لمَنَعَنَا عن هذا الكُفْر، وحيث لم يَمْنَعْنَا عنه، ثبت أنه مُرِيدٌ لذلك، وإذا أراده مِنَّا، امتنع مِنَّا تركُه، فكُنَّا مَعْذُورين فيه.
واعلم أن المُعْتَزِلة اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على مَذْهَبِهم من سبعة أوجه:
أحدها: أنه - تعالى - حَكَى عن الكُفَّار صَرِيح قول المُجَبرة، وهو قولهم: «لَوْ شَاء اللَّه مِنّا ألاَّ نُشْرِك، لم نُشْرِك»، وإنَّمَا حَكَاهُ عنهم في مَعْرِض الذَّمِّ والقبح، فوجب كوْن هذا المَذْهَب مذمُوماً باطِلاً.
وثانيها: أنه - تبارك وتعالى - قال بَعْدَه: «كَذَّب» وفيه قراءتان: التَّخفيف والتثقيل.
أما قراءة التخفيف: فهي تَصْرِيح بأنَّهم قد كَذَبُوا في ذلك القَوْل، وذلك يَدُلُّ على أن قول المُجبِّرة في هذه المسْألة كذبٌ.
وأمَّا قِرَاءة التَّشْديد: فلا يمكن حَمْلُها على أن القَوْم استوجَبُوا الذَّمَّ بسبب أنَّهُم كذَّبُوا هذا المَذْهِب؛ لأنا لو حَمَلْنا الآية عليه، لكان هذا المعنى ضِدّاً للمعْنَى الذي َدُلُّ عليه قراءة «كَذَبَ» بالتَّخْفِيف، فتصير إحدى القراءَتَيْن ضِدَّ الأخْرى، وإذا بَطَل ذلك، وجب حَمْلُه على أن المُرَادِ منه: على ان كُلَّ من كذَّب نَبِيّاً من الأنْبِيَاء في الزَّمَان
496
المتقدَّم، فإنما كذَّبه بهذا الطَّريق؛ لأنه يَقُول: «الكل بِمَشِيئَة الله، فهذا الذي أنا عَلَيْه من الكُفْرِ إنما حَصَل بمشِيئَة الله - تعالى -، فلم يَمْنَعْنِي منه» وإذا حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه، صارت القِرَاءة بالتَّشْدِيد مؤكَّدة للقِرَاءَة بالتَّخْفيف، فيصير مجمُوع القِرَاءَتَيْن دالاً على إبْطَال قَوْل المُجَبَّرة.
وثالثها: قوله - تبارك وتعالى - بعده: ﴿حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ وذلك يدُلُّ على أنَّهم ساتوجبوا الوَعِيد من اللَّهِ؛ بذِهَابِهم إلى هذا الوَجْهِز
ورابعها: قوله - تعالى - بعده: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ﴾ وهذا اسْتِفْهَامٌ على وجه الإنْكَار، وذلك يدلُّ على أنَّ هذا القائل بهذا القَوْل لَيْس لَهُ فِيه حُجَّة، فدلّ على فَسَادِه؛ لأن الحقَّ على القَوْل به دَلِيل.
وخامسها: قوله - تعالى - بعده: «إنْ يَتَّبعُونَ إلاَّ الظَّنَّ» مع أنه - تعالى - ذم الظّنَّ بقوله - تعالى - ﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ [يونس: ٣٦] ونظائره.
وسادسها: قوله: ﴿وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾، والخَرْص أكبر أنواع الكَذِب، قال - تعالى -: ﴿قُتِلَ الخراصون﴾ [الذاريات: ١٠].
وسابعها: قوله - تعالى - بعده: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة﴾ وتقديره: أنَّهُم احتجوا في دَفْع دَعْوى الأنْبِيَاء على أنْفُسِهم بأن قَالُوا: كل ما حَصَلَ فَهُو بمشِيئَةِ اللَّه - تعالى -، وإذا شَاءَ اللَّه مِنَّا ذلك، فكَيْف يمكننا تَرْكُهُ؟ وإذا كُنَّا عاجِزِين عن تَرْكه، فكيف يَأمُرُنا بترْكِهِ؟ وهل في وُسْعِنا وطاقَتِنا أن نأتي بِفِعْل على خلاف مَشِيئَة اللَّه - تعالى -، فهذا هو حُجَّة الكُفَّارِ على الأنْبِيَاء، فقال - تعالى - ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة﴾ وذلك من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - أعْطَاكُم عُقُولاً كامِلَة، وأفْهَاماً وافيةً، وآذَاناً سامِعَةً، وعيوناً بَاصِرَةً، وأقدَرَكُم على الخَيْر والشَرِّ، وأزال الأعْذَار والمَوانِع بالكُلِّيَّة عنكم، فإن شِئْتُم ذهبتم إلى الخَيْرَات، وإن شِئْتُم ذهبتم إلى عَمَلِ المَعاصِي والمنْكَرَاتِ، وهذه القُدْرضةِ والمُكْنَة معلُومة الثُّبُوت بالضَّرُورَة، وزَوَال المَوانِع والعَوائِق معلوم الثُّبُوت أيضاً بالضَّرُورة، وإذا كان الأمْر كذلك، كان ادِعَاؤُكم أنّكم عَاجِزُون عن الإيمان والطَّاعة دَعْوى بَاطِلة، فَثَبَت بما ذَكَرْنا أنه لَيْس لكم، على اللَّه حُجَّة، بل لله الحجَّة البَالِغَة عليكم.
الوجه الثاني: أنكمن تَقُولون: لو كَانَت أفْعَالُنا واقِعة على خلاف مشيئَة الله - تعالى، لكنَّا قد غَلَبْنَا الله وقَهْرَنَاه، وأتينا بالفِعْل عَلَى مُضادَّتِه، وذلك يُوجِب كونه عَاجِزاً ضَعِيفاً، وذلك يَقْدَح في كونه إلهاً، فأجاب الله - تبارك وتعالى - عنه: بأن العَجْز والضَّغعْف إنما يَلْزَم إذا لم يَكُن قَادِراً [على حمْلِهِم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجاء، وأنا قَادِرٌ] على ذلك، وهو المُرَادُ من قوله: «فَلَوْ شاء لهداكم أجْمَعِين»، إلا أني لا أحْمِلكم على
497
الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجَاءِ؛ ن ذلك يُبْطِل الحِكْمَة المطْلُوبة من التَّكْلِيف، فثب بهذا البَيَان أن الَّذِي يَقُولُونه من أنَّا لو أتَيْنَا بَعمَل على خِلاف مَشِيئَة الله - تعالى - فإنه يَلْزَم منه كَوْنه - تعالى - عاجزاً ضَعِيفاً، كلام باطل.
قال ابن الخطيب: والجواب المعْتمَد في هذا الباب أن نَقُول: إن هذه السُّورة من ألوها إلى آخِرِها تدلُّ على صِحَّة قولنا ومذهبنا ونَقَلْنَا في كل آيَةٍ ما يَذْكُرُونه من التَّأوِيلاَت، وأجَبْنَا عنها بأجْوبة واضِحَةٍ قويَّةٍ مؤكَّدة بالدّلائل العَقْلِية القَاطِعَة.
وإذا ثبت هذا؛ فنقول: إنه - تبارك وتعالى - حكى عن القَوم بأنَّهم قَالُوا: «لَوْ شَاءَ اللَّه ما أشْرَكْنَا» ثم ذكر عَقِيبَه «كذلك كذَّب الذين من قَبْلِهم» فهذا يدلُّ على أن القَوْم قالوا: لمَّا كان الكُلُّ بمشِيئَة اللَّه وتقديره: «ان التَّكْلِيف عَبَثاً، فكانت دَعْوى الأنْبِيَاء باطِلة، ونُبُوِّتُهم ورسالَتُهم باطلة، ثم إن - تبارك وتعالى - بيَّن أن التَّمَسُّك بهذا الطّرَِيق في إبْطَال النُّبُوة بِاطِلٌ، وذلك لأنَّه إله يَفْعَل ما يشاء ويَحْكُم ما يُريد، ولا اعتراض لأحد عَلَيْه، فهو - تبارك وتعالى - يشاء الكُفْر من الكَافِر، ومع هذا يبْعَثُ إليه الأنْبِيَاء، ويَأمُرُه بالإيمان، وورود الأمْر على خِلاف الإرَادة غير مُمْتَنِع.
فالحاصل: أنه - تبارك وتعالى - بيَّن أن هذا الاستدلال فاسدٌ باطلٌ؛ فإنه لا يَلْزَم من ثُبُوت المشيئة للَّه في كل الأمُور على دَفْع دعْوَة الأنْبِيَاء فيكون الحاصل: أنَّ هذا الاسْتِدْلال بِاطِلٌ [وليس فيه ألْبتَّة ما يدُلُّ على أن القَوْلَ بالمشِيئَة بَاطِلٌ].
فإن قالُوا: إن هذا العُذْر إنما يَسْتَقِيم إذا قَرَأنا قوله - تعالى - «كَذِلك كذَّبَ»
بالتَّشْديد، وأمّا إذا قَرَأنَاه بالتَّخْفِيف، فإنه يَسْقُط هذا العُذْر بالكُلِّيَّة، فنقوله: فيه وجهان:
الأول: أنا نمنع صِحَّة هذه القِراءة؛ والدَّليل عليه أنّا بَينَّا أن هذه السُّورة من أولها إلى آخِرِهَا تدلُّ على قَوْلِنا، فلو كانت هذه الآية الكريمة دالَّةٌ على قَوْلهم لوقع التَّنَاقُض، ويَخْرُج القُرْآن عن كَوْنه كلاماً - لله - تعالى -، ويَنْدَفع هذا التَّنَاقُض بألا نَقْبَل هذه القرءاة.
والثاني: سلّمنا صِحَّة هذه القراءة، لكن نَحْمِلُها على أن القَوْم كَذَبُوا في أنه يَلْزَمه من ثُبُوت مَشِيئة اللَّه - تعالى - في كل أفعال العِبَاد، سُقُوط نُبُوَّة الأنْبِيَاء وبُطْلان دعوتهم
498
وإذا حَمَلْنَاه على هذا الوجه، لم يبق للمُعْتَزِلة تَمَسُّك بهذه الآية.
ومما يُقَوَّى ما ذكَرْنَاه: ما رُوِي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ قيل له بَعْد ذهاب بَصَرِه: ما تقول فيمن يَقُول: لا قَدَر؟ فقال: إن كان في البَيْت منهم أحَدٌ أتَيْتُ عَلَيه ويلهُ أما يَقُول اللَّه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُم﴾ [يس: ١٢].
وقال ابن عباس: «اول ما خَلَق اللَّه القَلَم، فقال له: اكتب، فَجَرَى القَلَم فكتب بما يكُون إلى قيام السَّاعَة» وقال - صوات الله وسلام عليه -: «المُكَذِّبُون بالقَدَرِ مَجُوسُ هذِهِ الأمِّةِ».
قوله: «وَلاَ آبَاؤُنَا» عَطْف على الضَّمِير المَرْفُوع المتَّصِل، وزعم سيبويه: أن عطف الظَّاهر على المُضْمَر المْفُوع في الفِعل قبيحٌ، فلا يَجُوز أن يُقال: «قمت وزيْد» ؛ لأن المَعْطُوف عليه أصْلٌ والعَطْف فَرْع المُضْمَر، والمُظْمَر، والمُظْهَر قويٌّ فحعله فَرْعاً للضَّعِيف لا يَجُوز، وإذا عُرِف هذا فَنَقُول: إن جَاء الكلامُ في جَانِب الإثْبَاتِ؛ وجب تَأكيد المُضْمَر فنقول: «أنا وَزيْد»، وإن جاء في جَانِب النَّفْي قلت: «ما قُمْتُ ولا زَيْد» وإذا ثَبَتَ هذا؛ فنقول: قوله: ﴿لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ فعطف قوله: «ولا آباؤُنَا» على فَاعِل الضَّمِير في قوله: «ما أشْرَكْنَا» ولم يأتِ هنا بتأكيد بِضَمِير رَفْع مُنْفَصِل، ولا فَاصِل بين المُتعاطِفَيْن اكتفاء بُوجُو «لا» الزَّائِدة للتَّأكيد فَاصِلة بين حَرْف العَطْفِ والمَعْطُوف، وهذا هو على قَوَاعِد البَصْرِيِّين، وأمّا الكُوفِيُّون فلا يَشْتَرِطُون شَيْئاً من ذلك، وقد تقدَّم إتْقَان هذه المَسْألة.
وفي هذه الآية لم يُؤكِّد الضمير، وفي آية النَّحْل أكّدَ؛ فقال تعالى: ﴿مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولاا آبَاؤُنَا﴾ [النحل: ٣٥] وهناك أيضاً قال: «مِن دُونِه» مَرَّتين وهنا قَالَها مرة واحدة، فقال أبُو حيَّان: «لأن لَفْظ» العِبَادة «يَصِحُّ أن يُنْسَب إلى إفْرَاد اللَّه بها، وهذا لَيْس بِمُسْتَنْكر، بل المُسْتَنْكِر عبادة غَيْر اللَّه، أو شيء مع اللَّه، فناسب هنا ذِكْر» مِن دُونه «مع العِبَادة، وأمّا لَفْظ» مَا أشْرَكْنَا «فالإشْرَاك يدلُّ على إثْبَات شَرِيكٍ، فلا يتركَّبُ مع هذا الفِعْل لَفْظ» مِن دُونهِ «لو كان التَّرْكِيب في غَيْر القُرْآن:» ما أشْرَكْنا من دُونه « [لم يَصِحَّ المَعْنَى.
وأمّا «مِن دُونه»
الثَّانية، فالإشْرَاك يَدُلُّ على تَحْرِيم اشْياء وتحليل أشياء، فلمْ يَحْتَج
499
إلى لفظ «مِن دُونِهِ» ] وأمّا لفظ العِبَادة فلا يَدُلُّ على تَحْرِيم شَيْءٍ كما يدلُّ عليه لفظ «أشْرَك» فَقُيِّد بقوله: «مِنْ دُونِهِ» ولما حَذَف «مِن دُونِهِ» هنا نَاسب أن يُحْذَف «نَحْن» ليطرد التَّرْكيب في التَخفيف «.
قال شهاب الدِّين:»
وفي هذا الكلام نَظَر لايَخْفَى «.
قوله:»
مِن شَيْءٍ «» مِنْ «زائدة في المَفْعُول، أي: ما حَرَّمْنا شَيئاً، و» من دُونِه «متعلِّق ب» حرّمنا «أي: ما حَرَّمنا من غير إذْنه لَنَا في ذلِك.
قوله:»
وكذالك «نعت لِمَصْدر مَحْذُوف، أي: مثل التَّكْذِيب المُشَار إليه في قوله:» فإن كَذَّبُوك «.
وقُرئ:»
كَذَب «بالتَّخْفِيف.
وقوله:»
حَتَّى ذَاقُوا «جاء به لامْتِداد التكْذيبن وقوله:» مِنْ عِلْم «يحتمل أن يَكُون مُبْتَدأ و» عِنْدَكم «خبر مُقدَّم، وأن يكون فَاعِلاً بالظَّرْف؛ لاعتماده على الاسْتِفْهام، و» مِنْ «زائِدة على كِلاَ التَّقْدِيريْن.
وقرأ النَّخْعِي وابن وثاب:»
إن يتِّبِعُون «بياء الغَيْبَة.
قال ابن عطيَّة وهذه قِرَاءة شاذَّة يُضَعِّفها قوله:»
وإنْ أنْتُم إلا تَخْرُصُونَ «يعني: أنه أتى بَعْدَها بالخِطَاب فبعُدت الغَيْبَة، وقد يُجَاب عنه بأنَّ ذلك من بَابِ الالتِفَات.
قوله:»
قُلْ فَلِلِّهِ «بين» قُلْ «وبين» فَلِلَّهِ «شيء مَحْذُوف، فقدّره الزمخشري شرطاً؛ جوابه: فِلِلَّهِ؛ قال:» فإن كان الأمر كما زَعَمْتُم من كَوْنِكُم على مشِيئَة اللَّه فللَّه الحُجَّة «.
وقدّره غيره جُمْلة اسميَّة، والتقدير: قل أنْتُم لا حُجَّة لكم على ما ادَّعَيْتُم فِللَّهِ الحُجَّة البَالِغَة عليكم، والحدة البالغة: هي التي تَقْطَعُ عذر المَحْجُوج، وتطرد الشَّكَ عمن نَظَر فيها.
قوله: ﴿فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
احتج به أهْلُ السُّنَّة على أن الكُلَّ بمشيئَة الله - تعالى -؛ لأنَّ كلمة»
لَوْ «في اللُّغة تُفيد انْتِفَاء الشَّيْ لانْتِفَا غَيْره، فدلّ هنا على أنَّه - تعالى - ما شَاءَ أن يَهْدِيهم وما هَدَاهُم أيضاً، وتَقْرِيُره بالدَّلِيل العَقْلِي: أن قُدَرَة الكَافِر على الكُفْرِ إن لَمْ تكن قُدْرَة على الإيمان، فاللَّه - تعالى - عَلَى هذا التَّقْدير ما أقْدَرَهُ على الإيمان، فلو شَاءَ الإيمان منه، فَقَدْ شَاءَ الفِعْل من غير قُدْرَةٍ على الفِعْلِ، وذلك مُحَالٌ، ومشِيئَةُ المُحَال مُحَال، وإن كانت القُدْرَةُ
500
على الكُفْرِ قُدْرَةٌ على الإيمانِ، تَوَقَّف رُجْحَان أحد الطَّرَفَيْن على حُصُول الدَّاعِية المُرَجِّحَة.
فإن قُلْنَا: إنه - تعالى - خلق تلك الدَّاعِيَة المُرَجَّحَة، مع القُدْرَة، ومَجْمُوعُهما للفعل، فَحَيْثُ لم يَحْصُل الفِعْل، عَلِمنا أن تِلْكَ الدَّاعِيَة لَمْ تَحْصُل، وإذا لم تَحْصُل، امتَنَع منه فِعْل الإيمان، وإذا امْتَنَع ذلك منه، امْتَنَع أن يُريدَه اللَّه مِنْه؛ لأن إرَادَة المُحَال مُحَالٌ مُمْتَنِع، فثبت أن ظَاهِر القُرْآن العَظيم دلّ على أنّه مَا أرَادَ الإيمان من الكَافِرِ، ولابُرْهَان العَقْلِي الذي قَرَّرْنَاهُ يدل عليه أيضاً، فَبَطَل قولُهُم من كُلِّ الوُجُوه.
فإن قالوا: نَحْمِل هذه الآيةِ على مَشِيئَة الإلْجَاءِ.
فنقول: هذا التَّأويل إنما يَحْسُون المصير إليه: لو ثَبَت بالبُرْهَان العقْلِيِّ امتِنَاع الحَمْل على [ظَاهِرِ هذا اكللام، أمّا لو قام البُرْهَان العَقْلِيُّ على] أن الحقِّ ليس إلاَّ ما دلّ عليه هذا الظَّاهِر، فكيف يُصَار إلى التَّأويل؟ ثم نقول: التأويل بَاطِلٌ لوجوه:
الأول: ان هذا الكلامَ لا بُدَّ فيه من إضْمَار، والتقدير: ولو شَاءَ اللَّه الهِدايةَ لهَدَاكُم، وأنتم تَقُولون: التقدير: لو شاء الله الهِدَاية على سبيل الإلْجَاءِ لِهَداكُم، فإضْمَارُكُم أكثر، فكَان قَوْلُكُم مرجُوحاً.
الثاني: أنه - تبارك وتعالى - يُريد من الكَافِر الإيمان الاخْتِيَاريِّ؛ والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ، غير الإيمانِ الحَاصِلَ بالاخْتِيَار، وعلى هذا التَّقدير: يلزم كَوْنُه - تعالى - عاجزاً عن تَحصِيل مرادِهِ؛ لأن مُرَادَهُ الإيمان الاخْتِيَاري، وأنه لا يَقْدِر ألْبَتَّة على تحْصِيلهِ، فكان القَوْلُ بالعَجْزِ لاَزِماً.
الثالث: أن هذا الكلام موقُوفٌ على الفَرْق بَيْن الإيمان الحاصِلِ بالاخْتِيَار، وبين الإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ.
أمّا الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يَمْتَنِع حصُولُه إلاعِنْد داعيَةٍ جَازِمَة، وإرادة لازِمَة، فإن الدَّاعية التي يترتَّبُ عليها حُصُول الفِعْل؛ إمّا أن تكون بحيث يَجِبُ ترتُّبُ الفِعْل عليها، أوْلا يَجِب، فإن وَجَبَ، فهي الدَّاعية الضَّرُوريِّة، وحينئذٍ لا يَبْقى بينها وبين الدَّوَاعِي الحَاصِلة بالإلْجَاء فَرْق، وإن لم يجب تَرَتُّب الفِعْل، فحنيئذ يُمْكِن تخلُّف الفِعْل عنها، فلْنَفْرِض تراة ذلك الفِعْل مُتَخَلِّفاً عنا، وتارة غير مُتَخَلِّفٍ، فامْتِيَاز الوَقْتَيْن عن الآخَرِ لا بُدّ وأن يَكُون لِمُرَجِّح زائدٍ، فالحَاصِل قبل ذلك ما كان تَمَام الدَّاعِية، وقد فرضْنَاه كذلك، هذا خلف، ثم انْضِمَام هذا القَيْد الزَّائِد وجب الفِعْل، لم يبق بَيْنَه وبين الضَّرُورة فرْقٌ، فإن لم يَجِب، افْتَقَر إلى قيد زَائدٍ، ولزم التَّسَلْسُل وهو مَحَالٌ؛ فَثَبَت
501
أن الفَرْق الذي ذَكَرُوه بين الدَّاعِية الاخْتِياريَّة وبين الدَّاعِيَة الضَّرُورية، وإن كان في الظَّاهر معتَبَراً، إلاَّ أنه عند التَّحْقِيق والبحث لا يبقى له مَحْصُولٌ.
502
قوله :" قُلْ فَلِلِّهِ " بين " قُلْ " وبين " فَلِلَّهِ " شيء مَحْذُوف، فقدّره الزمخشري١٣ شرطاً ؛ جوابه : فِلِلَّهِ ؛ قال :" فإن كان الأمر كما زَعَمْتُم من كَوْنِكُم على مشِيئَة اللَّه فللَّه الحُجَّة ".
وقدّره غيره جُمْلة اسميَّة، والتقدير : قل أنْتُم لا حُجَّة لكم على ما ادَّعَيْتُم فِللَّهِ الحُجَّة البَالِغَة عليكم، والحجة البالغة : هي التي تَقْطَعُ عذر المَحْجُوج، وتطرد الشَّكَ عمن نَظَر فيها.
قوله :﴿ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾.
احتج به أهْلُ السُّنَّة على أن الكُلَّ بمشيئَة الله -تعالى- ؛ لأنَّ كلمة " لَو " في اللُّغة تُفيد انْتِفَاء الشَّيْ لانْتِفَاء غَيْره، فدلّ هنا على أنَّه-تعالى- ما شَاءَ أن يَهْدِيهم وما هَدَاهُم أيضاً، وتَقْرِيُره بالدَّلِيل العَقْلِي : أن قُدرَة الكَافِر على الكُفْرِ إن لَمْ تكن قُدْرَة على الإيمان، فاللَّه -تعالى- عَلَى هذا التَّقْدير ما أقْدَرَهُ على الإيمان، فلو شَاءَ الإيمان منه، فَقَدْ شَاءَ الفِعْل من غير قُدْرَةٍ على الفِعْلِ، وذلك مُحَالٌ، ومشِيئَةُ المُحَال مُحَال، وإن كانت القُدْرَةُ على الكُفْرِ قُدْرَةٌ على الإيمانِ، تَوَقَّف رُجْحَان أحد الطَّرَفَيْن على حُصُول الدَّاعِية المُرَجِّحَة.
فإن قُلْنَا : إنه -تعالى- خلق تلك الدَّاعِيَة المُرَجِّحَة، مع القُدْرَة، ومَجْمُوعُهما للفعل، فَحَيْثُ لم يَحْصُل الفِعْل، عَلِمنا أن تِلْكَ الدَّاعِيَة لَمْ تَحْصُل، وإذا لم تَحْصُل، امتَنَع منه فِعْل الإيمان، وإذا امْتَنَع ذلك منه، امْتَنَع أن يُريدَه اللَّه مِنْه ؛ لأن إرَادَة المُحَال مُحَالٌ مُمْتَنِع، فثبت أن ظَاهِر القُرْآن العَظيم دلّ على أنّه مَا أرَادَ الإيمان من الكَافِرِ، والبُرْهَان العَقْلِي الذي قَرَّرْنَاهُ يدل عليه أيضاً، فَبَطَل قولُهُم من كُلِّ الوُجُوه١٤.
فإن قالوا : نَحْمِل هذه الآية على مَشِيئَة الإلْجَاءِ.
فنقول : هذا التَّأويل إنما يَحْسُن المصير إليه، لو ثَبَت بالبُرْهَان العقْلِيِّ امتِنَاع الحَمْل على [ ظَاهِرِ هذا الكلام، أمّا لو قام البُرْهَان العَقْلِيُّ على ]١٥ أن الحقّ ليس إلاَّ ما دلّ عليه هذا الظَّاهِر، فكيف يُصَار إلى التَّأويل ؟ ثم نقول : التأويل بَاطِلٌ لوجوه :
الأول : أن هذا الكلامَ لا بُدَّ فيه من إضْمَار، والتقدير : ولو شَاءَ اللَّه الهِدايةَ لهَدَاكُم، وأنتم تَقُولون : التقدير : لو شاء الله الهِدَاية على سبيل الإلْجَاءِ لهَداكُم، فإضْمَارُكُم أكثر، فكَان قَوْلُكُم مرجُوحاً.
الثاني : أنه -تبارك وتعالى- يُريد من الكَافِر الإيمان الاخْتِيَاريّ ؛ والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ، غير الإيمانِ الحَاصِلَ بالاخْتِيَار، وعلى هذا التَّقدير : يلزم كَوْنُه -تعالى- عاجزاً عن تَحصِيل مرادِهِ ؛ لأن مُرَادَهُ الإيمان الاخْتِيَاري، وأنه لا يَقْدِر ألْبَتَّة على تحْصِيلهِ، فكان القَوْلُ بالعَجْزِ لاَزِماً١٦.
الثالث : أن هذا الكلام موقُوفٌ على الفَرْق بَيْن الإيمان الحاصِلِ بالاخْتِيَار، وبين الإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ.
أمّا الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يَمْتَنِع حصُولُه إلاعِنْد داعيَةٍ جَازِمَة، وإرادة لازِمَة، فإن الدَّاعية التي يترتَّبُ عليها حُصُول الفِعْل ؛ إمّا أن تكون بحيث يَجِبُ ترتُّبُ الفِعْل عليها، أوْ لا يَجِب، فإن وَجَبَ، فهي الدَّاعية الضَّرُوريِّة، وحينئذٍ لا يَبْقى بينها وبين الدَّوَاعِي الحَاصِلة بالإلْجَاء فَرْق، وإن لم يجب تَرَتُّب الفِعْل، فحنيئذ يُمْكِن تخلُّف الفِعْل عنها، فلْنَفْرِض تارة ذلك الفِعْل مُتَخَلِّفاً عنها، وتارة غير مُتَخَلِّفٍ، فامْتِيَاز الوَقْتَيْن عن الآخَرِ لا بُدّ وأن يَكُون لِمُرَجِّح زائدٍ، فالحَاصِل قبل ذلك ما كان تَمَام الدَّاعِية، وقد فرضْنَاه كذلك، هذا خلف، ثم عند انْضِمَام هذا القَيْد الزَّائِد وجب الفِعْل، لم يبق بَيْنَه وبين الضَّرُورة فرْقٌ، فإن لم يَجِب، افْتَقَر إلى قيد زَائدٍ، ولزم التَّسَلْسُل وهو مَحَالٌ ؛ فَثَبَت أن الفَرْق الذي ذَكَرُوه بين الدَّاعِية الاخْتِياريَّة وبين الدَّاعِيَة الضَّرُورية، وإن كان في الظَّاهر معتَبَراً، إلاَّ أنه عند التَّحْقِيق والبحث لا يبقى له مَحْصُولٌ١٧.
قوله: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُم﴾ «هَلُمَّ» هنا اسْم فِعْلِ معنى «أحْضِروا»، و «شُهَدَاءكم» مفْعُول به؛ فإن اسْم الفِعْل يعمل عَمَلَ مُسَمَّاه من تعدِّ ولُزُوم.
واعمل أن «هَلُمَّ» فيها لُغَتان: لغة الحِجَازيِّين، ولغة التميميين:
فأمّا لغة الحِجَاز: فإنِّها فيها بصيغَةٍ واحدةٍ سواء اسْندت لمُفْرَدٍ أم مُثَنى أم مَجْمُوع أم مؤنث، نحو: هَلُمَّ يا زَيْد، يا زَيْدَان، يا زَيْدُون، يا هِنْد، يا هِنْدَان، يا هِنْدات، وهي على هذه اللّغَة عن النُّحَاةِ اسْم فِعْل؛ لعدم تغيُّرها، والتزمت العَرَب فَتْح المِيم على هذه الأفْعَال، فَيُقَال: هَلُمَّا، هَلُمُّوا هَلَمِّي، هَلُمُمْنَ.
وقال الفراء: «يقال هَلُمِّينَ يا نِسْوَة» وهي على هذه اللُّغَة فعل صَرِيحٌ لا يتصيرف؛ هذا قول الجُمْهُور، وقد خَالفَ بَعْضُهم في فِعْليَّتِها على هذه اللَّغَة؛ وليس بشيء، والتزَمَت العَرَب أيضاً فِيهَا على لُغَة تَمِيم فَتْح الميم إذا كانت مُسْندة لضيمر الواحِد المُذَكَّر، ولم يُجِيزُوا فيها ما أجَازُوا في ردِّ وشدَّ من الضَّمِّ والكَسْر.
واختلف النحويين فيها: هل هي بَسِيطَةٌ أو مركبة؟ ثم القائلون بترْكِيبَها اختلفوا فيما رُكِّبَت مِنهُ: فَجُمْهُور البَّصْريِّين على أنَّها مركَّبَة من «هَا» الَّتِي للتَّنْبِيه، ومن «الممْ» أمراً من لَمَّ يَلُمُّ، فلما رُكِّبَتا حُذِفَتْ ألِفُها لكثرة الاسْتِعْمَال، وسقطت هَمْزَة الوصْل؛ للاسْتِغْنَاء عنها بِحَرَكة الميم المنقُولة إليْهَا لأجْل الإدْغَام، وأدغمت الميمُ في الميم، وبُنيت على الفَتْح.
وقيل: بل نُقِلَت حركَةُ الميم للاَّم، فَسَقَطت الهَمْزَة للاستِغْنَاء عنها، فلّما جِيئَ ل «هَا» التي للتَّنْبيه، التقى ساكنان: ألف «هَا» واللاَّم من «لَمَّ» لأنها سَاكِنَة تقديراً، ولم يَعْتَدوا بهذه الحركَة؛ لأن حَركة النَّقْل عارِضَة، فحُذِفَت ألِف «
502
هاء» الالْتِقَاء السَّاكنيْن تقديراً.
وقيل: بل حُذِفَت ألف «هَا» لالتقاء السَّاكنين؛ وذلك أنَّه لمَّا جيء بها مع الميم، سَقَطَت هَمْزَة الوَصْل في الدرج، فالتقى ساكنان: الف «ها» ولام «الممْ» فحذفت ألف «هَا» فبقى «هَلْمُم» فنقلت حَرَكَة الميمِ إلى اللاَّم وأدْغِمَت.
وذهب بعضهم إلى أنَّها مركَّبة من «هَا» التي للتَّنْبيه أيضاً، ومن «لَمَّ» أمْراً مِنْ «لَمَّ اللَّهُ شَعْثَه» أي: جَمَعَه، والمعنى عليه في هَلُمَّ؛ لأنه بمعنى: اجمع نَفْسَك إلَيْنَا، فحذفت ألِف «ها» لكثْرة الاستِعْمَال، وهذا سَهْل جداً؛ إذا ليس فيه إلا عَمَلٌ واحِدٌ، هو حَذْفُ ألف «ها» ؛ وهو مَذْهَب الخَلِيل وسيبوَيْه.
وذهب الفرَّاء إلى أنها مركّبة من «هَلْ» التي هي للزَّجْر، ومن «أمَّ» أمراً من «الأمّ» وهو القَصْد، وليس فيه إلا عَمَلٌ واحد؛ وهو نَقْل حَرَكة الهَمْزة إلى لامِ «هَلْ» وقد رُدَّ كل واحد من هذه المَذَاهِب بما يطُولُ الكتاب بذِكْرِه من غير فَائِدة.
و «هلم» : يكون مُتَعَدِّيَة بمعنى أحْضِر، ولازمَة بمعنى أقْبِل، فَمَنْ جَعَلَها مُتعدِّية، أخذها مِنَ اللَّمِّ وهو الجمع، ومَنْ جَعَلَها قَاصِرَةً، أخذها مِن اللَّمَمِ وهو الدُّنُو والقُرْب.

فصل في المقصود بإقامة الشهداء


اعلم أنه - تبارك وتعالى - نبه استِدْعَاء إقامة الشُّهَدَاء من الكَافِرين؛ لِيُظْهِر أن لا شَاهِد لهم على تَحْرِيم ما حَرَّمُوه.
وقوله: «فإن شهدوا فلا تشهد معهم» تنْبِيهاً على كَوْنهم كاذِبين، ثم بين - تعالى - أنَّه إن وقعَت مِنْهُم تلك الشَّهَادة، فَعَنِ اتِّبَاع الهَوَى، فأنت لا تَتَّبع أهواءهم، ثم زاد في تَقْبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخِرَة، وكانوا ممَّن ينكرُون البَعْثَ والنُّشُور، ثم زَاد في تَقْبيح ذلك بأنهم يَعْدِلُون برَبِّهم، ويَجْعَلُون له شُرَكَاء - سبحانه وتعالى عما يَقُولون عُلُوَّاً كبيراً -.
503
لما بيَّن - تبارك وتعالى - فَسَادَ قَوْل الكُفَّار: «إنَّ الله حرَّم علينا كَذَا وكَذَا» أردَفَه بِيَيَان الأشْيَاءِ التي حرَّمها عليهم.
قال الزَّمَخْشَرِي: «تعال» من الخَاصِّ الذي صار عَامّاً، وأصله أن يقوله من ان في مكانٍ عال لِمَن هو أسْفل منه، ثم كَثُر وَعمَّ.
قال القرطبي: «وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ﴾ أي: تقدَّمُوا واقْرَءُوا حقّاً يقيناً، كما أوْحَى إليَّ رَبِّي، لا ظنّاً ولا كَذِباً كما زعمتم، ثم بيَّن بعد ذلك فقال: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ
503
شَيْئاً}، يقال للرِّجُل: تعال: أي: تقدّم: ويقال للمرأة: تعالي، ويقال للاثْنَيْن والاثْنَيْن: تَعَالَيَا، ولجماعة الرِّجَال: تعالَوْان ولجماعة النِّسَاء: تَعَالَيْن؛ قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ [الأحزاب: ٢٨].
وجعلوا التَّقَدُّم ضرباً من التَّعَاليِ والارتفاع؛ لأنَّ المأمُور بالتقدّم في أصل وضْعِ هذا الفِعْل، كأنه كان قَاعِداً فقيل له تَعَالَ، يا: رافع شخْصَك بالقِيَام وتقدم؛ ثم اتَّسَعُوا فيه حتى جَعَلُوه للوَاقِفِ والمَاشي؛ قال الشَّجَريّ.
قوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ في [» ما «] هذه ثلاثة أوجُه:
أظهرها: أنها مَوْصُولةٌ بمعنى»
الَّذِي «والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: الذي حَرَّمَه، والموْصُول في محلِّ نصْبٍ مَفْعُولاً به.
الثاني: أن تكون مَصْدَريَّة، أي: أتْل تَحْريم ربِّكُم، ونفس التَّحْرِيم لا يُتْلَى، وإنما هو مَصْدرٌ واقعٌ موقع المَفْعُول به، أي: أتلُ مُحَرَّمَ ربِّكم الذي حرَّمه هو.
والثالث: أنها استِفْهَاميَّة، في محلِّ نَصْبٍ ب»
حَرَّم «بعدها، وهي مُعَلقة ل» أتْلُ والتَّقْدير: أتْل أيَّ شَيْءٍ حَرّم ربكم، وهذا ضعيف؛ لأنَّه لا تُعَلَّقُ إلاَّ أفْعَال القُلُوب وما حُمِل عليها.

فصل


قال القرطبي: هذه الآية أمْرٌ من الله - تعالى - لنبِيِّه - عليه السلام - بأ، يَدْعُوَ جميع الخَلْقِ إلى سَمَاعِ تِلاوَة ما حرَّم الله - تبارك وتعالى - ن وهكذا يَجِب على من بَعْدَه من العُلَمَاء أن يبَلِّغُوا النَّاس، ويُبَيِّنُوا لهم ما حُرِّمَ عليهم مما أحِلَّ؛ قال - تعالى -: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧].
قال الرَّبيع بين خيثم لجَلِيس له: «أيَسُرُّك أن تَقْرَأ في صَحِيفَةٍ من النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُفَكَّ كِتَابُها؟ قال: نعم، قال: فاقْرَءُوا: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ إلى آخر الثَّلاث آيَاتٍ».
قال كعبُ الأحْبَار: وهذه السُّورة مفتح التَّوْرَاةِ: بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ الآية الكريمة.
قوال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هذه الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ التي ذكرها الله - تعالى - في سُورة «آل عمران» أجمعت عليها شرائِعُ الخَلْق، ولم تُنْسَخ قط في مِلَّةٍ، وقد قيل: إنَّها العَشْر كلمات المُنَزَّلة على مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
504
و «عليكم» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعَلِّق ب «حَرَّم» ؛ اختِيَار البَصْرِيِّين.
والثاني: أنه متعلِّق ب «اتْلُ» ؛ وهو اختيار الكُوفيِّين، يعني: أن المسألة من باب الإعْمَال، وقد عَرَفْت ان اختيرا البَصْريِّين إعمال الثَّاني واختيار الكوفيين إعْمَال الأوَّل.
قوله: «ألاَّ تُشْركُوا» فيه أوجُه:
أحدهما: أنَّ «أنْ» تفسيرية؛ لأنَّه تَقَدَّمَها مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه، و «لا» هي نَاهِيَة، و «تُشْركُوا» مجزوم بها، وهذا وَجْهٌ ظاهرٌ، وهو اختيار الفراء قال: «ويجُوزُ أن يكون مَجْزوماً ب» لاَ «على النَّهْي؛ كقولك:» أمَرْتُك ألا تذْهب إلى زَيْد «بالنَّصْب والجزم». ثم قال: والجَزْم في هذه الآية الكريمة أحبُّ إليَّ؛ كقوله - تبارك وتعالى - ﴿فَأَوْفُواْ الكيل والميزان﴾ [الأعراف: ٨٥] يعني: عَطْف هذه الجُمْلَة الأمْرِيَّة يُقَوِّي ما قَبَلَها نَهْي؛ ليتناسَبَ طَرفاً الكلام.
وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَري أيضاً؛ فإنه قال: «وأنْ في» ألاَّ تُشْرِكُوا «مفسِّرة،» لا «للنَّهِي» ثم قال بَعْد كلام: «فإن قُلْتَ: إذا جَعَلت» أن «مُفَسِّرة لفعل التِّلاوة، وهو مُعَلَّق بما حَرَّم ربُّكم، وجب أن يكُون ما بَعْدَه مَنْهِيَّا عنه محرّماً كُلُّهُ؛ كالشرك وما بَعْدَه مما دَخَل عليه حَرْف النَّهْي [فما تصنع] بالأوَامِرِ؟».
قال شهاب الدِّين: «لَمَّا وَرَدَت هذه الأوَامِر مع النَّواهي، وتقدمَهُنَّ جميعاً فعل التَّحْريم، واشتركْنَ في الدُّخُول تحت حُكْمه، عُلِم أن التَّحْريم راجعٌ إلى أضْدَادِها، ويه الإسَاءة إلى الوَالديْن، وبَخْسُ الكَيْل والمِيزَان، وتَرْكُ العَدْل في القَوْل، ونكْثُ العَهْد».
قال أبو حيَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «وكون هذه الأشْيَاء اشتركت في الدُّخُول تحت حكم التَّحْريم، وكون التَّحْريم راجعاً إلى أضْدَاد الأوَامِر؛ بعيدٌ جدّاً، وإلغاز في التَّعَامِي، ولا ضَرُورَة تدْعُو إلى ذلك».
قال شهاب الدين: «ما اسَتْبْعَدَهُ ليس بِبَعيد، وأين الإلغَاء والتَّعَمِّي من هذا الكلامِ حتى يَرْمِيه به».
قال ابن الخَطِيب: فإن قيل: قوله: ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَانا﴾ كالتَّفْصِيل لِما أجمله في قوله: - تبارك وتعالى -: «ما حَرَّم» وذلك بَاطِلٌ؛ لأن تَرْكَ الشِّرْك والإحْسَان بالوالِدين واجبٌ لامُحَرَّم.
والجوبا من وجوه:
505
الأول: أن المُرَاد من التَّحْريم أن يَجْعَل له حريماً معيناً، وذلك بأن بَيِّنَه بَيَاناً مَضْبُوطاً معيَّناً؛ فقوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ معناه: أتْلُ عليكم ما بَيَّنَه بياناً شَافِياً؛ بحيث يجعل له حَرِيماً مضبوطاً مُعَيَّناً، وعلى هذا الَّقدير السُّؤال زائِلٌ.
الثاني: أن الكلام تمَّ وانْقَطع عند قوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ ثم ابتدأ فقالك «عليكم ألا تشركوا».
فإن قيل: فقوله: «وبالوالدين إحسانا» معطوف على قوله ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ [فوجب أن يكون قوله: «بالوالدين إحساناً» مفسِّراً لقوله: ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ ] فلزم أن يكون الإحسان بالوَالديْن حراماً؛ وهو باطل.
قلنا لما أوجب الإحْسَان إليهما، فقدَّم تحريم الإسَاءة إليها، والله - تعالى أعْلَم.
ثم قال أبو حيَّان: وأمَّا عطف هَذِهِ الأوامِرِ فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنها مَعْطُوفة لا على المَنَاهِي قبلها، فيلزم انْسِحَاب التّحْريم عليها؛ حيث كانت في حيِّز «أنْ» التَّفْسِيريَّة، بل هي معطُوفةٌ على قوله: ﴿تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أمرهم أوّلاً بأمر يترتَّبُ عليه ذِكْرُ مَناهٍ، ثم أمَرَهُم ثانياً بأوَامِر؛ وهذا مَعْنَى وَاضِح.
والثاني: أن تكون الأوَامِر معْطُوفة على المَنَاهِي، وداخلة تحت «أنْ» التَّفْسِيريَّة، ويصِحُّ ذلك على تَقْدير محْذُوفٍ، تكون «أنْ» مُفسِرة له وللمَنْطُوق قبله الذي دَلَّ على حَذْفِه، والتَّقْدير: وما أمَرَكُم به، فحذف وما أمَرَكُم به لدِلالةِ ما حرَّم عليه؛ لأن مَعْنَى ما حرَّم ربكم: ما نَهَاكُم ربُّكم عنه، فالمعنى: تعالَوْا أتْل ما نَهَاكُم ربُّكم عنه وما أمَرَكُم به، وإذا كان التَّقْدير هكذا، صح أن تكُون «أن» تَفْسيريَّة لفِعْل النَّهْي، الدَّال عليه التَّحريم وفِعْل الأمْر المَحْذُوف، ألا ترى أنَّه يَجُوز أن تَقُول: أمرتُكَ ألا تكْرِم جَاهِلاً وأكرم عَالِماً «إذ يجوز أن يُعْطَف الأمْرُ على النَّهي والنَّهي على الأمر؛ كما قال: [الطويل]
٢٣٨٠ -................. يَقُولُونَ لا تَهِلِكْ أسى وتَجَمَّل
وهذا لا نَعْلَم فيه خلافاً، بخلاف الجمل المُتَبايِنَة بالخَبَر والاستِفْهَام والإنْشَاء؛ فإن في دواز العَطْف فيها خِلافاً انتهى.
الثاني: أن تكون»
أنْ «نَاصِبَة للفْعِل بعدها، وهي وما في حَيِّزِهَا في محلِّ نَصْبٍ بدلاً من» مَا حَرَّم «.
506
الثالث: أنها النَّاصِبة أيضاً، وهي وما في حَيِّزها بدلٌ من العَائِد المحذُوف، إذا التَّقْدير: ما حَرَّمه، وهلي في المَعْنى كالذي قَبْلَه.
و» لا «على هذهين الوَجْهَيْن زائدة؛ لئلا يَفْسُد المعنى كزِيَادَتِها شفي قوله - تعالى -: ﴿أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] و ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩] والتَّقْدير: حرّم ربُّكُم عليككم أن تُشْرِكوا.
قال أبو حيَّان:»
وهذا ضَعِيف؛ لانحصار عُمُوم المحرَّم في الإشْرَاك؛ إذ ما بعده من الأمْر ليس دَاخِلاً في المُحَرَّم، ولا ما بعدها الأمر مما فيه لا يمكن ادّعَا زِيَادة «لا» فيه؛ لظهور أنَّ «لاَ» فيه للنهْي «، ولما مكِّي كونها بَدَلاً من» مَا حَرَّم « [لم يُنَبّه على زيادة» لاَ «ولا بُدَّ منه.
وقد مَنَع الزَّمَخْشَريُّ أن يكُون بدلاً من»
مَا حَرَّمَ «] فقال:» فإن قُلْتَ: هلا قُلْت: فهي الَّتِي تَنْصِب الفْعْل، وجعلت «ألاَّ تُشْرِكُوا» بدلاً من «ما حَرَّمَ».
قلت: وجب أن يكُون: ألاَّ تُشْرِكُوا، ولا «تَقْرَبوا» و «لا تقْتُلوا» و «لا تَتّبِعُوا السُّبُلَ
نواهي؛ لانعطاف الأوَامِر الأوَامِر عليها، وهي قوله - تعالى - ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ ؛ لأن التقْدير: وأحْسِنُوا بالوالدين إحْسَاناً، وأوْفُوا وإذا قلتم فاعدلوا، وبعهد الله أوفوا.
فإن قُلْت: فما تَصْنَع بقوله: ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه﴾ [الأنعام: ١٥٣] فيمن قَرَأَ بالفَتْح؛ وإننما يستقيم عَطْفُه على «ألاَّ تُشْرِكُوا» إذا جعلْت «أنْ» هي النَّاصِبَة، حتى يكون المَعْنَى: أتْل عَلَيْكُم نَفْي الإشْرَاكِ، وأتل عَلَيْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مستَقياً؟
قلت: أجْعَلُ قوله: «وأنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقيماً» علَّةً للاتِّبَاع بتقدير اللام؛ كقوله ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾ [الجن: ١٨] بمعنى: واتَّبْعُوا صراطِي، لأنَّه مسْتَقِيمٌ، أو: واتِّبِعُوا صِرَاطي أنَّه مُسْتَقيم «.
واعترض عليه أبُو حيَّان بعد السُّؤال الأوّل وجوابه، وهو:»
فإن قلت: «هلاَّ قُلْت هي النَّاصِبَة» إلى: و «وبِعْهْد الله أوْفُوا» فقال: لا يَتَعَيِّنُ أن تكُون جِمِيع الأوَامِر معطُوفَة على ما دخل عليه «لا» لأنَّا بيَّنَّا جواز عَطْفِ «وبالوَالِدَيْن إحْساناً» على «تَعَالَوْا» وما بَعْدَه معطوف عليه، ولا يكون قوله «» وبالوَالِدَيْن إحْسَاناًط معطوفاً على «ألا تُشْرِكُوا».
الرابع: أن تكون «أنْ» النَّاصِبة وما في حَيِّزها مَنْصُوبة على الإغْرَاء بأ «عَلَيْكُم»، ويكون الكلامُ الأوَّل قد تمَّ عند قوله: «رَبُّكُم»، ثم ابْتَدأ فقال: عَلَيْكُم ألاَّ تُشْرِكوا، أي:
507
ألزَمُوا نفي الإشْراك وعدمه، وإكان ذَكَرَه جماعةٌ كما نقله انب الأنْبَاريِّ - ضَعِيفٌ؛ لتفك التركيب عن ظَاهِرهِ؛ ولأنه يَتَبَادَر إلى الذِّهْنِ.
الخامس: أنها وما فِي حيِّزها نَصْب أو جرِّ على حَذْف لام العِلَّة، والتقدير: أتْلُ ما حرَّم ربُّكم عليكم لِئَلا تُشْرِكُوا، و [هذا] مَنْقُول عن أبِي إسْحَاق، إلا أن بَعْضَهم استَبْعَدَه من حَيْث إن ما بَعْدَه أمرٌ مَعْطُوف بالواو، ومناهٍ معطوفة بالواوِ أيضاً، فلا يُنَاسِب أن يكون تبييناً لما حرَّم، أمَّا الأمْرفمن حيثُ المعنى، وأمّا المناهِي فمن حيثُ العَطْف.
السادس: أن يكون هِي وما بَعْندَها في محلِّ نصب بإضمار فِعْل، تقديره: أُوصِيكم ألاَّ تُشْرِكُواح لأن قوله ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ محمولٌ على أوصِيكُم بالوَالدَيْن إحْسَاناً، وها مذهب أبي إسْحَاق ايضاً.
السابع: أن يكون «أنْ» وما في حيِّزها في مَوْضع رَفْع على أنها خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: المُحَرَمُ ألاَّ تُشْرِكُوا، أو المَتْلُوُّ ألا تشركوا، إلا أن التَّقْدِير بنحو المَتْلُو أحْسَن؛ لأنه لا يُحْوِج إلى زِيَادة «لا»، والتقدير بالمحَرَّم ألاَّ تشركوا، يُحْوِج إلى زِيَادتِها لئلا يَفْسُد المَعْنَى.
الثامن: أنها في مَحَلِّ رفْع أيضاً على الابْتِدَاء، والخبر الجَارُّ قبله، والتقدير: علَيْكُم عَدَمُ الإشراكش، ويكون الوَقْفُ على قوله: «رَبُّكم» كما تقدَّم في وجْه الإغْراءِ، هذا مذهب لأبي بَكْر بن الأنْبَاري؛ فإنه قال: «ويجُوز ان يكُون في مَوْضِع [رفع] ب» على] كما تقول: «كُتِبَ عليكم الصيَام والحَجُّ».
التاسع: أن يكون في مَوْضِع رفع بالفَاعِليَّة بالجَارِّ قبلها، وهو ظَاهِر قول ابن الأنْبارِيِّ المتقدِّم، والتقدير: استَقَرَّ عليكم عَدَم الإشْرِاك.
وقد تحصَّلت في محلِّ «ألاَّ تُشْرِكُوا» على ثلاثة أوْجُه: الرَّفْع، والنَّصْب، والجرِّ: فالجَرُّ من وجْه واحدٍ، وهو أن يكُون على حَذْفِ حَرْف الجرِّ على مَذْهِب الخَلِيل والكسَائيّ، والرفع من ثلاثة أوْجُه، والنَّصْبُ من سِتَّة أوْجُه، فمجموع عَشَرة أوْجُه تقدم تَحْرِيرُها.
و «شيئاً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَفْعُول به.
والثاني: أنه مصدر، أي: إشْرَاكاً، أي: شَيْئاً من الإشْرَاكِ.
وقوله: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ تقدم تَحْرِيره في البقرة [الآية ٨٣].
قوله - تعالى - ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ الإحْسَانُ إلى الوالِدَيْن: بِرُّهُما وحِفْظُهما،
508
وإمْتِثَال أمرهما، وإزالة الرِّقِّ عَنْهُما، و «إحْسَانَا» نصْب على المصْدر، وناصِبُه فعل مُضْمَر من لَفْظِه، تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدَيْن إحْسَاناً.
قوله: «مِنْ إمْلاقٍ» «مِنْ» سَبَيَّة متعلِّقة بالفِعْل المَنْهِيِّ عنه، أي: «لا تَقْتُلوا أوْلادَكُم لأجْل الإمْلاقِ».
والإملاق: الفَقْر في قول ابن عبَّاس.
وقيل: الجوع بلغة «لخم»، نقله مؤرج.
وقيل: الإسْرَاف، أمْلق أي: أسْرف نَفَقَتِه، قال محمد بن نعيم اليزيدي.
وقيل: الإنْفَاق، أملق ماله أي: أنفقه، قال المُنْذِر بن سَعِيد، والإملاق: الإفْسَاد أيضاً، قاله [شمر] قال: «وأمْلَقَ يكون قَاصِراً ومتعدِّياً، أملق الرَّجُل: إذا افْتَقَر هذها قَاصِرن وأمْلَق ماعِنْدَه الدَّهْر، أي: أفْسَدَه» وأنشد النَّضْر بن شيمل على ذلك قَوْل أوْسِ بن حَجَر: [الطويل]
٢٣٨١ - ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ فَيَّدَ نَائِلِي وَأمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ
أي: تَذْهَب بالمَالِ، «تَنَبَّلَتْ بما عِنْدي» : أي ذهبت به، معنى الآية الكريمة: لا تَقْتُلوا أولادكم خَشْيَة العَيْلَة.
وفي هذه الآية الكريمة قال: طنحن نَرْزُقُكم وإيَّاهُم «فقدَّم المُخَاطبين، وفي» الإسراء «: قدّم ضَمِير الأولاد عليهم: فقال:» نحن نَرْزُقُهُم وإيَّاكُم «فقيل: للتَّفَنُّنِ في البلاغة.
وأحسن منه أن يقال: الظَّاهِر من قوله:»
مِنْ إمْلاقٍ «حصُول الإمْلاق للوَالِد لا توقُّعُه وخشْيَتُه، فبُدِئ أوَّلاً بالعَدَةِ برزق الآبَاء؛ بشَارة لَهُم بزَوَال ما هُم فيه من الإمْلاق.
وأمّا في آية»
سبحان « [الإسراء: ١] فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حُصُول الفَقْر؛ ولذلك قال: خَشْيَةَ إمْلاق، وإنما يُخْشَى الأمُور المُتَوَقَّعَة، [فبدأ فيها بِضَمَان رِزْقَهم، فلا مَعْنَى لقتلكم إيَّاهم، فهذه الآية تُفِيد النَّهْي] للآباء عن قَتْل الأولاد، وإن كانوا مُتَلَّبِّسِين بالفَقْر، والأخْرَى عن قَتْلِهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يَخًافُون وُقُوع الفَقْر، وإفادة معنى جَدِيدٍ أوْلى من ادِّعاء كون الآيَتَيْنِ معنى واحدٍ للتَّأكِيد.

فصل في حكم العزل


قال القرطبي: استدل بَعْضُهم بهذه الآية الكريمة على منع العَزْلِ؛ لأن قتل الأولادِ رفع للمَوْجُود، والعَزْل منعٌ لأصْل النَّسْل فتشابهان إلا أن قَتْل النَّفْس أعظمُ وِزْراً، وأقبحُ فِعْلاً، ولذلك قال بعض العلماء: إنه يُفْهم من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:»
لا عَلَيْكُم في
509
العَزْل الوَأد الخَفِيّ «الكراهة لا التَّحْرِيم، وقال به جماعة من الصَّحابة وغيرهم، وقال بإبَاحَتِه أيضاً جماعة من الصَّحابة والتَّابعين والفُقَهاء؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا فإنِّمَا هُو القَدَر «أي: ليس عَلَيْكُم جُنَاحٌ في ألا تَفْعَلُوا».
وقال جابر: «ما ظَهَرَ مِنْهَا وما بَطَن» في محلِّ نصب بدَلاً من الفواحِشِ بدل اشْتمالَ]، أي: لا تقْرَبُوا ظاهِرهَا وباطنها؛ كقولك: ضَرْبتُ زَيْداً ما ظهر مِنه وما بَطَن، ويجوز أن تكُون «مَنْ» بدل البَعْض من الكُلِّ.
و «منها» متعلِّقٌ بمَحْذُوف؛ لأنه حال من فاعل «ظَهَر» وحذف «منها» بعد قوله «بطن» لدلالة قوله «مِنْهَا» في الأوَّل عليه، قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «كانوا يَكْرَهُون الزِّنَا علانية وسِرّاً».
وقال الضَّحَّاك: «ما ظهر: الخمر، ومابطن الزنا» والأولى أ، يُجْرَى النَّهْي على عُمُومه في جَمْيع الفواحِشِ، ظاهر وباطها، لا يُخَص بنوع مُعَيَّن.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ الآية.
فقوله: «إلاَّ بالحقِّ» في محلِّ نَصْب على الحالِ من فاعل «تَفْتُلُوا» أي: لا تَقْتُلُوا إلاَّ مُتَلَبِّسِين بالحق، ويَجُوز أ، يكون وَصْفاً لمصدر مَحْذُوف، أي: إلاَّ قَتْلاً متلَبساً بالحقِّ، وهو أن يكون القَتْل للقِصَاصِ، أو للرِّدَّة أو للزنا بشرطة، كما جاء مبنياً في السُّنَّة.
510
قال القرطبي: وتَارك الصَّلاة، ومَانِع الزَّكَاة، وقد قتل الصَّدِّيق مانع الزَّكَاة، وقال - تعالى - ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
قوله: «ولا تَقْتُلُوا» هذه شبيه بذكر الخاصِّ بعد العامِّ اعتناءً بِشَأنهِ؛ لأن الفَواحِش يَنْدَرج فيها قَتْل النَّفْس، فجرَّد منها هذا اسْتِفظَاعاً له وتَهْويلاً؛ ولأنَّه قد استَثْنَى منه في قوله: «إلاَّ بالحقِّ» ولو لم يَذْكر هذا الخَاصَّ، لم يَصِحَّ الاستِثْنَاء من عُمُوم الفَوَاحش، لو قيل في غَيْر القُرآن العظيم: «لا تَقْرَبُوا الفواحش إلا بالحقِّ» لم يكن شيئاً.
قوله: «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ به» في الجُمْلَة الفِعْليَّة بعده.
والثاني: أنه في محلِّ نصب بفعل مُقدَّر من مَعْنَى الفِعْل المتأخر عنه، وتكون المَسْألة من باب الاشْتِغَال، والتقدير: ألزَمَكُم أو كَلَّفَكُم ذلك، ويكون «وصَّاكُمْ بِهِ» مفسِّراً لهذا العَامِل المقدَّر؛ كقوله - تعالى -: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الإنسان: ٣١] ونَاسَب قوله هنا: «لَعَلَّكُم تَعْقِلُون» لأن العقل مَنَاط التَّكْليف والوَصيَّة بهذه الأشْيَاء المَذْكُورة.
511
هذا استثناء مُفَرّغ أي: لا تَقَرَبُوه إلا بالخَصْلَة الحُسْنَى، فيجُوزُ أن يَكُون حالاً، وأن يَكُون نَعْتَ مَصْدَر، وأتى بصيغة التَّفْضِيل؛ تنبيهاً على أنَّه يتحرَّى في ذلك، ويَفْعَل الأحْسَن ولا يَكْتَفي بالحَسَن.
قوله: «حَتَّى يَبْلُغ» هذه غاية من حَيْث المَعْنَى، فإن المَعْنى: احْفَظُوا ماله حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ، [ولو جَعلْنَاه غاية للَّفْظِ، كان التقدير: لا تَقْرَبُوه حتى يَبْلُغ] فاقربوه، ولَيْس ذلك مُرَاداً.
511
قال القرطبي: «وليس بُلُوغ الأشُدِّ مما يُبِيحُ به قُرْب ماله بغير الأحْسَن؛ لأن الحُرْمَة في حقِّ البَالِغ ثابِتَةٌ، وخصَّ اليتيم بالذِّكر؛ أن خَصِيمَهُ الله - تعالى - والمعنى لا تَقْرَبُوا مال اليَتيم إلا بالَّتِي هي أحْسَن على الأبَدِ حَتِّى يَبْلُغ أشُدَه، وفي الكلام حَذْف تقديره: فإذا بَلَغَ أشُدَّه وأنِس منه الرُّشْد، فادْفَعُوا إليه مَاله».
والأشُدُّ: اختلف النَّحْويُّون فيه على خمسة أوجه:
فقال الفرَّاء: «هو جمع لا وَاحِد له، والأشُدُّ واحدُها» شَدٌّ «في القياس، ولم أسْمَع لها بِوَاحدٍ».
وقيل: هو مُفْرَدٌ لا جمع، نقل ابن الأنْبَاري ذلك عن بعض أهْل اللَّغَة، وأنه بِمَنْزلة «الآنُك» ونقل أبو حيَّان عنه: أن هذا الوَجْه مُخْتَاره في آخرين، ثم قال: «ولَيْ بمختارٍ؛ لفقدان أفْعُل في المُفْرَادَات وضعاً».
وقيل: هو جَمْع «شدَّة» و «فِعْلَة» يُجْمَع على أفْعُل «؛ كنِعْمَة وأنْعُم، قال أبو الهَيْثَم، وقال: و» كأن الهَاءَ في الشِّدَة والنِّعْمَة لم تكن في الحَرْف، إذا ان زَائِدَة، وكان الأصلُ نِعْم وشِدّ فَجُمِعَا على «أفْعُل» ؛ كما قالوا: رِجْل وأرْجُل، وقِدْح وأقْدُح، وضِرْس وأضْرُس «.
وقيل: هو جمع شُدّ [بضم الشِّين نقله ابن الأنْبَاري عن بعض البَصْرِيِّين؛ قال: كقولك: هو وُدُّ، وهم أوُدُّ].
وقيل: هو جمع شَدّ بفتحها، وهو مُحْتَمل.
والمراد هُنَا ببلوغ الأشد: بُلُوغ الحُلُم في قَوْل الأكْثَرِ؛ لأنه مَظِنَّة ذلك.
وقيل: هو مَبْلَغ الرِّجَال من الحِيلة والمَعْرِفة. وقيل: هو مَبْلَغ خمسة عشر إلى ثلاثين.
وقيل: أن ثلاثة وثلاثين.
وقيل: أرْبَعِين.
وقيل: سِتِّين، وهذه لا تَلِيق بهذه الآيةِ، إنما تليق بقوله - تعالى -: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: ١٥] وتقدم منه طرف في النساء.
والأشُدُّ مشتق من الشِّدَّة؛ وهي القُوَّة والجلادة، وأنشد الفرَّاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: [البسيط]
512
وقال الآخرُ في ذلك: [الكامل]
٢٣٨٢ - قَدْ سَادَ وهو فَتَى حَتَّى إذَا بَلَغَتْ أشُدُّهُ وعَلاَ فِي الأمْرِ واجْتَمَعَا
٢٣٨٣ - عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارُ كأنَّمَا خُضِبَ البَنَانُ وَرَأسُهُ بِالعظْلمِ
قوله:» وأوفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ «» الكيل والميزان «هما الآلة التي يُكال بها ويُوزَن، وأصْل الكَيْل: المصْدَر ثم أطْلِق على الآلة، و» الميزان «: مْفَاعل من الوزن لهذه الآلةِ؛ كالمِصْبَاح والمقياس لِمَا يُسْتَصْبَحُ به، وما يُقاسُ به، وأصل ميزان: مِوْازن فَفُعِلَ به ما فُعِلَ بِميقاتٍ، وقد تقدم في البقرة.
و «بِالقِسْطِ»
حال من فَاعِل «أوْفُوا» أي: أوْفُوهُمَا مقسطين، أي: مُتَلَبِّسِين بالقِسْط، ويجُوز أن يكون حالاً من المفعُول، أي: أوْفُوا الكَيْل والميزان مُتَلَبِّسِين بالقِسْطِ، أي: تَامِّين، والقِسْط العدل.
وقال أبو البقاء: «والكيْل هنا مَصْدر في مَعْنَى المَكِيل، وكذلك الميزان، ويجُوز أن يكون فيه حَذْفُ مُضَافٍ، تقديره: مَكِيل الكَيْلِ ومَوْزُونُ المِيزانِ»، ولا حاجة إلى ما ادِّعَاء من وُقُوع المصدر موقع اسْمِ المفعُول، ولا من تقدير المضاف؛ لأن المعنى صحيح بدُونهما، وأيضاً ف «ميزن» ليس مصدراً، إلا أنه يُعَضِّد قوله ما قاله الوَاحِديُّ، فإن قال: «والميزن، أي: وزن الميزان؛ لأن المُرَاد إتْمَام الوَزْن، لا إتمام الميزان؛ كما أنَّه قال:» وأوْفوا الكَيْل «ولم يقل المِكْيَال، فهو من بابِ حَذْف المُضَافِ» انتهى.
والظَّاهر عدم الاحْتِيَاج إلى ذلك، وكأنَّه لم يَعْرِف أن الكَيْل يُطْلَق على نَفْس المِكْيَال، حتى يقول: «ولم يقل المكيال».
قوله: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْسا﴾ مُعْتَرض بين هذه الأوَامِر، واعلم أنَّ كُلَّ شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتَمَّم، يقال: درْهَم وافٍ وكيل وافٍ، وأوْفَيْتُه، إذا أتممته، وأوْفَى الكيل، إذا أتَمَّهُ ولم يَنْقُص منه شَيْئاً، وكذلك وَفَى المِيزَان.
وقوله: «بالقسط» أي: بالعَدْل لا بخْس ولا نُقْصَان فيه.
فإن قيل: «أوفُوا الكَيْل والمِيزَان» هو عين القِسْط، فما فَائِدة التكرير؟
فالجواب: أن اللَّه - تبارك وتعالى - أم المُعْطِي بإيفاءِ ذي الحقّ حقَّه من غير نُقْصَانٍ، وأمر صَاحِبَه أن يَأخُذ حقَّهُ من غير طلب زِيَادة، ولما كان يَجُوز أن يَتَوَهَّم الإنْسَان أنه يَجِب على التَّحقِيق، وذلك صَعْقبٌ شديدٌ في العَدْل، أتْبَعَهُ الله - تعالى - بما يُزِيُل هذا التَّشْدِيد، فقال: «لا نُكَلِّف نَفْساً إلاَّ وُسْعَها»، أي: الوَاجب [في إيفَاءِ] الكيْل
513
والوَزْنِ هو القَدْر المُمْكِن، إمَّا فغير وَاجِبٍ.
قال القرطبي - رحمها لله تعالى -: في مُوَطأ مالكٍ عن يَحْيَى بن سَعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ أنه بلغه عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ أنه قال: «ما ظَهَر الغُلُول في قَوْم قطّ إلا ألْقَى اللَّه في قُلُوبِهم الرُّعْب؛ ولا فَشَا الزِّنَا في قَوْم إلاَّ كَثُر فيهم المَوْت، ولا نَقَصَ قَوْم المِكْيَال والميزان إلا قطعَ عنْهُم الرِّزق، ولا حَكَمَ قَوْم بغير الحقِّ إلا فَشَا فيهم الدَّم، ولا قولم بالعهد إلا سُلِّطَ عليهم العَدُوُّ».
وقال ابن عبَّاس: إنكم مَعْشر الأعاجم قد وليتم أمْرَيْن بهما هلك من كان قبلكم، الكَيْل والميزان

فصل


قال القاضي: «إذا كان الله - تعالى - قد خف على المُكَلَّف هذا التخفيف، مع أنه ما هُو التَّضْيِيقُ مَقْدُورٌ له، فكيف يَتَوهَّمُ متوَهَّمٌ أنه - تبارك وتعالى - يكلف الكَافِر الإيمان مع أنَّهُ لا قُدْرَة له عليه؟ بل قالوا: إن الله - تعالى - يَخْلُقُ الكُفْر فيه، ويُريد منه ويَحْكُم به عليه، ويخلق فيه القُدْرَة الموجِبَة لذلك الكُفْر والدَّاعِية الموجِبَة له، ثم يَنْهَاه عنه، فهو - تعالى - لمًّا لم يُجَوِّز ذلك القَدْر من التَّشْديد والتَّضْييق على العَبْد، وهو إيفاء الكَيْل والوَزْن على سبيل التَّخْفِيف، فكيف يَجُوز أن يُضَيِّق على العَبْد مثل هذا التَّضْييق والتَّشْدِيد؟
وجوابه: المُعَارضة بمَسْألة العِلْم والدَاعي.
قوله: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا﴾
حمله المُفَسِّرون على أدَاءِ الشَّهَادة والأمْر والنَّهي.
قال القاضي «وليس الأمْر كذلك، بل يَدْخُل فيه كُلُّ ما يتصل بالقَوْل من الدَّعْوة إلى الدِّين، وتَقْرير الدَّلائل عليه، ويَدْخُل فيه أن يكُون الأمْر بالمَعْرُوف والنَّهِي عن المنكر وَاقِعاً على الوَجْه بالعَدْل من غير زِيَادة في الإيذَاء والإيحَاشِ، ونُقْصَان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحِكَايات التي يَذْكُرها الرَّجُل حتى لا يَزيد فيها ولا يَنْقُص عنها، ومن جملتها تَبْلِيغ الرِّسالات النَّاسَ وحكم الحَاكِم، ثم إنه - تبارك وتعالى - بيَّن أنه يَجِبُ أن يُسَوَّى فيه بين القَريب والبَعيد، فقال:»
ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى «؛ لأن المَقْصُود منه طلب رضوان الله - تعالى -، وذلك لا يَخْتَلف بالقُرْب والبُعْد، ولو ان المقُولُ له والمَقول عليه ذَا قُرْبَة.
قوله:»
وبِعَهْد اللَّهِ «يجُوزُ أن يكُون من بابِ إضافَةِ المصدر لفاعله، أي: بما
514
عَاهَدَهكم اللَّهُ عليه، وأن يكُون [مُضافاً لمفعُوله، أي: بما عاهدتم اللَّه عليه؛ كقوله: ﴿صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣] ﴿بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ﴾ [الفتح: ١٠] وأن تكون] الإضافة لمجرد البيان، أُضَيفَ إلى اللَّه - تعالى - من حَيْثُ إنه الآمِرِ بِحِفْظِهِ والمراد به العَهْد الواقع بين الآيَتَيْن.
فإن قيل: ما السَّبَبُ في أن خَتْمَ الآية الكريمة بقوله:» تَذَكَّرُون «وخاتمة الأولى» تَعْقِلُونَ «.
فالجواب لأن الأربعة قَبْلَها خَفِيَّة، تحتاج إلى إعمال فِكْر ونظر، حتى يقف مُتَعاطيها على العَدْل، فناسبها التذكير، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة تعلقها وتَفْهَمُها؛ فلذلك ختمتْ بالفعل.
»
تَذَكرُون «حيث وَقَع، يقرؤه الأخوان وعَاصِم في رواية حَفْصِ بالتَّخْفِيف، والباقون بالتَّشْدِيد، والأصْل:» تَتَذَكِّرُون «فمن خَفَّف، حذف إحْدى التَّاءَيْن، وهل هِي تاءُ المُضراعة أو تاء التَّفْعُل؟ خلاف مَشْهُور، ومن ثقَّل، أدْغَم التَّاء في الدَّال.
515
قوله: «وأنَّ هَذَا» قرأ الأخوان: بكَسْر «إنّ» على الاسْتِئْنَاف أو يكون «أتل» بمعنى: أقول إن هذا، و «فاتبعوه» جملة معطوفة على الجُمْلَة قَبْلَها. وهذه الجملة الاستِنئْنَافيَّة تفيد التَّعْلِيل لقوله: «فاتَّبِعُوه»، ولذلك اشْتَشْهَد بها الزَّمَخْشَري على ذلك كما تقدَّم، فعلى هذا يَكُون الكلام في الفاء في «فاتَّبِعُوهُ» كالكلام فِيهَا في قِرَاءة غيرها، وسيأتي.
وقرأ بان عامر: «وأنْ» بفتح الهمزة وتخفيف النون، والباقون بالفتح أيضاً والتَّشْدِيد.
فأمَّا قرءاة الجماعة ففيها أربعة وُجُوه:
أحدها: وهو الظَّاهِر -: أنها في محلِّ نصب نسقاً على ما حرَّم، أي: أتْل ما حرَّم،
515
وأتل أنْ هذا صِرَاطي مُسْتَقِيماً، والمراد بالمُتَكَلِّم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه صِرَاطَه صِرَاط اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، وهذا قول الفرَّاء - قال: «بفَتْح» أنْ «مع وُقُوع» أتْل «عليها، يعني: أتْلُ عليْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً».
والثاني: أنها مَنْصُوبة المحلِّ أيضاً نَسَقاً على «ألاَّ تُشْرِكُوا» إذا قُلْنَا بأنَّ «أنْ» المصديَّة «وأنَّها وما بعدها بدل من» ما حرَّم «قاله الحُوفِيُّ.
الثالث: أنها على إسْقَاطِ حَرْف لام العِلَّة، أي: ولأن هذا صِرَاطي مستَقيماً فاتبعوه؛ كقوله - تعالى - ﴿وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً﴾ [الجن: ١٨].
قال أبو عَلِيّ: من فتح»
أنَّ فَقِيَاس قول سبيويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أنه حملها على «فاتِّبعُوه» والتقدير: ولأن صِرَاطي مُسْتَقيِماً فاتِّبْعُوه؛ كقوله: ﴿وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون: ٥٢].
قال سيبويه: «ولأنَّ هَذِه أمَّتُكُم» وقال في قوله - تعالى -: و «أنَّ المساجِدَ لِلَّه» : ولأنَّ المَسَاجِد.
قال بعضهم: «وقد صرَّح بهذا اللام في نَظِيره هذا التَّرْكيب؛ كقوله - تعالى: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ﴾ [قريش: ١ - ٣] والفاء على هذا كَهيِ في قولك: زيداً فَاضِرب، وبزيد فَامْرُو، وتقدم تَقْرِيره في البقرة.
قال الفَارسِي: قِيَاس قوله سيبويه في فتح الهَمْزَة أن تكُون الفَاء زَائِدة كَهِي في»
زَيْد فقَائم «.
قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -:»
سيبويه لا يَجُوِّز زيادَتَها في مِثْل هذا الخَبَر، وإنما أراد أبُو عَلِيِّ بنظيرها في مُجَرَّد الزِّيَادة وإن لم يَقُل به، بل قال به غَيْره «.
والرابع: أنها في محلِّ جرِّ نسقاً على الضَّمِير المَجْرُور في»
بِهِ «أي:» ذلكم وصَّاكُم به «وبأنَّ هذا هو قول الفراء أيضاً. وردّه أبو البقاء بوجْهَيْن:
أحدهما: أنه يَصِير المَعْنى: وصَّاكُم باسْتِقَامة من غَيْر إعادة الجارِّ.
الثاني: أنه يَصِير المَعْنَى: وصًّاكُم باسْتِقَامة الصِّراط، وهذا فاسد.
قال شهاب الدِّين: والوجهان مردُودَان:
أما الأوَّل: فليس هذا من باب العَطْف على المُضْمَر من غير إعضادة الجارِّ؛ لأن
516
الجارَّ هُنَا في قوَة المَنْطوق به، وإنما حُذِفَ؛ لأنَّه يَطَّرِد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطُولِهِما بالصِّلة، ولذلك كان مَذْهِبُ الجمهور أنها في محلِّ جرِّ بعد حذفه لأنَّه كالموجُود، ويدل على ما قلته، ما قال الحُوفِيّ، قال:» حُذِفت البَاء لِطُول الصِّلة وهي مُرَادة، ولا يكن هذا عَطْفُ مُظْهَر على مُضمر لإرادتها «.
وأمّا الثاني: فالمعنى: صَحيح غير فَاسِد؛ لأن مَعْنَى توصيتنا باسْتِقَامة [الصِّراط ألاَّ نَتَعَاطى ما يُخْرِجُنا من الصَّراطِ فوصيتنا باسْتِقَامَتِه] مبالغة في اتِّباعِه.
وأما قراءة ابن عامر فقالوا: «أنْ»
فيها مُخَفَّفَة من الثَّقِيلَة، واسمها ضمير الأمْر والشأن، أي: «وأنَّهُ» كقوله - تعالى - ﴿
١٦٤٩ - ; لْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين﴾
[يونس: ١٠] وقَوْل الأعْشى: البسيط]
٢٣٨٤ - فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِموا أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
وحينئذٍ ففيها الأرْبَعة أوْجُه المتقدّمة المَذْكُورة في المشدَّدة.
وقرأ بان عامر وابن كثير: «سِرَاطِي» بالسِّين، وحمزة: بين الصَّاد والزَّاي، والباقون: بالصَّاد صافية، وفي مُصْحَف عبد الله: «وهذا صِرَاطي» بدون «أنّ»، و «هذا» صِرَاط ربِّك «.
قوله: ﴿فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل﴾.
أي: الطُّرُق المختَلِفة التي عدا هذا الطَّريق؛ مثل اليَهُودِيَّة، والنصرانية، وسائر الملل، وقيل: الأهْوَاء والبدع.
﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي: فتقَعُوا في الضِّلالاتِ.
روى أنب مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -»
عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنه خَطَّ خَطأ عن يَمِينه، وخطَّ عن شَمَالِهِ خُطُوطاً، ثم قال: هذا سبيل اللَّهِ، وهذه سُبُلٌ، على كُلِّ سبيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُوا إلَيْهَا، ثم تى: «وأنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقيماً فاتِّبِعُوه».
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه الآيَاتُ مُحْكَمَات، لم يَنْسِخْهُنَّ شيء من
517
جَمِيع الكُتُب، من عَمِل بِهِنَّ، دخل الجنَّة، ومن تركَهُنَّ، دخل النار.
قوله: «فتفَرَّق» منصوب بإضمار «أنْ» بعد الفَاءِ في جواب النَّهْي، والجُمْهُورُ على «فَتَفَرَّق» بتاء خَفِيفَة، والبزِّيُّ بتشْدِيدهَا فمن خفَّف، حذف إحْدى التَّاءَيْن، ومن شدَّد أدْغم؛ وتقدم هذا في ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ٨٠].
و «بكم» : يجوز أن يكُون مَفْعُولاً به في المَعْنَى، أي: فَيُفَرِّقُكُم، ويجُوز أن تكون حالاً، أي: وأنْتُم معها؛ كقوله القَائِل في ذلك: [الوافر]
٢٣٨٥ -.................... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّريبَا
وختم هذه الآية بالتَّقْوى وهي اتِّقاء النَّارِ، لمُنَاسَبَة الأمر باتِّباع الصِّراط، فإن من اتّبعه وَقَى نَفْسَه من النَّارِ.

فصل في فضل هذه الآية


قال القُرْطُبيُّ في هذه الآية الكريمة: «وهذه آيَةٌ عَظِيمَةٌ عطفها على ما تقدَّم، فإنه لمَّا نَهَى وأمر حَذَّر هنا عن اتِّبَاع غَيْر سَبِيله، فأمر فيها باتِّباع طَريقة».
«مستقيماً» نصْب على الحَالِ، ومعناه: مُسْتَوياً قَائِماً لا اعْوجَاج فيه، وقد بَيَّنه على لسان نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونشأت منه طُرُقٌ، فمن سلك الجَادّة نجا، ومن خرج إلى تلك الطُّرُق أفضت به إلى النَّارِ قال - تعالى -: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي: تميل.
روى ابن مَسْعُود - ر ضي الله عنهما - قال: «خَطَّ لنا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَاً خَطّاً، ثم قال: هذا سَبيلُ اللَّه، ثم خَط خُطُوطاً عن يَمِينه وشِمَاله، ثم قال: هذه سُبل، على كل سَبيلٍ منها شَيْطَان يَدْعُو إليها، ثم قرأ هذه الآية الكريمة».
وأخرجه ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخط خطًّا وخط خطيب عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله - ثم تلا هذه الآية - ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾.
وهذه السُّبُل في اليَهُوديَّة، والنَّصْرَانية، والمجُوسيَّة، وسائر أهل المِلَل والبِدَع والضَّلالاتِ، من أهل الأهْواءِ والشُّذُوذِ في الفُرُوع، وغير ذلك أهْلِ التَّعَمُّق في الجدل
518
والخوض في الكلام، وهذه عْرْضَة للزَّلَل. قال ابن عطية؟
519
أصل «ثُمَّ» : المُهلة في الزمان، وقد تأتي للمُهْلة في الإخبار.
وقال الزَّجَّاد: وهو مَعْطُوف على «أتْلُ» تقديره: أتْلُ ما حرَّم ثم أتْلُ ما آتيْنَا.
وقيل: هو مَعْطُوف على «قَلْ» أي: على إضْمَار قل، أي: ثم قل: آتينا.
وقيل: تقديره: ثم أخْبِرُكم آتَيْنا.
وقال الزمخشري: عطف على وصَّاكُم به «قال:» فإن قلت: كيف صَحَّح عطفه عليه ب «ثم»، والإيتَاء قبل التَّوْصِيَة به بَدّهْر طَويل؟
قال شهاب الدين: هذه التَّوصية قديمة لم يَزلْ تتواصها كل أمَّةٍ على لسان نبيِّها، فكأنه قيل: ذلك وَصَّاكُم به يا بَنِي آدَمَ قَديماً وحَديثاً، ثم أعْظَم من ذَلِك أنَّا آتَيْنَا موسى الكِتَاب.
وقيل: هو مَعْطُوف على ما تقدَّم قبل شَطْر السورة من قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ [الأنعام: ٨٤].
وقال ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «مهلتها في تَرْتَيب القَوْلِ الذي أمر به محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كأنَّه قال: ثم مِمَّاه وصِّيْنَاه أنا أتَيْنَا مُوسى الكتاب، ويدعو إلى ذلك أن موسى - عليه السلام - مُتقدِّم بالزمان على محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -».
وقال أبُو حيَّان: «والذي ينبغي أن يُسْتَعْمَل للعَطْفِ كالواو من غير اعِتِبَار مُهْلَةٍ، وبذلك قال [بَعْض] النَّحْويِّين».
قال شهاب الدّين: وهذه استراحة، وأيضاً لا يلزم من انتفاء المهلة الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مهلة على أن الفرض في هذه الآية عدم الترتيب في الزمان.
قوله: «تَمَاماً» يجوز فيه خَمْسَة أوْجُه:
519
أحدهما: أنَّه مفعول من أجْلِهِ، أي: لأجْل تمامِ نِعْمَتِنَا.
الثاني: أنَّه حالٌ من الكِتَاب، أي: حَالَ كَوْنه تَمَاماً.
الثالث: أنَّه نَصْب على المصدرِ؛ لأنَّه بمعنى: آتيناهُ تمامٍ، لا نقصان.
الرابع: أنه حالٌ من الفاعل، أي: مُتِمِّين.
الخامس: أنَّه مصدرٌ مَنْصُوب بفِعْل مُقَدَّر من لفظه، ويكون مصدراً على حَذْف الزَّوائِد، والتقدير: أتَمْنَاهُ إتْمَاماً، و «على الذي» مُتعلِّق ب «تماماً» أو بمحذُوف على أنَّه صِفَة، هذا إذا لم يُجْعَلْ مصدراً مؤكَّداً، فإن جُعِلَ، تعيِّن جعلُه صِفَة.
و «أحسن» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه فِعْلٌ ماض واقعٌ صلةً للموصول، وفاعله مُضْمَرٌ يعود على مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: تماماً على الذي أحْسَن؛ فيكون الذي عبارةٌ عن مُوسَى.
وقال أبو عبيدة: على كُلِّ من أحْسَن، أي: أتممنا فَضِيلَة مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالكتاب على المُحْسِنين من قومه، أي: على من أحْسَن من قومه، وكان فيهم مُحْسنٌ ومُسِيءٌ، وتدُلُّ عليه قِرَاءة ابن مَسْعُود: وعلى الذي أحْسَن.
وقيل: كُلُّ من أحسن، أي: الذي أحْسَنَهُ موسى من العِلْم، والحِكْمَة، والإحْسَان في الطاعة والعِبَادة، وتَبْلِيغ الرِّسَالة.
وقيل: «الذي» عِبَارةٌ عمّا عَمِلَهُ مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأتقنه، أي: تماماً على الذي أحْسَنَهُ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
والثاني: أنَّ «أحَسْن» اسمٌ على وَزْن أفْعَل، ك «افْضَل» و «أكْرَم»، واستَغْنَى بِوَصْف الموصُول عن صِلَتِهِ، وذلك أنَّ المَوْصُول متى وُصِف بِمَعْرِفَة، نحو: «مَرَتُ بالذي أخيك»، أو بِمَا يُقارب المَعْرِفَة، نحو: «مَررْت بالذي خَيْر مِنْكَ، وبالذي أحْسَن منك»، جاز ذلك، واستغنى به عن صِلته، وهو مَذْهَبُ الفرَّاء، وأنشد قوله: [الزجر]
٢٣٨٦ - حتَّى إذَا كَانَا هُمَا اللَّذِين مِثْلَ الجَدِيليْن المُحَمْلَجَيْنِ
بنصب «مِثْلَ» على أنه صِفَةٌ ل «اللَّذِيْن» المنصُوب على خَبَر كان، ويجُوز أن تكون «الَّذي» مصدريَّة، و «أحْسَنَ» فعل ماضٍ صِلَتُها والتقدير: تماماً على إحْسَانِه، أي: إحْسان الله - تعالى - إليه، وإحْسَان مُوسَى إليهم، وهُو رأي يُونُس والفراء؛ كقوله: [البسيط]
520
٢٣٨٧ - فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ... تَثْبِيتَ عِيسى ونَضراص كالَّذِي نُصِرُوا
وقد تقدَّم: تَحْقِيقُ هذا.
وفتح نُون «أحْسَنَ» قراءة بالعامَّة وقرأ يَحْيَى بن يَعْمُر، وبان أبِي إسْحَاق برفعها، وفيها وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: على الذي هو أحْسَن، فحذف العَائِد، وإن لم تَطُل الصِّلَةُ، فهي شَاذَّةٌ من جِهَة ذلك، وقد تقدَّم بدلائله عِنْد قوله: ﴿مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦]، فيمن رفع «بَعُوضَةٌ».
الثاني: أن يكُون «الَّذِي» واقِهاً موقع الذين، وأصلُ «أحْسن» : أحْسَنُوا بواو الضَّمير، حُذِفَت الواوُ اجتِزَاءً بحركة ما قبلها، قاله التبريزيُّ؛ وأنشد في ذلك فقال: [الوافر]
٢٣٨٨ - فلَوْ أنَّ الأطِبَّاء كَانُ حَوْلي... وكان مَعَ الأطِبَّاءِ الأسَاة
قال الآخرُ في ذلك هذا البيت: [الوافر]
٢٣٨٩ - إذا مَا شَاءُ ضَرُّوا مَن أرَادُوا... ولا يَألُوهُمُ أحَدٌ ضِرَارا
وقول الآخر في ذلك: [الزجر]
٢٣٩٠ - شَبُّوا على المَجْدِ وَشَابُوا واكتَهَلُ... يريد اكْتَهَلُوا، فحذف الواو، وسكن الحَرْف قبلها، وقد تقدَّم أبْيَاتٌ أخر كَهَذِهِ في غُضُون ها الكتاب، ولكن جَمَاهير النُّحَاة تَخُصُّ هذا بِضَرُورَة الشِّعر.
وقوله: «وتَفْصيلاً» وما عُطِفَ عليه؛ مَنْصُوب على ما ذُكِرَ في «تَمَاماً» [والمعنى: بياناً لكلِّ شيءٍ يحتاجُ إليه من شرائع الدِّين. و «هدّى ورحمةً» ذها في صِفَة السُّورة.
«لعلَّهُمْ بِلقَاءِ ربِّهم يُومِنُون».
قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «لكي يُؤمنوا بالبعث، ويُصَدِّقُوا بالثُّوَاب والعِقَاب» ].
521
قوله تعالى: ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ الآية.
يجُوز أن يكون «كِتَابٌ» و «انزلْنَاه» و «مُبَاركٌ» إخْبَاراً عن اسم الإشارة، عند مَنْ يُجِيزَ تعدُّدَ الخبَرَ مُطْلَقاً، أو بالتَّأويل عند مَنْ لَمْ يجوِّزْ ذلك، ويجُوز أن يكُوزن «أنزلْنَاهُ»، و «مُبَاركٌ» : وصْفَيْن ل «كِتَابٌ» عند من يُجِيزَ تَقْدِيم الوَصْفِ غير الصِّريح على الوَصْفِ الصَّريح، وقد تقدم تَحْقِيقُ ذلك في السُّورة قَبْلَها، في قوله - سبحانه -: ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤].
قال أبو البقاء: «ولو كان قُرِئ:» مُبَاركاً «بالنَّصْب على الحالِ، لجَاز» ولا حَاجَة إلى مِثْلِ هذا، وقُدِّم الوَصْفُ بالإنْزَال؛ لأن الكلام مع مُنْكِري أنَّ اللَّهِ يُنَزِّل على البَشَر كِتَاباً، ويُرْسِلَ رَسُولاً، وأما وَصْف البَرَكَة؛ فهو أمْرٌ مُتَرَاخ عَنْهم، وجيء بصِفَة الإنْزَال بِجُمْلَة فِعْليَّة أسند الفعل فيها إلى ضَمير المُعَظِّم نفسه مُبَالغة في ذلك، بخلافِ ما لو جيءَ بها اسْماً مُفْرداً.
والمراد بالكتاب: القُرْآن، وَوَصْفه بالبَرَكَة، أي: لا يَتَطرَّقُ إليه النَّسْخُ، كما في الكِتَابَيْن، والمُرَاد: كثير الخَيْر والنَّفْع.
﴿فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
قيل: «اتَّقُوا مُخَالفَتهُ على رَجَاء الرَّحْمة».
وقيل: اتَّقُوا لِتُرْحَمُوا، أي: ليكون الغَرَضُ بالتَّقْوَى، رَحْمَه الله - تعالى -.
قوله: «ان تَقُولُوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَفْعُول من أجله.
قول أبو حيَّان: «والعَامِلُ فيه» أنْزَلْنَاهُ «مقدّراً، مَدْلُولاً عليه بنَفْس» أنْزَلْنَاهُ «المَلْفُوظِ به، تقديرُه: أنْزَلْنَاه أن تقولوا».
قال: «ولا جائز أن يعمل فيه» أنْزَلْنَاهُ «الملفوظ به؛ لئلا يلزم الفصل بين العَامِل ومَعْمُولهِ بأجْنَبِيِّ، وذلك أنَّ مُباركٌ» : إمَّا صِفَةٌ، وإما خبرٌ، وهو أجنبيُّ بكل من التقديرين «وهذا الذي منَعَه هو ظَاهِرُ قول الكسائِّي، والفرَّاء.
522
والثاني: أنَّها مَفْعُول به، والعاملُ فيه:» واتَّقُوا «أي: واتَّقُوا قولكم كَيْتَ وكَيْتَ، وقوله:» لَعَلُّكم تُرْحَمُون «معترضٌ جار مُجْرى التَّعْلِيل، وعلى كَوْنِه مَفْعُولاً من أجْلِه، يكون تقديره عند البصريِّين على حَذْفِ مُضَافٍ، تقديرُه: كراهة أن تَقُولُوا، وعند الكوفيِّين يكون تقديره:» ألاَّ يَقُولُوا «.
قال الكسائيُّ: والفرَّاء: والتقدير: أنزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا، ثم حذف الجارِّ، وحَرْف النَّهْي، كقوله - تبارك وتعالى -: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] وكقوله: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] أي: ألاَّ تَمِيد بِكُم، وهذا مُطَّرِد عنْدَهُم في هذا النَّحْو، وقد تقدَّم ذلك مراراً.
وقرا الجمهور:»
تَقُولُوا «بتاء الخطاب، وقرأ ابن مُحَيْصِن:» يَقُولوا «: بياء الغَيْبَة، ومعنى الآية الكريمة، كراهة أن يقول أهْلُ مكَّة: أنزل الكتاب، وهو التُّوْراة، والإنْجِيل على طَائِفَتَيْن من قَبْلِنَا، وهُمْ اليَهُود والنَّصَارى.
قوله: «وَإنْ كُنَّا»
[ «إنْ» ] مُخَفَّفَة من الثِّقِيلة عند البَصْريِّين، وهي هُنَا مُهْمَلة؛ ولذلك وَلِيتها الجُمْلة الفِعْليَّة، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وأنَّ الكوفيِّين يَجْعَلُونها بمعنى: «ما» النَّافية، واللام بمعنى: «إلاَّ»، والتقدير: ما كُنَّا عن دِرَاسَتِهم إلاَّ غافِلِين.
وقال الزَّجَّاج بِمْثِل ذلك، فَنَحا نحو الكوفيِّين.
وقال قُطْرُب: «إنْ» بمعنى «قَدْ» واللاَّم زَائِدة.
وقال الزَّمَخْشَري بعد أن قَرَّر مذهب البصريين كما قدَّمنا: «والأصْل: إنه كُنَّا عن عِبَادَتِهِم» فقدّر لها اسْماً مَحْذُوفاً، هو ضمير الشَّأن، كما يُقَدِّر النَّحْويُّون ذلك في «أنْ» بالفَتْح إذا خُفِّفَت، وهذا مخالفٌ لِنُصُوصِهِم، وذلك أنَّهم نَصُّوا على أنَّ: «إنْ» بالكَسْر إذا خُفِّفَت، ولِيَتْهَا الجُمْلَةُ الفعليةُ النَّاسِخة، فلا عَمَل لها، لا في ظاهرٍ ولا مُضْمرٍ.
و «عَنْ دِرَاسَتِهِم» متعلِّق بخبر «كُنَّا» وهو: «غافلين» وفيه دلالة على بُطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى: «إلاَّ» ولا يَجُوز أن يَعْمَل ما بعد «إلاَّ» فيما قَبْلَها؛ فكذلك ما هو بِمَعْنَاها.
قال أبو حيَّان: «ولَهُم أن يَجْعَلُوا» عَنْها «متعلِّقاً بمحذوف» وتقدَّم أيضاً خلاف أبي عليِّ، في أنَّ هذه اللاَّم لَيْسَت لام الابتِدَاء، بل لامٌ أخْرَى، ويدلُّ أيضاً على أن اللاَّم لام ابتداء لَزِمتِ للفَرْق، فجَازَ أن يتقدَّم مَعْمُولُها عليها، لمّا وقعت في غَيْر ما هُو لَهَا
523
أصل، كما جاز ذلك في: «إنَّ زيداً طعامك لآكِلٌ» حَيْث وقعت فيغير ما هُوَ لَهَا [أصلٌ] ولمْ يَجُزْ ذلك فيهَا إذا وقعت فيما هُوَ لَهَا أصْلٌ، وهو دُخُولها على المُبْتَدأ.
وقال أبُو البقاءِ واللاَّم في «لغَافِلِين» عِوض أو فَارِقَة بَيْن «إنْ» و «ما».
قال شهاب الدين: قوله: «عِوَض» عبارة غَريبَةٌ، وأكثر ما يُقَال: إنها عِوَضٌ عن التَّشْديد الَّذِي ذَهَبَ من «إنْ» ولَيْس بِشَيء.

فصل في معنى الآية


قال المفَسِّرُون: «إنْ» هي المُخَفَّفَة من الثّقِيلة، واللاَّم هي الفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا وبين النَّافيَة، والأصْل: وإن كُنَّا عن دِرَاستِهِم غَافلين، والمعنى: إثْبَات الحُجُّة عليهم بإنْزَال القُرْآن عَلَيْهم، وقوله: ﴿وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ أي: لا نَعْلَم مَاهِيَ، لأن كِتَابَهُم لَيْس بِلُغَتِنَا.
قوله: ﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ﴾.
أي: لِئلاَّ تقُولُوا أو تَحْتَجُّوا بِذَلك، ثمَّ إنه - تعالى - قطع احتِجَاجَهُم بهذا، فقال: ﴿فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وهو القُرْآن العظيم بَيِّنَة فيما يُعْلم سَمْعاً، وهُو هُدَى فيما يُعْلَم سَمْعاً وعَقْلاً، فلما اختلفت الفَائِدَة، صَحَّ هذا العَطْف، ومعنى «رَحْمة» أي: نِعْمَة في الدِّين.
قوله: فَقَدْ جَاءَكُم «: جواب شَرْط مقدِّرٍ فقدَّرَه الزَّمَخْشَريُّ: إن صَدَقْتُم فيما كُنْتُم تَعْدُّون من أنْفُسِكم، فَقَدْ جَاءَكم، قال:» وهو من أحْسن الحُذُوف «وقدّرَه غَيْره: إن كُنْتُم كما تَزْعُمون: إنَّكم إذا أنزل عَلَيْكُم كِتَابٌ، تكونون أهْدَى من اليَهُود والنَّصَارى، فقدْ جَاءَكُم، ولم يُؤنَّث الفِعْل؛ لأن التَّأنيث مجازيُّ، وللفَصْل بالمَفْعُول، و» مِنْ ربِّكم «يجوز أن تيعلَّق ب» جَاءَكُم «وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَةٌ ل بَيِّنَة».
وقوله: «هُدة ورَحْمَة» محذُوفٌ بعدهما: مِن ربِّكُم.
قوله: فَمَنْ أظْلَمُ «الظَّاهِر أنَّها جُمْلَة مُسْتَقِلة.
وقال بعضهم، هي جواب شَرْط مُقَدَّر، تقديرُه: فإن كَذَّبْتُم، فلا أحَد أظْلَم مِنْكُم.
والجُمْهُور على كَذَّب»
مُشَدّداً، وبآيات الله متعلِّق به، وقرأ يحيى بن وثاب، وابن أبي عَبْلَة: «كَذَبَ» بالتخفيف، و «بآيات اللَّه» : يجوز أن يكُون مَفْعُولاً وأن يكون
524
حالاً، أي: كذَّب ومعهُ آيات اللَّه، و «صدف» مَفْعُوله مَحْذُوف، أي: «وصدف عنها غيره» وقد تقدَّم تَفْسير ذلك [الأنعام: ١٥٧] والمُراج: تَعْظِيم كُفْر من كذِّب بآيَاتِ الله «وصدَف عَنْها» أي مَنَع؛ لأنَّ الأوَّل ضلال، والثاني مَنْع عن الحقِّ وإضْلال.
ثم قال - تعالى -: ﴿سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب﴾ وهو كقوله تعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب﴾ [النحل: ٨٨].
525
قوله :" أن تَقُولُوا " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَفْعُول من أجله.
قول أبو حيَّان١ :" والعَامِلُ فيه " أنْزَلْنَاهُ " مقدّراً، مَدْلُولاً عليه بنَفْس " أنْزَلْنَاهُ " المَلْفُوظِ به، تقديرُه : أنْزَلْنَاه أن تقولوا ".
قال :" ولا جائز أن يعمل فيه " أنْزَلْنَاهُ " الملفوظ به ؛ لئلا يلزم الفصل بين العَامِل ومَعْمُولهِ بأجْنَبِيّ، وذلك أنَّ " مُباركٌ " : إمَّا صِفَةٌ، وإما خبرٌ، وهو أجنبيُّ بكل من التقديرين ". وهذا الذي منَعَه هو ظَاهِرُ قول الكسائيّ، والفرَّاء٢.
والثاني : أنَّها مَفْعُول به، والعاملُ فيه :" واتَّقُوا " أي : واتَّقُوا قولكم كَيْتَ وكَيْتَ، وقوله :" لَعَلُّكم تُرْحَمُون " معترضٌ جارٍ مُجْرى التَّعْلِيل، وعلى كَوْنِه مَفْعُولاً من أجْلِه، يكون تقديره عند البصريِّين على حَذْفِ مُضَافٍ، تقديرُه : كراهة أن تَقُولُوا، وعند الكوفيِّين يكون تقديره :" ألاَّ يَقُولُوا ".
قال الكسائيُّ٣ : والفرَّاء : والتقدير : أنزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا، ثم حذف الجارِّ، وحَرْف النَّهْي، كقوله -تبارك وتعالى- :﴿ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ]، وكقوله :﴿ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ النحل : ١٥ ]، أي : ألاَّ تَمِيد بِكُم، وهذا مُطَّرِد عنْدَهُم في هذا النَّحْو، وقد تقدَّم ذلك مراراً.
وقرا الجمهور :" تَقُولُوا " بتاء الخطاب، وقرأ٤ ابن مُحَيْصِن :" يَقُولوا " : بياء الغَيْبَة، ومعنى الآية الكريمة، كراهة أن يقول أهْلُ مكَّة : أنزل الكتاب، وهو التُّوْراة، والإنْجِيل على طَائِفَتَيْن من قَبْلِنَا، وهُمْ اليَهُود والنَّصَارى.
قوله :" وَإنْ كُنَّا " [ " إنْ " ] مُخَفَّفَة من الثِّقِيلة عند البَصْريِّين، وهي هُنَا مُهْمَلة ؛ ولذلك وَلِيتها الجُمْلة الفِعْليَّة، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وأنَّ الكوفيِّين يَجْعَلُونها بمعنى :" ما " النَّافية، واللام بمعنى :" إلاَّ "، والتقدير : ما كُنَّا عن دِرَاسَتِهم إلاَّ غافِلِين.
وقال الزَّجَّاج٥ بِمْثِل ذلك، فَنَحا نحو الكوفيِّين.
وقال قُطْرُب :" إنْ " بمعنى " قَدْ " واللاَّم زَائِدة.
وقال الزَّمَخْشَري٦ بعد أن قَرَّر مذهب البصريين كما قدَّمنا :" والأصْل : إنه كُنَّا عن عِبَادَتِهِم " فقدّر لها اسْماً مَحْذُوفاً، هو ضمير الشَّأن، كما يُقَدِّر النَّحْويُّون ذلك في " أنْ " بالفَتْح إذا خُفِّفَت، وهذا مخالفٌ لِنُصُوصِهِم، وذلك أنَّهم نَصُّوا على أنَّ :" إنْ " بالكَسْر إذا خُفِّفَت، ولِيَتْهَا الجُمْلَةُ الفعليةُ النَّاسِخة، فلا عَمَل لها، لا في ظاهرٍ ولا مُضْمرٍ.
و " عَنْ دِرَاسَتِهِم " متعلِّق بخبر " كُنَّا " وهو :" غافلين "، وفيه دلالة على بُطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى :" إلاَّ " ولا يَجُوز أن يَعْمَل ما بعد " إلاَّ " فيما قَبْلَها ؛ فكذلك ما هو بِمَعْنَاها.
قال أبو حيَّان٧ :" ولَهُم أن يَجْعَلُوا " عَنْها " متعلِّقاً بمحذوف " وتقدَّم أيضاً خلاف أبي عليِّ، في أنَّ هذه اللاَّم لَيْسَت لام الابتِدَاء، بل لامٌ أخْرَى، ويدلُّ أيضاً على أن اللاَّم لام ابتداء لَزِمتِ للفَرْق، فجَازَ أن يتقدَّم مَعْمُولُها عليها، لمّا وقعت في غَيْر ما هُو لَهَا أصل، كما جاز ذلك في :" إنَّ زيداً طعامك لآكِلٌ " حَيْث وقعت في غير ما هُوَ لَهَا [ أصلٌ ]٨ ولمْ يَجُزْ ذلك فيهَا إذا وقعت فيما هُوَ لَهَا أصْلٌ، وهو دُخُولها على المُبْتَدأ.
وقال أبُو البقاءِ٩ واللاَّم في " لغَافِلِين " : عِوض أو فَارِقَة بَيْن " إنْ " و " ما ".
قال شهاب الدين١٠ : قوله :" عِوَض " عبارة غَريبَةٌ، وأكثر ما يُقَال : إنها عِوَضٌ عن التَّشْديد الَّذِي ذَهَبَ من " إنْ " ولَيْس بِشَيء.

فصل في معنى الآية


قال المفَسِّرُون :" إنْ " هي المُخَفَّفَة من الثّقِيلة، واللاَّم هي الفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا وبين النَّافيَة، والأصْل : وإن كُنَّا عن دِرَاستِهِم غَافلين، والمعنى : إثْبَات الحُجُّة عليهم بإنْزَال القُرْآن عَلَيْهم، وقوله :﴿ وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ أي : لا نَعْلَم مَا هِيَ، لأن كِتَابَهُم لَيْس بِلُغَتِنَا.
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٥٧..
٢ ينظر: معاني القرآن ١/٣٦٦..
٣ ينظر: الفخر الرازي ١٤/٥..
٤ ينظر: إتحاف فضلاء البشر ٢/٣٩، الدر المصون ٣/٢٢٢..
٥ ينظر: معاني القرآن ٢/٣٣٨..
٦ ينظر: الكشاف ٢/٨١..
٧ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٥٧..
٨ سقط في ب..
٩ ينظر: الإملاء ١/٢٦٦..
١٠ ينظر: الدر المصون ٣/٢٢٢..
قوله :﴿ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ ﴾.
أي : لِئلاَّ تقُولُوا أو تَحْتَجُّوا بِذَلك، ثمَّ إنه -تعالى- قطع احتِجَاجَهُم بهذا، فقال :﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ وهو القُرْآن العظيم بَيِّنَة فيما يُعْلم سَمْعاً، وهُو هُدَى فيما يُعْلَم سَمْعاً وعَقْلاً، فلما اختلفت الفَائِدَة، صَحَّ هذا العَطْف، ومعنى " رَحْمة " أي : نِعْمَة في الدِّين.
قوله : فَقَدْ جَاءَكُم " : جواب شَرْط مقدَّرٍ فقدَّرَه الزَّمَخْشَريُّ : إن صَدَقْتُم فيما كُنْتُم تَعُدُّون من أنْفُسِكم، فَقَدْ جَاءَكم، قال :" وهو من أحْسن الحُذُوف " وقدّرَه غَيْره : إن كُنْتُم كما تَزْعُمون : إنَّكم إذا أنزل عَلَيْكُم كِتَابٌ، تكونون أهْدَى من اليَهُود والنَّصَارى، فقدْ جَاءَكُم، ولم يُؤنّث الفِعْل ؛ لأن التَّأنيث مجازيُّ، وللفَصْل بالمَفْعُول، و " مِنْ ربِّكم " يجوز أن يتعلَّق ب " جَاءَكُم " وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَةٌ ل " بَيِّنَة ".
وقوله :" هُدىً ورَحْمَة " : محذُوفٌ بعدهما : مِن ربِّكُم.
قوله : فَمَنْ أظْلَمُ " الظَّاهِر أنَّها جُمْلَة مُسْتَقِلة.
وقال بعضهم : هي جواب شَرْط مُقَدَّر، تقديرُه : فإن كَذَّبْتُم، فلا أحَد أظْلَم مِنْكُم.
والجُمْهُور١ على كَذَّب " مُشَدّداً، وبآيات الله متعلِّق به، وقرأ يحيى بن٢ وثاب، وابن أبي عَبْلَة :" كَذَبَ " بالتخفيف، و " بآيات اللَّه " : يجوز أن يكُون مَفْعُولاً وأن يكون حالاً، أي : كذَّب ومعهُ آيات اللَّه، و " صدف " مَفْعُوله مَحْذُوف، أي :" وصدف عنها غيره " وقد تقدَّم تَفْسير ذلك [ الأنعام : ١٥٧ ]. والمُراد : تَعْظِيم كُفْر من كذّب بآيَاتِ الله " وصدَف عَنْها " أي مَنَع ؛ لأنَّ الأوَّل ضلال، والثاني مَنْع عن الحقِّ وإضْلال.
ثم قال -تعالى- :﴿ سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب ﴾ وهو كقوله تعالى :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب ﴾ [ النحل : ٨٨ ].
١ ينظر: المحتسب ١/٢٣٥ الذر المصون ٣/٢٢٣..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٥٨، والدر المصون ٣/٢٢٣ والمحرر الوجيز ٢/٣٦٦..
لمّا بيّن أنَّهُ إنَّما انْزَل الكتاب إزالةً للعُذْرِ، وإزاحَةً للعِلَّة، بيَّن أنَّهُم لا يُؤمِنُون ألْبَتَّةَ، وشرح أحْوَالاً تُوجِب اليَأسَ عن دُخُولهم في الإيمان، فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملاائكة﴾ أي: بالعذاب، وعند المَوْت لقبض أْوَاحِهمِ، ونَظير هذه الآية في سُورة البقرة: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام﴾ [البقرة: ٢١٠].
و «هل استفهام، معناه: النَّفْي، ومعنى» ينظرون «: ينتظرون، والتقدير: أنَّهم لا يُؤمِنُون بِكَ، إلاَّ إذا جَاءَهُم أحَدُ هذه الأمُور الثلاثة.
قوله:»
أو يَأتِي رَبُّكَ «: تقدَّم أنه حَذْفِ مُضَاف.
وقرا الأخوان:»
إلا أن يأتِيهُم الملائِكَةُ «بياء منقُوطة من تحت؛ لأن التأنيث مَحَازِيُّ، وهو نظير: ﴿فَنَادَتْهُ الملاائكة﴾ [آل عمران: ٣٩].
وقرأ أبو العالية، وابن سيرين:»
يَوْم تَأتِي بَعْضُ «بالتأنيث؛ كقوله تعالى: ﴿تَلْتَقِطْهُ﴾ [يوسف: ١٠].
فإن قيل:»
أو يَأتِي ربُّكَ «هل يَدلُّ على جوازِ المجيء والغيبة على الله - تعالى -. فالجواب من وُجُوه:
الأول: أن هذا حكاية عن الكُفَار، واعتِقَاد الكَافِر ليس بِحُجَّة.
والثاني: أنَّ هذا مَجَاوزٌ، ونظيرُه قولهُ - تعالى -: ﴿فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد﴾ [النحل: ٢٦].
والثالث: قيام الدَّلائل القاطِعَة على أنَّ المَجيء والغيْبَة على اللَّه مُحَال، وأقْرَبُها قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الرَّد على عَبدَة الكواكب: ﴿لاا أُحِبُّ الآفلين﴾ [الأنعام: ٧٦].
525
فإن قيل: قوله - تعالى -: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ لا يمكن حَمْلُه على إثْبَاتِ أثر من آثار قُدْرَته؛ لأن على هذا التَّقْدِير يَصِيرُ هذا عَيْن قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ مكرَّاً؛ فوجب حَمْلُه على أنَّ المُرادَ مِنْه: إتْيَان الرَّبِّ.
قلنا: الجوابُ المُعْتَمد: أنَّ هذا حكاية مَذْهب الكُفَّار؛ فلا يَكُون حُجَّةً.
وقيل: يأتي ربُّك بلا كَيْف؛ لِفَصْل القضاء يِوْم القِيَامة؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً﴾ [الفجر: ٢٢].
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:» يَأتي أمْر ربِّك فيهم بالقَتْل أو غَيْره «، وقيل: يَأتِي ربُّك بالعَذَابِ.
وقيل: هذا من المُتَشَابه الَّذِي لا يَعْلَمُ تَأوِيله إلاَّ اللَّه.
»
أو يأتي بعضُ آيات ربِّك «: وهو المُعْجِزَات القَاهِرة.
قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك﴾.
الجمهور على نصب»
يَوْمَ «، وناصِبهُ [ما] بَعْد» لاَ «، وهذا على أحَدٍ الأقوال الثلاثة في» لاَ «وهي أنَّها يتقدَّم مَعْمُول ما بَعْدَها عَلَيْها مُطْلَقاً، ولا يتقدَّم مُطْلَقاً، ويُفَصَّل في الثالث: بَيْن أن يَكُون جوابَ قَسم، فَيَمْتَنِع؛ أوْ لاَ، فيجوز.
وقرأ زُهَيْر الفَرْقَبِيُّ:»
يومُ «بالرَّفع، وهو مُبْتَدأ، وخَبَرُه الجُمْلَة بعده، والعَائِد مِنْها إليه مَحْذُوف، أي: لا تَنْفَع فيه.
وقرأ الجُمْهُور»
يَنْفَعُ «بالياء من تحت، وقرأ ابنُ سيرين:» تَنْفَع «بالتَّاء من فوق.
قال أبو حاتم: «ذَكَرُوا أنَّه عَلَط»
.
قال شهاب الدِّين: لأنَّ الفِعْل مسندٌ لِمُذَكَّر، وجوابُه: أنَّه لما اكْتَسَب بالإضافَة التَّأنيث، أجْرِي عليه حُكْمُه؛ كقوله: [الطويل]
٢٣٩١ - وتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَد أذَعْتَهُ كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا أوَّل السُّورة؛ وأنْشَد سيبويه: [الطويل]
٢٣٩٢ - مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحُ تَسَفَّهَتْ أعِالِيَهَا مضرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِم
وقيل: لأن الإيمان بِمَعْنى: العَقِيدة؛ فهو كقولهم: «أتَتْهُ كِتَابي فاحْتَقَرَهَا» أي: صَحِيفَتِي، ورِسَالَتِي.
526
قال النَّحَّاس: «في هذا شَيْء دَقِيقٌ ذكره سيبويه: وذلك أن الإيمان، والنَّفْس كلٌّ مُشْتَمِلٌ على الآخَر، فأنَّث الإيمان، إذ هو من النَّفْسِ وبها» وأنشد سيبويه: [الطويل]
٢٣٩٣ - مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ.............................
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «في هذه القراءة، يكُون الإيمان مُضَافاً إلى ضَمِير المُؤنَّثِ الذي هو بَعْضُه؛ كقوله: ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابِعهِ».
قال أبو حيَّان: «وهو غَلَطٌ؛ لأن الإيمان لَيْس بَعْضاً من النَّفْس».
قال شهاب الدِّين: وقد تقدَّم آنِفاً ما يَشْهَد لصحَّةِ هذه العِبَارة من كلام النَّحَّاس، في قوله عن سيبويه: «وذلك أن الإيمان والنَّفْس كُلٌّ مِنْهُما مُشْتَمِلٌ على الآخَر، فأنَّث الإيمان، إذْ هُو من النَّفْس وبها» فلا فَرْق بين هَاتِيْن العِبَارَتَيْن، أيْ: لا فَرْق بين أنْ يقول: هو منها وبها، أو هو بعْضُها، والمُرَاد في العِبَارتَيْن: المَجَاز.

فصل


أجمعُوا على أنَّ المقصُود بهذه الآية: عَلامة القيامة، عن البرءا بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «كُنَّا نَتَذَكَر السَّاعة [إذْ أشرف عَلَيْنا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ما تَتَذاكَرُون؟
قُلْنَا: نَتَذاكَرُ السَّاعة] ؟
قال: إنها لا تقُوم حتَّى تَرَوْا قبلها عشْر آيات: الدُّخان، ودابَّة الأرْضِ، وخسْفاً بالمشْرِق، وخَسْفاً بالمغرِب، وخسْفاً بجزيرَة العرب، والدِّجِّال، وطُلُوع الشَّمس من مَغْرِبها، ويأجُوج ومَأجُوج، ونُزول عيسى - عليه السلام -، ونارً تَخْرج من عَدَن»
.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تَقُوم السَّاعة حتى تَطْلُع الشَّمس من مَغْرِبها؛ فإذا طلعت وَرَآهَا النَّاس، آمنوا أجْمَعِين، وذلك حين لا يَنْفَع نَفْساً إيمانُها لم تَكُن آمَنَتْ من قَبْلُ أو كَسَبت في إيمانِهَا خَيْراً».
527
وروى أبُو مُوسَى الأشْعَريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَدُ اللَّه بُسْطَانٌ لِمسيء اللَّيْل، ليتُوب بالنَّهَار، ولمُسِيء النَّهَار، ليتُوب باللَّيْل، حتى تَطْلع الشَّمْس من مَغْرِبِهاَ».
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبهَا تَابَ علَيْه».
وعن زِرِّ بن حبيش، قال: أتَيْتُ صفوان بن العَسَّال المراديّ؛ فذكر عن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله جَعَل بالمَغْرِب بَاباً مَسِيرة عَرْضِة سَبْعُون عاماً، لا يُغْلَقُ حتَّى تَطْلُع الشَّمْس من قبله»
وذلك قَوْل الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرا﴾.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثلاثٌ إذا خَرَجْن لَمْ يَنفع نَفساً إيمانُهَا لم تكن آمنَتْ من قَبْل أو كَسَبت في إيمانِهَا خَيْراً: الدجَّال، والدَّابَّة، وطُلُوع الشَّمْسِ من مَغْرِبها».
قوله: ﴿لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾.
في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ نَصْبٍ؛ [لأنها] نَعْتٌ ل نَفْساً «، وفصل بالفَاعل، وهُوَ» إيمانُها «بين الصِّفَة ومَوْصُوفها، لأنَّه لَيْس بأجْنَبِيِّ، إذ قد اشْتَرك الموصُوف الَّذِي هو
528
المفعُول والفاعل في العامل، فعلى هذا يَجُوز:» ضَرَبَ هِنْداً غلامُهَا القُرشِيَّة «، وقوله» أوْ كَسَبَتَ «عَطْف على» لَمْ تَكُن آمَنَتْ «.
وفي هذه الآية بُحُوثُ حَسَنَةٌ تتعلَّق بِعِلْم العربيَّة وعليْها تُبْنَى مَسَائل من»
أصُول الدِّين «، وذلك أنَّ المُعْتَزِليَّ يقول:» مُجَرَّد الإيمان الصَّحيح لا يَكْفِي، بل لا بُد من انْضِمَام عمل يَقْتَرِن به ويُصَدِّقه «، واستدلَّ بظاهِرِ هذه الآية، وذلك كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ:» لَمْ تَكُون آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ «صفة لقوله» نَفْساً «وقوله:» أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً «عُطِفَت على» آمَنَتْ «والمعنى: أنَّ أشْرَاط السَّاعَةِ إذا جاءت وهي آيات مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ، ذهب أوَانُ التَّكلِيف عِنْدَها؛ فلم يَنْفَعُ الإيمان حينئذٍ نَفْساً غيرَ مُقدِّمةٍ إيمانها قبل ظُهُور الآيَاتِ، أو مُقَدِّمَة إيمانها غير كَاسِبَةٍ خيراً في إيمانها؛ فلم يُفَرِّق كما ترى بين النَّفْس الكَافِرَة إذا آمنت إذا آمنت في غَيْر وقت الإيمان، وبَيْنَ النَّفْس التي آمَنَت في وقتِهِ ولم تكْسِبْ خيراً، ليعلم أن قوله: ﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [البقرة: ٢٥] جمع بين قَرِينَتَيْن، لا ينبغي أن تَنْفَكَّ إحدَاهما عن الآخْرَى حتى يَفُوزَ صَاحِبُها ويَسْعَد، وإلاَّ فالشقوة والهلاك.
وقد أجاب بَعْضُ النَّاس هذا الظَّاهر: بأن المَعْنَى بالآية الكريمة: أنَّه إذا أتَى بَعْض الأيَات، لا يَنْفَعُ نَفْساً كَافِرة إيمانُها الَّذِي أوْقَعَتْه إذ ذَلِك، ولا يَنْفَع نَفْساً سبق إيمانها وما كَسَبَت فيه خَيْراً، فق علَّق نضفْيَ نَفْع الإيمانِ بأحَدِ وَصْفِيْن: إمَّا نَفْيَ سَبْق الإيمان فقط، وإمَّا سَبْقُه مع نَفْي كَسْب الخَيْر، ومَفْهُومُه: أنَّه يَنْفَع الإيمان السَّابق وَحْدَه أو السَّابِق ومعهُ الخَيْر، ومَفْهُوم الصِفَة قَوِيٌّ. فَيُسْتدل بالآية لِمَذْهَب أهْل السُّنَّة، فقد قلبوا دَلِيلَهُم دليلاً عَلَيْهم.
وقد أجاب القَاضِي نَاصِر الدِّين بن المُنِير عن قول الزَّمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال»
قال أحْمَد: هو يَرْوم الاسْتِدلال على أنَّ الكافر والعَاصي في الخُلُود سواءٌ، حيث سَوَّى في الآية بَيْنَهُما؛ في عدم الانْتِفَاع بما يَسْتَدْرِكَانِهِ بعد ظُهُور الآيات ولا يتم ذلك، فإنَّ هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ ب «اللَّفِّ» وأصلهُ: يَوْم يَأتِي بَعْض آيات ربِّك لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لم تكن مُؤمِنَة قبل إيمانِها بَعْدُ، لا نَفْساً لَمْ تَكْسِب خَيْراً قبل ما تَكْسِبُه من الخَيْر بَعْدُ، فَلَفَّ الكلامين؛ فجعلُهُمَا كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغة، ويَظْهَرُ بذلك أنَّها لا تُخَالِفُ مذْهَب الحقِّ فلا يَنْفَعُ بَعْد ظُهُور الآياتِ اكتِسَاب الخَيْر، وإن نَفَع افيمان المُتقدِّم من الخُلُود، فهي بالرِّد على مَذْهبه أوْلى من انْ تَدلَّ له «.
الثاني: أن هذه الجُمْلَة في مَحَلِّ نَصب على الحالِ من الضَّمير المَجْرُور، قاله أبو البقاء، يعني: من «هَا»
في إيمانِها.
الثالث: أن تكُون مُسْتَأنَفة. وبهذا بَدَأ أبو البقاء، وثنَّى بالحالِ، وجعل الوَصْف
529
ضَعِيفاً؛ كأنه استَشْعَر ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشري، ففرَّ من جَعْلِها نَعْتاً، وأبو حيَّان جعل الحال بَعِيداً، والاسِتئْنَاف أبْد منه.
ثم قال - تعالى - ﴿قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ وهذا وَعِيدٌ وتهديد.
530
وقرأ الأخوان: «فَارَقُوا» من المُفَارَقة.
قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: «وهي قِرَاءة عليِّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من المُفَارقة والفِرَاق، على مَعْنَى: أنَّهُم تركوا دينَهُم وخَرَجُوا عنه، وكان عَلِيٌّ - كرم الله وجهه - يقول: والله ما فَرَّقُوه، ولكن فَارَقُوه».
وقال شهاب الدِّين: فيها وجهان:
أحدهما: أن «فَاعَل» بمعنى: فعَّل، نحو ضاعَفْتُ الحساب، وضعَّفته.
وقيل: هي من المُفَارَقَة، وهي التَّرْك، والتَّخْلِية، ومن فرَّق دينَهُ؛ فآمن بِبَعْض وكفر ببعض، فقد فَارَقَ الدِّين القيم.
وقرأ الباقون: «فرَّقوا» بالتَّشْديد، وقرأ الأعمش، وأبو صالح، وإبراهيم،: «فرَقُوا» مخفف الراء.
قال أبو البقاء: «وهو بمعنى المُشَدَّد، ويجُوز أن يكُون بمعنى: فَصَلُوه عن الدِّين الحقِّط وقد تقدَّم معنى الشِّيع، أي: صَارُوا فِرقاً مختلفة.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: المُشْركين، بعضهُم يَعْبُدون الملائكة، ويَزْعُمون أنَّهم بنات اللَّه، وبعضُهم يَعْبدون الأصْنَام، ويقولون:»
هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله «و» كانوا شِيَعاً «أي: فِرَقاً وأحزاباً في الضَّلالة.
وقال مُجاهدٌ، وقتادة: هم اليَهُود والنَّصَارى؛ لأن النَّصَارى تفرَّقوا فِرَقاً، ويُكَفِّر بعضهم بعضاً، واليهُود أخَذُوا ببعض الكتاب، وتركوا بعضه.
وقيل: هم أهْل البِدَع والشُّبُهَات من هذه الأمَّة وروى عُمَر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ
530
عَنْه - أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -:» يا عائشةُ! إنَّ الذينَ فَرَّقُوا دينَهُم وكانُوا شِيعَاً هُمْ أصْحَابُ البدعِ وأصْحَابُ الأهْوَاءِ من هذه الأمَّةِ «.
وروى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ تفرَّقَتْ على اثْنَيْنِ وسَبْعِين ملَّة، وتفرَّفَت أُمَّتِي على ثلاثٍ وسبْعين ملَّة كُلُّها في النَّارِ إلاَّ واحِدة، قال: من هِيَ يا رسُول الله؟ قال: «ما أنا عَلَيه وأصْحَابي».
قوله: «لست منهم في شيء».
«لَسْت» : في محلِّ رفع خبراً ل «إنّ»، و «مِنْهُم» : هو خبر «لَيْسَ» إذا بِه تتم الفَائِدة؛ كقوله النابغة: [الوافر]
٢٣٩٤ - إذا حَاوَلْتَ فِي أسَدٍ فُجُورا ً فإنِّي لَسْتُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي
ونظيرُه [في الإثْبَات] :« ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم: ٣٦].
وعلى هذا، فيكُون»
فِي شَيْءٍ «متعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به مِنْهُم، أي: ليست مُسْتَقِرّاً منهم في شيء، أي مِنْ تَفْرِيقهم. [ويجُوز أن يَكُون» فِي شيءٍ «: الخبر،» ومِنْهُم «: حال مُقدِّمة عليه، وذلك على حَذْفِ مُضافٍ، أي: لَسْت في شيءٍ كَائِن من تَفْرِيقهم]، فلمَّا قُدِّمت الصِّفَة نصبت حالاً.

فصل في المراد بالآية


في المَعْنَى قولان:
الأول: إذا أُريد أهل الأهْوَاء، فالمَعْنَى: أنت بَرِيءٌ منهم، وهم مِنْكَ بَرَاءُ، أي: إنَّك بعيد عن أهْوَائِهِهم ومَذاهِبِهم، والعِقَابُ اللاَّزم على تِلْك الأبَاطيل مَقْصُورة عَلَيْهم لا يتعدَّاهم.
وإن أُريد اليَهُود والنَّصَارى.
قال السُّدِّيُّ:»
معناه: يقولون يُؤمَر بِقتَالِهم؛ فلما أمر بِقِتَالِهِم نُسِخ «وهذا بعيد؛ لأن المعنى: لَسْت من قِتَالِهِم في هذا الوَقْتِ في شَيْءٍ؛ فوُرُده الأمْر بالقِتَال في وَقْتٍ آخَر، لا يُوجب النَّسْخ. ثم قال:» إنَّما أمْرُهُم إلى اللَّه «يعني: في الجَزَاء، والمُكَافأة، والإمْهَال،» ثم يُنَبِّئُهُم بما كَانُوا يَفْعَلُون «والمراد: الوعيد.
531
إنما ذكّر العدد والمَعْدُود مذكَّر، لأوجه:
531
منها: أن الإضافة لها تَأثِير كما تقدَّم غيْر مرَّة؛ فاكسب المُذَكَّر من المؤنَّث التَّأنيث، فأعْطِي حُكْم المؤنَّث من سُقُوط التَّاء من عَدَدِه، ولذلك يُؤنَّث فعله حالة إضافته لِمُؤنَّثٍ نحو: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠].
وقوله: [الطويل]
٢٣٩٥ -............... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنْ الدَّمِ
وقوله: [الطويل]
٢٣٩٦ -................ تَسَفًّهَتْ أعَالِيهَا مَرُّ الرِّبيعِ النَّواسِمِ
إلى غير ذلك مما تقدَّم تَحْقِيقه.
ومنها: أنَّ المذكر عِبَارة عن مُؤنَّثٍ، فرُوعِي المُرَاد دُونَ اللَّفْظ، وعليه قوله: [الطويل]
٢٣٩٧ - وإنَّ كِلاَباً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قِبَائِلِهَا العَشْرِ
لم يُلْحِق التَّاء في عدد أبطن، وهي مُذَكَّرة؛ لأنَّها عِبَارة عن مُؤنَّث، وهي القبائل، فكأنَّه قيل: وإن كِلاَباً هذه عَشْر قَبَائِل؛ ومثله قول عُمَر بن أبي ربيعة: [الطويل]
٢٣٩٨ - وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي ثلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ
لم تَلْحَق التاءُ في عدد «شخوص» وهي مُذَكَّرة؛ لمَّا كانت عِبَارة عن النِّسْوة، وهذا أحْسَن ممَّا قَبْلَه؛ للتَّصْريح بالمُؤنَثِ في قوله: «كاعبانِ» و «مُعْصِرُ»، وهذا كما أنَّه إذا أُرِيد بلَفْظٍ مؤنَّثٍ معنَى مُذَكَّر؛ فإنَّهم يَنْظُرُون إلى المُراد دُونه اللَّفْظ، فَيُلْحِقُون التَّاء في عددِ المُؤنَّث، ومنه قوله الشاعر: [الوافر]
532
فألحَق التَّاء في عدد «انْفُس» وهي مُؤنَّثةٌ؛ لأنَّها يراد بها ذُكُور، ومثله: ﴿اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً﴾ [الأعراف: ١٦٠] في أحد الوَجْهَين، وسيأتي إن شاء الله في موضعه.
ومنها: أنَّه راعى الموصُوف المَحْذُوف، والتقدير: فله عَشْر حسنات أمْثَالها، ثم حذف الموصُوف: وأقَامَ صِفَتَهُ مُقامه تاركاً العدد على حاله، ومثله: «مَرَرْت بِثَلاثة نَسَّاباتٍ» ألْحِقَت التَّاء في عدد المؤنَّث مُرَاعاة للموصوف المَحْذُوف، إذ الأصْل: بثلاثة رجالٍ نسَّاباتٍ، ويؤيِّد هذا: قراءة يَعْقُوب، والحسن، وسعيد بن جُبَيْر، والأعْمش، وعيسى بن عُمَر: «عَشْرٌ» بالتَّنوين «أمثَالُها» بالرَّفْع صفة ل «عَشْر» أي: فله عشر حسنتٍ أمْثَالِ تِلْك الحسنة، وهذه القراءة سَالِمَةٌ من تلك التَّآويل المَذْكُورة في القِرَاءة المَشْهُورة.
وقال أبو عليَّ: اجْتَمَع هاهُنَا أمْرَان، كلٌّ مِنْها يُوجِب التَّأنيث، فلما اجْتَمَعا، قوي التَّأنيث:
أحدهما: أن الأمْثَال في المعنى: «حَسَنات» فجاز التأنيث كقوله: [الطويل]
٢٤٠٠ -............... ثلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ
أرد بالشُّخُوص: النِّسَاء.
والآخر: أنَّ المُضاف إلى المؤنَّثِ قد يُؤنَّث وإن كان مُذَكَّراً؛ كقوله من قال: «قَطَعْت بَعْضَ أصابِعه»، ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة﴾ [يوسف: ١٠].

فصل في هل المراد في العدد التحديد


قال بعضهم: التقدير بالعَشْرَة ليس المراد منه: التَّحْديدُ، بل المُرَادُ منه: الإضْعَاف مُطْلقاً؛ كقول القائل: «إذا أسديت إليَّ معروفاً لأكافِئَنَّكَ بعشر أمْثَالِهِ» وفي الوَعِيد: «لئن كَلَّمْتَنِي [كلمة] واحِدَة، لأكَلِّمنَّك عَشْراً» ولا يريدُ التَّحْديد، فكذلك هُنا، ويدُلُّ على أنَّه ليس المراد التَّحْديد، قوله - سبحانه وتعالى -:
﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ [البقرة: ٢٦١].
وقال ابن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «الآية في غير الصِّدَقَات».
قوله: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾
أي: إلاّ جَزَاء يُسَاويِها.
روى أبو ذرِّ - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرّف وكرَّم وبجّل ومَجّد وعظَّم قال: قال الله - تبارك وتعالى -: «الحسنة عشرة أو أزيد، والسيئة واحدة، أو عفو، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره».
533
وقال - عليه أفضل الصلاة والسلام - وأتم حكاية عن الله - تبارك وتعالى سبحانه -: «إذا هَمّ عَبءدِي بِحسنَةٍ، فاكتُبُوهَا وإنْ لَم يَعْلَمَلْها، فإن عَمِلها، فعَشرْ أمْثَالهان وإن هَمّ بسَيِّئَة، فلا تَكْتُبُوها، فإن عَمِلَها، فَسَيِّئَة وَاحِدة.
وروى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
إذا أحْسَن أحدُكُم إسلامه، فكُلُّ حَسَنَة يَعْمَلُها تُكْتَبُ بعْشر أمْثَالها إلى سبعمائة، وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها، تكْتَبُ بِمثْلِها، حتَّى يَلْقى اللَّه - عزَّ وجلَّ - «.
ثم قال - تبارك وتعالى -: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
أي: لا يَنْتَقِصُ من ثواب طاعتهم، ولا يُزَاد علي عِقاب سيِّئاتهم، وهاهُنا سؤالان:
السؤال الأول: كُفْر ساعة كَيْف يُوجِبُ عقاب الأبد عل نهاية التَّغْلِيظ فما وجه المُمَاثَلَة؟
فالجواب: أن الكافر كان على عَزْم أنَّه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعْتِقَاد فلما كان ذلك العَزْم مؤبِّداً عُوقِب بعقابِ الأبد؛ بخلاف المُسْلم المُذْنِب؛ فإنَّه يكُون على عَزْمِ الإقْلاع من ذلك الذَّنْب، فلا جَرَم كانت عُقُوبتُه مُنْقطعة.
السؤال الثَّاني: اعتاق الرَّقبة الواجة تارةً جعلها بدلاً عن صِيَام سِتِّين يَوْماً في كفَّارة الظَّهَار، والجِمَاع في نهارِ رضمان، وتارة جعلها بدلاً من صيام ثلاثة أيَّام، فدلَّ على أنَّ المُساوَاة غير مُعْتَبَرة؟.
وجوابُه: أنَّ المُسَاوَاة إنَّما تَحْصُل بوَضع الشِّرْع وحُكْمه.
السؤال الثالث: إذا أوْضَح الإنْسان مُوَضِّحَتَيْن، وجب فيها أرشان فإن رُفِعَ
534
الحاجزُ بينهُمَا، صار الواجب أرْشَ مُوضِّحة واحدة؛ فههُنا ازْدَادَت الجِنايَة وقل العقاب، فالمُسَاوَاة غير مُعْتَبَرة.
وجوابُه أنَّ ذلك من قَصْد الشَّرْع وتحكُّمَاتِهز
السؤال الرابع: أنه يَجِب في مُقابَلة تفويت أكثر كُلِّ واحدٍ من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قلته وفوّت كل الأعضاء وجب دِيَة واحِدَة، وذلك يَمْنع القول من رِعَاية المُمَاثلة.
وجوابُه: أن ذلك من باب تحكُّمَاتِ الشَّريعة.
535
لما عَلِم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظم دلائِلَ التَّوْحِيدن والردِّ على القَائِلِين بالشُّرَكَاء والأضْداد، وبالغ في تَقْرير إثْبَات القَضَاءِ والقدر، ورد على أهل الجاهليَّة في أبَاطِيلهم أمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يَخْتِم الكلام بقوله: «قُلْ إنِّنِي هَدَاني ربِّي إلى صراطٍ مُسْتَقيمٍ»، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الهِدَايةَ لا تَحْصُل إلاَّ باللَّه - تباك وتعالى سبحانه -.
وقال القُرطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «لمّا بيَّن أنَّ الكُفَّار تفرَّقُوا، بيَّن أنَّه - تعالى - هَدَاهُ إلى الصِّراط المُسْتَقيم، وهو مِلَّة إبراهيم - عليه الصلاة وأتم التسليم».
قوله: «دِنياً» : نَصْبُه من أوْجُه:
أحدها: من نصب على الحال، قال قُطْرُب وقيل: إنَّه مصدر على المَعْنَى، أي: هَدَانِي هدايةَ دينٍ قيِّم، أو على إضْمَار: «عَرَّفَنِي ديناً» أو الْزَمُوا دِيناً.
وقال أبُوا لبقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: إنه مفعُول ثانٍ ل «هَدَاني» وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المَفْعُول الثَّاني هُنَا هو المَجْرُور ب «إلى» فاكتُفِي بِهِ.
وقال مكِّي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عليه -: «إنَّهُ منصُوبٌ على البدل من محلِّ إلى صِراطٍ مُسْتقيمٍ».
وقيل: ب «هَدَانِي» مقدِّرة لدلالة «هَدَانِي» الأوَّل عليها وهو كالذي قَبْلَه في المعنى.
قوله: «قِيماً» قرأ الكُوفيُّون، وابن عامِر: بكسر القافِ وفتح الياء خفيفة، والباقون بفَتْحِها، وكَسْر اليَاء مشدَّدة، ومعناه: القَوِيم المُسْتَقِيم، وتقدَّم تَوْجِيه إحْدى القراءتَيْن في النِّسَاءِ والمَائِدة.
535
قال الزَّمَخْشَري - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: القيم: «فَيْعِل» من «قام» كسيِّد من سَادَ، وهو أبْلغُ من القَائِم.
وأمَّا قِرَاءة أهْلِ الكُوفَة فقال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: هو مَصدر بمعنى: القيَام، كالصِّغَر والكِبر والجُوع والشبع، والتَّويل: ديناً ذا قَيِم، ووصف الدِّين بهذا المَصْدر مُبالغة.
قوله تعالى: «مِلَّة» بدلاً من «ديناً» أو مَنْصُوبٌ بإضْمار أعني، و «حنيفاً» قد ذكر في البقرة والنساء.
والمعنى: هداني وعرَّفَنِي ملَّة إبراهيم حال كَوْنِها موصُوفة بالحنيفيَّة، ثم وصف إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقوله: «وما كان من المُشْركين» والمقْصُود منه: الردُّ على المُشْرِكين.
536
لمَّا عرّفه الدِّين المُستقِيمن عرَّفه كيف يقُوم به ويؤدِّيه، وهذ الآية الكريمة تدلُ على انَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مؤدِّي العِبَادة مع الإخْلاص، وأكده بقوله - تبارك وتعالى -: ﴿لاَ شَرِيكَ لَه﴾ وهذا من أقْوَى الدَّلائل على أنَّ شَرْط صحة الصَّلاة: أن يُؤتَى بها مَقْرُونةً بالإخْلاصِ.
واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالنُّسُك:
فقيل: المُرَاد به: الذَّبِيحَة بعينها، وجمع بين الصَّلاة وبين النَّحر؛ كما في قوله - تبارك وتعالى -: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر﴾ [الكوثر: ٢] فقيل: المراد بالصلاة هاهنا صلاة النَّحْر، وقيل: صلاةُ اللَّيْل.
وروى ثَعْلَب عن ابن الأعْرَابيِّ أنه قال: النُّسُك: سَبَائِك الفِضَّة، كل نَسِيكة منها سَبيكة، وقيل للمُتعَبِّد: نَاسِكٌ، لأنه خلَّص من دنَائِس الآثَم وصفَّاها، كالسَّبيكة المُخَلَّصَة من الخَبَث، وعلى هذا التَّأويل فالنُّسُك: كل ما يُتَقرَّبُ به إلى اللَّه - تبارك وتعالى -، إلاَّ أن الغَالِب عليه في العُرْف: الذَّبْح.
قوله: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّه﴾.
قرأ نافع: «ومَحْيايْ» بسكون ياء المُتكلِّم، وفيها الجَّمع بين سَاكِنَيْن.
536
قال الفارسي: كقوله: «التَقَتْ حَلْقَتَا البطَانِ» و «لِفُلانٍ ثُلُثَا المَالِ» بثبوت الألفين.
وقد طَعَن بَعْضُ النَّاس على هذه القراءة بما ذَكَرْت من الجَمْع بَيْ السَّاكِنين، وتعجَّبت من كَوْن هذا القَارئ يُحَرك ياء «مُمَاتِيَ» ويُسَكِّن ياء «مَحْيَايْ» وقد نقل بَعضُهُم عن نافع الرُّجوع عن ذلك.
قال أبُو شامة - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: «فَيَنْبَغِي ألاَّ يَحِلَّ نَقْلُ تسْكِين ياء» مَحْيَايَ «عنه».
وقرأ نافع في رواية: «مَحْيَاي» بكسر الياءِ، وهي تشبه قراءة حَمْزَة في ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: ٢٢]، وسيأتي - إن شاء الله تعالى -.
وقرا ابنُ أبي إسحاق، وعيس الجَحْدَرِيُّ: «ومَحْيَيَّ» بإبْدال «الألف» «ياء»، وإدغَامِها في ياء المُتَكلِّم، وهي لُغة هُذَيْل، أنشد عليها قول أبي ذُؤيْب: [الكامل]
٢٣٩٩ - ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ على عِيَاليِي
٢٤٠١ - سَبَقُوا هَوَيَّ وأعْنَاقُوا لِهَوَاهُمُ فَتُخُرِّمُوا ولِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرعُ
اعلم: أن المَحيْا والممَاتِ للَّه لَيْس بمعنى أنَّهُما يُؤتَى بِهِمَا لطاعة الله - عزَّ وجلَّ -، فإن ذلك مُحَال، بَلْ معنى كوْنِهِا للَّه أنَّهُمَا حَاصِلان بِخَلْقِ اللَّه، وذلك مِنْ أدلِّ الدِّلائل على أنَّ طاعة العَبْد مَخْلُوقة منه - تعالى -.
وقال بَعْضُ المفسِّرين: «مَحْيَايَ: بالعمل الصالحن ومَمَاتِي: إذا مِتُّ على الإيمان من رب العَالمِين».
واعلم: أنَّه - تبارك وتعالى - أمرَ رسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يُبَيِّن أنَّ صلاته، وسَائر عِباداتِه، وحياته، ومَمَاتِه كُلِّها واقعةٌ بخلق اللَّه - تبارك وتعالى - وبقدره، وقضَائه، وحُكْمِه.
وقال القُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: قوله: «ومَحْيَايَ» أي: ما أعْمَله في حَيَاتِي، و «مَمَاتِي» أي: ما اوصِي به بَعْد وَفَاتِي «لِلَّهِ ربِّ العَالمِين» أي: أُفْرِدُهُ بالتَّقَرُّب بها إليه، ثمَّ نصَّ على أنَّه لا شَريكَ لَهُ في الخَلْق، والتقدير، ثم قال: «وبذلِك أمِرْتُ» وبهذا التَّوحيد أمِرْت، ثم يقول: «وأنا أول المُسْلِمين» أي: المُستَسْلِمين لِقضَاء اللَّه وقدَره، ومَعْلُوم أنَّه لَيْس أوَّلاً لكلِّ مُسْلِمٍ، فوجب أن يكُون المراد: كَوْنه أوّلاً لِمُسْلِمِي زَمَانه.

فصل في استفتاح الصلاة بهذا الدعاء


قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ذكر الطبري، عن الشَّافعي - رحمه اله - أن في قوله -
537
تعالى -. ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٦١] إلى قوله ﴿رَبِّ العالمين﴾ ما يَدُلُّ على افْتِتَاح الصَّلاة بهذا الذِّكْر؛ فإن اللَّه - سبحانه وتعالى - أمر نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ به، وأنْزَله في كِتَابه، ثم ذكر حديث عليِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان إذا افْتِتَح الصلاة قال: وجَّهْت وَجْهِي للَّذِي فَطَر السَّموات والأرْضَ حَنِيفاً وما أن من المُشْركِين، إنَّ صَلاَتي ونُسُكي ومَحْيَاي ومَمَاتِي للَّه ربِّ العالمين، لا شَرِيكَ لهُ وبذلك أمِرْت وأنا أوَّل المُسْلِمِين.
538
ثمَّ نصَّ على أنَّه لا شَريكَ لَهُ في الخَلْق، والتقدير، ثم قال :" وبذلِك أمِرْتُ " وبهذا التَّوحيد أمِرْت، ثم يقول :" وأنا أول المُسْلِمين " أي : المُستَسْلِمين لِقضَاء اللَّه وقدَره، ومَعْلُوم أنَّه لَيْس أوَّلاً لكلِّ مُسْلِمٍ، فوجب أن يكُون المراد : كَوْنه أوّلاً لِمُسْلِمِي زَمَانه.

فصل في استفتاح الصلاة بهذا الدعاء


قال القرطبي١ - رحمه الله - :" ذكر الطبري، عن الشَّافعي - رحمه الله - أن في قوله –تعالى- :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ إلى قوله ﴿ رَبِّ العالمين ﴾ ما يَدُلُّ على افْتِتَاح الصَّلاة بهذا الذِّكْر ؛ فإن اللَّه -سبحانه وتعالى- أمر نبيِّه صلى الله عليه وسلم به، وأنْزَله في كِتَابه، ثم ذكر حديث عليِّ - رضي الله عنه - كان إذا افْتِتَح الصلاة قال : وجَّهْت وَجْهِي للَّذِي فَطَر السماوات والأرْضَ حَنِيفاً وما أنا من المُشْركِين، إنَّ صَلاَتي ونُسُكي ومَحْيَاي ومَمَاتِي للَّه ربِّ العالمين، لا شَرِيكَ لهُ وبذلك أمِرْت وأنا أوَّل المُسْلِمِين٢.
١ ينظر: القرطبي ٧/٩٩..
٢ أخرجه مسلم (١/٥٣٤، ٥٣٦) كتاب صلاة المسافرين: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه حديث (٢٠١/٧٧١)..
لما أمَرَهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالتَّوْحِيد المَحْضِ، أمَره أن يَذْكر ما يَجْرِي مُجْرى الدَّليل على صِحَّة هذا التَّوحِيد، وتقريره من وجهين:
الأول: أنَّ أصناف المُشْرِكين أربعة؛ لأنَّ عبدة الأصنام أشْرَكُوا باللَّه، وعبدة الكواكِب أشْرَكُوا باللَّه، والقَائِلون بيزدان وأهرمن أشركوا، والقَائِلُون بأنَّ المسيح ابنُ اللَّه والملائكة بنات الله أشْرَكُوا، فهولاء هم فِرَقُ المُشْرِكين، وكلُّهم يَعْتَرفُون بأن اللَّه - سبحانه وتعالى - هو الخَالِق لِلكُلِّ؛ لأن عبدة الأصنام معترِفُون بان اللَّه - تعالى - خالقُ السَّمواتِ والأرْضِ وكلِّ ما في العالم من الموْجُودات وهُو الخالقُ للأصْنامِ والأكوان بأسْرِها.
وأما القَائِلُون بيزدان وأهرمن فهُم أيضاً معترِفُون بأنَّ الشَّيْطَان مُحْدَث، وأنَّ مُحْدِثهُ هو اللَّه - تبارك وتعالى -.
وأمَّا القَائِلُون بالمسيح والملائكة، فهُم أيضاً معتَرِفُون بأنَّ اللَّه - سبحانه وتعالى - خَلَق الكُلَّ؛ فثبت انَّ طوائِف المُشْرِكين أطْبَقُوا على أنَّ الله - تبارك وتعالى - خلق هؤلاء الشُّرَكَاء.
وإذا عُرِف هذا، فاللَّه - سبحانه وتعالى - قال لرسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قل يا مُحَمَّد أغير اللَّه أبْغِي ربّاً، مع أنَّ هؤلاء الذين اتِّخَذُوا رَبَّاً غيراللَّه، أقَرُّوةا بأن اللَّه تبارك وتعالى خالق تلك الأشْيَاء.
وهل يَدْخُل في العَقْل جعل المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ، وجعل العَبْد شَرِيكاً للمَوْلَى، وجَعْل المَخْلُوق شَريكاً للخَالِق؟ ولمَّا كان الأمْر كذلك، ثبت أنَّ إتَّخَاذّهُم رَباً غيْر اللَّه [قول] فاسدٌ ودينٌ بَاطِلٌ.
538
الثاني: أن الموجود إمَّا واجبٌ لِذَاته وإمَّا ممكن لِذَاته، وثبت أن واجِبَ الوُجُود واحدٌ، وثبت أنَّ ما سِوَاه مُمْكِنٌ لذاته، وثَبَت أن المُمْكِن لذاته لا يُوجد إلاَّ بإيجَادِ الواجِبِ لذَاتِهِ، وإن كان الأمْر كذلك، كان اللَّه - تعالى - ربّاً بِكُلِّ شَيْء.
وإذا ثبت هذا، فَنقُول: صَرِيحُ العَقْل يَشْهَدُ بأنَّه لا يَجُوز جَعْلُ المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ، وجَعْل المَخْلُوق شريكاً للخَالِقن وهذا هو المُرَاد من قوله - تعالى -: ﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - معنى ربّاً: أي سيِّداً وهُو رب كُلِّ شيء، وذلك أنَّ الكُفَّار كانوا يقُولون للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ارْجع إلى ديننا.
قال ابن عبَّاسٍ، قال الوليدُ بن المُغيرَة: اتبعُوا سبيلي، أحْمِل عَنْكُم أوْزَاركم، فقال اللَّه - تبارك وتعالى -: ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ ومعناه: أنَّ إثْمَ الجانِي عليه، لا على غيره «ولا تَزِرُ وَازرةٌ وزْرَ أخرَى» أي: لا يُؤاخَذُ أحدٌ بذَنْب غيره.
قال القُرْطُبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأصْل الوِزْر: الثِّقَل، ومنه قوله - تعالى -: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ﴾ [الشرح: ٢، ٣] وهو هنا: الذنب؛ كما قال - تعالى -: ﴿يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١] وقد تقدَّم قول الأخْفَش: يُقَال: وَزِر يَوْزَر، وَوَزَرَ يزر، وَوُزِرَ يُوزَر وِزْراً.
قيل: نَزلَتْ رداً على العرب في الجاهليَّة من مُؤاخَذَة الرَّجُل بِأبيه، وابْنِه، وابْنِه، وبجريرة حَلِيفِهِ.
قال القُرْطُبِي: يحتمل أنْ يكُون المُراد بِهَذَه الآية في الآخرة، وكذلك الَّتِي قَبْلَها، فأمَّا في الدنيا: فقد يُؤاخَذُ بعضُهم بِجُرْم بعضٍ، ولا سيَّما إذا لم يَنْه الطَّائع العَاصِي، كا تقدّم في حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] وقال تعالى -: ﴿واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥] ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
وقالت زَيْنَب بِنْت جَحْش: «يا رسُول الله، أنَهْلَكُ وفينا الصَّالِحُون؟ قال: نعم، إذا كَثُر الخَبَث».
قال العلماء: معناه: أوْلاد الزِّنَّا، والخبيث بفتح البَاء: اسمٌ للزِّنَا، وأوْجَب اللَّه - تعالى - على لسان رسُوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - ديَة الخطأ على العَاقِلة، حتى لا يُطل دمُ المُسْلِمِ وذلك بالإجْمَاع؛ فَدَلَّ ذلك على ما قُلْنَاه. ثم بيَّن - تعالى - أنَّ رُجُوع هؤلاء
539
المشركين إلى مَوْضِع لا حَاكِم ولا آمِر إلا اللَّه، وهو قوله تعالى -: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
. قوله تعالى: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم﴾
فيه
وُجُوه:
أحدها: أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتم النَّبِيِّين، فَخَلَفَتْ أمَّتْه سَائِرَ الأمَم، والخلائف: جَمْع خليفة؛ كالوَصَائف جَمْع وَصِيفَة، وكُلُّ من جَاءَ تبعاً له، فهو خَلِيفةَ؛ أنه يَخْلُفُه، أي: أهْلَك القُرُون المَاضِيَة، وجَعَلَكُم يا مُحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خُلَفَاء مِنْهُم، تَخْلُفوهم في الأرْضِ وتَعْمرُونها بعدهم.
وثانيها: جعلهُم يَخلُف بعضُهم بعضاً.
وثالثها: أنَّهُم خُلَفَاء اللَّه في ارْضِه، يَمْلِكُونها ويتَصَّرفُون فيها.
قوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ : في الشَّرف، والعَقْل والمال، والجاه، والرِّزْقِ، ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ﴾ ليختبركُمْ فيما رَزَقَكُم، يَعْنِي: يَبْتَلِي الغَنِيَّ، والفَقِيرَ، والشَّريف، والوَضِيعَ، والحُر، والعَبْدَ، ليُظْهِر مِنْكُم ما يكُون عليه الثَّواب والعِقَاب، ثمَّ قال - تعالى - ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب﴾ لأنَّما هُو آتٍ هو سريعٌ قريب.
وقيل: هو الهلاك في الدنيا «وإنَّه لغَفُورٌ رَحِيمٌ».
قال عطاء: سَريع العقاب لأعْدَائه، غَفُور رحيمٌ لأوْلِيائه رحيم بهم، وأكد قوله: «لَغَفُورٌ» [باللام] دلالَة على سِعَة رَحْمَتِه، ولمْ يؤكد سُرْعة العِقَاب بذلك هُنَا، وإن كان قد أكَّد ذلك في سُورَة الأعْراف؛ لأنَّ هناك المقام مقام تَخْويفٍ وتهديد، وبعد ذِكْر قصَّة المُعْتَدين في السَّبْت وغيره، فَنَاسب تَأكِيد العِقَاب هُنَاكن وأتى بِصِيغَتَي الغُفْرَان والرَّحْمة، ولا بصيغَةٍ واحِدَة؛ دلالة على حِلْمِه، وسِعَة مغفرته، ورَحْمَتِه.
روى جابر بْن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ قَرأ ثلاث آيات في أوَّل سُورة الأنعام إلى قوله: {وَيْعَلَم ما تَكْسِبون» وكل اللَّه به أرْبَعين ألْف ملكٍ، يَكْتُبُون لَهُ مِثْل أعمالهم إلى يوم القيامة، ويَنْزِلُ ملكٌ من السَّماء السَّابِعَة، ومعهُ مَرْزبة من حَديد، فإن أرادَ الشَّيْطان أن يُوسوسَ أو يُوحِي إلى قَلْبه، ضربه بها ضرباً، فكان بَيْنَه وبَيْنَه سبْعُون حِجَاباً، فإذا كان يَوْم القيامة يَقُول الرَّبُّ - سبحانه وتعالى - امْش في ظِلِّي، وكُلأ من ثِمَار جَنَّتي، واشرب من مَاءِ الكَوْثَرِ، واغْتَسِل من مَاء السَّلْسَبيل، وأنْتَ عَبْدِي وأنَا ربُّك «.
540
والله - سبحانه وتعالى - أعْلَم بالصَّواب، وإليْه المَرْجع والمآبُ، وكان اخْتِتَام هذا الجُزء المُبارك في يَوْم الأرْبعاء المُبارك، والموافق لأحْدى عَشر يَوماً خلَت من شَهْر مُحَرَّم، الَّذي هو ابْتِداء شهور سنة ١٢٧١، إحْدى وسَبْعين ومائَتَين وألْف من الهِجْرة النَّبَويَّة على صَاحِبها أفْضل الصَّلوات، وأزْكَى السَّلام، على يد كَاتِبها أفْقَر العباد، وأحوَجهِم إلى ربِّه الغَنِيَ المُعْطي إبراهيم مُحَمَّد الأرْنَؤُطِي، غَفَر اللَّه لَهُ، ولِوَالِدَيْه، ولِمَن دَعَا لَهُمَا بالمَغْفِرة، ولِلْمُسْلِمين والمُسْلِمَات الأحْيَاء مِنْهُم والأمَواتِ، إنَّه سميع قَريبٌ مُجِيب الدعوات.
آمين يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تمَّ الجزء الثَّامن، ويليه الجزء التَّاسع
وأوَّله: تفسير سورة الأعراف
541
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
سورة الأعراف
3
Icon