ﰡ
وتسمى: سورة المضاجع، مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا﴾ إلى تمام ثلاث آيات، وآيها: ثلاثون آية، وحروفها: ألف وخمس مئة وثمانية عشرة حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وثمانون كلمة.
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الم (١)﴾.[١] ﴿الم﴾ اختلفوا في إعراب أوائل السور على ثلاثة أقوال: قيل: محلها رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه ألف لام ميم، أو مبتدأ وما بعده خبر، وقيل: محلها نصب على إضمار فعل؛ أي: اقرأ ألف لام ميم، وقيل: في محل جر على إضمار جر بالقسم؛ أي: وألفٍ لام ميم، وتقدم تفسيره واختلاف القراء فيه غيرَ مرة.
* * *
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾.
[٢] ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: لا شك في الكتاب أنه تنزيل.
* * *
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ أي: بل أيقولون: ﴿افْتَرَاهُ﴾ أي: اختلقَ محمدٌ القرآنَ.
﴿بَلْ هُوَ﴾ أي: القرآنُ ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ هم العرب.
﴿مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ لأن العرب لم يُبعث إليهم أحد قبل النبي - ﷺ -؛ لأنهم كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ بإنذارك إياهم.
* * *
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ تقدم الكلام فيه في سورة طه ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ من دون عذابه.
﴿مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾ المعنى: إذا خالفتموه، فلا ناصر يذب عنكم، ولا شافع يشفع لكم.
﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ بمواعظ الله؟!
* * *
[٥] ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ يقضي القضاء وينزله ﴿مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾ واختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ) كاختلافهم فيهما من قوله: (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: ٣٣].
﴿ثُمَّ يَعْرُجُ﴾ يصعد ﴿إِلَيْهِ﴾ المعنى: ينزل الملك بالوحي من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إلى مقره منها.
﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ من أيامكم؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة سنة (١)، فيكون هبوط الملك وصعوده في قدر يوم واحد، وأما قوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)﴾ [المعارج: ٤] فهو مدة المسافة بين سدرة المنتهى والأرض، ثم عوده إلى السدرة، فالملك يسيره في قدر يوم واحد من أيام الدنيا.
* * *
﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)﴾.
[٦] ﴿ذَلِكَ﴾ المدَبِّرُ ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أي: يعلم الظاهر والباطن ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالبُ ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده.
* * *
[٧] ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ قرأ نافع، والكوفيون: (خَلَقَهُ) بفتح اللام؛ أي: كل شيء (١) خلقه حسن، وقرأ الباقون: بإسكانها (٢)، أي: أحسنَ كمل (٣) خلقَ كلِّ شيء؛ أي: أتقنه وأحكمه.
﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ﴾ أي: آدم ﴿مِنْ طِينٍ﴾.
* * *
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨)﴾.
[٨] ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾ ذريته.
﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾ من نطفة؛ لأنها تُسل من الإنسان.
﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ ضعيف.
* * *
﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ قَوَّمه وسَوَّى خلقَه ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ أي: جعل فيه الشيء الذي اختص تعالى به، ولذلك أضافه إليه، فصار بذلك حيًّا حساسًا بعد أن كان جمادًا، لا أن ثَمَّ حقيقة نفخ، ئم عاد إلى ذريته فقال:
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٥٦)، و "التيسير" للداني (ص: ١٧٧)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٩٨).
(٣) "كمل" ساقطة في "ت".
﴿السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ يعني: لا تشكرون إلا شكرًا قليلًا.
* * *
﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَقَالُوا﴾ منكرو البعث: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ ذهبنا وصرنا ترابًا، و (صَلَلْنَا) بالصاد المهملة: تغيرنا، والتلاوة بالأول ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ المعنى: أنبعث بعد موتنا وانعدامنا؟ واختلف القراء في (أَئِذَا) (أَئِنَّا) في الإخبار بالأول منهما، والاستفهام بالثاني، وعكسه، والاستفهام فيهما، فقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: (إِذَا) بالإخبار (أَئِنَّا) بالاستفهام، وابن عامر: يحقق الهمزتين، وأبو جعفر: يسهل الثانية ويفصل بينهما بألف، واختلف عن هشام راوي ابن عامر في الفصل مع تحقيق الهمزتين، وقرأ نافع، والكسائي، ويعقوب: (أَئِذَا) بالاستفهام (أَئِنَّا) بالإخبار، فنافع يسهل الهمزة الثانية، ورواية قالون: يفصل بينهما بألف، ووافقه رويس عن يعقوب في التسهيل، والكسائي: يحقق الهمزتين، وافقه روح عن يعقوب، وقرأ الباقون: (أَئِذَا) (أَئِنَّا) بالاستفهام فيهما، فابن كثير وأبو عمرو: يسهلان الهمزة الثانية منهما، وأبو عمرو: يفصل بينهما بألف، وعاصم وحمزة وخلف: يحققون الهمزتين (١)، فمن قرأ بالاستفهامين، فذلك
قال الله عز وجل: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ أي: بالبعث بعد الموت.
* * *
﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ يقبض أرواحكم ﴿مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ أي: وكل بقبض أرواحكم، وهو عزرائيل -عليه السلام-، والتوفي: هو استيفاء العدد، معناه: أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليهم الموت.
روي أن الدنيا لملك الموت كراحة اليد، يأخذ منها صاحبها ما أحب بلا تعب، فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، روي أن أعوانه ينزعون الروح، فإذا بلغت ثغرة النحر، نزعها هو (١).
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ بعد الموت أحياءً، فيجزيكم بأعمالكم. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُون) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (٢).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٠).
[١٢] ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ أي: وليتك يا محمد ترى ﴿إِذِ الْمُجْرِمُونَ﴾ المشركون ﴿نَاكِسُو﴾ مطأطِئو ﴿رُءُوسِهِمْ﴾ خجلًا وندمًا ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يوم القيامة، فتمنى تعالى أن يراهم نبيُّه -عليه السلام- على الحالة الرديئة؛ لأنهم آذوه.
﴿رَبَّنَا﴾ أي: ويقولون: ربَّنا ﴿أَبْصَرْنَا﴾ صدقَ وعدِك.
﴿وَسَمِعْنَا﴾ منك تصديقَ رسلك، تقديره: لو رأيت حالهم، لرأيت العجب.
﴿فَارْجِعْنَا﴾ إلى الدنيا ﴿نَعْمَلْ صَالِحًا﴾ فيها.
﴿إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ هنا بما أنكرنا ثَمَّ.
* * *
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ رشدَها إلى الإيمان، وأجبرناها عليه.
﴿وَلَكِنْ حَقَّ﴾ أي: ثبت ﴿الْقَوْلُ مِنِّي﴾ بالوعيد، وهو: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ﴾ أي: الشياطين ﴿وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وهو قوله لإبليس: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٥].
* * *
[١٤] ثم يقال: ﴿فَذُوقُوا﴾ هذا الذي أنتم فيه؛ من التنكيس والخزي.
﴿بِمَا نَسِيتُمْ﴾ بسبب نسيانكم ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ وهو يوم القيامة، واشتغالكم بملذاتكم عن الاعتداد له ﴿إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ تركناكم.
﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ الدائم في جهنم ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والمعاصي.
* * *
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ثم أثنى -عز وجل- على المؤمنين فقال: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا﴾ وعظوا ﴿بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا﴾ سقطوا على وجوههم ساجدين خوفًا منه.
﴿وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ نزهوا الله عما لا يليق به، حامدين له على ما وفقهم.
﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ على الإيمان به، والسجود له، وهذا محل سجود بالاتفاق، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم سجود التلاوة وسجود الشكر ملخصًا عند سجدة مريم، ويُسن عند الشافعي وأحمد أن يقرأ في فجر الجمعة في الركعة الأولى: ﴿الم﴾ السجدة، وفي الثانية ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ [الإنسان] وكره أحمد المداومة عليهما؛ لئلا يُظن أنها مفضلة
* * *
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿تَتَجَافَى﴾ ترتفع ﴿جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ جمع مضجع، وهو الفِراش، وهم المتهجدون بالليل الذين يقومون للصلاة.
وقال ابن رواحة يمدح النبي - ﷺ -:
وَفِينا رسولُ الله يَتْلو كتابَهُ | إذا انشقَّ معروفٌ من الفجرِ ساطعُ |
أرانا الهدى بعدَ العمى فقلوبُنا | به موقِناتٌ أَنَّ ما قالَ واقعُ |
يبيتُ يُجافي جَنْبَهُ عن فِراشِهِ | إذا استثقلَتْ بالكافرينَ المضاجِعُ (١) |
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يتصدقون تطوعًا.
* * *
﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ﴾ لا مَلَكٌ مقرَّب، ولا نبي مرسَل.
﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - ﷺ -: "يقول الله تبارك وتعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بَلْهَ ما اطلعتم عليه" (٢)، و (بَلْهَ)؛ أي: غيرَ.
* * *
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨)﴾.
[١٨] ولما وقع تنازع بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبين الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه، فقال الوليد: لعلي: اسكت، فإنك صبي، فقال له علي: "اسكت؛ فإنك فاسق"، نزل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ (٣) عند الله، أفرد مؤمنًا وفاسقًا حملًا على لفظ (مَنْ) وجمع (لا يَسْتَوُونَ) حملًا على معناها؛
(٢) رواه البخاري (٤٥٠٢)، كتاب: التفسير، باب: قوله: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾، ومسلم (٢٨٢٤)، في أول كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" (٢١/ ١٠٧)، عن عطاء، ورواه الواحدي في "أسباب النزول" (ص: ٢٠١ - ٢٠٢)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
* * *
﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ثم بين التفاوتَ بينهما فقال: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ﴾ استحقاقًا تكرمًا منه تعالى ﴿جَنَّاتُ الْمَأْوَى﴾ التي يأوي إليها المؤمنون.
﴿نُزُلًا﴾ جزاءً وثوابًا ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ بسبب أعمالهم.
* * *
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ عبارة عن خلودهم فيها ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ إهانة لهم، وزيادة في غيظهم، قال هنا: (الَّذِي) أراد: العذاب، وفي سبأ (الَّتِي) أراد: النار.
* * *
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى﴾ أي: الأقرب عذاب الدنيا من
ثم ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أي: من بقي منهم ﴿يَرْجِعُونَ﴾ يتوبون.
* * *
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ فلم يتفكروا فيها، و (ثُمَّ) لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها.
﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ أجمعين ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾ وظاهر الإجرام هنا: أنه الكفر، وروى معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، عن النبي - ﷺ -: أنه قال: "ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقدَ لواءً في غير حق، ومن عَقَّ والديه، ومن نصر ظالمًا" (١).
* * *
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ﴾ أي: شك ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ أي: من لقاء موسى ليلة الإسراء، قاله ابن عباس وغيره ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾ أي: المنزَل على موسى، وهو التوراة ﴿هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ روي أن
* * *
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ﴾ من بني إسرائيل ﴿أَئِمَّةً﴾ قادة في الخير يُقتدى بهم؛ يعني: الأنبياء الذين كانوا فيهم. واختلاف القراء في (أَئِمَّةً) كاختلافهم فيه في الحرف المتقدم في سورة الأنبياء [الآية: ٧٣] ﴿يَهْدُونَ﴾ يدعون إلى الطاعة ﴿بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (لِمَا) بكسر اللام وتخفيف الميم؛ أي: بصبرهم، وقرأ الباقون: بفتح اللام وتشديد الميم (١)؛ أي: حين صبروا على دينهم، وعلى البلاء من عدوهم.
﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ إمعانهم فيها النظر.
* * *
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ يقضي بين الأنبياء وأممهم.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر الدين.
[٢٦] ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ يُبيِّنْ ﴿لَهُمْ﴾ أي: لأهل مكة. قرأ زيد عن يعقوب: (نَهْدِ) بالنون، والباقون: بالياء (١)، فالفاعل على القراءتين مضمر؛ أي: الله.
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ أي: الأمم؛ كعاد وثمود ﴿يَمْشُونَ﴾ أهل مكة ﴿فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ يمرون على ديارهم في متاجرهم.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ﴾ المواعظَ فيتعظون؟!
* * *
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ أي: اليابسة المعدومة النبات. واختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (الْمَاءَ إِلَى) كاختلافهم فيهما من قوله: (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) في سورة الكهف [الآية: ١٠٢]، المعنى: ألم يستدلوا على قدرتنا بسوقنا المطر إلى الأرض التي لا نبات فيها؟! قال ابن عباس: "هي أرض باليمن" (٢).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٢٧).
﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ ذلك فيؤمنون؟!
* * *
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ولما قال الكافرون للمؤمنين استهزاء: متى الساعة فيقضى بيننا وبينكم؟! نزل: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾ (١) أي: القضاء والحكم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في الوعد.
* * *
﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ وهو يوم القيامة.
﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي: يُمْهَلون، فإنه يوم نصر للمسلمين على الكفرة، والفصل بينهم.
* * *
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ يا محمد، وهو منسوخ بآية السيف.
﴿وَانْتَظِرْ﴾ وعدي بنصرك ﴿إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ هلاكك.
* * *