مدنية. وهي ثلاث وسبعون – بتقديم السين – آية. وعن أبي، أنه قال : كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قالوا : ثلاثا وسبعين، قال : فوالذي يحلف به أبي إن كانت لتعدل سورة البقرة، أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم : الشيخ والشيخة، إذا زنيا، فارجموهما ألبتة ؛ نكالا من الله، والله عزيز حكيم. أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. انظر النسفي. ومناسبتها لما قبلها : أن الفتح إنما يكون مع التقوى، فأمره بها، بعد أمره بانتظار نصره، كأنه قيل : يا أيها النبي اتق الله ؛ تر الفتح طوع يدك.
ﰡ
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ * ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ * ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها النبي ﴾ أي : المُشرِّف ؛ حالاً، المفخم ؛ قدراً، العلي ؛ رتبة ؛ لأن النبوة مشتقة من النَّبْوَةَ، وهو الارتفاع. أو : يا أيها المخبرُ عنا، المأمون على وحينا، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل : يا محمد، كما قال :" يا آدم، يا موسى " ؛ تشريفاً وتنويهاً بفضله، وتصريحُه باسمه في قوله :﴿ مُّحَمَدٌ رَّسُولُ اللهِ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ]، ونحوه، ليعلم الناس بأنه رسول الله. ﴿ اتقِ الله ﴾ أي : اثبت على تقوى الله، ﴿ ولا تُطع الكافرين والمنافقين ﴾ ؛ لا تساعدهم على شيء، واحترس منهم ؛ فإنهم أعداء لله وللمؤمنين.
رُوي أن أبا سُفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السُّلمي، نزلوا المدينة على ابن أُبيّ، رأس المنافقين، بعد أُحد، وقد أعطاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن أبي سَرْح، وطُعْمَة بن أُبيْرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا ؛ اللات، والعزى، ومناة، وقل : إن لها شفاعة ومنفعة لِمن عَبَدَها، وندعك وَرَبَّك. فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر : ائذن لنا، يا رسول الله، في قتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم :" إني قد أعطيتهم الأمان ". فقال عمر : اخرُجوا في لعنة الله وغضبه، فخرجوا من المدينة، فنزلت.
أي : اتق الله في نقض العهد، ولا تُطع الكافرين من أهل مكة، كأَبي سفيان وأصحابه، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا، ﴿ إن الله كان عليماً ﴾ بخبث أعمالهم، ﴿ حكيماً ﴾ بتأخير الأمر بقتالهم.
التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده. ﴿ واتبع ما يوحى إليك... ﴾ ؛ لا تبتدع، واقتِد بما نأمرك، ولا تقتدِ، باختيارك، غَيْرَ ما نختار لك، ولا تُعَرِّج - أي : تقم - في أوطان الكسل، ولا تجنجْ إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بِكَ. " وتوكل " ؛ انسلخْ عن إهابك لنا، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا، واحذرْ ذهابَكَ عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا. ويقال : التوكل : تَخلُّقُ، ثم تَخلُّقٌ، ثم تَوَثُقٌ، ثم تَمَلُّقٌ، تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية. ويقال : التوكل : استواءُ القلب في العدم والوجود. هـ.
التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده. ﴿ واتبع ما يوحى إليك... ﴾ ؛ لا تبتدع، واقتِد بما نأمرك، ولا تقتدِ، باختيارك، غَيْرَ ما نختار لك، ولا تُعَرِّج - أي : تقم - في أوطان الكسل، ولا تجنجْ إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بِكَ. " وتوكل " ؛ انسلخْ عن إهابك لنا، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا، واحذرْ ذهابَكَ عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا. ويقال : التوكل : تَخلُّقُ، ثم تَخلُّقٌ، ثم تَوَثُقٌ، ثم تَمَلُّقٌ، تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية. ويقال : التوكل : استواءُ القلب في العدم والوجود. هـ.
التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده. ﴿ واتبع ما يوحى إليك... ﴾ ؛ لا تبتدع، واقتِد بما نأمرك، ولا تقتدِ، باختيارك، غَيْرَ ما نختار لك، ولا تُعَرِّج - أي : تقم - في أوطان الكسل، ولا تجنجْ إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بِكَ. " وتوكل " ؛ انسلخْ عن إهابك لنا، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا، واحذرْ ذهابَكَ عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا. ويقال : التوكل : تَخلُّقُ، ثم تَخلُّقٌ، ثم تَوَثُقٌ، ثم تَمَلُّقٌ، تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية. ويقال : التوكل : استواءُ القلب في العدم والوجود. هـ.
﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ * ﴿ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ما جعل اللهُ لرجلِ من قلبين في جوفه ﴾ ؛ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، أو : يتقي بأحدهما ويعصي بالآخر، أو : يُقبل على الله بأحدهما ويُقبل على الدنيا بالآخر، بل ما للعبد إلا قلب واحد، إن أقبل به على الله ؛ أدبر عمن سواه، وإن أقبل به على الدنيا، أدبر عن الله. قيل : الآية مثل المنافقين، أي : إنه لا يجتمع الكفر والإيمان، وقيل : لا تستقر التقوى ونقض العهد في قلب واحد. وقال ابن عطية : يظهر من الآية، بجملتها، أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك القوت، وإعلام بحقيقة الأمر فيها، فمنها : أن العرب كانت تقول : الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه، وكان تَضَادُّ الخواطر يحملها على ذلك. . الخ كلامه.
قال النسفي : والمعنى : أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين ؛ لأنه لا يخلو : إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فَضْلَةٌ، غير مُحْتاَج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك، فيؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً، عالماً ظانا، موقناً شاكا في حالة واحدة. ه.
وكانت العرب تعتقد أيضاً أن المرأة المظاهَرَ منها : أُمًّا، فردّ ذلك بقوله :﴿ وما جعل أزواجَكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتِكم ﴾ أي : ما جمع الزوجية والأمومة في امرأة واحدة ؛ لتضاد أحكامهما ؛ لأن الأم مخدومة، والمرأة خادمة.
وكانت تعتقد أن الدّعي ابن، فردّ عليهم بقوله :﴿ وما جعل أدعياكم أبناءكم ﴾ أي : لم يجعل المُتَبَنَّى من أولاد الناس ابناً لمَن تبناه ؛ لأن البنوة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في شيء واحد أن يكون أصيلاً وغير أصيل.
ونزل هذا في " زيد بن حارثة "، وهو رجل من كلب، سُبي صغيراً، فاشتراه حكيم بن حزام، لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، فطلبه أبوه وعمه، وجاءا بفدائه، فخُيَّر، فاختار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقه وتبنّاه. وكانوا يقولون : زيد بن محمد، فلما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم زينب ؛ وكانت تحت زيد - على ما يأتي - قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه، فأنزل الله هذه الآية.
وقيل : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان، قلب معكم، وقلب مع أصحابه. وقيل : كان " أبو مَعْمَر " أحفظ العرب، فقيل : ذو القلبين، فأكذب اللهُ قولَهم. والتنكير في رجل، وإدخال " مِن " الاستغراقية على " قلبين "، وذكر الجوف للتأكيد. و " اللائي " : جمع " التي ". وفيها قراءات :" اللاء " ؛ بالهمزة مع المد والقصر، وبالتسهيل، وبالياء، بدلاً من الهمز.
وأصل ﴿ تظاهرون ﴾ : تتظاهرون، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف ؛ منْ : ظَاَهَر. ومعنى الظهار : أن تقول للزوجة : أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر، وتعديته بمن ؛ لتضمنه معنى التجنُّب ؛ لأنه كان طلاقاً في الجاهلية. وهو في الإسلام يقتضي الحرمة حتى يُكفَّر، كما يأتي في المجادلة. والأدعياء : جمع دعي، فقيل : بمعنى مفعول، وهو الذي يُدعى ولداً، وجمعه على أَفْعِلاَء : شاذ ؛ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل ؛ كتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء. ولا يكون في ذلك نحو رَمِيَّ وسَمي، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل، فَجُمِعَ جَمْعَهُ.
﴿ ذلكم قولُكُم بأفواهكم ﴾ ؛ إذ إن قولكم للزوجة : أُمًّا، والدعيّ : هو ابن، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له، إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم. ﴿ واللهُ يقولُ الحقِّ ﴾ ؛ ما له حقيقة عينية، مطابقة له ظاهراً وباطناً ﴿ وهو يهدي السبيلَ ﴾ ؛ سبيل الحق.
وقوله تعالى :﴿ وما جعل أزواجكم... ﴾ الآية، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا، وتباعد عنها ؛ لا يحل له أن يرجع، ويتخذّها أُمًّا ؛ في المحبة والخدمة. وقوله تعالى :﴿ وما جعل أدعياءكم أبناءكم.. ﴾ : تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً، أو مقاماً، ما لم يتحقق به، وليس هو له، أوْ : يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه، وهو لغيره، ﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ﴾. وقوله :﴿ فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين.. ﴾ : إخوان الدين أوْلَى، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري : وقرابةُ الدين، في الشكلية، أولى من قرابة النَّسَب، وأنشدوا١.
وَقَالُوا : قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ *** فَقُلْتُ : وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ
مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة | وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التَّنَاسُبُ |
وقوله تعالى :﴿ وما جعل أزواجكم... ﴾ الآية، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا، وتباعد عنها ؛ لا يحل له أن يرجع، ويتخذّها أُمًّا ؛ في المحبة والخدمة. وقوله تعالى :﴿ وما جعل أدعياءكم أبناءكم.. ﴾ : تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً، أو مقاماً، ما لم يتحقق به، وليس هو له، أوْ : يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه، وهو لغيره، ﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ﴾. وقوله :﴿ فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين.. ﴾ : إخوان الدين أوْلَى، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري : وقرابةُ الدين، في الشكلية، أولى من قرابة النَّسَب، وأنشدوا١.
وَقَالُوا : قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ *** فَقُلْتُ : وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ
مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة | وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التَّنَاسُبُ |
﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ النبيُّ أولى بالمؤمنين ﴾ أي : أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم ﴿ من أنفسهم ﴾، فإنه لا يأمرهم، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه. ويجعلوها فداء منه. وقال ابن عباس وعطاء : يعني :( إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء، ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعةُ النبي صلى الله عليه وسلم أولى ). أو : هو أولى بهم، أي : أرأف، وأعطف عليهم، وأنفع لهم، كقوله :﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام :" ما من مؤمن إلا وأنَا أوْلَى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم :﴿ النبيُّ أوْلَى بالمؤمنين من أنْفُسِهِمْ ﴾ فأيُّمَا مُؤْمِن هَلَكَ، وتركَ مالاً ؛ فلورَثَته ما كانوا، ومَن تَرَكَ دَيْناً أو ضَيَاعاً فليَأتني، فإني أنا مَوْلاه١ ".
وفي قراءة ابن مسعود " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ". وقال مجاهد : كل نبي أبو أمته، ولذلك صار المؤمنون إخوة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم، في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن، وهن فيما وراء ذلك - كالإرث وغيره - كالأجنبيات، ولهذا لم يتعدَّ التحريم إلى بناتهن.
﴿ وأولوا الأرحام ﴾ أي : ذوو القرابات ﴿ بعضهم أوْلى ببعض ﴾ في المواريث. وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرةِ، لا بالقرابة، ثم نسخ، وجعل التوارث بالقرابة. وذلك ﴿ في كتاب الله ﴾ أي : في حُكْم الله وقضائه، أو : في اللوح المحفوظ، أو : فيما فرض الله، فهم أولى بالميراث، ﴿ من المؤمنين ﴾ بحق الولاية في الدين، ﴿ و ﴾ من ﴿ المهاجرين ﴾ بحق الهجرة. وهذا هو الناسخ. قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، ولا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً. فنزلت. وقال الكلبي : آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الناس، فكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر، دون عصبته، حتى نزلت :﴿ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ ؛ في حكمه، ﴿ من المؤمنين والمهاجرين ﴾، ويجوز أن يكون ﴿ من المؤمنين ﴾ : بياناً لأولي الأرحام، أي : وأولو الأرحام، من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، ﴿ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ﴾ أي : لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً، وهو أن تُوصوا لمَن أحببتم من هؤلاء بشيء، فيكون له ذلك بالوصية، لا بالميراث ؛ فالاستثناء منقطع. وعَدّى ( تفعلوا ) بإلى ؛ لأنه في معنى تُسْنِدُوا، والمراد بالأولياء : المؤمنون، والمهاجرون : المتقدمون الذين نسخ ميراثهم. ﴿ كان ذلك ﴾ أي : التوارث بالأرحام ﴿ في الكتاب مسطوراً ﴾ أي : اللوح المحفوظ، أو : القرآن. وقيل : في التوراة.
الإشارة : متابعته عليه الصلاة والسلام، والاقتباس من أنواره، والاهتداء بهديه، وإيثار محبته، وأمره على غيره ؛ لا ينقطع عن المريد أبداً، بدايةً ونهايةً ؛ إذ هو الواسطة العظمى، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم.
فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى الله عليه وسلم، وعلى يده، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك في تربية المريدين، فهو جزء من الذي جاء به. وهم في ذلك بحسب النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم خلفاء عنه. وكل كرامة تظهر فهي معجزة له صلى الله عليه وسلم، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى الله عليه وسلم، قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه : اعلم أن كل وَليّ لله تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بِوَاسِطَةِ رُوحَانِيَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم مَن يعرف ذلك، ومنهم مَن لا يعرفه، ويقول : قال لي الله، وليس إلا تلك الروحانية. ه. وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، حيث قال : الوليّ إنما يكاشف بالمثال، كما يرى مثلاً البدر في الماء بواسطته، وكذلك الحقائق الغيبية، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة في بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عياناً لا مثالاً. والوليّ لقربه منه ومناسبته له ؛ لهديه بهديه، ومتابعته له يُكاشف بمثال ذلك فيه، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية. قاله شيخ شيوخنا سيدي " عبد الرحمان العارف ".
قال القشيري :﴿ النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾ الإشارة : تقديم سُنّته على هواك، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار مَن تتوسل به نسباً وسبباً على أعِزَّتكَ ومَن والاك، ﴿ وأولوا الأرحام. . ﴾ الآية : ليكنْ الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك للأقارب وصلةُ الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار، وليكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد، وإن كانت | أشْبَاحُناَ بِشَآمٍ أوْ خُرَاسَانِ٢. ه |
٢ البيت لأبي تمام في ديوانه ٣/٣٣٥..
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ * ﴿ لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ أخذنا ﴾ ؛ حين أخذنا ﴿ من النبيين ميثاقهم ﴾ بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الدين القيم، وإرشاد العباد ونصحهم. قيل : أخذه عليهم في عالم الذر. قال أُبيّ بن كعب : لما أخرج الله الذرية، كانت الأنبياء فيهم مثل السُرُج، عليهم النور، فخُصُّوا بميثاقٍ وأخذ الرسالة والنبوة، وقال القشيري : أخذ الميثاق الأوَل وقت استخراج الذرية من صُلب آدم، عوندَ بعثة كل رسول، ونُبُوَّة كل نبيٍّ، أخذ ميثاقه، وذلك على لسان جبريل عليه السلام، ومنَ اختصه بإسماعه كَلاَمَهُ بلا واسطة ملك كنبينا ليلة المعراج، وموسى - عليهما السلام - فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة، وكان لنبينا - عليه الصلاة والسلام - زيادة حال ؛ بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية. ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم. ه.
قال في الحاشية : والذي يظهر : أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي، وذلك في الغيب، ولذلك قدّم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه النور الأول قبل آدم، ثم انتقل إلى ظهره، وحينئذ، فأخذ الميثاق هنا غيبي، ولذلك قدّمه. وفي قوله :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ. . . ﴾ [ الشورى : ١٣ ] ؛ في عالم الظهور، فلذلك قدّم نوحاً، وثنَّى بنبينا ؛ لأن نوحاً أول أُولي العزم، ونبينا خاتمهم. والله أعلم. ه. والحاصل : أن أخذ الميثاق كان مرتين ؛ في عالم الغيب وفي عالم الشهادة. وهل المراد به هنا الأول أو الثاني ؟ قولان.
﴿ ومنك ومن نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى ابنِ مريم ﴾، قال النسفي : وقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح ومَن بعده ؛ لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء ؛ لأنهم أولو العزم، وأصحاب الشرائع، فلمَّا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قُدّم عليهم، ولولا ذلك لقدّم مَن قدمه زمانه. ه ﴿ وأخذنا منهم ميثاقا غليظاً ﴾ ؛ وثيقاً. وأعاد ذكر الميثاق ؛ لانضمام الوصف إليه.
ثم قال : قوله تعالى :﴿ ليَسْأل الصادقين عن صدقهم ﴾ ؛ سؤال تشريف لا تعنيف، وإيجاب لا عتاب. والصدقُ : ألا يكون في أحوالك شَوْبٌ، ولا في اعتقادك ريب، ولا في عملك عَيْبٌ، ويقال : من أمارات الصدق في المعاملة : وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة، وفي الأحوال : تصفيتُها [ من غير مداخلة الحجاب ]، وفي القول : سلامته من المعاريض، فيما بينك وبين نفسك. وفيما بينك وبين الناس : تباعدٌ في التلبيس والتدليس، وفيما بينك وبين الله : إدامة التبرَّي من الحَوْل والقوة، ومواصلة الاستقامة، وحفظ العهود معه على الدوام. في التوكل : عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوالِ الْبِشْر بالوجد، وفي الأمر بالمعروف : التحرُّز من تخلل المداهنة، قليلها وكثيرها، وألاَّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي، وتتصف بما تأمر، وتنتهي عما تَزْجُر. ويقال : الصدق : أن يهتدي إليك كل أحد، ويكون عليك، فيما تقول وتضمر، اعتماد. ويقال : الصدق : ألا تجنحَ إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.
ثم قال : قوله تعالى :﴿ ليَسْأل الصادقين عن صدقهم ﴾ ؛ سؤال تشريف لا تعنيف، وإيجاب لا عتاب. والصدقُ : ألا يكون في أحوالك شَوْبٌ، ولا في اعتقادك ريب، ولا في عملك عَيْبٌ، ويقال : من أمارات الصدق في المعاملة : وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة، وفي الأحوال : تصفيتُها [ من غير مداخلة الحجاب ]، وفي القول : سلامته من المعاريض، فيما بينك وبين نفسك. وفيما بينك وبين الناس : تباعدٌ في التلبيس والتدليس، وفيما بينك وبين الله : إدامة التبرَّي من الحَوْل والقوة، ومواصلة الاستقامة، وحفظ العهود معه على الدوام. في التوكل : عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوالِ الْبِشْر بالوجد، وفي الأمر بالمعروف : التحرُّز من تخلل المداهنة، قليلها وكثيرها، وألاَّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي، وتتصف بما تأمر، وتنتهي عما تَزْجُر. ويقال : الصدق : أن يهتدي إليك كل أحد، ويكون عليك، فيما تقول وتضمر، اعتماد. ويقال : الصدق : ألا تجنحَ إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾ * ﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ﴾ * ﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم ﴾، أي : ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق، وكان بعد حرب أُحد بِسَنَةٍ. ﴿ إذ جاءتكُمْ جنودٌ ﴾ أي : الأحزاب، وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة والنضير، وهو السبب في إتيانهم، ﴿ فأرسلنا عليهمْ ريحاً ﴾ أي : الصَّبَا، قال عليه الصلاة والسلام :" نُصرت بالصَّبَا، وأُهْلكَتْ عاد بالدَّبُور١ ". قيل : كانت هذه الريح معجزة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، ولم يكن بينهم إلا عُرض الخندق، وكانوا في عافية منها. ﴿ و ﴾ لا شعور لهم بها. وأرسلنا عليهم ﴿ جنوداً لم تروها ﴾ وهو الملائكة، وكانوا ألفاً، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور.
وكان سبب غزوة الأحزاب : أن نفراً من اليهود، منهم ابن أَبي الحقيق، وحُيَي بن أخطب، في نفر من بني النضير، لَمَّا أجلاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بلدهم، قَدِموا مكة فحرّضوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا إلى غطفان، وأشجع، وفزارة، وقبائلَ مِنَ العرب، يُحرضونهم على ذلك، على أن يعطوهم نصف تمر خَيْبَرَ كل سنة. فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حِصن، والحارث بن عوف في مُرة، وسعد بن رخيلة في أشجع، وعامر بن الطفيل في هوازن.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ضرب الخندق على المدينة، برأي سلمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حُر. وقال : يا رسول الله : إنا كنّا بفارس، إذا حُوصرنا : خَنْدَقْناَ علينا، فحفر الخندق، وباشر الحفر معهم بيده صلى الله عليه وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجُرُفِ والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت غطفان وأهل نجد بذنب نَقَمَي، إلى جانب أُحد. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام.
واشتد الخوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون، بِضعاً وعشرين ليلة، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمَن معهما، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقال سعد بن معاذ : أشيء أمرك الله به، لا بدّ من العمل به، أم شيء تُحبه فتصنعه، أم شيء تصنعه لنا ؟ قال :" لا، بل شيء أصنعه لكم، أردتُ أن أكْسِر عنكم شوكتهم ". فقال سعد : يا رسول الله ؛ لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطعمون أن يأكلوا منها تمرة، إلا قِرىً، أو شراءً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا ! لا نعطيهم إلا السيف. فقال عليه الصلاة والسلام :" فأنت وذاك "، فمحا سعدُ ما في الكتاب، وقال : ليجهدوا علينا.
ثم إن الله تعالى بعث عليهم ريحاً باردة، في ليلة شاتية، فأحصرتهم، وأحثت الترابَ في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأكفأت القدور، وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض. وأرسل الله تعالى عليهم الرُعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء يقول : يَا بَني فلان، هلمُّوا، فإذا اجتمعوا إليه قال : النَّجا، النَّجا، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
﴿ وكان الله بما تعملون بصيراً ﴾، أي : بصيراً بعملكم، من حَفر الخندق، ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم، والثبات معه، فيجازيكم عليه، وقرأ أبو عمرو : بالغيب، أي : بما يعمل الكفار ؛ من البغي، والسعي في إطفاء نور الله.
قال القشيري :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم.. ﴾ يعني : بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي ؛ يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله :﴿ إذ جاءتكم جنود.. ﴾ الآية : كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو - سبحانه - يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه ؛ رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صَدْرُه. هـ.
رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال :" نعم، قولوا : اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا١ ".
﴿ وتظنون بالله الظنُونا ﴾ ؛ الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف ؛ منهم الأقوياء، ومنهم الضعفاء، ومنهم المنافقون. فظنّ الأقوياء، المخلصون، الثُبْتُ القلوب ؛ أن ينجز الله وعده في إعلاء دينه، ويمتحنهم، فخافوا الزلل وضعْفَ الاحتمال، وأما الآخرون ؛ فظنُّوا ما حكى عنهم، وهم الذين زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، دون الأقوياء رضي الله عنهم، وقرأ أبو عمرو وحمزة :﴿ الظنون ﴾ ؛ بغير ألف، وهو القياس. وبالألف فيهما : نافع، والشامي، وشعبة ؛ إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكيّ، وعليّ، وحفص : بالألف في الوقف. ومثله :﴿ الرَّسُولاْ ﴾ [ الأحزاب : ٦٦ ] و﴿ السَّبِيلاَْ ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ]، زادوها في الفاصلة، كما زادوها في القافية، كقوله٢ :
" أقِلّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ ؛ والعِتابا " ***. . .
وهو في الإمام : بالألف.
قال القشيري :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم.. ﴾ يعني : بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي ؛ يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله :﴿ إذ جاءتكم جنود.. ﴾ الآية : كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو - سبحانه - يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه ؛ رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صَدْرُه. هـ.
٢ عجز البيت:
...*** وقولي إن أصبت لقد أصابا
والبيت لجرير في ديوانه ص ٨١٣، وخزانة الأدب ١/٦٩، والخصائص ٢/٦، والدرر ٥/١٧٦، وشرح أبيات سيبويه ٢/٣٤٩، وسر صناعة الإعراب ص ٤٧١، وشرح الأشموني ١/١٢، وشرح شواهد المغني ٢/٧٦٢، وشرح المفصل ٩/٢٩، والكتاب ٤/٢٠٥، والمقاصد النحوية ١/٩١، وهمع الهوامع ٢/٨٠..
قال القشيري :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم.. ﴾ يعني : بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي ؛ يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله :﴿ إذ جاءتكم جنود.. ﴾ الآية : كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو - سبحانه - يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه ؛ رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صَدْرُه. هـ.
﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا ﴾*﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾*﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرض ﴾ عطف تفسير ؛ إذ هو وصف المنافقين، كقول الشاعر :
إلى المَلِكِ القَرْمِ، وابنِ الهُمَامِ | ولَيْثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ |
رُوي أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ، المنافق حين رأى الأحزاب قال : إن محمداً يَعِدُنا فتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرّز، خوفاً، ما هذا إلا وعد غرور. ه.
اعتذروا أن بيوتهم عُرضة للعدو والسارق ؛ لأنها غير محصنة، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله تعالى بقوله :﴿ وما هي بعوْرةٍ ﴾، بل هي حصينة، ﴿ إن يريدون إلا فراراً ﴾ من القتل.
﴿ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً ﴾ * ﴿ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ * ﴿ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ولقد كانوا عاهدوا اللهَ من قَبلُ ﴾ أي : قبل غزوة الخندق، وهو يوم أحد. والضمير في " كانوا " لبني حارثة، عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله، وقالوا :﴿ لا يُوَلُّونَ الأدبارَ ﴾ ؛ منهزمين أبداً، ﴿ وكان عهدُ الله مسؤولاً ﴾ عن الوفاء له، مُجازىً عليه، أو : مطلوباً مقتضى حتى يوفى به.
﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ * ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قد يعلم اللهُ المعوِّقين منكم ﴾ أي : يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَمْنَعُ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو، ﴿ والقائلين لإخوانهم ﴾ في الظاهر ؛ من ساكني المدينة من المسلمين :﴿ هَلُمَّ إلينا ﴾ ؛ تعالوا إلينا، ودعُوا محمداً. ولغة أهل الحجاز في " هلم " : أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون : هلم يا رجل، وهلموا يا رجال. . وهكذا. ﴿ ولا يأتون البأسَ ﴾ ؛ الحرب ﴿ إلا قليلاً ﴾ ؛ إلا إتياناً قليلاً، أو يحضرون ساعةً، رياءً، ويقفون قليلاً، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون.
﴿ فإذا ذهبَ الخوفُ ﴾ أي : زال ذلك الخوف وأمِنوا، وحيزت الغنائم ﴿ سلقوكم بألسنةٍ حِدَادٍ ﴾ ؛ خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم بالكلام، يقال : خطيب سِلق : فصيح، ورجل مِسْلق وسَلاَّق : مبالغ في الكلام. يعني : بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسم الغنيمة، ويقولون : أعطنا، أعطنا ؛ فإنا قد شهدنا معكم، وبمكاننا غَلبتم عدوكم. ﴿ أشِحَّةً على الخير ﴾ أي : خاطبوكم ؛ أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم، فهم أشح القوم عند القسم، وأجبنهم عند الحرب، ﴿ أولئك لم يؤمنوا ﴾ في الحقيقة، بل بالألسنة فقط، ﴿ فأحبط اللهُ أعمالهم ﴾ ؛ أبطلها، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة، ﴿ وكان ذلك ﴾ الإحباط ﴿ على الله يسيراً ﴾ ؛ هيناً.
﴿ يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يَحْسَبُون ﴾ أي : هؤلاء المنافقون ﴿ الأحزابَ ﴾، يعني : قريشاً وغطفان، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي : اجتمعوا، أنهم ﴿ لم يذهبوا ﴾ ولم ينصرفوا ؛ لشدة جُبنهم، مع أنهم انصرفوا. ﴿ وإن يأتِ الأحزابُ ﴾ كرة ثانية ؛ ﴿ يودُّوا لو أنهم بادون في الأعراب ﴾، والبادون : جمع باد، أي : يتمنى المنافقون - لجُبنهم - أنهم خارجون من المدينة إلى البادية، حاصلون بين الأعراب ؛ ليأمنوا على أنفسهم، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب، ﴿ يسألون ﴾ كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ ﴿ يَسَاءلون ﴾، بالشد. أي : يتساءلون، بعضهم بعضاً ﴿ عن أنبائكم ﴾ ؛ عن أخباركم وعما جرى عليكم، ﴿ ولو كانوا ﴾ أي : هؤلاء المنافقون ﴿ فيكم ﴾ أي : حاضرون في عسكركم، وَحضَرَ قِتَالٌ، ﴿ ما قاتلوا إلا قليلاً ﴾ ؛ رياءً وسمعة، ولو كان لله ؛ لكان كثيراً ؛ إذ لا يقل عمل لله.
الإشارة : الجبان يخاف والناس آمنون، والشجاع يأمن والناس خائفون، ولا ينال من طريق القوم شيئاً جبانٌ ولا مستحي ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء : أنهم، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة - كما امْتُحِنَ الجنيد وأصحابه - يتمنون أنهم خارجون عنهم، وربما خرجوا بالفعل، وإن ذهبت شوكتهم ؛ يحسبون أنهم لم يذهبوا ؛ لشدة جزعهم. ومن أوصافهم : أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم، والبحث عما جرى بهم ؛ خوفاً وجزعاً، ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئاً. والله تعالى أعلم.
﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ * ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ * ﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾ * ﴿ لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ لقد كان لكم في رسول الله ﴾ ؛ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أسوَةٌ حَسَنَة ﴾ ؛ خَصْلَةٌ حسنة، من حقها أن يُؤتسى بها ؛ كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، ومباشرة القتال. أو : في نفسه قدوة يحسن التأسي به. كما تقول : في البيضة عشرون رطلاً من حديد، أي : هي في نفسها عشرون. وفيه لغتان : الضم والكسر، كالعِدوة والعُدوة، والرِشوة والرُشوة. وهي ﴿ لمَن كان يرجو اللهَ واليوم الآخر ﴾ أي : يخاف الله ويخاف اليوم الآخر، أو : لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. و " لمن " : قيل : بدل من ضمير " لكم "، وفيه ضعف ؛ إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما يدل على الإحاطة. وقيل : يتعلق بحسنة، أي : أسوة حسنة كائنة لمَن آمن، ﴿ وذكر الله كثيراً ﴾ أي : في الخوف والرجاء، والشدة والرخاء، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك.
قال بعضهم : نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري : كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً. وفي الله قوة. ثم قال : قوله تعالى :﴿ من المؤمنين رجال صدقوا... ﴾ الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً ؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق : حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال : استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال : هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا.
قوله تعالى :﴿... ليجزي الله الصادقين بصدقهم.. ﴾ في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله :﴿ ويُعذب المنافقين إن شاء ﴾ يقال : إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
قال بعضهم : نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري : كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً. وفي الله قوة. ثم قال : قوله تعالى :﴿ من المؤمنين رجال صدقوا... ﴾ الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً ؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق : حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال : استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال : هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا.
قوله تعالى :﴿... ليجزي الله الصادقين بصدقهم.. ﴾ في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله :﴿ ويُعذب المنافقين إن شاء ﴾ يقال : إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
﴿ ومنهم مَن ينتظرُ ﴾ أي : الموت على الشهادة ؛ كعثمان وطلحة، ﴿ وما بدّلوا ﴾ ؛ العهد ﴿ تبديلا ﴾ ؛ ولا غيَّروه، لا المسْتَشْهَد، ولا مَن ينتظر الشهادة. وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق، كقوله تعالى فيما مر :﴿ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ. . . ﴾ [ الأحزاب : ١٥ ].
قال بعضهم : نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري : كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً. وفي الله قوة. ثم قال : قوله تعالى :﴿ من المؤمنين رجال صدقوا... ﴾ الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً ؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق : حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال : استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال : هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا.
قوله تعالى :﴿... ليجزي الله الصادقين بصدقهم.. ﴾ في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله :﴿ ويُعذب المنافقين إن شاء ﴾ يقال : إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
قال بعضهم : نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري : كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً. وفي الله قوة. ثم قال : قوله تعالى :﴿ من المؤمنين رجال صدقوا... ﴾ الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً ؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق : حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال : استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال : هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا.
قوله تعالى :﴿... ليجزي الله الصادقين بصدقهم.. ﴾ في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله :﴿ ويُعذب المنافقين إن شاء ﴾ يقال : إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
﴿ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ﴾*﴿ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ﴾*﴿ وأورثكم أرضكم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وَرَدَّ اللهُ الذين كفروا ﴾ أي : الأحزاب ﴿ بغَيْظِهم ﴾ ؛ ملتبسين بغيظهم، فهو حال كقوله :﴿ تَنبُتُ بِالدُّهنِ ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] أي : ردهم غائظين ﴿ لم ينالوا خيراً ﴾ ؛ ظفراً، أي : لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه " خيراً " بزعمهم، وهو أيضاً حال، أي : غير ظافرين، ﴿ وكفى اللهُ المؤمنين القتال ﴾ بالريح، والملائكة، ﴿ وكان اللهُ قوياً عزيزاً ﴾ ؛ قادراً غالباً، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته.
رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة - على فَرَسه الحيزوم، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج، فقال : ما هذا يا جبريلُ ؟ فقال : من مُتَابعةِ قُريش. ثم قال : إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عائدٌ إليهم، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا، وهم لكم طُعْمةٌ.
وفي رواية : لَمَّا رجع - عليه الصلاة والسلام - ودخل مغتسله، جاءه جبريل بعمامة من استبرق، على بغلة، عليها قطيفة من ديباج، فقال : قد وضعتَ السِّلاح، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ، وما رجعت إلا من طلب القوم، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس : أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة. فخرج إليهم، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلُون على حُكْمي ؟ فأبَوْا، فقال : تنزلون على حكم سَعد بن مُعاذِ ؟ فرضوا به. فقال سعد : نحكم فيهمْ : أن تُقتل مقاتِلتَهُم، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم. فكبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال :" لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة١ ".
ثم استنْزلهم، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً، وقدَّمَهُم، فضرب أعناقَهُم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل : كانوا ستمائة مقاتل، وسبعمائة أسير، فقتل المقاتلة، وقسم الأسارى، وهم الذراري والنساء. وكان عليّ والزبير رضي الله عنهما يضربان أعناق بني قريظة. والنبي صلى الله عليه وسلم جالس هناك. والقصة مطولة في كتب السير.
﴿ وقذَفَ في قلوبهم الرعبَ ﴾ الخوف. وفيه السكون والضم، ﴿ فريقاً تقتلون ﴾ وهم الرجال ﴿ وتأسرون فريقاً ﴾ وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضي الله عنها : لم يقتل صلى الله عليه وسلم من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة، قتلها بخلاد بن سويد، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن.
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ * ﴿ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها النبي قلْ لأزواجك ﴾ وكن تسعاً ؛ خمساً من قريش : عائشة بنت الصدّيق، وحفصة بنت الفاروق، وأم حبيبة بنت سفيان، وسَوْدة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أُمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، من بني إسرائيل، من ذرية هارون عليه السلام، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. أي : فقل لهن ﴿ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها ﴾ أي : التوسعة في الدنيا وكثرة الأموال والحُلل، ﴿ فتعالين ﴾ أي : أَقبلن بإرادتكن واختياركن. وأصل " تعال " أن يقوله مَن في المكان المرتفع لمَن في المكان الأدنى، ثم كثر استعماله في كل أمر مطلوب. ﴿ أُمتِّعكُنّ ﴾ أي : أُعطِكُن متعة الطلاق. وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوّضة قبل الوطء مع أخواتها، كما في كتب الفقه. ﴿ وأسرِّحكُنَّ ﴾ أُطلقكن ﴿ سَراحاً جميلاً ﴾ لا ضرر فيه.
وقيل : سبب نزولها : أنهن سألنه زيادة النفقة، وقيل : آذينه بغيرة بعضهن من بعض، فاغتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك. وقيل : هجرهن شهراً، فنزلت، وهي آية التخيير. فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه، فخيّرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة، فرؤي الفرحُ في وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهُنّ اختيارها. وروي أنه قال لعائشة :" إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً، ولاَ عَلَيكِ ألا تَعْجَلِي فيه حَتَّى تَسْتَأْمرِي أَبَوَيْكِ " ثُمَّ قرأ عليها الآية، فقالت : أَفي هذا أسْتَأُمِرُ أَبَويّ ؟ فَإِني أُريدُ الله ورسوَلهُ والدَّارَ الآخِرَةَ١.
وحكم التخيير في الطلاق : أنه إذا قال لها : اختاري، فقالت : اخترتُ نفسي، أن تقع تطليقة واحدة بائنة، وإذا اختارت زوجها ؛ لم يقع شيء. قاله النسفي. وقال ابن جزي : وإذا اختارت المرأة الطلاق ؛ فمذهب مالك : أنه ثلاث، وقيل : طلقة بائنة. وقيل : رجعية. ووصف السراح بالجميل ؛ يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث، أو : يريد الثلاث، وجماله : حسن المرعى، والثناء، وحفظ العهد. ه.
قال القشيري : لم يُرِد أن يكون قلبُ واحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى واحد منهم أذى، أو تعب من الدنيا، فَخيَّرَ صلى الله عليه وسلم بأمر ربه نساءَه، ووفق اللهُ عائشةَ، حتى أخبرتُ عن صدق قلبها، وكمال دينها ويقينها، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها. والباقيات جرَيْن على منهاجها، ونَسَجْنَ على منوالها. هـ.
قال القشيري : لم يُرِد أن يكون قلبُ واحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى واحد منهم أذى، أو تعب من الدنيا، فَخيَّرَ صلى الله عليه وسلم بأمر ربه نساءَه، ووفق اللهُ عائشةَ، حتى أخبرتُ عن صدق قلبها، وكمال دينها ويقينها، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها. والباقيات جرَيْن على منهاجها، ونَسَجْنَ على منوالها. هـ.
﴿ يا نِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ * ﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا نساءَ النبيّ من يأتِ منكن بفاحشةٍ ﴾ بسيئة بليغة في القُبح ﴿ مُبَيِّنَة ﴾ ظاهرٌ فحشها، من : بيّن، بمعنى : تبيّن. وقرأ المكي وشعبة بفتح الياء، وهي عصيانهنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ونشوزهن. قال في المقدمات : كل فاحشة نُعتت في القرآن بالبينة فهي بالنطق، والتي لم تُنعت بها زنى. ه. ﴿ يُضَاعَفْ لها العذابُ ضِعْفين ﴾ أي : ضِعفي عذاب غيرهنّ من النساء ؛ لأن الذنب منهن أقبح ؛ فإنَّ قُبح الذنب يتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه، ولذلك قيل : ليست المعصية في القُرب كالمعصية في البُعد. وليس لأحد من النساء مثل فضل النساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشدّ منه للعاصي الجاهل ؛ لأن المعصية من العالِم أقبح، وفي الحديث :" أشدُّ الناس عذاباً يومَ القيامة عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه١ " ؛ لقوة الجرأة في العالم دون غيره. ولهذا أيضاً فضل حدّ الأحرار على العبيد، ولم يرجح الكافر. ﴿ وكان ذلك ﴾ أي : تضعيف العذاب عليهن ﴿ على الله يسيراً ﴾ هيناً.
﴿ يا نِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ * ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ * ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا نساء النبي لستُنَّ كأحدٍ من النساء ﴾ أي : لستن كجماعة من جماعات النساء، أي : إذا تقصيت أمة النساء، جماعةً جماعةً، لم توجد منهن جماعة واحدة تُساويكن في الفضل، فكما أنه عليه الصلاة والسلام ليس كأحد من الرجال، كما قال :" إني لسْتُ كَأَحَدِكُمْ. . . ١ ". كذلك زوجاته التي شرُفن به. وأصل " أحد " : وَحَدٍ، بمعنى : واحد، فوضع في النفي العامّ، مستوياً فيه المذكّر والمؤنّث، والواحد وما وراءه، أي : لستن في الشرف كأحد من النساء، ﴿ إنِ اتقيْتنَّ ﴾ مخالفةَ الله ورضا رسوله، ﴿ فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ ﴾ أي : إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب، فلا تجئنَ بقولكنّ خاضعاً، أي : ليناً خنثاً مثل قول المُريبات، ﴿ فيَطْمَع الذي في قلبه مرضٌ ﴾ ريبة، وفجور، وهو جواب النهي، ﴿ وقُلْنَ قولاً معروفاً ﴾ حسناً مع كونه خشيناً.
﴿ ولا تبرَّجْنَ تبرجَ الجاهليةِ الأُولى ﴾ أي : لا تتبخترن في المشي تبختر أهل الجاهلية، فالتبرُّج : التبختر في المشي وإظهار الزينة، أي : ولا تبرجن تبرجاً مثل ﴿ تبرج الجاهلية الأولى ﴾ أي : القديمة، وهو الزمان الذي وُلد فيه إبراهيم عليه السلام، فكانت المرأة تتخذ فيه الدرع من اللؤلؤ، وتعرض نفسها على الرجال، زمان نمروذ الجبار، والناس كلهم كفار. أو : ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة. وكان نساؤهم أقبح ما يكون، ورجالهم حِسَان، فتريده المرأة على نفسها. أو : زمن داود وسليمان عليهما السلام، وكان للمرأة قميص من الدرّ، غير مخيط الجانبين، فتظهر صورتها فيه. والجاهلية الأخرى : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام أو : الجاهلية الأولى : جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى : جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام.
﴿ وأقِمْنَ الصلاةَ وآتينَ الزكاة ﴾ خصهما بالذكر ؛ تفضيلاً لهما ؛ لأن مَن واظب عليهما جرتاه إلى غيرهما. ﴿ وأَطِعْنَ اللهَ ورسولَه ﴾ في سائر ما أمرَكن به، ونهاكن عنه.
﴿ إِنما يُريد اللهُ ليُذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ﴾ أي : يا أهل البيت، أو : أخص أهل البيت. وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته. قال البيضاوي : وتخصيص أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما، لِما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة عليه مِرْطٌ مُرَجل من شعر أسود، فجاءت فاطمة، فأدخلها، ثم جاء عليّ، فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين، فأدخلهما فيه، فقال :" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهلَ البيت. . . ١ " والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون اجتماعهم حجة، ضعيف ؛ لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت، لا أنه ليس غيرهم. ه. وإنما قال :﴿ عنكم ﴾ لأنه أُريد الرجال والنساء. والرجس : كل ما يدنس، من ذنب، أو عيب، أو غير ذلك، وقيل : الشيطان.
﴿ ويُطهركم تطهيراً ﴾ من نجاسات الآثام والعيوب، وهو كالتعليل لِمَا قبله، فإنما أَمَرَهن، ونهاهن، ووعظهن ؛ لئلا يقارف أهل البيت ما يدنس، من المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنب الرجس، وللتقوى الطُهر ؛ لأن عِرض المقترف للمستقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس وأما مَن تحصّن منها فعرضه مصون، نقي كالثوب الطاهر. وفيه تنفير لأُولي الألباب عن كل ما يدنس القلوب من الأكدار، وترغيب لهم في كل ما يطهر القلوب والأسرار، من الطاعات والأذكار.
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِن المسلمين والمسلماتِ ﴾ أي : الداخلين في الإسلام، المنقادين لأحكام الله قولاً وفعلاً، فالمسلم : هو الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يُعاند، أو : المفوِّض أمره إلى الله، المتوكل عليه، مِن : أسلم وجهه إلى الله، ﴿ والمؤمنين والمؤمنات ﴾ المصدِّقين بالله ورسوله، وبما يجب أن يصدّق به، ﴿ والقانتين والقانتات ﴾ المداومين على الطاعة، ﴿ والصادقين والصادقات ﴾ في النيات، والأقوال، والأفعال، ﴿ والصابرين والصابرات ﴾ على الطاعات وترك السيئات، ﴿ والخاشعين والخاشعات ﴾ المتواضعين لله بالقلوب والجوارح، أو : الخائفين :﴿ والمتصدِّقين والمتصدِّقات ﴾ فرضاً ونفلاً، ﴿ والصائمين والصائمات ﴾ فرضاً ونفلاً. وقيل : مَن تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين، ومَن صام البيض من كل شهر، فهو من الصائمين، ﴿ والحافظين فروجَهم والحافظاتِ ﴾ عما لا يحلّ، ﴿ والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ﴾ بقلوبهم وألسنتهم، بالتسبيح، والتهليل، والتكبير، وتلاوة القرآن، وغير ذلك من الأذكار، والاشتغال بالعلم لله، ومطالعة الكتب من الذكر. وحذف " كثيراً " في حق الذاكرات لدلالة ما تقدم عليه.
وقال عطاء : مَن فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله :﴿ إن المسلمين والمسلمات ﴾، ومَن أقرّ بأن الله ربه، وأن محمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانَه، فهو من المؤمنين والمؤمنات، ومَن أطاع الله في الفرض، والرسول في السُنَّة، فهو داخل في قوله :﴿ والصادقين والصادقات ﴾، ومَن صلّى فلم يعرف مَنْ عن يمينه وعن شماله، فهو داخل في قوله :﴿ والخاشعين والخاشعات ﴾، ومَن صبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى الرزية، فهو من ﴿ الصابرين والصابرات ﴾، ومَن تصدّق في كل أسبوع بدرهم، فهو من المتصدقين والمتصدقات، ومَن صام في كل شهر أيام البيض، الثالث عشر وما بعده، فهو من الصائمين والصائمات، ومَن حفظ فرجه عما لا يحل ؛ فهو من الحافظين فروجهم والحافظات، ومَن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها ؛ فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
قال ابن عباس :( جاء إسرافيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عدد ما علم، وزنة ما علم، وملءَ ما علم. مَن قالهن كُتبت له ست خصال ؛ كتب من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وكان أفضل ممن ذكره في الليل والنهار، وكان له عرش في الجنة، وتحاتت عنه ذنوبه، كما تحات ورق الشجر اليابس، وينظر الله إليه، ومَن نظر إليه لم يعذبه ). وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضجعاً. ه. من الثعلبي.
وسُئل ابنُ الصلاح عن القَدْر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً ؟ فقال : إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، كان من الذاكرين كثيراً. ه. قلت : وقد تتبعت ذلك في تأليف مختصر سميته :" الأنوار السنية في الأذكار النبوية ".
هذا وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين. وهو ضروري كقوله :﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾ [ التحريم : ٥ ]. وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين، وليس بضروري، ولو قال :" إن المسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات " بغير واو لجاز، كقوله :﴿ مسلمات مؤمنات قانتات. . . ﴾ الخ، وهو مِن عطف الصفة، ومعناه : إن الجامعين والجامعات لهذه الصفات. ﴿ أَعَدَّ اللهُ لهم مغفرة ﴾ لِما اقترفوا من السيئات، ﴿ وأجراً عظيماً ﴾ على طاعتهم. قال البيضاوي : والآية وعد لهن، ولأمثالهن، على الطاعة والتدرّعُ بهذه الخصال. رُوي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن : ذكر الرجال في القرآن بخير فما فينا خير، فنزلت١. ه.
الإشارة : اعلم أن اصطلاح الصوفية أن ما يتعلق بعمل الجوارح الظاهرة يُسمى إسلاماً، وما يتعلق بعمل القلوب الباطنية يُسمى إيماناً، وما يتعلق بعمل الأرواح والأسرار يُسمى إحساناً. قال في البغية : فالإسلام يشتمل على وظائف الظاهر، وهي الغالبة عليه، ذلك من عالم الشهادة، والإيمان يشتمل على وظائف الباطن، وهي الغالبة عليه، وذلك من عالم الغيب، وهي الأعمال الغيبية، ولمّا انفتح لها باب من الأعمال الظاهرة للعبادة، وأشرقت عليها من ذلك أنوار، وتعلقت همتها بعالم الغيب، مالت إلى الوفاء بالأعمال الباطنية، ثم لمّا تمكنت في الأعمال الباطنة، واطلعت على عالَمها، وأشرفت على طهارتها، وتعلقت همتها بعالم الملكوت، مالت إلى الوفاء بالأسرار الإحسانية، ومن هناك تدرك غاية طهارتها وتصفيتها، والاطلاع على معارف الحقائق الإلهية. ثم قال : فإذا تبين هذا، فالإسلام له معنى يخصه، وهو انقياد الظاهر بما تكلف به من وظائف الدين، مع ما لا بد منه من التصديق. والإيمان له معنى يخصه، وهو تصديق القلب بجميع ما تضمنه الدين من الأخبار الغيبية، مع ما لا بد منه من شُعبه. والإحسان له معنى يخصه، وهو تحسين جميع وظائف الدين الإسلامية والإيمانية، بالإتيان بها على أكمل شروطها، وأتم وظائفها، خالصة من جميع شوائب عِللها، سالمة من طوارق آفاتها. ه.
قلت : ولا يكفي في مقام الإحسان تحسين الوظائف فقط، بل لا بد فيه من كشف حجاب الكائنات، حتى يُفضي إلى شهود المكوِّن، فيعبد الله على العيان. كما في الحديث :" أن تعبد الله كأنك تراه ". فإذا تقرّر هذا ؛ فالآية مشتملة على تدريج السلوك ؛ فأول مقامات المريد : الإسلام، ثم الإيمان، كما في الآية، ثم يكون من القانتين المداومين على الطاعة، ثم يكون من الصادقين في أقواله، وأفعاله، وأحواله، صادقاً في طلب مولاه، غائباً عن كل ما سواه، ثم من الصابرين على مجاهدة النفس، ومقاساة الأحوال، وقطع المقامات والمفاوز. وقال القشيري : من الصابرين على الخصال الحميدة وعن الخصال الذميمة، وعند جريان مفاجآت القضية. ه. ثم من الخاشعين الخاضعين لهيبة الجلال، مشاهداً لكمال أنوار الجمال. قال القشيري : الخشوعُ : إطراق السريرة عند بوادِه الحقيقة. ه.
ثم يتحقق بأوصاف الكمال ؛ كالسخاء والكرم، فيبذل ما عنده في مرضاة ربه، فيكون من المتصدقين بأموالهم وأنفسهم، حتى لا يكون لأحد معهم خصومة فيما أخذوا منهم وقالوا فيهم، ثم يصوم عن شهود السِّوى، ثم يحفظ فرجه عن وِقاع الشهوة والهوى، فلا ينزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ، إلا بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. ثم يكون من المُسْتَهتَرين بذكر الله، أعني ذكر الروح والسر، وهو مقام الإحسان، الذي هو محل العيان، فيكون ذاكراً بالله، مذكوراً في حضرة الله، مشهوراً في ملكوت الله. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاًمُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيا أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ ﴾ أي : ما صحّ لرجل مؤمن، ولا امرأة مؤمنة، ﴿ إِذَا قضى اللهُ ورسولُه أمراً ﴾ من الأمور ﴿ أن يكون لهم الخِيرَةُ من أمرهم ﴾ أي : أن يختاروا من أحدهم شيئاً، بل الواجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه، واختيارهم تلواً لاختياره.
نزلت في زينب بنت جحش، وأخيها عبد الله بن جحش. وكانت زينب بنت أميمةَ بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها عليه الصلاة والسلام لمولاه زيد بن حارثة، فلما خطبها، ظنت أنه يخطبها لنفسه، فرضيت، فلما علمت أنه خطبها لزيد كرهت وأبت، وقالت : أنا أم نساء قريش، وابنة عمتك، فلم أكن أرضه لنفسي، وكذلك قال أخوها. وكانت بيضاء جميلة، وكان فيها بذاذة، فأنزل الله الآية، فأعلمهم أنه لا اختيار لهم على ما قضى اللهُ ورسولُه. فلما نزلت الآية إلى قوله :﴿ مبيناً ﴾ قالت : رضيتُ يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها، فأنكحها صلى الله عليه وسلم زيداً، فدخل بها، وساق إليها النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير، وستين درهماً، وملحفة، ودرعاً، وإزاراً، وخمسين مدًّا من طعام، وثلاثين صاعاً من تمر. وقيل نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، وكانت من أول مَن هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقبلها، وقال : زوجتها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا : إنما أردنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت. والأول أصح.
وإنما جمع الضمير في " لهم "، وكان من حقه أن يُوحَّد ؛ لأن المذكورين وقعا نكرة في سياق النفي، فعمَّا كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير إلى المعنى، لا إلى اللفظ. والخيرة : ما يُتخير، وفيه لغتان : سكون الياء، وفتحها، وتؤنث وتذكَّر باعتبار الفعل ؛ لمجاز تأنيثها.
﴿ ومن يَعْصِ اللهَ ورسولَه ﴾ فيما اختار وقضى ﴿ فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً ﴾ بيِّن الانحراف عن الصواب. فإن كان العصيانُ عصيانَ رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيانَ فعلٍ، مع قبول الأمر، واعتقاد الوجوب، فهو ضلال فسق.
وهذا معنى قوله :﴿ وإِذ تقول للذي أنْعَمَ اللهُ عليه ﴾ بالإسلام الذي هو من أجلّ النعم ﴿ وأنْعَمْتَ عليه ﴾ بالإعتاق والتبني، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة :﴿ أمسِكْ عليك زوجك ﴾ زينب، ﴿ واتقِ اللهَ ﴾ فلا تطلقها، وهو نهي تنزيه، أو : اتقِ الله، فلا تذمها بالنسبة إلى الكِبْر وأذى الزوج، ﴿ وتخفي في نفسك ما الله مُبْديهِ ﴾ أي : تُخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد، وقد أبداه الله وأظهره، وقيل : الذي أخفاه في نفسه : تعلُّق قلبه بها، ومودة مفارقة زيد إياها.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان الفاسي : والصواب أن المعنى : وتُخفي في نفسك ما اطلعت عليه ؛ من مفارقة زيد لها، وتزوجك إياها بعده، فإن هذا هو الذي أبداه سبحانه وأظهره بعد ذلك. وأما قوله :﴿ وتخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أن تخشاه ﴾ فإنما يعني به الحياء من الناس في أن يقابلهم بما يسوؤهم، وهو إخبار زيد بما أطلعه الله عليه من صيرورة زوجته زينب له، بعد مفارقة زيد لها، لأنه لم يؤمر بإفشاء ذلك، وإلا لبلَّغ من غير رَوية ولا حشمة، سالكاً في ذلك سُنَّة مَن خلا قبله من الأنبياء، الذين لا يخشون في التبليغ أحداً إلا الله.
وقال القشيري : أي : تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة في قصة زيد [ والفتنة التي يقعون فيها هي ظنهم أنه عليه الصلاة والسلام عشقها، وأمره بطلاقها ] وكانت تلك الخشية إشفاقاً منه عليهم، ورحمة لهم ألا يُطيقوا سماع هذه الحالة، بأن يخطر ببالهم ما ليس في وسعهم. وأما قوله :﴿ أمسك عليك. . . ﴾ الآية مع علمه بما يؤول إليه الأمر في العاقبة، بما أطلعه الله عليه من فراقه لها فإقامة الشريعة. ه. ملخصاً.
وفي الوجيز :﴿ وتخشى الناس ﴾ أي : تكره مقالة الناس لو قلت طَلِّقْها، فيقال : أمر رجلاً فطلّق امرأته ثم تزوجها. وقد نقل في نوادر الأصول عن عليّ بن الحسين : أن الله أعلم نبيه أنها تكون من أزواجه، فأخفى ذلك. فلما جاء زيد يشكوها ؛ قال له : اتقِ الله، وأمسك عليك زوجك، قال : فعليُّ بن حسين جاء بها من خزانة العلم، جوهراً من الجواهر، ودرًّا من الدرر، وأنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه، ثم قال بعد ذلك لزيد : أمسك. . رعاية لِما يقال، وتركاً لتدبير الله، مع كونه أحق بالرعاية، وكيف، وفي ذلك تشريع لئلا يكون على المؤمنين حرج وضيق فيما فرض الله له فيما أعلمه. ثم قال : والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام لم يلمّ بخطيئة، بدليل أنه لم يؤمر بتوبة ولا استغفار، وإنما أخبره بما أضمر في نفسك، خشية افتتان الغير، والله أحق أن يخشى، بأن يبتهل إليه ؛ ليزيل عنهم ما يخشى فيهم.
قال ابن عرفة : الصواب : أن ما أخفاه في نفسه هو : أن الله أخبره أن سيتزوجها. وما قاله ابن عطية لا يحل أن يقال، لأنه تنقيص لم يرد في حديث صحيح. وإنما ذكره المفسرون. ه. قلت : إنما يكون تنقيصاً إذا كان ذلك الواقع في القلب ثابتاً، وأما إن كان خاطراً مارًّا فلا نقص ؛ إذ ليس في طوق البشر ؛ لأنه من أوصاف العبودية، بل الكمال في دفعه بعد هجومه.
ثم قال ابن عرفة، على قوله :﴿ وتخشى الناس ﴾ هو تمهيد لعذره، وإن كان لمجرد أمر الله له بذلك، ولا ينبغي حمله على أنه خاف الناس فقط. بل المراد : عتابه على خلط خوفه من الله بخوفه من الناس، وأَمَرهُ ألا يخاف إلا من الله فقط، خوفاً غير مشوب بشيء. ه. قلت : إذا فسرنا الخشية بالحياء لا يحتاج إلى هذا التعسُّف، مع أن الخوف من الخَلْق مذموم، وحده أو مع خوف الله، والنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه عن ذلك، أي : تستحي من الناس أن يقولوا : نكح امرأة ابنه، وكان عليه الصلاة والسلام أشد الناس حياء من العذراء في خدرها. والحياء ممدوح عند الخاص والعام. وأما قوله تعالى :﴿ والله أحقُّ أن تخشاه ﴾ فتنبيه على أن الحياء في بعض المواضع تركه أَولى، فهو ترقية له، وتربية لوقت آخر. أو : وتخشى أن يفتتن الناس بذلك، والله أرحم بهم من غيره، فالله أحق أن تَخشى، فتبتهل إليه في زوال ذلك عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تزوجه عليه الصلاة والسلام لزينب بعد مفارقة زيد، فقال :
﴿. . . فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيا أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾*
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ فلما قضى زيدٌ منها وَطَراً ﴾ حاجة، بحيث ملَّها ولم تبقَ له فيها حاجة. والوطر : الحاجة، فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همّة، يقال : قضى منه وطراً، أي : فلما قضى حاجته منها، وطلقها، وانقضت عدّتها، ﴿ زوجناكَها ﴾. رُوي أنها لما اعتدت قال عليه الصلاة والسلام لزيد :" ما أجد أحداً أوثقُ في نفسي منكَ، ايت زينبَ فاخطبها لي " قال زيدٌ : فأتيتُها وولَّيتُها ظهْرِي، إعظاماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت : يا زينبُ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُك، فَفَرحَتْ، وقالت : ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أؤامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها، فنزَلَ القرآنُ :﴿ فلما قضى زيد. . . ﴾ الآية، فتزوجها عليه الصلاة والسلام، ودخل بها حينئذ، ومَا أوْلَمَ على امْرأةٍ ما أوْلَمَ عليها، ذبح شاةٍ، وأطعمَ الناسَ الخبزَ واللحمَ حتى امتد النهار١.
وقيل : زوّجه الله تعالى إياها بلا واسطة عقد، ويؤيده : أنها كانت تقول لسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله زوجني من فوق سبع سماوات، وأنتن زوَّجَكُنَّ أولياؤكُنَّ٢. وكانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأدُلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدِل عليك بهنّ : جدّي وجدّك واحد، وإياي أنكحك الله من السماء، وإن السفير لي جبريل٣.
ثم علل تزويجه إياها، فقال :﴿ لكيلا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم ﴾ الذين يتبنونهم ﴿ إِذا قَضَوْا منهنَّ وَطَراً ﴾ قال الحسن : ظنت العرب أن حُرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم، فبيّن اللهُ تعالى الفرق بينهما، وأن حلائل الأدعياء غير محرمة. وليست كحلائل أبناء الصلب. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن حكمه وحكم الأَمة واحد، إلا ما خصّه الدليل. ه. ﴿ وكان أمرُ اللهِ ﴾ الذي يريد أن يكونه ﴿ مفعولاً ﴾ مكوناً لا محالة، كما كان تزويج زينب.
٢ أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٠..
٣ أخرجه الطبري في تفسيره ٢٢/١٤..
﴿ ما كان على النبيّ من حرجٍ فيما فَرَضَ اللهُ له ﴾ أي : حلّ له، أو : قسم له، من قولهم : فرض له في الديوان كذا، وفروض العساكر، لأرزاقهم. أي : لا حرج على النبي فيما حلّ له وأمر به، كتزويج زينب، أو : قسم له من عدد النساء بلا حدّ، ﴿ سُنَّة الله ﴾ مصدر مؤكد لِما قبله من قوله :﴿ ما كان على النبي من حرج ﴾ أي : سُنَّ ذلك سُنَّة في الأنبياء الماضين، وهو : ألا حرج عليهم في الإقدام على ما أحلّ لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره. وكانت تحتهم المهائر١ والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة، وثلاثمائة سُرِّية. ﴿ في الَّذين خَلَواْ مِن قبلُ ﴾ في الأنبياء الذين مضوا من قبله، ﴿ وكان أمرُ الله قَدَراً مقدوراً ﴾ أي : قضاءً مقضياً، وحكماً مثبوتاً مبرماً، لا مرد له.
﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ما كان محمدٌ أَبَا أحدٍ من رجالكم ﴾ أي : لم يكن أبا رجل منكم حقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده ؛ من حرمة الصهر والنكاح، والمراد : من رجالكم البالغين، وأما أولاده : القاسم، والطيب، والطاهر، فماتوا قبل أن يكونوا رجالاً، وأما الحسن والحسين، فأحفاد، لا أولاد. ﴿ ولكن ﴾ كان ﴿ رسولَ اللهِ ﴾ وكل رسول أبو أمته، فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء. وزيد واحد من رجالكم، الذين ليسوا بأولاد حقيقة، فكان حكمُه حكمهم. والتبني من باب الاختصاص والتقريب، لا غير. ﴿ و ﴾ كان أيضاً صلى الله عليه وسلم ﴿ خاتمَ النبيين ﴾ أي : آخرهم الذي ختمهم، أو : ختموا به على قراءة عاصم. بفتح التاء، بمعنى : الطابع، كأنه طبع وختم على مقامات النبوة، كما يختم على الكتاب لئلا يلحقه شيء. فلا نبي بعده. وعيسى ممّن نُبىء قبله، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعته صلى الله عليه وسلم، كأنه بعض أمته. ومَن قرأ بكسر التاء، فمعناه : فاعل الختم، كما قال عليه الصلاة والسلام :" أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي١ ". ويصح أن يكون بمعنى الطابع أيضاً ؛ إذ فيه لغات ؛ خاتِم بالفتح والكسر وخاتام، وخَيْتام. ﴿ وكان الله بكل شيءٍ عليماً ﴾ فيعلم مَن يليق بأن يختم به النبوة، وكيف ينبغي شأنه.
الإشارة : كان صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح حقيقة ؛ إذ الوجود كله ممتد من نوره، وأبا الأشباح باعتبار أنه السابق نوره. فأول ما ظهر نوره عليه الصلاة والسلام ومنه امتدت الكائنات، فهو بذرة الوجود. وسيأتي في قوله :﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ [ الزخرف : ٨١ ] تتميم ذلك إن شاء الله. ولم يكن أباً باعتبار تولُّد الصلب، وهو الذي نفاه الله تعالى عنه.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ * ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ * ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ * ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً ﴾ قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبكم، قال ابن عباس :( لم يُعذَر أحد في ترك ذكر الله عزّ وجل إلا مَن غلب على عقله ). وقال : الذكر الكثير : ألاَّ تنساه أبداً. وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أكْثِرُوا ذِكرَ اللهِ حتى يقولوا مجنونٌ١ ".
والذكر أنواع : تهليل، وتحميد، وتقديس، واستغفار، وتلاوة، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : المراد : ذكر القلوب، فإن الذكر الذي يمكن استدامته، هو ذكر القلب، وهو استدامة الإيمان والتوحيد. وأمَّا ذكرُ اللسان فإن إدامته كالمتعذَر. قاله القشيري.
الذكر عمدة لكل سـالك | تنورت بنوره المسالك |
هو المطيـة التي لا تنتكب | ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب |
به القلوب تطمئن في اليقين | ما بعده على الوصالِ من معين |
به بلوغ السـالكيـن للمُنـى | به بقاء المرء مِن بعد الفنا |
به إليك كل صعب يسـهل | به البعيد عن قريب يحصل |
فهـو أقـوى سـبب لديـكَ | وكلُّهُ إليك، لا عليك |
فكل طاعة أتى الفتى بهـا | هو أساسها، كذاك سَقفها |
ووحدَه يفـوق كل طـاعـه | كما أتى عن صاحب الشفاعهْ |
كَفى بفضله لدا البيـان | ذهابه بالسهو والنسيان |
إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم | لديك يصغرُ الفقير يا نديم |
عليه دُمْ حتى إذا تجوهـرا | بسره الفؤاد كلّ ما ترى |
ترى به المذكور دون سـتر | وقد علا الإدراك درك الفكر |
به الحبيب في الورى تجلّى | به السِّوى عن الحِجا تولى |
به تمكن المريد في الفنا | حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا |
به رجوعـه إلـى العبـاده | به التصرُّف الذي في العادهْ |
تالله لو جئتُ بكـل قـول | ما جئتكم بما لَهُ من فضـل |
وقوله تعالى :﴿ هو الذي يُصلي عليكم... ﴾ الآية. قال الورتجبي : صلوات الله : اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة، وجعل خواص ملائكته مستغفرين له، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله :﴿ وكان بالمؤمنين رحيماً ﴾ أي : قبل وجودهم، حيث أوجدهم، وهداهم إلى نفسه، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء : أعظم عطية للمؤمن في الجنة : سلام الله عليهم من غير واسطة. هـ.
وقوله تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ قال القشيري : التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر، والتحية : خطاب يُفاتح بها الملوك، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. هـ.
الذكر عمدة لكل سـالك | تنورت بنوره المسالك |
هو المطيـة التي لا تنتكب | ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب |
به القلوب تطمئن في اليقين | ما بعده على الوصالِ من معين |
به بلوغ السـالكيـن للمُنـى | به بقاء المرء مِن بعد الفنا |
به إليك كل صعب يسـهل | به البعيد عن قريب يحصل |
فهـو أقـوى سـبب لديـكَ | وكلُّهُ إليك، لا عليك |
فكل طاعة أتى الفتى بهـا | هو أساسها، كذاك سَقفها |
ووحدَه يفـوق كل طـاعـه | كما أتى عن صاحب الشفاعهْ |
كَفى بفضله لدا البيـان | ذهابه بالسهو والنسيان |
إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم | لديك يصغرُ الفقير يا نديم |
عليه دُمْ حتى إذا تجوهـرا | بسره الفؤاد كلّ ما ترى |
ترى به المذكور دون سـتر | وقد علا الإدراك درك الفكر |
به الحبيب في الورى تجلّى | به السِّوى عن الحِجا تولى |
به تمكن المريد في الفنا | حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا |
به رجوعـه إلـى العبـاده | به التصرُّف الذي في العادهْ |
تالله لو جئتُ بكـل قـول | ما جئتكم بما لَهُ من فضـل |
وقوله تعالى :﴿ هو الذي يُصلي عليكم... ﴾ الآية. قال الورتجبي : صلوات الله : اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة، وجعل خواص ملائكته مستغفرين له، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله :﴿ وكان بالمؤمنين رحيماً ﴾ أي : قبل وجودهم، حيث أوجدهم، وهداهم إلى نفسه، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء : أعظم عطية للمؤمن في الجنة : سلام الله عليهم من غير واسطة. هـ.
وقوله تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ قال القشيري : التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر، والتحية : خطاب يُفاتح بها الملوك، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. هـ.
وذكر السدي : أن بني إسرائيل قالت لموسى عليه السلام : أيُصلي ربنا ؟ فكَبُر هذا الكلام على موسى عليه السلام، فأوحى الله إليه : أن قل لهم : إني أُصلي، وإنَّ صلاتي رحمتي، وقد وَسِعَتْ كل شيء. وفي حديث المعراج :" قلت : إلهي ؛ لَمَّا لحقني استيحاش قبل قدومي عليك، سمعت منادياً يُنادي بلغة، تُشبه لغةَ أبي بكر، فقال : قف، إن ربك يصلي، فعجبت من هاتين، هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيٌّ عن أن يصلِّي ؟ فقال تعالى : أنا الغني عن أن أُصلّي لأحد، وإنما أقول : سبحاني، سبقت رحمتي غضبي. اقرأ يا محمد :﴿ هو الذي يُصلِّي عليكم. . . ﴾ الآية، فصلاتي رحمة لك ولأمتك. ثم قال : وأما أمر صاحبك، فخلقت خلقاً على صورته، يُناديك بلغته، ليزول عنك الاستيحاش، لئلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك ".
والمراد بصلاة الملائكة : قولهم : اللهم صَلّ على المؤمنين. جُعلوا لكون دعائهم بالرحمة مستجاباً كأنهم فاعلون الرحمة. والمعنى : هو الذي يترحّم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار ذكره، ويأمر ملائكته يترحّمون عليكم، ويستغفرون لكم، ليقربكم، ويخصكم بخصائص ليست لغيركم. بدليل :﴿ ليُخرجكم من الظلمات إلى النور ﴾ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ثم من ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة، ثم من ظلمات الحجاب إلى نور العيان. وقيل : يُصَلِّي عليكم : يشيع لكم الذكر الجميل في عباده.
﴿ وكان ﴾ الله ﴿ بالمؤمنين رحيماً ﴾ قد اعتنى بصلاح أمرهم، وإثابة أجرهم، واستعمل في خدمتهم ملائكتَه المقربين، وهو دليل على أن المراد بالصلاة : الرحمة، حيث صرَّح بكونه رحيماً بهم. قال أنس : لمّا نزل قوله تعالى :﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾ قال أبو بكر : يا رسول الله ما خصك الله بشريف إلا وقد اشتركنا فيه، فأنزل قوله :﴿ هو الذي يُصلي عليكم. . . ﴾ الخ.
الذكر عمدة لكل سـالك | تنورت بنوره المسالك |
هو المطيـة التي لا تنتكب | ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب |
به القلوب تطمئن في اليقين | ما بعده على الوصالِ من معين |
به بلوغ السـالكيـن للمُنـى | به بقاء المرء مِن بعد الفنا |
به إليك كل صعب يسـهل | به البعيد عن قريب يحصل |
فهـو أقـوى سـبب لديـكَ | وكلُّهُ إليك، لا عليك |
فكل طاعة أتى الفتى بهـا | هو أساسها، كذاك سَقفها |
ووحدَه يفـوق كل طـاعـه | كما أتى عن صاحب الشفاعهْ |
كَفى بفضله لدا البيـان | ذهابه بالسهو والنسيان |
إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم | لديك يصغرُ الفقير يا نديم |
عليه دُمْ حتى إذا تجوهـرا | بسره الفؤاد كلّ ما ترى |
ترى به المذكور دون سـتر | وقد علا الإدراك درك الفكر |
به الحبيب في الورى تجلّى | به السِّوى عن الحِجا تولى |
به تمكن المريد في الفنا | حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا |
به رجوعـه إلـى العبـاده | به التصرُّف الذي في العادهْ |
تالله لو جئتُ بكـل قـول | ما جئتكم بما لَهُ من فضـل |
وقوله تعالى :﴿ هو الذي يُصلي عليكم... ﴾ الآية. قال الورتجبي : صلوات الله : اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة، وجعل خواص ملائكته مستغفرين له، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله :﴿ وكان بالمؤمنين رحيماً ﴾ أي : قبل وجودهم، حيث أوجدهم، وهداهم إلى نفسه، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء : أعظم عطية للمؤمن في الجنة : سلام الله عليهم من غير واسطة. هـ.
وقوله تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ قال القشيري : التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر، والتحية : خطاب يُفاتح بها الملوك، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. هـ.
الذكر عمدة لكل سـالك | تنورت بنوره المسالك |
هو المطيـة التي لا تنتكب | ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب |
به القلوب تطمئن في اليقين | ما بعده على الوصالِ من معين |
به بلوغ السـالكيـن للمُنـى | به بقاء المرء مِن بعد الفنا |
به إليك كل صعب يسـهل | به البعيد عن قريب يحصل |
فهـو أقـوى سـبب لديـكَ | وكلُّهُ إليك، لا عليك |
فكل طاعة أتى الفتى بهـا | هو أساسها، كذاك سَقفها |
ووحدَه يفـوق كل طـاعـه | كما أتى عن صاحب الشفاعهْ |
كَفى بفضله لدا البيـان | ذهابه بالسهو والنسيان |
إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم | لديك يصغرُ الفقير يا نديم |
عليه دُمْ حتى إذا تجوهـرا | بسره الفؤاد كلّ ما ترى |
ترى به المذكور دون سـتر | وقد علا الإدراك درك الفكر |
به الحبيب في الورى تجلّى | به السِّوى عن الحِجا تولى |
به تمكن المريد في الفنا | حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا |
به رجوعـه إلـى العبـاده | به التصرُّف الذي في العادهْ |
تالله لو جئتُ بكـل قـول | ما جئتكم بما لَهُ من فضـل |
وقوله تعالى :﴿ هو الذي يُصلي عليكم... ﴾ الآية. قال الورتجبي : صلوات الله : اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة، وجعل خواص ملائكته مستغفرين له، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله :﴿ وكان بالمؤمنين رحيماً ﴾ أي : قبل وجودهم، حيث أوجدهم، وهداهم إلى نفسه، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء : أعظم عطية للمؤمن في الجنة : سلام الله عليهم من غير واسطة. هـ.
وقوله تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ قال القشيري : التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر، والتحية : خطاب يُفاتح بها الملوك، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. هـ.
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ * ﴿ وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾ * ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ﴾ * ﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾.
قلت :" شاهدا " : حال مقدرة، كمررت برجل معه صقر صائداً به غداً.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها النبيُّ إِنَّا أرسلناك شاهداً ﴾ على مَن بُعثتَ إليهم، على تصديقهم وتكذيبهم، أي : مقبولاً قولك عند الله، لهم وعليهم، كما يُقبل قول الشاهد العدل في الحكْم، ﴿ ومبشراً ﴾ للمؤمنين بالنعيم المقيم، ﴿ ونذيراً ﴾ للكافرين بالعذاب الأليم.
قال القشيري : يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا ؛ إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، ﴿ وبَشِّر المؤمنين ﴾ بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك ؛ فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله ؛ بدوام الانقطاع إليه، وكفى باله وكيلاً. هـ.
قال القشيري : يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا ؛ إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، ﴿ وبَشِّر المؤمنين ﴾ بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك ؛ فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله ؛ بدوام الانقطاع إليه، وكفى باله وكيلاً. هـ.
قال البيضاوي : ولعله معطوف على محذوف، أي : فراقب أمتك وبشِّرهم. ه.
قال القشيري : يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا ؛ إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، ﴿ وبَشِّر المؤمنين ﴾ بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك ؛ فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله ؛ بدوام الانقطاع إليه، وكفى باله وكيلاً. هـ.
قال القشيري : يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا ؛ إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، ﴿ وبَشِّر المؤمنين ﴾ بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك ؛ فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله ؛ بدوام الانقطاع إليه، وكفى باله وكيلاً. هـ.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إِذا نكحتُم المؤمناتِ ﴾ أي : تزوجتموهن. والنكاح في الأصل : الوطء، من : تناكحت الأشجار : إذا التصق بعضها ببعض. وتسمية العقد نكاحاً مجاز ؛ لملابسته له، من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثماً ؛ لأنها سببه، ولم يَرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد ؛ لأنه لو استعمل في الوطء لكان تصريحاً به، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة، والمماسة، والقربان، والتغشي، والإتيان، تعليماً للأدب والحياء. وفي تخصيص المؤمنات، مع أن الكتابيات تُساوي المؤمنات في هذا الحُكُم، إشارة إلى أن الأولَى للمؤمن أن ينكح المؤمنة، تخييراً للنطفة. والمعنى : إذا تزوجتم النساء ﴿ ثم طلقتموهن مِن قَبْلِ أن تمسوهن ﴾ تجامعوهن. والخلوة الصحيحة كالمسّ، ﴿ فما لكم عليهن من عِدَّةٍ تعتدُّونها ﴾ أي : تستوفون عددها، وتَعُدونها عليهن، من : عددته الدراهم فاعتدها، كقوله : كِلته الطعام فاكتاله. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العِدَّة تجب على النساء لحق الأزواج، كما يشعر به، ﴿ فما لكم ﴾ والإتيان ب " ثم " إزاحة ما عسى أن يتوهم أن تراخي الطلاق ربما يمكن الإصابة فتجب العدة.
﴿ فمَتّعوهُنّ ﴾ بشيء من المال، وهذا في المفوض لها قبل الفرض، وأما المفروض لها، أو المسمى صداقها، فتأخذ نصف مَهرها، ولا متعة لها على المشهور. ﴿ وسَرِّحوهن سَرَاحاً جميلاً ﴾ أي : لا تمسكوهنّ ضراراً، وأخرجوهن من بيوتكم ؛ إذ لا عدة لكم عليهن. قال القشيري :( سراحاً جميلاً ) لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئاً، ولا تجمعوا عليهن سوء الحال والإضرار من جهة المال. ه.
الإشارة : أيها المريدون ؛ إذا طلقتم نفوسكم، وغبتم عنها بخمرةٍ قوية، من قَبل أن تمسوهن بمجاهدة ولا مخالفة، فمتعوها بالشهود، وسرحوا فكرتها في ذات المعبود، سَراحاً جميلاً، لا حجر فيه ولا حصر، فمن رزقه الله الغيبة عن نفسه، حتى غاب عن حظوظها وهواها، فقد كفاه الله قتالها، فيدخل الحضرة بلا مشقة ولا تعب، لكنه نادر، وعلى تقدير وجوده يكون ناقص التربية ؛ لأنه يكون كمن طُويت له الطُرق للحج، فلا يعرفها كما يعرفها مَن سافر فيها، وكابد مشقتها، وعرف منازلها ومياهها، ووعرها وسهلها، ومخوفها ومأمونها، وكلهم أولياء لله تعالى، لكن طريق التربية أن يكون المريد سلك الطريقة، وقاس شدائد نفسه، وعالجها ليُعالج غيره بما يُعالج نفسه، على يد شيخ عارف بالطريق. وبالله التوفيق.
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيا أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ مهورهن ؛ إذ المهر أجر البضع، ولذا قال الكرخي من الحنفية : إن النكاح بلفظ الإجارة جائز، والجواب أن التأبيد من شرط النكاح، والتأقيت من شرط الإجارة، وبينهما منافاة، وإيتاؤها : إعطاؤها عاجلاً، أو فرضها في المفوض، وتسميته في المسمى. والمراد بالأزواج المحلَّلة له عليه الصلاة والسلام : نساؤه اللاتي في عصمته حينئذ، كعائشة وغيرها، وكان قد أعطاهن مهورهن، أو : جميع النساء اللاتي يريدُ أن يتزوجهن، فأباح له جميع النساء. وهذا أوسع.
﴿ و ﴾ أحللنا لك ﴿ ما ملكت يمينُك ﴾ من السّراري ﴿ مما أفاءَ الله عليك ﴾ من الغنائم، وهي صفية، أعتقها وتزوجها. ﴿ وبناتِ عمِّك وبناتِ عماتِك وبناتِ خَالِك وبنات خَالاتِك ﴾ يعني قرابتك، التي من جهة أبيك، ومن جهة أمك. وكان له عليه الصلاة والسلام أعمام وعمات، إخوة لأبيه، ولم يكن لأمه صلى الله عليه وسلم أخ ولا أخت، فإنما يعني بخاله وخالته : عشيرة أمه، وهم بنو زهرة، ولذلك كانوا يقولون : نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا قلنا : المراد بقوله :﴿ أحللنا لك أزواجك ﴾ مَن كان في عصمته، فهذا عطف عليهن، وإباحة لأن يتزوج قرابته، زيادة على مَن كان في عصمته، وإذا قلنا : المراد : جميع النساء، فهذا تحديد لهن، على وجه التشريف، بعد دخولهن في العموم. وقوله :﴿ اللاتي هاجَرْنَ معك ﴾ قيد في حلّية قرابته عليه الصلاة والسلام. قالت أم هانئ : خطبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرتُ إليه، فعَذَرَني، فأنزل الله هذه الآية، فلم أَحِلَ له ؛ لأني لم أُهاجر معه، كنت من الطُلَقَاءِ١.
و " مع " هنا : ليست للاقتران، بل لوجود الهجرة فقط، كقوله :﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ ﴾
[ النمل : ٤٤ ].
﴿ و ﴾ أحللنا لك ﴿ امرأةً مؤمنةً إِن وهبت نفسَها للنبي ﴾ من غير مَهر ولا عقد، فهو منصوب بفعل يُفسره ما قبله، أو : عطف على ما سبقه، ولا يدفعه أن " التي " للاستقبال ؛ لأن المعنى بالإحلال : الإعلام بالحِلّ، أي : أعلمناك حِلّ امرأة مؤمنة وهبت لك نفسها، ولا تطلب مهراً إن اتفق، ولذلك نكّرها. واختلف في اتفاق ذلك، والقائل به ذكر أربعاً : ميمونة بنت الحارث، حين جاءها الخاطب، قالت : البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها. وزينب بنت خزيمة الأنصارية، أم المساكين، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم، وأم شريك بنت جابر الأسدية، وقيل : أم شريك العامرية، قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك. ذكره ابن عبد البر. وخولة بنت حكيم السُلَمية. ذكر البخاري عن عائشة أنها قالت : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن. قال أبو نعيم : تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. قال السهيلي : فدلّ أنهن كن غير واحدة. والله أعلم. ه. وقال ابن عباس : هو بيان حكم في المستقبل، ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة، فانظره.
وقرأ الحسن بفتح " أن "، على حذف لام التعليل. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير " إن " أي : وأحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها، أي : طلب نكاحها والرغبة فيها. وقيل : نكح واستنكح بمعنى واحد. والشرط الثاني تقييد للأول، كأنه قال : أحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، وإرادته هي : قبول الهبة.
جعلنا ذلك ﴿ خالصةً لك من دون المؤمنين ﴾ بل يجب عليهم المهر، تسمية أو فرضاً. وفيه إيذان بأنه مما خصّ به عليه الصلاة والسلام لشرف نبوته، وتقرير لاستحقاقه الكرامة. قال ابن جزي : وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ؛ ليخص المخاطب وحده. وقيل : إن " خالصة " يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سائر المؤمنين قصّروا على أربع نسوة، وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك. ومذهب مالك : أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد، خلافاً لأبي حنيفة. ه. قلت : إن قرنه ذكر الصداق جاز، كما في المختصر.
و( خالصة ) : مصدر مؤكد، أي : خلُص إحلالها، أو : إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك. أو : حال من الضمير في ( وهبت )، أو : صفة لمصدر محذوف، أي : هبة خالصة لك.
﴿ قد عَلِمْنَا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ﴾ أي : ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم، أو : ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق، كالنفقة وحسن المعاشرة، أو : ما فرضنا عليهم من الاقتصار على الأربع، أو : ما أوجبنا عليهم من الإشهاد والولي، ﴿ وما ملكت أيمانُهم ﴾ بالشراء وغيره من وجوه الملك، فقد علمنا ما فرضنا عليهم من الإنفاق والرفق، وألا يكلفوهن ما لا طاقة لهن به، مع حلية الوطء، ولو تعددن. وإنما وسَّعنا عليك في أمر النساء ﴿ لِكَيْلاَ يكونَ عليك حرجٌ ﴾ ضيق، وهو راجع لقوله :﴿ خالصة لك من دون المؤمنين ﴾ والجملة من قوله :﴿ قد علمنا ما فرضنا. . . ﴾ الخ : اعتراضية ؛ للدلالة على أن الفرق بينه وبين المؤمنين في نحو ذلك ليس لمجرد التوسيع عليه، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة، والعكس أخرى، كنكاح الكتابية والأَمة، فتحرمان عليه صلى الله عليه وسلم دون أُمته. ﴿ وكان الله غفوراً رحيماً ﴾ بالتوسعة على عباده، أو : غفوراً لما يُعسر التجرُّد عنه، رحيماً بالتوسعة في مظان الحرج.
الإشارة : قد وسَّع الله على خواصه في باب النكاح، وأمدّهم في ذلك بالقوة، وأعطاهم من الباءة ما لم يُعط غيرهم، تشريفاً وترغيباً في هذا الأمر، لإبقاء النسل الطيب، ولِما فيه من التوسعة في المعرفة، وحسن الخلق، وتعلم السياسة، فدلّ ذلك أن كثرة النساء لا يُنافي الزهد، ولا يقدح في كمال المعرفة، بل يزيد فيها. قال الإمام ابن منصور المقدسي، في شرح منازل السائرين في باب الزهد : ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي : المال، والرئاسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله. وليس المراد رفضها عن الملِك، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المُلك والنساء والمِلك ما لهما. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وعبد الرحمان بن عوف، والزبير، وعثمان رضوان الله عليهم من الزهّاد، مع ما لهم من الأموال أي : والنساء فكان لعليّ رضي الله عنه أربع حرائر، وسبعة عشر سرية، ولعبد الرحمان بن عوف والزبير أربع أربع، ولعثمان كذلك. وتزوج المغيرة بن شعبة تسعاً وتسعين امرأة. ثم قال : وكان الحسن بن عليّ رضي الله عنهما من الزهّاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحهن. ثم قال : ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن وغيره، قال : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، وإنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تُصبك. انتهى المقصود منه.
﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله : لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ تُرْجي من تشاء منهن ﴾ أي : تؤخرها في القسمة، ﴿ وتُؤوي إِليك من تشاء ﴾ أي : تضمها إليك، والمعنى : تترك مضاجعة مَن تشاء منهن وتضاجع مَن تشاء، فقد خيّره الله في القسمة وعدمها. قال أبو رزين : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يُطلَّقن، فقلن : يا نبيَّ الله ؛ اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودَعْنا على حالنا، فكان ممن أرجى منهن : سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، فكان يقيم لهن ما يشاء، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، فكان يقسم لهن بالسوية، لا يفضل بعضهن على بعض. فآوى أربعاً وأرجى خمساً. وقيل : إنه كان صلى الله عليه وسلم يسوّي بين الجميع في القسم، إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة، حين همّ بطلاقها، وقالت : لا تطلّقني حتى أُحْشَر في زمرتك وفي نسائك. والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه، أخذاً منه بأفضل الأخلاق، مع أن الله خيّره. وقيل :﴿ تُرجي من تشاء ﴾ أي : تطلق من تشاء منهن، وتُمسك من تشاء. وقيل : تترك تزوج من شئت من أمتك، وتتزوج من شئت.
﴿ ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عزلتَ فلا جُناحَ عليك ﴾ أي : ومَن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء، فلا ضيق في ذلك، أي : ليس إذا عزلتها من القسمة، أو من العصمة، لم يجز لك ردّها إلى نفسك، بل افعل ما شئت، فلا حرج عليك. ﴿ ذلك ﴾ التفويض إلى مشيئتك ﴿ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنهنَّ ولاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُن ﴾ أي : هو أقرب إلى قرة أعينهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعاً ؛ لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند الله اطمأنت نفوسهنّ، وذهب التغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون.
قلت : والذي يظهر أن مَن أرجاه صلى الله عليه وسلم من النساء إنما كان بوحي، ومَن ضمه كذلك ؛ إذ لا يتصرف إلا بإذن من الله، فإذا عَلِمَ النساءُ أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من الله ؛ رضين بذلك، وقرّت أعينهن، وزال تغايرهن، وأما مطلق التفويض إليه فقط، فلا يقطع الغيرة في العادة، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله. و " كلهن " : تأكيد ضمير " يَرْضَيْن ".
﴿ واللهُ يعلم ما في قلوبكم ﴾ من أمر النساء، والميل إلى بعضهن، أو : يعلم ما في قلوبكم من الرضا بحُكم الله والتفويض إليه، ففيه تهديد لمَن لم يرضَ منهم بما دبَّر الله، وفوّض إلى رسوله، ﴿ وكان الله عليماً ﴾ بذات الصدور، ﴿ حليماً ﴾ لا يُعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يُتقى ويُحذر.
الإشارة : إذا تحقق فناء العبد وزواله، وتكملت ولايته، كان مفوضاً إليه في الأمور، يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، لم يبقَ عليه تحجير، ولم يتوجه إليه عتاب ؛ لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له، كتب له عقد التحرير. وشاهده حديث :" إِذَا أحَبَّ الله عَبْداً لمْ يضُره ذَنْبٌ١ "، وحديث البخاري :" لعلَّ الله اطَّلَعَ على أهلِ بَدْرٍِ فقال : اعملوا ما شئتم، فقد غَفَرتُ لكُمْ٢ " وسببه معلوم.
وفي القوت عن زيد بن أرقم : إن الله عزّ وجل ليُحب العبد، حتى يبلغ من حبه أن يقول له : اصنع ما شئت، فقد غفرت لك. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : يبلغ الولي مبلغاً يُقال له : أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت. ومصداقه من كتاب الله : قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام :﴿ هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ ص : ٣٩ ]. وهذا وإن كان للنبي من أجل العصمة، فلَمِنْ كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه، من أجل الحفظة. وقال أيضاً رضي الله عنه في بعض أدعيته : وأدرج أسمائي تحت أسمائك، وصفاتي تحت صفاتك، وأفعالي تحت أفعالك، درج السلامة، وإسقاط الملامة، وتنزُل الكرامة، وظهور الإمامة. ه.
فإذا اندرجت أسماء العبد وصفاته وأفعاله تحت أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، لم يبقَ للعبد وجود أصلاً، وكان الفعل كله بالله، ومن الله، وإلى الله. وهذا مقام عزيز، لا يناله إلا الأفراد من أهل الفناء في الله، والبقاء بالله، وقد غطى وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فغيَّبهم عن اسمهم ورسمهم، فهم بالله فيما يفعلون ويذرُون. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٣٠٠٧..
﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لا يَحِلُّ لك النساءُ من بعدُ ﴾ أي : من بعد التسع، اللاتي خيرتهن فاخترنك ؛ لأن التسع نِصابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الأربع نِصاب أمته. لَمّا اخترن اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة قصره الله عليهن، وقيل : هي منسوخة كما يأتي. أو : لا يحلّ لك نساء الأجانب، وإنما لك نساء قرابتك، كبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك، فيحل لك منهن ما شئت، ولو ثلاثمائة، أو أكثر. أو : لا يحل لك النساء من غير المسلمات، كالكتابيات والمشركات. ﴿ ولا أن تبدَّل بهنَّ من أزواجٍ ﴾ بالطلاق. والمعنى : ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً، بكلهن أو بعضهن، كرامةً لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر رسولَه صلى الله عليه وسلم على التسع اللاتي مات عنهن. وقال أبو هريرة وابن زيد : كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بالأزواج، يعطي امرأة هذا أياماً ويأخذ امرأته، فأنزل الله :﴿ ولا أن تبدَّل بهن من أزواج ﴾ بأن تُعطي بعض أزواجك وتأخذ بعض أزواجهم، ﴿ إِلا ما ملكتْ يمينُك ﴾ فلا بأس أن تبادل بجاريتك. و " مِن " : لتأكيد النفي ؛ ليفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم. ﴿ ولو أَعْجَبَكَ حُسْنُهن ﴾ أي : حُسْن الأزواج المتبدلة. وقيل : هي أسماء بنت عُميْس، امرأة جعفر بن أبي طالب، فإنها ممن أعجبه حسنهنّ.
وعن عائشة وأم سلمة، ( ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أَحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء١ )، يعني أن الآية نُسخت إما بالسُنَّة، أو : بقوله :﴿ إنا أحللنا لك أزواجك ﴾ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف. ﴿ إِلا ما ملكت يمينُك ﴾ استثناء من النساء ؛ لأنه يتناول الأزواج، وقيل : منقطع، أي : لكن ما ملكت يمينك، فيحل لك ما شئت، ﴿ وكان الله على كل شيءٍ رقيباً ﴾ حافظاً ومُطلعاً. وهو تحذير عن مجاوزة حدوده. والله تعالى أعلم.
الإشارة : مَن نكح أبكار الحقائق العرفانية ودخل بأسرار العلوم اللدنية، لا يحل له أن ينكح ثيبات نساء العلوم الرسمية، ولا أن يتبدل بما عنده من المواهب الربانية، بغيرها من العلوم اللسانية، ولو أعجبك حُسنها ورونقها على الفرض والتقدير إذ التنزُّل إليها بطالة عند المحققين، إلا ما كنت تملكه قبل علم الحقيقة، فلا بأس أن تنزل إلى تعليمه وإفادته، إن توسعت في علم الباطن، وصرت من الأغنياء الكبار، تُنفق كيف تشاء، فلا يضرك حينئذ التنزُّل إلى علم الظاهر. وقد كان شيخ شيوخنا سيدي يوسف الفاسي رضي الله عنه عنده مجلسان : مجلس لأهل الظاهر، ومجلس لأهل الباطن. فإن كان في مجلس الظاهر، وجاء إليه أحد من الفقراء، يقول : اذهب حتى نأتي إلى مجلسكم، وإن كان في مجلس أهل الباطن، وجاء إليه أحد من أهل الظاهر، قال : اذهب حتى نأتي إليكم. وكان له هذا بعد الرسوخ في علم الحقيقة. وبالله التوفيق.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتَ النبي ﴾ وكانت تسعاً، ﴿ إلا أن يُؤذنَ لكم إِلى طعامٍ ﴾ أي : إلا وقت أن يُؤذن لكم، أو : إلا مأذوناً لكم، فجملة :﴿ إلا أن يُؤذن ﴾ : في موضع الحال، أو الظرف. و﴿ غير ناظرين ﴾ : حال من ﴿ لا تدخلوا ﴾، وقع الاستثناء على الوقت الحال، كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا ﴿ غير ناظرين ﴾ أي : منتظرين ﴿ إِنَاهُ ﴾ أي : إدراكه ونضجه. قال ابن عزيز : إِناهُ بلوغ وقته، يقال : أنِيَ يَأنَى، وآن يئين : إذا شهى، بمنزلة : حان يحين. ه. وقال الهروي : أي : غير ناظرين نضجه وبلوغ وقته، مكسور الهمزة مقصور، فإذا فتحت مددت، فقلت : الإناء، أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ على زينب بتمر وسويق، وذبح شاةً، وأمر أنساً أن يدعو الناس، فترادفوا أفواجاً، يأكل كل فوج، فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن قال : يا رسول الله دعوتُ حتى ما أجد أحداً أدعوه. فقال :" ارفعوا طعامكم " وتفرّق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون، فأطالوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا، فطاف بالحجرات، وسلّم عليهن، ودعون له، ورجع، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون. وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متولياً خرجوا، فنزلت الآية، وهي آية الحجاب. قال أنس : فضرب بيني وبينه الحجاب١.
قال تعالى :﴿ ولكن إِذا دُعيتم فادخلوا فإِذا طَعِمْتُم فانتشروا ﴾ تفرقوا، ﴿ ولا مستأنسين لحديثٍ ﴾ أي : ولا تدخلوها حال كونكم مستأنسين لحديث، أو : غير ناظرين ولا مستأنسين، فهو منصوب، أو مجرور، عطف على " ناظرين "، نُهوا أن يُطيلوا الجلوس في بيته صلى الله عليه وسلم مستأنسين بعضهم ببعض، لأجل حديث يتحدثون به، ﴿ إِن ذلكم كان يُؤذي النبيَّ فيستَحْي منكم ﴾ من إخراجكم ؛ ﴿ والله لا يستحي من الحق ﴾ يعني أن إخراجكم حق، ما ينبغي أن يُستحى منه، ولا يُترك بيانه، حياءً، أو : لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يَشرع ذلك.
﴿ وإِذا سألتموهنّ ﴾ أي : نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بدلالة البيوت عليهن ؛ لأن فيها نساءه، ﴿ متاعاً ﴾ عارية أو حاجة، ﴿ فاسألوهنّ من وراءِ حجابٍ ﴾ ستر، ﴿ ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهنّ ﴾ من خواطر الشيطان وعوارض الفتن. وكانت النساء قبل هذه الآية يبرزن للرجال، وكان عمر رضي الله عنه يُحب ضَرْبَ الحجاب عليهن، ويودّ أن ينزلَ فيه، وقال : يا رسول الله : يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب ؟ فنزلت٢. وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام، كان يَطعمَ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ يدَ عائشة، فكَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت الآية٣. والله تعالى أعلم.
الإشارة : العلماء ومشايخ التربية ورثة الأنبياء، فإذا دَعوا إلى طعام فلا يدخل أحد حتى يُؤذن له، فإذا طعموا فلينتشروا، وإذا سأل أحدٌ حاجته من أهل دار الشيخ ؛ فليسأل من وراء الباب، وليتنحَّ عن مقابلة الباب ؛ لئلا يتكشف على عِرض شيخه، فيسيء الأدب معه، وهو سبب الخسران.
ثم نهى عن تزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :
﴿. . . . وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً ﴾*
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما كان لكم أن تُؤذوا رسولَ الله ﴾ أي : ما صحَّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كفر، ﴿ ولا أن تَنكِحُوا أزواجَه من بعده أبداً ﴾ تعظيماً لحُرمته صلى الله عليه وسلم، ولبقاء عصمته عليهن، ولذلك وجبت نفقتهن بعده، لقوله :" ما بقي بعد نفقة أهلي صدقة ". وكذا السكنى كما قد علم، وبه قال ابن العربي. وعَطفُ ( ولا أن تنكحوا ) على ( أن تؤذوا ) من عطف الخاص على العام ؛ إذ تزوج نسائه من أعظم الإيذاء. ﴿ إِنَّ ذلكم ﴾ أي : الإيذاء أو التزوُّج ﴿ كان عند الله ﴾ ذنباً ﴿ عظيماً ﴾.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ إن تبدوا شيئاً... ﴾ الآية : حِفْظُ القلبِ مع الله تعالى، ومراعاةُ الأمر بينه وبين الله على الصِّحَّةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ، من أهل الحضور. هـ.
٢ أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٤٨٣.
٣ أخرجه الطبري في تفسيره ٢٢/٣٩.
﴿ إِن تُبدوا شيئاً ﴾ من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نكاح أزواجه، ﴿ أو تُخفوه ﴾ في أنفسكم، ﴿ فإِنَّ الله كان بكل شيءٍ عليماً ﴾ فيُعاقبكم عليه. رُوي أن رجلاً من الصحابة قال : لئن قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لأنكحنَّ عائشة، فنزلت، فَحُرّمن١. وفيه نزلت :﴿ إن تبدوا شيئاً ﴾ أي : من نكاح عائشة، ﴿ أو تخفوه. . . ﴾ إلخ. وكان عليه الصلاة والسلام مَلَك قتيبة بنت الأشعث بن قيس، ولم يبنِ بها، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، بعد ذلك، فهمَّ به أبو بكر، وشقّ عليه، حتى قال له عمر : يا خليفة رسول الله، ليست من نسائه، ولم يُخيرها، ولم يحجبها، وقد برأها الله منه بالردة، حين ارتدت مع قومها، فسكن أبو بكر. وقال الزهري : إن العالية بنت ظبيان، التي طلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له قبل أن يحرم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم٢.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ إن تبدوا شيئاً... ﴾ الآية : حِفْظُ القلبِ مع الله تعالى، ومراعاةُ الأمر بينه وبين الله على الصِّحَّةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ، من أهل الحضور. هـ.
٢ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٧/٧٣..
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ أن يدخلوا عليهن بلا حجاب. قال ابن عباس : لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : ونحن أيضاً نُكلمهن من وراء حجاب، فنزلت :﴿ لا جناح. . . ﴾ الخ، أي : لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء. ولم يذكر العم والخال ؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد جاء تسمية العم أباً في قوله تعالى :
﴿ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ. . . ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] وإسماعيل عم يعقوب، فسمّاه أباً. وذكر القاضي إسماعيل، عن الحسن والحسين : أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس : إن رؤيتهما لهن تحل، أي : لأنهما ولدا البعل. قال القاضي : وأحسبُ أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يُذكروا في الآية. وقال في سورة النور :﴿ ولا يبدين زينتهن ﴾ إلى قوله :﴿. . . أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]، فذهب ابن عباس إلى ما في سورة النور، وذهب الحسن والحسين إلى ما في هذه السورة. ه.
﴿ ولا نسائِهِن ﴾ أي : نساء المؤمنات، فلا حجاب عليهن، ﴿ ولا ما ملكتْ أيمانُهنّ ﴾ من العبيد والإماء. وقيل : من الإماء خاصة، وأما العبيد فهم كالأجانب. وهو المشهور، ﴿ واتقِينَ الله ﴾ فيما أُمِرتُن به من الحجاب، وما نزل فيه الوحي من الاستتار، واحتطن في ذلك. ونقل الكلام فيه من الغيبة إلى الخطاب لشدة التهديد، ولذا قال :﴿ إِن الله كان على كل شيءٍ شهيداً ﴾ عالماً ؛ يعلم خطرات القلوب وهواجسها، فيعاتب عليها.
الإشارة : ما قيل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يُقال في نساء المشايخ والعلماء، فتحتجبن من جميع الخلق، إلا من محارمهن، ولا يمنعهن من إدخال محارمهن عليهن إلا جامد أو جاهل، ولا ينبغي لأحد أن يمنع زوجه من لقاء محرمها والدخول عليها إلا لفساد بيّن. وبالله التوفيق.
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِن اللهَ وملائكتَهُ يُصلُّون على النبي ﴾ يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. وقال صاحب المُغني : الصواب عندي : أن الصلاة لغة بمعنى واحد، وهو العطف، ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى : الرحمة، وإلى الملائكة : الاستغفار، وإلى الآدميين : دعاء. واختاره السُّهيلي قبله. والمراد بالرحمة منه تعالى غايتها، وهو إفاضة الخير والإحسان، لا رقة القلب، الذي هو معنى الرحمة حقيقة. ﴿ يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه ﴾ أي : قولوا : اللهم صلِّ على محمد أو : صلى الله على محمد. ﴿ وسلّموا تسليماً ﴾ أي : قولوا : اللهم سلّم على محمد، أو : صلّ وسلِّم على محمد، أو : انقادوا لأمره وحكمه، انقياداً كليًّا.
وعن كعب بن عُجْرَة : قلنا : يا رسول الله، أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك ؟ قال :" قولوا اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بَارَكْت على إبراهيمَ، إنك حميد مجيد١ ". ومعرفتهم السلام من التشهُّد. والصلاة على غير الأنبياء بالتبع جائزة. وأما بالاستقلال فمكروه، وهو من شعار الروافض. ه. قال الكواشي : رُوي أنه قيل يا رسول الله : أرأيت قول الله تعالى :﴿ إن الله وملائكته يُصلُّون على النبي. . . ﴾ الآية ؟ فقال : هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم، إن الله وكَل بي ملكين، فلا أُذكر عند عبدٍ مسلم، فيُصلي عليّ، إلا قال ذانك الملكان : غفر الله لك، وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملّكين : آمين. ولا أُذكر عند عبد مسلم، فلا يُصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان : لا غفر الله لك. وقال الله جواباً لذينك الملكين : آمين. ه.
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة. فمنهم مَن أوجبها عند ذكره كلما ذكر، وعليه الجمهور، وهو الاحتياط للحديث المتقدم. ولقوله صلى الله عليه وسلم :" مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ دَخَلَ النار ". ومنهم مَن أوجبها في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كتشميت العاطس وآية السجدة، ومنهم مَن أوجبها مرة في العمر. قالوا : وكذلك الخلاف في إظهار الشهادتين، وأما ذكرها في الصلاة فليست شرطاً عند أبي حنيفة ومالك، خلافاً للشافعي، والاحتياط : الإكثار منها بغير حصر، ولا يغفل عنها إلا مَن لا خير فيه. واختلف هل كانت الأمم الماضية متعبدة بالصلاة على أنبيائهم. قال القسطلاني : إنه لم ينقل إلينا ذلك، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع. ه.
الإشارة : اعلم أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سُلم ومعراج الوصول إلى الله ؛ لأن تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تُوجب محبته، ومحبتُه عليه الصلاة والسلام توجب محبة الله تعالى، ومحبته تعالى للعبد تجذبه إلى حضرته، بواسطة وبغيرها. وأيضاً : الرسول صلى الله عليه وسلم وزير مقرب، ومَن رام دخول حضرة الملوك يخدم الوزير، ويتقرّب إليه، حتى يُدخله على الملِك. فهو صلى الله عليه وسلم حجاب الله الأعظم، وبابه الأكرم، فمَن رام الدخول من غير بابه طُرد وأُبعد، وفي ذلك يقول ابن وفا :
وأنت بابُ الله، أيّ امرئ | وفاه من غيرك لا يدخلِ |
[ المائدة : ٣٥ ]، ولا وسيلة إليه أقرب، ولا أعظم، من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم.
ومنها : أن الله تعالى أمر بها، وحضَّنا عليها، تشريفاً له وتكريماً، وتفضيلاً لجلاله، ووعد مَن استعملها حُسن المآب، وجزيل الثواب، فهي من أنجح الأعمال، وأرجح الأقوال، وأزكى الأحوال، وأحظى القربات، وأعم البركات، وبها يتوصل إلى رضا الرحمان، وتنال السعادة والرضوان، وتجاب الدعوات، ويرتقي إلى أرفع الدرجات. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى أتُريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك، ومن وسواس قلبك إلى قلبك، ومن روحك إلى بدنك، ومن نور بصرك إلى عينيك ؟ قال : نعم يا رب، قال : فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم محبوب لله عزّ وجل، عظيم القدر عنده، وقد صلّى عليه هو وملائكتُه، فوجبت محبة المحبوب، والتقرُّب إلى الله تعالى بمحبته، وتعظيمه، والاشتغال بحقه، والصلاة عليه، والاقتداء بصلاته، وصلاة ملائكته، وصلاة ملائكته عليه. قلت : وهذا التشريف أتم وأعظم من تشريف آدم عليه السلام، بأمر الملائكة بالسجود له ؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف. فتشريف يصدر عنه مع ملائكته أبلغ من تشريف تختص به الملائكة.
ومنها : ما ورد في فضلها، ووعَدَ عليها من جزيل الأجر وعظيم القدر، وفوز مستعملها برضا الله، وقضاء حوائج آخرته ودنياه.
ومنها : ما فيها مِن شُكر الواسطة في نعم الله علينا المأمور، بشكره، وما من نعمة لله علينا، سابقة ولا لاحقة ؛ من نعمة الإيجاد والإمداد، في الدنيا والآخرة، إلا وهو السبب في وصولها إلينا، وإجرائها علينا، فوجب حقه علينا، ووجب علينا في شكر نعمته ألا نفتر عن الصلاة عليه، مع دخول كل نفس وخروجه.
ومنها : ما فيها من القيام برسم العبودية، بالرجوع لِما يقتضي الأصلُ نفيه، فهو أبلغ في الامتثال، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كل عمل. والذي يقتضي الأصل نفيه، هو كون العبد يتقرب إلى الله بالاشتغال بحق غيره ؛ لأن قولنا :" اللهم صَلِّ على محمد " هو الاشتغال بحق محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل التعبدات : ألا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالاشتغال بحقه. ولكن لمّا كان الاشتغال بالصلاة على محمد بإذن من الله تعالى، كان الاشتغال بها أبلغ في امتثال الأمر، فهي بمثابة أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم، فكان شرفهم في امتثال أمر الله، وإهانة إبليس في مخالفة أمره سبحانه.
ومنها : ما جُرب من تأثيرها، والنفع بها في التنوير ورفع الهمة، حتى قيل : إنها تكفي عن الشيخ في الطريق، وتقوم مقامه، حسبما نقله الشيخ السنوسي، والشيخ زروق، وغيرهما.
ومنها : ما فيها من سير الاعتدال، الجامع لكمال العبد وتكميله، ففي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الله ورسوله، ولا كذلك عكسه، فلذلك كانت المثابرة على الأذكار والدوام عليها يحصل به الانحراف، وتُكسب نورانية تحرق الأوصاف، وتثير وهجاً وحرارة في الطباع، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تُذهب وهَج الطِّباع، وتقوي النفوس ؛ لأنها كالماء البارد، فكانت تقوم مقام شيخ التربية. انتهى كلامه.
قلت : والحق الذي لا غُبار عليه : إن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والإكثار منها، تدلّ صاحبها على مَن يأخذ بيده، وتُوصله إلى شيخ التربية، الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان صادق الطلب، وأما كونها تقوم مقام الشيخ في دخول مقام الفناء والبقاء، حتى تعتدل حقيقته وشريعته فلا ؛ إذ لا تنقطع رعونات النفوس إلا بآمر وناهٍ من غيره، يكون عالماً بدسائس النفوس وخِدعها، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يظفر بالشيخ الفناء في الصفات، وينال مقام الصلاح الأكبر، ويظهر له كرامات وخوارق، ويكون من أرباب الأحوال، وإن وصل إلى مقام الفناء تكون شريعته أكبر من حقيقته.
هذا ما ذقناه، وشهدناه، وسمعناه من أشياخنا، والطريق التي أدركناهم يستعملونها، وأخذناها منهم، أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلاً للتربية أن يلتزم الاسم المفرد، ويفنى فيه، حتى تنهدم به عوالمه، فإذا تحقق فناؤه وغاب عن نفسه ورسمه، ردُّوه إلى مقام البقاء، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكون صلاته عليه كاملة، يُصلي على روحه وسره بلا حجاب، ويشاهده في كل ساعة كما يشاهدونه. وبالله التوفيق.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِن الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه ﴾ بارتكابهم ما يكرهانه من الكفر والمعاصي والبدع. وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى والمشركون. فقالت اليهود :﴿ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ [ المائدة : ٦٤ ]، ﴿ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ] وقالت النصارى :﴿ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ﴾ [ التوبة : ٣٠ ]، ﴿ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ [ المائدة : ٧٣ ]. وقال المشركون : الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. وقيل : يؤذونه : يُلحدون في أسمائه وصفاته. ويؤذون رسول الله، حين شُج وجهه، وكُسرت رباعيتُه، وقيل له : هو ساحر وشاعر ومجنون. أو : بترك سُنَّته ومخالفة شريعته. ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسولَ الله فقط بالتنقيص، أو بالتعرُّض لنسائه. وذكرُ اسم الله للتشريف. ﴿ لعنَهُم اللهُ في الدنيا والآخرة ﴾ أي : أبعدهم من رحمته في الدارين ﴿ وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً ﴾ يُهينهم ويُخزيهم في النار.
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتِك ونساءِ المؤمنين يُدْنِينَ عليهن من جَلابِيبهن ﴾ أي : يُرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوهَهن. والجلباب : كل ما يستر الكل، مثل الملحفة، والمعنى : قل للحرائر يُرخين أرديتهن وملاحفَهن ويغَطين بها وجوههن ورؤوسهن، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين. و﴿ ذلك أَدْنَى ﴾ أي : أقرب وأجدر، ﴿ أن يُعْرَفْنَ ﴾ من الإماء ﴿ فلا يُؤْذَين ﴾ وذلك أن النساء في أول الإسلام كن على زيهنَّ في الجاهلية متبذّلات، تبرز المرأةُ في درج وخمار، لا فَصْل بين الحُرّة والأَمَة. وكان الفتيان يتعرّضون للإماء، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ في النخيل والغَيْضات، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر، فربما تعرّضوا للحُرّة، يحسبونها أَمَة، فأُمِرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الإماء بلباس الجلابيب، وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهنّ طامع.
قال ابن عباس رضي الله عنه : أمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب، ويُبدين عيناً واحدة. قلت : وقد مرَّ في سورة النور١ أن الوجه والكفين ليس بعورة، إلا لخوف الفتنة، وأما الإماء فلا تسترن شيئاً إلا ما بين السرة والركبة، كالرجل. قال أنس : مرتْ جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة، وقال : يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر، فألقِ القناع. ﴿ وكان اللهُ غفوراً ﴾ لِما سلف منهن من التفريط، ﴿ رحيماً ﴾ بتعليمهن آداب المكارم.
الإشارة : ينبغي لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة ؛ بزيادة الصَوْن والتحفُّظ، وقلة الخروج، فإذا لزمهنَّ الخروج، فليخرجن في لباس خشين، بحيث لا يُعرفن، أو يخرجن ليلاً. وثبت أن زوجة الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتين ؛ خرْجة حين زُفت إلى زوجها، وخرجة إلى المقابر. نفعنا الله ببركاتهم. آمين.
﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ * ﴿ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾ * ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾
قلت :﴿ لنُغرينك ﴾ : جواب القسم المغني عن جواب الشرط. و﴿ ثم لا يُجاورنك ﴾ : عطف عليه ؛ لأنه يصح أن يُجاب به القسم ؛ لصحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يُجاورنك، ولَمَّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أُصيبوا به عطف بثم، لبُعد حاله عن حال المعطوف عليه.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لئن لم ينته المنافقون ﴾ عن نفاقهم وإيذائهم، ﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ فجور، وهم الزناة من قوله :" فيطمع الذي في قلبه مرض ". ﴿ والمُرجِفُون في المدينةِ ﴾ وهم أُناس كانوا يُرجفون بأخبار السوء في المدينة، من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون : هُزموا وقُتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوبَ المؤمنين. يقال : رجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقته ؛ لكونه خبراً مزلزلاً غير ثابت، من : الرجفة، وهي الزلزلة، ﴿ لَنُغرينَّك بهم ﴾ لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء، أو : لنُسلطنك عليهم، ﴿ ثم لا يُجاورونك فيها ﴾ في المدينة ﴿ إِلا ﴾ زمناً ﴿ قليلاً ﴾.
والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يُلقون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوؤهم، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة، وألاّ يُساكنوك فيها إلاّ زمناً قليلاً، ريثما يرتحلون. فسمّي ذلك إغراء، وهو التحريشُ، على سبيل المجاز.
حال كونهم ﴿ ملعونين ﴾ أي : لا يجاورونك إلا ملعونين، مُبعدين عن الرحمة ﴿ أَينما ثُقِفُوا ﴾ وُجدوا ﴿ أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً ﴾ والتشديد للتكثير.
قال ابن جزي : تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا، ولم ينفُذ الوعيد فيهم. ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة. وقيل : إنهم انتهوا وستروا أمرهم ؛ فكفّ عنهم إنفاذ الوعيد. ه.
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾ * ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ﴾ * ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ * ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ﴾ * ﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ﴾ * ﴿ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يسألُكَ الناسُ عن الساعةِ ﴾ كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة، استعجالاً واستهزاءً، واليهود يسألون امتحاناً ؛ لأن الله تعالى أخْفى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام أنها قريبة الوقوع، تهديداً للمستعجلين، وإسكاتاً للممْتحنين فقال :﴿ قُلْ إِنما عِلْمُها عند الله ﴾ لم يُطلع عليها ملكاً ولا نبيًّا. ﴿ وما يُدريكَ لعل الساعة تكونُ قريباً ﴾ أي : شيئاً قريباً، أو : في زمان قريب، فتنصب على الظرفية، ويجوز أن يكون التذكير ؛ لأن الساعة في معنى اليوم أو الزمان.
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ | فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد |
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ | فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد |
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ | فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد |
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ | فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد |
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ | فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد |
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ | فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد |
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ﴾ * ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾ * ﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذَوْا موسى ﴾ من بني إسرائيل ﴿ فبرأه اللهُ مما قالوا ﴾ وذلك أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يستتر لشدة حيائه، فقالوا : ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر والأدْرَة : انتفاخ الأنثيين أو : به عيب من برص أو غيره، فذهب يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فلجّ في أثره يقول : ثَوْبي حَجَر، ثوبي حجر ! حتى نظروا إلى سوأته، فقالوا : والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، ثلاثاً أو أربعا١.
وقيل : كان أذاهم : ادعاءهم عليه قتل أخيه. قال عليّ رضي الله عنه : صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته. وكان أشدَّ لنا حبًّا، وألين منك، فآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته، حتى مرت به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بمماته، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرّأ الله موسى من ذلك، ثم دفنوه. فلم يطلع على قبره إلا الرَّخَم من الطير، وإن الله جعله أصم أبكم٢، وقيل : إنه على سرير في كهف الجبل. وقيل : إن قارون استأجر امرأة مومسة، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله، وبرأ موسى، وأهلك قارون. وقد تقدّم.
﴿ وكان عند الله وجيهاً ﴾ ذا جاه ومنزلة رفيعة، مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش " وكان عبداً لله وجيهاً ".
واعلم أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير، وتقوى الله أساس الطريق، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق. قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه ـ بعد كلام ـ : ولكن قد تصعب التقوى على النفس ؛ لاتساع أمرها، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدور عليها، تُعَنْ على ما بعدها، وأعظم ذلك معصية : الغيبة قولاً وسماعاً، فإنها خفيفة على النفوس ؛ لإِلْفها، مستسهلة ؛ لاعتيادها، مع أنها صاعقة الدين، وآفة المذنبين، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم... ﴾ الآية، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول، وكذلك ورد : أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان، وتقول : اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخي لسانك، وخصوصاً في هذه الخصلة، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك، فإذا فعلت طابت حياتك، وكفيت الشواغب، ظاهراً وباطناً. هـ.
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥/٤١٩..
واعلم أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير، وتقوى الله أساس الطريق، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق. قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه ـ بعد كلام ـ : ولكن قد تصعب التقوى على النفس ؛ لاتساع أمرها، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدور عليها، تُعَنْ على ما بعدها، وأعظم ذلك معصية : الغيبة قولاً وسماعاً، فإنها خفيفة على النفوس ؛ لإِلْفها، مستسهلة ؛ لاعتيادها، مع أنها صاعقة الدين، وآفة المذنبين، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم... ﴾ الآية، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول، وكذلك ورد : أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان، وتقول : اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخي لسانك، وخصوصاً في هذه الخصلة، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك، فإذا فعلت طابت حياتك، وكفيت الشواغب، ظاهراً وباطناً. هـ.
والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غايةُ الطُلبة ؛ من تقبل حسنَاتكم، ومن مغفرة سيئاتكم. وهذه الآية مقررة للتي قبلها، فدلت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليها النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى الله الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله :﴿ ومن يُطع اللهَ ورسولَه ﴾ في الأوامر والنواهي ﴿ فقد فاز فوزاً عظيماً ﴾ يعيش في الدنيا حميداً، وفي الآخرة سعيداً. جعلنا الله منهم، آمين.
واعلم أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير، وتقوى الله أساس الطريق، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق. قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه ـ بعد كلام ـ : ولكن قد تصعب التقوى على النفس ؛ لاتساع أمرها، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدور عليها، تُعَنْ على ما بعدها، وأعظم ذلك معصية : الغيبة قولاً وسماعاً، فإنها خفيفة على النفوس ؛ لإِلْفها، مستسهلة ؛ لاعتيادها، مع أنها صاعقة الدين، وآفة المذنبين، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم... ﴾ الآية، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول، وكذلك ورد : أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان، وتقول : اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخي لسانك، وخصوصاً في هذه الخصلة، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك، فإذا فعلت طابت حياتك، وكفيت الشواغب، ظاهراً وباطناً. هـ.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ * ﴿ لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنا عرضنا الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ ﴾ الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي، فالإيمان أمانة الباطن، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر، فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أميناً، وإلا كان خائناً. والمعنى : إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام، ولها الثواب العظيم، إن أحسنت القيام بها، والعقاب الأليم إن خانت، فأبتْ وأشفقتْ واستعفتْ منها، مخافةَ ألاَّ تقدر عليها، فطلبت السلامة، ولا ثواب ولا عقاب. وهذا معنى قوله :﴿ فأبَيْنَ أن يحْمِلنَها وأشفقنَ منها ﴾ فيحتمل أن يكون الإباء بإدراكٍ، خلقه الله فيها، وقيل : أحياها وأعقلها، كقوله :﴿ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ [ فصلت : ١١ ] ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان الفاسي : وقد يقال : الأمانة هي ما أخذ عليهم من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته، وينظر لذلك قوله :" لن يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن ". وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمي ؛ لأن الجن أيضاً مكلف، ومناسبة الآية لِمَا قبلها : أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها. ه.
وقيل : لم يقع عَرض حقيقةً، وإنما المقصود : تعظيم شأن الطاعة، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء. والمعنى : أنها لعظمة شأنها لو عُرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذا شعور وإدراك، لأبيْن أن يحمِلْنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، مع ضعف بنيته، ورخاوة قوته، لا جرم، فإن الراعي لها، والقائم بحقوقها، بخير الدارين. ه. قاله البيضاوي. والمراد بالإباية : الاستعفاء، لا الاستكبار، أي : أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن.
﴿ وحَمَلَها الإِنسانُ ﴾ أي : آدم. قيل : فما تمّ له يوم من تحملها حتى وقع في أمر الشجرة، وقيل : جنس الإنسان، وهذا يناسب حملَ الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح في عالم الغيب. ﴿ إِنه كان ظلوماً جهولاً ﴾ حيث تعرض لهذا الخطر الكبير، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل، وكان صالحاً أميناً عدولاً، وإن خانها ولم يقم بها، كان ظلوماً جهولاً، كلٌّ على قدر خيانته وظُلمه، فالكفار خانوا أصل الأمانة، وهي الإيمان فكفروا، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة، فبعضهم أشد، وبعضهم أهون، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.
﴿ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ] أي : بيد القدرة والحكمة، فكان جامعاً للضدين، ملكياً ملكوتيًّا، حسه حكمة، ومعناه قدرة : وليست هذه المزية لغيره من الكائنات، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهَيَمان، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم، فلا يظهر عليهم شيء من الأنوار والأَسرار.
وهذا السر الذي خُصّ به الآدمي هو كامن فيه، من حيث هو، كان كافراً أو مؤمناً، كما كَمُن الزبد في اللبن، فلا يظهر إلا بعد الترتيب والضرب والمخض، وإلا بقي فيه كامناً، وكذلك الإنسان، السر فيه كامن، وهو نور الولاية الكبرى، فإذا آمن ووحّد الله تعالى، واهتز بذكر الله، وضرب قلبه باسم الجلالة، ظهر سره، إن وجد شيخاً يُخرجه من سجن نفسه وأسر هواه.
وله مثال آخر، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحَب في الغصون قبل ظهوره، فإذا نزل المطر، وضربت الرياح أغصان الأشجار، أزهرت الأغصان وأثمرت، وإليه أشار في المباحث الأصلية، حيث قال :
وهي من النفوس في كُمُون *** كما يكون الحب في الغصون
حتى إذا أرعدت الرعود *** وانسكب الماء ولان العود
وجال في أغصانها الرياح *** فعندها يرتقب اللقاح
ثم قال :
فهذه فواكه المعارف *** لم تشر بالتالِد أو بالطارف
ما نالها ذو العين والفلوس *** وإنما تُباع بالنفوس
فلا يظهر هذا السر الكامن في الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه، وهي المجاهدة والمكابدة، وقتل النفوس، بخرق عوائدها، وبعد نزول أمطار النفحات الإلهية، والخمرة الأزلية، على يد الأشياخ، الذين أهَّلهم الله لسقي هذا الماء، وتجول في أغصان عوالمه رياح الواردات، وينحط مع أهل الفن، حتى يسري فيه أنوارهم، ويتأدّب بآدابهم، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه، ويجني ثمار معارفه، وإلا بقي السر أبداً كامناً فيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
والحاصل : أن العذاب لمَن تحملها أولاً، ولم يقم بحقها ثانياً. والغفران لمَن تحملها وقام بحقها، والرحمة لمَن تحملها ورعاها حق رعايتها. والله تعالى أعلم.
﴿ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ] أي : بيد القدرة والحكمة، فكان جامعاً للضدين، ملكياً ملكوتيًّا، حسه حكمة، ومعناه قدرة : وليست هذه المزية لغيره من الكائنات، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهَيَمان، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم، فلا يظهر عليهم شيء من الأنوار والأَسرار.
وهذا السر الذي خُصّ به الآدمي هو كامن فيه، من حيث هو، كان كافراً أو مؤمناً، كما كَمُن الزبد في اللبن، فلا يظهر إلا بعد الترتيب والضرب والمخض، وإلا بقي فيه كامناً، وكذلك الإنسان، السر فيه كامن، وهو نور الولاية الكبرى، فإذا آمن ووحّد الله تعالى، واهتز بذكر الله، وضرب قلبه باسم الجلالة، ظهر سره، إن وجد شيخاً يُخرجه من سجن نفسه وأسر هواه.
وله مثال آخر، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحَب في الغصون قبل ظهوره، فإذا نزل المطر، وضربت الرياح أغصان الأشجار، أزهرت الأغصان وأثمرت، وإليه أشار في المباحث الأصلية، حيث قال :
وهي من النفوس في كُمُون *** كما يكون الحب في الغصون
حتى إذا أرعدت الرعود *** وانسكب الماء ولان العود
وجال في أغصانها الرياح *** فعندها يرتقب اللقاح
ثم قال :
فهذه فواكه المعارف *** لم تشر بالتالِد أو بالطارف
ما نالها ذو العين والفلوس *** وإنما تُباع بالنفوس
فلا يظهر هذا السر الكامن في الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه، وهي المجاهدة والمكابدة، وقتل النفوس، بخرق عوائدها، وبعد نزول أمطار النفحات الإلهية، والخمرة الأزلية، على يد الأشياخ، الذين أهَّلهم الله لسقي هذا الماء، وتجول في أغصان عوالمه رياح الواردات، وينحط مع أهل الفن، حتى يسري فيه أنوارهم، ويتأدّب بآدابهم، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه، ويجني ثمار معارفه، وإلا بقي السر أبداً كامناً فيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.