تفسير سورة النساء

تفسير المنار
تفسير سورة سورة النساء من كتاب تفسير المنار .
لمؤلفه رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ
سورة النساء
وهي السورة الرابعة : وآياتها مئة وسبعون وسبع آيات في العد الشامي. وست في الكوفي. وعليه مصحف الأستانة ومصر، وخمس في المكي والمدني الأول والثاني، وعليه مصحف فلو جل، فالخلاف في فاصلتين.
أقول : وهي مدنية كلها. فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة أنها قالت ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )١. ومن المتفق عليه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنى بعائشة في المدينة، قيل في السنة الأولى من الهجرة وهو الراجح ؛ وكان ذلك في شوال. أخرج ابن سعد عنها أنها قالت :" أعرس بي على رأس ثمانية أشهر " أي من الهجرة. وقيل في السنة الثانية. وقال القرطبي : كلها مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة وهي قوله :( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) [ النساء : ٥٨ ] وسيأتي ذلك في محله. وزعم النحاس أنها كلها مكية لما ورد في سبب نزول هذه الآية من قصة مفتاح الكعبة، وهو وهم بعيد واستدلال باطل. فإن نزول آية من السورة في مكة بعد الهجرة لا يقتضي كون السورة كلها مكية، على أن بعض الروايات في واقعة المفتاح تشعر بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ الآية محتجا ومبينا للحكم فيها. ففي رواية ابن مردويه أنه بعد أن أخذ المفتاح من عثمان وفتح الكعبة وأزال منها تمثال إبراهيم والقداح التي كانوا يستقسمون بهاعاد فأعطاه إياه وقرأ الآية. ولعل من قال : إنها نزلت يومئذ استنبط ذلك من قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لها.
ثم إنه ينظر في التفرقة بين المكي والمدني من وجهين :
أحدهما : بيان الواقع وتحديد التاريخ بالتفصيل إن أمكن. ولا فرق في هذا الوجه بين ما نزل بمكة قبل الهجرة وبعدها.
ثانيهما : بيان شأن الدين وسنة التشريع وأسلوب القرآن قبل الهجرة وبعدها. وبهذا الاعتبار رجح المحققون أن كل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني. ولا يعنون بهذا أنه نزل في نفس المدينة بالتفصيل كل آية آية، وإنما المراد أنه نزل في الزمن الذي كانت المدينة فيه هي عاصمة الإسلام، وكان للمسلمين فيه قوة تمنعهم ونظام يجمع شملهم. وعلى هذا يكون حكم ما نزل بمكة عام الفتح أو عام حجة الوداع كحكم ما نزل في الحديبية وبدر وغير ذلك من المواضع التي كان يخرج إليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لغزو أو نسك على عزم العود إلى المدينة.
يغلب في السور المكية الإيجاز في العبارة وإن تكرر ذكرها لما في التكرار من الفوائد، لأن الذين خوطبوا بها أولاهم أبلغ العرب على الإطلاق. وإنما يتبارى البلغاء بالإيجاز. ويغلب في معانيها تقرير كليات الدين والاحتجاج لها والنضال عنها، وهي التوحيد والبعث وعمل الخير وترك الشر- ومعظم الحجاج فيها موجه إلى دحض الشرك وإقناع المشركين. وأما السورة المدنية فحجاجها في الغالب مع أهل الكتاب والمنافقين، وفيها تفصيل الأحكام الشخصية والمدنية لكثرة المسلمين المحتاجين إليها، فإذا فطنت لهذا تجلى لك أفن رأي من قال إن هذه السورة مكية، ومن قال أيضا إن أوائلها نزلت في مكة، فلا شيء من أحكامها كان مما يحتاج إليه في مكة قبل الهجرة.
افتتحت بعد الأمر بالتقوى بأحكام اليتامى والبيوت والأموال، ومنها الميراث ومحرمات النكاح وحقوق الرجال على نساء والنساء على الرجال. ثم ذكر فيها كثير من أحكام القتال. جاء فيها بين أحكام البيوت وأحكام القتال حجاج لأهل الكتاب، وفي أثناء أحكام القتال وآدابه شيء عن المنافقين، ثم كانت أواخرها في محاجة أهل الكتاب إلا ثلاث آيات هن خاتمتها- وكل ذلك من شؤون الإسلام بعد الهجرة.
ومن وجوه الاتصال بينها وبين ما قبلها : أن هذه قد افتتحت بمثل ما اختتمت به تلك من الأمر بالتقوى، وهو ما يسمى في البديع تشابه الأطراف. وفي روح المعاني : إن هذا آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور. ( ومنها ) : محاجة أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا في كل منهما. ( ومنها ) : ذكر شيء عن المنافقين في كل منهما وكونه في سياق الكلام عن القتال. ( ومنها ) : ذكر أحكام القتال في كل منهما. ( ومنها ) : أن في هذه شيئا يتعلق بغزوة أحد التي فصلت وقائعها وحكمها وأحكامها في آل عمران، وهو قوله تعالى في هذه السورة :( فما لكم في المنافقين فئتين ) [ النساء : ٨٨ ] الخ كما سيأتي في موضعه. وكذا ذكر شيء يتعلق بغزوة ( حمراء الأسد ) التي كانت بعد ( أُحد ) وسبق ذكرها في آل عمران كما تقدم. وذلك قوله تعالى في هذه السورة :( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) [ النساء : ١٠٤ ] وسيأتي. وقد ذكر هذا الوجه وما قبله في روح المعاني وأما الوجوه الأخرى وهي ما تتعلق المناسبة فيها بمعظم الآيات فلم أرها في كتاب ولا سمعتها من أحد.
١ - أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ٦.

بسم الله الرحمان الرحيم
( يا أيها الذين الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ).
قال الأستاذ الإمام : افتتح سبحانه السورة بتذكير الناس المخاطبين بأنهم من نفس واحدة فكان هذا تمهيدا وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام القرابة بالنسب والمصاهرة وما يتعلق بذلك من أحكام الأنكحة والمواريث فبين القرابة العامة بالإجمال ثم ذكر الأرحام، وشرع بعد ذلك في تفصيل الأحكام المتعلقة بها.
سميت سورة النساء لأنها افتتحت بذكر النساء، وبعض الأحكام المتعلقة بهن، وقوله تعالى :( يا أيها الناس ) خطاب عام ليس خاصا بقوم دون قوم فلا وجه لتخصيصها بأهل مكة كما فعل المفسر ( الجلال ) لا سيما مع العلم بأن السورة مدنية إلا آية واحدة فيها شك، هل هي مدنية أم مكية. ولفظ " الناس " اسم لجنس البشر، قيل أصله " أناس " فحذفت الهمزة عند إدخال الألف واللام عليه.
أقول : وقد عزا الرازي القول بأن الخطاب لأهل مكة إلى ابن عباس رضي الله عنه، وقال : وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين وهذا هو الأصح. وأيده بثلاثة وجوه : كون اللام في الناس للاستغراق وكون جميعهم مخلوقين ومأمورين بالتقوى. وأذكر أن أقدم عبارة سمعتها في التفسير فوعيتها وأنا صغير عن والدي رحمه الله هي قوله : إن الله تعالى كان ينادي أهل مكة بقوله :( يا أيها الناس ) وأهل المدينة بقوله :( يا أيها الذين آمنوا ) [ البقرة : ١٠٤ ] ولم يناد الكفار بوصف الكفر إلا مرة واحدة في سورة التحريم :( يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ) [ التحريم : ٧ ] وهذا إخبار عما ينادون به في الآخرة. وأقول : إن كلمة :( يا أيها الناس ) كثيرة في السور المكية كالأعراف ويونس والحج والنمل والملائكة. ووردت أيضا في البقرة والنساء والحجرات من السور المدنية فخطاب أهل مكة فيها هو الغالب وهو مع ذلك يعم غيرهم وورودها في السور المدنية يُراد به خطاب جميع المكلفين ابتداء، وما أظن أن ابن عباس قال في فاتحة النساء إنها خطاب لأهل مكة، بل يوشك أن يكون قد قال نحوا مما رويناه آنفا عن الوالد فتصرف فيه الناقلون وحملوه على كل فرد من أفراد هذا الخطاب حتى غلط فيه الجلال السيوطي في التفسير وإن حقق في الإتقان أن السورة مدنية.
وقوله :( اتقوا ربكم ) قد تقدم مثله كثيرا وآخره في آخر السورة السابقة، والمناسبة بين الأمر بتقوى رب الناس ومغذيهم بنعمه وبين وصفه بقوله :( الذي خلقكم من نفس واحدة ) ظاهرة، فإن الخلق أثر القدرة، ومن كان متصفا بهذه القدرة العظيمة جدير بأن يتقى ويحذر عصيانه، كذا قال بعضهم، قال الأستاذ الإمام : وأحسن من هذا أن يُقال إن هذا تمهيد لما يأتي من أحكام اليتامى ونحوها كأنه يقول : يا أيها الناس خافوا الله واتقوا اعتداء ما وضعه لكم من حدود الأعمال، واعلموا أنكم أقرباء يجمعكم نسب واحد وترجعون إلى أصل واحد، فعليكم أن تعطفوا على الضعيف كاليتيم الذي فقد والده وتحافظوا على حقوقه.
أقول : وفي ذكر لفظ الرب هنا ما هو داعية لهذا الاستعطاف أي ربوا اليتيم وصلوا الرحم كما رباكم خالقكم بنعمه وحاطكم بجوده وكرمه.
الأستاذ الإمام : ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين من يقول إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة أو قريش، فإذا صح هذا هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان. وإذا قلنا إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام أي لجميع الأمم فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، والذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم، والذين يعتقدون أن لكل صنف من البشر أبا يحملون النفس على ما يعتقدون ( والأصناف الكبرى هي الأبيض القوقاسي والأصفر المغولي والأسود الزنجي وغيره وبعض فروع هذا تكاد تكون أصولا كالأحمر الحبشي والهندي الأمريكي والملقي ).
قال : والقرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله :( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) بالتنكير : وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول : وبث منهما جميع الرجال والنساء. وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب عام لجميع الشعوب وهذا العهد ليس معروفا عند جميعهم، فمن الناس من لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما. وهذا النسب المشهور عند ذرية نوح مثلا هو مأخوذ عن العبرانيين فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخا متصلا بآدم وحددوا له زمنا قريبا. وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون. والعلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود وإن عزوه إلى موسى عليه السلام فإنه لا ثقة عندنا بأنه من التوراة وأنه بقي كما جاء به موسى.
قال : نحن لا نحتج على ما وراء مدركات الحس والعقل إلا بالوحي الذي جاء به نبينا عليه السلام وإننا نقف عند هذا الوحي لا نزيد ولا ننقص كما قلنا مرات كثيرة، وقد أبهم الله تعالى ههنا أمر النفس التي خلق الناس منها وجاء بها نكرة فندعها على إبهامها. فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من الإفرنج أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير وارد على كتابنا كما يرد على كتابهم التوراة لما فيها من النص الصريح في ذلك وهو ما حمل باحثيهم على الطعن في كونها من عند الله تعالى ووحيه.
وما وردت في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله :( يا بني آدم ) ) لا ينافي هذا ولا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس أفسدوا فيها وسفكوا الدماء.
وأقول زيادة في الإيضاح : إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها بل المسألة المسلمة عندهم وهي أن آدم أبو البشر. وقد اختلفوا في مثل هذا التعبير من قوله تعالى :( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) [ الأعراف : ١٨٩ ] الآية. فقد ذكر الرازي في تفسيرها ثلاثة تأويلات : التأويل الأول : ما ذكره عن القفال ؛ وهو أنه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل. والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية الخ. والتأويل الثاني : أن الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهم آل قصي ؛ وأن المراد بالنفس الواحدة قصي. والثالث : أن النفس الواحدة آدم. وأجاب عما يرد من وصفه هو وزوجه بالشرك، وقد تقدم في سورة البقرة توجيه كون قصة آدم نفسها من قبيل التمثيل الذي حمل القفال عليه آية سورة الأعراف.
وقد نقل عن الإمامية والصوفية أنه كان قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب وعندنا آدمون كثيرون قال في روح المعاني : وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم بين كل آدم وآدم ألف سنة وان الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة ثم عمرت خمسين ألف سنة ثم خلق أبونا آدم عليه السلام ؛ وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال : لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم ؛ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين ؛ وقال الميثم في شرحه الكبير للنهج : ونقل عن محمد بن علي الباقر أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر. وذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره. وفي كتاب الخصائص ( لابن بابويه كما في الهامش ) ما يكاد يفهم التعدد أيضا الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال : إن لله تعالى اثنى عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن الله عز وجل عالما غيرهم. ا ه المراد منه. وفي المسألة نقول أخرى في الفتوحات وغيرها ثم نقل عن زين العرب القول بكفر من يقول بتعدد آدم. وهذا من جرأته وجرأة أمثاله يتهجمون على تكفير المسلمين لأوهى الشبهات.
للأستاذ الإمام في هذا المقام رأيان :
أحدهما : أن ظاهر هذه الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم أي سواء كان هو الأب لجميع البشر أم لا، لما ذكره من معارضة المباحث العلمية والتاريخية له، ومن تنكير ما بثه منها ومن زوجها. على أنه يمكن الجواب عن هذا الأخير بأن التنكير لمن ولد منهما مباشرة، كأنه يقول بث منهما كثيرا من الرجال والنساء وبث من هؤلاء سائر الناس، وعن الأول بأنه لا يزال غير قطعي.
وثانيهما : أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أن جميع البشر من ذرية آدم : والمراد بالبشر هنا هذا الحيوان الناطق البادي البشرة المنتصب القامة الذي يطلق عليه لفظ الإنسان. وعلى هذا الرأي لا يرد على القرآن ما يقوله بعض الباحثين ومن اقتنع قولهم من أن للبشر عدة آباء ترجع إليهم سلائل كل صنف منهم.
ثم إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام يرد الشبهات التي ترد في هذا المقام، ولكنه لا يمنع المعتقدين أن آدم هو أبو البشر كلهم من اعتقادهم هذا. لأنه لا يقول إن القرآن ينفي هذا الاعتقاد، وإنما يقول إنه لا يثبته إثباتا قطعيا لا يحتمل التأويل. وقد صرحنا بهذا لأن بعض الناس كان فهم من درسه أنه يقول إن القرآن ينافي هذا الاعتقاد أي اعتقاد أن آدم أبو البشر كلهم، وهو لم يقل هذا تصريحا ولا تلويحا. وإنما بين أن ثبوت ما يقوله الباحثون في العلوم وآثار البشر وعادياتهم والحيوانات من أن للبشر عدة أصول ومن كون آدم ليس أبا لهم كلهم في جميع الأرض قديما وحديثا- كل هذا لا ينافي القرآن ولا يناقضه. ويمكن لمن ثبت عنده أن يكون مسلما مؤمنا بالقرآن. بل له حينئذ أن يقول لو كان القرآن من عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما خلا من نص قاطع يؤيد الاعتقاد الشائع عن أهل الكتاب في ذلك. لكنه وهو من عند الله جاء في ذلك بما لم تستطع اليهود أن تعارضه من قبل بدعوى مخالفته لكتبهم، ولم يستطع الباحثون أن يعارضوه من بعد لمخالفته ما ثبت عندهم. وليت شعري ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت عنده بأن البشر من عدة أصول ؟ هل يقولون إذا أراد أن يكون مسلما وتعذر عليه ترك يقينه في المسألة : إنه لا يصح إيمانه ولا يقبل إسلامه وإن أيقن بأن القرآن كلام الله وأنه لا نص فيه يعارض يقينه ؟ ؟
هذا وإن المتبادر من لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات، أي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بدئت بآدم كما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين أو بدئت بغيره وانقرضوا، كما قال بعض الشيعة والصوفية، أو بدئت بعدة أصول انبث منها عدة أصناف، كما عليه بعض الباحثين، ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات
( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ).
( آتوا ) أعطوا ( اليتامى ) جمع يتيم وهو من الناس من فقد أباه قبل بلوغه السن التي يستغني فيها عن كفالته، ومن الحيوان من فقد أمه صغيرا لأن إناث الحيوان هي التي تكفل صغارها. وكل منفرد يتيم ومنه الدرة اليتيمة. ولم ينقل من جمع فعيل على فعالى ما يعدونه به مقيسا، ولذلك قيل إن لفظ يتيم قد جمع هذا الجمع لأنه أجرى مجرى الأسماء الخ ما قالوا :( ولا تتبدوا الخبيث بالطيب ) أي لا تأخذوا الخبيث فتجعلوه بدلا من الطيب. يقال تبدل الشيء بالشيء واستبدله به إذا أخذ الأول بدلا من الثاني الذي دخلت عليه الباء بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول ومظنته، يستعملان دائما بالتعدي إلى المأخوذ بأنفسهما وإلى المتروك بالباء كما تقدم في قوله تعالى :( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) [ البقرة : ٦١ ] وأما التبديل فيستعمل بالوجهين ( والخبيث ) ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أو معقولا، من خبث الحديد وهو صدأه، قال الراغب. وأصله الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد كما قال الشاعر :
سبكناه ونحسبه لجينا فأبدى الكير عن خبث الحديد
وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والقبيح في الفعال. ثم أورد الآيات في هذه المعاني المختلفة. قال وأصل ( الطيب ) ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس. أقول : وهو كمقابله يوصف به الشخص ومنه قوله تعالى :( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) [ النور : ٢٥ ] والأشياء ومنه قوله تعالى :( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) [ الأعراف : ١٥٧ ] وقوله :( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) [ الأعراف : ٥٨ ] والأعمال ومنه الآية التي نفسرها في قول من قال إن معناها ولا تتبدلوا العمل الخبيث بالعمل الطيب أن تجعلوه بدلا منه. ومنه مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة في سورة إبراهيم :( والحوب ) الإثم ومصدره بفتح الحاء. وذكر الراغب أن الأصل فيه كلمة " حوب " لزجر الإبل. قال وفلان يتحوب من كذا أي يتأثم، وقولهم : ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة، وحقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم، والحوباء قيل هي النفس وحقيقتها هي النفس المرتكبة للحوب اه. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه تفسيره بالإثم وبالظلم. وفي الطبراني أن نافع بن الأزرق سأله عنه فقال : هو الإثم بلغة الحبشة. قال : فهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم أما سمعت قول الأعشى :
فإني وما كلفتموني من أمركم ليعلم من أمسى أعق وأحوبا١
وحاب يحوب حوبا وحابا قال الزمخشري وهما كالقول والقال، وقال القفال أصله التحوب وهو التوجع، فالحوب ارتكاب ما يتوجع منه.
١ - يروى البيت:
فإني وما كلفتموني بجهلكم ويعلم ربي من أعق وأحوبا
والبيت من الطويل، وهو في ديوان الاعشى ص ١٦٥، ولسان العرب (عقق)، وتاج العروس (عقق)..

و( تقسطوا ) تعدلوا، من الإقساط. يقال أقسط الرجل إذا عدل ويقال قسط إذا جار. قال تعالى :( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) [ الحجرات : ٩ ] وقال :( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) [ الجن : ٥ ] وكلاهما من القسط وهو العدل وقال :( قل أمر ربي بالقسط ) [ الأعراف : ٢٩ ] ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ) [ النساء : ١٢٤ ] والقسط في الأصل النصيب بالعدل. وقالوا قسط فلان بوزن جلس- إذا أخذ قسط غيره ونصيبه. وقالوا أقسط إذا أعطى غيره قسطه ونصيبه. كذا قال الراغب. والمشهور أن الهمزة في أقسط للسلب، فقسط بمعنى عدل وأقسط بمعنى أزال القسط فلم يقمه كما يقال في شكا وأشكى فإن أشكاه بمعنى أزال شكواه. وقال في لسان العرب كأن الهمزة للسلب.
( فانكحوا ) معناه فتزوجوا وتقدم في سورة البقرة الخلاف في إطلاقه على العقد وعلى ما يقصد من العقد ولو بدونه. وقوله :( مثنى وثلاث ورباع ) معنى اثنتين اثنتين وثلاثا وثلاثا وأرباعا أربعا. فتلك الألفاظ المفردة معدولة عن هذه الأعداد المكررة. ولما كان الخطاب للجمع حسن اختيار الألفاظ المعدولة الدالة على العدد المكرر وكانت من الإيجاز ليصيب كل من يريد الجمع من أفراد المخاطبين اثنين فقط أو ثلاثا أو أربعا فقط، وليس بعد ذلك غاية في التعدد بشرطه. قال الزمخشري : كما تقول للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم : درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى. أي لو قلت للجمع اقتسموا المال الكثير درهمين لم يصح الكلام فإذا قلت درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم.
قال : فإن قلت لم جاء العطف بالواو دون " أو ؟ " قلت كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك ولو هبت تقول اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة علمت أنه لا يسوغ لهم ان يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد وإن شاؤوا متفقين فيها محظورا عليهم ما وراء ذلك اه كلامه.
وهو ما ينقض ما ذهب إليه بعض الناس من دلالة العبارة على جواز جمع الواحد بين تسع نسوة وهو مجموع ٢ و٣و ٤ وبعض آخر على جواز الجمع بين ١٨ وهو مجموع اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث وأربع أربع، فإن قولك وزع هذا المال على الفقراء قرشين قرشين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، معناه أعط بعضهم اثنين فقط وبعضهم ثلاثة فقط بعضهم أربعة فقط، وللموزع الخيار في التخصيص ولا يجيز له هذا النص أن يعطي أحدا منهم ٩ قروش ولا ١٨ قرشا. واستدلال بعضهم على صحة ما قيل بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تسع نسوة وعقده على أكثر من ذلك لا يصح، للإجماع على أن ذلك خصوصية له ( صلى الله عليه وسلم ).
و( تعولوا ) تجوروا، وأصل العول الميل يقولون عال الميزان إذا مال وميزان عائل. وجعله بعضهم بمعنى كثرة العيال ويروى عن الشافعي رضي الله عنه ويقال عال الرجل عياله إذا مالهم وأنفق عليهم، كأنه أراد لئلا يكثر من تعولون والأول أظهر في الآية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:حكمة تعدد الزوجات
س ٢٠ – من نجيب أفندي قناوي أحد طلبة الطب في أمريكا : يسألني كثير من أطباء الأمركانيين وغيرهم عن الآية الشريفة ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) ويقولون كيف يجمع المسلم بين أربع نسوة ؟ فأجبتهم على مقدار ما فهمت من الآية مدافعة عن ديني وقلت : إن العدل بين اثنتين مستحيل لأنه عندما يتزوج الجديدة لا بد أن يكره القديمة فكيف يعدل بينهما والله أمر بالعدل فالأحسن واحدة ؛ هذا ما قلته وربما أقنعهم ولكن أريد منكم التفسير وتوضيح هذه الآية وما قولكم في الذين يتزوجون اثنتين وثلاثا ؟

جـ-
إن الجماهير من الإفرنج يرون مسألة تعدد الأزواج أكبر قادح في الإسلام متأثرين بعاداتهم وتقليدهم الديني وغلوهم في تعظيم النساء، وبما يسمعون ويعلمون عن حال كثير من المسلمين الذين يتزوجون عدة زوجات لمجرد التمتع الحيواني من غير تقيد بما قيد القرآن به جواز ذلك، وبما يعطيه النظر من فساد البيوت التي تتكون من زوج واحد وزوجات لهن أولاد يتحاسدون ويتنازعون ويتباغضون. ولا يكفي مثل هذا النظر للحكم في مسألة اجتماعية كبرى كهذه المسألة بل لا بد قبل الحكم من النظر في طبيعة الرجل وطبيعة المرأة والنسبة بينهما من حيث معنى الزوجية والغرض منها ؛ وفي عدد الرجال والنساء في الأمم أيهما أكثر، وفي مسألة المعيشة المنزلية وكفالة الرجال للنساء أو العكس أو استقلال كل من الزوجين بنفسه، وفي تاريخ النشوء البشري ليعلم هل كان الناس في طور البداوة يكتفون بأن يختص كل رجل بامرأة واحدة، وبعد هذا كله ينظر هل جعل القرآن مسألة تعدد الزوجات أمرا دينيا مطلوبا أم رخصة تباح للضرورة بشروط مضيق فيها ؟
أنتم معشر المشتغلين بالعلوم الطبية أعرف الناس بالفرق بين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة وأهم التباين بينهما، ومما نعلم نحن بالإجمال أن الرجل بطبيعته أكثر طلبا للأنثى منها له، وأنه قلما يوجد رجل عنين لا يطلب النساء بطبيعته ولكن يوجد كثير من النساء اللاتي لا يطلبن الرجال بطبيعتهن، ولولا أن المرأة مغرمة بأن تكون محبوبة من الرجل وكثيرة التفكر في الحظوة عنده لوجد في النساء من الزاهدات في التزوج أضعاف ما يوجد الآن. وهذا الغرام في المرأة هو غير الميل المتولد من داعية التناسل الطبيعية فيها وفي الرجل، وهو الذي يحمل العجوز والتي لا ترجو زواجا على التزين بمثل ما تتزين به العذراء المعرضة، والسبب عندي في هذا معظمه اجتماعي، وهو ما ثبت في طبيعة النساء واعتقادهن القرون الطويلة من الحاجة إلى حماية الرجل وكفالتهم وكون عناية الرجل بالمرأة على قدر حظوتها عنده وميله إليها، أحس النساء بهذا في الأجيال الفطرية فعملن له حتى صار ملكة موروثة فيهن حتى أن المرأة لتبغض الرجل ويؤلمها مع ذلك أن يعرض عنها ويمتهنها، وإنهن ليألمن أن يرين رجلا- ولو شيخا كبيرا أو راهبا- متبتلا لا يميل إلى النساء ولا يخضع لسحرهن ويستجيب لرقيتهن. ونتيجة هذا أن داعية النسل في الرجل أقوى منها في المرأة فهذه مقدمة أولى.
ثم إن الحكمة الإلهية في ميل كل من الزوجين الذكر والأنثى إلى الآخر الميل الذي يدعو إلى الزواج هي التناسل الذي يحفظ به النوع، كما أن الحكمة في شهوة التغذي هي حفظ الشخص. والمرأة تكون مستعدة للنسل نصف العمر الطبيعي للإنسان وهو مئة سنة. وسبب ذلك أن قوة المرأة تضعف عن الحمل بعد الخمسين في الغالب فينقطع دم حيضها وبويضات التناسل من رحمها، والحكمة ظاهرة في ذلك، والأطباء أعلم بتفصيلها. فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلا من النسل الذي هو مقصود الزواج إذا فرض أن الرجل يقترن بمن تساويه في السن وقد يضيع على بعض الرجال أكثر من خمسين سنة إذا تزوج بمن هي أكبر منه وعاش العمر الطبيعي كما يضيع على بعضهم أقل من ذلك إذا تزوج بمن هي أصغر منه، وعلى كل حال يضيع عليه شيء من عمره حتى لو تزوج وهو في سن الخمسين بمن هي في الخامسة عشرة يضيع عليه خمسة عشر سنة وما عساه يطرأ على الرجال من مرض أو هرم عاجل أو موت قبل بلوغ السن الطبيعي يطرأ مثله على النساء قبل سن اليأس. وقد لا حظ هذا الفرق بعض حكماء الإفرنج فقال : لو تركنا رجلا واحدا مع مئة امرأة سنة واحدة لجاز أن يكون لنا من نسله في السنة مئة إنسان، وأما إذا تركنا مئة رجل مع امرأة واحدة سنة كاملة فأكثر ما يمكن أن يكون لنا من نسلهم إنسان واحد، والأرجح أن هذه المرأة لا تنتج أحدا لأن كل واحد من الرجال يفسد حرث الآخر. ومن لا حظ عظم شأن كثرة النسل في سنة الطبيعة وفي حال الأمم يظهر له عظم شأن هذا الفرق- فهذه مقدمة ثانية.
ثم إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع الأرض٣. وترى الرجال على كونهم أقل من النساء يعرض لهم من الموت والاشتغال عن التزوج أكثر مما يعرض للنساء، ومعظم ذلك في الجندية والحروب وفي العجز عن القيام بأعباء الزواج ونفقاته، لأن ذلك يطلب منهم في أصل نظام الفطرة وفيما جرت عليه سنة الشعوب والأمم إلا ما شذ. فإذا لم يبح للرجل المستعد للزواج أن يتزوج بأكثر من واحدة اضطرت الحال إلى تعطيل عدد كثير من النساء ومنعهن من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمة منهن، وإلى إلزامهن مجاهدة داعية النسل في طبيعتهن، وذلك يحدث أمراضا بدنية وعقلية كثيرة يمسي بها أولئك المسكينات عالة على الأمة وبلاء فيها بعد أن كن نعمة لها، أو إلى إباحة أعراضهن والرضا بالسفاح، وفي ذلك من المصائب عليهن لا سيما إذا كن فقيرات ما لا يرضى به ذو إحساس بشري. وإنك لتجد هذه المصائب قد انتشرت في البلاد الإفرنجية حتى أعيا الناس أمرها وطفق أهل البحث ينظرون في طريق علاجها فظهر لبعضهم أن العلاج الوحيد هو إباحة تعدد الزوجات. ومن العجائب أن ارتأى هذا الرأي غير واحدة من كائنات الإنكليز وقد نقلنا ذلك عنهن في مقالة نشرت في المجلد الرابع من المنار ( تراجع في ص ٧٤١ منه ) وإنما كان هذا عجيبا لأن النساء ينفرن من هذا الأمر طبعا وهن يحكمن بمقتضى الشعور والوجدان، أكثر مما يحكمن بمقتضى المصلحة والبرهان، بل إن مسألة تعدد الزوجات صارت مسألة وجدانية عند رجال الإفرنج تبعا لنسائهم حتى لتجد الفيلسوف منهم لا يقدر أن يبحث في فوائدها وفي وجه الحاجة إليها بحث بريء من الغرض طالب كشف الحقيقة- فهذه مقدمة ثالثة.
وأنتقل بك من هذا إلى اكتناه حال المعيشة الزوجية وأشرف بك على حكم العقل والفطرة فيها وهو أن الرجل يجب أن يكون هو الكافل للمرأة وسيد المنزل لقوة بدنه وعقله وكونه أقدر على الكسب والدفاع، وهذا هو معنى قوله تعالى :( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) [ النساء : ٣٤ ] وإن المرأة يجب أن تكون مدبرة المنزل ومربية الأولاد لرقتها وصبرها وكونها كما قلنا من قبل واسطة في الإحساس والتعقل بين الرجل والطفل، فيحسن أن تكون واسطة لنقل الطفل الذكر بالتدريج إلى الاستعداد للرجولة ولجعل البنت كما يجب أن تكون من اللطف والدعة والاستعداد لعملها الطبيعي. وإن شئت فقل في بيان هذه المسألة إن البيت مملكة صغرى كما أن مجموع البيوت هو المملكة الكبرى، فللمرأة في هذه المملكة إدارة نظارة الداخلية والمعارف وللرجل مع الرياسة العامة إدارة نظارات المالية والأشغال العمومية والحربية والخارجية. وإذا كان من نظام الفطرة أن تكون المرأة قيمة البيت وعملها محصورا فيه لضعفها عن العمل الآخر بطبيعتها وبما يعوقها من الحبل والولادة ومداراة الأطفال وكانت بذلك عالة على الرجل- كان من الشطط تكليفها المعيشة الاستقلالية بله السيادة والقيام على الرجل. وإذا صح أن المرأة يجب أن تكون في كفالة الرجل وإن الرجال قوامون على النساء كما هو ظاهر فماذا نعمل والنساء ( قد يكن ) أكثر من الرجال عددا ؟ ألا ينبغي أن يكون في نظام الاجتماع البشري أن يباح الرجل الواحد كفالة عدة نساء عند الحاجة إلى ذلك لا سيما في أعقاب الحروب التي تجتاح الرجال وتدع النساء لا كافل للكثير منهن ولا نصير ؟ ويزيد بعضهم على هذا أن الرجل في خارج المنزل يتيسر له أن يستعين على أعماله بكثير من الناس ولكن المنزل لا يشتمل على غير أهله وقد تمس الحاجة إلى مساعد للمرأة على أعمالها الكثيرة كما تقضي قواعد علم الاقتصاد في توزيع الأعمال ولا ينبغي أن يكون من يساعدها في البيت من الرجال لما في ذلك من المفاسد، فمن المصلحة على هذا أن يكون في البيت عدة نساء مصلحتهن عمارته- كذا قال بعضهم – فهذه مقدمة رابعة.
وإذا رجعت معي إلى البحث في تاريخ النشوء البشري في الزواج والبيوت ( العائلات ) أو في الازدواج والإنتاج تجد أن الرجل لم يكن في أمة من الأمم يكتفي بامرأة واحدة كما هو شأن أكثر الحيوانات، وليس هذا بمحل لبيان السبب الطبيعي في ذلك، بل ثبت بالبحث أن القبائل المتوحشة كان فيها النساء حقا مشاعا للرجال بحسب التراضي وكانت الأم هي رئيسة البيت إذ الأب غير متعين في الغالب وكان الإنسان كلما ارتقى يشعر بضرر هذا الشيوع والاختلاط ويميل إلى الاختصاص فكان أول اختصاص في القبيلة أن يكون نساؤها لرجالها دون رجال قبيلة أخرى وما زالوا يرتقون حتى وصلوا إلى اختصاص الرجل الواحد بعدة نساء من غير تقيد بعدد معين، بل حسب ما يتيسر له، فانتقل بهذا تاريخ البيوت ( العائلات ) إلى دور جديد صار فيه الأب عمود النسب وأساس البيت كما بين ذلك بعض علماء الألمان والإنكليز المتأخرين في كتب لهم في تاريخ البيوت ( العائلات ).
ومن هنا يذهب الإفرنج إلى أن نهاية الارتقاء هو أن يخص الرجل الواحد بامرأة واحدة، وهو مسلم وينبغي أن يكون هذا هو الأصل في البيوت ولكن ماذا يقولون في العوارض الطبيعية والاجتماعية التي تلتجئ إلى أن يكفل الرجل عدة من النساء لمصلحتهم ومصلحة الأمة ولاستعداده الطبيعي لذلك ؟ وليخبرونا هل رضي الرجال بهذا الاختصاص وقنعوا بالزواج الفردي في أمة من الأمم إلى اليوم ؟ أيوجد في أوربا في كل مئة ألف رجل رجل واحد لا يزني ؟ كلا إن الرجل بمقتضى طبيعته وملكاته الوراثية لا يكتفي بامرأة واحدة إذ المرأة لا تكون في كل وقت مستعدة لغشيان الرجل إياها، كما أنها لا تكون في كل وقت مستعدة لثمرة هذا الغشيان وفائدته، وهو النسل. فداعية الغشيان في الرجل لا تنحصر في وقت دون وقت ولكن قبوله من المرأة محصور في أوقات وممنوع في غيرها، فالداعية الطبيعية في المرأة لقبول الرجل إنما تكون مع اعتدال الفطرة عقب الطهر من الحيض، وأما في حال الحيض وحال الحمل والإثقال فتأبى طبيعتها ذلك.
وأظن أنه لولا توطين المرأة نفسها على إرضاء الرجل والحظوة عنده، ولولا ما يحدثه التذكر والتخيل للذة وقعت في إبانها من التعمل لاستعادتها ولا سيما مع تأثير التربية والعادات العمومية، لكان النساء يأبين الرجال في أكثر أيام الطهر التي لا يكن فيها مستعدات للعلوق الذي هو مبدأ الإنتاج، ومن هذا التقرير يعلم أن اكتفاء الرجل بامرأة واحدة يستلزم أن يكون مندفعا بطبيعته إلى الإفضاء إليها في أيام طويلة هي فيها غير مستعدة لقبوله، أظهرها أيام الحيض والإثقال بالحمل والنفاس، وأقلها ظهورا أياما الرضاع لا سيما الأيا

( صدقاتهن ) جمع صدقة بضم الدال وهو الصداق بفتح الصاد وكسرها أي ما تعطى المرأة من مهرها. وإيتاء النساء صدقاتهم يحتمل المناولة بالفعل ويحتمل الالتزام والتخصيص. يقال أصدقها وأمهرها بكذا إذا ذكر ذلك في العقد وإن لم يقبض.
وقوله ( نحلة ) روي عن ابن عباس وغيره من السلف تفسيرها بالفريضة وفسرها بعضهم بالعطية والهبة. ووجه أنه مال تأخذه بلا عوض مالي. وجعلها الراغب مشتقة من النحل كأنها عطية كما يجني النحل. وهذا القول لا يعارض ما يدل عليه الأول من فرضية المهر وعدم جواز أكل شيء منه بدون رضا المرأة كما سيأتي.
الأستاذ الإمام : قلنا إن الكلام في أوائل هذه السورة في الأهل والأقارب والأزواج وهو يتسلسل في ذلك إلى قوله تعالى :( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ) [ النساء : ٣٦ ]. ولذلك افتتحها بالتذكير بالقراءة والأخوة العامة وهي كون الأمة من نفس واحدة ثم طفق يبين حقوق الضعفاء من الناس كاليتامى والنساء والسفهاء ويأمر بالتزامها فقال :( وآتوا اليتامى أموالهم ) واليتيم لغة من مات أبوه مطلقا وفي عرف الفقهاء من مات أبوه وهو صغير فمتى بلغ زال يتمه إلا إذا بلغ سفيها فإنه يبقى في حكم اليتيم ولا يزول عنه الحجر. ومعنى إيتاء اليتامى أموالهم هو جعلها لهم خاصة وعدم أكل شيء منها بالباطل أي أنفقوا عليهم من أموالهم حتى يزول يتمهم بالرشد كما سيأتي في آية :( وابتلوا اليتامى ) فعند ذلك يدفع إليهم ما بقي لهم بعد النفقة عليهم في زمن اليتم والقصور فهذه الآية في إعطاء اليتامى أموالهم في حالتي اليتم والرشد كل حالة بحسبها وتلك خاصة بحال الرشد. وليس في هذه تجوز كما قالوا، فإن نفقة ولي اليتيم عليه من ماله يصدق عليه أنه إيتاء مال اليتيم لليتيم، والمقصود من هذه الآية ظاهر وهو المحافظة على مال اليتيم وجعله له خاصة وعدم هضم شيء منه لأن اليتيم ضعيف لا يقدر على حفظه والدفاع عنه ولذلك قال :( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) المراد بالخبيث الحرام وبالطيب الحلال أي لا تتمتعوا بمال اليتيم في المواضع والأحوال التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم. يعني أن الإنسان إنما يباح له التمتع بمال نفسه في الطرق المشروعة، فإذا عرض له استمتاع فعليه أن يجعله من مال نفسه لا من مال اليتيم الذي هو قيم ووصي عليه، فإذا استمتع بمال اليتيم فقد جعل مال اليتيم في هذا الموضع بدلا من ماله، وبهذا يظهر معنى التبدل والاستبدال.
وقوله :( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم. وهذا صريح فيما إذا كان للولي مال يضم مال اليتيم إليه. ويمكن أن يقال إن أكله مفردا غير مضموم إلى مال الولي أولى بالتحريم وهو داخل في عموم قوله :" وآتوا اليتامى أموالهم " وقيل يفهم من هذا القيد جواز أكل الوصي الفقير الذي لا مال له شيئا من مال اليتيم وسيأتي التصريح بذلك في الآية السادسة.
أقول : ومراد الأستاذ الإمام بنفي التجوز من الآية يعم ما قاله بعضهم من التجوز بلفظ الإيتاء باستعماله بمعنى ترك الأموال سالمة لهم وعدم اغتيال شيء منها وما قالوه من أن المراد بإيتائهم إياها هو تسليمهم إياها بعد الرشد. وأطلق عليهم لفظ اليتامى باعتبار ما كانوا عليه من عهد قريب كما ذكر بعض فلاسفة البلاغة وكتب الأصول، وهو ما سيأتي حكمه في الآية السادسة فلا حاجة إلى دسه في هذه. وقيل أكل أموالهم إلى أموال اليتامى هو خلطها بها وتقدم حكم مخالطتهم في سورة البقرة ( راجع آية ٢٢٠ منها في ج ٢ تفسير-.
واختلفوا أيضا في تبدل الخبيث بالطيب والأظهر فيه ما اختاره الأستاذ الإمام فيما تقدم آنفا. وقيل إن المراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من أخذ الجيد من مال اليتيم ووضع الرديء بدله وأخذ السمين منه وإعطائه الهزيل، ونسبة الرازي للأكثرين قال وطعن فيه صاحب الكشاف بأنه تبديل لا تبدل.
وعبر عن أخذ المال والانتفاع به بالأكل لأنه معظم ما يقع به التصرف، وهذا الاستعمال شائع معروف كقوله تعالى :( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة : ١٨٨ ] وهو يعم كل ما يأخذه الإنسان من مال غيره بغير حق.
( إنه كان حوبا كبيرا ) أي إن أكل مال اليتيم أو تبدل الخبيث بالطيب منه أو ما ذكر من مجموع الأمرين وكانت تفعله الجاهلية كان في حكم الله حوبا كبيرا أي إثما عظيما.
( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا ) هذا حكم من أحكام السورة متعلق بالنساء بمناسبة اليتامى وقيل باليتامى بأنفسهم أصالة وأموالهم تبعا وما قبله متعلق بالأموال خاصة. ففي الصحيحين وسنن النسائي والبيهقي والتفسير عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت :" يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ". قال عروة قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل :( يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ) [ النساء : ١٢٧ ] قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله فيها :( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) قالت عائشة وقول الله في الآية الأخرى :( وترغبون أن تنكحوهن ) رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في في حجره حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن١.
وفي رواية أخرى في الصحيح عنها قالت : أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها لمالها فيضربها ويسيء صحبتها فقال :( إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) يقول : خذ ما أحللت لكم ودع هذه التي تضربها. وفي رواية صحيحة أخرى عنها فيما يحال على هذه الآية في الآية الأخرى وهو قوله :( وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ) قالت أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في مالها فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره.
أقول : فعلى هذا تكون الآية مسوقة في الأصل للوصية بحفظ حق يتامى النساء في أموالهن وأنفسهن، والمراد باليتامى فيها النساء وبالنساء غير اليتامى، أي إن خفتم أن لا تقسطوا أي أن لا تعدلوا في يتامى النساء فتعاملوهن كما تعاملون غيرهن في المهر وغيره أو أحسن فاتركوا التزوج بهن وتزوجوا ما حل لكم أو ما راق لكم وحسن في أعينكم من غيرهن. قال ربيعة : اتركوهن فقد أحللت لكم أربعة. أي وسع عليهم في غيرهن حتى لا يظلموهن. وقال الأستاذ بعد أن أورد قول عائشة بالمعنى مختصرا : كأنه يقول إذا أردتم التزوج باليتيمة وخفتم أن تسهل عليكم الزوجية أن تأكلوا أموالها فاتركوا التزوج بها وأنكحوا ما طاب لكم من النساء الرشيدات.
أقول : والربط بين الشرط والجزاء على هذا القول من أقوال عائشة ظاهر، ولا يظهر على رواية العضل، وهو منعهن من التزوج إلا أن كانوا يعتذرون عن العضل بإرادة التزوج بهن ويمطلون في ذلك.
وقال ابن جرير بعد أن ذكر عن بعضهم تفسير الآية بما أيده بالروايات عن عائشة : وقال آخرون بل معنى ذلك النهي عن نكاح ما فوق الأربع حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم، وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به فنهوا عن ذلك وقيل لهم إن خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع وإن خفتم أيضا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم فاقتصروا على الواحدة أو على ما ملكت أيمانكم. ثم روي بأسانيده عن عكرمة أنهم كانوا يتزوجون كثيرا ويتغايرون في الكثرة ويغيرون على أموال اليتامى من أجل ذلك. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى فنهوا عن ذلك. وعنه أنه قال : قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى.
وأقول : إن الإفضاء بذلك إلى أكل أموال اليتامى قد جعل حجة على تقليل التزوج لظهور قبحه وفي ذلك التعدد من المضرات الآن ما لم يكن يظهر مثله في عهد التنزيل كما يأتي بيانه قريبا.
ثم أورد ابن جرير في الآية وجها ثالثا فقال : وقال آخرون بل معنى ذلك أن القوم كان يتحوبون في أموال اليتامى ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدلوا فيهن فقيل لهم كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع ولا تزيدوا عن ذلك. وإن خفتم أيضا أن لا تعدلوا في الزيادة عن الواحدة فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجور فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم. ثم أورد ابن جرير الروايات التي تؤيد ذلك عن سعيد بن جبير والسدي وقتادة. وعن ابن عباس أيضا من طريق عبد الله بن صالح أنه قال في الآية : كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى وكانوا يعظمون شأن اليتيم فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية ( أي لم يتفقدوه في الإسلام ويتأثموا مما فيه من ظلم النساء ) فقال :( وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) ونهاهن عما كانوا ينكحون في الجاهلية. وروي نحوه عن الضحاك وفيه أنهم كانوا ينكحون عشرا من النساء ونساء آبائهم وأن وعظهم في اليتامى وفي النساء.
وروي نحوه أيضا عن الربيع ومجاهد.
قال أبو جعفر ( ابن جرير ) وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال : تأويلها وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الأربع فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا فلا تنكحوها ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن.
قال : وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخلطها بغيرها من الأموال فقال تعالى ذكره :( وآتوا اليتامى أموالهم ). ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيه كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن مثنى وثلاث ورباع الخ ما تقدم عنه آنفا ثم قال :
ففي الكلام إذا كان المعنى ما ذكرنا متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره وذلك أن معنى الك
١ - أخرجه البخاري في الشركة باب ٧، وتفسير سورة ٤، باب ١، ومسلم في التفسير حديث ٥، وأبو داود في النكاح باب ١٢..
( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهن وقولوا لهم قولا معروفا وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ).
المفردات :( السفهاء ) جمع سفيه من السفه والسفاهة، وتقدم في تفسير سورة البقرة أن السفه هو الاضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق. وأصله الاضطراب في المحسوسات وقال الراغب : السفه خفة في البدن، ومنه قيل زمام سفيه : كثير الاضطراب، وثوب سفيه رديء النسج. واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل وفي الأمور الدنيوية والأخروية. ثم جعل السفه في الأمور الدنيوية هو المراد من لفظ السفهاء، ومثل للسفه في الأمور الأخروية بقوله تعالى :( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ) [ الجن : ٤ ]. فالسفهاء هنا هم المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ويسيئون التصرف بإنمائها وتثميرها- ( قياما ) تقوم بها أمور معايشكم فتحول دون وقوعكم في الفقر، وقرأها نافع وابن عامر ( قيما ) وهو بمعنى قياما كما يأتي. قال الراغب : القيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء، أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به. وذكر الآية وفسرت في الكشاف بقوله : أي تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموه لضعتم قال : وقرئ قيما بمعنى قياما كما جاء عوذا بمعنى عياذا.
( وارزقوهم ) من الرزق وهو العطاء من الأشياء الحسية والمعنوية. ويطلق على النصيب من الشيء وقد يخص الطعام، قيل : وهو الظاهر هنا لمقابلته بالكسرة، كما قال في آية المرضعات :( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) [ البقرة : ٢٣٣ ] وقد يُقال : إنه أعم في الموضعين وقوله :( آنستم منهم رشدا ) معناه أبصرتم منهم هذا النوع من الرشد في حفظ الأموال وحسن التصرف فيها إبصار إيناس، وهو الاستيضاح، واستعير للتبين كما في الكشاف. وعن ابن عباس أن الرشد الصلاح في العقل والحفظ للمال ( إسرافا وبدارا ) مصدران لأسرف وبادر. فالإسراف مجاوزة الحد في كل عمل وغلب في الأموال، ويقابله القتر وهو النقص في النفقة عما ينبغي قال تعالى :( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : ٦٧ ] يقال : قتر- يقتر بوزن نصر ينصر، وقتر يقتر- بالتشديد- والقوام كالقيام هو القصد بينهما الذي تقوم به المعيشة وتثبت كما تقدم. والبدار : المبادرة أي المسارعة إلى الشيء، يقال : بادرت إلى الشيء وبدرت إليه-.
وقوله :( أن يكبروا ) في تأويل المصدر، أي كبرهم في السن، يقال : كبر يكبر بوزن علم يعلم- إذا كبرت سنه، وأما كبر يكبر بضم الباء في الماضي والمضارع، فهو كعظم يعظم حسا أو معنى- ( فليستعفف ) فليعفف مبالغا في العفة، أو فليطالب نفسه بالعفة ويحملها عليها، وهي ترك ما لا ينبغي من الشهوات أو ملكة في النفس تقتضي ذلك وطلبها يكون بالتعفف وهو تكلف العفة المرة بعد المرة، حتى تستحكم الملكة في النفس بالتكرار والممارسة كسائر الأخلاق والملكات المتكسبة بالتربية.
المعنى : اختلف مفسرو السلف في المراد بالسفهاء هنا. فقيل : هم اليتامى والنساء. وقيل : النساء خاصة. وقيل : الأولاد الصغار للمخاطبين. وقيل : هي عامة في كل سفيه من صغير وكبير وذكر وأنثى، واختاره ابن جرير، وجعل الخطاب لمجموع الأمة ليشمل النهي كل مال يعطى لأي سفيه. وهو أحسن الأقوال، راجع تفسير ( لا تأكلوا أموالكم ) [ البقرة : ١٨٨ ] ج ٢ ). وقال الأستاذ الإمام : أمرنا الله تعالى في الآيات السابقة بإيتاء اليتامى أموالهم وبإيتاء النساء صدقاتهن أي مهورهن وأتى في قوله :( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله قياما ) بشرط للإيتاء يعم الأمرين السابقين، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف في ماله ؛ فحينئذ يمتنع أن تعطوه إياه لئلا يضيعه ؛ ويجب أن تحفظوه له أو يرشد. وإنما قال ( أموالكم ) ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال للسفهاء الذين في ولايتهم للتنبيه على أمور :
( أحدها ) : أنه إذا ضاع هذا المال ولم يبق للسفيه من ماله ما ينفق منه عليه وجب على وليه أن ينفق عليه من مال نفسه، فبذلك تكون إضاعة مال السفيه مفضية إلى إضاعة شيء من مال الولي، فكأن ماله عين ماله.
( ثانيها ) أن هؤلاء السفهاء إذا رشدوا وأموالهم محفوظة لهم وتصرفوا فيها تصرف الراشدين وأنفقوا منها في الوجوه الشرعية من المصالح العامة والخاصة فإنه يصيب هؤلاء الأولياء حظ منها.
( ثالثها ) التكافل في الأمة واعتبار مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين، كما قلناه في آيات أخرى.
وذهب الجلال إلى أنه أضاف الأموال إليهم لأنها في أيديهم كأنه قال : ولا تؤتوا السفهاء أموالهم التي في أيديكم وهو غير ظاهر. وما قال من قال : إن السفهاء هنا هم أولاد المخاطبين الصغار إلا لحيرته في هذه الكاف في قوله :( أموالكم ) وعدم ظهور النكتة له في إيثار ضمير الخطاب على ضمير الغيبة " وقوله لكم ".
أقول : وأجاب الرازي بجوابين للزمخشري : أحدهما أنه أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه، بل أنهم ملكوا التصرف فيه، قال : ويكفي لحسن الإضافة أدنى سبب. وهو الذي جرى عليه الجلال. ثانيهما قوله : إنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى :( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ التوبة : ١٢٨ ] وقوله :( فما ملكت أيمانكم ) [ النساء : ٢٥ ] وقوله :( فاقتلوا أنفسكم ) [ البقرة : ٥٤ ] وقوله :( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) [ البقرة : ٨٥ ] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه وإنما كان بعضهم يقتل بعضا وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء واحد ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم اه.
أقول : وهذا أوسع مما قاله الأستاذ الإمام في الأمر الثالث، وهو غير ظاهر في النوع كما هو ظاهر في قوم المخاطبين الذين اتحدت مصالحهم بمصالحهم. وكذلك لا يظهر في النظائر والشواهد التي أوردها، فإن الذين أمروا بقتل أنفسهم أي قتل بعضهم بعضا لم يؤمروا بذلك لاشتراكهم في النوع، وهو كونهم من البشر، وإنما أمروا بذلك لأنهم أمة لها ملة ترتبط بها مصالحهم فخالفوها فاستحقوا العقاب لتكافلهم باشتراكهم في الذنب وعدم التناهي عنه ؛ ولو أنهم قتلوا قوما آخرين من نوع البشر لما كانوا ممتثلين للأمر، ولما قيل لهم :" ثم انتم هؤلاء تقتلون أنفسكم " والراجح في قوله تعالى :( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ التوبة : ١٢٨ ] أنه خطاب للعرب الذين هم قوم الرسول لله وإن كانت البعثة عامة كما بينا ذلك في موضع آخر : ومن قال إنه خطاب لجميع الناس فوجهه أنهم مشتركون في تكليفهم اتباعه وفي كونه رسولا إليهم.
فلا بد في إقامة الوحدة النوعية أو القومية أو الأهلية مقام الوحدة الشخصية من اشتراك أفراد النوع أو القوم أو الأهل في المعنى الذي سيق الكلام لأجله كما بينه الأستاذ الإمام في توجيه إسناد ما فعله بنو إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى أبنائهم الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لتأثير أعمال السلف في الخلف بالوراثة والقدوة ولو جعلت الوحدة في الآية التي نفسرها بين الأولياء والسفهاء وحدة القرابة والكفالة التي هي أخص من الوحدة الأمية والقومية التي قال بها الأستاذ الإمام لكان المعنى أظهر، كما أن ما قاله هو أظهر مما قاله الإمام الرازي. وذلك أن الاشتراك في المصلحة والمنفعة بين الأولياء والسفهاء في الأموال مطرد تظهر فيه الوحدة دائما، ولكن الأستاذ الإمام جعلها من قبيل وحدة الأمة وتكافلها إلحاقا لها بنظائرها الكثيرة في القرآن.
وقد علم من تفسير المفردات معنى جعل الأموال قياما للناس تقوم وتثبت بها منافعهم ومرافقهم ولا يمكن أن يوجد في الكلام ما يقوم مقام هذه الكلمة ويبلغ ما تصل إليه من البلاغة في الحث على الاقتصاد وبيان فائدته ومنفعته، والتنفير عن الإشراف والتبذير الذي هو شأن السفهاء وبيان غائلته وسوء مغبته، فكأنه قال : إن منافعكم ومرافقكم الخاصة ومصالحكم العامة لا تزال قائمة ثابتة مادامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها ولا يتجاوزون حدود المصلحة في إنفاق ما ينفقونه منها، فإذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين الذين يتجاوزون الحدود المشروعة والمعقولة يتداعى ما كان من تلك المنافع سالما ويسقط ما كان من تلك المصالح قائما، فهذا الدين هو دين الاقتصاد والاعتدال في الأموال كالأمور كلها. ولذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله :( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : ٦٧ ] فهذه الآيات شارحة للفظ " قياما " في الآية التي نفسرها وقد نهانا القرآن عن التبذير حتى في مقام الإنفاق والتصدق المؤكد وجعل المبذر كالشيطان مبالغا في الكفر، وبين سوء عاقبة المتوسع في النفقة إلى حد الإسراف كما في سورة الإسراء الآيات ٢٦-٢٩.
وفي الأحاديث النبوية مثل ذلك، فمنها " ما عال من اقتصد " ١ رواه أحمد عن ابن مسعود. وهو حديث حسن- " الاقتصاد نصف المعيشة وحسن الخلق نصف الدين " رواه الخطيب عن أنس، والطبراني والبيهقي عن ابن عمر بلفظ :" الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل وحسن السؤال نصف العلم " وغيرهم بألفاظ أخرى- : من فقه الرجل رفقه في معيشته " ٢ رواه أحمد والطبراني عن أبي الدرداء وهو حديث حسن. – " ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله " الخ رواه البزار عن أبي طلحة وسنده ضعيف.
ومن الأحاديث في فضل الغنى حديث سعد المتفق عليه " إنك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " ٣ وحديثه عند مسلم " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " ٤ وحديث حكيم بن حزام في الصحيحين " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى " ٥ الخ وحديث عمرو بن العاص عند أحمد بسند صحيح " نعمّا المال الصالح للمرء الصالح " ٦ وحديث أنس عند مسلم والبيهقي " كاد الفقر أن يكون كفرا ".
فماذا جرى لنا نحن المسلمين بعد هذه الوصايا والحكم حتى صرنا أشد الأمم إسرافا وتبذيرا وإضاعة للأموال وجهلا بطرق الاقتصاد فيها وتثميرها وإقامة مصالح الأمة بها في هذا الزمن الذي لم يسبق له نظير في أزمنة التاريخ من حيث توقف قيام مصالح الأمم ومرافقها وعظمة شأنها على المال حتى أن الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد التي ليس في أيديها مال كثير قد صارت مستذلة ومستعبدة للأمم الغنية بالبراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد ؟
وماذا جرى لتلك الأمم التي يقول لها كتابها الديني كما في إنجيل متى " ١٩ : ٢٣ إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السموات * وأقول لكم إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت السموات " ويقول كما في ٦ : ٢٤ منه " لا تقدرون أن تخدموا الله والمال *٢٥- لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم " الخ وفي ١٠ : ٩ منه :" لا تقتنوا ذهبا ولا فضة " - ماذا جرى لها في دينها حتى صارت أبرع الخلق في فنون الثروة والاقتصاد وأبعدها عن الإسراف والتبذير
١ - أخرجه أحمد في المسند ١/ ٤٤٧..
٢ - أخرجه أحمد في المسند ٥/ ١٩٤..
٣ - أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٦، والوصايا باب٢، ومناقب الأنصار باب ٤٩، والمغازي باب ٦٤، والنفقات باب ١، والمرضى باب ١٦، والدعوات باب ٤٣، والفرائض باب ٦، ومسلم في الوصية حديث ٥، ٨، وأبو داود في الوصايا باب ٢، والترمذي في الوصايا باب ١، والنسائي في الوصايا باب٣، وابن ماجه في الوصايا باب ٥، والدارمي في الوصايا باب ٧، ومالك في الوصايا حديث ٤، وأحمد في المسند ١/ ١٦٨، ١٧٢، ١٧٣، ١٧٦، ١٧٩..
٤ - أخرجه مسلم في الزهد حديث ١١، وأحمد في المسند ١/ ١٦٨، ١٧٧..
٥ - أخرجه البخاري في الزكاة باب ١٨، والنفقات باب٢، ومسلم في الزكاة حديث ٩٥، وأبو داود في الزكاة باب ٣٩، والنسائي في الزكاة باب ٥٣، ٦٠، والدارمي في الزكاة باب ٢١، ٢، وأحمد في المسند ٢/ ٢٤٥، ٢٧٨، ٣٩٤، ٤٠٢، ٤٣٤، ٤٧٦، ٤٨٠، ٥٢٣، ٥٢٧ – ٣/٣٣٠، ٣٤٦، ٤٠٢، ٤٣٤..
٦ - أخرجه أحمد في المسند ٤/ ١٩٧، ٢٠٢..
( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) بين سبحانه في هذه الآية الشرط أو الصفة التي يجب بها إيتاء اليتامى أموالهم كما أمر في آية ( وآتوا اليتامى أموالهم ) [ النساء : ٢ ] قال الأستاذ الإمام ما مثاله : إن ما تقدم من الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم كان مجملا وفي هذه الآية تفصيل لكيفية الإيتاء ووقته وما يعتبر فيه. وقد اختلف العلماء في ابتلاء اليتيم كيف يكون، فقال بعضهم يعطي شيئا من المال ليتصرف فيه فيرى تصرفه كيف يكون، فقال بعضهم يعطي شيئا من المال ليتصرف فيه فيرى تصرفه كيف يكون، فإن أحسن فيه كان راشدا وإلا كان على سفهه، وقال بعضهم : أن الإعطاء لا يجوز إلا بعد الابتلاء وإيناس الرشد، فمن أعطاه قبل ذلك يكون مخالفا للأمر ومجازفا بالمال. والصواب : أن يحضره الولي المعاملات المالية ويطلعه على كيفية التصرف ويسأله عند كل عمل عن رأيه فيه، فإذا رأى أجوبته سديدة ورأيه صالحا يعلم أنه قد رشد. واعترض هذا أيضا بأن القول لا يغني عن الفعل شيئا، فإن قليلا من النباهة يكفي لإحسان الجواب إن قيل له ما تقول في ثمن هذا ؟ وما أشبه ذلك، وإننا نرى كثيرا من الذين نسميهم أذكياء ومتعلمين يتكلم أحدهم في الزراعة عن علم يقول : ينبغي كذا من السماء وكذا من السقي والعذق، فإذا أرسل إلى الأرض وكلف العمل ينام معظم النهار ولا يعمل شيئا أو يعمل فيسيء العمل ولا يحسنه، بل ترى من الناس من يتكلم في الأخلاق وكيفية معاملة الناس فيحسن القول كما ينبغي ولكنه يسيء في المعاملة فيكون عمله مخالفا لقوله. فقائل هذا القول الثاني قد غفل عن القاعدة التي اتفق عليها العقلاء وهي أن بين العلم والتجربة بونا شاسعا، فكم رأينا أناسا من المحسنين في الكلام السفهاء في الأعمال الذين إذا سألتهم عن طرق الاقتصاد في المعاملة وتدبير الثروة أجابوك أحسن جواب مبني على قواعد العلم الحديث المبني على التجارب وإمعان النظر، ثم هم يسفهون في عملهم ويبذرون الأموال تبذيرا يسارعون فيه إلى الفقر ؛ أعرف من هؤلاء رجلا ترك له والده ثروة قدرت قيمتها بميلون جنيه ( أي بألف ألف جنيه ) فأتلفها بإسرافه، وهو الآن يطلب إعانة من الجمعية الخيرية الإسلامية ! !
قال : فالرأي الأول أسد وأصوب، وما اعترض به عليه يجاب عنه بأن الممنوع قبل العلم بالرشد هو إعطاء اليتيم ماله كله ليستقل بالتصرف فيه، وأما إعطاؤه طائفة منه ليتصرف فيها تحت مراقبة الولي ابتلاء واختبارا له فهو غير ممنوع بل هو المأمور به في هذه الآية.
قال : و " حتى " ابتدائية أي ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ، وكونها ابتدائية لا ينافي كونها للغاية التي هي معناها الأصلي الذي لا يفارقها، وإنما فرقوا بين التي تدخل على الجملة الكاملة والتي تدخل على المفرد في الأعراب، فسموا الأولى الابتدائية وهي التي لا تجر المفرد، وسموا الثانية الجارة وهي التي تجر المفرد. والغاية في الأولى هي مفهوم الجملة التي بعدها، أي ابتلوهم إلى ابتداء الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وإلا فاستمروا على الابتلاء إلى أن تأنسوا منهم الرشد وعند أبي حنيفة يعطى ماله إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد وجملة " فإن آنستم " جواب " حتى إذا بلغوا ".
أقول : إن بلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يكون بها المرء مستعدا للزواج، وهو بلوغ الحلم، ففي هذه السن تطالبه الفطرة بأهم سننها وهي سنة الإنتاج والنسل فتتوجه نفسه إلى أن يكون زوجا وأبا ورب بيت ورئيس عشيرة، وذلك لا يتم له إلا بالمال فوجب حينئذ إيتاؤه ماله إلا إذا بلغ سفيها وخيف أن يضيع ماله فيعجز عما تطالبه به الفطرة ولو بعد حين. وفي هذه السن يكلف الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات وتقام عليه الحدود ويترتب عليه الجزاء الأخروي. فالرشد حسن التصرف وإصابة الخير فيه الذي هو أثر صحة العقل وجودة الرأي. وهو يطلق في كل مقام بحسبه، فقد يراد به أمر الدنيا خاصة وقد يراد أمر الدين خاصة. ولذلك اختلف الفقهاء في الحجر على الفاسق فقال بعضهم يحجر عليه لأنه غير رشيد في دينه وقال بعضهم لا يحجر عليه إذا كان يحسن التصرف في أمور دنياه لأن الرشد في هذا المقام لا يعني به إلا أمر الدنيا. وقد يقال إذا كان فسقه مما يتناول الأمور المالية كمنع الحقوق وإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلا يجب الحجر.
نقل ابن جرير الخلاف عن مفسري السلف في تفسير الرشد، كقول مجاهد هو العقل وقول قتادة هو الصلاح في العقل والدين وقول ابن عباس هو حسن الحال والصلاح في الأموال. ثم قال : وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع : العقل وإصلاح المال، لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجرا في دينه- إلى آخر ما قاله في بيان هذا وإيضاحه. وتنكير الرشد يدل على هذا فهو لبيان نوع من الرشد ينافي الإسراف في المال، وقيل المعنى إن آنستم منهم رشدا ما.
( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين في الإنفاق منها ولا مبادرين كبرهم إليها أي مسابقين الكبر في السن الذي يأخذونها به من أيديكم فتكونوا طالبين لا كل هذا المال كما يطلبه كبر سن صاحبه فيكون السابق هو الذي يظفر به.
قال الأستاذ الإمام : إن النهي عن أكل أموال اليتامى إسرافا وبدارا هو كالأمر قبله تفضيل للآية الناهية عن أكل أموال اليتامى إلى أموال الأولياء. وقد قيد النهي هنا بالإسراف وهو صرف مال اليتيم في غير محله ولو على اليتيم نفسه. وسمي هذا أكلا لأنه إضاعة، والأكل يطلق على إضاعة الشيء ولكن ضم مال اليتيم إلى مال الولي لا يسمى إسرافا. وقيده أيضا بالبدار والمسابقة لكبر اليتيم لأن الولي الضعيف الذمة يستعجل ببعض التصرفات في مال اليتيم التي له منها منفعة لئلا تفوته إذا كبر اليتيم وأخذ ماله- فهاتان الحالان : الإسراف وبدار ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف، هما من مواضع الضعف التي تعرض للإنسان، فنبه الله تعالى عليهما ونهى عنهما ليراقب الولي ربه فيهما إذا عرضتا له.
أقول : إن من دقق النظر في هاتين الحالين ووقف على تصرف الأولياء فيهما. يرى أنهما مما يعرض فيه التأويل ومخادعة النفس للإنسان لاختلاف الناس في حد الإسراف وخفاء وجه منفعة الولي في المسابقة إلى بعض الأعمال في مال اليتيم، وما كان موضع خلاف وخفاء لا ينكره ولا ينتقده جمهور الناس ومن أنكر يسهل الرد عليه وتأول ما فعله الولي والقول بأنه تصرف وضع في محله وعمل في وقته. ومثل هذا مما قد تغش الولي فيه نفسه حتى يصدق أنه لا حرج فيه، وقد يعلم أنه تصرف غير جائز في الباطن ويكتفي بأنه لا يمكن أن يماري فيه أحد مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته، فلأجل هذا وذاك صح الكتاب الحكيم بالنهي عنه ليتدبره أولو الألباب.
أما الأكل منها بغير إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ والرشد- كما هو شأن الخائن- فقد ذكر حكمه في قوله :( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى مال اليتيم الذي في حجره وتحت ولايته فليعف عن الأكل من ماله أو ليطالب نفسه ويحملها على العف عنه نزاهة وشرف نفس. ومن كان فقيرا لا يستغنى عن الانتفاع بشيء من مال اليتيم الذي يصرف بعض وقته أو كله في تثميره وحفظه فليأكل منه بالمعروف الذي يبيحه الشرع ولا يستنكره أهل المروءة والفضل ولا يعدونه طمعا ولا خيانة.
وقد اختلف المفسرون والفقهاء في الآكل بالمعروف الذي أذن الله به للولي الفقير فقيل هو القرض يأخذه بنية الوفاء، وروي هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما وعبارة الأخير في بعض روايات ابن جرير : إن كان غنيا فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئا وإن كان فقيرا فليستقرض منه فإن وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه فذلك أكله بالمعروف. وقال مثله سعيد بن جبير وزاد : وإن حضره الموت ولم يوسر يتحلله من اليتيم وإن كان صغيرا يتحلله من وليه. وهو يعني وليه الذي يكون بعده. وعن الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه شيئا قضاه. واختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف فعن ابن عباس يأكل بأطراف أصابعه. ووضحه السدي فقال يأكل معه بأصابعه لا يسرف في الأكل ولا يلبس. وعن عكرمة إنه قال : يدك مع أيديهم ولا تتخذ منه قلنسوة وقال بعضهم الأكل بالمعروف هو ما سد الجوعة ووارى العورة، أي قدر الضرورة من الطعام والكسوة. وقال آخرون هو أن يأكل من غلة المال كلبن الماشية وصوفها وثمرات الشجر وغلة الزرع ولا يأخذ من رقبة المال شيئا. وقال غيرهم يأخذ قدر كفايته وعن عطاء يضع يده مع أيديهم فيأكل معهم كقدر خدمته وقدر عمله.
ومن هنا قال بعض الفقهاء إن له أجر مثله من مال اليتيم الذي يتولى تدبير أمواله وهذا هو الذي اختاره ابن جرير، فقال إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولي فليس له أن يأكل منه شيئا ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك كما يستأجر له غيره من الإجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر اه. يعني أن الأكل بالمعروف هو القرض والأجرة ولا يباح أكل شيء منه بلا عوض كسائر أموال الناس قال وكذلك الحكم في أموال المجانين والمعاتيه، ولكن ما ذكر في كيفية الأكل لا يظهر في الاستقراض وقد يظهر في الأجرة.
وأقول : من الحديث المرفوع في المسألة أن ابن عمر سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله " ١ رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ووجهه أن اليتيم يكون في بيت الولي كولده والخير له في تربيته أن يخالطه الولي هو وأهله في المؤاكلة والمعاشرة فإذا كان الولي غنيا ولا طمع له في ماله كان اليتيم هو الرابح من هذه المخالطة وإن كان يصرف فيها شيء من ماله بقدر حاجته، وإن كان الولي فقيرا فإنه لا يستغنى عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من المال اليتيم الغني الذي في حجره فإذا أكل من طعامه وثمره ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من رقبة المال شيئا ولا متأثل لنفسه منه عقارا ولا مالا آخر ولا مستخدما ماله في مصالحه ومرافقه كان في ذلك آكلا بالمعروف، هذا هو المختار عندي وراجع تفسير ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [ البقرة : ٢٢٠ ] في الجزء الثاني من التفسير.
( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) أي ليعرفهم أمر رشدهم وتصرفهم ولتظهر براءة ذمتكم ولتحسم مادة النزاع بينكم قال ابن عباس إذا دفع إلى اليتيم ماله ( أي عند بلوغه ورشده ) فليدفعه إليه بالشهود كما أمره الله تعالى. وهذا الإشهاد واجب كما هو ظاهر الأمر وعليه الشافعية والمالكية وقال الحنفية إنه غير واجب بل مندوب وقال الأستاذ الإمام : ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإشهاد أمر إرشاد لا أمر وجوب وهم متفقون على أن الأوامر المارة كلها للإيجاب القطعي والنواهي كلها للتحريم،
١ - أخرجه أبو داود في الوصايا باب ١٣، والترمذي في الأحكام باب ٣٦، والنسائي في الوصايا باب ١١، وابن ماجه في الوصايا باب٩، وأحمد في المسند ٢/ ١٣، ٢١٦..
المعنى : أخرج أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الفرائض من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال " كان أهل الجاهلية لا يورثون البنت ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة- وهما عصبته- فأخذا ميراثه كله فأتت امرأته رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت له ذلك فقال : ما أدري ما أقول فنزلت " :
( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) ذكره السيوطي في لباب النقول. وطريق الكلبي عن أبي صالح هي أوهى الطرق عن ابن عباس وأضعفها. وأخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن جريج عن عكرمة قال : نزلت في أم كحلة وابنة كحلة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها. فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث. فقل عم ولدها يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكي عدوا، نكسب عليها ولا تكسب، فنزلت الآية. وروي عن قتادة وابن زيد أنها نزلت في إبطال ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، زاد ابن زيد ولا الصغار، لم يذكروا واقعة معينة.
الأستاذ الإمام : جمهور المفسرين على أن هذا الكلام جديد وهو انصراف عن الموضوع قبله ولكن قوله تعالى بعد ثلاث آيات ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) الخ يدل على أن الكلام في شأن اليتامى لا يزال متصلا، فإنه بعد أن بين التفصيل في حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا ذكر أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء خلافا لما كان في الجاهلية من عدم توريث النساء فهذا تفصيل آخر في المال نفسه بعد ذلك التفصيل في الإعطاء ووقته وشرطه. ومال اليتامى إنما يكون في الأغلب من الوالدين والأقربين. فمعنى الآية : إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه على الفريضة لا فرق في شركة النساء والرجال فيه بين القليل والكثير، ولهذا كرر ( مما ترك الوالدان والأقربون ) وعنى بقوله ( نصيبا مفروضا ) أنه حق معين مقطوع به لا محاباة فيه وليس لأحد أن ينقصهم منه شيئا.
وأقول زيادة في إيضاح رأي الأستاذ الإمام : إن الأوامر والنواهي في الآيات السابقة كانت في إبطال ما كانت عليه العرب في الجاهلية من هضم حق الضعيفين اليتيم والمرأة وبيان حقوق اليتامى والزوجات ومنع ظلمهن فمنع فيها أكل أموال اليتامى بضمها إلى أموال الأولياء أو بالاستبدال الذي يؤخذ فيه جيد اليتيم ويعطى رديئا بدله، ومنع أكل مهور النساء أو عضلهن للتمتع بأموالهن أو تزوجيهن بغير مهر أو الاستكثار منهن لأكل أموالهن وغير ذلك من ظلمهن – فكما حرم هذا كله فيما تقدم حرم في هذه الآية منع توريث المرأة والصغير- فالكلام لا يزال في حقوق اليتامى والنساء ومنع الظلم الذي كان يصيب كلا منهما. وذكر بلفظ الرجال والنساء لأن الحكم فيه عام.
ومن مباحث اللفظ أن قوله " مما قل منه أو كثر " بدل مما قبله وقوله " نصيبا " منصوب على الاختصاص بمعنى أعني نصيا مفروضا أو على المصدر المؤكد كقوله ( فريضة من الله ) كأنه قال قسمة مفروضة. كذا في الكشاف وجوز غيره انتصابه على الحال.
ثم قال ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ) أي إذا حضر قسمة التركة التي يتركها المورث لورثته أو قسمة أموال اليتامى عند الرشد أو الوصية أحد من ذوي القربى للوارثين أو الموصى لهم ومن اليتامى والمساكين فانفحوهم بشيء من هذا الرزق الذي أصابكم من غير كد ولا كدح وقولوا لهم قولا حسنا تعرفه النفوس الأبية وتستحسنه ولا تنكره الأذواق السليمة ولا تمجه، والمراد بذوي القربى الذي يحضرون قسمة الورثة من لا يرث منهم، وقريب الوارث لا يجب أن يكون وارثا فالأخ من الأب من ذوي القربى لأخ الميت الشقيق وهو لا يرث وكذلك العم والخال والعمة والخالة يعدون من ذوي القربى للوارث الذي لا يرثون معه وقد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودد إليهم واستمالتهم بإعطائهم شيئا من ذلك الموروث بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية أو إعداد طعام لهم يوم القسمة، وذلك من صلة الرحم، وشكر النعم، ووجه إعطاء اليتامى والمساكين ظاهر.
الأستاذ الإمام : الخطاب في قوله " فارزقوهم " لأرباب المال الذين يقسم عليهم وإذا كانت القسمة بين اليتامى الذين رشدوا كان للولي أن يعظهم ويرشدهم إلى ما ينبغي في هذه الحال وليس له أن يعطي شيئا من غير ماله إلا بإذنه أرباب المال. والأدب الذي يرشد إليه الكتاب في هذا المقام اعتبار أن هذا المال رزق ساقه الله إلى الوارثين عفوا بغير كسب منهم ولا سعي فلا ينبغي أن يبخلوا به على المحتاجين من ذوي القربى واليتامى والمساكين من أمتهم ويتركوهم يذهبون منكسري القلب مضطربي النفس، ومنهم من يكون الحرمان مدعاة حسده للوارث. وأما قول المعروف فهو ما تطيب به نفوسهم هؤلاء المحتاجين عندما يأخذون ما يفاض عليهم حتى لا يثقل على عزيز النفس منهم ما يأخذه ويرضى الطامع في أكثر مما أعطى بما أعطى، فإن من الفقراء من يظهر استقلال ما ناله واستكثار ما نال سواه فينبغي أن يلاطف مثل هذا ولا يغلظ له في القول.
( قال ) والحكمة في الأمر بقول المعروف أن من عادة الناس أن يتضايقوا ويتبرموا من حضور ذوي القربى ( وغيرهم ) مجلسهم في هذه الحالة ( أي كما أن ذوي القربى يحبون أن يحضروا ويعرفوا ما نال ذوي قرباهم ) ومن كان كارها لشيء تظهر كراهته له في فلتات لسانه فعلمنا الله تعالى هذا الأدب في الحديث لنهذب به هذه السجية التي تعد من ضعف الإنسان المشار إليه في مثل قوله تعالى :( إن الإنسان خلق هلوعا ) [ المعارج : ١٩ ] الآيات.
( قال ) ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر بقوله " فارزقوهم " للندب وقالوا إنه لو كان واجبا لحدد وقدر كما حددت المواريث، وليس هذا بدليل فقد يجب العطاء ويوكل الأمر في المقدار إلى المعطى. وقال سعيد بن جبير إنه للوجوب وهجره الناس كما هجروا العمل بآية الاستئذان عند دخول البيوت، وهذا هو القول المختار والقول بأنه ندب أو منسوخ من تفسير القرآن بالرأي وهو أن يختار الإنسان لنفسه رأيا ومهبا ويحاول جر القرآن إليه وتحويله إلى موافقته بإخراج الألفاظ عن ظواهر معانيها المتبادرة منها، وإن من رحمة الله تعالى بنا أن فوض أمر مقدار ما نعطيه إلينا وجعله مما يتفاضل فيه الأسخياء.
أقول : والظاهر ما قال الحسن والنخعي أن ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة وأما الأرض والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يرضخ منه بشيء بل يكتفي حينئذ بقول المعروف، أو بإطعام الطعام كما هو رأي بعض المفسرين في الرزق هنا وسيأتي.
وأما القول بأن الآية منسوخة فهو مروي عن سعيد بن المسيب والضحاك قالا نسختها آية المواريث كما رواه ابن جرير وكذا عن ابن عباس في أضعف الروايتين والرواية الثانية أنها محكمة وهي عليها الجمهور ومنهم إبراهيم النخعي والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن والزهري وغيرهم واختارها ابن جرير وصرح مجاهد بأنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم حقا واجبا عليهم. وروى ابن جرير عن قتادة عن يحيى بن يعمر قال. ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) [ النور : ٥٨ ] وهذه الآية ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) [ الحجرات : ١٣ ] اه وخصها بعض من قال إنها محكمة غير منسوخة بقسمة الوصية لأولي قربى الموصى وذلك أن هؤلاء فهموا كما فهم من قال بالنسخ أن أولي القربى هم الوارثون فلا معنى للأمر برزقهم من التركة، فقال بعضهم بنسخ هذا الأمر بآية المواريث وبعضهم خصه بقسمة الوصية. وقد علمت مما قدمناه أنه يشمل قسمة التركة الموروثة وقسمة أموال اليتامى عند رشدهم وقسمة الوصايا، وهي في التركة أظهر لاتصال الآية بما قبلها، وهو فيما ترك الوالدان والأقربون.
قال ابن جرير : ثم اختلف الذين قالوا هذه الآية محكمة وأن القسمة- أي الرزق والعطاء- لأولي القربى واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث إن كان بعض أهل الميراث صغيرا وقسم عليه الميراث ولي ماله، فقال بعضهم : ليس لولي ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئا لأنه لا يملك من المال شيئا ولكنه يقول لهم قولا معروفا. قالوا : والذي أمره الله بأن يقول لهم قولا معروفا هو ولي مال اليتيم إذا قسم مال اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم إلا أن يكون ولي ماله أحد الورثة فيعطيهم من نصيبه ؛ ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم، قالوا : فأما من مال الصغير فالذي يولى عليه ماله لا يجوز لولي ماله أن يعطيهم منه شيئا. اه وساق الروايات في ذلك عن الحسن وسعيد بن جبير والسدي وكذا عن ابن عباس، ثم قال : وقال آخرون منهم : ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لأولي القربى واليتامى والمساكين، فإن كان الورثة كبارا تولوا عند القسمة وإعطاءهم ذلك وإن كانوا صغارا تولى ذلك ولي مالهم اه وأورد الروايات في ذلك عن محمد بن عبيدة ومحمد بن سيرين ولكنهما تأولا الرزق بإطعام الطعام فكانا عند القسمة يأمران بذبح شاة وصنع طعام لمن حضر القسمة ممن ذكر. وروي عن الحسن أنهم كانوا يحضرون فيعطون الشيء والثوب الخلق.
وجملة القول أن أكثر من روي عنه شيء في الآية من السلف أوجبوا رزق من حضر قسمة الميراث والوصية ممن ذكرتهم الآية عملا بظاهر الأمر وهو يعم كل ما قيل ولكن بعضهم قال إنما يرزقون من مال الكبير وبعضهم قال لا فرق بين كبير وصغير.
ثم قال تعالى :( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا )
المفردات :( وليخش ) أمر من الخشية وهي كما في المعاجم الخوف وقال الراغب هي خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ولذلك خص العلماء بها في قوله :( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : ٢٨ ].
وأقول : إن القيد الذي ذكره لا يظهر في كل الشواهد التي وردت من هذا الحرف في القرآن وكلام العرب فلم يكن عند عنترة خوف مشوب بتعظيم ولا علم فيما عبر عنه بقوله :
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن للحرب دائرة على ابني ضَمْضَمِ١
فإن كان بين الخوف والخشية فرق فالأقرب عندي أن تكون الخشية هي الخوف في محل الأمل. ومن دقق النظر في الآيات التي ورد فيها حرف الخشية يجد هذا المعنى فيها، ولعل أصل الخشية من مادة خشت النخلة تخشو إذا جاء ثمرها دقلا ( رديئا ) وهي مما يرجى منها الجيد. ولم يرد في الآية ذكر مفعول " ليخش " فالظاهر أن المراد منه الأمر بالتلبس بالخشية كقوله :( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ) [ عبس : ٨-٩ ] أو حذف المفعول لتذهب النفس في تصوره إلى كل ما يخشى في ذلك، وقال الراغب أي ليستشعروا خوفا من معرته، وقال الأستاذ الإمام : ليخشوا الله ( قولا سديدا ) قال المفسرون السديد هو العدل والصواب. وهو لا يكون من المتدين إلا موافقا لحكم الشرع. وقالوا سد قوله يسد " بكسر السين " إذا كان سديدا، وهو يسد في القول إسدادا : يصيب السداد " بالفتح " وهو القصد والصواب والاستقامة، والسداد " بكسر " البلغة وما يسد به الشيء كالثغر والقارورة. وقولهم " سداد من عوز " ورد بفتح السين وبكسرها وهو الأفصح. وإذا كان السديد مأخوذ من سد الثغر فالقول السديد هو المحكم الذي تدرأ به المفسدة وتحفظ المصلحة كما أن سداد الثغر يمنع استطراق شيء منه يضر ما وراءه.
قال الأستاذ الإمام : في الآية وجهان، أحدهما : إن المطالبين بالقول السديد في هذه الآية هم المطالبون بالقول المعروف في الآية التي قبلها فتكون هذه الآية معللة للأمر بالقول المعروف في تلك متصلة بها مباشرة. ذلك أنه يجوز أن ينهى بعض حاضري القسمة عن رزق اليتامى والمساكين الذين يحضرونها وهذا يكثر في الناس لا سيما إذا كان الورثة من الأغنياء الوجهاء فإن الناس يتحببون إليهم بما يوهم الغيرة على أموالهم. فإن الله تعالى يذكر هؤلاء الذين يحولون دون عمل البر بأن يخافوا الله أن يتركوا بعد موتهم ورثة ضعفاء يحتاجون ما يحتاجوا حاضروا القسمة وطالبوا البر من اليتامى والمساكين فيعاملوا بالحرمان والقسوة- فهو يرشدهم إلى معاملة هؤلاء الضعفاء مثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم إذا تركوهم ضعافا.
والوجه الثاني : إن الخطاب للأوصياء والأولياء الذين يقومون على اليتامى فهو بعد الوصية بحفظ أموالهم وحسن تربيتهم بابتلائهم واختبارهم بالعمل ليعرف رشدهم أمرهم بإحسان القول لهم أيضا فإن اليتيم يجرحه أقل قول يهين لا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء. وقد جرت العادة بتساهل الناس في مثل هذه الأقوال وإن كانوا عدولا حافظين للأموال محسنين في المعاملة، فقلما يوجد يتيم في بيت إلا ويمتهن ويقهر بالسوء من القول وذكر والديه بما يشينهما ولذلك ورد التأكيد بالوصية باليتامى في الكتاب والسنة.
أقول : وللمفسرين في الآية أقوال أخر، وقد اختار ابن جرير منها- لاختياره أن ما قبلها في قسمة الوصايا- إنها في الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله ويكون له ذرية ضعفاء، فالله تعالى يأمر هؤلاء أن يخافوا على ذرية هذا الرجل مثل ما يخافون على ذريتهم لو تركوا ذرية ضعافا فلا يقولوا في الوصية ما يمكن أن يضر بذرية الموصي كالترغيب في تكثير الوصية للغرباء بل يقولوا قولا سديدا بأن يرغبوه فيما يرضون مثله لأنفسهم ولذريتهم من بعدهم، وروى ابن جرير مثل هذا الرأي عن ابن عباس وقتادة والسدي وسعيد بن جبير ومجاهد. وروي عن غيرهم أن الآية في ولاة اليتامى يأمرهم الله أن يحسنوا معاملتهم كما يحبون أن يحسن الناس معاملة ذريتهم الضعاف لو تركوهم وماتوا عنهم. وروي عن ابن عباس أنه قال فيها " يعني الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة ( أي الفقر ) والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم، يقول فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا يكفيهم أمر ذريتهم بعدهم " وهذا موافق للوجه الثاني مما قاله الأستاذ الإمام إلا أنه لم يبين هنا معنى القول السديد الذي يجب أن يقال كما بين هناك.
وهناك قول ثالث : هو أنها أمر للورثة بحسن معاملة من يحضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين كما يحبون أن يحسن الناس معاملة ذريتهم لو كانوا مثلهم وعلى هذا يكون معنى الأمر بالتقوى أن يتقوا الله فيما أمرهم به من رزق هؤلاء عند القسمة، ويكون الأمر بالقول المعروف مؤكدا لمثله في تلك الآية.
وفيها قول رابع : وهو أنها أمر للمؤمنين كافة أن يتبصروا في أمر ذريتهم فلا يسرفوا في الوصية. فقد كان بعضهم يحب أن يوصي بجميع ماله كما في حديث سعد ابن أبي وقاص المتفق عليه وفيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأذن له بالثلث إلا بعد المراجعة المرة بعد المرة وقال " والثلث كثير، لأن تذر أولادك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " ٢ أي فليتقوا الله في ذريتهم وليقولوا في تقرير الوصية قولا سديدا أي قريبا من العدل والمصلحة، بعيدا من استطراق المضرة، ويجوز أن تشمل كل ما ذكره.
وحاصل معنى الآية : ليكن من أهل الخشية- أو ليخش العاقبة، أو الله- الذين لو تركوا بعدهم ذرية ضعافا خافوا أن يسيء الناس معاملتهم ويهينوهم فلا يقولوا ما يترتب عليه ضرر بذرية أحد بل ليقولوا قولا محكما يسد منافذ الضرر فكما يدين المرء يدان.
١ - البيت من الكامل، وهو في ديوان عنترة ص ٢٢١، والأغاني ١٠/ ٣٠٣ وحماسة البحتري ص ٤٣، وخزانة الأدب ١/ ١٢٩، والشعر والشعراء ١/ ٢٥٩، والمقاصد النحوية ٣/ ١٩٨، والبيت بلا نسبة في شرح الأشموني ١/ ٢٥٩..
٢ - أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٦، والوصايا باب ٢، ومناقب الأنصار باب ٤٩، والمغازي باب ٦٤، والنفقات باب ١، والمرضى باب ١٦، والدعوات باب ٤٣، والفرائض باب ٦، ومسلم في الوصية حديث ٥، ٨، وأبو داود في الوصايا باب٢، والترمذي في الوصايا باب ١، والنسائي في الوصايا باب٣، وابن ماجه في الوصايا باب٥، والدارمي في الوصايا باب٧، ومالك في الوصايا حديث٤، وأحمد في المسند ١/ ١٦٨، ١٧٢، ١٧٣، ١٧٦، ١٧٩..
( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) أي ظالمين في أكلها أو أكلا على سبيل الظلم وهضم الحق لا أكلا بالمعروف عند الحاجة أو اقتراضا أو تقديرا لأجرة العمل كما أذن الله للفقير في آية سابقة وكما أباحت الشريعة بدلائل أخرى ( إنما يأكلون في بطونهم ) أي ملء بطونهم، فقد شاع هذا الاستعمال في الظرفية كأن الأصل فيها أن يكون المظروف مالئا للظرف. ويصح أن يكون ذكر البطون للتأكيد وتمثيل الواقع بكمال هيئته كقوله تعالى :( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) [ الفتح : ١١ ].
( نارا ) أي ما هو سبب لعذاب النار أو ما يشبه النار في ضررها وروى أن أفواههم تملأ يوم القيامة جمرا وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رآهم ليلة المعراج يجعل في أفواههم صخر من نار فيقذف في أجوافهن، أي مثل له عذابهم بما سيكون عليه. وقد جعل بعض المفسرين هذا تفسيرا للآية يجعل أكل النار حقيقة لا مجازا وهو إنما يصح إذا صحت الرواية بجعل " يأكلون " للاستقبال والمتبادر منه أنه للحال بقرينة عطف الفعل المستقبل عليه وهو قوله :( وسيصلون سعيرا ) قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم " سيصلون " بضم الياء من الإصلاء، والباقون بفتحها من الصلى. يقال صلى اللحم صليا " بوزن رماه رميا " شواه. فإذا رماه في النار يريد إحراقه يقال : أصلاه إصلاء وصلاة تصلية. وجعل بعضهم معنى الثلاثي والرباعي واحدا كل منهما يستعمل في الشيء وفي الإلقاء لأجل الإحراق والإفساد. وصلى يده بالنار سخنها وأدفأها واصطلى استدفأ، وأصلاه النار وصلاه إياها أدخله إياها، وأصلاه فيها أدخله فيها، وصليت النار قاسيت حرها. والصلى- بالفتح والقصر- والصلاء- بالكسر والمد- الوقود ويطلق الصلاء على الشواء أي ما يشوى، قال السيد الآلوسي وقال بعض المحققين إن أصل الصلى القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا اه.
و ( السعير ) النار المستعرة أي المشتعلة يقال سعرت النار سعرا وسعرتها تسعيرا أشعلتها ؛ قال الرازي والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة وإنما قال ( سعيرا ) لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله اه فهو يعني أن التنكير للتهويل ويحتمل أن يكون للتنويع أي يصلون أو يصليهم ملائكة العذاب سعيرا خاصا من السعر لا يصلاها إلا من هضم حقوق اليتامى وأكل أموالهم ظلما.
وهو قرينة لفظية وحجة معنوية من حيث دخلوها أي دخول دار الجزاء التي سميت باسمها لأن جل العذاب فيها يكون بها، فلو كان ما ذكروه هو معنى الآية لكان لفظها هكذا :" فسيألكون نارا ويصلون سعيرا " فالأكل عذاب باطن البدن لأن معظم اغتيال المال يكون للأكل، والصلى عذاب ظاهره فهو جزاء اللباس وسائر التصرفات. ولكنه لما ذكر " يأكلون " غفلا من علامة الاستقبال وعطف عليه " يصلون " مقرونا بالسين التي هي علامة الاستقبال علم أن المعنى أنهم إنما يأكلون الآن ما لا خير لهم في أكله لأنه في قبحه وما يترتب عليه من العقاب كالنار أو لأنه سبب لدخول النار ؛ ثم بين ما يجزون به في المستقبل الذي يشير إليه المجاز في أكل النار فقال " وسيصلون سعيرا " ولم أر أحدا حقق هذا البحث وليس عندنا في الآية شيء عن الأستاذ الإمام.
أمر الله تعالى فيما قبل هاتين الآيتين من أوائل السورة بإعطاء اليتامى والنساء أموالهم إلا من كان سفيها لا يحسن تثمير المال ولا حفظه، فيثمره له الولي ويحفظه له إلى أن يرشد، ونهى عن أكل أموالهم، وأبطل ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريثهم. فناسب بعد هذا أن يبين أحكام الميراث وفرائضه. فكان بيانه في هاتين الآيتين وآية في آخر السورة. فهذه هي الفرائض التي جرى عليها العمل بعد نزولها فبطل بها وبقوله ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ما كان من نظام التوارث في الجاهلية وفي أول الإسلام.
أما الجاهلية فكانت أسباب الإرث عندها ثلاثة ( أحدها ) النسب وهو خاص بالرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون الأعداء ويأخذون الغنائم ليس للضعيفين الطفل والمرأة منه شيء ( ثانيها ) التبني، فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيرثه ويكون له غير ذلك من أحكام الدين الصحيح وقد أبطل الله التبني بآيات من سورة الأحزاب ونفذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بذلك العمل الشاق وهو التزوج بمطلقة زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه قبل الإسلام. ( ثالثها ) الحلف والعهد، كان الرجل يقول للرجل : دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك. فإذا تعاهدوا على ذلك فمات أحدهما قبل الآخر كان للحي ما اشترط من مال الميت. وقيل إن هذا لم يبطل إلا بآيات الميراث.
وأما الإسلام فقد جعل التوارث أولا بالهجرة والمؤاخاة فكان المهاجر يرث المهاجر البعيد، ولا يرثه غير المهاجر وإن كان قريبا، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يؤاخي بين الرجلين فيرث أحدهما الآخر، وقد نسخ هذا وذاك واستقر الأمر عند جميع المسلمين بعد نزول أحكام الفرائض أن أسباب الإرث ثلاثة النسب والصهر والولاء.
وحكمة ما كان في أول الإسلام ظاهرة فإن ذوي القربى والرحم للمسلمين كان أكثرهم مشركين وكان المسلمون لقلتهم وفقرهم محتاجين إلى التناصر والتكافل بينهم ولا سيما المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وترك ذو المال منهم ماله فيها.
وذهب كثير من العلماء إلى أن الوصية للوالدين والأقربين قد نسخت أيضا بآيات الميراث ولكنك ترى أن هاتين الآيتين المفصلتين لأحكام الإرث قد جعلتا الوصية مقدمة على الإرث وأكدت ذلك بتكراره عند كل نوع من أنواع الفرائض فيها، وترى أن الوصية للوالدين والأقربين في سورة البقرة مؤكدة تأكيدا ينافي النسخ، وتقدم ذلك في سورة البقرة ( راجع تفسير٢ : ١٨٢ ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) [ البقرة : ١٨٢ ] - الآيات في ج ٢ تفسير ) وقد ذكر ذلك الأستاذ الإمام في الدرس، وأعاد ما قاله في تفسير تلك الآية فتركنا إعادته استغناء عنه بالإحالة عليه في محله.
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي في سننه وغيرهم من حديث جابر قال " جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت يا رسول هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال : يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث ( يوصيكم الله في أولادكم ) الآية فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عمها فقال " أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك " ١ أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر، قال الترمذي ولا يعرف إلا من حديثه٢ قال العلماء وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.
قال الأستاذ الإمام : الخطاب في الآية عام موجه إلى جميع المكلفين في الأمة لأنهم هم الذين يقسمون التركة. وينفذون الوصية ولتكافل الأمة في الأمور العامة. وقال غيره : إن الآية وما بعدها تفصيل للإجمال في قوله ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) الآية، وقالوا إنه يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا حجة لهم فيها على هذا القول، إذا الظاهر أنها نزلت هي وما قبلها- ومنها تلك الآية المجملة- في وقت واحد. وما ذكر في سبب النزول لا يدل على التراخي والتأخير عن وقت الحاجة. ويجوز على فرض التأخر والتراخي أن تكون الآية الأولى أبطلت هضم حق المرأة والطفل لما فيه من الظلم والقسوة، ولم يكن المسلمون وقت نزولها قد كثروا وكثر أقاربهم منهم واستعدوا بذلك لنسخ أسباب الإرث الأولى الموقتة بأسباب الإرث الدائمة، فلما استعدوا لذلك نزل التفصيل بعد غزوة أحد كما في رواية جابر.
( يوصيكم الله ) من الإيصاء والاسم الوصية وهي كما أفهم من ذوق اللغة واستعمال أهلها في القديم والحديث أنها ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل القريب أو البعيد يقولون يسافر فلان إلى بلد كذا وأوصيته أو وصيته بأن يحضر لي معه كذا ؛ ويقولون وصيت المعلم بأن يراقب آداب الصبي ويؤدبه على ما يسيء به. ولكنهم لا يقولون في طلب الشيء الحاضر أو العمل أوصيت ولا وصيت. وما كنت أظن أن هذا الحرف يحتاج إلى تفسير لولا أنني رأيت الرازي ينقل عن القفال أن الإيصاء بمعنى الإيصال، يقال وصى من الثلاثي بمعنى وصل يصل وأوصى يوصي بمعنى أوصل يوصل، وأن معنى الجملة في الآية يوصلكم الله إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم وعن الزجاج أن معناها يفرض عليكم. ثم رجعت إلى الراغب فرأيته يقول : الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ، من قولهم أرض واصية متصلة النبات. وهذا أظهر من القولين قبله ولكنه لم يرجعني عن فهمي الأول.
( في أولادكم ) أي في شأن أولادكم من بعدكم أو ميراثهم وما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء أكانوا ذكورا أم إناثا كبارا أم صغارا، واختلف العلماء في أولاد الأولاد فقالت الشافعية إنهم يدخلون في مفهوم الأولاد مجازا لا حقيقة. وقالت الحنفية إن لفظ الأولاد يتناولهم حقيقة إذا لم يكن للميت أولاد من صلبه. ولا خلاف بين المسلمين في قيام أولاد البنين مقام والديهم عند فقدهم وعدم إرثهم مع وجودهم لأن النسب للذكور كما قال الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعدِ٣
وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الحسن ابن بنته فاطمة رضي الله عنهم " ابني هذا سيد " ٤ كما في الصحيح مبني على خصوصيته في جعل ذريته من بنته أو من صلب علي كما ورد في حديث آخر. وأما الخنثى فينظر في علامات الذكورة والأنوثة فيه، فأيهما رجح حكم به. والمرجع في ذلك للأطباء الثقات العارفين.
ونقل القرطبي الإجماع على أن الترجيح يعرف بالبول، فالعضو الذي يبول منه هو الذي يرجح ذكورته أو أنوثته.
( للذكر مثل حظ الأنثيين ) استئناف لبيان الوصية في إرث الأولاد وقدمه لأنه الأهم في بابه كما سيأتي بيانه، أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا. قال الأستاذ الإمام : جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب واختير فيها هذا التعبير للإشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء كما تقدم، فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه ؛ يعرف بالإضافة إليه، ولولا ذلك لقال : للأنثى نصف حظ الذكر، وإذا لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق بعده كما ترى، أقول : ويؤيد هذا ما تراه في بقية الفرائض في الآيتين من تقديم بيان ما للإناث بالمنطوق الصريح مطلقا أو مع مقابلته بما للذكور كما ترى في فرائض الوالدين والأخوات والإخوة وليس عندنا في هاتين الآيتين في الفرائض شيء عن الأستاذ الإمام غير بيان هذه النكتة وما تقدم من نكتة الخطاب في مجموع الأمة.
والحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين هي أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فكان له سهمان. وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها وبهذا الاعتبار يكون نصيب الأنثى من الإرث أكثر من نصيب الذكر في بعض الحالات بالنسبة إلى نفقاتهما.
وما ذكره بعض المفسرين في بيان الحكمة من نقص عقولهن وغلبة شهوتهن المفضية إلى الإنفاق في الوجوه المنكرة فهو قول منكر شنيع وضعف عقولهن لا يقتضي نقص نصيبهن بل ربما يقال إنه يقتضي زيادته كضعف أبدانهن لقلة حيلتهن في الكسب وعجزهن عن الكثير منه ولذلك روي عن بعض السلف أن الميراث جاء على خلاف القياس المعقول، وما أرى الرواية صحيحة كما أن معناها غير صحيح لما علمت من الحكمة التي بيناها. وأما ما يزعمون من كون شهوتهن أقوى من شهوة الرجال وما بنوه عليه من إفضائه إلى كثرة إنفاق المال فهو باطل بني على باطل وإننا نعلم بالاختبار أن الرجال هم الذين ينفقون الكثير من أموالهم في سبيل إرضاء شهواتهم وقلما نسمع أن امرأة أنفقت شيئا من مالها في مثل ذلك فهن يأخذن ولا يعطين والرجال هم الذين يبذلون لأنهم أقوى شهوة وأشد ضراوة. نعم إن النساء يملن إلى الإسراف في الزينة وهي تستلزم نفقات كثيرة، والشرع ينهى عن الإسراف فلا تكون أحكامه مبنية عليه، ولكن علم بالاختبار أنهن كثيرا ما يرجحن الاقتصاد إذا كان أمر النفقة موكولا إليهن فإن كانت من الوالد أو الزوج فلا يكاد إسرافهن يقف عند حد، ولهذا نرى بعض الرجال المقتصدين يكلون أمر النفقة في بيوتهم إلى أزواجهم فتقل النفقة ويتوفر منها ما لم يكن يتوفر من قبل.
قال المفسرون : ويدخل في عموم الأولاد من كان منهم كافرا ويخرج بالسنة إذ تبين فيها أن اختلاف الدين مانع من الإرث وهو ما عليه عمل المسلمين من الصدر الأول إلى الآن، وقد يقال : إن الكافر لا يدخل في هذا العموم لما علم من أن كفره قطع الصلة بينه وبين والده المؤمن كما علم من سورة هود المكية قال تعالى :( ونادى نوح ربه فقال رب أن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم ) [ هود : ٤٥-٤٦ ] فقد أخرجه من أهله بكفره على الوجه المشهور في الآية : فالمراد بالأولاد المؤمنون كما أن المخاطبين بها هم المؤمنون أو يقال إن لفظ " أولادكم " من العام الذي أريد به الخصوص ابتداء لا من العام الذي خصصته السنة.
وقالوا إنه يدخل في عمومها القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع وأقول : إن حرمانه من الإرث عقوبة مالية فيجوز أن يثبت بالسنة أو بالإجماع أن يعاقب أي مذنب بعقوبة مالية أو بدنية كما هو معهود في جميع شرائع الأمم أي أنه لا مانع منه عقلا ولا قبح فيه، فمنعه من الميراث هو فرع استحقاقه له فهو لا ينافي القرآن، وإذا قيل إنه ليس من باب التخصيص لعمومه لم يكن بعيدا إذ قال إن له حقه من الإرث بنص الآية ثم إن الشريعة عاقبته على قتله لوالده بحرمانه من حقه في تركته ليرتدع أمثاله وتعد ذريعة الفساد على الأشرار الطامعين الذين يستعجلون التمتع بما في أيدي والديهم فيقتلونهم لأجل ذلك ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
ويدخل فيه الرقيق أيضا والرق مانع من الإرث بالإجماع لأن المملوك لا يملك بل كل ما يصل إلى يده من المال يكون لسيده ومالكه فلو أعطيناه من التركة شيئا لكنا معطين ذلك لسيده فيكون السيد هو الوارث بالفعل، ولما كان الرق عارضا وخلاف الأصل ومرغوبا عنه في الشرع جعل كأنه غير موجود فهو بهذا الاعتبار لا ينافي عموم الآية وإطلاقها، ولا تعد منافاته للإرث خروجا من حكمها.
وأما الميراث من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد قيل أنه لا يدخل في عموم الآية لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يدخل في العموم الوارد على لسانه سواء كان من كلامه أو من كلام الله عز وجل المأمور هو بتبليغه، وقيل إنه يدخل فيه وإنه استثني من هذا العموم بحديث " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " ٥ وفي المسألة خلاف الشيعة، وقد فصل القول فيه السيد الآلوسي في روح المعاني فرأينا أن ننقل كلامه فيه بنصه قال :
" واستثنى من العموم الميراث من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بناء على القول بدخوله ( صلى الله عليه وسلم ) في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة والدليل على الاستثناء قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قالت له بزعمهم : يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا ! ؟ وقالوا إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى :" اسكنوهن " فقال كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة، فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله ؛ وأيضا العام وهو الكتاب قطعي، والخاص وهو خبر الآحاد ظني ؛ فيلزم ترك القطعي بالظني. وقالوا أيضا إن ما يدل على كذب الخبر قوله تعالى :( وورث سليمان داود ) [ النمل : ١٦ ] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام ( هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) [ مريم : ٥-٦ ] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون.
" والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال :" لا نورث ما تركناه صدقة " ؟ قالوا اللهم نعم، ثم أقبل على علي والعباس فقال : أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد قال ذلك ؟ قالا اللهم نعم.
" فالقول
١ - أخرجه أبو داود في الوصايا باب٣، والترمذي في الفرائض باب٧، وتفسير سورة ٤، باب١، وابن ماجه في الوصايا باب٧، وأحمد في المسند ١/ ١٣١، ١٤٤..
٢ - قال الترمذي فيه صدوق تكلم فيه من جهة حفظه، وروي عن البخاري أن احمد وإسحاق والحميدي كانوا يحتجون به، وصرح بعضهم بضعفه من جهة جودة الحفظ لا من حيث العدالة، فحديثه في مرتبة الحسن وبهذا صرح الذهبي (المؤلف)..
٣ - البيت من الطويل، وهو للفرزدق في خزانة الأدب ١/ ٤٤٤، وبلا نسبة في الإنصاف ١/٦٦، وأوضح المسالك ١/١٠٦، وتخليص الشواهد ص ١٩٨، والحيوان ١/ ٣٤٦، والدرر ٢/ ٢٤، وشرح الأشموني ١/٩٩، وشرح التصريح ١/ ١٧٣، وشرح شواهد المغني ٢/ ٨٤٨، وشرح ابن عقيل ص ١١٩، وشرح المفصل ١/٩٩، ٩/١٣٢، ومغني اللبيب ٢/ ٤٥٢، وهمع الهوامع ١/١٠٢..
٤ - اخرجه البخاري في الصلح باب ٩، وفضائل أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) باب٢، والفتن باب ٢٠، والمناقب باب ٢٥، وأبو دود في السنة باب ١٢، والمهدي باب ٨، والترمذي في المناقب باب ٣٠، والنسائي في الجمعة باب ٢٧..
٥ - روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الخمس باب١، وفضائل أصحاب النبي باب ١٢، والمغازي باب ١٤، ٣٨، والنفقات باب ٣، والفرائض باب ٣، والاعتصام باب٥، ومسلم في الجهاد حديث ٤٩- ٥٤، ٥٦ وأبو داود في الإمارة باب ١٩، والترمذي في السير باب ٤٤، والنسائي في الفيء باب٩، ١٦، ومالك في الكلام حديث ٢٧، وأحمد في المسند ١/٤، ٦، ٩، ١٠، ٢٥، ٤٧، ٤٨، ٤٩، ٦٠، ١٦٢، ١٦٤، ١٧٩، ١٩١، ٢٠٨- ٢/٤٦٣، ٦/١٥٤، ٢٦٢..
أمر الله تعالى فيما قبل هاتين الآيتين من أوائل السورة بإعطاء اليتامى والنساء أموالهم إلا من كان سفيها لا يحسن تثمير المال ولا حفظه، فيثمره له الولي ويحفظه له إلى أن يرشد، ونهى عن أكل أموالهم، وأبطل ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريثهم. فناسب بعد هذا أن يبين أحكام الميراث وفرائضه. فكان بيانه في هاتين الآيتين وآية في آخر السورة. فهذه هي الفرائض التي جرى عليها العمل بعد نزولها فبطل بها وبقوله ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ما كان من نظام التوارث في الجاهلية وفي أول الإسلام.
أما الجاهلية فكانت أسباب الإرث عندها ثلاثة ( أحدها ) النسب وهو خاص بالرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون الأعداء ويأخذون الغنائم ليس للضعيفين الطفل والمرأة منه شيء ( ثانيها ) التبني، فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيرثه ويكون له غير ذلك من أحكام الدين الصحيح وقد أبطل الله التبني بآيات من سورة الأحزاب ونفذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بذلك العمل الشاق وهو التزوج بمطلقة زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه قبل الإسلام. ( ثالثها ) الحلف والعهد، كان الرجل يقول للرجل : دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك. فإذا تعاهدوا على ذلك فمات أحدهما قبل الآخر كان للحي ما اشترط من مال الميت. وقيل إن هذا لم يبطل إلا بآيات الميراث.
وأما الإسلام فقد جعل التوارث أولا بالهجرة والمؤاخاة فكان المهاجر يرث المهاجر البعيد، ولا يرثه غير المهاجر وإن كان قريبا، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يؤاخي بين الرجلين فيرث أحدهما الآخر، وقد نسخ هذا وذاك واستقر الأمر عند جميع المسلمين بعد نزول أحكام الفرائض أن أسباب الإرث ثلاثة النسب والصهر والولاء.
وحكمة ما كان في أول الإسلام ظاهرة فإن ذوي القربى والرحم للمسلمين كان أكثرهم مشركين وكان المسلمون لقلتهم وفقرهم محتاجين إلى التناصر والتكافل بينهم ولا سيما المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وترك ذو المال منهم ماله فيها.
وذهب كثير من العلماء إلى أن الوصية للوالدين والأقربين قد نسخت أيضا بآيات الميراث ولكنك ترى أن هاتين الآيتين المفصلتين لأحكام الإرث قد جعلتا الوصية مقدمة على الإرث وأكدت ذلك بتكراره عند كل نوع من أنواع الفرائض فيها، وترى أن الوصية للوالدين والأقربين في سورة البقرة مؤكدة تأكيدا ينافي النسخ، وتقدم ذلك في سورة البقرة ( راجع تفسير٢ : ١٨٢ ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) [ البقرة : ١٨٢ ] - الآيات في ج ٢ تفسير ) وقد ذكر ذلك الأستاذ الإمام في الدرس، وأعاد ما قاله في تفسير تلك الآية فتركنا إعادته استغناء عنه بالإحالة عليه في محله.
قال عز وجل :( ولكم نصف ما ترك أزواجكم ) اللواتي تحققت بهن الزوجية بأكمل معناها ( إن لم يكن لهن ولد ) ما منكم، أو من غيركم ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو أكثر من بطنها مباشرة أو من صلب بنيها أو بنى بنيها فنازلا والباقي لأولادها ووالديها على ما بينه الله في الآية السابقة، هذا ما ذهب إليه الجمهور وجرى عليه العمل. وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب ( فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ) والباقي من التركة للأقرب إليها من أصحاب الفروض والعصبات وذوي الأرحام يعلم كل ذلك من موضعه في الكتاب والسنة ( من بعد وصية يوصين بها أو دين ) أي إنما يكون لكم ذلك في تركتهن في كل من الحالتين، بعد إنفاذ الوصية ووفاء الدين، إذ ليس لوارث شيء إلا مما يفضل عنهما إن كانا كما تقدم.
( ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ) ما على التفصيل السابق في أولادهن فإن كان للميت منكم زوج واحدة كان لها وحدها وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه للمساواة والباقي يكون لمستحقه شرعا من ذوي القربى وأولي الأرحام لكم ( فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ) والباقي لولدكم علا أو نزل ولمن عساه يوجد معه من والديه على التفصيل الذي بينه الله تعالى وذلك ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) وبهذا كان للذكر من الزوجين مثل حظ الأنثيين.
فإن قيل إن من ترك زوجين أو ثلاثا أو أربعا كان لهن نصيب الزوج الواحدة فلا تطرد فيهن قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الرجل لا ينقص نصيبه من إرث امرأته بحال من الأحوال. فما هي الحكمة في ذلك ولماذا لم يكن نصيب الزوجين أو الثلاث أو الأربع أكثر من نصيب الزوج الواحدة ؟ أقول : الحكمة الظاهرة لنا من ذلك هي إرشاد الله إيانا إلى أن يكون الأصل الذي تجري عليه في الزوجية هي أن يكون للرجل منا امرأة واحدة. وإنما أباح للرجل أن يتزوج اثنتين إلى أربع بشرطه المضيق لأن التعدد من الأمور التي تسوق إليها الضرورة أحيانا، وقد تكون لخير النساء أنفسهن، كما شرحنا ذلك في آية إباحة التعدد وما هي ببعيد، ونذكر ما قلناه في حكمة جعل حظ الذكر من الأولاد مثل حظ الأنثيين وهو أن الأصل فيه أن ينفق على نفسه وعلى امرأة يتزوجها، فما هنا يلاقي ما هناك ويتفق معه، والنصوص يؤيد بعضها بعضا فلو كان من مقاصد الشريعة أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة لجعل الذكر من الأولاد أكثر من حظ الانثيين وللزوجين والزوجات أكثر من حظ الزوج الواحدة. ولكن التعدد في نظر الشرع من الأمور النادرة غير المقصودة فلم يراعه في أحكامه والأحكام إنما توضع لما هو الأصل الذي عليه العمل في الغالب والنادر لا حكم له.
ولما بين جلت حكمته أحكام الأولاد والوالدين والأزواج وكل منهم يتصل بالميت مباشرة بلا واسطة شرع في بيان ما يتصل بالميت بالواسطة وهو الكلالة فقال :
( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ) أي أو كانت امرأة تورث كلالة أي حال كونه كل منهما كلالة، أي ذا كلالة، أو المعنى وإن كان رجل موروث كلالة أي ذا كلالة، وهو من ليس له ولد ولا والد، وعليه أكثر الصحابة. واللفظ مصدر كل يكل بمعنى الكلال وهو الإعياء، ثم استعمل للقرابة البعيدة غير قرابة الولد والوالد لضعفها بالنسبة إلى قرابة الأصول والفروع، وقال بعضهم : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان ثم كلّ عنه إذا تباعد ومنه سميت القرابة البعيدة كلالة، ذكره الرازي وجها ثانيا. وذكر وجها ثالثا هو أن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس والكل لإحاطته بما يدخل فيه، ويقال : تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب١ قال : إذا عرفت هذا فنقول من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولادة فليست كذلك فإن فيها يتفرع البعض عن البعض ويتولد البعض من البعض كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد. ولهذا قال الشاعر :
نسب تتابع كابرا عن كابر كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهي كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات فإنما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب إليه اه ثم بين أن الكلالة يوصف بها الميت الموروث ويراد بها من يرثه غير أولاده ووالديه، ويوصف بها الوارث ويراد به سوى الأولاد والوالدين ورجح هذا بحديث يدل عليه وذكر كغيره أن لفظ الكلالة مصدر يستوي فيه القليل والكثير ولا يجمع ولا يثنى، وقال بعضهم أنه صفة كالهجاجة للأحمق.
وعن عمر أنه كان يقول : الكلالة من سوى الولد من الوارثين، وروي أنه لما طعن قال : كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا استحي أن أخالف أبا بكر الكلالة من عدا الوالد والولد. رواهما عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي وغيرهم. والرواية الثالثة عنه التوقف وكان يقول : ثلاث لأن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها : الخلافة والكلالة والربا. رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأبو الشيخ في الفرائض والحاكم والبيهقي وغيرهم. وروى ابن راهويه وابن مردويه عن سعيد بن المسيب بسند صحيح أن عمر سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيف يورث الكلالة ؟ فقال :" أوليس الله قد بيّن ذلك " ؟ ثم قرأ :( وإن كان رجل يورث كلالة ) الخ الآية. فكأن عمر لم يفهم. فأنزل الله :( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) الخ الآية. فكأن عمر لم يفهم، فقال لحفصة : إذا رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طيب نفس فاسأليه عنها فسألته فقال :" أبوك ذكر لك هذا، ما أرى أباك يعلمها أبدا " فكان يقول : ما أراني أعلمها أبدا وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما قال.
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن سعيد أيضا أن عمر كتب أمر الجد والكلالة في كنف ( أي عظم كتف ) ثم طفق يستخير ربه فقال : اللهمّ إن علمت فيه خيرا فأمضه، فلما طعن دعا بالكتف، فمحاها ثم قال : كنت كتبت كتابا في الجد والكلالة وكنت أستخير الله فيه، وأني رأيت أن أردكم على ما كنتم عليه. فلم يدروا ما كان في الكتف. وهذه الروايات غريبة في معناها. فالأمر واضح لم يشتبه فيه من دون عمر ولا من في طبقته، ولله في البشر شؤون، وقلما تقرأ ترجمة رجل عظيم إلا وتجد فيها أنه انفرد بشيء غريب في بابه.
إن الله تعالى أنزل آيتين في الكلالة الآية التي نفسرها والآية التي في آخر هذه السورة، فبين في هذه الآية ما يرثه الإخوة للأم من الكلالة فقط للحاجة إلى ذلك وعدم الحاجة عند نزول الآية إلى بيان ما يأخذه إخوة العصب، وكأنه وقع بعد ذلك إرث كلالة فيه إخوة عصب وسُئِل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فنزلت الآية الأخرى التي في آخر السورة التي جعلت للأخت الواحدة النصف إذا انفردت للأختين فأكثر الثلثين وللأخ فأكثر كل التركة ( فإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) فأجمع الصحابة على قوله تعالى هنا :( وله أخ أو أخت ) يعني به الأخ أو الأخت من الأم فقط لأن الأخوين من العصب قد بيّن حكمهما في الآية الأخرى ولأن قوله :( فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ) يدل على أنهم إنما يأخذون فرض الأم فإنه إما السدس وإما الثلث. واستدل المفسرون على ذلك بقراءة أبي بزيادة " من الأم " وسعد ابن أبي وقاص بزيادة " من أم " وقالوا إن القراءة الشاذة أي غير المتواترة تخصص لأن حكمها حكم أحاديث الآحاد. وعندي أن هذا ليس قراءة وإنما هو تفسير سمعه بعض الناس منهما فظنوا أن كلمة " من الأم " قراءة وأنهما يعدانها من القرآن. وأرى أن كل ما روي من الزيادة على القرآن المتواتر في قراءة بعض الصحابة قد ذكر على أنه تفسير، فإن لم يكن الصحابي هو الذي قصد التفسير بذلك كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي تلقى ذلك الصحابي عنه هو الذي قصد التفسير فظن الصحابي أنه يريد القرآن. والدليل على ذلك القراءة المتواترة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) الخالية من هذه الزيادة. ولا دخل ههنا للفظ الراوي في الترجيح لأنهم يروون الأحاديث بالمعنى.
والحاصل أن الأخ من الأم يأخذ في الكلالة السدس وكذلك الأخت لا فرق فيه بين الذكر والأنثى لأن كل منهما حل محل أمة فأخذ نصيبها. وإذا كانوا متعددين أخذوا الثلث وكانوا فيه سواء لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم لما ذكرنا من العلة وذلك ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) كما تقدم في نظيره، وفيه قراءة يوصى بفتح الصاد وكسرها كما تقدم.
وأما الباقي بعد فروض هؤلاء كغيرهم فهو على القاعدة التي بيّنها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله :" ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأول رجل ذكر " ٢ أي من عصبة الميت رواه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث ابن عباس. وإنما لم يذكر هذا في القرآن لأن المخاطبين به في عصر التنزيل به كانوا يعطون جميع التركة للرجال من عصبتهم دون النساء والصغار ففرض سبحانه للنساء ما فرضه فكن شريكات للرجال، وجعل الصغار والكبار في الإرث سواء، وما سكت عنه فلم يبينه بالنص ولا بالفحوى فهو مفوض إليهم يجرون فيه على عرفهم في تقدم الأقرب من العصبات إذ لا ضرر فيه إلا أن يسن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه سنة فيكون اتباعها مقدما على عرفهم كما هو بديهي.
ثم قال :( غير مضار ) أي ذلك الحق في الوراثة يكون من بعد وصية صحيحة يوصي بها الميت في حياته غير مضار بها ورثته، وحدد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الوصية الجائزة بثلث التركة وقال :" والثلث كثير " ٣ كما في حديث سعد المتفق عليه، فما زاد على الثلث فهو ضرار لا يصح ولا ينفذ وعن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أن الضرر في الوصية من الكبائر أي إذا قصده الموصي، وأيضا من بعد دين صحيح لم يعقده الميت في حياته أو يقر به في حال صحته لأجل مضارة الورثة والحال أنه لم يأخذ ممن أقر له به شيئا فهذا معصية أيضا، وكثيرا ما يجترحها المبغضون للوارثين لهم لا سيما إذا كانوا كلالة، ولذلك جاء هذا القيد في وصية إرث الكلالة دون ما قبله لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر جدا، فكأنه غير موجود.
( وصية من الله ) أي يوصيكم بذلك وصية منه عز وجل فهي جديرة بالإذعان لها والعمل بموجبها ( والله عليم ) بمصالحكم ومنافعكم وبنيات الموصين منكم ( حليم ) لا يسمح لكم بأن تعجلوا بعقوبة من تستاؤون منه مضارته بالوصية كما أنه لم يسمح لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث، وهو لا يعجل بالعقاب في أحكامه ولا في الجزاء على مخالفتها عسى أن يتوب المخالف.
بعد كتابة ما تقدم رأيت في كراسة لبعض تلاميذ الأستاذ الإمام كلاما نقله من درسه في تفسيره " والله عليم حليم " هذا مثاله بتصرف في المعنى واختلاف في الأسلوب. هذا تحريض على أخذ وصية الله تعالى وأحكامه بقوة، وتنبيه إلى أنه تعالى فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا ( وهو بكل شيء عليم ) وإذا كنا نعلم أنه تعالى شأنه أعلم منا بمصالحنا ومنافعنا فما علينا إلا أن نذعن لوصاياه وفرائضه، ونعمل بما ينزله علينا من هدايته. وكما يشير اسم العليم هنا إلى وضع تلك الأحكام على قواعد العلم بمصلحة العباد ومنفعتهم يشير أيضا إلى وجوب مراقبة الوارثين القوام على التركات لله تعالى في عملهم بتلك الأحكام لأنه عليم لا ي
١ - بهامش نسخة السيد رحمه الله، بخطه: أو يقال: الكلالة كدائرة الخيمة، والأصول والفروع كعمودها..
٢ - أخرجه البخاري في الفرائض باب ٥، ٧، ٩، ١٥، ومسلم في الفرائض حديث ٢، ٣ والترمذي في الفرائض باب ٨، والدرامي في الفرائض باب ٢٨، وأحمد في المسند ١/ ٣٢٥..
٣ - أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٦، والوصايا باب ٢، ٣، ومناقب الأنصار باب ٤٩، والنفقات باب ١، والمرضى باب ١٣، ١٦، والدعوات باب ٤٣، والفرائض باب ٦، ومسلم في الوصية حديث٥، ٧، ٨، ١٠، وأبو داود في الفرائض باب ٣، والأيمان باب ٢٣، والترمذي في الجنائز باب ٦، والوصايا باب ١، والنسائي في الوصايا باب ٣، وابن ماجه في الوصايا باب ٥، ومالك في الوصية حديث ٤..
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
قال الأستاذ الإمام : الإشارة في قوله تعالى :( تلك حدود الله ) تتناول الأحكام التي ذكرت من أول هذه السورة إلى ما قبل هذه الآية، أي أنه تعالى جعل تلك الأحكام حدودا لأعمال المكلفين ينتهون منها إليها ولا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتعدوها، وهكذا جميع أحكامه في المأمورات والمنهيات وكذا المباحات فإن لها حدودا إذا تجاوزها المكلف وقع في المحظور، فقد قال عز وجل :( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [ الأعراف : ٣٠ ]. أقول : فمدار الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود وهي الشريعة ومدار العصيان على اعتدائها. ولذلك وصل هذه الجملة المبيِّنة كون تلك الأحكام حدودا بذكر الجزاء على الطاعة والعصيان مطلقا فقال :( ومن يطع الله ورسوله ) الخ. طاعة الله تعالى هي اتباع ما شرعه من الدين على لسان رسوله ( صلى الله عليه وسلم )، وطاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هي اتباع ما جاء به من الدين عن ربه عز وجل. فطاعته ( صلى الله عليه وسلم ) هي عين طاعة الله عز وجل كما قال في هذه السورة :( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) وسيأتي ذكر الآية مع تفسيرها، فما هي النكتة إذا في ذكر طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع ذكر طاعة الله تعالى ؟
قد يُقال : إن طاعة الله تعالى وطاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما تتحدان فتكون الثانية عين الأولى فيما يسنده الرسول إلى ربه ويبيّن أنه بوحي منه. وقد يأمر الرسول بأشياء وينهى عن أشياء باجتهاده فإذا جزم بذلك ولم يقم دليل على أن الأمر للإرشاد أو الاستحباب والنهي للكراهة أو الاستهجان وجبت طاعته في ذلك، سواء كان في العبادات أو الأمور السياسية والقضائية لأنه إمام الأمة وحاكمها. وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى لا يقر رسله على خطأ في اجتهادهم بل يبيّن لهم مع ذكر العفو عن عدم إعطاء الاجتهاد حقه الموصل إلى ما هو الصواب المرضي عنده عز وجل كقوله لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) عند ما أذن لبعض من استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك ( عفا الله عنك لِمَ أذنتَ لهم ) [ التوبة : ٤٢ ] الآية أو مع العتاب كما عاتبه على اجتهاده الموافق لاجتهاد أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) في قبول الفداء من أسرى بدر بقوله :( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) [ الأنفال : ٦٦ ] الآيتين، وكما عاتبه في الإعراض عن الأعمى المسترشد في أول سورة :( عبس وتولى ) [ عبس : ١ ] الخ. ولا يدخل في هذا المقام ما يقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الأمور الدنيوية المحضة كالعادات والزراعة ونحوها لأنه ليس دينا ولا قضاء ولا سياسة، ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) في مسألة تأبير النخل :" أنتم أعلم بأمر دنياكم " كما في الصحيح.
الأستاذ الإمام : طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها لأنه إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله من مصالحنا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة وإنما يذكر طاعة الرسول مع طاعة الله لأن من الناس من كانوا يعتقدون قبل اليهودية وبعدها ؛ وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم : أن الإنسان يمكن أن يستغني بعقله وعلمه عن الوحي، يقول أحدهم إنني أعتقد أن للعالم صانعا عليما حكيما وأعمل بعد ذلك بما يصل إليه عقلي من الخير واجتناب الشر. وهذا خطأ من الإنسان. ولو صح ذلك لما كان في حاجة إلى الرسل. وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الإنسان محتاج بطبيعته النوعية إلى هداية الدين وأنها هي الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية الحواس والوجدان والعقل، فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيا لهداية أمة من أممه ومرقيا له بدون معونة الدين.
أقول : يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة : إننا نرى كثيرا من أفراد الناس لا يدينون بدين وهم في درجة عالية من الأفكار والآداب وحسن الأعمال التي تنفعهم وتنفع الناس، حتى أن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان الناس كلهم مثله بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في آدابهم وارتقائهم.
وأجيب عن هذا ( أولا ) : بأن الكلام في هداية الجماعات من البشر كالشعوب والقبائل والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة الاجتماعية سواء كانت بدوية أو مدنية. وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين حتى مدنيات الأمم الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين واليونانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير مرسل من الله عز وجل لهدايتها، فنحن بهذا نرى أن تلك الديانات الوثنية كان لها أصل إلهي، ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها كما سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل القطع أو على سبيل الظن. وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظا تاما إلا الديانة الإسلامية، وهو مع ذلك قد دوّن في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها كالنصيرية وسائر الباطنية وغيرهم ممن غلب عليهم التأويل أو الجهل حتى أنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم كجواز أكل لحم البقر في الأطراف الشاسعة من الهند وكيفية الزواج ودفن الموتى في بعض بلاد روسيا وغيرها ! ! فمن علم هذا لا يستعبد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية.
فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية لأن الارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي. وها نحن أولاء نقرأ في كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين في هذا العصر ( هربرت سبنسر ) أن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه وأن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين وبناءها على أساس العلم والعقل، وأن الأمم التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها ولا يحدد ضررها. هذا معنى كلامه في بعض كتبه. وقد قال هو للأستاذ الإمام في حديث له معه : إن الفضيلة قد اعتلت في الأمة الإنكليزية وضعفت في هذه السنين الأخيرة من حيث قوي فيها الطمع المادي. ونحن نعلم أن الأمة الإنكليزية من أشد أمم أوروبا تمسكا بالدين مع كون مدنيتها أثبت وتقدمها أعم، لأن الدين قوام المدنية بما فيه من روح الفضائل والآداب، على أن المدنية الأوروبية بعيدة عن روح الديانة المسيحية وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا، فلولا غلبة بعض آداب الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسرافا غير مقترن بشيء من البر وعمل الخير وإذا لبادت مدنيتهم سريعا. ومن يقول إنه سيكون أبعدها عن الدين أقربها إلى السقوط والهلاك لا يكون مفتاتا في الحكم ولا بعيدا عن قواعد علم الاجتماع فيه.
فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد : أن وجود أفراد من الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله الأستاذ الإمام من كون الدين هو الهداية الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا كما تسوقه إلى سعادة الآخرة.
و( ثانيا ) : إنه لا يمكن الجزم بأن فلانا الملحد الذي تراه عالي الأفكار والآداب قد نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره، حتى يُقال : إنه قد استغنى في ذلك عن الدين لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربى أولادها على الإلحاد. وإننا نعرف بعض هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم، ونعلم أنهم كانوا في نشأتهم الأولى من أشد الناس تدينا واتباعا لآداب دينهم وفضائله ثم طرأ عليهم الإلحاد في الكبر بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي نشؤوا عليه، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان وآرائه ولكن لا يوجد فيها ما يقبح له الفضائل والآداب الدينية، أو يذهب بملكاته وأخلاقه الراسخة كلها، وإنما يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين كالقناعة بالمال الحلال فيزين لصاحبه أن يستكثر من المال ولو من الحرام كأكل حقوق الناس والقمار بشرط أن يتقى ما يجعله حقيرا بين من يعيش معهم أو يلقيه في السجن وكالعفة في الشهوات فيبيح له من الفواحش ما لا يخل بالشرط المذكور آنفا. هذا إذا كان راقيا في أفكاره وآدابه، وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل إلا القوة القاهرة، ولولا أن دول أوروبا قد نظمت فرق المحافظين على الحقوق من الشحنة والشرطة ( البوليس والضابطة ) أتم تنظيم وجعلت الجيوش المنظمة عونا لهم عند الحاجة لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال ؛ ولعمت بلادها الفوضى والاختلال. ولقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيا في الآداب والأحكام- فتبين بهذا أن طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا، على أن السياق هنا قد جاء لما يتعلق بالسعادة الدائمة في الحياة الأخرى. ولذلك كان جزاء الشرط في الطاعة هو قوله تعالى :
( يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ) وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة وإننا نؤمن بتلك الجنات والحدائق وأنها أرقى مما نرى في هذه الدنيا وانه ليس لنا أن نبحث عن كيفيتها. لأنها من عالم الغيب وقد أفرد الضمير في قوله :( يدخل ) مراعاة للفظ ( ومن يطع ) الخ وجمع الوصف الذي هو حال منه في قوله :( خالدين فيها ) مراعاة لمعناها فإن ( من ) من الألفاظ المفردة التي تدل على العموم كما هو معلوم، وتقدم تفسير الخلود من قبل وسيأتي في آيات كثيرة أيضا ( وذلك الفوز العظيم ) لأنه الصافي الدائم الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالشوائب والأكدار.
( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ) وقد جيء بالحال هنا مفردا كالضمير المنصوب في قوله :( يدخله ) فقال :( خالدا ) مراعاة للفظ ( من ) وقد اختار الأستاذ في نكتة ذلك أن في ذكر أهل الجنة بلفظ الجمع إشارة إلى تمتعهم بالاجتماع وأنس بعضهم ببعض والمنعم يسهر أن يكون مع غيره قال المعري الحكيم :
ولو أني حببت الخلد وحدي لما أحببت بالخلد انفرادا
أما من قذفه عصيانه لله ولرسوله في النار فإن له من العذاب ما يمنعه عن الإنس بغيره، فهو وحيد لا يجد لذة في الاجتماع بغيره ولا أنسا، فلما كان لا يتمتع بمنفعة من منافع الاجتماع كان كأنه وحيد، والتعبير بلفظ ( خالدا ) يشير إلى ذلك ويؤيد هذا المعنى الذي اختاره شيخنا قوله تعالى :( ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) [ الزخرف : ٣٨ ].
وظاهر الآية أن العاصي المتعدي للحدود يكون خالدا في النار. وفي المسألة الخلاف المشهور بين الأشعرية وغيرهم من أهل السنة وبين المعتزلة ومن على رأيهم، فهؤلاء يقولون إن مرتكب المعصية القطعية الكبيرة يخلد في النار، وأولئك يقولون إنه لا يخلد في النار إلا من مات كافرا وأما من مات عاصيا فأمره إلى الله وهو بين أمرين، إما أن يعفو الله عنه ويغفر له وإما ان يعذبه على قدر ذنبه، ثم يدخله الجنة لقوله تعالى :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : ١١٥ ] وستأتي الآية في تفسير هذه السورة. وكل فريق من المختلفين يجعل الآية التي تدل على مذهبه أصلا يرجع إليه سائر الآيات ولو بإخراجها عن ظاهرها الذي يعبرون عنه بالتأويل.
قال الأستاذ الإمام : ذهب بعض المختلفين إلى أن تعدي حدود الله تعالى هنا يُراد به جميع الحدود لا جنسها ومن تعدى حدود الله كلها ولم يقف عند شيء منها فهو كافر خالد في النار. وقال بعضهم : إن التعدي يصدق بالبعض وهو يكون من الكفر وجحود الحكم بعدم الإذعان له، والجحود إما صريح وإما غير صريح ولكنه حقيقي وإن لم يصرح به صاحبه، فإن أخذ شيء من حق إنسان وإعطائه لآخر لا يكون إلا من إنكار حكم الله في تحريم ذلك أو الشك فيه، وإن الحاكم إذا ثبتت عنده السرقة فحبس السارق ولم يقطع يده كان منكرا للحد الذي أوجب الله معاقبة السارق به أو مستقبحا له وكلاهما من الكفر وإن لم يصرح به صاحبه.
ثم قال ما مثاله : وإذا تأملت في هذا الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة تجدونه لفظيا. فإن الكلام في المصر على الذنب مع العلم بأنه ذنب لأنه تعالى قال في الناجين المسارعين إلى الجنة ( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) [ آل عمران : ١٣٥ ] -راجع تفسيره في ج٤ من التفسير- فإن من يعمل الذنب ولا يخطر في باله عند ارتكابه أنه منهي عنه لا يعد مصرا عالما وقد بينا من قبل أن للمذنب حالتين وإننا نعيد ذلك ولا نزال نلح في تقريره إلى أن نموت.
الحالة الأولى : غلبة الباعث النفسي من الشهوة أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهي، فيقع في الذنب وقلبه غائب عن الوعيد غير متذكر للنهي، وإذا تذكره يكون ضعيفا كنور ضئيل يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب، ثم لا يلبث أن يزول أو يختفي. فإذا سكنت شهوته أو سكت عنه غضبه وتذكر النهي والوعيد ندم وتاب، ووقع من نفسه في أشد اللوم والعتاب، وذلك ضرب من ضروب العقاب، وصاحبه جدير بالنجاة في يوم المآب.
الحالية الثانية : أن يقدم المرء على الذنب جريئا متعمدا ارتكابه عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة بتركه لا يصرفه عنه تذكر النهي والوعيد عليه، فهذا هو الذي قد أحاطت به خطيئته حتى آثر طاعة شهوته على طاعة الله ورسوله فصدق عليه قوله تعالى :( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة : ٨٠ ] فراجع تفسير هذه الآية في الجزء الأول من التفسير.
ربما يقول قائل : إننا نرى كثيرا من أفراد هذا الصنف مع تلبسهم بهذه الحالة يطمعون في عفو الله ومغفرته، وذلك دليل الإيمان المنجي. والجواب عن هذا : أن من يصر على معصيته تعالى عامدا عالما بنهيه ووعيده لا يكون مؤمنا بصدق خبره ولا مذعنا لشرعه الذي تنال رحمته رضاه بالتزامه، وعذابه وبأسه باعتداء حدوده، فيكون إذا مستهزءا به. فالإصرار على العصيان مع عدم استشعار الخوف والندم لا يجتمع مع الإيمان الصحيح بعظمة الله وصدقه في وعده ووعيده. وبهذا الذي قررته يكون الخلاف لفظيا لا حقيقيا.
أقول : هذا بسط ما قرره في تفسيره هذه الآية على الطريقة المشهورة. وإذا تذكر القارئ طريقتنا في مثل هذه المسألة التي أجازها الأستاذ الإمام- إذ بسطناها في التفسير وفي باب الفتاوى من المنار- فإنه يزداد علما وبينة في هذا المقام. وأعني بهذه الطريقة تأثير الذنوب والخطايا في النفس إلى أن لا يبقى للإيمان سلطان عليها، وسنعيد القول فيه قريبا في تفسير ( إنما التوبة على الله ) [ النساء : ١٧ ] الخ.
( وله عذاب مهين ) قال الأستاذ الإمام : أراد تعالى بالعذاب المهين عذاب الروح بالإهانة، يعني رحمه الله لأن بدن هذا العاصي يعذب في النار من حيث هو حيوان يتألم وروحه تتألم بالإهانة من حيث هو إنسان يشعر بمعنى الكرامة والشرف فنسأل الله تعالى النجاة من العذاب المهين ؛ والفوز بالنعيم المقيم.
قال البقاعي في تفسيره :( نظم الدرر، في تناسب الآيات والسور ) بعد تفسير الآيات السابقة مبينا وجه الاتصال بينها وبين هذه الآيات ما نصه :" ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب وتارة يكون بالزجر والعقاب لأن مدار الشرائع على العدل، والإنصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط، ختم سبحانه بإهانة العاصي، وكان إحسانا إليه بكفه عن الفساد، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد، وكان من أفحش العصيان الزنا وكان الفساد في النساء أكثر، والفتنة بهن أكبر، والضرر منهن أخطر، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم قدمهن فيه اهتماما بزجرهن " اهـ.
وأقول : وجه الاتصال إن هاتين الآيتين في بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء كالتي قبلهما، وقد تقدم القول في كون آي الإرث وردت في سياق أحكام النساء حتى جعل إرث الأنثى فيها أصلا أو كالأصل يبنى غيره عليه ويعرف به [ راجع تفسير ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) في ج ٤ من تفسيره ] وكان الكلام قبلهما في توريث النساء كالرجال والقسط فيهن وعدد ما يحل منهن مع العدل، فلا غرو إذا جاء حكم إتيانهن الفاحشة بعدما ذكر مقدما على حكم إتيان الرجال الفاحشة وجعل ذلك بين ما تقدم وبين حكم ما كانت عليه الجاهلية من إرث النساء كرها وعضلهن لأكل أموالهن وحكم ما يحرم منهن في النكاح، وقد أحسن البقاعي في توجيه الاهتمام بتقديم ذكر النساء هنا بعلاقته بالإرث على رأي الجمهور في تفسير الفاحشة بالزنا الذي يفضي إلى توريث ولد الزنا ولكننا لا نسلم له أن الفساد في النساء أكثر منه في الرجال بل الرجال أكثر جرأة على الفواحش وإتيانا بها، ولو أمكن احصاء الزناة والزواني لعرف ذلك كل أحد.
قال تعالى :( واللاتي يأتين الفاحشة ) اللاتي جمع سماعي لكلمة التي أو بمعنى الجمع. ويأتين الفاحشة معناها يفعلن الفعلة الشديدة القبح وهي الزنا على رأي الجمهور والسحاق على ما اختاره أبو مسلم ونقله عن مجاهد. وأصل الإتيان والآتي المجيء، تقول جئت البلد وأتيت البلد، وجئت زيدا وأتيته، ويجعلون مفعولهما حدثا فيكونان بمعنى الفعل، ومنه في المجيء قوله تعالى حكاية عن صاحب موسى ( لقد جئت شيئا نكرا ) [ الكهف : ٧٤ ] وقوله تعالى :( لقد جئتم شيئا إذا ) [ مريم : ٨٩ ] واستعمال الإتيان في الزنا واللواط هو الشائع كما ترى في الآيات عن قوم لوط وحينئذ يكون مفعوله حدثا كما في الآية التي نفسرها وما بعدها، ويكون شخصا كما في قوله :( إنكم لتأتون الرجال ) [ الأعراف : ٨١ ] الخ ولا أذكر الآن وأنا أكتب هذا في القسطنطينية مثالا في استعمال الإتيان والمجيء في فعل الخير وليس بين يدي وأنا في فندق المسافرين كتب أراجع فيها. ( من نسائكم ) أي يفعلنها حال كونهن من نسائكم ( فاستشهدوا عليهن ) أي اطلبوا أن يشهد عليهن ( أربعة منكم ) والخطاب للمسلمين كافة لأنهم متكافلون في أمورهم العامة وهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود. ولفظ الأربعة يطلق على الذكور فالمراد أربعة من رجالكم قال الزهري :" مضت السنة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود " فيؤخذ منه أن قيام المرأتين مقام الرجل في الشهادة كما هو ثابت في سورة البقرة لا يقبل في الحدود فهو خاص بما عداها. وكأن حكمة ذلك إبعاد النساء عن مواقف الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة في أن يكنَّ دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن ولا يخضن مع أربابها، وأن تحفظ لهن رقة أفئدتهم فلا يكن سببا للعقاب. واشترطوا في الشهداء أيضا أن يكونوا أحرارا.
( فإن شهدوا ) عليهن بإتيانها ( فأمسكوهن في البيوت ) أي فاحبسوهن في بيوتهن وامنعوهن الخروج منها عقابا لهن وحيلولة بينهن وبين الفاحشة، وفي هذا دليل على تحريم إمساكهن في البيوت ومنعهن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو محض التحكم من الرجال واتباعهم لأهوائهم في ذلك كما يفعله بعضهم ( حتى يتوفاهن الموت ) التوفي القبض والاستيفاء أي حتى تقبض أرواحهن بالموت ( أو يجعل الله لهن سبيلا ) أي طريقا للخروج منها. فسر الجمهور السبيل بما يشرعه الله تعالى بعد نزول هذه الآية من حد الزنا لأنه هو المراد بالفاحشة هنا عندهم فجعلوا الإمساك في البيوت عقابا مؤقتا مقرونا بما يدل على التوقيت ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال بعد ذلك :" قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب جلد مئة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة " أخرجه ابن جرير وقال بعضهم الحديث مبين للسبيل لا ناسخ والذين يجيزون نسخ القرآن بالأحاديث جعلوا هذا الحديث ناسخا للإمساك في البيوت وقال الآخرون بل الناسخ له آية النور ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) [ النور : ٢ ].
وقال الزمخشري من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال، ويكون السبيل- على هذا- النكاح المغني عن السفاح. وقوله هذا أو تجويزه مبني على كون آية الحد سابقة لهذه الآية وليس في القرآن دليل يمنع من ذلك. وأما قول الجمهور المبني على كون هذه الآية نزلت أولا فهو مؤيد بروايات عن مفسري السلف فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال : كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها.
وروى ابن جرير عن السدي : كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها. ولكننا إذا بحثنا في متن هاتين الروايتين كيفما كان سندهما نرى أنه لا يصح أن يكون ما جاء فيهما عملا بهذه الآية إذ ليس في الآية إجازة لأخذ المهر بل الآيات قبلها وبعدها تحرم أكل الرجل شيئا ما من حقوق المرأة ثم إن ابن جبير قال إنهم كانوا يحبسونها في السجن أي لا في بيتها، وصرّح كل منهما بأن هذا كان في أول الإسلام وبدئه فيؤخذ من هذا كله أنهم كانوا يفعلون ذلك بالاجتهاد أو استصحاب عادات الجاهلية لأنهم لم يلتزموا العمل بنص الآية ولا يظهر القول بأن الآية نزلت في أول الإسلام وبدئه فقد بينا أن السورة مدنية وأنها نزلت بعد غزوة أحد التي كانت في أواخر سنة ثلاث من الهجرة فإن لم تكن نزلت كلها بعد غزوة أحد فقد تقدم أن آيات المواريث نزلت بعدها وهذه الآية وما بعدها متصلة بها. وقد فسر بعض المفسرين السبيل بالموت. ويحتمل أن يُراد بالسبيل على قول أبي مسلم ذهاب داعية السحاق والشفاء منه فإنه يصير مرضا، وعلى رأي الجمهور التوبة وصلاح الحال ويرجحه الأمر في الآية الأخرى بالإعراض عن عقاب اللذين يأتيان الفاحشة إن تابا، ومن رحمة الله تعالى وعدله أن يكون حكم النساء في ذلك كحكم الرجال فالإبهام والإجمال في آخر هذه الآية يفسره الإيضاح والتفصيل في آخر ما بعدها ويقوي ذلك ذكر أحكام التوبة بعدهما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقال الأستاذ الإمام في هاتين الآيتين ما ملخصه : اختلف المفسرون في الآيتين فالجمهور على أنهما في الزنا خاصة، ولأجل الفرار من التكرار قالوا إن الآية الأولى في المحصنات أي الثيبات، فهن اللواتي كن يحبسن في البيوت إذا زنين حتى يتوفاهن الموت، والثانية في غير المحصنين والمحصنات أي في الأبكار، ولهذا كان العقاب فيها أخف. وعلى هذا يكون الزاني المحصن مسكوتا عنه. والآيتان على هذا القول منسوختان بالحد المفروض في سورة النور، وهو السبيل الذي جعله الله للنساء اللواتي يمسكن في البيوت. ولكن يبقى في نظم الآية شيء وهو أن كلا من توفي الموت ومن جعل السبيل قد جعل غاية للإمساك في البيوت بعد وقوعه، فعلى هذا لا يصح تفسير السبيل بإنزال حكم جديد فيهن، إذ يكون المعنى على هذا التفسير فأمسكوهن في البيوت إلى أن يمتن أو ينزل الله فيهن حكما جديدا.
وفد فسر السبيل بعضهم بالزواج كأن يسخر الله للمرأة المحبوسة رجلا آخر يتزوجها. وقد وافق الجلال الجمهور في الأولى وخالفهم في الثانية فقال : إنها في الزنا واللواط معا، ثم رجح أنها في اللواط. فتكون الأولى منسوخة على رأيه والثانية غير منسوخة. وخالف الجمهور أبو مسلم في الآيتين فقال : إن الأولى في المساحقات والثانية في اللواط فلا نسخ. وحكمة حبس المساحقات على هذا القول هو أن المرأة التي تعتاد المساحقة تأبى الرجال وتكره قربهم- أي فلا ترضى أن تكون حرثا للنسل- فتعاقب بالإمساك في البيت والمنع من مخالطة أمثالها من النساء إلى أن تموت أو تتزوج.
أقول : والأولى أن يقال إلى أن تموت أو تكره السحاق وتميل إلى الرجال فتقبل على بعلها إن كانت متزوجة وتتزوج إن كانت أيما. وقال في إسناده جعل السبيل لها إلى الله تعالى إشارة إلى عسر النزوع عن هذه العادة الذميمة والشفاء منها حتى بالترك الذي هو أثر الحبس فكأنها لا تزول إلا بعناية خاصة منه تعالى.
( قال ) : واعترض على أبي مسلم بأن تفسير الفاحشة في الآية الأولى لم يقل به أحد وبأن الصحابة اختلفوا في حد اللواط. فأجاب عن الأول بأن مجاهدا قال به ـ وناهيك بمجاهد ـ وبأنه ثبت في الأصول أنه يجوز للعالم أن يفسر القرآن ويفهم منه ما لم يكن مرويا عن أحد، بشرط أن لا يخرج بذلك عن مدلولات اللغة العربية في مفرداتها وأساليبها. وأجاب عن الثاني بأن الصحابة إنما اختلفوا في حد اللواط وهذا لا يمنع كون الآية نزلت في العقوبة عليه وهي لا حد فيها. وما يجاب به عن أبي مسلم أن الصحابة ما كانوا يجلسون لتفسير القرآن إلا عند الحاجة وإنما كانوا يتدارسونه ويتدبرونه للاهتداء والاتعاظ وهم يفهمونه لأنه نزل بلغتهم، فإذا سألهم سائل عن تفسير آية ذكروا له تفسيرها وقد يسكتون عن حكم الشيء السنين الطوال لعدم وقوعه، فإذا وقعت الواقعة ذكروا حكمها، فإذا جاء في القرآن حكم السحاق ولم نجد عندنا رواية عن الصحابة فيه ولا حكما منهم على امرأة بالحبس لأجله علمنا أن سبب هذا وذاك هو أنه لم يقع في زمنهم. ويشهد به أربعة منهم وإذا كان القرآن يضع عقابا على فاحشة أو جريمة فيمتنع عنها أهل الإيمان. فلا تقع أولا تظهر فيهم ولا تثبت على أحد فهذا مما نحمد الله تعالى عليه ونحمد المؤمنين والمؤمنات، ولا نعده من المستحيلات، فالحق أن ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين.
( قال ) : وبحثوا في جمع اللاتي يأتين الفاحشة وتثنية اللذين يأتيانها وعدوه مشكلا، وما هو بمشكل، بل نكتته ظاهرة وهي أن النساء لما كن لا يجدن من العار في السحاق ما يجده الرجل في إتيان مثله، كانت فاحشة السحاق مظنة الشيوع والإظهار بين النساء، وفاحشة اللواط مظنة الإخفاء حتى لا تكاد تتجاوز اللذين يأتيانها. ففي التعبير بصيغة المثنى إشارة إلى ذلك وتقدير لكون فاحشة اللواط عارا فاضحا يتبرأ منه كل ذي فطرة سليمة. ويجوز أن يكون اختلاف التعبير بالجمع والتثنية من باب التنويع فذلك معهود في الكلام البليغ مع الأمن من الاشتباه.

قال البقاعي في تفسيره :( نظم الدرر، في تناسب الآيات والسور ) بعد تفسير الآيات السابقة مبينا وجه الاتصال بينها وبين هذه الآيات ما نصه :" ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب وتارة يكون بالزجر والعقاب لأن مدار الشرائع على العدل، والإنصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط، ختم سبحانه بإهانة العاصي، وكان إحسانا إليه بكفه عن الفساد، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد، وكان من أفحش العصيان الزنا وكان الفساد في النساء أكثر، والفتنة بهن أكبر، والضرر منهن أخطر، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم قدمهن فيه اهتماما بزجرهن " اهـ.
وأقول : وجه الاتصال إن هاتين الآيتين في بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء كالتي قبلهما، وقد تقدم القول في كون آي الإرث وردت في سياق أحكام النساء حتى جعل إرث الأنثى فيها أصلا أو كالأصل يبنى غيره عليه ويعرف به [ راجع تفسير ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) في ج ٤ من تفسيره ] وكان الكلام قبلهما في توريث النساء كالرجال والقسط فيهن وعدد ما يحل منهن مع العدل، فلا غرو إذا جاء حكم إتيانهن الفاحشة بعدما ذكر مقدما على حكم إتيان الرجال الفاحشة وجعل ذلك بين ما تقدم وبين حكم ما كانت عليه الجاهلية من إرث النساء كرها وعضلهن لأكل أموالهن وحكم ما يحرم منهن في النكاح، وقد أحسن البقاعي في توجيه الاهتمام بتقديم ذكر النساء هنا بعلاقته بالإرث على رأي الجمهور في تفسير الفاحشة بالزنا الذي يفضي إلى توريث ولد الزنا ولكننا لا نسلم له أن الفساد في النساء أكثر منه في الرجال بل الرجال أكثر جرأة على الفواحش وإتيانا بها، ولو أمكن احصاء الزناة والزواني لعرف ذلك كل أحد.
قال تعالى :( واللذان يأتيانها منكم ) أي يأتيان الفاحشة وهي هنا الزنا في قول الجمهور واللواط في قول بعضهم وعليه أبو مسلم والأمران معا في قول ( الجلالين )، والمراد بالتثنية في الأول الزاني والزانية بطرق التغليب، وفي الثاني الفاعل والمفعول به بجعل القابل كالفاعل، وفي الثاني الزاني واللائط ولا تجوز فيه ( فآذوهما ) بعد ثبوت ذلك بشهادة الأربعة كما يؤخذ من الآية الأولى. روي عن ابن عباس رضي الله عنه تفسير الإيذاء بالتعبير والضرب بالنعال، وعن مجاهد وقتادة والسدي تفسيره بالتعبير والتوبيخ فقط. فإذا كانت هذه الآية قد نزلت قبل آية سورة النور، وكان المراد بها الزنا كما هو قول الجمهور، فالعقاب كان تعزيرا مفوضا إلى الأمة، وإلا جاز أن يراد بالإيذاء الحد المشروع نفسه. والظاهر أن آية النور نزلت بعد هذه وهي مبينة ومحددة للإيذاء هنا على القول بأن ما هنا في الزنا، وإلا فتلك خاصة بحكم الزنا لأنها صريحة فيه، وهذه خاصة باللواط، ولذلك اختلف الصحابة ومن بعدهم في عقاب من يأتيه، وهذا ما اختاره أبو مسلم وتخصيصه الفاحشة في هذه الآية باللواط الذي هو استمتاع الرجل بالرجل والفاحشة فيما قبلها بالسحاق الذي هو استمتاع المرأة بالمرأة هو المناسب لجعل تلك خاصة بالنساء وهذه خاصة بالذكور. فهذا مرجح لفظي يدعمه مرجح معنوي وهو كون القرآن عليه ناطقا بعقوبة الفواحش الثلاث، وكون هاتين الآيتين محكمتين. والأحكام أولى من النسخ حتى عند الجمهور القائلين به. وستأتي تتمة هذا البحث.
( فإن تابا ) رجعا عن الفاحشة وندما على فعلها ( وأصلحا ) العمل كما هو شأن المؤمن يقبل على الطاعة بعد العصيان ليطهر نفسه ويزكيها من درنه ويقوي فيها داعية الخير على داعية الشر ( فأعرضوا عنهما ) أي كفوا عن إيذائهما بالقول والفعل ( إن الله كان توابا رحيما ) أي مبالغا في قبول التوبة من عباده، شديد الرحمة بهم وإنما شرع العقاب لينزجر العاصي ولا يتمادى فيما يفسده فيهلك ويكون قدوة في الشر والخبث ( وراجع تفسير التواب الرحيم في ج ٢ تفسير ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقال الأستاذ الإمام في هاتين الآيتين ما ملخصه : اختلف المفسرون في الآيتين فالجمهور على أنهما في الزنا خاصة، ولأجل الفرار من التكرار قالوا إن الآية الأولى في المحصنات أي الثيبات، فهن اللواتي كن يحبسن في البيوت إذا زنين حتى يتوفاهن الموت، والثانية في غير المحصنين والمحصنات أي في الأبكار، ولهذا كان العقاب فيها أخف. وعلى هذا يكون الزاني المحصن مسكوتا عنه. والآيتان على هذا القول منسوختان بالحد المفروض في سورة النور، وهو السبيل الذي جعله الله للنساء اللواتي يمسكن في البيوت. ولكن يبقى في نظم الآية شيء وهو أن كلا من توفي الموت ومن جعل السبيل قد جعل غاية للإمساك في البيوت بعد وقوعه، فعلى هذا لا يصح تفسير السبيل بإنزال حكم جديد فيهن، إذ يكون المعنى على هذا التفسير فأمسكوهن في البيوت إلى أن يمتن أو ينزل الله فيهن حكما جديدا.
وفد فسر السبيل بعضهم بالزواج كأن يسخر الله للمرأة المحبوسة رجلا آخر يتزوجها. وقد وافق الجلال الجمهور في الأولى وخالفهم في الثانية فقال : إنها في الزنا واللواط معا، ثم رجح أنها في اللواط. فتكون الأولى منسوخة على رأيه والثانية غير منسوخة. وخالف الجمهور أبو مسلم في الآيتين فقال : إن الأولى في المساحقات والثانية في اللواط فلا نسخ. وحكمة حبس المساحقات على هذا القول هو أن المرأة التي تعتاد المساحقة تأبى الرجال وتكره قربهم- أي فلا ترضى أن تكون حرثا للنسل- فتعاقب بالإمساك في البيت والمنع من مخالطة أمثالها من النساء إلى أن تموت أو تتزوج.
أقول : والأولى أن يقال إلى أن تموت أو تكره السحاق وتميل إلى الرجال فتقبل على بعلها إن كانت متزوجة وتتزوج إن كانت أيما. وقال في إسناده جعل السبيل لها إلى الله تعالى إشارة إلى عسر النزوع عن هذه العادة الذميمة والشفاء منها حتى بالترك الذي هو أثر الحبس فكأنها لا تزول إلا بعناية خاصة منه تعالى.
( قال ) : واعترض على أبي مسلم بأن تفسير الفاحشة في الآية الأولى لم يقل به أحد وبأن الصحابة اختلفوا في حد اللواط. فأجاب عن الأول بأن مجاهدا قال به ـ وناهيك بمجاهد ـ وبأنه ثبت في الأصول أنه يجوز للعالم أن يفسر القرآن ويفهم منه ما لم يكن مرويا عن أحد، بشرط أن لا يخرج بذلك عن مدلولات اللغة العربية في مفرداتها وأساليبها. وأجاب عن الثاني بأن الصحابة إنما اختلفوا في حد اللواط وهذا لا يمنع كون الآية نزلت في العقوبة عليه وهي لا حد فيها. وما يجاب به عن أبي مسلم أن الصحابة ما كانوا يجلسون لتفسير القرآن إلا عند الحاجة وإنما كانوا يتدارسونه ويتدبرونه للاهتداء والاتعاظ وهم يفهمونه لأنه نزل بلغتهم، فإذا سألهم سائل عن تفسير آية ذكروا له تفسيرها وقد يسكتون عن حكم الشيء السنين الطوال لعدم وقوعه، فإذا وقعت الواقعة ذكروا حكمها، فإذا جاء في القرآن حكم السحاق ولم نجد عندنا رواية عن الصحابة فيه ولا حكما منهم على امرأة بالحبس لأجله علمنا أن سبب هذا وذاك هو أنه لم يقع في زمنهم. ويشهد به أربعة منهم وإذا كان القرآن يضع عقابا على فاحشة أو جريمة فيمتنع عنها أهل الإيمان. فلا تقع أولا تظهر فيهم ولا تثبت على أحد فهذا مما نحمد الله تعالى عليه ونحمد المؤمنين والمؤمنات، ولا نعده من المستحيلات، فالحق أن ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين.
( قال ) : وبحثوا في جمع اللاتي يأتين الفاحشة وتثنية اللذين يأتيانها وعدوه مشكلا، وما هو بمشكل، بل نكتته ظاهرة وهي أن النساء لما كن لا يجدن من العار في السحاق ما يجده الرجل في إتيان مثله، كانت فاحشة السحاق مظنة الشيوع والإظهار بين النساء، وفاحشة اللواط مظنة الإخفاء حتى لا تكاد تتجاوز اللذين يأتيانها. ففي التعبير بصيغة المثنى إشارة إلى ذلك وتقدير لكون فاحشة اللواط عارا فاضحا يتبرأ منه كل ذي فطرة سليمة. ويجوز أن يكون اختلاف التعبير بالجمع والتثنية من باب التنويع فذلك معهود في الكلام البليغ مع الأمن من الاشتباه.

لما ذكر تعالى أن التوبة مع الإصلاح تقتضي ترك العقوبة على الذنب في الدنيا ووصف نفسه بالتواب الرحيم أي الذي يقبل التوبة من عباده كثيرا أو يعفو بها عنهم- عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة فقال ( إنما التوبة على الله ) أي إن التوبة التي أوجب الله تعالى قبولها على نفسه بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله ليست إلا ( للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ) فالسوء هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة كريم النفس أو يسوء الناس ويصدق على الصغائر والكبائر. والجهالة الجهل وتغلب في السفاهة التي تلابس النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب فتذهب بالحلم وتنسي الحق. والمراد بالزمن القريب الوقت الذي تسكن به تلك الثورة، أو تنكسر به تلك السورة، ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه ويرجع إليه دينه وعقله.
وذهب جمهور المفسرين إلى تفسير الزمن القريب بما قبل حضور الموت، واحتجوا على ذلك بالآية الثانية التي تنفي قبول توبة الذين يتوبون إذا حضر أحدهم الموت. وليس ذلك بحجة لهم لأن الظاهر أن هذه الآية بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتما والآية الثانية بينت الوقت الذي لا تقبل فيه توبة مذنب قط، وما بين الوقتين مسكوت عنه، وهو محل الرجاء والخوف، فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراب الذنب كان الرجاء أقوى، وكلما بعد الوقت بالإصرار وعدم المبالاة والتسويف كان الخوف من عدم القبول هو الأرجح، لأن الإصرار قد ينتهي قبل حضور الموت بالرين والختم وإحاطة الخطيئة، وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة. فراجع تفسير ( ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : ٧ ] وتفسير ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) [ البقرة : ٨٢ ] من الجزء الأول وكذا في تفسير آل عمران ( فراجع تفسير الجزء الثالث ) وسنعيد بيانه أيضا.
وكم غرت هذه العبارة الناس وجرأتهم على الإصرار على الذنوب والآثام وأوهمتهم أن المؤمن لا يضره أن يصر على المعاصي طول حياته إذا تاب قبل بلوغ روحه الحلقوم، فصار المغرورون يسوفون التوبة حتى يوبقهم التسويف فيموتوا قبل أن يتمكنوا من التوبة وما يجب أن تقرن به من إصلاح النفس بالعمل الصالح، كما في الآية السابقة وآيات أخرى في معناها. كقوله تعالى :( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) [ طه : ٨٢ ] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) [ غافر : ٨ ] ولا ينافي ذلك ما ورد من الأحاديث والآثار في قبول التوبة إلى ما قبل الغرغرة. كحديث ابن عمر عند أحمد والترمذي " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " ١ فإن المقصود من هذا أنه لا يجوز لأحد أن يقنط من رحمة ربه وييئس من قبوله إياه إذا هو تاب وأناب إليه مادام حيا. وليس معناه : أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبيل الموت ولو بساعة، فإن حمله على هذا المعنى مخالف لهدي كتاب الله في الآيات التي ذكرنا بعضها آنفا، ولسننه في خلق الإنسان من حيث إن نفسه تتدنس بالذنوب بالتدريج، فإذا طال الأمد على مزاولتها لها تتمكن فيها وترسخ فلا تزول إلا بتزكيتها بالعمل الصالح في زمن طويل يناسب زمن الدنس مع ترك أسباب الدنس، وأما الترك وحده فلا يكفي كما إذا وردت الأقذار والأدناس الحسية على ثوب زمنا طويلا فإنه لا ينظف بمجرد انقطاعها عنه. على أن المعاصي إذا تكررت تصير عادات تملك على النفس أمرها حتى تصير التوبة بمجرد الترك من أعسر الأمور وأشقها لأنها تكون عبارة عن اقتلاع الملكات التي تكيف بها المجموع العصبي، فما أخسر صفقة المسوفين ؛ الذين يغترون بكلام أسرى العبارات من المفسرين وغير المفسرين !
الأستاذ الإمام : ذكر في الآية السابقة التوبة وبين في هذه الآية حكمها وحالها ترغيبا فيها وتنفيرا عن المعصية بما شدد في شرط قبولها، وفيه إرشاد لأولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم وتأديبهم، فإنه فرض في الآية السابقة معاقبة أهل الفواحش وأمر بالإعراض عمن تاب بشرط إصلاح العمل. وكأن هذه الآية شرح لذلك الإصلاح، أي إن تابوا مثل هذه التوبة فأعرضوا عنهم وكفوا عن عقابهم.
ويذكرون ههنا مسألة الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في وجوب الصلاح عليه تعالى. والقول الفصل في ذلك : إن قبول هذه التوبة على الله تعالى ليس بإيجاب موجب له سلطة يوجب بها على الله، تعالى الله عن ذلك ! وإنما ذلك من جملة الكمال الذي أوجبه تعالى على نفسه بمشيئته واختياره، وهذه العبارة وأمثالها مما ظاهره وجوب بعض الأشياء على الله قد جاءت على طريق العرب في التخاطب، ولا يفهم منها إلا أن ذلك واقع ما له من دافع، ولكن بإيجاب الله تعالى له، ولا يمكن أن يظن عاقل أن قانونا يحكم على الألوهية. فجعل الخلاف في هذه المسألة لفظيا ظاهرا لا تكلف فيه.
و " السوء " هو العمل القبيح، و " الجهالة " تصدق بمعنى السفاهة وبمعنى الجهل الذي هو ضد العلم فالسفاهة إنما سميت سفاهة لأن صاحبها يجهل عاقبتها الرديئة أو يجهل مصلحة نفسه. وقال بعضهم : المراد بالجهالة هنا العصيان والمخالفة. وعبر عن ذلك بالجهالة لبيان قبحه ولتضمنه للجهالة وتنزيل العاصي منزلة الجاهل بمصلحة نفسه. وقال بعضهم : إن المراد بها عدم العلم التام بمقدار ما يترتب على عمل السوء من العقاب لا تعمد العصيان وذلك أن ناقص العلم بحقيقة الذنوب ووجه ترتب العقاب عليها ودرجة ذلك العقاب وتحتمه يقع في الذنب ويعمل السوء باختياره غير مغلوب على أمره، وهو يظن أنه عمل ما فيه الخبر والنفع لنفسه، كاللص يعلم أن السرقة محرمة ولكنه لا يعلم أن العقاب عليها حتم لأن عنده احتمالات من العلم الناقص تشككه فيما ورد من وعيد السارق، كشفاعة الشفعاء من المشايخ والجيران الصالحين، وكاحتمال العفو والمغفرة، وكالمكفرات، فإذا عرض له شيء يسرقه وتذكر الوعيد على السرقة ينتصب في ذهنه ميزان الترجيح بين الانتفاع العاجل بما يسرقه والعقاب الآجل على هذه المعصية، فإذا عرض له الشك في العقاب رجحت كفة داعية السرقة، لأن الانتفاع بالمسروق يقيني والعقاب عليه مشكوك فيه. وهكذا شأن الإنسان في جميع الأعمال الاختيارية لا يمكن أن يأتي شيئا منها إلا إذا كان يعتقد نفعه له ورجحانه على مقابله إن خطر في باله المقابل، فعلم من هذا أن عمل السوء لا يمكن أن يصدر من الإنسان مع التلبس بالجهل، وعدم إقامة الميزان بالقسط في الترجيح بين الفعل والترك، فهو لا يرتكب المعصية إلا جهلا بحقيقة الوعيد أو متأولا له بمثل ما أشرنا إليه من انتظار الشفاعة والمغفرة، أو مغلوبا بشهوة أو بغضب، فإذا زالت الجهالة عن قريب فتاب كانت توبته مقبولة حتما. واختلفوا في الزمن القريب فعن ابن عباس وغيره هو أن يتوب في حال الصحة والأمل في الحياة، وعن ابن جرير هو أن يتوب وهو مدرك يعقل، وأشهر الأقوال : أن يتوب قبل الغرغرة.
ثم قال ما مثاله مع بسط وإيضاح : إن من كان قوي الإيمان بحيث لا تقع المعصية منه إلا عن بادرة غضب أو شهوة، أو جهل بأنها معصية تستوجب العقوبة، فهو من أولئك الذين لا يقع منهم عمل السوء إلا هفوة بعد هفوة، ولا يلبثون أن يبادروا إلى التوبة ولذلك ذكر السوء مفردا وقال فيمن لا تقبل توبتهم " يعملون السيئات " بالجمع، فأشعرنا أن التوبة إنما تقبل حتما ممن تقع الذنوب منهم أفذاذا، ويلم واحدهم بها إلماما، ولكنه لا يصر عليها، بل يبادر إلى التوبة منها، ثم قد يطوف به بعد التوبة طائف آخر من الشيطان، فيعود ثانية إلى العصيان، ويتبعه التوبة والإحسان. فلا تتمكن من نفسه ظلمة المعصية، ولا تحيط به الخطيئة، فالصواب أن يفسر قوله تعالى " من قريب " بالقرب من زمن الذنب وهو المتبادر من اللفظ عند أهل اللغة والمذنب التائب أحد رجلين : رجل عارف بتحريم الذنب ولكن تلم به تلك الجهالة التي تحدث الرعونة في الإدارة، فيقع في الذنب ثم يتوب إليه علمه فيؤثر في نفسه فيتوب. ورجل وقع في الذنب وهو لا يعلم أنه محرم ؛ ولكنه على جهله ببعض أمور الدين ليس راضيا بجهله، ولا مهملا لأمر دينه، بل هو يبحث ويسأل ويتعلم فلا يطول عليه الأمد حتى يعلم أن ما كان ألم به محرم فيتوب منه حالا. فكل من هذين يصدق عليه أنه تاب من قريب. فالقرب ليس له حد محدود وإنما هو أمر نسبي فمن أصر على عمل السوء زمنا طويلا لجهله بأنه معصية محرمة ثم علم فتاب، فلا شك أن الله تعالى يقبل توبته وقد يصدق عليه أنه تاب من قريب بالنسبة إلى زمن العلم، ثم ذكر شيئا من كلام الغزالي في حقيقة التوبة وأركانها.
أقول : إن هنا شيئا يجب تدبره وهو الفرق بين من يعمل السوء وهو لا يعلم أنه سوء محرم عليه ومن يعمله عالما بذلك، فالأول لا تتندس نفسه بالعمل وإن طال عليه الزمن ؛ أي لا يكون ذلك العمل مجرئا لها على المعاصي موطنا لها على الشرور فإذا علم بعد ذلك أن عمله من السوء من حيث إنه ضار له أو لغيره أو من حيث إنه محرم عليه دينا وإن لم يعرف سبب تحريمه فإنه لا يعسر عليه غالبا أن يرجع عنه حالا، وإن كان قد ألفه فإنه ما ألفه إلا من حيث أنه حسن في نظره فملكه اختيار الحسن وإيثاره على السيء تكون في الغالبة عليه المصرفة لإرادته فلذلك يسهل عليه الرجوع من قريب متى جاء العلم الصحيح كما سهل على السابقين الأولين من الصحابة ( رضوان الله عليهم ) أن يكونوا في الذروة العليا من الفضائل والفواضل وعمل الخير والتنزه عن الشر على نشوئهم في الوثنية وعادات الجاهلية فإنهم كانوا على ذلك ذوي سلامة في الفطرة وحب للخير وبغض للشر وما كان ينقصهم إلا العلم الصحيح بحقيقة الحسن والقبيح وكنه الخير والشر، فلما جاءهم الإسلام سارعوا إليه وكانوا أكمل الناس به ؛ ولكن بعض المفسرين ينازع في كون من يعمل السوء جاهلا أنه سوء مرادا من الآية ويرى أن رجوعه عما كان عمله قبل العلم بكونه سوءا لا يسمى توبة. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الإمام بقوله " التعبير بالسوء " الخ ولكنه مع ذلك اختار كون لفظ الجهالة عاما يشمل عدم العلم بحرمته كما تقدم.
وأما من يعمل السوء وهو يعتقد أنه سوء ويصر على المعصية وهو يعلم أنها معصية لله عز وجل ولكنه يتبع هوى نفسه ويؤثر إرضاء شهوتها وغضبها على رضوان الله ومنفعة عباده، فذلك الذي تضرى نفسه بالشر وتأنس بالسوء ويصير ذلك ملكة لها مصرفة لإرادتها في أعمالها حتى تصل إلى الدركة التي تتعذر معها التوبة وهي التي عبر عنها القرآن الحكيم بالختم على القلوب والرين عليها والطبع عليها وإحاطة الخطيئة بها وضرب لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثل النكتة السوداء وتقدم شيء من بيان ذلك آنفا ومن قبل في مواضع كثيرة.
وقد سئلت مرة : لماذا لم تفسد أخلاق اليابانيين وتنحط هممهم وتصغر نفوسهم مع فشو الزنا فيهم ؟ فقلت : لأنهم يأتونه غير معتقدين حرمته دينا ولا قبحه عقلا. ولذلك يكون ضرره في الأخلاق قليلا ولكن ضرره في الصحة والاجتماع كبير على كل حال.
ونعود إلى كلام الأستاذ الإمام قال ما مثاله : إنهم يقسمون التائبين إلى طبقات ويقولون إن الإنسان عريق في الشر كأنه عجن بطينته، ذلك أن الشهوات الحيوانية تسبق فيه الشهوات العقلية، فهو يألف الشهوات أولا ثم يجيء العقل ليضع لتلك الشهوات النظام والقوانين، والعلم بما ش
١ - أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٩٨، وابن ماجه في الزهد باب ٣٠، وأحمد في المسند ٢/ ١٣٢، ١٥٣- ٣/ ٤٢٥..
( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) قال الأستاذ الإمام : قال تعالى في الآية السابقة " إنما التوبة على الله " ولم يقل هنا " وليست التوبة على الله " الخ وذلك أنه ليس المراد نفي القطع بقبول توبتهم، وإنما المراد نفي وقوع التوبة الصحيحة منهم وأنه ليس من شأنها أن تكون لهم، ولو نفى كونها مما أوجبه تعالى على نفسه لكان المعنى أنها غير واجبة لهم ولا مقطوع بقبولها منهم ولكنهم قد ينالونها.
وأقول : إن وجه النفي هو أن هؤلاء الذين نفى ثبوت التوبة لهم ليسوا ممن اقتضت السنن الإلهية في خلق الإنسان وتأثير أعماله في صفات نفسه وملكاتها ثم ترتب أعماله على أخلاقه وملكاته- بأن يكونوا ممن يرجع عن السيئات بعد الاستمرار عليها وينخلع عنها ويطهر قلبه ويزكي نفسه من أدرانها فيكون أهلا لرحمة الله أن تعطف عليه ومحلا لاستجلاب نعمه فيعود ما نفر منها بالمعاصي إليه ؛ بل مضت سنة الله تعالى في أمثالهم أن تحيط بهم خطاياهم وسيئاتهم فلا تدع للطاعات والحسنات مكانا من نفوسهم، فيصرون عليها إلى أن يحضر أحدهم الموت وييئس من الحياة التي يتمتع فيها بما كان يتمتع، فعند ذلك يقول إني تبت وما هو من التائبين، بل من المدعين الكاذبين، كما يأتي قريبا.
قال الأستاذ : وقال هناك :" يعملون السوء " وههنا " يعملون السيئات " والجمع ههنا يعم جميع أفراد النوع الواحد من المعاصي التي تكون بالإصرار والتكرار، فالمصر على ذنب واحد من الذين يعملون السيئات حتما، ويعم جميع الأنواع المختلفة منها. وأقول : إن الإصرار على بعض أفراد الذنوب يغري صاحبه بأفراد أخرى من نوعها أو جنسها، والشر داعية الشر، كما أن الخير داعية الخير.
( قال ) : وقال هناك " ثم يتوبون " فأسند التوبة إليهم وقال ههنا " قال إني تبت الآن " فبين أن واحد هؤلاء يدعي التوبة عند العلم بالعجز عن الذنب، أي إن قلبه لم ينخلع من الذنب ونفسه لم ترغب عنه فيكون تائبا، وإنما مثله كمثل رجل كان يعيث في أرض آخر فسادا فظفر به هذا ووضع السيف على عنقه وأراد أن يفصل رأسه عن بدنه، فاستغاث وقال : إنه لا يعود إلى ذلك الإفساد ؛ ولكن نفسه لم تنفر منه ولم تستقبحه لأنه فساد، فهي إذا زال الخوف تعود إلى الدعوة إليه ولا تلقى من صاحبها إلا الطاعة والانقياد، ولهذا قيد القول بكلمة " الآن " والآنية تنافي الاستمرار الذي دل عليه المضارع " يتوبون " هناك. ومن هنا يمكننا أن نميز الحق من بين تلك الأقوال التي رووها في حضور الموت، كقولهم إن المراد به حال الحشرجة أو الغرغرة أو ذهاب التمييز والإدراك ومن كان من مثل هذه الأحوال لا يصدر عنه قول. والمختار أن المراد بحضور الموت هو تحقق وقوعه واليأس من الحياة. " وحتى " ابتدائية وما بعدها غاية لما قبلها أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور موتهم وصدور ذلك القول منهم. وأقول : وقدر بعض المفسرين قيد " على الله " فقال المعنى وليست التوبة أي قبولها حتما لهؤلاء ونفي الله تعالى. وما اختاره شيخنا هو الصحيح المتبادر.
ثم قال إنهم يروون هنا أحاديث في قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم وإني أوافقهم على ذلك إذا حصلت التوبة بالفعل بأن أدرك المذنب قبح ما كان عمله من السيئات، وكرهه وندم على مزاولته وزال ميله إليه من قلبه، بحيث لو عاش لما عاد إليه مع الروية والتعمد كما كان. وما كل تصور لقبح الذنب أو تصديق بقبحه وضرره يكون سببا لتركه فإن للتصورات والتصديقات مراتب لا يعتد منها في باب العلم النافع إلا بالقوي الذي يترتب عليه العمل لرجحانه على مقابله. وضرب مثلا للتصديق المرجوح : تصديقه ما قاله الأطباء له من أن صوته يضره الحامض وقد أيدت التجربة ذلك وهو مع ذلك لا يعده علما يقينيا تاما لأنه مغلوب بعلم وجداني أقوى منه وهو ما ألفت النفس من إدراك لذة الحامض وطلب الطبيعة له ولو كان علما تاما لما تناول الحامض في بعض الأوقات فإن العلم الحقيقي هو الذي يحكم على الإرادة ويصرفها في العمل فلا تجد عن طاعته منصرفا.
قال وهذا المعنى هو الذي أدركه الصوفية إذ قالوا إن الاعتقاد أو الإدراك لا يكون علما صحيحا نافعا يثيب الله عليه إلا إذا صار ذوقا، ويعنون بصيرورته ذوقا أن يصير وجدانا للنفس يمتزج بها ويكون هو الحاكم عليها. فليت شعري هل يحدث للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة مثل هذا الوجدان لقبحها وكراهتها قبل الموت من حيث إنها مدنسة للنفس مبعدة لها عن منازل الأبرار أم الذي يحصل هل هو إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها بالموت الذي يكون وراءه نزول الوعيد به ؟ وهل يسمى هذا الأخير توبة من الذنب، ورجوعا إلى ما يرضاه الرب ؟ الله أعلم بالسرائر، وإنما يجازي الناس بحسب ما يعلم ؛ وعلينا أن نأخذ بالأحوط والأسلم ؛ وهذا معنى ما قاله الأستاذ رحمه الله في درسين وهو مع تفسير الآية الأولى لا يخلو من تكرار مفيد على تصرفنا فيه بالتقديم والتأخير والحذف والزيادة التي تجلي المعنى ولا تغيره. والوصول إلى تحقيق الحق في أمثال هذه المسائل المهمة لا يكون إلا بالتكرار والبسط والإيضاح، وسيأتي ذكر للتوبة وشروطها في آيات أخرى من سورة أخرى تقدم ذكرها من قبل.
قال تعالى :( ولا الذين يموتون وهم كفار ) أي لا توبة لأولئك ولا لهؤلاء. وقد استشكلوا ذكر نفي توبة هؤلاء مع كونه بديهيا لاسيما بعد تقرير ما سبقه فإنه إذا كان المؤمن ليس له توبة عند حضور الموت فالأولى أن لا يكون للكافر عند الموت فكيف يتصور أن يكون له توبة بعده، وقد يخطر في البال أن المراد نفع ما يكون من توبتهم في الآخرة وهي ما حكاه تعالى عنهم في آيات كثيرة :( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ) [ المؤمنون : ١٠٦ ] ولا أتذكر الآن أن أحدا من المفسرين قال بذلك، بل قال بعضهم إن المراد من نفي توبة هؤلاء هو المبالغة في عدم قبول توبة من قبلهم والإيذان بأنها كالعدم وأن ذويها في مرتبة الذين يموتون وهم كفار ؛ بل قال بعضهم إن في تكرير حرف النفي إشعارا بكون حال المسوفين في عدم استتباع الجدوى أقوى. من حال الذين يموتون على الكفر. وجوز بعضهم أن يراد بالفريقين الكفار، وبعضهم أن يراد بهما الفساق على أن يكون التعبير عنهم بالكفار من باب التغليظ.
واختار شيخنا أن المراد بالكفر هنا ما هو دون الشرك. وعدم تصديق دعوة النبوة وهو استعمال معروف في القرآن وصرح به بعض العلماء الأعلام وقالوا أنه يوجد كفر دون كفر، وبه فسر أبو حامد الغزالي الحديث الصحيح " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " ١ فقد بين ان ما يجب الإيمان به قسمان : قسم يجب أن يعلم لذاته ولا يتعلق به عمل كالإيمان بوجود الله وبوحدانيته وسائر ما وصف به نفسه وبالوحي وصدق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقسم يجب أن يعلم ليعمل به كالإيمان بالفرائض وكون أدائها من أسباب رضوان الله ومثوبته وبتحريم المحرمات وكون اقترافها من أسباب سخطه تعالى وعقابه أي فوق ما في الفرائض من إصلاح النفس وحال الاجتماع، وما في المحرمات من الضرر في الأفراد والجمعيات، ويسمي أو حامد القسم الأول علم المكاشفة والثاني : علم المعاملة ؛ ويقول : إن من يعمل السيئة المحرمة لا يكون مؤمنا بتحريمها وصدق الرسول فيما أخبر به من كونها موجبة لسخط الله تعالى وعذابه وهو أي الغزالي لا ينفي إيمان هذا من حيث أنه قد فاتته ثمرته وهي العمل به فقط، بل يقول إن الإيمان يشترط فيه اليقين، ومن أيقن بأن شيئا من الأشياء يضره فهو لا يأتيه كما هو معلوم عن غرائز البشر وارتباط أعمالهم بإرادتهم بعلومهم المتعلقة بالنفع والضرر، بل علم من عادة الإنسان وطبعه أن يحتاط في دفع الضرر حتى أنه ليعمل فيه بقول من لا ثقة بقوله عنده لعدم عدالته.
وضرب لذلك أبو حامد مثلا فقال ما معناه : إذا كنت جائعا ولم تجد إلا طعاما أخبرك رجل يهودي لا تثق بروايته في أخباره أنه مسموم ؛ أفلا تبني على الاحتياط وتترك الأكل من ذلك الطعام ؟ بلى إنك لتقول إنه يحتمل أن يكون صادقا فلا أعرض نفسي للهلاك بهذا الطعام ! وقد أخبرك النبي المعصوم الصادق الأمين بأن هذه الذنوب سموم مهلكة للأرواح مفضية إلى سخط الله وعذابه فكيف تدعي الإيمان به والجزم بصدقه وأنت تجعل خبره دون خبر ذلك اليهودي الذي تجزم بعدم عدالته ! ؟ وفي هذا المقام يذكر حديث " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ٢ الخ أي إن هذا الإيمان الخاص لا يكون ملابسا للنفس حين التلبس بالمعصية فإذا عاد إليها بعد العمل تألمت فبعثها الألم على التوبة كما حققه في شرح حقيقة التوبة وكونها مركبة من علم وحال وعمل : العلم يوجب الحال والحال توجب العمل أي أن العلم بحرمة الذنب والوعيد عليه يحدث في النفس حالا مؤثرة تبعث على العمل بترك المحرم، وكذلك العلم بوجوب الواجب إلى آخر ما حققه وبينه بالتفصيل، فيراجع في كتاب التوبة من أول الجزء الرابع من الإحياء.
قال تعالى :( أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ) أي أولئك الفريقان البعيدان عن سنة الفطرة وهداية الشريعة، المستعبدان لسلطان الشهوة وشيطان الرذيلة، قد اعتدنا وهيأنا لهم عذابا مؤلما في دار الجزاء بما قدموا لأنفسهم في دار الأعمال، فإن إصرارهم على السيئات، إلى أن وافاهم الممات، قد دسى نفوسهم ؛ وأفسد قلوبهم، فصاروا من التحوت، تهبط خطاياهم بأرواحهم إلى هاوية الهوان، وتعجز عن العروج إلى فراديس الجنان، ومعاهد الكرامة والرضوان.
١ - أخرجه ابن ماجه في الفتن باب٣..
٢ - تقدم الحديث مع تخريجه، أنظر الحاشية السابقة..
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ).
قالوا في وجه اتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها من أول السورة لما نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن نوع من الاستنان بسننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن.
وقال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال ظاهر وهو أن الكلام من أول السورة في النساء والبيوت وإنما جاء ذكر التوبة استطرادا. وأما ما ورد في سبب نزولها فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال " كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه وترك جارية ألقى عليها ابنه أو حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت ذميمة حبسها حتى تموت فيرثها " وفي رواية البخاري وأبي داود " كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك " وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال " نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليه ابنه، فجاءت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح. فنزلت " وروي مثله عن أبي جعفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. وروي عن الزهري : أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة لها بها وينتظر موتها يرثها.
قال تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) أي لا يحل لكم أيها الذين خرجوا من الشرك وتقاليده الجائرة وآمنوا بالله وبما أنزل على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تستمروا على سنة الجاهلية في هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعروض والعبيد وتتصرفوا بهن كما تشاؤون فإن شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه وإن شاء زوجها غيره وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج وذلك هو العضل الآتي ذكره. وقيل : المراد لا يحل لكم أن ترثوا أموال النساء كرها بأن تمسكوهن على كره لأجل أن يمتن فترثوهن وقوله " كرها " قرأه حمزة والكسائي بالضم حيث وقع ووافقها عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف وقرأه الباقون بالفتح. وهو بالضبطين مصدر لكره ضد أحب ( كما ورد الضعف بضم الضاد وفتحها ) وقيل الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية وقيل يطلق كل منهما على المكروه وعلى ما أكره المرء عليه. ولذلك اختلفوا في تفسير الكره هنا فقيل معناه لا ترثوهن حال كونهن كارهات لذلك، وقيل حال كونهن مكرهات عليه، وقيل حال كونهن كارهين لكم، وقيل حال كونكم مكروهين لهن. وكل هذه المعاني صحيحة، ولفظ الكره ليس قيدا للتحريم وإنما هو بيان للواقع قال الأستاذ الإمام : كانت العرب تحتقر النساء وتعدهن من قبيل المتاع والعروض حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله فحرم الله هذا العمل من أعمال الجاهلية. ولفظ الكره هنا ليس قيدا وإنما هو بيان للواقع الذي كانوا عليه فإنهم كانوا يرثونهن بغير رضاهن.
( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أصل " العضل " التضييق والمنع والشدة ومنه الداء العضال أي الشديد الذي لا منجاة منه. والجملة مستأنفة للنهي عن العضل أو معطوفة على ما قبلها بناء على أنه في معنى النهي كما هو مفهوم التحريم، كأنه قال لا ترثوا النساء ولا تعضلوهن. ويجوز أن تكون " لا " لتأكيد النفس و " تعضلوهن " معطوف على " لا ترثوا " والمعنى لا يحل لكم إرث النساء ولا عضلهن أي ولا التضييق عليهن لأجل أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن أي أعطيتموهن من ميراث أو صداق أو غير ذلك. والخطاب لمجموع المؤمنين لتكافلهم فيصدق بما أعطوه للنساء من ميراث ومهر زواج وغير ذلك، وجعله بعضهم للأزواج وبعضهم للورثة وكل منهم كان يعضل النساء.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها. وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال، وليراجع تفسير قوله تعالى :( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) [ البقرة : ١٣٢ ] وقوله :( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) [ البقرة : ٢٢٩ ] وغير ذلك. وخص الآية في الجلالين بالمنع من الزواج ورده الأستاذ الإمام قال : ليس معنى العضل هنا ما قاله المفسر ( الجلال ) من أنه المنع من زواج الغير بل معناه لا تضاروهن ولا تضيقوا عليهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنها ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدي بما كانت ورثت من قريب الوارث أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو المجموع من هذا وذاك وربما كلفوها الزيادة إن علموا أنها تستطيعها وذلك هو العضل المحرم هنا. أقول وروي نحو من هذا عن أبي جعفر ( رضي الله عنه ) وكثير من المفسرين. وأقول قد تقدم أنهم كانوا لا يورثون المرأة فليراجع تفسير ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) من هذا الجزء وهذه السورة وكذلك أسباب الإرث عند الجاهلية في أول تفسير آيتي المواريث.
( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) الفاحشة الفعلة الشنيعة الشديدة القبح وكلمة " مبينة " قرأها ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء المشددة أي بصيغة اسم المفعول والباقون بكسرها أي بصيغة اسم الفاعل أي ظاهرة متبينة أو مبينة حال صاحبها فاضحة له. وقد ورد بين بمعنى تبين اللازم. روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أن الفاحشة المبينة هنا هي النشوز وسوء الخلق. قال بعضهم ويؤيد ذلك قراءة أبي " إلا أن يفحشن عليكم " وروي عنه وعن ابن مسعود أنهما قرآ " إلا أن يفحشن " دون لفظ " عليكم " وعندي أنهما ذكرا الآية بالمعنى فظن السامع أنهما رويا ذلك قراءة فعنيا لفظ القرآن. وعن الحسن وغيره أنها الزنا. ويجوز أن يراد بها ما هو أعم من الأمرين. والمعنى لا تعضلوهن في حال من الأحوال أو في زمن من الأزمان إلا الحال أو الزمن الذي يأتين فيه بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة فإذا نشزن عن طاعتكم بالمعروف المشروع ولم ينفع معهن التأديب الذي سيذكر في آية أخرى من هذه السورة وساءت عشرتهن لذلك أو تبين ارتكابهن للزنا أو السحاق فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره إذ لا يكلفكم الله أن تخسروا عليهن ما لكم في هذه الحالة التي يجيء فيها الفحش من جانبهن كما في الآية الأخرى :( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) [ البقرة : ٢٢٩ ] وقد أشرنا إليها آنفا.
الأستاذ الإمام : روي عن بعض مفسري السلف أن الفاحشة هنا هي الزنا وعن بعضهم أنها النشوز وعن بعضهم أنها الفحش بالقول. والصواب عدم تعيينها وتخصيصها بأحد هذه الأمور بل تبقى على إطلاقها فتصدق بالسرقة أيضا فإنها من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس ولكن يعتبر فيها هذا الوصف المنصوص وهو أن تكون مبينة أي ظاهرة فاضحة لصاحبها وإنما اشترط هذا القيد لئلا يظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة واللمم، أو بمجرد سوء الظن والتهم، فمن الرجال الغيور السيء الظن يؤاخذ المرأة بالهفوة فيعدها فاحشة. وقد حرم الله المضارة لأجل أن يأخذ الرجل منها بعض ما كان آتاها من صداق أو غيره فعلم منه أن المضارة لأخذ جميع ذلك أو أكثر منه حرام بالأولى. وإنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بالفاحشة المبينة لأن المرأة قد تكره الرجل وتميل إلى غيره، فتؤذيه بفحش من القول والفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان آتاها وتتزوج آخر تتمتع معه بمال الأول وربما فعلت معه بعد ذلك كما فعلت بالأول. وإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هن أهنهم بارتكاب الفاحشة المبينة فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل الكسب.
( وعاشروهن بالمعروف ) أي يجب عليكم أيها المؤمنون أن تحسنوا عشرة نسائكم بأن تكون مصاحبتكم ومخالطتكم لهن بالمعروف الذي تعرفه وتألفه طباعهن ولا يستنكر شرعا ولا عرفا ولا مروءة. فالتضييق في النفقة والإيذاء بالقول أو الفعل وكثرة عبوس الوجه وتقطبيه عند اللقاء كل ذلك ينافي العشرة بالمعروف. وفي المعاشرة معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك. وروي عن بعض السلف أنه يدخل في ذلك أن يتزين الرجل للمرأة بما يليق به من الزينة لأنها تتزين له، والغرض أن يكون كل منهما مدعاة سرور الآخر وسبب هنائه في معيشته، وقد فسر المعروف بعضهم بالنصفة في القسم والنفقة والإجمال في القول والفعل، وفسره بعضهم تفسيرا سلبيا فقال هو أن لا يسيء إليها ولا يضرها، وكل منهما ضعيف. وجعل الأستاذ الإمام المدار في المعروف على ما تعرفه المرأة ولا تستنكره وما يليق به وبها بحسب طبقتهما في الناس وقد أشرنا إلى ذلك. وأدخل فيه بعضهم وجوب الخادمة لها إن كانت ممن لا يخدمن أنفسهن وكان الزوج قادرا على أجرة الخادمة. وقلما يقصر المسلمون فيما يجب للنساء من النفقة بل هم أكثر أهل الملل إنفاقا على النساء وأقلهم إرهاقا لهن بالخدمة ولكنهم قصروا في أمور أخرى : قصروا في إعداد البنات للزوجية الصالحة بما يجب من التربية الاجتماعية الاقتصادية الصحية والتعليم المغذي لهذه التربية فعسى أن يرجعوا عن قريب.
( فإن كرهتموهن ) لعيب في الخلق مما لا يعد ذنبا لهن لأن أمره ليس في أيديهن، أو التقصير في العمل الواجب عليهن في خدمة البيت والقيام بشؤونه مما لا يخلو عن مثله النساء وكذا الرجال في أعمالهم أو الميل منكم إلى غيرهن فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن لأجل ذلك :( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) فهذا الرجاء علة لما دل عليه السياق من جزاء الشرط. ومن الخير الكثير بل أهمه وأعلاه الأولاد النجباء فرب امرأة يملها زوجها ويكرهها ثم يجيئه منها من تقربه عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك، وقد شاهدنا وشاهد الناس كثيرا من هذا وناهيك به ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) :
نعم الإله على العباد كثيرة واجلهن نجابة الأولاد
ومنها أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته فتكون أعظم أسباب هنائه في انتظام معيشته وحسن خدمته لا سيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز، فكثيرا ما يكره الرجل امرأته لبطره بصحته وغناه واعتقاده أنه قادر على أن يتمتع بخير منها وأجمل، فلا يلبث أن يسلب ما أبطره من النعمة ويكون له منها إذا صبر عليها في أيام البطر، خير سلوى وعون في أيام المرض أو العوز، فيجب على الرجل الذي يكره زو
( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) أي إن أردتم استبدال زوج جديدة ترغبون فيها مكان زوج سابقة ترغبون عنها لكراهتكم لها وعدم طاقتكم الصبر على معاشرتها بالمعروف وهي لم تأت بفاحشة مبينة وقد آتيتم من قبل إحداهن قنطارا من المال أي مالا كثيرا سواء أخذنه وحزنه في أيديهن أو التزمتموه لهن فصار دينا في ذمتكم فلا تأخذوا منه شيئا بل يجب أن يكون كله لصاحبته لأنكم إنما تستبدلون غيرها بها لأجل هواكم وتمتعكم بغير ذنب شرعي منها يبيح لكم أخذ شيء منه، كأن تكون هي الطالبة لفراقكم المسيئة إليكم لأجل حملكم على طلاقها. فإذا لم تفعل شيئا يبيح لكم ذلك فبأي وجه تستحلون أخذ شيء من مالها ؟
( أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) استفهام إنكار وتوبيخ أي أتأخذون ذلك الشيء باهتين إياها كاذبين عليها بنسبة الفاحشة إليها ! ؟ فالبهتان هو الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويسكته متحيرا يقال بهته فبهت أي افترى عليه هذا النوع من الافتراء فأدهشه وأسكته متحيرا. والإثم الحرام. قال الأستاذ الإمام : إن ذكر إرادة الاستبدال مبني على الغالب في مثل هذه الحالة وليس شرطا لعدم حل أخذ شيء من مال المرأة فإذا طلقها وهو لا يريد تزوج غيرها وإنما كره عشرتها أو اختار الوحدة وعدم التقيد بالنساء أو غير ذلك فإنه لا يحل له أخذ شيء من مالها كما يعلم من اشتراط الإتيان بفاحشة مبينة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد استدل بعض الناس بالآيتين( ٢٠-٢١ ) على منع الخلع- وهو بضم الخاء- طلاق المرأة على عوض تبذله للرجل كأن تترك له ما كانت أخذت منه من صداق وغيره ولذلك قالوا إن ما هنا ناسخ لآية البقرة :( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) [ البقرة : ١٢٩ ] وزعم آخرون أن تلك ناسخة لهذه وليس عند أحد الفريقين دليل على أن ما جعله ناسخا هو المتأخر، وإنما أعياهم الجمع بين الحكمين فحكموا بنسخ أحدهما بالآخر، وآية النسخ التنافي، ولا تنافي بين ما هنا وما في سورة البقرة كما علم من التفسير الذي شرحنا آنفا. وقد صرح المحققون بعدم النسخ في الموضعين وقالوا إن المحرم هنا هو أخذ شيء من مال المرأة بغير طيب نفس منها والمباح هناك ما افتدت به نفسها برضاها لتعذر الاتفاق بينها وبين زوجها.
واستدل بعضهم بذكر القنطار هنا على جواز التغالي في المهور والآية ليست نصا في جواز القنطار مهرا لجواز أن يكون إيتاء القنطار بوجوه متعددة كالهدايا والمنح ولكن روى سعيد بن منصور وأبو يعلى بسند جيد عن مسروق أن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) نهى على المنبر أن يزاد في الصداق على أربع مئة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت الله يقول :( وآتيتم إحداهن قنطارا ) فقال " اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ! " ثم رجع فركب المنبر فقال " إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربع مئة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب " وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عند عبد الرزاق وابن المنذر أنه قال : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. وفي الموفقيات للزبير بن بكار عن عبد الله بن مصعب قال : قال عمر " لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ( أي من الفضة ) فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة ما ذاك لك، قال ولم ؟ قالت لأن الله يقول :( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ ". ونقول نعم إن الشريعة لم تحدد مقدار الصداق للمرأة بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر فيعطي كل بحسب حاله، ولكن ورد في السنة الإرشاد إلى اليسر في ذلك وعده التغالي فيه، ومنه حديث " أن من خير النساء أيسرهن صداقا " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وحديث " أن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها " ١ رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة. وفي معناهما حديثها عند هؤلاء " أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا " كذا رأيته في بعض كتب التفسير وهو في الجامع الصغير بلفظ " أيسرهن مؤنة "
هذا وإن التغالي في المهور قد صار من أسباب قلة الزواج لأنه يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به، وقلة الزواج تفضي إلى كثرة الزنا والفساد ويكون الغبن في ذلك على النساء أكثر، حتى إنه ربما ينتهي بالسنة الإلهية في الخلق المعبر عنها برد الفعل إلى أن يصير النساء في الإسلام هن اللواتي يعطين المهور للرجال ليتزوجوهن كما هي عادة النصارى. وإنك لترى هذه العادة الضارة متمكنة في بعض الناس تمكنا غريبا حتى إن أحدهم ليمتنع من تزويج ابنته للكفء الصالح الذي لا يطمع في مثله إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بمقامه من الصداق وقد يزوجها لمن لا يرضيه دينه ولا خلقه ولا يرجو لها الهناء عنده إذا هو أعطاه المقدار الكثير الذي يخيل إليه جهله أنه لائق بمقامه، وهكذا تتحكم العادات الضارة والتقاليد الفاسدة بالناس حتى يفسد عليهم نظام معيشتهم، وهم لجهلهم أو ضعف عزائمهم ينقادون لها صاغرين !.

( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) إنكار آخر لأخذ شيء من مال المرأة مع إيحاشها بالطلاق والرغبة عنها أكد به الإنكار الأول مبالغة في التنفير أو الاستفهام للتعجب من حال من تمتع بامرأته وعاملها معاملة الأزواج وهي أشد صلة حيوية بين البشر ثم رغب عنها وأراد فراقها من غير أن تتوسل إلى ذلك أو تلجئه إليه بارتكاب الفاحشة المبينة أو عدم إقامة حدود الله، ولم يتأثم مع ذلك من أكل شيء من مالها الذي كان آتاها حال الإقبال عليها والرغبة فيها. يقول كيف تأخذون ذلك الشيء من مالهن والحال أنكم قد أفضيتم إليهن أي خلصتم ووصلتم إليهن ذلك الخلوص الخاص بالزوجين الذي يتحقق به معنى الزوجية تمام التحقق فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما حقيقة واحدة، ولأجله يعبر بها عن كل منهما باللفظ المفرد الدال على التثنية " زوج " وبه يتكون منهما الولد الذي هو واحد نسبته إلى كل منهما واحدة ؟ أبعد هذا الإفضاء والملابسة يصح أن يكون الواصل الباذل هو القاطع للصلة العظيمة طامعا في مال الآخر المظلوم ولسان الحق يقول :
وبتنا وما بيني وبينك ثالث كزوج حمام أو كغصنين هكذا
فمن بعد هذا الوصل والود كله أكان جميلا منك تهجر هكذا
وقال بعض الفقهاء إن المراد بالإفضاء هنا الخلوة الصحيحة ؛ وإن لم تحصل فيها الملامسة المقصودة، وهم إنما يفسرون بما يوافق قواعدهم وإن لم يتفق مع الأسلوب العربي البليغ فالجملة من باب الكناية وإنما تكون فيما لا يحسن التصريح به. ويؤيده تعدية الإفضاء بإلى الدال على منتهى الاتصال. وهذا من حسن نزاهة القرآن في التعبير وأدبه العالي في الخطاب ومن الدقة فيه ما ذكره الأستاذ الإمام من نكتة التعبير بقوله " بعضكم إلى بعض " أي مع كون الظاهر ان يقول وقد أفضيتم إليهن أو أفضى أحدكم إلى الآخر وهي إشارة إلى كون كل واحد من الزوجين بمنزلة جزء الآخر وبعضه المتمم لوجوده فكأن بعض الحقيقة كان منفصلا عن بعضها الآخر فوصل إليه بهذا الإفضاء واتحد به.
ثم قال :( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) أي عهدا شديدا موثقا يربطكم بهن أقوى الربط وأحكمه. وقد روي عن قتادة وغيره أن هذا الميثاق هو ما أخذه الله للنساء على الرجال بقوله :( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) [ البقرة : ٢٢٩ ] قال وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان. وعن مجاهد أنه كلمة النكاح أي صيغة العقد التي حلت به المرأة للرجل وقال بعضهم : هو ما أمر الله تعالى به الرجال من معاشرتهن بالمعروف كما في الآية التي قبل هذه.
وقال الأستاذ الإمام : إن هذا الميثاق الذي أخذه النساء من الرجال لا بد أن يكون مناسبا لمعنى الإفضاء في كون كل منهما من شؤون الفطرة السليمة وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة :( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم : ٢١ ] فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمد عليه المرأة في ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والرضا بالاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء، فمن آيات الله تعالى في هذا الإنسان أن تقبل المرأة بالانفصال من أهلها ذوي الغيرة عليها لأجل الاتصال بالغريب تكون زوجا له ويكون زوجا لها تسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة والرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى، فكأنه يقول : إن المرأة لا تقدم على الزوجية وترضى بأن تترك جميع أنصارها وأحبائها لأجل زوجها إلا وهي واثقة بأن تكون صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدها وإحكاما. وإنما يفقه هذا المعنى الإنسان الذي يحس إحساس الإنسانية، فليتأمل تلك الحالة التي ينشئها الله تعالى بين الرجل وامرأته يجد أن المرأة أضعف من الرجل وأنها تقبل عليه وتسلم نفسها إليه مع علمها بأنه قادر على هضم حقوقها فعلى أي شيء تعتمد في هذا الإقبال والتسليم ؟ وما هو الضمان الذي تأخذه عليه والميثاق الذي تواثقه به ؟ ماذا يقع في نفس المرأة إذا قيل لها إنك ستكونين زوجا لفلان ؟ إن أول شيء يخطر في بالها عند سماع مثل هذا القول أو التفكر فيه وإن لم تسأل عنه هو أنها ستكون عنده على حال أفضل من حالها عند أبيها وأمها وما ذلك إلا لشيء استقر في فطرتها وراء الشهوة، ذلك الشيء هو عقل إلهي وشعور فطري أودع فيها ميلا إلى صلة مخصوصة لم تعهدها من قبل، وثقة مخصوصة لا تجدها في أحد من الأهل، وحنوا مخصوصا لا تجد له موضعا إلا البعل، فمجموع ذلك هو الميثاق الغليظ الذي أخذته من الرجل بمقتضى نظام الفطرة الذي يوثق به ما لا يوثق بالكلام الموثق بالعهود والإيمان، وبه تعتقد المرأة أنها بالزواج قد أقبلت على سعادة ليس وراءها سعادة في هذه الحياة وإن لم تر من رضيت به زوجا، ولم تسمع له من قبل كلاما، فهذا ما علمنا الله تعالى إياه وذكرنا به- وهو مركوز في أعماق نفوسنا بقوله إن النساء قد أخذن من الرجال بالزواج ميثاقا غليظا، فما هي قيمة من لا يفي بهذا الميثاق وما هي مكانته من الإنسانية ؟ اه بتصرف ما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد استدل بعض الناس بالآيتين( ٢٠-٢١ ) على منع الخلع- وهو بضم الخاء- طلاق المرأة على عوض تبذله للرجل كأن تترك له ما كانت أخذت منه من صداق وغيره ولذلك قالوا إن ما هنا ناسخ لآية البقرة :( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) [ البقرة : ١٢٩ ] وزعم آخرون أن تلك ناسخة لهذه وليس عند أحد الفريقين دليل على أن ما جعله ناسخا هو المتأخر، وإنما أعياهم الجمع بين الحكمين فحكموا بنسخ أحدهما بالآخر، وآية النسخ التنافي، ولا تنافي بين ما هنا وما في سورة البقرة كما علم من التفسير الذي شرحنا آنفا. وقد صرح المحققون بعدم النسخ في الموضعين وقالوا إن المحرم هنا هو أخذ شيء من مال المرأة بغير طيب نفس منها والمباح هناك ما افتدت به نفسها برضاها لتعذر الاتفاق بينها وبين زوجها.
واستدل بعضهم بذكر القنطار هنا على جواز التغالي في المهور والآية ليست نصا في جواز القنطار مهرا لجواز أن يكون إيتاء القنطار بوجوه متعددة كالهدايا والمنح ولكن روى سعيد بن منصور وأبو يعلى بسند جيد عن مسروق أن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) نهى على المنبر أن يزاد في الصداق على أربع مئة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت الله يقول :( وآتيتم إحداهن قنطارا ) فقال " اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ! " ثم رجع فركب المنبر فقال " إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربع مئة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب " وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عند عبد الرزاق وابن المنذر أنه قال : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. وفي الموفقيات للزبير بن بكار عن عبد الله بن مصعب قال : قال عمر " لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ( أي من الفضة ) فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة ما ذاك لك، قال ولم ؟ قالت لأن الله يقول :( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ ". ونقول نعم إن الشريعة لم تحدد مقدار الصداق للمرأة بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر فيعطي كل بحسب حاله، ولكن ورد في السنة الإرشاد إلى اليسر في ذلك وعده التغالي فيه، ومنه حديث " أن من خير النساء أيسرهن صداقا " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وحديث " أن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها " ١ رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة. وفي معناهما حديثها عند هؤلاء " أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا " كذا رأيته في بعض كتب التفسير وهو في الجامع الصغير بلفظ " أيسرهن مؤنة "
هذا وإن التغالي في المهور قد صار من أسباب قلة الزواج لأنه يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به، وقلة الزواج تفضي إلى كثرة الزنا والفساد ويكون الغبن في ذلك على النساء أكثر، حتى إنه ربما ينتهي بالسنة الإلهية في الخلق المعبر عنها برد الفعل إلى أن يصير النساء في الإسلام هن اللواتي يعطين المهور للرجال ليتزوجوهن كما هي عادة النصارى. وإنك لترى هذه العادة الضارة متمكنة في بعض الناس تمكنا غريبا حتى إن أحدهم ليمتنع من تزويج ابنته للكفء الصالح الذي لا يطمع في مثله إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بمقامه من الصداق وقد يزوجها لمن لا يرضيه دينه ولا خلقه ولا يرجو لها الهناء عنده إذا هو أعطاه المقدار الكثير الذي يخيل إليه جهله أنه لائق بمقامه، وهكذا تتحكم العادات الضارة والتقاليد الفاسدة بالناس حتى يفسد عليهم نظام معيشتهم، وهم لجهلهم أو ضعف عزائمهم ينقادون لها صاغرين !.

( ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعناكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ).
الكلام متصل بعضه ببعض في الأحكام المتعلقة بالنساء، وقد كان منها في أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد ما يحل من النساء بشرطه. وفي الآية التي قبل هاتين الآيتين ذكر استبدال زوج مكان زوج بأن يطلق هذه وينكح تلك، فلا غرو أن يصل ذلك ببيان ما يحرم نكاحه منهن، وقد بين ما يجب من المعروف في معاشرتهن.
وقال البقاعي في نظم الدرر : لما كرر الإذن في نكاحهن وما تضمنه منطوقا ومفهوما وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء وكان الطيب شرعا ليحمل على الحل مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك. وما يحرم فقال :( ولا تنكحوا ما نكح آ باؤكم من النساء ).
أقول : قدم هذا النكاح على غيره وجعله في آية خاصة ولم يسرده مع سائر المحرمات في الآية الأخرى لأنه على قبحه كان فاشيا في الجاهلية، ولذلك ذمه بمثل ما ذم به الزنا للتنفير عنه كما ترى في آخر الآية. أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه أو ينكحها من شاء فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته أم عبيد بنت ضمرة ولم ينفق عليها ولم يورث من المال شيئا فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له فقال :" ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا " فنزلت :( ولا تنكحوا ) الآية. ونزلت أيضا :( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) أي نزلت هذه الآيات عقب وقوع هذه الحادثة وأمثالها وتقدم ذكر القصة بلفظ آخر عند تفسير الآية الأولى وما هي ببعيد. وقال الواحدي وغيره ممن تكلم في أسباب النزول : إنها نزلت في محصن المذكور وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب وفي منظور بن رياب تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.
والنكاح هو الزواج قد تقدم في تفسير :( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : ٢٣٠ ] أن النكاح له إطلاقان يطلق على عقد الزوجية وعلى ما وراء العقد وما يقصد به، أي على مجموعهما وهو المراد هناك. وقد صرح الفقهاء بأنه يطلق على العقد وعلى الوطء، واختلفوا في أي الإطلاقين هو الحقيقي وأيهما المجازي. والظاهر أنه لا يطلق شرعا على الوطء من غير عقد وإنما كمال معناه الشرعي العقد وما وراءه كما قلنا، وقد يطلق على العقد وحده، قال الأستاذ الإمام : وهو الذي تمكن معرفته وتبنى عليه الأحكام في الغالب بخلاف ما قاله الحنفية من أن حقيقته الوطء. ويؤيد ما اختاره الأستاذ تفسير ابن عباس ( رضي الله عنه ) النكاح هنا بالعقد. فقد روى ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال :" كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام " وروي ذلك عن الحسن وعطاء بن أبي رباح والمراد من الآباء ما يشمل الجدود بالإجماع.
وقوله تعالى :( إلا ما قد سلف ) معناه لكن ما سلف من ذلك لا تؤاخذون عليه وقال بعضهم معناه إلا ما قد مات منهن، ورووه عن أبي كعب وقالوا إن المراد به المبالغة في تأكيد التحريم. وقطع عرق هذه الفاحشة وسد باب إباحتها سدا محكما وهو ليس بظاهر عندي ( إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) أي إن نكاح حلائل الآباء كان ولا يزال في الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وأيدتها الشريعة التي هداهم إليها، أمرا فاحشا شديد القبح عند من يعقل ومقتا أي ممقوتا مقتا شديدا عند ذوي الطباع السليمة حتى كأنه نفس المقت وهو البغض الشديد أو بغض الاحتقار والاشمئزاز، وكانوا يسمون هذا النكاح في الجاهلية نكاح المقت وسمي الولد منه مقتيا ومقيتا أي مبغوضا محتقرا ( وساء سبيلا ) أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح الذي اعتادته الجاهلية وبئس من يسلكه.
وقال الأستاذ الإمام : إن هذا النكاح وإن كان سبيلا مسلوكا إلا أنه سبيل سيء ولم يزده السير فيه إلا قبحا ومقتا. وقال الإمام الرازي " مراتب القبح ثلاث : القبح العقلي والقبح الشرعي والقبح العادي وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك فقوله سبحانه :( فاحشة ) إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي وقوله تعالى :( ومقتا ) إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي وقوله :( وساء سبيلا ) إشارة إلى مرتبة قبحه العادي ".
أقول : والظاهر أن الأخير يُراد به القبح العادي أي إنه عادة ولكنها قبيحة وما قبله يُراد به القبح الطبعي أي إن الطباع تمقت هذه لاستقباحها إياه والأول كما قال الرازي يراد به القبح العقلي كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير العبارات. وفاته هو ذكر القبح الطبعي. وأما ما في ذلك من القبح الشرعي فإنما يعرف بورود الوحي بتحريمه فهو مرتبة رابعة. فالله تعالى قد حرم نكاح حلائل الآباء وعلله بما فيه من هذه القبائح الثلاث.
هذا ما جرى عليه الجمهور في تفسير الآية وقال بعضهم إن ( ما ) في قوله :( ما نكح آباؤكم من النساء ) مصدرية أي لا تنكحوا النساء أيها المؤمنون كما كان ينكح أباؤكم في الجاهلية بتلك الطرق الفاسدة كالنكاح بدون شهود ونكاح الشغار وهو المبادلة في الزواج بأن يزوج الرجل من له الولاية عليها رجلا آخر على أن يزوجه هذا موليته ولا مهر لواحدة منهما بل كل منهما تكون كمهر للأخرى.
وعبارة ابن جرير بعد نقل الروايات في تفسير الجمهور للآية ونقل قول ابن زيد أن المراد بذلك الزنا هذا نصها :" قال أبو جعفر وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله أن يكون معناه ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم فمضى في الجاهلية فإنه كان فاحشة " الخ.
ثم قال : فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل هذا التأويل وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم إنما قالوا نزلت هذه الآية في النهي عن نكاح حلائل الآباء، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟ قيل له : وإنما قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل إذ كانت ( ما ) في كلام العرب لغير بني آدم وإنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الآباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ابتداء مثله في الإسلام بنهي الله جل ثناؤه لقيل ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب إذ كان ( من ) لبني آدم و( ما ) لغيرهم ولا تقل ( أي حينئذ ) ( ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء ) فإنه يدخل في ( ما ) ما كان من مناكح آبائهم التي كانا يتناكحونها في جاهليتهم. فحرم عليهم في الإسلام في هذه الآية ما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم. ومعنى ( إلا ما قد سلف ) إلا ما قد مضى. الخ ما قال.
( ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعناكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ).
الكلام متصل بعضه ببعض في الأحكام المتعلقة بالنساء، وقد كان منها في أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد ما يحل من النساء بشرطه. وفي الآية التي قبل هاتين الآيتين ذكر استبدال زوج مكان زوج بأن يطلق هذه وينكح تلك، فلا غرو أن يصل ذلك ببيان ما يحرم نكاحه منهن، وقد بين ما يجب من المعروف في معاشرتهن.
ثم بين لنا سبحانه أنواع المحرمات في النكاح لعلة ثابتة تنافي ما في النكاح من الحكمة في صلة البشر بعضهم ببعض أو لعلة عارضة كذلك. وهذه الأنواع داخلة في عدة أقسام :
القسم الأول : ما يحرم من جهة النسب
وهو أنواع :
النوع الأول : نكاح الأصول، وذلك قوله تعالى :( حرمت عليكم أمهاتكم ) أي حرم الله تعالى عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم، فإسناد الفعل إلى المفعول مع العلم بأن الله تعالى هو المحرم للإيجاز، والمراد أنه حكم الآن بتحريم ذلك ومنعه فهو إنشاء حكم جديد. وأمهاتنا هن اللواتي لهن صفة الولادة من أصولنا- ولفظ الأم يطلق على الأصل الذي ينسب إليه غيره كأم الكتاب وأم القرى- فيدخل فيهن الجدات، وكذلك فهمه جميع العلماء وأجمعوا عليه.
النوع الثاني : نكاح الفروع، وذلك قوله سبحانه :( وبناتكم ) وهن اللواتي ولدن لنا من أصلابنا، وإن شئت قلت من تلقيحنا، أو ولدن لأولادنا أو لأولاد أولادنا وإن سفلوا، فيدخل في ذلك كل من كنا سببا في ولادتهن وأصولا لهن. وهل يشترط أن تكون ولادة البنت بعقد شرعي صحيح ؟ قال الشافعية نعم وقال غيرهم لا، فيحرم على الرجل بنته من الزنا وهذا هو الظاهر المتبادر في حق من علم أنها ابنته وإن كانت لا ترثه إلا إذا استلحقها لأن الإرث حق تابع لثبوت النسب وإنما يثبت النسب بالفراش أو الاستلحاق وولد الزنا ليس ولد فراش فلا نسب له.
ولا إرث ما لم يستلحق إذ لا يمكن إثبات نسبه بالبينة والدليل على اعتبار الحقيقة في ذلك إذا عرفت هو إجماع الأمة على أن ولد الزانية يلحقها ويرثها للعلم بأنها أمه. ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه أباح أن ينكح الرجل بنته من الزنا. والظاهر أنه يجب على الرجل استلحاق ولده من الزنا مع العلم بأنه ولده بأن يكون زنى بامرأة ليست بذات فراش في طهر لم يلامسها فيه رجل قط وبقيت محبوسة عن الرجال حتى ظهر حملها. ومما يدل على حرمة البنت من الزنا حرمة البنت من الرضاعة بل تحريم بنت الزنا أولى.
هذا وإن الفساق لا يبالون أين يضيعون نطفهم ولا أين يضعون نسلهم فمنهم من يزني بذات الفراش فيضيع ولده ويلحق بصاحب الفراش من ليس من صلبه فتكون له جميع حقوق الأولاد عنده عملا بالقاعدة الشرعية المعقولة في بناء الأحكام على الظاهر وهي " الولد للفراش " ١. ومنهم من يفسق بمن لا فراش لها فيحملها على قتل حملها عند وضعه أو على إلقائه حيث يرجى أن يلتقطه من يربيه في بيته ليجعله خادما كالرقيق، أو في بيت من البيوت التي تربى فيها اللقطاء في بعض المدن ذات الحضارة العصرية، ولا يبالي الفاسق أخرج ولده شقيا أم سعيدا مؤمنا أم كافرا ! ! فلعن الله الزناة ما أعظم شرهم في جماعة البشر ولعن الله الزواني ما أكثر شرهن وأعظم بهتانهن، فإن الواحدة منهم لتحمل ما لا يحمله من يفجر بها من العناء والشقاء وتوبيخ الضمير، فهو يسفح ماء لا يدري ما يكون وراءه وهي التي تعلق بها المصيبة، فتعاني من أثقال حملها ما تعاني ثم تلقي حملها على فراش زوجها ولا يمكنها أن تنسى طول الحياة أنها ألقت بين يديها ورجليها بهتانا افترته عليه وأعطته من حقوق عشيرته ما ليس له، أو تلقيه إلى يد غيرها وقلبها معلق به قلق عليه لا يسكن له اضطراب إلا أن يسلبها الفسق أفضل عاطفة وشعور تتحلى بهما المرأة، ومنهن من تستعمل الأدوية المانعة من الحمل فتضر نفسها وربما أفسدت رحمها.
النوع الثالث : الحواشي القريبة وذلك قوله عز وجل :( وأخواتكم ) سواء كن شقيقات لكم أو كن من الأم وحدها أو الأب وحده.
النوع الرابع : الحواشي البعيدة من جهة الأب. والنوع الخامس : الحواشي البعيدة من جهة الأم. وذلك قوله تبارك اسمه :( وعماتكم وخالاتكم ) ويدخل في ذلك أولاد الأجداد وإن علوا وأولاد الجدات وإن علون وعمة جده وخالته وعمة جدته وخالتها للأبوين أو لأحدهما إذ المراد بالعمات والخالات الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخؤولة.
والنوع السادس : الحواشي البعيدة من جهة الإخوة وهو قوله تعالى :( وبنات الأخ وبنات الأخت ) أي من جهة أحد الأبوين أو كليهما وسيأتي بيان الحكمة في ذلك كله في تفسير الآية التالية.
القسم الثاني : ما حرم من جهة الرضاع
وهو أنواع كالنسب، بيَّنها تعالى بقوله :( وأمهاتكم التي أرضعناكم وأخواتكم من الرضاعة ) فسمى المرضعة أما للرضيع وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاعة كجهة النسب تأتي فيها الأنواع التي جاءت في النسب كلها. وقد فهم ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لما أريد على ابنة عمه حمزة أي أن يتزوجها " إنها لا تحل لي. إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " ٢ رواه الشيخان من حديث الولادة " ٣ وفي صحيحيهما أيضا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لها :" ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك " ٤ وكانت امرأته أرضعت عائشة. وعلى هذا جرى جماهير المسلمين جيلا بعد جيل، فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه أي الرضيع، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت أحدهما جارية ( أي بنتا ) والأخرى غلاما أيحل للغلام أن يتزوج الجارية :" قال لا ! اللقاح واحد " ٥ رواه البخاري في صحيحه. ولولا هذه الأحاديث لما فهمنا من الآية إلا أن التحريم خاص بالمرضعة وينتشر في أصولها وفروعها لتسميتها أما وتسمية بنتها أختا، ولا يلزم من ذلك أن يكون زوجها أبا من كل وجه بأن تحرم جميع فروعه من غير المرضعة على ذلك الرضيع كما أن تسمية أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمهات المؤمنين لا يترتب عليه جميع الأحكام المتعلقة بالأمهات فالتسمية يراعى فيها الاعتبار الذي وضعت لأجله، ومن رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءا منها لأنه تكون من لبنها فصارت في هذه كأمه التي ولدته وصار أولادها إخوة له لأن لتكوين أبدانهم أصلا واحدا هو ذلك اللبن، وهذا المعنى لا يظهر في أولاد زوجها من امرأة أخرى إلا من بعد، بأن يقال إن هذا الرجل الذي كان بلقاحه سببا لتكون اللبن في المرأتين قد صار أصلا لأولادهما إذ في كل واحد منهما جزء من لقاحه تناوله مع اللبن فاشتركا في سبب اللبن أو في هذا الجزء من اللبن الذي تكون بعض بدنهما منه فكانا أخوين لا يحل أحدهما للآخر إذا كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، ولهذا المعنى قلنا فيما سبق إن حرمة الرضاعة تدل على حرمة بنت الزنا على والدها بالأولى.
وقد روي عن بعض الصحابة والتابعين عدم التحريم من جهة زوج المرضعة دونها. فقد صح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمة زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام. قالت زينب وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول : أقبلي علي فحدثيني، أرى أنه أبي وما ولد منهم فهم إخوتي، ثم إن عبد الله بن الزبير أرسل إليّ يخطب أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير وكان حمزة للكلبية فقلت لرسوله وهل تحل له، وإنما هي ابنة أخته. ؟ فقال عبد الله : إنما أردت بهذا المنع من قبلك أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك وما كان غيرها فليسوا لك بإخوة فأرسلي فاسألي عن هذا فأرسلت فسألت وأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متوفرون فقالوا لها : إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا. فانكحها إياه فلم تزل عنده حتى هلك عنها، قالوا ولم ينكر ذلك الصحابة رضي الله عنهم. وروي القول بهذا أي بأن الرضاعة من جهة المرأة لا من جهة الرجل عن الزبير وعن الصحابة وعن بعض علماء التابعين منهم سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمان وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبو قلابة فالمسألة لم تكن إجماعية. وقد حمل الجمهور قول المخالفين في ذلك على عدم وصول السنة الصحيحة إليهم فيه أو على تأويل ما وصل إليهم لقيام ما يعارض حمله على ظاهره عندهم، ويقال على الأول إن من حفظ حجة على من لم يحفظ وعلى الثاني أنه اجتهاد منهم عارضته عندنا النصوص الظاهرة ومتى ثبتت السنة الصحيحة امتنع العدول عنها لاجتهاد المجتهدين. وهذا ما جرى عليه علماء الإسلام في هذه المسألة وغيرها، فقد روي عن الأعمش أنه قال كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس، أي فأخذوا به ورجعوا عن رأيهم الأول.
فالذي جرى عليه العمل هو أن المرضعة أم لمن رضع منها وجميع أولادها إخوة له وإن تعددت آباؤهم وأصولها أصول له، فتحرم عليه أمها كما تحرم بنتها، وإخوتها خؤولة له فتحرم عليه أخواتها. وأن زوج هذه المرضعة أب للرضيع أصوله أصول له وفروعه فروع له واخوته عمومة له فيحرم عليه أن يتزوج أمه كما يحرم عليه أن يتزوج أية بنت من بناته سواء كن من مرضعته أو غيرها، فإن أولاده من المرضعة إخوة أشقاء للرضيع ومن غيرها إخوة لأب، كما أن أولادها هي من زوج آخر غير صاحب لقاح اللبن الذي رضع منه الرضيع إخوة لأم. ويحرم عليه أن يتزوج أحدا من بنات هؤلاء الإخوة أو الأخوات من الرضاعة. وكذلك تحرم عليه عماته من الرضاعة وهن إخوة أبيه بالرضاعة، فالسبع المحرمات بالنسب- وقد ذكرن بالتفصيل- محرمات بالرضاعة أيضا. وأما إخوة الرضيع وأخواته فلا يحرم عليهم أحد ممن حرم عليه، لأنهم لم يرضعوا مثله فلم يدخل في تكوين بنيتهم شيء من المادة التي دخلت في بنيته، فيباح للأخ أن يتزوج من أرضعت أخاه أو أمها أو ابنتها ويُباح للأخت أن تتزوج صاحب اللبن الذي رضع منه أخواها أو أختها أو أباه وابنه مثلا.
ومما يجب التنبه له أن الناس قد غلب عليهم التساهل في أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يعنون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب، فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدري.
وظاهر الآية أن التحريم يثبت بما يسمى إرضاعا في عرف أهل هذه اللغة، قل أو كثر، ولكن ورد في الحديث المرفوع " لا تحرم المصة والمصتان " ٦ وفي رواية " لا تحرم الإملاجة والإملاجتان " ٧- والإملاجة المرة من أملجته ثديها إذا جعلته يملجه أي يمصه- والحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة، وروي عنها أيضا أنها قالت : كان فيما نزل من القرآن " عشر رضعات معلومات يحرمن " ٨ ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهي فيما يقرأ من القرآن، وقد اختلف علماء السلف والخلف في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى الأخذ بظاهر الآية من التحريم بقليل الرضاعة ككثيرها، ويروى هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي الثوري وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد.
وذهب آخرون إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ويروى هذا عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاوس وهو إحدى ثلاث روايات عن عائشة وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وابن حزم. وذهب فريق ثالث إلى قول بين القولين وهو أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :" لا تحرم المصة والمصتان " ٩ فانحصر التحريم فيما زاد علي
١ - روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في البيوع باب ٣، ١٠٠ والخصومات باب ٦، والوصايا باب٤، والمغازي باب ٥٣، والفرائض باب ١٨، ٢٨، والحدود باب ٢٣، والأحكام باب ٢٩، ومسلم في الرضاع حديث ٣٦، ٣٧، وأبو داود في الطلاق باب ٣٤، والترمذي في الرضاع باب ٨، والوصايا باب ٥، والنسائي في الطلاق باب ٤٨، ٤٩، ٨٤، وابن ماجه في النكاح باب ٥٩، والوصايا باب ٦، والدارمي في النكاح باب ٤١، والفرائض باب ٤٥، ومالك في الأقضية حديث ٢٠، وأحمد في المسند ١/٢٥، ٥٩، ٦٥، ٦٩، ١٠٤، ٢/١٧٩، ٢٠٧، ٢٣٩، ٢٨٠ـ ٣٨٦، ٤٠٩، ٤٦٦، ٤٧٥، ٤٩٢- ٤/١٨٦، ١٨٧، ٢٣٨، ٢٣٩،- ٥/٢٦٧، ٣٢٦،- ٦/٣٧، ١٢٩، ٢٠٠، ٢٢٦، ٢٣٧..
٢ - روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الشهادات باب ٧، والنكاح باب ٢٠، ٢٧، ١١٧ والخمس باب ٤، ومسلم في الرضاع حديث ١، ٢، ٩، ١٢، وأبو داود في النكاح باب ٦، وابن ماجه في النكاح باب ٣٤، والدارمي في النكاح باب ٤٨، ومالك في الرضاع حديث ١، ٢، ١٦، وأحمد في المسند ١/٢٧٥، ٢٩٠، ٣٢٩- ٤/٤، ٥-٦/٤٤، ٥١، ٦٦، ٧٢، ١٠٢، ١٧٨..
٣ - أخرجه البخاري في الشهادات باب ٧، والنكاح باب ٢٠، ومسلم في الرضاع حديث ١، والنسائي في النكاح باب ٥٢، ومالك في الرضاع حديث ١، وأحمد في المسند ٦/ ١٧٨..
٤ - أخرجه البخاري في النكاح باب ١١٧، وابن ماجه في النكاح باب ٣٨، ومالك في الرضاع حديث ٢، ٣..
٥ - أخرجه الترمذي في الرضاع باب٢، ومالك في الرضاع حديث ٥.
.

٦ - أخرجه مسلم في الرضاع حديث ١٧، ٢٠، ٢٣، وأبو داود في النكاح باب ١٠، والترمذي في الرضاع باب٣، والنكاح باب ٥١، وابن ماجه في النكاح باب ٣٥، والدارمي في النكاح باب ٤٩، وأحمد في المسند ٤/٤، ٥ -٦/٣١، ٩٦، ٢١٦، ٢٤٧، ٣٤٠..
٧ - أخرجه مسلم في الرضاع حديث ١٨، ٢، والنسائي في النكاح باب ٥١، والدارمي في النكاح باب ٤٩، وأحمد في المسند ٦/٣٣٩، ٣٤٠..
٨ - أخرجه مسلم في الرضاع حديث ١٨..
٩ - تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل..
في هاتين الآيتين بيان بقية ما يحرم من نكاح النساء وحل ما عداه وحكم نكاح الإماء، وما فصلناهما عما قبلهما إلا لأن من قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا جعلوهما في أول الجزء الخامس وقد راعوا في هذا التقسيم المقادير من اللفظ دون المعنى وكان المناسب للمعنى أن يجعلوا أول الجزء الخامس قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ كما هو ظاهر.
فقوله تعالى :﴿ والمحصنات من النساء ﴾ عطف على ما قبله من المحرمات أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء أن تنكحوهم. والمحصنات جمع محصنة بفتح الصاد اسم مفعول من " أحصن " عند جميع القراء وروي عن الكسائي كسرها في غير هذا الموضع فقط وقيل لا يصح الفتح عنه. والإحصان من الحصن وهو المكان المنيع المحمي ففيه معنى المنع الشديد ويقال حصن المرأة ( بضم الصاد ) حصنا وحصانة أي عفت فهي حاصن وحاصنة وحصان وحصناء ( بالفتح فيهما ) قال الشاعر :
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تَزَنُّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل١
ويقال أحصنت المرأة إذا تزوجت لأنها تكون في حصن الرجل وحمايته ويقال أحصنها أهلها إذا زوجوها. ومن شأن المتزوجة أن تحصن نفسها فتكتفي بزوجها عن التطلع إلى الرجال لأجل حاجة الطبيعة وتحصن زوجها عن التطلع إلى غيرها من النساء فعلى المرأة المعول في الإحصان حتى قيل إن لفظ المحصنة ( بفتح الصاد ) اسم فاعل نطقت به العرب على خلاف عادتها فقد روي عن ابن الأعرابي أنه قال " كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف :" أحصن، وألفج إذا ذهب ماله، وأسهب إذا كثر كلامه " وروي مثله عن الأزهري. وعن ثعلب أن المرأة العفيفة يقال لها محصنة ( بفتح الصاد ) ومحصنة ( بكسرها ) وأما المرأة المتزوجة فيقال لها محصنة بالفتح لا غيره وجماهير السلف والخلف منهم أئمة الفقه المشهورون على أن المراد بالمحصنات ههنا المتزوجات وقيل هن الحرائر وقيل عام في الحرائر والعفائف والمتزوجات. وقد يقال هن الحرائر المتزوجات وسيأتي عن الأستاذ الإمام ما يرجحه. ولماذا قال " من النساء " وصيغة الجمع مغنية عن هذا القيد ؟ قال بعضهم النكتة في ذلك تأكيد العموم ولم ير قوله كافيا وافيا وصرح بعضهم بغموض النكتة في ذلك.
قال الأستاذ الإمام : قد استشكل ذلك المفسرون حتى روي عن مجاهد أنه قال : لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل، أي لسافر إليه وإن بعد مكانه. وعندي أن هذا القيد يكاد يكون بديهيا فإن لفظ المحصنات قد يراد به العفيفات أو المسلمات فلو لم يقل ههنا " من النساء " لتوهم أن المحصنات إنما يحرم نكاحهن إذا كن مسلمات فأفاد هذا القيد العموم والإطلاق أي إن عقد الزوجية محترم مطلقا لا فرق فيه بين المؤمنات والكافرات والحرائر والمملوكات فيحرم تزوج أية امرأة في عصمة رجل وحصنه.
وأما قوله تعالى :﴿ إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ فالجمهور على أنه استثناء من المحصنات أي إلا ما سبيتم منهن في حرب دينية تدافعون فيها عن حقيقتكم، أو تؤمنون بها دعوة دينكم، ورأيتم من المصلحة أن لا تعاد السبايا إلى أزواجهن الكفار في دار الحرب فعند ذلك ينحل عقد زوجيتهن ويكن حلالا لكم بالشروط المعروفة في الشريعة فقد روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) أنه كان سبب نزول هذه الآية تحرج الصحابة من الاستمتاع بسبايا ( أوطاس ) وأخرج الحديث أيضا أحمد وأصحاب السنن وفي هذه الروايات التصريح باشتراط الاستبراء بوضع الحامل لحملها، وحيض غيرها ثم طهرها، وقد صرح بعض العلماء كالحنفية وبعض الحنابلة بأن من سبي معها زوجها لا تحل لغيره فاعتبروا في الحل اختلاف الدار دار الإسلام ودار الحرب. وبعضهم يقول إن اختلاف الدار لا دخل له في حل السبايا وإنما سببه أن من سبيت دون زوجها فإنها إنما تحل للسابي بعد استبراء رحمها للشك في حياة زوجها أي وعدم الطمع في لحوقه بها إن فرض أنه بقي حيا إلا على سبيل الندور الذي لا حكم له. وهذا ينطبق على الحكمة العامة في حل الاستمتاع بالمملوكات وهي أنه لما كان الشأن الغالب أن يقتل بعض أزواجهن ويفر بعضهم الآخر حتى لا يعود إلى بلاد المسلمين وكان من الواجب على المسلمين كفالة هؤلاء السبايا بالإنفاق عليهن ومنعهن من الفسق كان من المصلحة لهن وللهيئة الاجتماعية أن يكون لكل واحدة منهن أو أكثر كافل يكفيها هم الرزق وبذل العرض لكل طالب ولا يخفى ما في هذا الأخير من الشقاء على النساء.
فإن قيل أليس الخير لهن أن يرجعن إلى بلادهن فمن كان زوجها حيا عادت إليه ومن كان زوجها مفقودا تزوجت غيره أو كان شر فسقها على قومها ؟ نقول إن الإسلام ما فرض السبي ولا أوجبه ولا حرمه أيضا لأنه قد يكون فيه المصلحة حتى للسبايا أنفسهن في بعض الأوقات والأحوال ومنها أن تستأصل الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد مثلا. فإن رأى المسلمون أن الخير والمصلحة في بعض الأحوال أن ترد السبايا إلى قومهن جاز لهم ذلك أو وجب عملا بقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد. وكل هذا إذا كانت الحرب دينية كما قيدنا فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملوك فلا يباح فيها السبي. وقد نبه على ذلك الأستاذ الإمام وهذه عبارته في تفسير الآية :
والمحصنات المتزوجات وما ملكت الأيمان بالسبي في حرب دينية وأزواجهن كفار في دار الحرب ينفسخ نكاحهن ويحل الاستمتاع بهن بعد الاستبراء. فإذا قيل إن ما ملكت الأيمان يشمل المملوكة المتزوجة في دار الإسلام وهي محرمة على سيدها أن يفترشها بالإجماع ! فالجواب أن العموم هنا مخصوص بالمسبيات وسكت عن المملوكات المتزوجات لأن التزوج بالمملوكات خلاف الأصل وهو مكروه في الشرع والذوق والعقل فهو كالتنبيه إلى أنه لا ينبغي أن يكون ولذلك شدد فيه كما يأتي ويزاد على هذا أنه أمر لم يكن معروفا عند التنزيل اه.
أقول : والذي تبادر إلى فهمي أن المراد بملكت أيمانكم هنا نشوء الملك وحدوثه على الزوجية لأن الفعل الماضي في مقام التشريع لا يراد به الإخبار وإنما يراد به الإنشاء فالمعنى وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات إلا من طرأ عليهن الملك وإنما يطرأ الملك على المتزوجة بالسبي بشرطه الذي أشرنا إليه وأما المملوكة التي زوجها سيدها فالزواج فيها هو الذي طرأ على الملك بجعل المالك ماله من حق الاستمتاع للزوج. فإذا أخرجها المالك الذي زوجها من ملكه بنحو بيع أو هبة كان بائعا أو واهبا ما يملكه وهو ما عدا الاستمتاع الذي صار حق الزوج. وروي عن بعض الصحابة ومنهم ابن مسعود أن المالك الجديد يبطل نكاحها فتطلق على زوجها وتحل لمالكها الجديد عملا بعموم الآية. ويقال إن عليه جمهور الإمامية ولولا ما اختاره الأستاذ الإمام من عدم الاعتداد بزواج الأمة حتى كأنه غير موجود وما بيناه من كون البائع أو الواهب إنما باع أو وهب ما يملك لكان هذا القول أرجح من مذهب جمهور أهل السنة إلا من قال إن المحصنات هنا يعم ذوات الأزواج والعفيفات والحرائر، وملك اليمين يعم ملك الاستمتاع بالنكاح والاستمتاع بالتسري، والمعنى حينئذ : وحرمت عليكم كل أجنبية إلا بعقد النكاح وهو ملك الاستمتاع أو بملك العين الذي يتبعه حل الاستمتاع. وروي هذا عن سعيد بن جبير وعطاء والسدي من مفسري التابعين وفقهائهم وعن بعض الصحابة أيضا واختاره مالك في الموطأ وفيه من التكلف ما ترى وأما إذا كانت الأمة المتزوجة كافرة وسباها المسلمون بالشروط المتقدمة فبطلان نكاحها بالسبي أولى من بطلان نكاح الحرة به.
ثم قال تعالى :﴿ كتاب الله عليكم ﴾ أي كتب الله عليكم تحريم هذه الأنواع من النساء كتابا مؤكدا أي فرضه فرضا ثابتا محكما لا هوادة فيه لأن مصلحتكم فيه ثابتة لا تتغير وسيأتي بيان ذلك في تفسير قوله تعالى :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ [ النساء : ٢٦ ].
﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿ وأحل ﴾ بضم الهمزة بالبناء للمفعول وهو المناسب في المقابلة لقوله :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ فيكون معطوفا عليه كما قال الزمخشري، وقرأه الباقون بفتح الهمزة على البناء للفاعل فجعله الزمخشري معطوفا على " كتب " المقدرة الناصبة لقوله ﴿ كتاب الله ﴾ ترجيحا لجانب اللفظ ولا مانع من عطفه على ﴿ حرمت ﴾ ومن المعلوم بالبداهة أن المحرم هناك هو المحلل هنا وهو الله عز وجل. والمراد بما وراء ذلكم المبين تحريمه هو ما لا يتناوله بلفظه ولا فحواه، فهو لكونه لا يدخل فيه بنص ظاهر، ولا قياس واضح، جعل وراءه خارجا عن محيط مدلوله وإفادته، فالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ليس وراءه كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير ﴿ وأن تجمعوا بين الأختين ﴾ وكذلك كون محرمات الرضاع سبعا كمحرمات النسب.
الأستاذ الإمام : ذكر فيما مر أكثر المحرمات من النساء وبقي من المحرمات بالرضاعة غير الأمهات والأخوات من المحرمات بالنسب ومثل الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وقد قال إنه أحل لنا ما وراء ذلك فربما يقال أنه يدخل فيه ما ذكر آنفا ونحوه من المحرم إجماعا أو بنصوص أخرى كالمطلقة ثلاثا والمشركة والمرتدة ! والجواب أن بعض ما ذكر يؤخذ مما تقدم فإن الله تعالى قد ذكر من كل صنف من المحرمات بعضه فدخل في الأمهات الجدات وفي البنات بنات الأولاد الخ وبعضها يؤخذ من آيات أخرى كتحريم المشركات والمطلقة ثلاثا على مطلقها في سورة البقرة. وقد يقال إن ما ذكر هنا من المحرمات مجمل بينته السنة والسر في النص على ما ذكر أنه كان واقعا شائعا في الجاهلية فهو يعلمنا بالنص على الواقع أن لا نتعرض إلا للأمور الوجودية وإن الأمور المفروضة والمتخيلة لا ينبغي الالتفات لها ولا الاشتغال بها.
وأقول : إن هذا القول ينظر إلى ما تقدم عن ابن جرير في تفسير ﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ﴾ [ النساء : ٢٢ ] فيكون ما بعد هذه الآية من التفصيل بيانا لها في التحريم والتحليل فلا يدخل فيه ما حرم لسبب آخر كتحريم المشركة. وسواء كان ما ذكر شائعا في الجاهلية أم لا فقد بين الله تعالى لنا ههنا جميع ما يحرم علينا من أنواع القرابة والرضاعة والصهر وهو ما نحتاج إليه لذاته في كل زمان ومكان ولما قال بعد ذلك ﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ فهم منه أنه يحل من هذه الأنواع كل ما لا يتناوله لفظ المحرمات بنص أو دلالة كبنات العم والخال وبنات العمة والخالة الخ ولا يدخل في عمومه حل ما حرم في نصوص أخرى لسبب عارض يزول بزواله كنكاح المشركة والزانية والمرتدة. مثال ذلك أن تقول للمتعلم عند ما تقرأ له كتاب الطهارة لا تلبس ثوبا متنجسا ثم تقول له عند قراءة كتاب اللباس لا تلبس الحرير ولا المنسوج بالذهب أو الفضة والبس كل ما عداهما من الثياب فلا حرج عليك فيها. فهل تدخل في عموم هذا القول الثوب المتنجس ؟ لا لا. إن اللفظ العام يتناول كل ما يسمح له السياق والمقام أن يتناوله فإذا كان السياق في نوع له جنس أو أجناس بعضها أعلى من بعض فلا يفهم أحد من أهل اللغة خروج العام عن سياق النوع وتناوله جميع أفراد الجنس السافل أو العالي لذلك النوع فإذا قال صاحب البستان للفعلة الذين يقطعون الأشجار غير المثمرة لتكون خشبا لا تقطعوا الشجر الصغير واقطعوا كل ما عداه من الأشجار الكبيرة فإنهم يفهمون إن مراده من الكلية أفراد ذلك النوع من الشجر الكبير لا جنس الشجر الكبير الذي يعم المثمر. ومثل الثياب الذي أوردناه آنفا أشبه بما نحن فيه.
وقوله تعالى :﴿ أن تبتغوا بأموالكم ﴾ معناه أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه أي تطلبوه بأموالكم أو المعنى أحله لكم أن تبتغوه أي أحل لكم طلبه بأموالكم تدفعونها مهرا للزوجة قيل أو ثمنا للأمة وهو يقتضي أنه يجب قصد إحصان الأمة كما يجب قصد إحصان الزوجة لقوله :﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ فإن الحال قيد للعامل وحذف مفعول محصنين ليفيد العموم أي محصنين أنفسك
١ البيت من الطويل، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص٢٢٨، والإنصاف٢/٧٥٩، ولسان العرب(حصن)، وتاج العروس(حصن)، (رزن)، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص٢٨٩، ولسان العرب(غرث).
.

في هاتين الآيتين بيان بقية ما يحرم من نكاح النساء وحل ما عداه وحكم نكاح الإماء، وما فصلناهما عما قبلهما إلا لأن من قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا جعلوهما في أول الجزء الخامس وقد راعوا في هذا التقسيم المقادير من اللفظ دون المعنى وكان المناسب للمعنى أن يجعلوا أول الجزء الخامس قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ كما هو ظاهر.
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ الاستطاعة أن يكون الشيء في طوعك لا يتعاصى على قدرتك وهو أوسع من الإطاقة، والطول الغنى والفضل من المال والحال أو القدرة على تحصيل المطالب والرغائب، والمحصنات فسرت هنا بالحرائر خاصة بدليل مقابلتها بالفتيات وهن الإماء والحرية كانت عندهم داعية الإحصان والبغاء شأن الإماء قالت هند للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو تزني الحرة ؟ وفي التعبير عنهن بهذا اللقب إرشاد إلى تكرمهن فإن الفتاة تطلق على الشابة وعلى الكريمة السخية كأنه يقول لا تعبروا عن عبيدكم وإمائكم بالألفاظ الدالة على الملك بل بلفظ الفتى والفتاة المشعر بالتكريم، ومن هنا أخذ مبلغ القرآن ومبينه صلى الله عليه وآله وسلم قوله ( لا يقولن أحدكم عبدي أمتي ولا يقل المملوك ربي ليقل المالك فتاي وفتاتي وليقل المملوك سيدي وسيدتي فإنكم المملوكون والرب هو الله عز وجل ) ١ رواه الشيخان وفيه إيماء أيضا إلى زيادة تكريم الأرقاء إذا كبروا في السن بتقليل الخدمة عليهم أو إسقاطها عنهم.
والمعنى ومن لم يستطع منكم طولا في المال أو الحال لنكاح المحصنات أو من لم يستطع استطاعة طول أو من جهة الطول نكاح المحصنات اللواتي أحل لكم أن تبتغوا نكاحهن بأموالكم وأمرتم أن تقصدوا بالاستمتاع والانتفاع بنكاحهن الإحصان لهن ولأنفسكم فلينكح امرأة من نوع ما ملكتم من فتياتكم أي إمائكم المؤمنات. وهذا يؤيد ما قررناه تبعا لجمهور السلف والخلف من كون الاستمتاع في الآية السابقة هو النكاح الثابت، لا المتعة التي هي استئجار عارض، وتقدم أن الاستمتاع الانتفاع ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) للرجل الذي شكا من امرأته ولم تسمح نفسه بطلاقها ( فاستمتع بها ) ٢ رواه أبو داود والنسائي، ولو كانت تلك الآية تجيز المتعة بالحرائر لما كان لوصل هذه الآية بها فائدة وأي امرئ لا يستطيع المتعة لعدم طول حتى يتزوج الأمة فيجعل بها نسله مملوكا لمولاها ؟ فإن قيل إنه ربما لا يستطيعها لعدم رغبة النساء فيها لأنها من العار.
قلنا : إن صح هذا من عدم استطاعة الطول فهو لا يفيد هذا القائل لأن سبب عد المتعة عارا في الغالب هو تحريمها ومن لا يحرمها كالشيعة فإنما يبيحونها في الغالب اعتقادا وجدلا، لا استحسانا وعملا، فكأنها محرمة عليهم بالفعل لغلبة شعور سائر المسلمين واعتقادهم في ذلك عليهم، ولا شك أن عار الزنا المطلق أشد عندهم وعند سائر الناس عن عار المتعة وقلما يتركه أحد لعدم استطاعة الطول وإنما يتركه من يتركه تدينا في الغالب وخوفا من الأمراض التي تنشأ منه عند بعض الناس. ومن قدر على الزنا كان على المتعة أقدر. ومن الغفلة أن تقيد الأحكام بعادات بعض الناس وأحوالهم الاجتماعية لتوهم أن كل الناس كذلك في كل زمن حتى زمن التشريع.
الأستاذ الإمام : فسروا الطّول هنا بالمال الذي يدفع مهرا وهو تحكم ضيقوا به معنى الكلمة وهي من مادة الطول بالضم فمعناها الفضل والزيادة، والفضل يختلف باختلاف الأشخاص والطبقات وقد قدر بعضهم ( كالحنفية ) المهر بدراهم معدودة فقال بعضهم ربع دينار وقال بعضهم عشرة دراهم وليس في الكتاب ولا في السنة ما يؤيده بل ورد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمريد الزواج ( التمس ولو خاتما من حديد ) ٣ ( رواه البخاري بلفظ تزوج ولو بخاتم من حديد٤ وهو في الصحيحين والسنن ) وروي أن بعضهم تزوج بتعليم الزوجة شيئا من القرآن مهرا ( والحديث في الصحيحين والسنن وهو الذي أمره النبي بالتماس خاتم الحديد ) وتزوج بعضهم بنعلين ( وأجازه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ٥ صححه الترمذي ) ولم يقيد السلف المهر بقدر معين.
وتفسير الطول بالغنى لا يلائم تحديد المحددين فإنه لا يكاد أحد يجد أمة يرضى أن يزوجها سيدها بأقل من ربع دينار أو عشرة دراهم أو نعلين. وفسره أبو حنيفة أو قال بعض الحنفية بأن يكون عنده حرة يستمتع بنكاحها بالفعل، أي ومن لم يكن منكم متزوجا امرأة حرة مؤمنة فله أن يتزوج أمة. فحاصله عدم الجمع بين الحرة والأمة. ( قال ) : والطول أوسع من كل ما قالوه وهو الفضل والسعة المعنوية والمادية فقد يعجز الرجل عن التزوج بحرة وهو ذو مال يقدر به على المهر المعتاد لنفور النساء منه، لعيب في خلقه أو خلقه، وقد يعجز عن القيام بغير المهر من حقوق المرأة الحرة، فإن لها حقوقا كثيرة في النفقة والمساواة وغير ذلك وليس للأمة مثل تلك الحقوق كلها، ففقد استطاعة الطول له صور كثيرة. والمؤمنات ليس بقيد في الحرائر ولا في الإماء أيضا وإن قيل به، وإنما لبيان الواقع، فإنه كان نهاهم عن نكاح المشركات في سورة البقرة وهن أولئك الوثنيات اللواتي لا كتاب لقومهن وسكت عن نكاح الكتابيات، والنهي عن نكاح المشركات لا يشملهن ( كما تقدم في تفسير سورة البقرة ج٢ تفسير ) فكان الزواج محصورا في المؤمنات فذكره لأنه الواقع، أي ولأنهم لم يكونوا معرضين لنكاح الكتابيات ثم صرح بحل زواجهن في سورة المائدة وهي قد نزلت بعد سورة النساء بلا خلاف. وفي الوصف بالمؤمنة إرشاد إلى ترجيحها على الكتابية عند التعارض.
أقول : في هذا أحسن تخريج وتوجيه لما عليه الحنفية وهم يبنونه على عدم الاحتجاج بمفهوم الشرط ومفهوم اللقب وإلا فظاهر الشرط أن من قدر على نكاح الحرة المؤمنة لا يحل له أن ينكح الأمة المؤمنة بله غير المؤمنة. وظاهر وصف الفتيات بالمؤمنات أنه لا يحل نكاح الأمة غير المؤمنة. وقد أحل الله في سورة المائدة نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب وهن الحرائر في قول مجاهد وغير واحد من مفسري السلف وقال غيرهم هن العفائف وعلى هذا تكون آية المائدة دليلا عن أن الوصف هنا لا مفهوم له أو ناسخة لمفهومه أو مخصصة لعمومه إن قلنا أنه عام وسيأتي أنه خاص. وعندي أن مفهوم الصفة تارة يكون مرادا وتارة لا يكون مرادا فإذا قلت وزع هذا المال أو نسخ هذا الكتاب على طلاب العلم الفقراء. تعين أن يوزع على الأغنياء منهم شيء منه. لأن الصفة مقصودة لمعنى فيها كان هو سبب العطاء وإذا قلت وزع هذه الدراهم على الخدم الواقفين بالباب جاز أن يعطي منها للواقف منهم والقاعد لأن الصفة ههنا ذكرت لبيان الواقع المعتاد لا لمعنى في الوقوف يقتضي العطاء. فبالقرآن تعرف الصفة التي يراد مفهومها والصفة التي لا يراد مفهومها.
و قد يقال إن من القرينة على اعتبار مفهوم الوصف بالمؤمنات هنا أنه لم يكن عندهم في مقابلته إلا المشركات وهن محرمات بنص آية البقرة فلولا القيد هنا لتوهم نسخ ذلك التحريم، ولم يذكر مثل هذا القيد في قوله تعالى :﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ ففهم منها أن المسببات المشركات حلال فاستمتعوا بهن يوم أوطاس فالمفهوم هنا خاص بالمشركات والصواب أن المشركات المحرمات في آية البقرة هن مشركات العرب كما رواه ابن جرير عن بعض مفسري السلف فحرم نكاحهن حتى يؤمن لأن للإسلام سياسة خاصة بالعرب وهي عدم إقرارهم على الشرك ليكونوا كلهم مسلمين. وأما أهل الكتاب فإنه يقرهم على دينهم ويرضى من الداخلين في ذمة المسلمين منهم أن يؤدوا الجزية ولذلك أجاز للمسلمين في موادتهم أن يؤاكلوهم ويتزوجوا منهم وكذلك أقر المجوس على دينهم ومن كان مثلهم فله حكمهم كالبراهمة والبوذيين والله أعلم وأحكم.
ويدل على اعتبار مفهوم الصفة أيضا قوله تعالى :﴿ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ﴾ فهو يبين أن الإيماء قد رفع شأن الفتيات المؤمنات وساوى بينهن وبين الأحرار والحرائر في الدين وهو أعلم بحقيقة هذا الإيمان ودرجات قوته وكماله فرب أمة أكمل إيمانا من حرة فتكون أفضل منها عند الله تعالى أي فلا يصح مع هذا أن تعدو نكاح الأمة عارا عند الحاجة إليه فأنتم أيها المؤمنون إخوة في الإيمان بعضكم من بعض كما قال تعالى :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ﴾ [ آل عمران : ١٩٥ ] وقال :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] وقال في غيرهم :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ [ التوبة : ٦٨ ] الخ وقيل بعضكم من بعض في النسب وهو ضعيف كما ترى فالإيمان هو المراد إذ لا ينبغي للمؤمن أن ينكح من اجتمع فيها نقص الشرك ونقص الرق.
﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن ﴾ أي فإذا رغبتم في نكاحهن لما رفع الإيمان من شأنهن فانكوهن بإذن أهلهن. قالوا إن المراد بالأهل هنا الموالي المالكون لهن. وقال بعض الفقهاء المراد من لهم ولاية التزويج ولو من غير المالكين فالأب أو الجد أو القاضي أو الوصي تزويج أمة اليتيم وفي هذه المسائل تفصيل وخلاف في الفقه والمراد هنا أن الأمة كالحرة في تزويج أوليائها لها وعدم تزويجها لنفسها بل هي أولى من الحرة في الحاجة إلى إذن أوليائها. والظاهر أنه لا بد بعد رضا المولى بتزويجها من تولى وليها في النسب للعقد إن كان وإلا فالمولى أو القاضي يتولى ذلك.
﴿ وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ أي وأعطوهن مهورهن التي تفرضونها لهن فالمهر حق للزوجة على الزوج وإن كانت أمة فهو لها لا لمولاها وبذلك قال مالك وخالفه أكثر الفقهاء وأولوا الآية بأن المراد وآتوا أهلهن أجورهن على حذف مضاف أو بأن قيد بإذن أهلهن معتبر هنا وذلك أن هذا المهر عندهن هو حق المولى لأنه بدل عن حقه بالاستمتاع. ومن يقول إن المهر لها لا ينكر أن الرقيق لا يملك لنفسه، وكون ملكه لسيده وإنما يرى أن المهر هو حق الزوجة تصلح به شأنها ويكون تطييبا لنفسها في مقابلة رياسة الزوج عليها فإن شاء سيد الأمة التي يزوجها أن يأخذه منها بحق الملك فعل، وإن شاء أن يتركه لها تصلح به شأنها فهو الأفضل والأكمل، ويمكن أن يقال أيضا إذا عرف من الشرع أن الله تعالى جعل للرقيق أن يملك لنفسه شيئا معينا كملك الأمة المتزوجة لمهرها فمن يستطيع أن يمنع ذلك برأيه أو قواعد فقهه ؟ والمولى مخير مع خضوعه لحكم ربه إن شاء أن يزوج أمته بل فتاته بغير عوض مالي مكتفيا بما قرره له الفقهاء من امتلاك ذريتها وإن شاء طلب من الزوج عوضا ماليا وهذا هو الذي أعتقده. وقوله تعالى بالمعروف جعله بعضهم متعلقا بإيتاء الأجور وبعضهم بقوله فانكحوهن أي وما عطف عليه والمراد المعروف بينكم في حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل، وقال الأستاذ الإمام إيتاء الأجور بالمعروف معناه بالمتعارف بين الناس ولم يقل هنا كما قال في الحرائر " فريضة " لأن المؤنة فيه أخف والأمر أهون والتساهل في أجور الإماء معهود بين الناس. ولا إشكال في إعطائها المهر مع كونها لا تملك لأن المملوك يقبض وإن كان لا يملك وقد نقل أبو بكر الرازي عن بعض أئمة المالكية أو قال أصحاب مالك أن السيد إذا زوج جاريته فقد جعل للزوج ضربا من الولاية عليها لا يشاركه هو فيه فما تأخذه من الزوج يكون في مقابلة ما أسقط السيد حقه منه فلا يكون له حظ منه بل يكون لها وحدها وهذا هو الصحيح.
وقوله تعالى :﴿ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ﴾ قيد لقوله فانكحوهن أو لقوله وآتوهن أجورهن وعلى الأول يكون المراد بالمحصنات العفائف وعلى الثاني يكون معناه المتزوجات أي أعطوهن أجورهن حال كونهن متزوجات منكم لا مستأجرات للبغاء جهرا وهن المسافحات، ولا سرا وهن متخذات الأخدان فالخدن هو الصاحب يطلق على الذكر وال
١ أخرجه البخاري في العتق باب ١٧، ومسلم في الألفاظ حديث١٥، ١٣، وأبو داود في الأدب باب ٧٥، وأحمد في المسند ٢/٥٠٨، ٤٩١، ٤٨٤، ٤٦٣، ٤٢٣، ٣١٦..
٢ أخرجه أبو داود في النكاح باب٣، والنسائي في النكاح باب١٢، والطلاق باب٣٤..
٣ أخرجه البخاري في النكاح باب٤٠، ٣٢، وأبو داود في النكاح باب٣٠، والترمذي في النكاح باب٢٣، والنسائي في النكاح باب٦٩، وأحمد في المسند٥/٣٣٦..
٤ أخرجه البخاري في النكاح باب٥١..
٥ الحديث:"أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين"، أخرجه الترمذي في النكاح باب٢٢، وابن ماجة في النكاح باب١٧، وأحمد في المسند٣/٤٤٦، ٤٤٥..
مضت سنة القرآن الحكيم بأن يعلل الأحكام الشرعية ويبين حكمها بعد بيانها، وفي هذه الآيات تعليل بيان لما تقدم من أحكام النكاح.
قال الأستاذ الإمام : قوله تعالى :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ الخ استئناف بياني، كأن قائلا يقول : ماهي حكمة هذه الأحكام وفائدتها لنا ؟ وهل كلف الله تعالى أمم الأنبياء السابقين إياها أو مثلها فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة ؟ وهل كان ما أمرنا به ونهانا عنه تشديدا علينا أم تخفيفا عنا ؟ ؟ فجاءت الآيات مبينة أجوبة هذه الأسئلة التي من شأنها أن تخطر بالبال بعد العلم بتلك الأحكام. وقوله :﴿ ليبين ﴾ معناه أن يبين فاللام ناصبة بمعنى أن المصدرية كما قال الكوفيون، ومثله ﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ﴾ [ التوبة : ٣٢ ] أقول ويجعل البصريون متعلق الإرادة محذوفا واللام للتعليل أو العاقبة، أي يريد الله ذلك التحريم والتحليل لأجل أن يبين لكم به ما فيه مصلحتكم وقوام فطرتكم. ولهم في هذه اللام أقوال أخرى.
وقد حذف مفعول " ليبين " لتتوجه العقول السليمة، إلى استخراجه من ثنايا الفطرة القويمة، وقد أشار الأستاذ الإمام إلى بعض الحكم في تحريم تلك المحرمات عقب سردها ورأينا أن نؤخر ذكرها فنجعله في هذا الموضع ليكون بيانا لما وجهت إليه النفوس هنا بحذف المفعول، وإنما كتبنا عنه في مذكرتنا بيان عاطفة الأب السائقة إلى تربية ولده وهي تذكير بغيرها من مراتب صلات القرابة وإننا نذكر ما يتعلق بهذا المقام بالإيجاز، ومحل الإسهاب فيه كتب الأخلاق.
إن الله تعالى جعل بين الناس ضروبا من الصلة يتراحمون بينها ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة وصلة الصهر، ولكل واحدة من هاتين الصلتين درجات متفاوتة، فأما صلة القرابة فأقواها ما يكون بين الأولاد والوالدين من العاطفة والأريحية، فمن اكتنه السر في عطف الأب على ولده يجد في نفسه داعية فطرية تدفعه إلى العناية بتربيته إلى أن يكون رجلا مثله، فهو ينظر إليه كنظره إلى بعض أعضائه، ويعتمد عليه في مستقبل أيامه، ويجد في نفس الولد شعورا بأن أباه كان منشأ وجوده وممد حياته، وقوام تأديبه وعنوان شرفه، وبهذا الشعور يحترم الابن أباه، وبتلك الرحمة والأريحية يعطف الأب على ابنه ويساعده.
هذا ما قاله الأستاذ. ولا يخفى على إنسان أن عاطفة الأم الوالدية أقوى من عاطفة الأب، ورحمتها أشد من رحمته، وحنانها أرسخ من حنانه، لأنها أرق قلبا وأدق شعورا، وأن الولد يتكون جنينا من دمها الذي هو قوام حياتها، ثم يكون طفلا يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصة من ثديها، عاطفة جديدة يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحدا في الدنيا قبل أمه، ثم إنه يحب أباه ولكن دون حبه لأمه، وإن كان يحترمه أشد مما يحترمها، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب استمتاع الشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة ؟ بلى، ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية ويليه تحريم البنات، ولولا ما عهد في الإنسان من الجناية على الفطرة والعبث بها والإفساد فيها لكان لسليم الفطرة أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات، لأن فطرته تشعر بأن النزوع إلى ذلك من قبيل المستحيلات.
وأما الإخوة والأخوات فالصلة بينهما تشبه الصلة بين الوالدين والأولاد من حيث أنهم كأعضاء الجسم الواحد فإن الأخ والأخت من أصل واحد يستويان في النسبة إليه من غير تفاوت بينهما ثم إنهما ينشآن في حجر واحد على طريقة واحدة في الغالب، وعاطفة الأخوة بينهما متكافئة ليست أقوى في أحدهما منها في الآخر كقوة عاطفة الأمومة والأبوة على عاطفة البنوة فلهذه الأسباب يكون أنس أحدهما بالآخر أنس مساواة لا يضاهيه أنس آخر إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة، وعواطف الود والثقة المتبادلة، ويحكى أن امرأة شفعت عند الحجاج في زوجها وابنها وأخيها وكان يريد قتلهم فشفعها في واحد مبهم منهم وأمرها أن تختار من يبقى فاختارت أخاها فسألها عن سبب ذلك فقالت إن الأخ لا عوض عنه وقد مات الوالدان وأما الزوج والولد فيمكن الاعتياض عنهما بمثلهما. فأعجبه هذا الجواب وعفا عن الثلاثة وقال لو اختارت الزوج لما أبقيت لها أحدا. وجملة القول إن صلة الأخوة صلة فطرية قوية وإن الإخوة والأخوات لا يشتهي بعضهم التمتع ببعض لأن عاطفة الأخوة تكون هي المستولية على النفس بحيث لا يبقى لسواها معها موضع ما سلمت الفطرة فقضت حكمة الشريعة بتحريم نكاح الأخت حتى لا يكون لمعتلي الفطرة منفذ استبدال داعية الشهوة بعاطفة الأخوة.
وأما العمات والخالات فهن من طينة الأب والأم وفي الحديث " عم الرجل صنو أبيه " ١ أي هما كالصنوان يخرجان من أصل النخلة وتقدم هذا في تفسير ﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] فعدوا إسماعيل من آبائه لأنه أخ لإسحاق فكأنه هو. ولهذا المعنى الذي كانت به صلة العمومة من صلة الأبوة وصلة الخؤولة من صلة الأمومة قالوا إن تحريم الجدات مندرج في تحريم الأمهات وداخل فيه فكان من محاسن دين الفطرة المحافظة على عاطفة صلة العمومة والخؤولة والتراحم والتعاون بها وأن لا تنزو الشهوة عليها وذلك بتحريم نكاح العمات والخالات.
وأما بنات الأخ وبنات الأخت فهما من الإنسان بمنزلة بناته من حيث إن أخاه وأخته كنفسه وصاحب الفطرة السليمة يجد لهما هذه العاطفة من نفسه وكذا صاحب الفطرة السقيمة إلا أن عاطفة هذا تكون كفطرته في سقمها، نعم إن عطف الرجل على بنته يكون أقوى لكونها بضعة منه نمت وترعرعت بعنايته ورعايته، وأنسه بأخيه وأخته يكون أقوى من أنسه ببناتهما لما تقدم. وأما الفرق بين العمات والخالات، وبين بنات الإخوة والأخوات، فهو أن الحب لهؤلاء حب عطف وحنان، والحب لأولئك حب تكريم واحترام، فهما من حيث البعد عن مواقع الشهوة متكافئان، وإنما قدم في النظم الكريم ذكر العمات والخالات، لأن الإدلاء بهما من الآباء والأمهات، فصلتهما أشرف وأعلى من صلة الإخوة والأخوات.
هذه هي أنواع القرابة القريبة التي يتراحم الناس بها ويتعاطفون، ويتوادون ويتعاونون، بما جعل الله لها في النفوس من الحب والحنان، والعطف والاحترام، فحرم الله فيها النكاح لأجل أن تتوجه عاطفة الزوجية ومحبتها إلى من ضعفت الصلة الطبيعية أو النسبية بينهم كالغرباء والأجانب، والطبقات البعيدة من سلالة الأقارب، كأولاد الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وبذلك تتجدد بين البشر قرابة الصهر، التي تكون في المودة والرحمة كقرابة النسب، فتتسع دائرة المحبة والرحمة بين الناس، فهذه حكمة الشرع الروحية في محرمات القرابة.
ثم أقول : إن هنالك حكمة جسدية حيوية عظيمة جدا وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سببا لضعف النسل فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى٢ فيه إلى أن ينقطع. ولذلك سببان أحدهما وهو الذي أشار إليه الفقهاء أن قوة النسل تكون على قدر قوة داعية التناسل في الزوجين وهي الشهوة وقد قالوا إنها تكون ضعيفة بين الأقارب، وجعلوا ذلك علة لكراهة تزوج بنات العم وبنات العمة الخ وسبب ذلك أن هذه الشهوة شعور في النفس يزاحمه شعور عواطف القرابة المضاد له فإما أن يزيله وإما أن يزلزله ويضعفه كما علم مما بيناه آنفا.
والسبب الثاني يعرفه الأطباء وإنما يظهر للعامة بمثال تقريبي معروف عند الفلاحين وهو أن الأرض التي يتكرر زرع نوع واحد من الحبوب فيها يضعف هذا الزرع فيها مرة بعد أخرى إلى أن ينقطع لقلة المواد التي هي قوام غذائه وكثرة المواد الأخرى التي لا يتغذى منها ومزاحمتها لغذائه أن يخلص له، ولو زرع ذلك الحب في أرض أخرى وزرع في هذه الأرض نوع آخر من الحب لنمى كل منهما. بل ثبت عند الزراع أن اختلاف الصنف من النوع الواحد من أنواع البذار يفيد فإذا زرعوا حنطة في أرض وأخذوا بذرا من غلتها فزرعوه في تلك الأرض يكون نموه ضعيفا وغلته قليلة وإذا أخذوا البذر من حنطة أخرى وزرعوه في تلك الأرض نفسها يكون أنمى وأزكى. كذلك النساء حرث كالأرض يزرع فيهن الولد وطوائف الناس كأنواع البذار وأصنافه فينبغي أن يتزوج أفراد كل عشيرة من أخرى ليزكو الولد وينجب فإن الولد يرث من مزاج أبويه ومادة أجسامهما ويرث من أخلاقهما وصفاتهما الروحية ويباينهما في شيء من ذلك، فالتوارث والتباين سنتان من سنن الخليقة ينبغي أن تأخذ كل واحدة منهما حظها لأجل أن ترتقي السلائل البشرية ويتقارب الناس بعضهم من بعض، ويستمد بعضهم القوة والاستعداد من بعض، والتزوج من الأقربين ينافي ذلك فثبت بما تقدم كله أنه ضار بدنا ونفسا، مناف للفطرة مخل بالروابط الاجتماعية عائق لارتقاء البشر.
وقد ذكر الغزالي في الإحياء أن من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة أن لا تكون من القرابة القريبة، قال فإن الولد يخلق ضاويا أي نحيفا وأورد في ذلك حديثا لا يصح. ولكن روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث أن عمر قال لآل السائب :" اغتربوا لا تضووا " ٣ أي تزوجوا الغرائب لئلا تجيء أولادكم نحافا ضعافا. وعلل الغزالي ذلك بقوله : إن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحساس بالنظر أو اللمس وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد فأما المعهود الذي دام النظر إليه فإنه يضعف الحس عن تمام إدراكه والتأثر به ولا تنبعث به الشهوة. اه. وتعليله لا ينطبق على كل صورة والعمدة ما قلناه.
وأما حكمة التحريم بالرضاعة فقد بيناها في تفسير { وأخواتكم من الرضاعة ويزيده ما قلناه آنفا في حكمة محرمات النسب تبيانا فمن رحمته تعالى بنا أن وسع لنا دائرة القرابة بإلحاق الرضاع بها وقد ذكرنا أن بعض بدن الرضيع يتكون من لبن المرضع وفاتنا أن نذكر هناك أنه بذلك يرث منها كما يرث ولدها الذي ولدته.
وأشرنا أيضا إلى حكمة تحريم محرمات المصاهرة بما ذكرناه في حكمة تحريم الربيبة وهي بنت الزوجة، وأمها أولى بالتحريم لأن زوجة الرجل شقيقة روحه بل مقومة ماهيته الإنسانية ومتممتها فينبغي أن تكون أمها بمنزلة أمه في الاحترام، ويقبح جدا أن تكون ضرة لها فإن لحمة المصاهرة كلحمة النسب فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها وتجددت في نفسه عاطفة مودة جديدة لهم. فهل يجوز أن يكون سببا للتغاير والضرار بين الأم وبنتها ؟ كلا إن ذلك ينافي حكمة المصاهرة والقرابة، ويكون سبب فساد العشيرة، فالموافق للفطرة الذي تقوم به المصلحة، هو أن تكون أم الزوجة كأم الزوج وبنتها التي في حجره، كبنته من صلبه، وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزلة ابنه، يوجه إليها العاطفة التي يجدها لبنته، كما ينزل الابن امرأة أبيه منزلة أمه، وإذا كان من رحمة الله وحكمته أن حرم الجمع بين الأختين وما في معناهما لتكون المصاهرة لحمة مودة، غير مشوبة بسبب من أسباب الضرار والنفرة، فكيف يعقل أن يبيح نكاح من هي أقرب إلى الزوجة كأمها أو بنتها أو زوجة الوالد للولد وزوجة الولد للوالد ؟ وقد بين لنا أن حكمة الزواج هي سكون نفس كل من الزوجين إلى الآخر والمودة والرحمة بينهما وبين من يلتحم معهما بلحمة النسب فقال :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ [ الروم : ٢١ ] فقيد سكون النفس الخاص بالزوجية ول
١ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١١، وأبو داود في الزكاة باب٢٢، والترمذي في المناقب باب٢٨، وأحمد في المسند ١/٩٤، ٢/٣٢٢، ٤/١٦٥..
٢ الضوى: دقة العظم، وقلة الجسم خلقة، أو الهزال، وأضوى: دق، وأضعف، وضوت المرأة: ولدت ضاويا..
٣ رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٣/١٠٦. ***.
مضت سنة القرآن الحكيم بأن يعلل الأحكام الشرعية ويبين حكمها بعد بيانها، وفي هذه الآيات تعليل بيان لما تقدم من أحكام النكاح.
وقوله :﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ﴾ قيل إنه تكرير لأجل التأكد وقيل إن التوبة فيه غير التوبة في الآية السابقة بأن يراد بالأولى القبول وبالثانية العمل الذي يكون سبب القبول، وهو تكليف غير مقبول، والصواب أن التوبة الأولى ذكرت في تعليل أحكام محرمات النكاح فكان معناها أن العمل بتلك الأحكام يكون توبة ورجوعا عما كان قبلها من أنكحتهم الباطلة الضارة وإن الله شرعها لأجل ذلك ثم أسند إرادة التوبة إلى الله تعالى في جملة مستأنفة ليبين لنا أن ذلك ما يريد الله تعالى أن نكون عليه دائما في مستقبل أيامنا بعد الإسلام ويقابله بما يريده منا متبعو الشهوات، كأنه يقول ما جعل إرادة التوبة علة لتلك الأحكام إلا وهو يريد ذلك دائما منكم لتزكو نفوسكم وتطهر قلوبكم وتصلح أحوالكم ﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ﴾ عن صراط الفطرة فتؤثروا داعية الشهوة الحيوانية على كل داعية فلا تبالوا أن تقطعوا لإرضائها وشائج الأرحام، وتزيلوا أواصر القرابة، وتكونوا مثلهم إمامكم المتبع هو الشهوة، وغرضكم من الحياة التمتع باللذة، وقيل المراد بمتبعي الشهوات أهل الكتاب أو اليهود خاصة لأنهم ينكحون بنات الإخوة، وكذا الأخت لأب كما نقل، وقيل المجوس، والمختار ما تقدم من الإطلاق، قال الأستاذ الإمام : ومنهم الذين يقولون بنكاح المتعة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. وعدّ هذه الآيات الثلاث :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ ـ إلى قوله :﴿ ضعيفا ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ]، والرابعة :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ [ النساء : ٣١ ]، والآية الخامسة :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ [ النساء : ٤٠ ]، والآية السادسة :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ﴾ [ النساء : ١١٠ ] الخ، والسابعة :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ [ النساء : ٤٨ ] الخ، والثامنة :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ﴾ [ النساء : ١٥٢ ] الخ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
مضت سنة القرآن الحكيم بأن يعلل الأحكام الشرعية ويبين حكمها بعد بيانها، وفي هذه الآيات تعليل بيان لما تقدم من أحكام النكاح.
ثم قال تعالى :﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ إذ لم يضيق عليكم في أمر النساء، حتى أنه أباح لكم عند الضرورة نكاح الإماء، بل لم يجعل عليكم في الدين من حرج قط، فشريعتكم هي الحنيفية السمحة كما ورد، ﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ لا يقدر على مقاومة الميل إلى النساء ولا يحمل ثقل التضيق عليه في الاستمتاع بهن، فمن رحمته تعالى أنه لم يحرم عليه منهن إلا ما في إباحته مفسدة عظيمة، ومع هذا ترى الزنا يفشو حيث يضعف الدين حتى لا يكاد الناس يثقون بنسلهم، وحتى تكثر الأمراض ويقل النسل، ويستشري الفساد في الأرض، وقد كان الرجال ولا يزالون هم المعتدين في هذا الأمر لقوة شهوتهم، وشدة جرأتهم، فهم يفسدون النساء ويستميلونهن بالمال، ثم يتهمونهن بأنهن المتصديات للإفساد، ويحجر واحدهم على امرأته ويحجبها، ويحتال على إخراج امرأة غيره من خدرها ! ! ! وهو يجهل أن الحيلة التي أفسد بها امرأة غيره، هي التي يفسد بها غيره امرأته، وأنه قلما يفسق رجل إلا ويكون أستاذا لأهل بيته في الفسق، ومن حكم الحديث الشريف :( عفوا تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم ) رواه الطبراني من حديث جابر والديلمي من حديث عليّ بمعناه. على أن في الرجال الفاسقين، والمتفرنجين المارقين، من مردوا على الفسق وصاروا يرونه من العادات الحسنة فخزيت عفتهم، وزالت غيرتهم، فهم يعدون الدياثة ضربا من ضروب الكياسة، فيسلسون القياد لنسائهم، كما يسلسن القياد لهم، وذلك منتهى ما تطيقه الرذيلة من الجهد في إفساد البيوت بتنكيت قوى الرابطة الزوجية، وجعلها وسيلة لما هي في الفطرة والشريعة أشد الموانع دونه، لأنها هي الحصن للمرتبطين بها من فوضى الإبضاع، والحفاظ لما فيه هناء المعيشة من الاختصاص.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. وعدّ هذه الآيات الثلاث :﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ ـ إلى قوله :﴿ ضعيفا ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ]، والرابعة :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ [ النساء : ٣١ ]، والآية الخامسة :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ [ النساء : ٤٠ ]، والآية السادسة :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ﴾ [ النساء : ١١٠ ] الخ، والسابعة :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ [ النساء : ٤٨ ] الخ، والثامنة :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ﴾ [ النساء : ١٥٢ ] الخ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما٢٩ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا٣٠ ﴾.
قال البقاعي في تفسيره ( نظم الدرر ) مبينا وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها من أول السورة إلى هنا : ولما كان غالب ما مضى مبينا على الأموال تارة بالإرث وتارة بالجعل في النكاح حلالا أو حراما قال تعالى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث وبعد أن بين كيفية التصرف في النكاح بالأموال وغيرها حفظا للأنساب، ذاكرا كيفية التصرف في الأموال تطهيرا للأسباب، مخاطبا لأدنى الأسنان في الإيمان، ترفيعا لغيرهم عن مثل هذا الشأن، وذكر الآية.
وقال الأستاذ الإمام : كان الكلام من أول السورة إلى هنا في معاملة اليتامى والأقارب والنساء ثم في معاملة سائر الناس ومدار الكلام في تلك المعاملات على المال، حتى أنه لما ذكر ما يحل وما يحرم من النساء لم يخرج الكلام عن أحكام المال، فقد ذكر ما يفرض لهن وما يجب من إيتائهن أجورهن، وبعد ذكر تلك الأنواع من الحقوق المالية ذكر قاعدة عامة للتعامل المالي فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ أضاف الأموال إلى الجميع فلم يقل لا يأكل بعضكم مال بعض للتنبيه على ما قررناه مرارا من تكافل الأمة في حقوقها ومصالحها، كأنه يقول إن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم فإذا استباح أحدكم أن يأكل مال الآخر بالباطل كان كأنه أباح لغيره أكل ماله وهضم حقوقه لأن المرء يدان كما يدين. هذا ما عندي ونقل بعض من حضر الدرس على الأستاذ أنه قال أيضا إن في هذه الإضافة تنبيها إلى مسألة أخرى وهي أن صاحب المال الحائز له يجب عليه بذله أو البذل منه للمحتاج فكما لا يجوز للمحتاج أن يأخذ شيئا من مال غيره بالباطل كالسرقة والغصب، لا يجوز لصاحب المال أن يبخل عليه بما يحتاج إليه.
وأقول زيادة في البيان : إن مثل هذه الإضافة قد قررت في الإسلام قاعدة الاشتراك التي يرمي إليها الاشتراكيون في هذا الزمان ولكنهم لم يهتدوا إلى سنة عادلة فيها، ولو التمسوها في الإسلام لوجدوها، ذلك بأن الإسلام يجعل مال كل فرد من أفراد المتبعين له مالا لأمته كلها، مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها فهو يوجب على كل ذي مال كثير حقوقا معينة للمصالح العامة، كما يوجب عليه وعلى صاحب المال القليل حقوقا أخرى لذوي الاضطرار من الأمة ومن جميع البشر ويحث فوق ذلك على البر والإحسان والصدقة الدائمة والصدقة المؤقتة والهدية.
فالبلاد التي يعمل فيها الإسلام لا يوجد فيها مضطر إلى القوت والستر قط سواء كان مسلما أو غير مسلم، لأن الإسلام يفرض على المسلمين فرضا قطعيا أن يزيلوا ضرورة كل مضطر، كما يفرض أموالهم حقا آخر للفقراء والمساكين ومساعدة الغارمين الذين يبذلون أموالهم للإصلاح بين الناس ولغير ذلك من أنواع البر، ويرى كل من يقيم في تلك البلاد أن مال الأمة هو ماله لأنه إذا اضطر إليه يجده مذخورا له، وقد يصيبه منه حظ في غير حال الاضطرار وقد جعل المال المعين المفروض في أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة لئلا يمنعه بعض من يمرض الإيمان في قلوبهم، وترك إلى أريحة الأفراد سائر ما أوجبه الشرع عليهم أو ندبهم إليه، وحثهم بإطلاق النصوص عليه، ورغبهم فيه، وذمهم على منعه، ليكون الدافع لهم إلى البذل من أنفسهم، فتقوى ملكات السخاء والنجدة والمروءة والرحمة فيها، ولم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج عليه من أيديهم بدون إذنهم ومرضاتهم لأن في ذلك مفسدتين مفسدة قطع أسباب تلك الفضائل وما في معناها ومفسدة اتكال الكسالى على كسب غيرهم، ومن وراء هاتين المفسدتين انحطاط البشر وفساد نظام الاجتماع، فإن الناس خلقوا متفاوتين في الاستعداد فمنهم المغمول المخلد إلى الكسل والخمول، ومنهم محب الشهرة والظهور، وتذليل صعاب الأمور، فإذا أبيح للكسالى البطالين، أن يقتاتون على الكاسبين المجدين، فيأخذوا ما شاءوا أو احتاجوا من ثمرات كسبهم، بغير رضاهم ولا إذنهم، أفضت هذه الإباحة إلى الفوضى في الأموال، والضعف والتواني في الأعمال، والفساد في الأخلاق والآداب، كما لا يخفى على أولي الألباب، فوجب أن لا يأخذ أحد مال أحد إلا بحق، أو يبذل صاحب المال ما شاء عن كرم وفضل، فمتى يعود المسلمون إلى حقيقة دينهم ويكونون حجة له على جميع الملل كما كان سلفهم، فيقيموا المدنية الصحيحة في هذا العصر كما أقامها أولئك في عصورهم ؟. وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة البقرة ( س٢ آية١٨٨ ج ٢ ) وذكرنا هنا لك ما في هذه الإضافة من إعجاز الإيجاز.
أما الباطل فقد قلنا هنالك إنه ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي وهو من البطل والبطلان أي الضياع والخسار فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها ورضي من يؤخذ منه وكذا إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع. وقال الأستاذ الإمام هنا : فسر الجلال وغيره الباطل بالمحرم وهو إحالة للشيء على نفسه فإن الله حرم الباطل بهذه الآية فقولهم إن الباطل هو المحرم يجعل حاصل معنى الآية : إنني جعلت المال المحرم محرما. والصواب أن الباطل هو ما يقابل الحق ويضاده، والكتاب يطلق الألفاظ كالحق والمعروف والحسنات أو الصالحات، وما يقابلها وهو الباطل والمنكر والسيئات، ويكل فهمها إلى أهل الفطرة السليمة من العارفين باللغة ومن ذلك قوله في اليهود :﴿ ويقتلون النبيين بغير الحق ﴾ [ البقرة : ٦١ ] فحق فلان في المال هو الثابت له في العرف وهو ما إذا عرض على العقلاء المنصفين أصحاب الفطرة السليمة يقولون إنه له، فيدخل في الباطل الغصب والغش والخداع والربا والغبن والتغرير.
وقوله :﴿ بينكم ﴾ للإشعار بأن المال المحرم لأنه باطل هو ما كان موضع التنازع في التعامل بين المتعاملين كأنه واقع بين الآكل والمأكول منه، كل منهما يريد جذبه لنفسه، فيجب أن يكون المرجع للمال بين اثنين يتنازعان فيه هو الحق، فلا يجوز لأحد أن يأخذه بالباطل. وعبر بالأكل عن مطلق الأخذ لأنه أقوى أسبابه وأعمها وأكثرها.
قال تعالى :﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ قرأ الكوفيون تجارة بالنصب أي إلا أن تكون تلك الأموال تجارة الخ وقرأها الباقون بالرفع على أن كان تامة والمعنى إلا أن توجد تجارة عن تراض منكم، والاستثناء منقطع قالوا والمعنى لا تقصدوا إلى أكل أموال الناس بالباطل ولكن اقصدوا أن تربحوا بالتجارة التي تكون صادرة عن التراضي منكم. وتخصيصها بالذكر دون سائر أسباب الملك لكونها أكثر وقوعا وأوفق لذوي المروآت.
وروى ابن جرير عن الحسن وعكرمة أنهما قالا : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور :﴿ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ﴾ [ النور : ٦١ ] الآية. وروى ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في هذه الآية إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ على يوم القيامة.
الأستاذ الإمام : قالوا إن الآية دليل على تحريم ما عدا ربح التجارة من أموال الناس أي كالهدية والهبة ثم نسخ ذلك بآية النور المبيحة للإنسان أن يأكل من بيوت أقاربه وأصدقائه، وهو افتراء على الدين لا أصل له أي لم تصح روايته عمن عزي إليه إذ لا يعقل أن تكون الهبة محرمة في وقت من الأوقات، ولا ما في معناها كإقراء الضيف، وإنما يكون التحريم فيما يمانع فيه صاحب المال فيؤخذ بدون رضاه أو بدون علمه مع العلم أو الظن بأنه لا يسمح به. وإنما استثنى الله التجارة من عموم الأموال التي يجري فيها الأكل بالباطل أي بدون مقابل لأن معظم أنواعها يدخل فيها الأكل بالباطل فإن تحديد قيمة الشيء وجعل عوضه أو ثمنه على قدره بقسطاس الحق المستقيم عزيز وعسير إن لم يكن محالا.
فالمراد من الاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر وما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع ولا تغرير، كما يقع ذلك كثيرا، فإن الإنسان كثيرا ما يشتري الشيء من غير حاجة شديدة إليه وكثيرا ما يشتريه بثمن يعلم أنه يمكن ابتياعه بأقل منه من مكان آخر ولا يكون سبب ذلك إلا خلابة التاجر وزخرفه، وقد يكون ذلك من المحافظة على الصدق واتقاء التغرير والغش، فيكون من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي، وهو المستثنى، والحكمة في إباحة ذلك الترغيب في التجارة لشدة حاجة الناس إليها وتنبيه الناس إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة في اختبار الأشياء والتدقيق في المعاملة حفظا لأموالهم التي جعلها الله لهم قياما أن يذهب شيء منها بالباطل، أي بدون منفعة تقابلها. فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا خرج به الربح الكثير، والذي يكون بغير غش ولا تغرير، بل بتراض لم تنخدع فيه إرادة المغبون، ولو لم يبح مثل هذا لما رغب في التجارة ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين على شدة حاجة العمران إليها وعدم الاستغناء عنها، إذ لا يمكن أن تتبارى الهمم فيها مع التضييق في مثل هذا. وقد شعر الناس منذ العصور الخالية بما يلابس التجارة من الباطل حتى أن اليونانيين جعلوا للتجارة والسرقة إلها أو ربا واحدا فيما كان عندهم من الآلهة والأرباب لأنواع المخلوقات وكليات الأخلاق والأعمال اه ما قاله في الدرس مع زيادة وإيضاح.
وقد علمت أن الجمهور على أن الاستثناء منقطع أي أن المقام مقام الاستدراك لا الاستثناء والمعنى لا تكونوا من ذوي الطمع الذين يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي، فذلك هو اللائق بأهل الدين والمروءة إذا أرادوا أن يكونوا من أهل الدثور والثروة. وقال البقاعي : إن الاستدراك لا يجئ في النظم البليغ بصورة الاستثناء أي الذي يسمونه الاستثناء المنقطع إلا لنكتة. وقال إن النكتة هنا هي الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل لأنه لا ثبات ولا بقاء، فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التي هي خير وأبقى. وفي الآية من الفوائد أن مدار التجارة على تراضي المتبايعين، والغش والكذب من المحرمات المعلومة من الدين الضرورة، وكل ما يشترط في البيع عند الفقهاء فهو لأجل تحقيق التراضي من غير غش وما عدا ذلك فلا علاقة له بالدين.
قال البقاعي : ولما كان المال عديل الروح ونهي عن إتلافه بالباطل نهى عن إتلاف النفس لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها أو تسببها، على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ الخ، أقول ظاهر هذه الجملة وحدها أن النهي إنما هو عن قتل الإنسان لنفسه وهو الانتحار والمتبادر منها في هذا الأسلوب أن المراد لا يقتل بعضكم بعضا وهو الأقوى. واختير هذا التعبير للإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها كما تقدم في نكتة التعبير عن أكل بعضهم مال بعض بقوله :﴿ لا تأكلوا أموالكم ﴾ وجمع بعضهم في النهي عن القتل بين ا
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ﴾ قال الأستاذ الإمام : ذهب بعض المفسرين إلى أن المشار إليه في قوله ﴿ ذلك ﴾ كل ما تقدم النهي عنه من أول السورة إلى الآية السابقة، وقال ابن جرير إن المشار إليه هو ما نهي عنه من قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ﴾ إلى هنا وذلك أن المنهيات التي قبل تلك الآية قد اقترنت بالوعيد عليها على حسب سنة القرآن ولكن هذه المنهيات الأخيرة لم يوعد عليها بشيء وإن وصفت بالقبح الذي يترتب عليه الوعيد وهي النهي عن إرث النساء كرها وعن عضلهن لأخذ شيء من مالهن وعن نكاح ما نكح الآباء في الجاهلية، وعن أكل أموال الناس بالباطل وعن القتل وقال بعضهم إن المشار إليه في هذه الآية هو القتل فقط وقد قصر كل التقصير وأكثر المفسرين على أن المراد بذلك ما في الآية الأخيرة من النهي عن أكل أموال الناس بالباطل وعن القتل وهذا هو المعقول المقبول، فإن ما قبلها من المنهيات التي لم تقترن بالوعيد قد اقترنت بالوصف الدال عليه.
قال : والعدوان هو التعدي على الحق فكأنه قال بغير حق، وهو يتعلق بالقصد فمعناه أن يتعمد الفاعل إتيان الفعل وهو يعلم أنه قد تعدى الحق وجاوزه إلى الباطل، والظلم يتعلق بالفعل نفسه بأن كان المتعدي لم يتحر ويجتهد في استبانة ما يحل له منه فيفعل ما لا يحل، والوعيد مقرون بالأمرين معا وهما أن يقصد الفاعل العدوان وأن يكون فعله ظلما في الواقع ونفس الأمر، فإذا وجد أحدهما دون الآخر لا يستحق هذا الوعيد الشديد. مثال تحقق العدوان دون الظلم أن يقتل الإنسان رجلا يقصد الاعتداء عليه ثم يظهر له أنه كان راصدا له يريد قتله ولو لم يسبقه لقتله، أو أنه كان قتل من له ولاية دمه كأصله أو فرعه، فههنا لم يتحقق الظلم وأما العدوان فواقع لا محالة، ومثال تحقق الظلم فقط أن يسلب امرؤ مال آخر ظانا أنه ماله الذي كان سرقه أو اغتصبه منه ثم يتبين له أن المال ليس ماله وأنه لم يكن هو الذي أخذ ماله، وأن يقتل رجلا رآه هاجما عليه فظن أنه صائل يريد قتله ثم يتبين له خطأ ظنه، فههنا تحقق الظلم ولكن لم يتحقق العدوان.
أقول وقد يعاقب الإنسان على بعض الصور التي لا تجمع بين العدوان والظلم معا لتقصيره في استبانة الحق ولكن عقاب من يجمع بينهما وإصلاؤه النار إدخاله فيها وإحراقه بها، وأصله من الصلي وهو القرب من النار للاستدفاء. قال الراجز :
يقعي جلوس البدوي المصطلي
أي المستدفئ وتتمة هذا البحث اللغوي في تفسير الآية التاسعة من هذه السورة ( ج ٤ تفسير ).
﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ أي إن ذلك الوعيد البعيد شأوه، الشديد وقعه، يسير على الله غير عسير، وقريب من العادين الظالمين غير بعيد، لأن سنته قد مضت بأن يكون العدوان والظلم مدنسا للنفوس مدسّيا لها بحيث يهبط بها في الآخرة، ويرديها في الهاوية، وقال الأستاذ الإمام : إن معنى كونه يسيرا على الله تعالى هو أن حلمه في الدنيا على المعتدين الظالمين وعدم معالجتهم بالعقوبة لا يقتضي أن ينجوا من عقابه في الآخرة. وهذا الذي قاله لا ينافي ما قلناه بل هو تنبيه إلى موضع العبرة أي فلا يغترّن الظالمون بعزتهم على من يظلمونهم، ولا يقيسوا الآخرة على الدنيا فيكونوا كأولئك المشركين، الذين قالوا فيما حكى الله عنهم ﴿ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ [ سبأ : ٣٥ ] بل يجب أن لا يأمنوا تقلب الدنيا وغيرها ولا ينخدعوا بقول الشاعر :
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ٣١ ﴾.
نهى سبحانه وتعالى عن أكل الأموال بالباطل وعن قتل الأنفس وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، وتوعد فاعل ذلك عدوانا وظلما بالنار، ثم نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها، ووعد على تركها بالجنة ومدخل الكرامة، وقيل المراد بالكبائر هنا جميع ما تقدم النهي عنه في هذه السورة. قال البقاعي بعد الآيتين السابقتين : ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيرا، أتبعه ما للمنتهى تبشيرا، وكان قد تقدم جملة من الكبائر فقال : وذكر الآية.
الاجتناب ترك الشيء جانبا والكبائر جمع كبيرة أي الفعائل أو المعاصي الكبائر والسيئات جمع سيئة وهي الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا أو تسوء غيره كما تقدم في تفسير ﴿ وكفر عنا سيئاتنا ﴾ [ آل عمران : ١٩٣ ] وفسروها بالصغائر بدليل مقابلتها بالكبائر واللفظ أعم والتخصيص غير متعين.
الأستاذ الإمام : اختلف العلماء هل في المعاصي صغيرة وكبيرة أم المعاصي كلها كبائر ؟ نقلوا عن ابن عباس أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة. صرح بذلك الباقلاني والإسفراييني وإمام الحرمين. وقالت المعتزلة وبعض الأشاعرة إن من الذنوب كبائر وصغائر وقال الغزالي إن هذا من البديهيات. وقد اختلف في الصغائر والكبائر فقيل هي سبع لحديث صحيح في ذلك ولكن الأحاديث الصحيحة في عدها مختلفة ومجموعها يزيد على سبع وقد ذكرت على سبيل التمثيل.
أقول : أشهر هذه الأحاديث ما ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا وما هي يا رسول الله ؟ قال :( الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) ١. ومنها أيضا من حديث أبي بكرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال ألا وقول الزور، وشهادة الزور ) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت٢. وفي لفظ عند البخاري من حديث ابن عمرو زيادة ( واليمين الغموس ) ٣ وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قالوا وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) ٤ وكان صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة فلم يرد شيء من ذلك في مقام الحصر والتحديد ولكن الأحاديث صريحة في إثبات الكبائر ويقابلها الصغائر والظاهر منها أن كبرها في ذواتها وأنفسها لما فيها من المفسدة والضرر، والموبقات أكبر الكبائر من أوبقه إذا أهلكه أو ذلَّلَه. ويقابل الموبق ما يضر ضررا قليلا وما حرم الإسلام شيئا إلا لضرره في الدين أو النفس أو العقل أو المال أو العرض.
وكيف ينكر أحد انقسام الذنوب إلى كبائر وغير كبائر وقد صرح بذلك القرآن في غير هذا الموضع وهو من ذاته بديهي كما قال الغزالي فإن المنهيات أنواع لها أفراد تتفاوت في أنفسها وفي الداعية التي تسوق إليها.
قال تعالى بعد ذكر جزاء المسيئين والمحسنين في سورة النجم :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشاكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ﴾ [ النجم : ٣٢ ] والفواحش معطوفة على الكبائر وهي ما فحش من الفعائل القبيحة، وهذه الآية تناسب الآية التي نفسرها في معناها بذاتها وموقعها مما قبلها فقد عبر في كل منهما باجتناب الكبائر وجعل جزاء هذا الاجتناب تكفير ما دون الكبائر والفواحش وغفرانه، ولكنه عبر عن مقابل الكبائر هنا بالسيئات وهو لفظ يشمل الصغائر والكبائر كما علم من استعماله في عدة مواضع من القرآن، وعبر في سورة النجم باللّمم، وفسروا اللّمم بما قلّ وصغر من الذنوب، كما فسروا السيئات هنا بالصغائر وما أخذوا ذلك إلا من المقابلة كما تقدم، وقد يكون اللّمم بمعنى مقاربة الكبيرة أو الفاحشة بإتيان بعض مقدماتها مع اجتناب اقترافها من ألمت النخلة إذا قاربت الإرطاب وألم الغلام إذا قارب البلوغ، وسيأتي من كلام الغزالي في تكفير الذنوب ما يوضحه بالأمثلة. ومن التناسب المتعلق بالسياق أنه علل في سورة النجم مغفرة اللّمم بعلم الله تعالى بحال الإنسان في خروجه من مواد الأرض الميتة تكون غذاء فدما فمنيا يلقح البيوض في رحم الأم، وعلمه بحاله بعد هذا التلقيح إذ يكون جنينا في بطن أمه لا يقدر على شيء فقصاراه أن الإنسان ضعيف كما قال في أخرى ﴿ خلقكم من ضعف ﴾ [ الروم : ٥٤ ] وقد تقدم الآية التي نفسرها تعليل التخفيف عن المكلفين بقوله تعالى :﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ [ النساء : ٢٨ ].
ومما ورد صريحا في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر قوله تعالى :﴿ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ [ الكهف : ٥٠ ] وقوله تعالى :﴿ وكل شيء فعلوه في الزبر* وكل صغير وكبير مستطر ﴾ [ القمر : ٥٢ ٥٣ ].
وإذا كان هذا صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره ؟ لا، بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له هل الكبائر سبع ؟ فقال هي إلى السبعين أقرب، وروى ابن جبير أنه قال هي إلى السبع مئة أقرب. وإنما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب على صغائر وكبائر إلى الأشعرية، وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الأشعرية وقال :" معاصي الله كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة، وقالت المعتزلة الذنوب على ضربين صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح " اه وأول الآية تأويلا بعيدا. وهل يؤول سائر الآيات والأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه ؟ لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأذكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين وسترى ما ينقله الرازي عن الغزالي ويرده لأجل ذلك وأين الرازي من الغزالي وأين معاوية من علي !.
والموافقون للمعتزلة من محققي الأشاعرة وغيرهم اختلفوا في تعريف الكبيرة فقيل هي كل معصية أوجبت الحد وقيل ما نص الكتاب على تحريمه ووجب في جنسه حد وقيل كل محرم لعينه أي لا لعارض أو لسد الذريعة، وضعفوا هذه الأقوال وأقوالا أخرى كثيرة. وقال بعض العلماء عن الكبائر كل ما توعد الله عليه قيل في القرآن فقط وقيل في الحديث أيضا، وقال بعضهم كإمام الحرمين والغزالي واستحسنه الرازي أنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به وهو قول مقبول قريب من المعقول. والمختلفون في تعريفها متفقون على القول بأن هناك صغيرة وكبيرة وأن ترك الكبائر يكفر الصغائر. وقال بعضهم إن الله تعالى أبهم الكبائر لتجنب كل المعاصي فإن من عرضت له كل معصية لم يعلم أنها من الكبائر التي يعاقب عليها أو من الصغائر التي يكفرها الله عنه بترك الكبائر فالاحتياط يقضي عليه بأن يجتنبها. ولا يظهر فرق بين القول بأن جميع المعاصي كبائر والقول بأن منها صغائر مبهمة غير معينة فهي لا تعلم. وقد أطال ابن حجر البحث في ذلك فليراجع كتابه الزواجر من شاء.
الأستاذ الإمام : إن الذين قسموا المعصية إلى صغيرة وكبيرة وأرادوا بالسيئات الصغائر لم يفهموا الآية وقد قال الله تعالى :﴿ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ؟ ساء ما يحكمون ﴾ [ الجاثية : ٢٠ ] فجعل أهل السيئات في مقابلة المؤمنين فهم المشركون والكافرون المفسدون، وقال :﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات ﴾ [ النساء : ١٧ ] الآية وما العهد بتفسيرها ببعيد ولا يمكن حمل السيئات فيها على الصغائر. والصواب أن في كل سيئة وفي كل نهي خاطبنا الله تعالى به كبيرة أو كبائر وصغيرة أو صغائر وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والأمر واحترام التكليف ومنه الإصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالأمر والنهي.
فالله تعالى يقول :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ أي الكبائر التي يتضمنها كل شيء تنهون عنه ﴿ نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه فإضافة السيئات إلى ضمير المخاطبين يدل على ما قاله جمهور الأشاعرة من أنه لا كبيرة بمعنى أن بعض السيئات يكون كبيرة مطلقا على الدوام وإن فعل بجهالة عارضة وعدم استهانة، ولا صغيرة مطلقا إن فعلت لعدم الاكتراث بالنهي وأصر الفاعل عليها. ويدل على هذا ما قاله ابن عباس رضي الله عنه حين قيل له الكبائر سبع فقال هي إلى السبع مئة أقرب ولا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار، أي مع توبة فكل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة وصاحبه متمكن من الدين يخاف الله ولا يستحل محارمه فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى إذا كان لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين، وكان بعد اجتراحه إياه حال كونه مغلوبا على أمره يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله عز وجل ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله، فهو بعدم إصراره باستقرار هيبة الله وخوفه في نفسه، يكون أهلا لأن يتوب الله عليه ويكفر عنه، وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر الله إليه ورؤيته إياه حيث نهاه فهو مهما كان صغيرا ( أي في صورته أو ضرره ) يعد كبيرة ( أي من حيث هو استهانة بالدين وداع إلى الإصرار والانهماك والاستهتار ) ومثال ذلك تطفيف الكيل والميزان وإخسارهما فقد قال تعالى :﴿ ويل للمطففين ﴾ [ المطففين : ١ ] وهو يصدق بالقليل والكثير ولو حبة، والهمز واللمز فقد قال :﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾ [ الهمزة : ١ ] أي الذين اعتادوا الهمز واللمز وهما عيب الناس والطعن في أعراضهم. والويل الهلاك فهو وعيد شديد.
أقول إن هذا الذي ذهب إليه هو ترجيح للقول بأن الكبائر بحسب قصد فاعلها وشعوره عند اقترافها وعقبه لا في ذاتها وحسب ضررها وهذا لا يقتضي إنكار تمايز المعاصي في أنفسها وكون منها الصغيرة كالنظر إلى ما لا يحل النظر إليه من المرأة الأجنبية ومنها ما هو كبيرة كالزنا وكذلك ضرب الرجل خادمه ضربا خفيفا بدون ذنب يقتضي ذلك يعد صغيرة وأما قتله إياه فلا يمكن أن يعد صغيرة في نفسه مهما كان الباعث النفسي عليه. ولكن مسألة تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الآخرة تتعلق بمقاصد النفس وقوة الإيمان وسلطانه في القلب وهو ما جرى عليه الغزالي وتبعه الأستاذ الإمام. وإننا ننقل عن الغزالي نبذا تدل على رأيه في هذه المسألة.
قال الرازي : وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال فهذا كله قول من قال إن الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها.
وأما القول الثاني وهو قول من يقول إن لكل طاعة قدرا من الثواب ولكل معصية قدرا من العقاب فإذا أتى الإنسان بطاعة واستحق بها ثوابا ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا فهنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القس
١ أخرجه البخاري في الوصايا باب٢٣، والطب باب٤٨، والحدود باب ٤٤، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٤، وأبو داود في الوصايا باب١٠، والنسائي في الوصايا باب١٢..
٢ أخرجه البخاري في الشهادات باب ١٠، والأدب باب٦، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٣، والترمذي في الشهادات باب٣، وتفسير سورة٤، باب٥، وأحمد في المسند٥/٣٧..
٣ أخرجه البخاري في الأيمان باب١٦، والمرتدين باب١، والديات باب٢..
٤ أخرجه البخاري في الأدب باب٤، ومسلم في الأيمان حديث١٤٥، وأبو داود في الأدب باب٢٠، والترمذي في البر باب٤، واحمد في المسند٢/٢١٦..
﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما٣٢ ﴾.
قال الأستاذ الإمام في بيان وجه اتصال الآية بما قبلها : نهى أولا عن أكل الناس بعضهم أموال بعض بالباطل وأوعد فاعل ذلك، وبين بعد ذلك وما قبله من المناهي ما يغفر منها وما لا يغفر، ثم أرشدنا بعد هذا كله إلى قطع عرق كل تعدّ على الأموال والأنفس وسائر الحقوق وهو التمني وعدم استعمال كل لمواهبه في الجد والكسب وكل ما يتمناه الإنسان لنفسه من الخير.
وقال البقاعي في ذلك : ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح ليصير الظاهر طاهرا عن المعاصي الوخيمة نهى عن التمني فإن التمني قد يكون حسدا وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية وهو حرام والرضا بالحرام حرام، والتمني على هذا الوجه يجر إلى الأكل، والأكل يقود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فإذا انتهى عن ذلك كان باطنه طاهرا عن الأخلاق الذميمة بحسب الطريقة، ليكون الباطن موافقا للظاهر ويكون جامعا بين الشريعة والطريقة، فيسهل عليه ترك ما نهى عنه ويرضى بما قسم له.
وقال القفال : لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس عقبه هما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم.
وروي في سبب نزولها ثلاث روايات إحداها عن مجاهد قال قالت أم سلمة رضي الله عنها يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى الآية. والثانية عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت. والثالثة عن قتادة والسدي قالا لما نزل قوله تعالى :﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ [ النساء : ١١ ] قال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ ذكر الروايات الثلاث الواحدي والسيوطي في الدر المنثور. وهي لا تتفق اتفاقا بينا مع المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير التمني بالحسد فقد روي عنه أنه قال فيها : لا يقل أحدكم ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي، فإن ذلك يكون حسدا، ولكن ليقل اللهم أعطني مثله.
الأستاذ الإمام : سبب تلك الروايات الحيرة في فهم الآية ومعناها ظاهر وهو أن الله تعالى كلف كلا من الرجال والنساء أعمالا فما كان خاصا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال، وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر. وجعل الخطاب عاما للفريقين مع أن الرجال لم يتمنوا أن يكونوا نساء ولا أن يعملوا عمل النساء وهو الولادة وتربية الأولاد وغير ذلك مما هو معروف وإنما كان النساء هن اللواتي تمنين عمل الرجال، وأي عمل الرجال تمنين ؟ تمنين أخص أعمال الرجولية وهو حماية الذمار والدفاع عن الحق بالقوة، ففي هذا التعبير عناية بالنساء وتلطف بهن وهن موضع للرأفة والرحمة لضعفهن وإخلاصهن فيما تمنين، والحكمة في ذلك أن لا يظهر ذلك التمني الناشئ عن الحياة الملية الشريفة فإن تمني مثل هذا العمل غريب من النساء جدا وسببه أن الأمة في عنفوان حياتها يكون النساء والأطفال فيها مشتركين مع الرجال في هذه الحياة وفي آثارها، وإنها لتسري فيها سريانا عجيبا، ومن عرف تاريخ الإسلام ونهضة العرب به وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به في زمنه يرى أن النساء من يسرن مع الرجال في كل منقبة وكل عمل، فقد كن يأتين ويبايعن النبي صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة المذكورة في ( سورة الممتحنة ) كما كان يبايعه الرجال، وكن ينفرن معهم إذا نفروا للقتال، يخدمن الجرحى ويأتين غير ذلك من الأعمال، فأراد الله أن يختص النساء بأعمال البيوت والرجال بالأعمال الشاقة التي في خارجها ليتقن كل منهما عمله ويقوم به كما يجب مع الإخلاص له وتنكير لفظ " نصيب " لإفادة أن ليس كل ما يعمله العامل يؤجر عليه وإنما الأجر على ما عمل بالإخلاص أي ففي الكلام حث ضمني عليه.
﴿ واسألوا الله من فضله ﴾ أي ليسأله كل منكم الإعانة والقوة على ما نيط به حيث لا يجوز له أن يتمنى ما نيط بالآخر. ويدخل في هذا النهي تمني كل ما هو من الأمور الخلقية كالجمال والعقل إذ لا فائدة في تمنيها لمن لم يعطها ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخر ويتمنى لنفسه مثله وخيرا منه بالسعي والجد كأنه يقول وجهوا أنظاركم إلى ما يقع تحت كسبكم ولا توجهوها إلى ما ليس في استطاعتكم فإنما الفضل بالأعمال الكسبية فلا تتمنوا شيئا بغير كسبكم وعملكم اه.
أقول قال ابن الأثير في النهاية : التمني تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إلي. اه وقد يظن أن التمني لا يدخل في حد الاختيار فيكون النهي عنه مشكلا، وإنما يظن هذا الظن من يتبع نفسه هواها، ويسلس لخواطرها العنان، بل يلقي من يده العنان واللجام، حتى تكون الأماني منه كالأحلام من النائم لا يملك دفعها إذا أتت، ولا ردها إذا غربت، وشأن قوي الإرادة غير هذا ولا يرضى الله تعالى من المؤمنين إلا أن يكونوا أصحاب عزائم قوية فهو يرشدهم بهذا النهي إلى تحكيم الإرادة في خواطرهم التي تتحدث بها أنفسهم، لتصرفها عن الجولان فيما هو لغيرهم كما يصرفون أجسامهم أن تجول في ملك غيرهم بدون إذنه، وتوجهها في وقت الفراغ من الأعمال إلى ما هو أنفع وأشرف كالتفكير في ملكوت السماوات والأرض، وسنن الله تعالى في هذا الخلق، ولا سيما سننه في حياة الأمم وموتها وقوتها وضعفها، وتطبيق ذلك على أمتهم والتفكر في أمر الآخرة، ونسبته إلى هذه الدنيا الفانية، وهو الذي يخفف عن النفس ما تحمله من أثقال الحياة وتكاليفها.
الأمر كذلك، إن النهي عن تمني كل مكلف من ذكر وأنثى ما فضل الله به غيره عليه يتضمن ما يتحقق به الانتهاء وهو أمران أحدهما : العمل النافع على الوجه الذي تكون به الفائدة تامة من العناية والإتقان، ولا يشغل النفس بالأماني والتشهي كالبطالة والكسل، ولذلك ذكر الكسب بعد النهي عن التمني ثانيهما : توجيه الفكر في أوقات الاستراحة من العمل إلى ما يغذي العقل ويزكي النفس، ويزيد في الإيمان والعلم، وقد ذكرناك به آنفا وهو يتوقف على قوة الإرادة، وإنما تقوى الإرادة باستعمالها في تنفيذ ما أمر به الشرع، ودل عليه العقل.
وفي قوله ﴿ ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ إيجاز بديع وهو يشمل ما فضل الله به بعض الرجال على بعض، وما فضل به بعض النساء على بعض، وما فضل به جنس الرجال على النساء، وما فضل به جنس النساء على الرجال، من حيث أن الخصوصية فضل أي زيادة في صاحبها على غيره، وما فضل به بعض الرجال على بعض النساء، وما فضل به بعض النساء على بعض الرجال، وهذا الفضل أنواع منها : ما لا يتعلق به الكسب ولا ينال بالعمل والسعي، ولا يعاب المفضول فيه بالتقصير، ولا يمدح الفاضل فيه بالجد والتشمير، كاستواء الخلقة، وقوة البنية، وشرف النسب فتمني أمثال هذه المزايا لا يصدر إلا عن سخافة في العقل، ومهانة في النفس، فينبغي لمن عرف ذلك من نفسه أن يبادر إلى معالجته بالفضل الكسبي الذي به يكون التفاضل الحقيقي بين الناس قبل أن تستحوذ عليه الأماني فتنسيه ربه وما أرشده إليه من طرق الفضل، وتنسيه نفسه وما أودعته من الاستعداد والقدرة على الكسب، ثم تحمله آلام تلك الأماني على المركب الصعب، وهو طاعة الحسد بالإيذاء والبغي، فيكون من الهالكين.
ومنها : ما ينال بالجد والسعي كالمال والجاه وهو المقصود بالنهي أولا بالذات، لأن الأول لبعده عن المعقول، كأن من شأنه أنه لا يكون، ولا يشتغل بتمني هذا إلا ضعيف الهمة ساقط المروءة، جاهل بقدر استعداد الإنسان، وآيات الجد والاستقلال، ولا يرضى الله تعالى للمؤمن أن يكون هكذا فهو يرشده إلى علو الهمة وهو من شعب الإيمان، ويهديه إلى الاعتماد على ما أوتيه من القوى في تحصيل كل ما يرغب فيه، فالجاه الحقيقي إنما ينال بالجد والكسب كالعلم النافع والمناصب وعمل المعروف وكذلك الثروة الأصل فيها أن تنال بالكسب والسعي، والموروث منها قلما يثبت وينمو إلا عند العاملين، والذين يتربون على الاستقلال كأهل أمريكا وإنكلترا يعتمدون على الطريف دون التليد حتى أن بعض الوارثين منهم راهن على كسب مقدار عظيم من المال يضاهي ثروته الموروثة بعد أن يخرج من جميع ما يملك وضرب لذلك أجلا غير بعيد فما حل الأجل إلا وذلك المقدار العظيم في يده وكان خرج من ماله كله حتى ثيابه وابتدأ عمله الاستقلالي بالخدمة في الحمام، وهمم الرجال لا يقف أمامها شيء ولكن أكثر الناس غافلون عن استعدادهم، يتكلون على اجتناء ثمرة غيرهم، ولذلك نبهنا الفاطر جل صنعه بعد النهي عن التمني والتلهي بالباطل إلى الكسب والعمل، الذي ينال به كل أمل، فقال :﴿ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ فشرع الكسب للنساء كالرجال فأرشد كلا منهما إلى تحري الفضل بالعمل دون التمني والتشهي، وحكمة اختيار صيغة الاكتساب على صيغة الكسب أن صيغة الاكتساب تدل على المبالغة والتكلف، وهو اللائق في مقام النهي عن التمني والتشهي، كأنه يقول إن ما تطلبون من الفضل إنما ينال بفضل العناية والكلفة في الكسب، لا بما تثيره البطالة من أماني النفس، وما قيل من استعمال الكسب في الخير والاكتساب في الشر فمأخوذ من قوله تعالى :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] وليس ذلك من معنى الصيغة في شيء وإنما اختير في هذه الآية للإشارة إلى الشر ليس من مقتضى الفطرة ( راجع ج ٢ تفسير ).
و في التعبير به في الآية التي نفسرها إرشاد إلى المبالغة والتكلف في طلب الزيادة من المال والجاه وكل ما يتفاضل فيه الناس بأعمالهم بشرط التزام الحق، وإرشاد إلى اعتماد الناس في مطالبهم ورغائبهم على ما آتاهم الله من الاستعداد دون الكسل والتواكل، واعتماد كل منهم على الآخر، والكتاب والسنة مؤيدان لذلك، فما أجدر المسلمين ؛ بأن يكونوا قدوة ومثلا للمستقلين، فالمسلم بمقتضى إسلامه يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه مع الرجاء بفضل الله وتوفيقه ولذلك قال بعد الإرشاد إلى الاكتساب واسألوا الله من فضله، أي ومهما أصبتم بالجد والاكتساب فلا ينسينكم ذلك حاجتكم إلى الله تعالى بما عليكم أن تسألوه من فضله الخاص الذي لا يصل إليه كسبكم إما لجهلكم به أو بطرقه وأسبابه وإما لعجزكم عنه كمن يجتهد في الزراعة أو التجارة فيدلي إليها بأسبابها التي ينالها كسبه ويسأل الله أن يتم فضله بالمطر الذي ينمو به الزرع، واعتدال الريح ليسلم الفلك، وهذا مما يجهله الإنسان ويعجز عنه.
ومن هنا تفهم حكمة تذييل الآية بقوله تعالى :{ إن الله كان بكل شيء علي
﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا٣٣ ﴾.
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر جدا على القول بأن سبب نزول الآية السابقة هو ما تقدم من حديث تفضيل الرجال على النساء في الإرث، وكذا على القول بعموم التمني في تلك الآية فإن أكثر التحاسد وتمني ما عند الغير يكون في المال وقلما يتمنى الناس ما فضلهم به غيرهم من الجاه إلا من حيث إن ذلك الجاه يستتبع المال في الغالب فالعالم الزاهد في الدنيا المعرض عنها لا يكاد يحسده على علمه أحد إلا أن يكون لعلة غير العلم كأن يكون علمه مظهرا لجهل الأدعياء وينقص من رزقهم واحترامهم.
الأستاذ الإمام : الظاهر أن الكلام في الأموال فإنه نهى عن أكلها بالباطل ثم نهى عن تمني أحد ما فضله به من المال لأن التمني يسوق إلى التعدي وإنما أورد النهي عاما لزيادة الفائدة والسياق يفيد أن المال هو المقصود أولا وبالذات لأن أكثر التمني يتعلق به، وذكر القاعدة العامة في الثروة وهي الكسب. ثم انتقل من ذكر الغالب وهو الكسب إلى غير الغالب وهو الإرث فقال ﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك ﴾ فالموالي من لهم الولاية على التركة، و " من " في قوله ﴿ مما ترك ﴾ ابتدائية والجملة تتم بقوله ﴿ ترك ﴾ والمعنى : ولكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا والنساء اللواتي لهن نصيب مما اكتسبن موالي لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم، وهؤلاء الموالي هم ﴿ الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم ﴾ أي جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج كما تقدم التفصيل في أول السورة، فالمراد هنا بالذين عقدت أيمانكم الأزواج فإن كل واحد من الزوجين يصير زوجا له حق الإرث بالعقد، والمتعارف عند الناس في العقد أن يكون بالمصافحة باليدين ﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾ أي فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم لهم ولا تنقصوهم منه شيئا. ولما كان الميراث موضعا لطمع بعض الوارثين أي ولا سيما من يكون في أيديهم المال لإقامة المورث معهم قال تعالى بعد الأمر بإعطاء كل ذي حق حقه ﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ أي إنه تعالى رقيب عليكم حاضر يشهد تصرفكم في التركة وغيرها فلا يحملنكم الطمع وحسد بعضكم لبعض الوارثين على أن يأكل من نصيبه شيئا سواء كان ذكرا أم أنثى كبيرا أم صغيرا.
أقول إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام هو المتبادر الذي لا يعثر فيه الفكر، ولا يكبو في ميدانه جواد الذهن، ولا يحتاج فيه إلى تكلف في الإعراب، ولا إلى القول بالنسخ، فأين منه تلك الأقوال المتكلفة التي انتزعها المفسرون انتزاعا من تنوين قوله تعالى :﴿ ولكل ﴾ فهو هنا بدل من مضاف إليه محذوف لدلالة السياق عليه كما هو المعهود في مثله من هذه اللغة والمأخذ القريب المتبادر لهذا المضاف إليه هو الآية السابقة التي عطف عليها قوله :﴿ ولكل ﴾ فاختار أن المخاطبين بالنهي والأمر في تلك الآية هم المخاطبون بالحكم بامتثاله في هذه الآية المعطوفة عليها. واختار جمهور المفسرين البعد في التقدير فقدروا المضاف إليه لفظ تركة أو مال أو ميت أو قوم.
قال القاضي البيضاوي : أي ولكل تركة جعلنا وارثا يلونها ويحوزونها، ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل أو لكل ميت جعلنا ورّاثا مما ترك على أن من صلة موالي لأنه في معنى الوارث وفي ﴿ ترك ﴾ ضمير كل و﴿ الوالدان والأقربون ﴾ استئناف مفسر للموالي وفيه خروج الأولاد فإن ﴿ الأقربون ﴾ لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون على أن ﴿ جعلنا موالي ﴾ صفة ﴿ كل ﴾ والراجع إليه محذوف وعلى هذا فالجملة من مبتدأ وخبر. اه وقوله إن الأولاد لا يدخلون في الأقربين غير مسلم ولماذا لم يقل مثله في تفسير قوله تعالى في أوائل هذه السورة ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ [ النساء : ٦ ] الخ بل فسر الأقربون بالمتوارثين بالقرابة وذكر في سبب نزولها ما ورد في إرث البنات والزوجة.
وفسر بعضهم ﴿ الذين عقدت أيمانكم ﴾ بموالي الموالاة ورووا أن الحليف كان يرث السدس من مال حليفه في الجاهلية وأقره الإسلام أولا ثم نسخ بقوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] وروى ابن جرير عن قتادة أنه قال كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك، فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال وذكر الآية المذكورة آنفا وروي مثل ذلك عن ابن عباس.
ولكن لا علاقة لهذا بالآية فالظاهر أن سورة النساء نزلت بعد سورة الأنفال، فإن سورة الأنفال نزلت في سنة بدر والمواريث شرعت بعد ذلك والآية التي نفسرها نزلت بعد آية المواريث، لا لأنها بعدها في ترتيب السورة بل لأنها أشارت إلى أحكام المواريث وبنيت على أن الله تعالى جعل لكل من الوارثين نصيبا يجب أن يؤدى إليه تاما، فهل يعقل أن تكون مع ذلك مقررة للإرث بالتحالف ؟ إن القرآن لم يشرع للناس الإرث بالتحالف وإنما أبطله ونسخ ما كان عليه الناس فيه قبل نزول آيات المواريث كما هو ظاهر. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح ذلك وكان عليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث. والمراد بالعقل دية القتل. والذي صح عن ابن عباس عند البخاري وأبي داود والنسائي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما آخى في أول الهجرة بين المهاجرين والأنصار كان المهاجر يرث أخاه الأنصاري دون ذوي رحمه فلما نزلت هذه الآية نسخ ذلك. وجعل جملة ﴿ والذين عقدت أيمانكم ﴾ استئنافية والوقف على ما قبلها قال والمعنى ﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾ من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له وظاهر أن الذي نسخ هذا الإرث هو قوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] وهو في سورة الأحزاب أما الموالي في الآية التي نفسرها فهم الوارثون كما في قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام :﴿ وإني خفت الموالي من ورائي ﴾ [ مريم : ٤ ].
هذا وإن الأستاذ الإمام قد سبق إلى القول بأن المراد بعقدت أيمانكم عقد النكاح فهو مختار له لا مبتكر، وقد ذهل من قال من ناقليه إنه خلاف الظاهر مستدلا بأنه لم يعهد إضافته إلى اليمين، فإنه لا يلتزم هو ولا غيره ممن يوافقه في هذه المسألة أن يكون كل استعمال في القرآن أو في كلام البلغاء معهودا في كلام الناس قبله لاستلزام ذلك نفي الابتكار وإن كل استعمال يجب أن يكون قديما معروفا في الجاهلية، وذلك باطل بالبداهة، فكم في القرآن والحديث من أبكار الأساليب الحسان، اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهما ولا جان، وما من بليغ إلا وله مخترعات في البيان، لم يسلك فجاجها من قبله إنسان، ولماذا يستبعد إسناد عقد النكاح إلى الأيمان دون غيرها من العقود كالحلف والبيع والمعهود في جميعها وضع اليمين في اليمين ؟ وقد قرأ الكوفيون ﴿ عقدت ﴾ بغير ألف، والباقون ﴿ عاقدت ﴾ بألف المفاعلة، وقرئ في الشواذ عقدت بتشديد القاف.
﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا٣٤ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا٣٥ ﴾.
لما نهى الله تعالى كلا من الرجال والنساء عن تمني ما فضل به بعضهم على بعض، وأرشدهم إلى الاعتماد في أمر الرزق على كسبهم، وأمرهم أن يؤتوا الوارث نصيبهم، ولما كان من جملة أسباب هذا البيان ذكر تفضيل الرجال على النساء في الميراث والجهاد كان لسائل هنا أن يسأل عن سبب هذا الاختصاص وكان جواب سؤاله قوله تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ أي إن من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية والرعاية والولاية والكفاية ومن لوازم ذلك أن يفرض عليهم الجهاد دونهن فإنه يتضمن الحماية لهن، وأن يكون حظهم من الميراث أكثر من حظهن لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن، وسبب ذلك أن الله تعالى فضل الرجال على النساء في أصل الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام، أثر التفاوت في الفطرة والاستعداد.
وثم سبب آخر كسبي، يدعم السبب الفطري، وهو ما أنفق الرجال على النساء من أموالهم، فإن في المهور تعويضا للنساء ومكافأة على دخولهن بعد الزوجية تحت رياسة الرجال فالشريعة كرمت المرأة إذ فرضت لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة ونظام المعيشة وهو أن يكون زوجها قيما عليها فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع الناس عليها بالعقود لأجل المصلحة كأن المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة وسمحت بأن يكون للرجل عليها درجة واحدة هي درجة القيامة والرياسة، ورضيت بعوض مالي عنها، فقد قال تعالى :﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ﴾ [ البقرة : ٢٢٧ ] فالآية أوجبت لهم هذه الدرجة التي تقتضيها الفطرة لذلك كان من تكريم المرأة إعطاؤها عوضا ومكافأة في مقابلة هذه الدرجة وجعلها بذلك من قبيل الأمور العرفية لتكون طيبة النفس مثلجة الصدر قريرة العين ولا يقال إن الفطرة لا تجبر المرأة على قبول عقد يجعلها مرؤوسة للرجل بغير عوض فإنا نرى النساء في بعض الأمم يعطين الرجال المهور ليكن تحت رياستهم فهل هذا بدافع الفطرة الذي لا يستطيع عصيانه إلا بعض الأفراد. وقد سبق لنا في بيان حكمة تسمية المهور أجورا من عهد قريب نحو مما تقدم هنا وهو ظاهر جلي وإن لم يهتد إليه من عرفت من المفسرين وجعل بعضهم إنفاق الأموال هنا شاملا للمهر ولما يجب من النفقة على المرأة بعد الزواج.
الأستاذ الإمام : المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه فإن كون الشخص قيما على آخر هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه ملاحظته في أعماله وتربيته، ومنها حفظ المنزل وعدم مفارقته ولو لنحو زيارة أولي القربى إلا في الأوقات والأحوال التي يأذن بها الرجل ويرضى، أقول ومنها مسألة النفقة فإن الأمر فيها للرجل فهو يقدر للمرأة تقدير إجماليا يوما يوما أو شهرا شهرا أو سنة سنة وهي تنفذ ما يقدره على الوجه الذي ترى أنه يرضيه ويناسب حاله من السعة والضيق.
قال : والمراد بتفضيل بعضهم على بعض تفضيل الرجال على النساء، ولو قال " بما فضلهم عليهن " أو قال " بتفضيلهم عليهن " لكان أخصر وأظهر فيما قلنا إنه المراد وإنما الحكمة في هذا التعبير هي عين الحكمة في قوله ﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ وهي إفادة أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن.
أقول : يعني أنه لا ينبغي للرجل أن يبغي بفضل قوته على المرأة ولا للمرأة أن تستثقل فضله وتعده خافضا لقدرها فإنه لا عار على الشخص إن كان رأسه أفضل من يده، وقلبه أشرف من معدته مثلا، فإن تفضيل بعض أعضاء البدن على بعض بجعل بعضها رئيسا دون بعض إنما هو لمصلحة البدن كله لا ضرر في ذلك على عضو ما وإنما تتحقق وتثبت منفعة جميع الأعضاء بذلك. كذلك مضت الحكمة في فضل الرجل على المرأة في القوة والقدرة على الكسب والحماية، ذلك هو الذي يتيسر لها به القيام بوظيفتها الفطرية وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال وهي آمنة في سربها، مكيفة ما يهمها من أمر رزقها، وفي التعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى هذا التفضيل إنما هو للجنس على الجنس لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم والعمل بل في قوة البنية والقدرة على الكسب، ولم ينبه الأستاذ إلى هذا المعنى على ظهوره من العبارة وتصديق الواقع له وإن ادعى بعضهم ضعفه وبهذين المعنيين اللذين أفادتهما العبارة ظهر أنها في نهاية الإيجاز الذي يصل إلى حد الإعجاز لأنها أفادت هذه المعاني كلها. وقد قلنا في تفسير ﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ أن التعبير يشمل ما يفضل به كل من الجنس الآخر وما يفضل به أفراد كل منهما أفراد جنسه وأفراد الجنس الآخر، ولا تأتي تلك الصور كلها هنا وإن اتحدت العبارة لأن السياق هناك غيره هنا، على أننا أشرنا ثمة إلى ضعف صورة فضل النساء على الرجال بما هو خاص بهن من الحمل والولادة والرجال لا يتمنون ذلك. ونعود إلى كلام الأستاذ.
قال : وما به الفضل قسمان فطري وكسبي، فالفطري هو أن مزاج الرجل أقوى وأكمل، وأتم وأجمل، وإنكم لتجدون من الغرابة أن أقول إن الرجل أجمل من المرأة وإنما الجمال تابع لتمام الخلقة وكمالها، وما الإنسان في جسمه الحي إلا نوع من أنواع الحيوان فنظام الخلقة فيها واحد، وإننا نرى ذكور جميع الحيوانات أكمل وأجمل من إناثها كما ترون في الديك والدجاجة، والكبش والنعجة، والأسد واللبوة. ومن كمال خلقة الرجال وجمالها شعر اللحية والشاربين ولذلك يعد الأجرد ناقص الخلقة ويتمنى لو يجد دواء ينبت الشعر وإن كان ممن اعتادوا حلق اللحى، ويتبع قوة المزاج وكمال الخلقة قوة العقل وصحة النظر في مبادي الأمور وغاياتها ومن أمثال الأطباء والعلماء : العقل السليم في الجسم السليم. ويتبع ذلك الكمال في الأعمال الكسبية فالرجال أقدر على الكسب والاختراع والتصرف في الأمور أي فلأجل هذا كانوا هم المكلفين أن ينفقوا على النساء وأن يحموهن ويقوموا بأمر الرياسة العامة في مجتمع العشيرة التي يضمها المنزل إذ لابد في كل مجتمع من رئيس يرجع إليه في توحيد المصلحة العامة اه بزيادة وإيضاح.
أقول : ويتبع هذه الرياسة جعل عقدة النكاح في أيدي الرجال هم الذين يبرمونها برضا النساء، وهم الذين يحلونها بالطلاق، وأول ما يذكره جمهور المفسرين المعروفين في هذا التفضيل النبوة والإمامة الكبرى والصغرى وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة في الجمعة وغيرها، ولا شك أن هذه المزايا تابعة لكمال استعداد الرجال، وعدم الشاغل لهم عن هذه الأعمال، على ما في النبوة من الاصطفاء والاختصاص، ولكن ليست هي أسباب قيام الرجال على شؤون النساء وإنما السبب هو ما أشير إليه بباء السببية لأن النبوة اختصاص لا يبنى عليها مثل هذا الحكم كما أنه لا يبنى عليها أن كل رجل أفضل من كل امرأة لأن الأنبياء كانوا رجالا، وأما الإمامة والخطبة وما في معناهما مما ذكروه إنما كان للرجال بالوضع الشرعي فلا يقتضى أن يميزوا بكل حكم ولو جعل الشرع للنساء أن يخطبن في الجمعة والحج ويؤذن ويقمن الصلاة لما كان ذلك مانعا أن يكون من مقتضى الفطرة أن يكون الرجال قوامين عليهن، ولكن أكثر المفسرين يغفلون عن الرجوع إلى سنن الفطرة في تعليل حكمة أحكام دين الفطرة، ويلتمسون ذلك كله من أحكام أخرى.
قال تعالى :﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ﴾ هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل، ذكر أنهن فيها قسمان صالحات وغير صالحات وأن من صفة الصالحات القنوت وهو السكون والطاعة لله تعالى وكذا لأزواجهن بالمعروف، وحفظ الغيب.
قال الثوري وقتادة : حافظات للغيب يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) وقرأ ( صلى الله عليه وسلم ) الآية. وقال الأستاذ الإمام الغيب هنا هو ما يستحي من إظهاره أي حافظات لكل ما هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين فلا يطلع أحد منهم على شيء مما هو خاص بالزوج.
أقول : ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث فما بالك بحفظ العرض. وعندي أن هذه العبارة هي أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرأها خرائد العذارى جهرا. ويفهمن ما تومئ إليه مما يكون سرا، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات، التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب ﴿ بما حفظ الله ﴾ فالانتقال السريع من ذلك الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبته عز وجل. وفسروا قوله تعالى :﴿ بما حفظ الله ﴾ بما حفظه لهن في مهورهن وإيجاب النفقة لهن، يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبتهم جزاء على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى، وما أراك إلا ذاهبا معي إلى وهن هذا القول وهزاله، وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس، أو عين تبصر، أو أذن تسترق السمع، معللا بدراهم قبضن، ولقيمات يرتقبن، ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي وهو أن الباء في قوله ﴿ بما حفظ الله ﴾ هي صنو باء " لا حول ولا قوة إلا بالله " وأن المعنى حافظات للغيب بحفظ الله أي بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياه بصلاحهن فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة، أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه، فهن يطعنه ويعصين الهوى، فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية ولا يحفظن الغيب فيها !.
الأستاذ الإمام : إن هذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي بينه وبين حكمه بقوله عز وجل :﴿ والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ﴾ النشوز في الأصل بمعنى الارتفاع فالمرأة التي تخرج عن حقوق الرجل قد ترفعت عليه وحاولت أن تكون فوق رئيسها، بل ترفعت أيضا عن طبيعتها وما يقتضيه نظام الفطرة في التعامل فتكون كالناشز من الأرض الذي خرج عن الاستواء. وقد فسر بعضهم خوف النشوز بتوقعه فقط، وبعضهم بالعلم به، ولكن يقال
﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ الخلاف بين الزوجين قد يكون بنشوز المرأة وقد يكون بظلم من الرجل فالنشوز يعالجه الرجل بأقرب التأديبات الثلاثة المبينة في الآية التي قبل هذه الآية على ما مر سرده وحلا ورده. وقد يكون بظلم من الرجل فإذا تمادى هو في ظلمه، أو عجز عن إنزالها عن نشوزها، وخيف أن يحول الشقاق بينهما دون إقامتهما لحدود الله تعالى في الزوجية، بإقامة أركانها الثلاثة السكون المودة والرحمة، وجب على المؤمنين المتكافلين في مصالحهم ومنافعهم أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها عارفين بأحواله وأحوالها، ويجب على هذين الحكمين، أو يوجها إرادتهما إلى إصلاح ذات البين، ومتى صدقت الإرادة كان التوفيق الإلهي رفيقها إن شاء الله تعالى، ويجب الخضوع لحكم الحكمين والعمل به. فخوف الشقاق توقعه بظهور أسبابه، والشقاق هو الخلاف الذي يكون به كل من المختلفين في شق أي في جانب والحكم ( بالتحريك ) من له حق الحكم والفصل بين الخصمين :
*فيك الخصام وأنت الخصم والحكم١*
ويطلق على الشيخ المسن لأن من شأنه أن يتحاكم إليه لرويته وتجربته، والمراد ببعثهما إرسالهما إلى الزوجين لينظرا في شكوى كل منهما، ويتعرفا ما يرجى أن يصلح بينهما، يسترضوهما بالتحكيم، وإعطائهما حق الجمع والتفريق، روى الشافعي في الأم والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال جاء رجل وامرأة إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه ومع كل واحد منهما فئام٢ من الناس، فأمرهم عليّ أن يبعثوا رجلا حكما من أهله ورجلا حكما من أهلها ثم قال للحكمين :" تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا " قالت المرأة رضيت كتاب الله تعالى بما علي به ولي، وقال الرجل أما الفرقة فلا. فقال عليّ كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وروى ابن جرير عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أنه قال في هذه الآية هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي. وأكثر فقهاء المذاهب المعروفة لا يقولون بقولي هذين الإمامين الصحابيين فيما هو حق للحكمين والمسألة اجتهادية عندهم والمجتهد لا يقلد مجتهدا آخر، والنص إنما هو في وجوب بعث الحكمين، ليجتهدوا في إصلاح ذات البين، وهل هما قاضيان ينفذ حكمهما بكل حال، أم وكيلان ليس لهما إلا ما وكلهما الزوجان به ؟ المسألة خلافية والظاهر الأول لأن الحكم في اللغة هو الحاكم.
الأستاذ الإمام : الخطاب للمؤمنين ولا يتأتى أن يكلف كل واحد أو كل جماعة منهم ذلك ولذلك قال بعض المفسرين إن الخطاب هنا موجه إلى من يمكنه القيام بهذا العمل ممن يمثل المسلمين وهم الحكام، وقال بعضهم إن الخطاب عام ويدخل فيه الزوجان وأقاربهما فإن قام به الزوجان أو ذوو القربى أو الجيران فذاك وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى في إصلاح ذات بينهما بذلك. وكلا القولين وجيه فالأول يكلف الحكام ملاحظة أحوال العامة والاجتهاد في إصلاح أحوالهم، والثاني : يكلف كل المسلمين أن يلاحظ بعضهم شؤون بعض ويعينه على ما تحسن به حاله. واختلفوا في وظيفة الحكمين فقال بعضهم إنهما وكيلان لا يحكمان إلا بما وكلا به وقال بعضهم إنهما حاكمان ( وذكر مذهب عليّ وابن عباس بالاختصار وقد ذكرنا الرواية عنهما آنفا ) وقوله ﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ يشعر بأنه يجب على الحكمين أن لا يدّخرا وسعا في الإصلاح كأنه يقول إن صحت إرادتهما فالتوفيق كائن لا محالة. وهذا يدل على نهاية العناية من الله تعالى في إحكام نظام البيوت الذي لا قيمة له عند المسلمين في هذا الزمان، وانظروا كيف لم يذكر مقابل التوفيق بينهما وهو التفريق عند تعينه، لم يذكره حتى لا يذكر به لأنه يبغضه وليشعر النفوس أنه ليس من شأنه أن يقع.
وظاهر الأمر أن هذا التحكيم واجب لكنهم اختلفوا فيه فقال بعضهم إنه واجب وبعضهم إنه مندوب واشتغلوا بالخلاف فيه عن العمل به، لأن عنايتنا بالدين صارت محصورة في الخلاف والجدل، وتعصب كل طائفة من المسلمين لقول واحد من المختلفين، مع عدم العناية بالعمل به، فهاهم أولاء قد أهملوا هذه الوصية الجليلة لا يعمل بها أحد على أنها واجبة ولا على أنها مندوبة والبيوت يدب فيها الفساد، فيفتك بالأخلاق والآداب، ويسري من الوالدين إلى الأولاد.
﴿ إن الله كان عليما خبيرا ﴾ أي إنه كان فيما شرعه لكم من هذا الحكم عليما بأحوال العباد وأخلاقهم وما يصلح لهم خبيرا بما يقع بينهم وبأسبابه الظاهرة والباطنة فلا يخفى عليه شيء من وسائل الإصلاح بينهما، وإني لأكاد أبصر الآية الحكيمة تومئ بالاسمين الكريمين إلى أن كثيرا من الخلاف يقع بين الزوجين فيظن أنه مما يتعذر تلافيه هو في الواقع ونفس الأمر ناشئ عن سوء التفاهم لأسباب عارضة، لا عن تباين في الطباع أو عداوة راسخة، وما كان كذلك يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين لقربهما منهما، أن يمحصا ما علق من أسبابه في قلوبهما، مهما حسنت النية وصحت الإرادة.
إن الزوجية أقوى رابطة تربط اثنين من البشر أحدهما بالآخر فهي الصلة التي بها يشعر كل من الزوجين بأنه شريك الآخر في كل شيء مادي ومعنوي حتى أن كل واحد منهما يؤاخذ الآخر على دقائق خطرات الحب، وخفايا خلجات القلب، يستشفها من وراء الحجب، أو توحيها إليه حركات الأجفان، أو يستنبطها من فلتات اللسان، إذا لم تصرح بها شواهد الامتحان، فهما يتغايران في أخفى ما يشتركان فيه، ويكتفيان بشهادة الظنة والوهم عليه، فيغريهما ذلك بالتنازع في كل ما يقصر فيه أحدهما من الأمور المشتركة بينهما، وما أكثرهما، وأعسر التوقي منها، فكثيرا ما يفضي التنازع إلى التقاطع، والتغاير إلى التدابر، فإن تعاتبا فجدل ومراء، لا استعتاب واسترضاء، حتى يحل الكره والبغضاء، محل الحب والهناء، لذلك يصح لك أن تحكم إن كنت عليما بالأخلاق والطباع، خبيرا بشؤون الاجتماع، بأن تلك الحكمة التي أرسلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) هي القاعدة الثابتة الصحيحة في جميع الأمم وجميع الأعصار، وانها يجب أن تكون في محل الذكرى من الحكمين، اللذين يريدان إصلاح ما بين الزوجين، كما يجب أن يعرفها ولا ينساها جميع الأزواج تلك الحكمة هي قوله للتي صرحت بأنها لا تحب زوجها : إذا كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تخبره بذلك فإن أقل البيوت ما بني على المحبة وإنما يعيش ( أو قال يتعاشر ) الناس بالحسب والإسلام. أي إن حسب كل من الزوجين وشرفه إنما يحفظ بحسن عشرته للآخر وكذلك الإسلام يأمرهما بأن يتعاشرا بالمعروف ( راجع تفسير ﴿ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾ ) [ النساء : ١٩ ].
قد اهتدى الإفرنج إلى العمل بهذه الحكمة البالغة بعد أن استبحر علم النفس والأخلاق وتدبير المنزل عندهم فربوا نساءهم ورجالهم على احترام رابطة الزوجية وعلى أن يجتهد كل من الزوجين أن يعيشا بالمحبة فإن لم يسعدا بها فليعيشا بالحسب وهو تكريم كل منهما للآخر ومراعاته لشرفه وقيامه بما يجب له من الآداب والأعمال التي جرى عليها عرف أمتهم. ثم يعذره فيما وراء ذلك وإن علم أنه لا يحبه فلا يذكر له ذلك، وقد صرحوا بأن سعادة المحبة الزوجية الخالصة قلما تمتع بها زوجان وإن كانت أمنية كل الأزواج، وإنما يستبدلون بها المودة العملية. ولكنهم بإباحة المخالطة والتبرج قد أفرطوا في إرخاء العنان، حتى صار الأزواج يتسامحون في السفاح أو اتخاذ الأخدان، وهذا ما يعصم مجموع أمتنا منه الإسلام.
١ صدره: "يا أعدل الناس إلا في معاملتي"، والبيت من البسيط وهو للمتنبي في ديوانه٢/٨٢..
٢ الفئام: الجماعة من الناس..
﴿ *واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا٣٦ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا٣٧ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا٣٨ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما٣٩ ﴾.
قال البقاعي في وجه اتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها ما نصه : ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا نتيجة التقوى ( كذا ) العدل والفضل والترغيب في نواله، والترهيب من نكاله، إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها فكان التقدير حتما فاتقوه عطف عليه أو على نحو ﴿ واسألوا الله من فضله ﴾ أو على ﴿ اتقوا ربكم ﴾ الخلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق، فقال ﴿ واعبدوا الله ﴾ الخ وأقول إنه أبعد في العطف، وأحسن في الترتيب والوصف.
الأستاذ الإمام : كل ما تقدم من الأحكام كان خاصا بنظام القرابة والمصاهرة وحال البيوت التي تتكون منها الأمة، ثم إنه تعالى بعد بيان تلك الأحكام الخصوصية، أراد أن ينبهنا إلى بعض الحقوق العمومية، وهي العناية بكل من يستحق العناية وحسن المعاملة من الناس، فبدأ ذلك بالأمر بعبادته تعالى، وعبادته ملاك حفظ الأحكام والعمل بها وهي الخضوع له تعالى وتمكين هيبته وخشيته من النفس، والخشوع لسلطانه في السر والجهر، فمتى كان الإنسان على هذا فإنه يقيم هذه الأحكام وغيرها حتى تصلح جميع أعماله ولذلك كانت النية عندنا تجعل الأعمال العادية عبادات كالزارع يزرع ليقيم أمر بيته ويعول من يمونه ويفيض من فضل كسبه على الفقراء والمساكين ويساعد على الأعمال ذات المنافع العامة فعمله بهذه النية يجعل حرثه من أفضل العبادات فليست العبادة في قوله هنا :﴿ واعبدوا الله ﴾ خاصة بالتوحيد كما قال المفسر ( الجلال ) بل هي عامة كما قلنا تشمل التوحيد وجميع ما يمده من الأعمال.
﴿ ولا تشركوا به شيئا ﴾ من الأشياء أو شيئا من الإشراك ( قال ) اختلف تعبيرهم والمعنى واحد، والإشراك بالله يستلزم الإيمان به والنهي عنه يستلزم النهي عن التعطيل بالأولى. أقول يعني أن الشرك هو الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب والسنن المعروفة في الخلق بأن يرجى صاحبها ويخشى منه ما تعجز المخلوقات عن مثله، وهذه السلطة لا تكون لغيره تعالى فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه في أمر من الأمور التي هي وراء الأسباب المقدورة للمخلوقين عادة لأن هذا خاص به تعالى فمن اعتقد أن غيره يشركه فيه كان مؤمنا مشركا :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ] وأما التعطيل فهو إنكار الألوهية ألبتة أي إنكار تلك السلطة الغيبية التي هي مبدأ كل قوة وتصرف وفوق كل قوة وتصرف، فإذا نهى تعالى أن يشرك به غيره فيما استأثر به من السلطة والقدرة والتصرف ولم يجعله من الهبات التي منحها خلقه وعرفت عن سنته فيهم فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته يكون أولى. قال : والإشراك قد ذكر في القرآن بعض ضروبه عند مشركي العرب وهو عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله تعالى يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده كما هو المعهود من معنى الولاية والشفاعة عندهم والآيات في ذلك كثيرة :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ [ يونس : ١٨ ] ﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ﴾ [ الزمر : ٣ ].
وذكر أن أهل الكتاب دخل عليهم الشرك فالنصارى عبدوا المسيح عليه السلام وبعضهم عبد أمه السيدة مريم رضي الله عنها وقال الله في الفريقين :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون ﴾ [ التوبة : ٣٢ ] وقد ورد في تفسيره بالحديث الصحيح المرفوع أنهم كانوا يضعون لهم أحكام الحلال والحرام فيتبعونهم فيها وسبق ذكر ذلك في التفسير غير مرة.
قال : فالشرك أنواع وضروب أدناها ما يتبادر إلى أذهان عامة المسلمين أنه العبادة لغير الله كالركوع والسجود له، وأشدها وأقواها هو ما سماه الله دعاء واستشفاعا وهو التوسل بهم إلى الله وتوسيطهم بينهم وبينه تعالى فالقرآن ناطق بهذا وهو المشهور في كتب السير والتاريخ، فهذا المعنى هو أشد أنواع الشرك وأقوى مظاهره التي يتجلى فيها معناه أتم التجلي، وهو الذي لا ينفع معه صلاة ولا صيام ولا عبادة أخرى.
ثم ذكر أن هذا الشرك قد فشا في المسلمين اليوم وأورد شواهد على ذلك عن المعتقدين الغالين في البدوي " شيخ العرب " والدسوقي وغيرهما لا تحتمل التأويل، وبين أن الذين يؤولون لأمثال هؤلاء إنما يتكلفون الاعتذار لهم لزحزحتهم عن شرك جليّ واضح إلى شرك أقل منه جلاء ووضوحا ولكنه شرك ظاهر على كل حال، وليس هو من الشرك الخفي الذي وردت الأحاديث بالاستعاذة منه الذي لا يكاد يسلم منه إلا الصديقون ومنه أن يعمل المؤمن العمل الصالح من العبادة لله تعالى ويحب أن يمدح عليه أو يتلذذ المدح عليه مثلا.
أقول : ثم عقب الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالوصية بالوالدين فقال :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما لا تقصروا في شيء منه يقال أحسن به وأحسن له وأحسن إليه، وقيل إذا تعدى الإحسان بالباء يكون متضمنا لمعنى العطف وعندي أن التعدية بالباء أبلغ لإشعارها بإلصاق الإحسان بمن يوجه إليه من غير إشعار بالفرق بينه وبين المحسن، والتعدية بإلى تشعر بطرفين متباعدين يصل الإحسان من أحدهما إلى الآخر.
والإحسان في المعاملة يعرفه كل أحد وهو يختلف باختلاف أحوال الناس وطبقاتهم وإن العامي الجاهل ليدري كيف يحسن إلى والديه ويرضيهما ما لا يدري العالم النحرير إذا أراد أن يحدد له ذلك، وقال بعضهم إن جماع الإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما، وأن يسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر سعته، وأنت تعلم أن من فعل ذلك وهو لا يلقاهما إلا عابسا مقطبا، أو أدى النفقة التي يحتاجان إليها وهو يظهر الفاقة والقلة فإنه لا يعد محسنا بهما، فالتعليم الحرفي لا يحدد الإحسان المطلوب من كل أحد بل العمدة فيها اجتهاد المرء وإخلاص قلبه في تحري ذلك بقدر طاقته وحسب فهمه لأكمل الإرشاد الإلهي التفصيلي في ذلك بقوله عز وجل :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا* ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ٢٥ ] فأنت ترى الرب العليم الحكيم الرحيم قد قفى هذه الوصية البليغة الدقيقة ببيان أن العبرة بما في نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه وأن التقصير مع هذا مرجو الغفران، وقد فصل بعض العلماء القول في ذلك كالغزالي في الإحياء وابن حجر في الزواجر.
قال الأستاذ الإمام : الخطاب لعموم الأفراد أي ليحسن كل لوالديه وذلك أنهما السبب الظاهر في وجود الولد ونموه بذلا من الجهد والطاقة في تربيته بكل رحمة وإخلاص وقد بينت كتب الأحكام الظاهرة ما للوالدين من حقوق النفقة وبينت كتب الدين جميع الحقوق والمراد بكتب الدين كتب آدابه كالإحياء للغزالي ويجمع هذه الحقوق كلها آيتا سورة الإسراء وذكرهما وتكلم عليهما قليلا وأقول : إن ههنا مسألة مهمة قلما تجد أحدا من علمائنا بينها كما ينبغي وهو أن بعض الوالدين يتعذر إرضاؤهما بما يستطيعه أولادهما من الإحسان بل يكلفون الأولاد ما لا طاقة لهم به وما أعجب حكمة الله في خلق هذا الإنسان، قلما تجد ذا سلطة لا يجور ولا يظلم في سلطته حتى الوالدين على أولادهما، وهما اللذان آتاهما الفاطر من الرحمة الفطرية ما لم يؤت سواهما، قد تظلم الأم ولدها قليلا مغلوبة لبادرة الغضب أو طاعة لما يعرض من أسباب الهوى، كأن تتزوج رجلا تحبه، وهو يكره ولدها من غيره، وكان يقع التغاير بينها وبين امرأة ولدها وتراه شديد الحب لامرأته يشق عليه أن يغضبها لأجل مرضاتها هي، ففي مثل هذه الحال قلما ترضى الأم بالعدل، وتعذر ولدها في خضوعه لسلطان الحب، وإن هو لم يقصر فيما يجب لها من البر والإحسان، بل تأخذها عزة الوالدية، حتى تستل من صدرها حنان الأمومة، ويطغى في نفسها سلطان استعلائها على ولدها، ولا يرضيها إلا أن يهبط من جنة سعادة الزوجية لأجلها، وربما تلتمس له في مثل هذه الحال زوجا آخر ينفر منها طبعه، وما حيلته وقد سلب منه قلبه، كما أنها تظلمه من أول الأمر بمثل هذا الاختيار، وظلم الآباء فيه أشد من ظلم الأمهات، ولا تجب طاعة الوالدين في مثل هذا، ويا ويح الولد الذي يصاب بمثلهما، ولا سيما إذا كانا جاهلين بليدين يتعذر إقناعهما.
ولعلك إذا دققت النظر في أخبار البشر لا تجد فيها أغرب من تحكم الوالدين في تزويج الأولاد بمن يكرهون، أو إكراههم على تطليق من يحبون، ثبت في الهدي النبوي الشريف أن الثيب من النساء أحق بنفسها فليس لأبيها ولا لغيره من أوليائها أن يعقدوا لها إلا على من تختاره وترضاه لنفسها، لأنها لممارستها الرجال تعرف مصلحتها، وأن البكر على حيائها وغرارتها، وعدم اختبارها وعلم ما يعلم الأب الرحيم من مصلحتها، يجب أن تستأذن في العقد عليها، ويكتفي من إذنها بصماتها، وظاهره أنها إذا لم تظهر الرضى بل صرحت بعدمه لا يجوز العقد عليها، ومن قال من الفقهاء إن الأب ولي مجبر كالشافعية اشترطوا في صحة تزويجه لبنته بدون إذنها أن يكون الزوج كفؤا لها وأن يكون موسرا بالمهر حالا وأن لا يكون بينها وبينه عداوة ظاهرة ولا خفية، وأن لا يكون بينها وبين الولي العاقد عداوة ظاهرة. فهذا قولهم في العذراء المخدرة، وأما الرجل فهو أحق من أبيه بتزويج نفسه إجماعا وليس لأبيه ولاية عليه في ذلك فكيف يتحكم الوالد في ولده بما لا يحكم به الشرع ولا ترضى به الفطرة، أليس هذا من ظلم الاستعلاء الذي يوهم الرجل أن ابنه كعبده، يجب أن لا يكون له معه رأي ولا اختيار في أمره، لا في حاضره ولا في مستقبله الذي يكون عليه بعده، وإن كان الوالد جاهلا بليدا، والولد عالما رشيدا، وعاقلا حكيما ؟ والويل كل الويل للولد إذا كان والده الجهول الظلوم غنيا، وكان هو معوزا فقيرا، فإن والده يدل عليه حينئذ بسلطتين، ويحاربه بسلاحين، لا يهولنك أ
ثم إنه تعالى بين حال هؤلاء المتكبرين بقوله :﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾ روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال كان كردم ابن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت ( كلهم من اليهود ) يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون. فأنزل الله تعالى :﴿ الذين يبخلون إلى قوله وكان الله بهم عليما ﴾ وروى ابن حميد وغيره عن قتادة أنه قال في الآية هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
وبناء على هاتين الروايتين جعل المفسر ( الجلال ) الآية كلاما مستأنفا في اليهود، فجعل الذين يبخلون مبتدأ خبره محذوف وتقديره لهم وعيد شديد، والظاهر أنه بدل من قوله تعالى :﴿ من كان مختالا ﴾ أو صفة له على القول بوقوع الموصول موصوفا وعليه الزجاج، وقيل إنه منصوب أو مرفوع على الذم، وأقرب منه ومن قول الجلال أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل. والبخل بضم فسكون وبه قرأ الجمهور وبالتحريك وبه قرأ حمزة والكسائي وقرئ بضمتين وبفتح وسكون وهما لغتان أيضا.
الأستاذ : قال المفسر يبخلون بما آتاهم الله من العلم والمال وهم اليهود. وهما قولان فمن خص البخل بالبخل بالعلم جعل الكلام في اليهود ومن قال هو البخل بالمال لم يجعله في اليهود فالمفسر جمع بين القولين وخص الكلام باليهود واضطر لأجل ذلك إلى قطع الكلام وجعل ﴿ الذين ﴾ مبتدأ خبره محذوف وإن لم يوجد في الكلام ما يدل عليه، ولمن يحمل الكلام على اليهود مندوحة عن هذا القطع إلى أهون منه وهو القطع من ابتداء قوله تعالى :﴿ إن الله لا يحب ﴾ الخ ومن العجيب أن مثل ابن جرير الطبري حمل الكلام على اليهود كأنه تعالى بعد تلك الأوامر بالإحسان ختم الكلام بقوله إن الله لا يحب اليهود، وما هذا بأقرب إلى البلاغة من القطع الأول، وأعجب من قول ابن جرير تعليله إياه بأنه لا يوجد في الناس أمة تأمر الناس بالبخل على أنه دين فتعين أن يكون المراد بالبخل البخل بغير المال. وكأن ابن جرير لم يخبر الناس فإن من طبيعة البخيل الأمر بالبخل بحاله ومقاله ليسهل على نفسه خلقه الذميم ويجد له فيه أقرانا وأمثالا. وذكر الأستاذ أن من الناس من أمروه بالبخل مرارا، وإن أمرهم كان يؤثر في نفسه أحيانا، حتى أنه ربما رد يده بالدراهم إلى جيبه بعد إخراجها إذا كان للبخيل المنفر شبهة قوية كقوله إن هذا غير مستحق فإعطاؤه إضاعة وإذا وضع ما يراد إعطاؤه إياه في موضع كذا يكون خيرا وأولى، وأقول إن هذا وقع لي أيضا حتى في هذا الأسبوع الذي أكتب فيه وأنا في القسطنطينية، وليس لدي الآن تفسير ابن جرير فأراجع عبارته فإني أرى العجب العجاب فيما نقله عنه الأستاذ هو مخالفته للرواية التي نقلتها آنفا عن بعض التفاسير في سبب النزول وهي مروية عنه وعن ابن إسحاق وابن المنذر، والذم على الأمر بالبخل لا يتوقف على الأمر به باسم الدين فليراجعه من شاء، وليتذكر القارئ ما نبهنا عليه من قبل في سبب النزول وهو أنهم يذكرون فيه الحوادث التي اقترنت بزمن نزول الآية إذا كانت تناسبها وإن لم تكن الآية نزلت في الحادثة التي ذكروها خاصة بأن تكون نزلت في سياق هي متممة له، ولكن الراوي رأى أنها تتناول تلك الحادثة، أو ظن أنها نزلت فيها خاصة، وقد يكون مخطئا في اجتهاده لمنافاة ذلك لأسلوب القرآن البليغ ولنعد إلى سياق الأستاذ الإمام في الآية قال ما مثاله :
المتعين في السياق أن قوله تعالى :﴿ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ﴾ تعليل لما قبله، وإن قوله :﴿ الذين يبخلون ﴾ الخ وصف لمن كان مختالا فخورا أو بدل منه ولم يذكر ما يبخلون به فيخصه بالمال لأن الإحسان بالوالدين وذي القربى وما عطف عليهم في الآية لم يكن مرادا به الإحسان بالمال فقط كما علم مما تقدم بل منه الإحسان بالقول والمعاملة، فالمراد بالبخل البخل بذلك الإحسان المأمور به فهو أعم من البخل بالمال فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح في التعليم، وبالنفس لإنقاذ المشرف على التهلكة، وكذلك كتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم، وجيء بعد الأول لتوبيخ أهله، وبيان أنهم لا حق لهم فيه، ويجوز أن يخص البخل بإمساك المال، ويجعل الكتمان عاما شاملا لما عداه من أنواع الإحسان، فالكلام في الإحسان، والمقصرون فيه إنما يقصرون بعلة الخيلاء والفخر، اللذين هما مظهر الترفع والكبر، فهو يبين لنا أن من كان ملوث النفس بتلك الرذيلة لا يكون محسنا، لأن الكبر يستلزم جحود الحق، ولا سيما إذا ظهرت آثاره بالقول والعمل، وجحود الحق يستلزم منعه ومنعه هو البخل، فبين أن الملوثين بذلك الخلق الذي يبغض الله صاحبه ولا يحبه ( وهو الكبر البين أثره ) يبخلون بما أمروا به من الإحسان ويأمرون الناس بالبخل إما بلسان المقال وإما بلسان الحال بأن يكونوا قدوة سيئة في ذلك، ويكتمون نعم الله تعالى عليهم بإنكارها وعدم الشكر عليها بالإنفاق منها ولذلك توعدهم بقوله :﴿ وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ﴾ أي وهيأنا لهم بكبرهم وكفرهم، وبخلهم وعدم شكرهم، عذابا ذا إهانة يجمع لهم فيه بين الألم والمهانة والذلة جزاء كبرهم وقال للكافرين ولم يقل لهم للإيذان بأن هذه الأخلاق والأعمال إنما تكون من الكفور، لا من المؤمن الشكور.
﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ﴾ قال الأستاذ : الرئاء ويخفف فيقال الرياء مصدره راءى كالمراءاة، والجملة عطف على الذين يبخلون وأعيد الموصول للدلالة على المغايرة في الأصناف كقوله :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] من سورة آل عمران، أي أن مانعي الإحسان من أهل الفخر والخيلاء صنفان صنف يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم وصنف يبذلون المال لا شكرا لله على نعمته واعترافا لعباده بحقوقهم، بل ينفقونها رئاء الناس أي مرائين لهم يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم، ويحمدوا فعلهم، فالمرائي لا يقصد بإنفاقه إلا الفخر على الناس بكبريائه، وإشراع الطريق لخيلائه، فإنفاقه أثر تلك الملكة الرديئة.
والكبرياء كما تكون من شيء في نفس الشخص، تكون أيضا بما يكون له من المال والعرض. فإنك لترى الرجل يمشي ينظر إلى عطفيه ويفكر في نفسه هل هو محل الإعجاب والتعظيم من الناس أم لا ( والمرجح عنده نعم على لا ) وشر هذا دون شر البخيل فإن هذا يحمل الناس على قبول اختياله وفخره في مقابلة شيء يبذله لهم فكأنه رأى لهم شيئا من الحق عليه وهو بدل التعظيم والثناء الذي يطلبه برئائه، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس واختياله وفخره عليهم أن لا يرى لهم عليه حقا ما فهو يكلفهم تعظيمه ومدحه لأجل ماله وماله في الصندوق مكتوم عنهم فهو شر من المرائي بلا شك، ولذلك قدم ذكر البخلاء اهتماما بهم لأنهم أعرق في تلك الرذيلة وآثارها. والمرائي في الحقيقة بخيل لا يرى لأحد عليه حقا ولكنه يتوهم أنه صاحب الفضل على الناس ولذلك يخص ببذله في الغالب من لا حق لهم عنده ويبخل على أرباب الحقوق المؤكدة حتى على زوجه وولده وخادمه، وعلى الأقربين حتى الوالدين، ولا يتحرى في إنفاقه مواضع النفع العام ولا الخاص وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح وإن كان الإنفاق هنالك ضارا كالمساعدة على الفسق أو الفتن، هو تاجر يشتري تعظيم الناس له وتسخيرهم لقضاء حاجته والقيام بخدمته.
أقول : إن ما يبينه الأستاذ الإمام هنا هو الرياء الحقيقي الممقوت عند الله وعند خيار عباده ويقول علماء الأخلاق الدينية أن للرياء أنواعا ومراتب، وإن منها أن يبذل المال لمستحقه امتثالا لأمر الله تعالى وقياما بالحق وإيثارا للخير، وقد يخفيه ولكنه يحب أن يحمد على ذلك إذا عرف، ويعدون الرياء من الشرك الخفي ويقولون إن منه ما هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كهذا المثال الذي ذكرناه، وإنما هذا من قبيل ما يحاسب عليه أنفسهم الصديقون، ويقال في مثله حسنات الأبرار سيئات المقربين، والحق أن من جاء بالإحسان لأنه إحسان فهو مرضي عند الله نافع للناس، فلا يضيره حبه أن يحمد بما فعل، وإن كان عدم المبالاة بذلك لذاته أكمل، وقد بينت ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ﴾ [ آل عمران : ١٨٨ ] الآية فراجعه في الجزء الرابع من التفسير، أو في المنار.
الأستاذ الإمام : ثم وصف الله تعالى هؤلاء المجرمين المرائين بقوله :﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ وهو من عطف السبب على المسبب والعلة على المعلول، ذلك بأن المرائي يثق بما عند الناس ما لا يثق بما عند الله، ويرجح التقرب إليهم على التقرب إليه، ويؤثر ما عندهم من المدح وتوقع النفع، على ما أعده الله في الآخرة على الإيمان وعمل الصالحات، فالله في نظره المظلم أهون من الناس، فهل يعد مثل هذا مؤمنا بالله إيمانا حقيقيا مؤمنا باليوم الآخر كما يجب ؟ أم يكون إيمانه تخيلا كتخيل الشعراء، وقولا كقول الصبيان : والله ما فعلت كذا. فالواحد منهم ينطق باسم الله ويؤكد باسمه الكريم الكلام وهو لا يعرف الله وإنما يسمع الناس يقولون قولا فيقلدهم بما يحفظ منه، لا يعرف أنه هو موجد الكائنات، النافذ علمه وقدرته بما في الأرض والسموات، فهل يكون مثل هذا مؤمنا بالله واليوم الآخر ؟ كلا إنه لو كان مؤمنا باليوم الآخر موقنا بأن له هنالك حياة أبدية لا نهاية لها، لما فضل عليها عرض هذه الحياة القصيرة التي لا قيمة لها.
ومن آيات الفرق بين المخلص والمرائي أن المرائي يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل والمخلص قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كأن يرغب بعض الناس في البذل فيقول للغني مثلا إنني على فقري أو على قدر حالي قد أعطيت في مصلحة كذا كذا درهما أو دينارا فاللائق بك أن تبذل كذا.
وأقول : إن من شأن الكافر الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أن لا يبذل مالا ولا يعمل عملا صالحا إلا بقصد الرياء والسمعة لأنه ليس له وراء حظوظ هذه الدنيا أمل ولا مطلب والمؤمن ليس كذلك فإن وقع الرياء من مؤمن فإنما يقع من ضعيف الإيمان قليلا ولا يكون كل عمل المؤمن كذلك بل يكون ذلك إلماما يندم عليه صاحبه ويسرع إلى التوبة، وإلا كان كافرا مجاهرا، أو منافقا مخادعا، وسيأتي شيء من تحقيق هذا البحث في تفسير قوله تعالى في هذه السورة :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ [ النساء : ١٤٢ ].
قال تعالى :﴿ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾ أي إن الحامل لأولئك المتكبرين على ما ذكر هو وسوسة الشيطان التي عبر عنها في آية البقرة بقوله :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ [ البقرة : ٢٦٨ ] فبين أن هؤلاء قرناء الشيطان وهو بئس القرين فعلم أن حالهم في الشر كحال الشيطان، ولن يصرح بالمقصد بل اكتفى بذم من كان الشيطان قرينا له وهذا من الإيجاز الذي لا يجده الإنسان في غير القرآن، قال الأستاذ الإمام : أقول وفي الآية تنبيه إلى تأثير قرناء المرء في سيرته وما ينبغي من اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير أولئك الأنصار من مقارنة أولئك اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق في سبيل الله وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر، وينهون عن العرف ويأمرون بالمنكر، والقرين الصالح من يكون عونا لك على الخير مرغبا لك فيه، منفرا لك بنصحه وسيرته عن الشر مبعدا لك عنه، مذكرا لك بتقصيرك، مبصرا إياك بعيوب نفسك، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا، وكم أفسد قرين السوء صالحا.
﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ﴾ قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة وإيضاح : أي ما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا وأنفقوا، وهذا الكلام موجه إلى جميع المكلفين المخاطبين بالقرآن. وكان أكثر العرب يؤمنون قبل البعثة بالله تعالى وكونه هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما ومنهم من كان يؤمن بحياة أخرى بعد الموت وكانوا مع ذلك مشركين وإيمانهم على غير الوجه الصحيح، وكذلك أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ولكن الشرك كان قد تغلغل فيهم أيضا، فالمراد الإيمان الصحيح مع الإذعان الذي يظهر أثره في العمل، و﴿ لو ﴾ على معناها وجوابها محذوف دل عليه ما قبله من الاستفهام والكلام مسوق مساق التعجب من حالهم في إنفاق المال وعمل الإحسان لوجه الله عز وجل وابتغاء رضوانه وثوابه في الآخرة، والمراد من التعجب إثارة عجب الناس من حالهم إذ لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى، وكثيرا ما يفوت المرائي غرضه من التقرب إلى الناس وامتلاك قلوبهم وتسخيرهم لخدمته أو الثناء عليه ويفوز بذلك المخلص الذي يخفي العمل من حيث لا يطلبه ولا يحتسبه، ففي هذه الحالة يكون للمخلص سعادة الدارين، ويرجع المرائي بخفي حنين، بل يكون قد خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، فجهل المرائين جدير بأن يتعجب منه لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس، ولو آمنوا وأخلصوا وأحسنوا ووثقوا بوعد الله ووعيده لكان هذا الإيمان كنز سعادة لهم، فإن من يحسن موقنا أن المال والجاه من فضل الله على العبد وأنه ينبغي أن يتقرب بهما إليه تعلو همته فتهون عليه المصاعب والنوائب، ويكون هذا الإيمان الصحيح عوضا له من كل فائت، وسلوى في كل مصاب، وفاقد الإيمان الحقيقي عرضة للغم واليأس من كل خير عند ما يرى خيبة أمله وكذب ظنه في الناس، فإذا وقع في مصاب عظيم كفقد المال ولا سيما إذا ذهب كل ماله وأمسى فقيرا ولم ينقذه الناس ولا بالوا به، فإن الغم والقهر ربما أماتاه جزعا لا صبرا، وربما بخع نفسه وانتحر بيده، ولذلك يكثر الانتحار من فاقدي الإيمان.
وأما المؤمن فإن أقل ما يؤتاه في المصائب هو الصبر والسلوى فيكون وقع المصيبة على نفسه أخف، وثواء الحزن في قلبه أقل، وأكثره أن تكون المصيبة في حقه رحمة، وتتحول النقمة فيها نعمة، بما يستفيد فيها من الاختبار والتمحيص، وكمال العبرة والتهذيب، ( أقول وقد بينا هذا في تفسير آيات من سورة آل عمران ولا سيما قوله تعالى :﴿ قد خلت من قبلكم سنن ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] إلى الآية ١٤١ فتراجع من جزء التفسير الرابع مع ما في معناها. وقال بعضهم في تفسير :﴿ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾ [ لقمان : ٢٠ ] إن النعم الباطنة هي المصائب التي يستفيد منها المؤمن زيادة الإيمان والاعتبار ) على أن المؤمنين المحسنين المخلصين يكونون أبعد عن النوائب والمصائب من غيرهم، وقد يبتلي الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء بالله تعالى ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها أحيانا، وإن من الناس من يعظم رجاؤه بالله وصبره على حكمه ورضاه بقضائه واعتقاده أنه ما ابتلاه إلا ليربيه ويعظم أجره حتى أنه ليأنس بالمصيبة ويتلذذ بها، وهذا قليل نادر ولكنه واقع.
﴿ وكان الله بهم عليما ﴾ أتى بهذه الجملة بعد ما تقدم لتنبيه المؤمن على الاكتفاء بعلم الله تعالى بإنفاقه وعدم مبالاته بعلم الناس، فهو الذي لا ينسى عمل عامل ولا يظلمه من أجره عليه شيئا وهو الذي يسخر القلوب لمن شاء قال الأستاذ الإمام ولو لم ينزل في معاملة الناس بعضهم لبعض إلا هذه الآيات ﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى قوله ﴿ عليما ﴾ لكانت كافية لهداية من له قلب يشعر وعقل يفكر، ثم أخذ يبين تقصير المنتسبين إلى الإسلام في إتباع هذه الأوامر وذكر من حال الناس في معاملة الوالدين والأقربين والجيران واليتامى والمساكين ما يتبرأ منه الإسلام، وكل ما ذكره مشاهد معروف وأين المعتبرون المتعظون.
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما٤٠ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ٤١ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا٤٢ ﴾.
قال البقاعي في نظم الدرر مبينا وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها : ولما فرغ من توبيخهم قال معللا له :﴿ إن الله ﴾ الخ وقال الرازي اعلم أن تعلق هذه الآية بقوله تعالى :﴿ وماذا عليهم لو آمنوا ﴾ الخ فكأنه قال فإن الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فرغب بذلك في الإيمان والطاعة اه.
وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : بعد ما بين تعالى صفات المتكبرين وسوء حالهم وتوعدهم على ذلك أراد أن يزيد الأمر تأكيدا ووعيدا فبين أنه لا يظلم أحدا من العاملين بتلك الوصايا قليلا أو كثيرا بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، فالآية تتميم لموضوع الأوامر السابقة وترغيب للعاملين في الخير كما قال في سورة الزلزلة :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧ ] الخ فمن سمع هذه الآية تعظم رغبته في الخير ورجاؤه في الله تعالى.
قال : وللعابثين بالكتاب وبعقائد الناس كلام في الآية أقاموه على أساس مذاهبهم فمن ذلك قول المعتزلة أنه يجوز الظلم على الله تعالى ( عقلا ) لأنه لو لم يكن جائزا لما تمدح بنفيه ورد عليهم الآخرون بأنه تعالى نفى عن نفسه السنة والنوم وأنتم متفقون معنا على استحالة ذلك عليه فردوا عليهم بأن نفي الظلم كلام في أفعاله ونفي النوم كلام في صفاته وفرق بينهما وهذا كله من الجدل الباطل والهذيان، وإدخال الفلسفة في الدين بغير عقل ولا بيان، ومثله قول بعض المنتمين إلى السنة بجواز تخلف الوعيد ولا يعد ذلك ظلما لأن الظلم لا يتصور منه تعالى وبلغ بهم الجهل من تأييد هذا الرأي إلى تجويز الكذب على الله تعالى وجعلوا هذا نصرا للسنة. والذي قذف بهؤلاء في هذه المهاوي هو الجدل والمراء لتأييد المذاهب التي تقلدوها والتزام كل فريق تفنيذ الآخر وإظهار خطئه لا طلب الحق أينما ظهر. ولهم مثل هذه الجهالات الكثيرة البعيدة عن كتاب الله ودينه كقول المعتزلة إن بعض الأشياء حسن لذاته وبعضها قبيح لذاته ويجب على الله تعالى أن يفعل الأصلح من الأمرين الجائزين وكقول بعض من لم يفهم مسألة أفعال العباد بما يدل على جواز العبث على الله تعالى وكل هذا جهل.
قال : والذي يفهم من الآية أن هناك حقيقة ثابتة في نفسها وهي الظلم وأن هذا لا يقع من الله تعالى لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها وعقولا يهتدون بها إلى ما لا يدركه الحس، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم وجعل فوائد الدين وآدابه سائقة إلى الخير صارفة عن الشر لتأييدها بالوعد والوعيد فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه وترتبت عليه عقوبته كان هو الظالم لنفسه لأن الله لا يظلم أحدا.
قال : ونفي الظلم ههنا على إطلاقه يشمل المؤمن والكافر والذرة فيه عبارة عن منتهى الصغر في الأجسام وقيل الذر الهباء وقيل النمل الصغير الأحمر أو الذرة رأس النملة الصغيرة. وأظهر من هذه الآية في العموم ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾ الخ وقد قدر مفسرنا ( الجلال ) في الآية هنا ﴿ أحدا ﴾ للإشارة إلى العموم. ولكن ورد في الكافرين ما يدل على أنه لا أثر لعملهم في الآخرة كقوله :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ [ الكهف : ١٠٥ ] وقد قال بعضهم في الجمع إن الله يجازيهم على أعمالهم في الدنيا وهذا تأويل لا يأتي في سورة الزلزلة لأن الكلام فيها خاص بيوم القيامة. وقال بعضهم غير ذلك. كل يحمل الآية على مذهبه كما هي عادة المقلدين في جعل مذاهبهم أصلا والقرآن العزيز فرعا يحمل عليها ولو بالتأويل السقيم والتحريف البعيد.
قال : ومن العجب أن يقول قائل بهذه التأويلات وقد ورد في الأحاديث المسلمة عند قائليها أن بعض المشركين يخفف عنه العذاب بعمل له : حاتم بكرمه وأبو طالب بكفالته النبي ونصره إياه بل ورد حديث بالتخفيف عن أبي لهب لعتقه ثويبة حين بشرت بالنبي صلى الله عليه وسلم هذا وأبو لهب هو الذي نزل فيه ﴿ تبّت يدا أبي لهب وتب ﴾ [ المسد : ١ ] الخ السورة فالمعنى الصحيح إذن للآيات هو أن الله لا يقيم وزنا للمشرك في مقابلة شركه بمعنى أنه لا يقابل الشرك عمل صالح فيمحوه بل الأعمال الصالحة بإزاء الشرك هباء ولكن المشرك العاصي أشد عذابا من المشرك المحسن. ولا يعقل أن يكون المحسن والمسيء عنده تعالى سواء فإن هذا من الظلم المنفي بلا شك.
أقول : المثقال مفعال من الثقل المقدار الذي له ثقل مهما قلّ، وأطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره وهو معروف. والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام كما اختار الأستاذ الإمام وما أطلق على النملة وعلى رأسها وعلى الخردلة وعلى الدقيقة من دقائق الهباء وهو ما يظهر في نور الشمس الداخل من الكوى إلا لبيان مكان صغر هذه الأشياء ولذلك روي عن ابن عباس في الذرة روايتان مختلفتان روي عنه أنها رأس النملة وروي عنه أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة. وروي أن ابن مسعود قرأ : إن الله لا يظلم مثال نملة وقد بينا من قبل أن مثل هذه القراءة لا يقصد بها القرآن، وإنما يقصد بها التفسير.
والظلم معناه في الأصل النقص كما قال تعالى في سورة الكهف :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ [ الكهف : ٣٣ ] فمعنى قوله تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ إن الله تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء بل يوفيه أجره. ولا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة. وقد بينا معنى نفي الظلم عن البارئ في مواضع من التفسير ومن المنار منها تفسير :﴿ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ﴾ [ آل عمران : ١١٧ ] فيراجع من جزء التفسير الرابع ومنها تفسير :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ [ آل عمران : ١٨٢ ] فيراجع في صفحة ٢٦٦ وتفسير :﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ [ آل عمران : ١٩٢ ] في ذلك الجزء أيضا. ولا أذكر غيرها الآن. ومما يوضح هذا المعنى في التفسير الكلام في الجزاء وموازين الأعمال. ولا تفهم هذه الآية حق الفهم إلا باستبانة ما حققناه غير مرة في معنى الجزاء وكون الثواب والعقاب تابعين لتأثير أعمال الإنسان في نفسه بالتزكية أو التدسية والقرآن يفسر بعضه بعضا ويؤيد بعضه بعضا، وما أخطأ كثير من العلماء في فهم كثير من الآيات إلا لذهولهم عن مقارنة الآيات المتناسبة بعضها ببعض واستبدالهم بذلك تحكيم الاصطلاحات والقواعد التي وضعها علماء مذاهبهم وإرجاع الآيات إليها وحملها عليها فهذا يستشكل نفي الظلم عن الله عز وجل لأن العبيد لا يستحقون عنده شيئا من الأجر فيكون منعه أو النقص منه ظلما ثم يجيب عن ذلك بأنه بالنسبة إلى الوعد فهو قد وعد بإثابة المحسن وأوعد بعقاب المسيء ثم جعلوا جواز تخلف الوعد أو الوعيد محل بحث وجدال أيضا، وهذا يقول إن إثابة المحسن وعقاب المسيء أمر حسن في ذاته موافق للحكمة فهو واجب عليه تعالى أو واجب في حقه كما يجب له كل كمال ويستحيل عليه كل نقص فقام الآخرون يجادلونهم على لفظ يجب عليه ولعلهم قالوا يجب له فحرفوها. ومهما قالوا فالمقصد واحد وهو إثبات الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص. وأكثر الجدل الذي أهلك المسلمين وفرقهم شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض كان مبنيا على المشاحة في الألفاظ والاصطلاحات. وكتاب الله ودينه يتبرأ من ذلك وينهى عنه. ومن فهم من مجموع القرآن ما قررناه مرارا في مسألة الجزاء يفقه معنى نفي الظلم عليه تبارك اسمه وتعالى جده فلكل عمل أثر في نفس العامل يرفع نفسه بالحق والخير إلى عليين، أو يهبط بها إلى سافلين، ولذلك درجات ومثاقيل مقدرة في نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شيء علما.
﴿ وإن تك حسنة يضاعفها ﴾ أقول أي أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة ولكنه يزيد للمحسن في حسنته، فإن كانت الذرة التي عملها العامل سيئة كان جزاؤها بقدرها، وإن كانت حسنة يضاعفها له الله تعالى عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] وفي معناها آيات وقال :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾ [ البقرة : ٢٤٤ ] وقرأ ابن كثير ﴿ وإن تك حسنة ﴾ برفع حسنة أي وإن توجد حسنة يضاعفها. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير ﴿ يضعفها ﴾ بتشديد العين من التضعيف وهو بمعنى المضاعفة. وردوا قول أبي عبيدة أن ضاعف يقتضي مرارا كثيرة وضعف يقتضي مرتين.
﴿ ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ يعني أن فضله تعالى أوسع أن يضاعف للمحسن حسنته فقط بأن لا يكون عطاؤه إلا في مقابلة الحسنات بل يزيد المحسنين من فضله ويعطيهم من لدنه أي من عنده لا في مقابلة حسناتهم أجرا عظيما أي عطاء كبيرا. قالوا أنه سمّى هذا العطاء أجرا وهو لا مقابل له من الأعمال لأنه تابع للأجر على العمل فسمي باسمه من قبيل مجاز المجاورة. ولعل نكتة هذا التجوز هي الإيذان بأن هذا العطاء العظيم لا يكون لغير المحسنين فهو علاوة على أجور أعمالهم والعلاوة على الشيء تقتضي وجود ذلك الشيء فلا مطمع فيها للمسيئين الذين غلبت سيئاتهم المفردة على حسناتهم المضاعفة، فما قولك بالمشركين الذين طمست حسناتهم في ظلمة شركهم والعياذ بالله تعالى. والظاهر أن هذا الأجر العظيم هو النعيم الروحاني برضوان الله الأكبر وقد تقدم الكلام فيه غير مرة فراجعه في مظانّه.
ومن مباحث اللفظ في الآية حذف النون في قوله :﴿ وإن تك ﴾ فإن أصلها " تكن " فحذفت النون للتخفيف سماعا وعللوه بتشبيهها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون. ﴿ ولدن ﴾ بمعنى عند وقال بعضهم إن لدن أقوى في الدلالة على القرب من عند فلا يقال لدي مال إلا إذا كان حاضرا، ويقال عندي مال وإن كان غائبا.
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ قال الأستاذ الإمام : بعدما جاء بالوعد والوعيد في الآية السابقة جاء بهذه الآية معطوفة بالفاء فهو يقول إذا كان الله لا يضيع من عمل عامل مثقال ذرة فكيف يكون حال الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم الأنبياء فما من أمة إلا ولها بشير ونذير.
هذه الشهادة هي التي غفل عنها الناس وبكى لها النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر بعض الصحابة بأن يقرأ عليه شيئا من القرآن وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالقرآن.
هذه الشهادة يوم يجمع الله الناس مع أنبيائهم هي عبارة عن مقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم.
تعرض أعمال كل أمة على نبيها لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين وسائر أتباع الأنبياء فمن شهد لهم نبيهم بعد معرفة أعمالهم وظهورها بأنهم على ما جاء به وعمل وأمر الناس بالعمل به فهم الناجون.
إن كل أمة من أتباع الأنبياء تدعي إتباع نبيها وإن كانت قلوبهم مملوءة بالحقد والحسد والغل وأعمالهم كلها شرورا ومفاسد عليهم وعلى الناس فهؤلاء يتبرأ الأنبياء منهم وإن ادعوا هم إتباعهم والانتماء إليهم.
وقد اختلفوا في المراد بقوله :﴿ على هؤلاء شهيدا ﴾ قيل إن المراد به شهادة خاتم المرسلين على المرسلين قبله فهم يشهدون على أممهم وهو يشهد عليهم وقيل هي شهادته على أمته وهذا هو الموافق لقوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] والخطاب للمؤمنين في عصر التنزيل وقد تقدم في تفسيره أن هذه الأمة تكون بسيرتها شهيدة على الأمم السابقة وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين، وأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يكون بسيرته العالية وسنته المعتدلة حجة على المفرطين والمفرّطين من أمته اتباعا للبدع الطارئة المحدثة من بعده، فراجع تفصيل ذلك في أول الجزء الثاني من التفسير.
وأما الحديث الذي أشار إليه الأستاذ فهو ما روى أحمد والبخاري في صحيحه والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اقرأ علي ) قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال :( نعم أحب أن أسمعه من غيري ) فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴾ الخ فقال ( حسبك الآن ) فإذا عيناه تذرفان١. فليت شعري هل يعتبر المسلمون بهذا وهم المشهود عليهم كما اعتبر الشهيد الأعظم فيبكون لتذكر ذلك اليوم كما بكى، ويستعدون باتباع سنته، واجتناب جميع البدع والتقاليد الدينية التي لم تكن في عهده، لأن يكونوا كأصحابه أمة وسطا لا تفريط عندها في الدين ولا إفراط لا في أمور الجسد ولا في أمور الروح أم يظلون سادرين في غلوائهم، مقلدين لآبائهم، ألا يعلمون كيف يكون حال الكافرين والعاصين في ذلك اليوم ؟.
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤، باب٩، وفضائل القرآن باب٣٥، ٣٣، والترمذي في الجنائز باب١٤، والنسائي في الجنائز باب٢٧، وأحمد في المسند١/٤٣٣، ٣٨٠..
﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾ قيل إن هذا استئناف لبيان حال الكافرين التي أشير إلى شدتها والظاهر عندي أنه جواب ﴿ فكيف ﴾ في الآية قبلها ومعنى تلك الآية فكيف يكون حال الناس إذا جئنا من كل أمة بشهيد الخ والجواب يومئذ يود أي يحب ويتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء به أن يصيروا ترابا تسوّى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال في آخر سورة النبأ :﴿ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ﴾ [ النبأ : ٤٠ ] وقيل يتمنون أن تكون الأرض لهم فيدفعونها فدية مساوية لهم :﴿ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ﴾ [ المائدة : ٣٩ ] وقرأ نافع وابن عامر تسوى بفتح التاء وتشديد السين المفتوحة على أن أصلها تتسوى فأدغمت التاء في السين لقربها منها في المخرج، وقرأها حمزة بتخفيف السين مع الإمالة بحذف تاء تتسوى الثانية وهي لغة مشهورة.
﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ عطف على يود. أي لا يكتمون شيئا من خبر كفرهم ولا سيئاتهم في ذلك الوقت الذي تقوم به الحجة عليهم بشهادة أنبيائهم الذين كانوا ينسبون إليهم ما كانوا عليه من كفر وأباطيل وبدع وتقاليد. قال بعض المفسرين إن قوله تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ ليس خبرا مجردا وإنما الواو فيه للحال والمعنى أنهم يودّون لو يموتون أو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض ولا يكونون كتموا الله تعالى وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم الذي بينه تعالى من حالهم في الآخرة بقوله :﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون* ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين* انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ [ الأنعام : ٢٢ ٢٤ ] فهم عندما يكذبون وينكرون شركهم إما لاعتقادهم أن ما كانوا عليه ليس شركا وإنما هو استشفاع وتوسل إلى الله بمن اختار من خلقه، وإما مكابرة وتوهما أن ذلك ينفعهم ويدرأ عنهم العذاب، عند ذلك يشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم وإنما كان شيئا ابتدعوه من عند أنفسهم بقياس ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين إليهم من بطانتهم ويقربون من لا يستحق التقريب بشفاعتهم أيضا فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا سويت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب.
وروى الحاكم عن ابن عباس ( وصححه ) أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض. ومن جوز أن يكون ذلك خبرا مجردا معطوفا على ﴿ يود ﴾ قال إنهم ينكرون في بعض مواقف القيامة ويعترفون في بعضها ويصح أن يقال إنهم كذبوا وكتموا في ذلك اليوم وأن يقال إنهم اعترفوا وما كذبوا بأن يكون حصل كل واحد من النقيضين في وقت غير الوقت الذي حصل في الآخر. ومثل هذا مشاهد في محاكمة المجرمين في الدنيا ينكرون ثم يقرون، ويكذبون ثم يصدقون، وقال بعضهم إن المراد بالكتمان هنا كتمان الحق في الدنيا ككتمان أهل الكتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم والبشارات به. وظاهر كلام الجمهور أن الحديث في الآية هو الكلام، وذهب البقاعي إلى أن معناه الشيء المحدث أي المبتدع الذي لم يجئ به رسلهم، قال أي شيئا أحدثوه بل يفتضحون بسيء أخبارهم، ويحملون جميع أوزارهم، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته، وما نصب للناس من بيناته.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا٤٣ ﴾.
قال البقاعي في نظم الدرر : ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم ومنعت فيه قوة يد القهر والخبر أن يكتم حديثا وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم والذي حظرت معاني اللطف والجمال فيه الالتفات إلى غيره وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ الخ وقال بعضهم في وجه الاتصال أنهم لما نهوا عما يؤدي إليه بغير قصد وقيد لما أمروا فيما تقدم بالعبادة أمروا هنا بالإخلاص في رأس العبادة.
الأستاذ الإمام : أمر الله تعالى في الآيات السابقة بعبادته وترك الشرك به وبالإحسان للوالدين وغيرهم وتوعد الذين لا يقومون بهذه الأوامر والنواهي وقد عرفنا من سور أخرى أن الله تعالى يأمر بالاستعانة بالصلاة على القيام بأمور الدين وتكاليفه كما قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ [ البقرة : ١٥٣ ] وقال :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] وقال :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا* وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين ﴾ [ المعارج : ١٨ ٢١ ] وقد كثر في القرآن الأمر بالصلاة لا بالصلاة هكذا مطلقا بل بإقامتها وإنما إقامتها القيام بها على الوجه الأكمل وهو أن ينبعث المؤمن إليها بباعث الشعور بعظمة الله وجلاله ويؤديها بالخشوع له تعالى فهذه الصلاة هي التي تعين على القيام بالأوامر وترك النواهي ولذلك جاء ذكرها ههنا عقب تلك الأوامر والنواهي الجامعة، وقد ذكرت الصلاة في القرآن بأساليب مختلفة وذكرت ههنا في سياق النهي عن الإتيان بها في حال السكر الذي لا يتأتى معه الخشوع والحضور مع الله تعالى بمناجاته بكتابه وذكره ودعائه فالمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي وفي التنزيل خاصة ﴿ ولا تقربوا الزنا ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته ومن مقدمات الصلاة الإقامة فقد سنها الله لنا لإعدادنا للدخول في الصلاة.
وقال بعض المفرقين الذين يحملون القرآن على مذاهبهم المستحدثة أن الآية تدل على جواز بل وقوع التكليف بالمحال إذ وجه الأمر إلى السكران وهو لا يعي الخطاب. والجواب عنه من وجوه أحدها : أن الخطاب موجه إلى المسلم قبل السكر بأن يجتنبه إذا ظن أنه ينتهي به إلى التلبس بالصلاة في أثنائه فهو أمر بالاحتياط واجتناب السكر في أكثر الأوقات. أقول سيأتي ما يؤيده من العبارة ولذلك قال العلماء إن هذه الآية تمهيد لتحريم السكر تحريما قطعيا لا هوادة فيه. فإن من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لانتشار الصلوات الخمس في هذه المدة فالوقت الذي يبقى للسكر هو وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقلّ الشر فيه لمزاحمته للنوم الذي لابد منه وأما أول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة فهو وقت العمل والكسب لأكثر الناس ويقل أن يسكر فيه غير المترفين الذين لا عمل لهم وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون.
قال : ثانيها : أن الأمر موجه إلى جمهور المؤمنين لأنهم متكافلون مأمورون بمنع المنكر فعليهم أن يمنعوا السكران من الدخول في الصلاة فالأمر على حد :﴿ فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ﴾ [ النساء : ٣٥ ] أي على أحد الأقوال إذ يدخل فيه الزوجان ثالثها : أن السكر الذي يطلبه الغواة لا ينافي فهم الخطاب وهو النشوة والسرور ففي هذه الحالة يفهم السكران ويفهم ويصح أن يوجه إليه الخطاب ولكنه لا يضبط أعماله وأفكاره وأقواله بالتفصيل ولذلك قال تعالى :﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾ فأما ما ينتهي إليه السكران مما لا يقصد فصاحبه لا يخاطب فيه وهو ما عرف به أبو حنيفة السكران إذ قال إنه من لا يفرق بين الأرض والسماء وهناك قول آخر في معنى هذا القول. وهذا التعليل للنهي يفيد أن العلم بما يقوله الإنسان في الصلاة من تلاوة وذكر واجب أو شرط والعلم به فهمه ولهذا المعنى أجاز أبو حنيفة الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها أي إلى أن يحسنها أو يعجز. هذا هو حاصل المعنى على القول بأن المراد بالصلاة حقيقتها كما هو الظاهر فإن أريد بها موضعها فالمراد تنزيه المساجد وهي بيوت الله عن اللغو والكلام الباطل الذي من شأنه أن يبدر من السكران.
أقول : روى أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن علي كرم الله وجهه قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون. فنزلت١. وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة. وهذا يدل على أن المراد بالصلاة حقيقتها وروي عن سعيد بن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد بالصلاة هنا مواضعها وروي عن الشافعي أنه حمل اللفظ على الأمرين معا بناء على تجويزه الجمع بين الحقيقة والمجاز. وروي عن جعفر والضحاك وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس أن المراد بالسكر سكر النعاس وغلبة النوم ولعل من روى عنه ذلك شبه النعاس بالسكر وجعل حكمه كحكمه فظن الراوي أنه فسره به والعلة في قياسه عليه ظاهرة وفي حديث أنس عند البخاري مرفوعا ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول ) ٢. وحتى للغاية وفي بعض كلام الأستاذ الإمام ما يشعر بأنها للتعليل والظاهر الأول كحتى في الجملة الآتية وهو يدل على وجوب معرفة اللغة العربية على كل مسلم لفهم ما يقول في الصلاة.
وقوله تعالى :﴿ ولا جنبا ﴾ عطف فيه قوله ولا جنبا على قوله وأنتم سكارى والمعنى لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا فجملة وأنتم سكارى حالية فهي في حيز النصب وفرق عبد القاهر في دلائل الإعجاز بين الحال المفردة والجملة الحالية فمعنى جاء زيد راكبا أن الركوب كان وصفا له حال المجيء فهو تابع للمجيء مقدر بقدره ومعنى جاء وهو راكب أن الركوب وصف ثابت في نفسه وقد جاء هو في حال تلبسه به، وقد تكون الجملة الحالية غير وصف لذي الحال كقولك جاء والشمس طالعة وقد يتقدم مضمونها فعل ذي الحال الذي جعلت قيدا له وقد يتأخر عنه وأما الحال المفردة فيعتبر فيها مقارنة فعل ذي الحال ولهذا قال بعض فقهاء الشافعية من قال لله علي أن أعتكف صائما وجب عليه أن يصوم لأجل الاعتكاف ولا يجزئه أن يعتكف في رمضان، ومن قال لله علي أن أعتكف وأنا صائم لا يلزمه صوم لأجل الاعتكاف بل يجزئه أن يعتكف في رمضان لأن مضمون الجملة الحالية لا يشترط أن يكون مقارنا لفعل ذي الحال كما يشترط ذلك في الحال المفردة.
هذا وإني لا أذكر أني رأيت للمفسرين بيانا لنكتة اختلاف الحالين في هذه الآية فلم لم يقل لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا أو لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا وأنتم جنب أو يجعل الأولى مفردة والثانية جملة، هل يقع هذا الاختلاف في تعبير القرآن اتفاقا أو لمجرد التفنن في العبارة ؟ كلا إن النكتة ظاهرة لا تخفى على من كانت اللغة ملكة له وقد تخفى عمن تكون صناعة عنده لا يفهم دقائق نكتها إلا عند تذكر القواعد الصناعية التي تدل عليها وتدبرها، ومن كانت له الملكة والصناعة قد يفهم المراد في الجملة ويغفل عن إيضاحها بالقواعد الصناعية. إن التعبير بجملة " وأنتم سكارى " يتضمن النهي عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة فيفضي إلى أدائها في أثنائه فالمعنى احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة فتصلوا وأنتم سكارى فامتثال هذا النهي إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة بل وفيما يقرب من وقتها، وليس المعنى لا تصلوا حال كونكم سكارى، وعلى هذا لا يرد الاعتراض الذي أورده الأستاذ الإمام وأجاب عنه بثلاثة أجوبة وإنما كان يرد لو قال تعالى لا تقربوا الصلاة سكارى، أو يقال في دفعه هذا، والجواب الأول من تلك الأجوبة في معنى هذا ولكنه ليس مأخوذا من منطوق الآية ومدلول الجملة الحالية وإنما فهمنا منه أنه مأخوذ من توقف الامتثال على اجتناب السكر قبل الصلاة وصرح بأنه من باب الاحتياط. وأما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة ولهذا لم يقل وأنتم جنب. فيا لله العجب من دقة عبارة القرآن الحكيم وبلاغتها واشتمالها على المعاني الكثيرة باختلاف التعبير فقد دلت الآية باختلاف الحالين على أن الشارع يريد صرف الناس عن السكر وتربيتهم على تركه بالتدريج لما فيه من الإثم والضرر ولا يريد صرفهم عن الجنابة لأنها من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة في أثنائها حتى يغتسلوا فهذا النهي تمهيد لفرض الطهارة من الجنابة وكونها شرطا للصلاة وذلك النهي تمهيد لتحريم الخمر ألبتة في سياق إيجاب الفهم والتدبر لما في الصلاة من الأذكار والتلاوة.
والجنب قال الأستاذ الإمام يعرفه كل أحد، يعني من قراء العربية، لأنه مستعمل الآن عند الخاصة والعامة في المعنى الذي جاء به القرآن، ولكنه لم يذكر ما هي صيغته وما معنى أصل مادته. وقد استعملت العرب هذا اللفظ استعمال المصادر في الوصفية فقالوا هو جنب وهي جنب وهما جنب وهم جنب وثناه وجمعه بعضهم فقالوا جنبان وأجناب وجنوب. وقال أبو البقاء : هو مشتق من المجانبة بمعنى المباعدة، وليس بظاهر. وقد قالوا جانبه بمعنى سار إلى جنبه ومنه الصاحب بالجنب لرفيق السفر والأصل فيه أنه يركب بجانب رفيقه في الشقدف على البعير فيكون إشارة إلى المضاجعة التي هي أعم أسباب الجنابة، وعندي أن الجار الجنب هو من كان بيته بجانب بيتك وفاتني ذكرها في موضعه.
﴿ إلا عابري سبيل ﴾ أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم عابري سبيل أي مجتازي طريق، وقيل إن " إلا " هنا صفة بمعنى غير، ولم يلتفت صاحب هذا القول إلى ما اشترطه ابن الحاجب لذلك من تعذر الاستثناء. ومن قال إن المراد بالصلاة هنا حقيقتها فسر عابر السبيل هنا بالمسافر ومن قال إن المراد بالصلاة مواضعها أي المساجد فسره بالمجتاز لحاجة قاله الأستاذ وغيره، وقد استدل الشافعية بالآية على جواز مرور الجنب في المسجد إذا كانت له حاجة وعلى تحريم المكث فيه عليه. وقد علمت أن الشافعي يجيز أن يراد بالصلاة هنا حقيقتها ومكانها معا وحينئذ يجعل استثناء العبور باعتبار المكان وإني لأستبعد التعبير عن السفر بعبور السبيل والسفر مذكور في الآية وفي غيرها من الآيات بلفظ السفر فالمتعين عندي في العبور ما قاله الشافعية وغيرهم من مفسري السلف وهو المرور بالمس
١ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٤، باب ١٢..
٢ أخرجه البخاري في الوضوء باب٥٣، واللباس باب٢٤..
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل٤٤ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا٤٥ من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا بألسنتنا وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا٤٦ ﴾.
قال الرازي في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها : اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة اهـ. وقال النيسابوري الذي اختصر التفسير الكبير للرازي في تفسيره : ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم لأن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد هزة وجدة اهـ.
أقول غلط المفسران كلاهما في قولهما أن الكلام انتقال إلى ذكر أحوال المتقدمين وإنما هو انتقال إلى ذلك أحوال المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فكأنهما توهما أن الآية نزلت في زمنهما وما قالاه في الانتقال من أسلوب إلى آخر صحيح وهو أعم مما نحن فيه وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى :
الكلام انتقال من الأحكام وما عليها من الوعد والوعيد إلى بيان حال بعض الأمم من حيث أخذهم بأحكام دينهم وعدمه ليذكر الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة بأن الله تعالى مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصروا يأخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة. والمنتظر من المؤمنين بعد ذكر الأحكام الماضية وما قرنت به من الوعد والوعيد أن يأخذوا بها على الوجه الموصل إلى إصلاح النفس وهو أثرها المراد منها وذلك بأن يؤخذ بها في صورتها ومعناها لا في صورتها فقط، ولكن جرت سنّة الله في الأمم أن يكتفي بعض الناس من الدين ببعض الظواهر والرسوم الدينية، كما جرى عليه بعض اليهود في القرابين وأحكام الطهارة الظاهرة، وهذا لا يكفي في اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله من التشريع، فأراد الله تعالى بعد بيان بعض الأحكام التي لها رسوم ظاهرة كالغسل والتيمم أن يذكر المسلمين بحال بعض الأمم التي هذا شأنها وكون هذا لم يغن عنها من الله شيئا ولم ينالوا به مرضاته ولم يكونوا به أهلا لكرامته ووعده.
فقال :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ﴾ قال ابن جرير نزلت في طائفة من اليهود وروي ذلك عن ابن عباس وغيره ويرى بعضهم أن أهل الكتاب فيها أعم والرؤية في قوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾ قلبية علمية كما قال ابن جرير وقيل بمعنى النظر، والمعنى ألم ينته علمك أيها الرسول أولم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا نصيبا أي حظا وطائفة من الكتاب الإلهي كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها فهم يشترون الضلالة باختيارها لأنفسهم بدلا من الهداية ويريدون أن تضلوا أيها المسلمون السبيل أي طريق الحق القويم كما ضلوا فهم يكيدون لكم ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا. والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله وذلك أنهم لم يحفظوه في زمن إنزاله عن ظهر قلب كما حفظنا القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة في العصر الأول كما فعلنا، حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه البعض الآخر، بل كان عند اليهود نسخة واحدة من التوراة هي التي كتبها موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ففقدت كما بينا ذلك في تفسير الآية الأولى من سورة آل عمران من الجزء الثالث من التفسير ) وفيه بحث تاريخ كتابتها وحقيقة الموجود الآن منها وبحث الإنجيل كذلك. ويؤيد ذلك قوله تعالى في كل من اليهود والنصارى ﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ وسيأتي في سورة المائدة فهو تصريح بمفهوم ما هنا، يقول هنا إنهم أوتوا نصيبا أي حظا ويقول هناك إنهم نسوا حظا، فالكلام يريد ويصدق بعضه بعضا والتعبير بأوتوا الكتاب في موضع آخر لا يعارضه لأن الكتاب للجنس ومن لم يعرف هذه الحقيقة من المفسرين قال إن المراد بالكتاب علمه.
وقال الأستاذ الإمام : قال " أوتوا نصيبا من الكتاب " لأنهم لم يأخذوا الكتاب كله بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها، والزيادة فيه كالنقص منه. فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا مثلا وكانوا يفعلون ذلك وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم والتقاليد الدينية فهم يتمسكون بها وليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام، وهم يدعون اتباعه في الدين. فالأمر المحقق الذي لا شك فيه هو أنهم يعملون ببعض أحكام التوراة وقد أهملوا سائرها ففي مقام الاحتجاج بالعمل بالدين وعدمه يذكر الواقع وهو أنهم لم يؤتوا الكتاب كله إذ لم يعملوا به كله وإنما عملوا ببعضه، وفي مقام الاحتجاج عليهم بالإيمان بالنبي والقرآن يناديهم :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا ﴾ الخ كما ترى في الآية التالية لهذه الآية ومثلها كثير.
هذا ما قرره الأستاذ في الدرس ولما انتهى إلى هنا قلت : أليس التعبير بالنصيب إشارة أو نصا على أنهم لم يحفظوا الكتاب كله بل فقدوا حظا ونصيبا آخر منه ؟ فقال بلى فأجاز ما فهمته وأقره وكنت بينت هذا من قبل في الكلام على شريعة حمورابي ونسبتها إلى التوراة، وما هي التوراة، وذلك في المجلد السادس من المنار. فالذي لم يعملوا به من التوراة على ما اختاره الأستاذ الإمام يكون قسمين : أحدهما ما أضاعوه ونسوه وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به وهو كثير أيضا. وقال بعض المفسرين إن المراد بما أضاعوه من الكتاب نعت نبينا صلى الله عليه وسلم وجعل بعضهم اشتراء الضلالة هو بذل المال لتأييد اليهودية والكيد للإسلام ومقاومته كان بعض عوام اليهود يعطون أحبارهم المال ليستعينوا به على ذلك.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل٤٤ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا٤٥ من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا بألسنتنا وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا٤٦ ﴾.
قال الرازي في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها : اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة اهـ. وقال النيسابوري الذي اختصر التفسير الكبير للرازي في تفسيره : ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم لأن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد هزة وجدة اهـ.
أقول غلط المفسران كلاهما في قولهما أن الكلام انتقال إلى ذكر أحوال المتقدمين وإنما هو انتقال إلى ذلك أحوال المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فكأنهما توهما أن الآية نزلت في زمنهما وما قالاه في الانتقال من أسلوب إلى آخر صحيح وهو أعم مما نحن فيه وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى :
الكلام انتقال من الأحكام وما عليها من الوعد والوعيد إلى بيان حال بعض الأمم من حيث أخذهم بأحكام دينهم وعدمه ليذكر الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة بأن الله تعالى مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصروا يأخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة. والمنتظر من المؤمنين بعد ذكر الأحكام الماضية وما قرنت به من الوعد والوعيد أن يأخذوا بها على الوجه الموصل إلى إصلاح النفس وهو أثرها المراد منها وذلك بأن يؤخذ بها في صورتها ومعناها لا في صورتها فقط، ولكن جرت سنّة الله في الأمم أن يكتفي بعض الناس من الدين ببعض الظواهر والرسوم الدينية، كما جرى عليه بعض اليهود في القرابين وأحكام الطهارة الظاهرة، وهذا لا يكفي في اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله من التشريع، فأراد الله تعالى بعد بيان بعض الأحكام التي لها رسوم ظاهرة كالغسل والتيمم أن يذكر المسلمين بحال بعض الأمم التي هذا شأنها وكون هذا لم يغن عنها من الله شيئا ولم ينالوا به مرضاته ولم يكونوا به أهلا لكرامته ووعده.
﴿ والله أعلم بأعدائكم ﴾ أي والله أعلم منكم بأعدائكم ذواتهم كالمنافقين الذين تظنون أنهم منكم وما هم منكم وأحوالهم وأعمالهم التي يكيدون بها لكم في الخفاء وما يغشونكم به في الجهر بإبراز الخديعة في معرض النصيحة وإظهار الولاء لكم والرغبة في نصركم ﴿ وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾ لكم يتولى شؤونكم بإرشادكم إلى ما فيه خيركم وفوزكم وينصركم على أعدائكم بتوفيقكم للعمل بأسباب النصر من الاجتماع والتعاون والتناصر وإعداد جميع ما يستطاع من وسائل القوة فلا تغتروا بولاية غيره ولا تطلبوا النصر إلا منه باتباع سننه في نظام الاجتماع وهدايته في القرآن ومنها عدم الاعتماد على الأعداء وأهل الأثرة الذين لا يعملون إلا لمصلحة أنفسهم كاليهود. وكفى بالله وليا أبلغ من كفى الله وليا أو كفت ولاية الله لأن الكفاية تعلقت بذاته من حيث ولايته.
قد كان اليهود في الحجاز كالمشركين أشد عداوة للمسلمين ومقاومة لهم كما أخبرنا العليم الخبير في سورية وفلسطين ثم الأندلس ليسلموا بعدلهم من ظلم النصارى لهم في تلك البلاد فكانوا مغبوطين بالفتح الإسلامي وقد كانوا يظلمون قبله وبعده في جميع بقاع الأرض غير الإسلامية، حتى كان ما كان بكيدهم وسعيهم من هدم صروح استبداد الباباوات والملوك المستعبدين لهم في أوربا وإدالة الحكومات المدنية من حكم الكنيسة، فظلوا يظلمون في روسية وأسبانية لأن السلطة فيهما دينية وقد كادوا ولا يزالون يكيدون لهدم نفوذ الديانة النصرانية من هاتين المملكتين باسم الحرية والمدنية ونفوذ الجمعية الماسونية كما فعلوا في فرنسة، وإن لهم يدا فيما كان في روسية من الانقلاب وفيما تتمخض به أسبانية الآن، فهم يقاومون كل سلطة دينية تقف في وجههم لأجل تكوين سلطة دينية لهم وقد كانت لهم يد في الانقلاب العثماني لا لأنهم كانوا مظلومين أو مضطهدين في المملكة العثمانية فإنهم كانوا آمن الناس من الظلم فيها حتى أنهم كانوا يفرّون إليها لاجئين من ظلم روسية وغيرها وإنما يريدون أن يملكوا بيت المقدس وما حوله ليقيموا فيها ملك إسرائيل وكانت الحكومة العثمانية تعارضهم في امتلاك الأرض هناك فلا يملكون شيئا منها إلا بالحيلة والرشوة ولهم مطامع أخرى مالية في هذه البلاد فهم الآن يظهرون المساعدة للحكومة العثمانية الجديدة لتساعدهم على ما يبتغون فإذا لم تنتهي الأمة العثمانية لكيدهم وتوقف حكومتها عند حدود المصلحة العامة في مساعدتهم فإن الخطر من نفوذهم عظيم وقريب فإنهم قوم اعتادوا الربا الفاحش فلا يبذلون دانقا من المساعدة إلا لينالوا مثقالا أو قنطارا من الجزاء، وإذا كانوا بكيدهم وأموالهم قد جعلوا الدولة الفرنسية ككرة اللاعب في أيديهم فأزالوا منها سلطة الكنيسة وحملوها على عقوقها وكانت تدعى بنت الكنيسة البكر وحملوها على الظلم في الجزائر وهي التي تفاخر الأمم والدول بالعدل والمساواة، عملوا فيها عملهم وهي في الذروة العليا من العلم والمدنية والسياسة والثروة والقوة أفلا يقدرون على أكثر منه في الحكومة العثمانية وهي على ما نعلم من الجهل والضعف والحاجة إلى المال ؟ ؟ وطمعهم فيها أشد، وخطره أعظم، فإن بيت المقدس له شأن عظيم عند المسلمين والنصارى كافة فإذا تغلب اليهود فيه ليقيموا فيه ملك إسرائيل ويجعلوا المسجد الأقصى ( هيكل سليمان ) وهو قبلتهم معبدا خالصا لهم يوشك أن تشتعل نيران الفتن ويقع ما نتوقع من الخطر، وفي الأحاديث المنبئة عن فتن آخر الزمان ما هو صريح في ذلك فيجب أن تجتهد الأمة العثمانية في درء ذلك ومدافعة سيله بقدر الاستطاعة لئلا يقع في ابان ضعفها فيكون قاضيا على سلطتها ونسأل الله السلامة.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل٤٤ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا٤٥ من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا بألسنتنا وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا٤٦ ﴾.
قال الرازي في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها : اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة اهـ. وقال النيسابوري الذي اختصر التفسير الكبير للرازي في تفسيره : ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم لأن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد هزة وجدة اهـ.
أقول غلط المفسران كلاهما في قولهما أن الكلام انتقال إلى ذكر أحوال المتقدمين وإنما هو انتقال إلى ذلك أحوال المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فكأنهما توهما أن الآية نزلت في زمنهما وما قالاه في الانتقال من أسلوب إلى آخر صحيح وهو أعم مما نحن فيه وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى :
الكلام انتقال من الأحكام وما عليها من الوعد والوعيد إلى بيان حال بعض الأمم من حيث أخذهم بأحكام دينهم وعدمه ليذكر الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة بأن الله تعالى مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصروا يأخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة. والمنتظر من المؤمنين بعد ذكر الأحكام الماضية وما قرنت به من الوعد والوعيد أن يأخذوا بها على الوجه الموصل إلى إصلاح النفس وهو أثرها المراد منها وذلك بأن يؤخذ بها في صورتها ومعناها لا في صورتها فقط، ولكن جرت سنّة الله في الأمم أن يكتفي بعض الناس من الدين ببعض الظواهر والرسوم الدينية، كما جرى عليه بعض اليهود في القرابين وأحكام الطهارة الظاهرة، وهذا لا يكفي في اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله من التشريع، فأراد الله تعالى بعد بيان بعض الأحكام التي لها رسوم ظاهرة كالغسل والتيمم أن يذكر المسلمين بحال بعض الأمم التي هذا شأنها وكون هذا لم يغن عنها من الله شيئا ولم ينالوا به مرضاته ولم يكونوا به أهلا لكرامته ووعده.
﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ هذا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب واتصفوا بالضلالة والإضلال وقوله :﴿ والله أعلم بأعدائكم ﴾ الخ جمل معترضة بين البيان والمبين، أو هو بيان لعدائكم والاعتراض ما بينهما، أو متعلق بنصيرا أي ينصركم من الذين هادوا، أو التقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم كما قال الشاعر :
لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي.
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى ابتغي العيش أكدح١
أي فمنهما تارة أموت فيها الخ ومثله كثير، والأول أظهر. وتحريف الكلم عن مواضعه هو إمالته وتنحيته عنها كان يزيلوه بالمرة أو يضعوه في مكان غير مكانه من الكتاب أو المراد بمواضعه معانيه كان يفسروه بغير ما يدل عليه قال الأستاذ الإمام التحريف يطلق على معنيين :
أحدهما : تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له وهو المتبادر لأنه هو الذي حملهم على مجاحدة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار نبوته وهم يعلمون، إذ أولوا ولا يزالون يؤولون البشارات به إلى اليوم كما يؤولون ما ورد في المسيح ويحملونه على شخص آخر لا يزالون ينتظرون.
ثانيهما : أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر وقد حصل مثل هذا التشويش في كتب اليهود : خلطوا فيما يؤثر عن موسى عليه السلام ما كتب بعده بزمن طويل وكذلك وقع في كلام غيره من الأنبياء وقد اعترف بهذا بعض المتأخرين من أهل الكتاب وإنما كان هذا منهم بقصد الإصلاح. وهذا النوع من التحريف لا يضر المسلمين ولم يكن هو الحامل على إنكار ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا ما قرره الأستاذ الإمام في الدرس وكتبت في مذكرتي عند كتابته كأنه وجد عندهم قراطيس متفرقة أي بعد أن فقدت النسخة التي كتبها موسى عليه السلام فأرادوا أن يؤلفوا بين الموجود فجاء فيه ذلك الخلط، وهذا سبب ما جاء في أسفار التوراة من الزيادة والتكرار. وقد أثبت العلماء تحريف كتب العهد العتيق والعهد الجديد بالشواهد الكثيرة وفي كتاب إظهار الحق ) للشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله تعالى مئة شاهد على التحريف اللفظي والمعنوي فيها والأول ثلاثة أقسام تبديل الألفاظ وزيادتها ونقصانها.
فمن الشواهد على الزيادة ما جاء في سفر التكوين ٣١ : ٣٦ " وهؤلاء الملوك الذين ملكوا في أرض سادوم قبل أن ملك ملك لبني إسرائيل " ولا يمكن أن يكون هذا من كلام موسى عليه السلام لأنه لم يكن لبني إسرائيل ملك في تلك الأرض إلا من بعده وكان أول ملوكهم شاول وهو بعد موسى بثلاثة قرون ونصف، وقد قال آدم كلارك أحد مفسري التوراة : أظن ظنا قويا قريبا من اليقين أن هذه الآيات ( أي من ٣٢ ٣٩ ) كانت مكتوبة على حاشية نسخة صحيحة من التوراة فظن الناقل أنها جزء المتن فأدخلها فيه ! !.
ومنها في سفر تثنية الاشتراع ١٤ : ٣ " يائير بن منسي أخذ كل كورة أرجوب إلى تخم الجشوريين والمعكيين ودعاها على اسمه باشان حوّوث يائير إلى هذا اليوم ". قال هورن في المجلد الأول من تفسيره بعد إيراد هذه الفقرة والفقرة السابقة :" هاتان الفقرتان لا يمكن أن يكونا من كلام موسى ( عليه السلام ) لأن الأولى دالة على أن مصنف هذا الكتاب ( سفر التكوين أو التوراة كلها ) وجد بعد زمان قامت فيه سلطنة بني إسرائيل، والفقرة الثانية دالة على أن مصنفه كان بعد زمان إقامة اليهود في فلسطين " إلى آخر ما قاله ومنه أن هاتين الفقرتين ثقل على الكتاب ولا سيما الثانية.
وقد صرح هؤلاء المفسرون بأن عزرا الكاتب قد زاد بعض العبارات في التوراة وصرحوا في بعضها بأنهم لا يعرفون من زادها ولكنهم يجزمون بأنها ليست مما كتبه موسى. وكثرة الألفاظ البابلية في التوراة تدل على أنها كتبت بعد سبي البابليين لبني إسرائيل وهنالك شواهد على تحريف سائر كتبهم تراجع في الكتب المؤلفة لبيان ذلك.
﴿ ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ﴾ أي ويقول هؤلاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سمعنا قولك وعصينا أمرك روي عن مجاهد أنهم قالوا سمعنا قولك ولكن لا نطيعك، ويقولون له أيضا :﴿ اسمع غير مسمع ﴾ قال المفسرون إن هذا دعاء عليه زاده الله تكريما وتشريفا ومعناه لا سمعت أو لا أسمعك الله، وهذا في مكان الدعاء المعتاد من المتأدبين للمخاطب : لا سمعت مكروها، أو لا سمعت أذى، وقيل معناه غير مقبول ما تقول وهذا مروي عن مجاهد. وقال الأستاذ الإمام : يحتمل أن يكون المعنى واسمع شيئا لا يستحق أن يسمع، وأما ﴿ راعنا ﴾ فقد روي أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة " راعينا " العبرانية أو السريانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا من المراعاة أو بمعنى أرعنا سمعك فافترصوها وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر.
﴿ ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾ فيجعلونها في الظاهر راعنا وبِلَيِّ اللسان وإمالته " راعينا " ينوون بذلك الشتم والسخرية أو جعله راعنا من رعاء الشاء أو من الرعن والرعونة، قال في الكشاف : فإن قلت : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا. قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسبّ ودعاء السوء ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به اه. وقد تقدم شرح ذلك في تفسير :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ﴾ [ البقرة : ١٠٣ ] من سورة البقرة وبينا هنالك أن الأستاذ الإمام لم يرتض ما قالوه في كون هذه الكلمة سبّا بالعبرانية واختار في تعليل النهي عنها أنها لما كانت من المراعاة وهي تقتضي المشاركة نهوا عنها تأديبا لهم إذ لا يليق أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم ارعنا نرعك كما هو معنى المشاركة كما نهوا أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض قال : وهناك وجه آخر يقال في اللغة : راعى الحمار الحمر، إذا رعى معها فكان اليهود يحرفون الكلمة إلى هذا المعنى وإن كان فيها سبّ لأنفسهم على حد " اقتلوني ومالكا "، ومن تحريف اللسان وليه في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم قولهم في التحية " السام عليكم " يوهمون بفتل اللسان وجمجمته أنهم يقولون السلام عليكم وقد ثبت هذا في الصحيح وأنه كان عليه السلام بعد العلم بذلك يجيبهم بقوله :( وعليكم ) أي كل أحد يموت.
﴿ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ﴾ أي لو أنهم قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك، واسمع ما نقول وانظرنا أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا، يقال نظره بمعنى انتظره وهو كثير في القرآن، أو انظر إلينا نظر رعاية ورفق لكان خيرا لهم وأقوم مما قالوه لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة.
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم ﴾ أي خذلهم وأبعدهم عن الصواب بسبب كفرهم أي مضت سنته في طباع البشر وأخلاقهم أن يمنع الكفر صاحبه من مثل هذه الروية والأدب، ويجعله طريدا لا يدلي إلى الخير والرحمة بحبل ولا سبب ﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه ولا يزكي نفسه ولا يرقى عقله ولو كان إيمانهم بكتابهم ونبيهم كاملا لكان خير هاد لهم إلى الإيمان بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب ومهيمنا عليه يبين ما نسوا منه وما حرفوا فيه، ثم إنه جاء بإصلاح جديد في إتمام مكارم الأخلاق ونظام الاجتماع وسائر مقاصد الدين فمن كان على شيء من الخبر وجاءه زيادة فيه لا يكون إلا مغبوطا بها حريصا على الاستفادة منها أو لا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه فإن الأمة مهما فسدت لا يعم الفساد جميع أفرادها بل تغلب سلامة الفطرة على أناس يكونون هم السابقين إلى كل إصلاح جديد، هكذا كان وهكذا يكون فهي سنة من سنن الله في الاجتماع، وقد نبهنا من قبل على دقة القرآن في الحكم على الأمم إذ يحكم على الأكثر فإذا عم الحكم يستثنى وهي دقة لم تعهد في كلام البشر.
١ البيت من الطويل، وهو لتميم بن مقبل في ديوانه ص٢٤، وحماسة البحتري ص١٢٣، والحيوان٣/٤٨، وخزانة الأدب٥/٥٥، والدرر٦/١٨، وشرح أبيات سيبويه٢/١١٤، وشرح شواهد الإيضاح ص٦٣٤، والكتاب٢/٣٤٦، ولسان العرب(كدح)، ولعجير السلولي في سمط اللآلي ص٢٠٥، وبلا نسبة في خزانة الأدب١٠/١٧٥، وشرح عمدة الحافظ ص٥٤٧، ولسان العرب(تور) والمحتسب١/١١٢، والمقتضب٢/١٣٨، وهمع الهوامع ٢/١٢٠..
﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا٤٧ ﴾.
خاطبهم في هذه الآية بالذين أوتوا الكتاب كما تقدم آنفا في تفسير أوتوا نصيبا من الكتاب فذاك نعي عليهم بما أضاعوا وحرفوا، وهذا إلزام لهم بما حفظوا وعرفوا، يقول :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ﴾ الإلهي أي جنسه على ألسنة أنبيائهم أو التوراة خاصة ﴿ آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾ منه من تقرير التوحيد الخالص واتقاء الشرك كله صغيره وكبيره وإثبات النبوة والرسالة وما يغذي ذلك الإيمان ويقويه من ترك الفواحش والمنكرات وعمل الصالحات أي مصدقا لما معكم من أصول الدين وأركانه التي هي المقصد من إرسال جميع الرسل لا يختلفون فيها وإنما يختلفون في طرق حمل الناس عليها وهدايتهم بها وترقيتهم في معارجها بحسب سنة الله في ارتقاء البشر بالتدريج جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كما أن العدل هو المقصد من جميع الحكومات وإنما تختلف الدول في القوانين المقررة له باختلاف أحوال الأمم، فليس من العقل ولا الصواب أن تنكر الأمة تغيير حاكم جديد لبعض ما كان عليه من قبله إذا كان يوافقه في جعله مقررا للعدل مقيما لميزانه بين الناس كما كان أو أكمل، وفي هذه الحال يسمى مصدقا لما قبله لا مكذبا ولا مخالفا، فالقرآن قرر نبوة موسى وداود وسليمان وعيسى وصدّقهم فيما جاؤوا به عن الله تعالى ووبخ الأقوام المدعين لأتباعهم على إضاعتهم لبعض ما جاؤوا به وتحريفهم للبعض الآخر، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم، حتى أن أكثرهم هدموا الأساس الأعظم للدين وهو التوحيد فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا كما سيأتي في سورة التوبة ويذكر أيضا في تفسير الآية الآتية فتصديق القرآن لما معهم لا ينافي ما نعاه عليهم من الإضاعة والنسيان والتحريف والتفريط.
﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ﴾ أي آمنوا من قبل أن ننزل بكم هذا العقاب وهو طمس الوجوه وردها على أدبارها، فالطمس في اللغة هو إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق بنقل حجارتها أو بالرمال تسفوها الرياح عليها ومنه :﴿ ربنا اطمس على أموالهم ﴾ [ يونس : ١٠ ] أي أزلها وأهلكها والطمس على الأعين في قوله :﴿ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ﴾ [ يس : ٦٦ ] يصدق بإزالة نورها وبغؤورها ومحو حدقتها وكذلك طمس النجوم، والوجه يطلق على وجه البدن ووجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد ومنه ﴿ أسلمت وجهي لله ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ] وقوله :﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله ﴾ [ لقمان : ٣١ ] وقوله :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا ﴾ [ الروم : ٣٠ ] والأدبار جمع دبر " بضمتين " وهو الخلف والقفا، والارتداد على الأدبار هو الرجوع إلى الوراء يستعمل في الحسيات والمعنويات فمن الأول الارتداد على الأدبار في القتال وهو الفرار منه ومن الثاني :﴿ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم ﴾ [ محمد : ٢٥ ] فظاهر معنى العبارة هنا : آمنوا بما نزّلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والمعرفة والقوة.
فهذا ما نفسرها به على جعل الطمس والردّ على الأدبار معنويين وبه قال مجاهد ولكن أوجز فقال نطمس وجوها عن الصراط الحق فنردها على أدبارها في الضلالة، وقال السدي نزلت في مالك بن الصيف ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع قال ومعناه فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا، وقال الضحاك يعني أن نردهم عن الهدى والبصيرة فقد ردهم على أدبارهم فكفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما جاء به.
وظاهر كلام هؤلاء أن المخاطبين بهذه الآية هم الذين كانوا على ما يعتقدون أنه الحق من التوراة وإنهم كانوا معذورين عند الله فيما هم عليه كأنهم الذين قال فيهم ﴿ ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] فحذّرهم من إرجاء الإيمان والتسويف به أن يطول عليهم العهد فيصعب عليهم الإيمان ويضعف استعدادهم لقبوله بتعلق قومهم بهم وغرورهم بجاههم فيهم. وجعل ذلك بعضهم حسيا ظاهريا فقال المعنى نطمس آثارهم من الحجاز ونردّهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام وهي بلادهم التي جاؤوا الحجاز منها ورواه ابن زيد عن أبيه. وروي عن ابن عباس أن المراد جعل وجوههم في أقفيتهم وفهم من رواه عنه أنه تهديد بالمسخ وقالوا إنه يكون في آخر الزمان أو في الآخرة أو هو مقيد بعدم إيمان أحد من أولئك المخاطبين وقد آمن بعضهم.
والوجه الذي قررناه أولا هو الذي اختاره الأستاذ الإمام في الدرس فقال : طمس الوجه أن يعرض له ما يغطيه فيمنع صاحبه أن يتوجه إلى مقصده ومتى بطل التوجه الصحيح إلى المقصد امتنع السعي إليه المؤدي إلى الوصول وذلك هو الخذلان والخيبة، أي آمنوا قبل أن نعمي عليكم السبيل بما نبصر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم فتردون على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير خيركم. وأورد الرازي وجوها أخرى منها أن المراد بالوجوه الوجهاء الرؤساء أي قبل أن نزيل وجاهتهم وعزهم، ومنها أن المراد بطمس الوجوه تقبيح صورتها كما يقال طمس الله وجهه وقبّح الله وجهه بمعنى تقبيح صورتها، يعني أن ذلك يكون بما يلاقونه من الذل والكآبة عندما يغلبون على أمرهم.
﴿ أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السبت ﴾ قال بعضهم إنه هدّدهم بالطمس أو اللعن وهو الطرد وأما من جعله بمعنى الخذلان أو الإخراج من المدينة وجوارها إلى الشام فيقول إن الأول قد حصل حتما ولا نزاع في ذلك. وقال الأستاذ الإمام : ورد في أهل السبت أن الله أهلكهم فمعنى اللعنة هنا الإهلاك بقرينة التشبيه وبه صرح أبو مسلم ويحتمل أن يكون معنى اللعن هنا عذاب الآخرة والمعنى آمنوا قبل أن تقعوا في إحدى الهاويتين الخيبة والخذلان وفساد الأمر وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم وقد كان ذلك في طائفة منهم أجلوا من ديارهم وخذلوا في كل أمرهم أو الهلاك وقد وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها :﴿ وكان أمر الله مفعولا ﴾ أي واقعا أي شأنه أن يفعل حتما والمراد هنا أمر التكوين المعبر عنه بقوله عز وجل :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ [ يس : ٨٢ ].
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما٤٨ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا٤٩ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا٥٠ ﴾.
روى ابن المنذر عن أبي مجلز قال لما نزل قوله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال والشرك بالله فسكت ثم قام إليه فقال يا رسول الله والشرك بالله ؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ وروى ابن جرير نحوه عن ابن عمر، وروى ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري في رجل شكا ابن أخيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا ينتهي عن الحرام. وذكر الفخر الرازي أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة ( رضي الله عنه ) إذ أراد أن يسلم وخاف أن لا يقبل إسلامه وذكر في ذلك محاورة ومراجعة عزاها إلى ابن عباس وهي لا تصح فلا حاجة إلى إيرادها.
الأستاذ الإمام : قالوا إن سبب نزول هذه الآية قصة وحشي وأنه ندم على قتله لما أخلفه مولاه ما وعده من عتقه وراجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في إسلامه فكأنهم يثبتون أن الله جلّت عظمته كان يداعب وحشيا وأصحابه ويستميلهم بآية بعد آية ولا حاجة إلى هذا كله فالكلام ملتئم بعضه مع بعض فهو بعد ما ذكر من شأن اليهود وأن عمدتهم في تكذيب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تحريف أحبارهم للكتاب وإتباعهم لهم في أمر الدين كما قال في آية أخرى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] وورد في تفسيرها المرفوع أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم من غير رجوع إلى أصل الكتاب، فهذه الآية تشير إلى أنهم وقعوا في الشرك المشار إليه في الآية الأخرى إذ الشرك بالله يتحقق باعتماد الإنسان على غير الله مع الله في طلب النجاة من رزايا الدنيا ومصائبها أو من العذاب في الآخرة كما يتحقق بالأخذ بقول بعض الناس في التشريع كالعبادات والعقائد والحلال والحرام وإثبات الشرك لليهود هنا وفي تلك الآية لا ينافي تسميتهم أهل الكتاب الذي يدخل فيه الإيمان بالله والأنبياء فإنه قال في الآية السابقة :﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ أي إيمانا لا يعتد به إذ لا يقي صاحبه من الشرك.
أقول قد بينا في مواضع كثيرة من التفسير حقيقة الشرك في الألوهية وهو الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور، والشرك في الربوبية وهو الأخذ بشئ من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي وهذا النوع من الشرك هو الذي أشار الأستاذ الإمام إلى تفسير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لآية التوبة به وهي قوله تعالى في أهل الكتاب كلهم :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ [ التوبة : ٣٢ ] فسر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام كما ذكرنا غير مرة، فهذا إثبات لطروء الشرك على أهل الكتاب وإن لم يجعل ذلك عنوانا لهم في القرآن لأنه ليس من أصل دينهم وليميزهم عن مشركي الوثنيين، وبينا أيضا أن الشرك في الألوهية والربوبية قد سرى منذ قرون كثيرة إلى بعض المسلمين حتى عرفت طوائف منهم بنبذ الإسلام البتة كطوائف الباطنية ( راجع مباحث الشرك من جزء التفسير الثاني ومن جزئه الثالث وجزئه الخامس وفي غير هذه المواضع من التفسير والمنار ) وبإثبات الشرك لأهل الكتاب تظهر مناسبة وضع هذه الآية بين هذه الآيات في محاجتهم ودعوتهم إلى الإسلام كأنه يقول لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء وقد هدمتم أساس دينهم بالشرك الذي لا يغفره الله بحال من الأحوال.
أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك فهي أن الدين إنما شرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم لأنه عبارة عن رفعهم لأفراد منهم أو لبعض المخلوقات التي هي دونهم أو مثلهم إلى مرتبة يقدسونها ويخضعون لها ويذلون بدافع الشعور بأنها ذات سلطة عليا فوق سنن الكون وأسبابه وأن إرضاءها وطاعتها هو عين طاعة الله تعالى أو شعبة منها لذاتها فهذه الخلة الدنيئة هي التي كانت سبب استبداد رؤساء الدين والدنيا بالأقوام والأمم واستعبادهم إياهم وتصرفهم في أنفسهم وأموالهم ومصالحهم ومنافعهم تصرف السيد المالك القاهر بالعبد الذليل الحقير وناهيك بما كان لذلك من الأخلاق السافلة والرذائل الفاشية من الذل والمهانة والدناءة والتملق والكذب والنفاق وغير ذلك.
والتوحيد الذي يناقض الشر هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رقّ العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية وجعله حرا كريما عزيزا لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات، فلسننه الحكيمة يخضع، ولشريعته العادلة المنزّلة يتبع، وإنما خضوعه هذا خضوع لعقله ووجدانه، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه، وأما طاعته للحكام فهي طاعة للشرع الذي رضيه لنفسه، والنظام الذي يرى فيه مصلحته ومصلحة جنسه، لا تقديسا لسلطة ذاتية لهم، ولا ذلا واستخذاء لأشخاصهم، فإن استقاموا على الشريعة أعانهم، وإن زاغوا عنها استعان بالأمة فقومهم، كما قال الخليفة الأول في خطبته الأولى بعد نصب الأمة ومبايعتها إياه " وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني " فهكذا يجب أن يكون شأن الموحدين مع حكامهم وهكذا يكونون سعداء في دنياهم بالتوحيد كما يكونون أشقياء بالشرك الجليّ أو الخفيّ.
وأما سعادة الآخرة أو شقاؤها فهو أشد وأبقى، والمدار فيهما على التوحيد والشرك أيضا، أو روح الموحدين تكون راقية عالية لا تهبط بها الذنوب العارضة إلى الحضيض الذي تهوي فيه أرواح المشركين، فمهما عمل المشرك من الصالحات تبقى روحه سافلة مظلمة بالذل والعبودية والخضوع لغير الله تعالى، فلا ترتقي بعملها إلى المستوى الذي تنعم فيه أرواح الموحدين العالية في أجسادهم الشريفة، ومهما أذنب الموحدون فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، وظلمتها لا تعم قلوبهم، لأنهم بتوحيد الله ومعرفته وعز الإيمان ورفعته يغلب خيرهم على شرهم، ولا يطول الأمد وهم في غفلتهم عن ربهم، بل هم كما قال تعالى :﴿ إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ [ الأعراف : ٢٠١ ] يسرعون إلى التوبة، وإتباع الحسنة السيئة ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ [ هود : ١١٤ ] فإذا ذهب أثر السيئة من النفس كان ذلك هو الغفران، فكل سيئات الموحدين قابلة للمغفرة، ولذلك قال تعالى :
﴿ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ أي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين وإنما مشيئته موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه، كما بينا ذلك في مواضع كثيرة من التفسير ( تراجع في الفهارس عند مادة مشيئة ) وقد أشرنا إليها آنفا بقولنا ومهما أذنب الموحدون الخ وهو بيان لما يشاء غفرانه ولسننه في ذلك، وأما سنته تعالى فيما لا يغفره من الذنوب فتظهر من المقابلة، وتلك هي الذنوب التي لا يتوب منها صاحبها ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل أثرها السيئ من النفس حتى يترتب عليه أثره السيئ في الدنيا ثم في الآخرة، فإن العقاب على الذنوب عبارة عن ترتيب آثارها في النفس عليها كما تؤثر الحرارة في الزئبق في الأنبوبة فيتمدد ويرتفع، وتؤثر فيه البرودة فيتقلص وينخفض، فهذا مثال سنته تعالى في تأثير الأعمال الصالحة والسيئة في نفوس البشر وجزائهم عليها كما بينا ذلك مرارا في التفسير وغيره ( راجع مادة ذنب وعقاب وجزاء في فهارس التفسير والمنار ).
وقد اضطرب في فهم الآية على بلاغتها وظهورها أصحاب المقالات والمذاهب الذين جعلوا القرآن عضين فلم يأخذوه بجملته ويفسروا بعضه ببعض كالجمع بين المشيئة والحكمة والنظام بل نظروا في كل جملة على حدتها وحاولوا حملها على مقالاتهم كالمرجئة والمعتزلة والخوارج وغيرهم. فهذا يقول إن الشرك وغير الشرك سواء في كونهما لا يغفران إلا بعد التوبة، وهذا يقول إنها دالة على عدم وجوب العقاب على الذنوب وجواز غفرانها كلها ما اجتنب الشرك، وذاك يقول إنها تكون على هذا مغرية بالمعاصي مجرئة عليها. والآية فوق ذلك تحدد ما يترتب عليه العقاب في الدنيا والآخرة حتما لإفساده للنفوس البشرية وهو الشرك، وتبين أن ما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفس فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيئ في النفس قويا يقتضي العقاب، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير المضاد له من صالح الأعمال ( راجع تفسير ﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ﴾ [ النساء : ١٧ ] الخ من جزء التفسير الرابع ).
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾ هذه الجملة تشعر بعلة عدم غفران الشرك والمعنى ومن يشرك بالله واجب الوجود قيوم السموات والأرض القائم بنفسه الذي قام به كل شيء بأن يجعل لغيره شركة ما معه دع الإلحاد بإنكار سلطته التي هي مصدر النظام البديع في الكون سواء كانت تلك الشركة بالتأثير في الإيجاد والإمداد أو بالتشريع والتحليل والتحريم من يشرك به في ذلك فقد افترى إثما عظيما أي اخترع ذنبا مفسدا عظيم الفحش والضرر، سيئ المبدأ والأثر، تستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فيكون جديرا بأن لا يغفر وإن كان ما دونه قد يمحوه الغفران، والافتراء افتعال من فرى يفري وأصل معناه القطع، ويطلق على الكذب والإفساد لأن قطع الشيء الصحيح مفسد له والشرك بالقول لا يكون إلا كذبا وبالفعل لا يكون إلا فسادا. قال الراغب : الفري قطع الجلد للخرز والإصلاح والإفراء ( قطعه ) للإفساد والافتراء فيهما وفي الإفساد أكثر ولذلك استعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم، وذكر الآية وغيرها من الشواهد.
كانت اليهود تفاخر مشركي العرب وغيرهم بنسبهم ودينهم ويسمون أنفسهم شعب الله وكذلك النصارى. وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم ﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ [ المائدة : ١٨ ] وقولهم :﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ [ البقرة : ١١١ ] وقول اليهود خاصة ﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾ [ البقرة : ٨٠ ] وكل هذا من تزكيتهم لأنفسهم وغرورهم في دينهم. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب فأنزل الله فيهم :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾ وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك. قاله السيوطي في لباب النقول.
أقول : وروى ابن جرير أيضا سبب نزولها تزكيتهم لأنفسهم بالآيات التي أشرنا إليها آنفا. وروي عن السدي أنه قال نزلت في اليهود قالت اليهود إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل، وذكر روايات أخرى ورجح أن تزكيتهم لأنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا وأنهم أبناء الله وأحباؤه أما معنى ﴿ ألم تر ﴾ فقد ذكر قريبا والاستفهام للتعجيب من حالهم. وتزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية أي طاهرة كثيرة الخير والبركة وأصل الزكاء والزكاة النمو والبركة في الزرع ومثله كل نافع فتزكية النفس بالفعل عبارة عن تنمية فضائلها وخيراتها ولا يتم ذلك إلا باجتناب الشرور التي تعارض الخير وتعوقه وهذه التزكية محمودة وهي المرادة بقوله تعالى :﴿ قد أفلح من زكاها ﴾ [ الشمس : ٩ ] أي نفسه. وتكون بالقول وهو ادعاء الزكاء والكمال ومنه تزكية الشهود وقد أجمع العقلاء على استقباح تزكية المرء لنفسه بالقول ومدحها ولو بالحق ولتزكيتها بالباطل أشد قبحا وهذا هو المراد هنا، وهذا النوع من التزكية مصدره الجهل والغرور ومن آثاره العتو والاستكبار عن قبول الحق والانتفاع بالنصح.
وقد ردّ الله عليهم بقوله :﴿ بل الله يزكي من يشاء ﴾ أي ليست العبرة بتزكيتكم لأنفسكم بأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم لا تعذبون في النار وأنكم ستكونون أهل الجنة دون غيركم وأنكم شعب الله المختار بل الله يزكي من يشاء من عباده من جميع الشعوب والأقوام بهدايتهم إلى العقائد الصحيحة والآداب الكاملة الصالحة أو شهادة كتابه لهم بموافقة عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وأعمالهم لما جاء فيه ﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾ [ النجم : ٣٢ ].
﴿ ولا يظلمون فتيلا ﴾ أي ولا يظلم الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه شيئا مما يستحقونه بأعمالهم ولو حقيرا كالفتيل، وقد بينا من قبل أن أصل الظلم بمعنى النقص، أي لا ينقصهم من الجزاء على أعمالهم الحسنة شيئا بعدم تزكيته إياهم لأن عدم تزكيتهم إنما تكون بعدم إتباعهم لما تكون به النفس زكية من هداية الدين والعقل ونظام الفطرة. والفتيل ما يكون في شق نواة التمرة مثل الخيط وما تفتله بين أصابعك من وسخ أو خيط وتضرب العرب به المثل في الشيء الحقير فهو بمعنى ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ [ النساء : ٤٠ ] وتقدم تفسيره من عهد قريب. فخذلان الملوثين برذيلة الشرك في الدنيا بالعبودية لغيرهم وغير ذلك من آثار انحطاطهم، وعذابهم في الآخرة وحرمانهم من نعيمها، لا يكون بظلم من الله عز وجل لهم، ونقصه إياهم شيئا من ثواب أعمالهم، وإنما يكون بنقصان درجات أعمالهم، وعجزها عن العروج بأرواحهم، بل بتدسيتها لنفوسهم، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل ﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾ [ الأنعام : ١٣٢ ] كدرجات الحرارة في ميزانها ودرجات الرطوبة في ميزانها، فما كل درجة من الأولى يغلي بها الماء، ولا كل درجة منها يكون بها جليدا، ولا كل درجة من الثانية ينزل بها المطر، وكدرجات امتحان طلاب العلوم في المدارس، أو الأعمال في الحكومة لا ينال الفوز إلا بالدرجات العلى المحدد أدناها وأعلاها بالحكمة.
والآية تدل على أن الله تعالى يجزي كل عامل خير بعمله وإن كان مشركا لأن لعمله أثرا في نفسه يكون مناط الجزاء فإذا لم يصل تأثير عمل المشرك إلى الدرجة التي تكون بها النجاة من العذاب البتة فإن عمله ينفعه بكون عذابه أقل من عذاب من لم يعمل من الخير مثل عمله، مثال ذلك في الدنيا رجلان يشربان الخمر أحدهما مقل والآخر مكثر فضرر المكثر يكون أكبر من ضرر المقل، وآخران متساويان في الشرب ولكن بنية أحدهما قوية تقاوم الضرر أن يفتك بالجسم وبنية الآخر ضعيفة لا تستطيع المقاومة فإن ضرر هذا من الشرب يكون أشد من ضرر ذاك. كذلك الروح القوية السليمة الفطرة الصحيحة الإيمان المزكاة بالعمل الصالح لا تهبط بها السيئة الواحدة والسيئتان إلى درجة الأشرار الفجار فتجعلها شقية مثلهم لا يغلب خيرها على الشر الذي يعرض لها فيزيله أو يضعفه حتى يكون ضررها غير مهلك، ومنه تعلم أن بعض المؤمنين الصالحين قد يعذب في الدنيا والآخرة بذنبه ولكنه لا يكون من الهالكين الخالدين.
والعبرة بهذه الآية وما قبلها للمسلمين هي وجوب اتقاء ما هم عليه من الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما قبله وما بعده بقرون، واتقاء مثل ما كانوا عليه من تزكية أنفسهم بالقول واحتقار من عداهم من المشركين الذي انجرّ إلى احتقار المسلمين عند ظهور الإسلام حتى كانت عاقبة ذلك الغرور وتلك التزكية الباطلة في الدنيا أن غلبهم المسلمون على أمرهم، واستولوا على أرضهم وديارهم وليعلموا أن الله العظيم الحكيم لا يحابي في سننه المطردة في نظام خلقه مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا لأجل اسمه ولقبه أو لانتسابه بالاسم إلى أصفيائه من خلقه بل كانت سننه حاكمة على أولئك الأصفياء أنفسهم حتى أن خاتم النبيين صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم قد شج رأسه وكسرت سنه وردي في الحفرة يوم أحد لتقصير عسكره فيما يجب من نظام الحرب، فإلى متى أيها المسلمون هذا الغرور بالانتماء إلى هذا الدين وأنتم لا تقيمون كتابه ولا تهتدون به ولا تعتبرون بما فيه من النذر، ألا ترون كيف عادت الكرة إلى تلك الأمم عليكم بعد ما تركوا الغرور واعتصموا بالعلم والعمل، بما جرى عليه نظام الاجتماع من الأسباب والسنن، حتى ملكت دول الأجانب أكثر بلادكم، وقام اليهود الآن ليجهزوا على الباقي لكم، ويستردوا البلاد المقدسة من أيديكم، ويقيموا فيها ملكهم ؟ ؟ ؟ فاهتدوا بكتاب الله الحكيم وبسننه في الأمم واتركوا وساوس الدجالين الذين يبثون فيكم نزغات الشرك فيصرفونكم عن قواكم العقلية والاجتماعية وعن الاهتداء بكلام ربكم على الاتكال على الأموات، والاستمساك بحبل الخرافات، ويشغلونكم عن دينكم ودنياكم بما لم ينزله الله تعالى عليكم من الأوراد والصلوات، وما غرضهم بذلك إلا سلب أموالكم، وحفظ جاههم الباطل فيكم، أفيقوا أفيقوا، تنبهوا تنبهوا، واعلموا أن الله لم يظلم ولا يظلم أحدا فتيلا فما زال ملككم، وذهب عزكم، إلا بترك هداية ربكم، وإتباع هؤلاء الدجالين منكم.
﴿ انظر كيف يفترون على الله الكذب ﴾ أي انظر يا أيها الرسول كيف يكذبون على الله بتزكية أنفسهم وزعمهم أنهم شعبه الخاص وأبناؤه وأحباؤه وأنه يعاملهم معاملة خاصة يخرجون فيها عن نظام سننه في سائر خلقه، وهذا تأكيد للتعجيب من شأنهم في الآية السابقة لنعتبر به.
﴿ وكفى بالله مبينا ﴾ أي وكفى بهذا الضرب من آثامهم إثما بينا ظاهرا فإنه تعالى لم يعاملهم معاملة خاصة مخالفة لسنن الاجتماع البشري التي عامل بها غيرهم ولكنهم قوم مغرورون جاهلون، وقد أطلق الإثم على الكذب خاصة، وعلى كل ذنب، وقال الراغب الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، يعني عن الخيرات التي يثاب الإنسان عليها ثم بين صدق ذلك على الخمر والميسر إذ قال تعالى :﴿ فيهما إثم كبير ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] ولا شك أن تزكية النفس، والغرور بالدين والجنس، مما يبطئ عن العمل النافع الذي يثاب عليه الناس في الدنيا بالعز والسيادة، وفي الآخرة بالحسنى وزيادة، وتقدم في تفسير ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] أنه لا يطلق لفظ الإثم إلا على ما كان ضارا وأي ضرر أكبر من ضرر الغرور وتزكية النفس بالدعوى والتبجح كما يفعل المسلمون الآن في بعض البلاد يغشون أنفسهم بمدحها، ويتركون الأعمال التي ترفعها أو تعليها، وقد ترك اليهود ذلك منذ قرون، فهم يعملون لملتهم وهم ساكتون ساكنون، لا يدعون ولا يتبجحون، فاعتبروا يا أيها الغافلون.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا٥١ أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا٥٢ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا٥٣ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما٥٤ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا٥٥ ﴾.
أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال لمّا قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه يزعم إنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال أنتم خير، فنزلت فيهم ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾ [ الكوثر : ٣ ] ونزلت فيه ﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ نصيرا ﴾ وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو عمارة وهوده ابن قيس وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود وأهل العلم بالكتب الأولى فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ! ! فأنزل الله ﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ ملكا عظيما ﴾ اه من لباب النقول.
أقول الرواية الأولى عند البزار وغيره في سبب نزول سورة الكوثر وهي مكية ووقائع هذه السورة مدنية كما بيناه ومحاجة اليهود وبيان أحوالهم لم يفصل إلا في السور المدنية بعد ابتلاء المؤمنين بكيدهم فيها وفي جوارها، ففي الرواية خلط سببه اشتباه بعض الرواة في الأسباب المتشابهة، وسيأتي بعض روايات ابن جرير في ذلك، والآيات متصلة بما قبلها ولا يبعد أن يكون هذا السياق كله قد نزل بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتحدوا مع المشركين على استئصال المسلمين وذلك هو تفضيلهم للمشركين على المؤمنين بالفعل ولابد أن يكونوا صرحوا بالتفضيل بالقول عند النداء بالنفير لحرب المؤمنين.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾ الاستفهام للتعجيب من هذه الحال من أحوالهم كما سبق نظيره في الآية التي افتتحت بمثل ما افتتحت به للتعجيب من ضلالهم في أنفسهم وإرادتهم إضلال المؤمنين. و( الجبت ) قال بعض اللغويين أصله الجبس فقلبت السين تاء ومعناه فيهما الردئ الذي لا خير فيه. وأطلق على السحر وعلى الساحر وعلى الشيطان وقيل أنه حبشي الأصل، روي عن ابن عباس وابن جبير وأبي العالية أنه الساحر وفي رواية عن ابن عباس ومجاهد أنه الأصنام، وعن عمر ومجاهد في رواية أخرى وابن زيد أنه السحر، و( الطاغوت ) من مادة الطغيان وتقدم تفسيره في آية الكرسي من الجزء الثالث بأنه كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يعبد، ورئيس يقلد، وهوى يتبع، وقد روي عن عمر ومجاهد أن الطاغوت الشيطان، وعن ابن عباس أن الطاغوت هم الناس الذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، وقيل الطاغوت الكهان، وقيل الجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش وأن بعض اليهود سجدوا لهما مرضاة لقريش واستمالة لهم ليتحدوا معهم على قتال المسلمين، وفي حديث قطن ابن قبيصة عن أبيه مرفوعا عند أبي داود :" العيافة والطيرة والطرق من الجبت " ١ وفسر العيافة بالخط وهو ضرب الرمل، وتطلق العيافة على التفاؤل والتشاؤم بما يؤخذ من الألفاظ بطريق الاستقاق كقول الشاعر :
تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا بأن عنّ لي منك البنان المطرّف
وفي عرفات ما يخبر أنني بعارفة من طيب قلبك أسعف
وأما دماء الهدي فهو هدى لنا يدوم ورأي في الهوى يتألف
فأوصلتا ما قلته فتبسمت*** وقالت أحاديث العيافة زخرف
والطيرة التشاؤم وأصله من زجر الطير، والطرق هو الضرب بالحصا أو الودع أو حب الفول أو الرمل لمعرفة البخت وما غاب من أحوال الإنسان. وهذه الأمور كلها من الدجل والحيل فالمعنى الجامع للفظ الجبت هو الدجل والأوهام والخرافات، والمعنى الجامع للفظ الطاغوت هو ما تقدم آنفا عن تفسير آية الكرسي من مثارات الطغيان.
ومعنى الآية ألم ينته علمك أيها الرسول أو ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف حرموا هدايته فهم يؤمنون بالجبت والطاغوت وينصرون أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم وحقية أصل كتبهم ﴿ ويقولون للذين كفروا ﴾ أي لأجلهم وفي شأنهم والحكاية عنهم ﴿ هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ﴾ أي يقولون إن المشركين أهدى وأرشد طريقا في الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم قال ابن جرير : ومعنى الكلام أن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما وأنهم قالوا إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله اه ثم ذكر الروايات في ذلك عنهم ومنها ما تقدم عن كعب بن الأشرف، ومنها ما رواه أيضا عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يغزوه وقال إنا معكم نقاتله، فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهذين الصنمين، وأمر بهما ففعل، ثم قالوا نحن أهدى أم محمد فنحن ننحر الكوماء ( الناقة الضخمة السنام ) ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده، فقال بل أنتم خير وأهدى. ومنها عن السدي قال لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود بني النضير ما كان حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين فهموا به وبأصحابه فأطلع الله رسوله على ما هموا من ذلك ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان نحن قوم ننحر الكوماء ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه، قال دينكم خير من دين محمد فاثبتوا عليه. وذكر روايات أخرى.
١ أخرجه أبو داود في الطب باب٢٣، وأحمد في المسند ٣/٤٧٧، ٥/٦٠..
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ﴾ أي أولئك الذين بينا سوء حالهم وهم الذين لعنهم الله أي اقتضت سنته في خلقه أن يكونوا بعداء عن موجبات رحمته وعنايته من الإيمان بالله وحده والكفر بالجبت والطاغوت ﴿ ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ﴾ أي ومن يلعنه الله بالمعنى الذي ذكرناه آنفا فلن ينصره أحد من دونه إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سنته تعالى في خلقه، ومنها أن لا يكون الخذلان والانكسار نصيب المؤمنين بالجبت والطاغوت أي بمثار الدجل والخرافات والطغيان أي مجاوزة سنن الفطرة وحدود الشريعة، ولا سيما إذا أراد هؤلاء مقاومة أهل التوحيد والحق والاعتدال في سياستهم وأعمالهم بسيرهم على سنن الاجتماع فيها. وهذه الآية تدل على أن سبب لعن الله للأمم هو إيمانها بالخرافات والأباطيل والطغيان، وأنه تعالى إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك، وتدل بطريق اللزوم على أن الأمم المغلوبة تكون أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة المنصورة فليحاسب المسلمون أنفسهم بها وبما في معناها من الآيات كقوله تعالى :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٧ ] ليتبين لهم من كتاب ربهم صدقهم في دعوى الإيمان من عدمه ولعلهم يرجعون إليه ويعولون في أمر دينهم ودنياهم عليه.
﴿ أم لهم نصيب من الملك ﴾ قالوا إن :﴿ أم ﴾ هنا منقطعة وهي عند جمهور البصريين للإضراب والاستفهام والمراد بالإضراب هنا الانتقال من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيل المشركين على المؤمنين إلى توبيخهم على البخل والشح والأثرة، واختار الأستاذ الإمام أن ﴿ أم ﴾ إذا وقعت في أول الكلام تكون للاستفهام المجرد ( راجع ج ٢ من التفسير ) والاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ يستفاد من قرينة المقام أي ليس لهم نصيب من الملك كما لهم نصيب من الكتاب بل فقدوا الملك كله بظلمهم وطغيانهم ﴿ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ﴾ أي ولو كان لهم نصيب من الملك لسلكوا فيه طريق البخل والأثرة بحصر منافعه ومرافقه في أنفسهم فلا يعطون الناس نقيرا منه إذ ذاك. والنقير هو النقرة أو النكتة في ظهر نواة النمر وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة شبهت بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة والنقير كالفتيل في الآية السابقة ( ٤٧ ) يضرب به المثل في الشيء القليل والحقير التافه. ويطلق النقير أيضا على ما نقر أي حفر من الحجر أو الخشب فجعل إناء ينبذ فيه، وكذلك يضرب المثل بالقطمير وهي القشرة الدقيقة التي على النواة بينها وبين التمرة.
وحاصل المعنى أن هؤلاء اليهود أصحاب أثرة شديدة وشح مطاع يشق عليهم أن ينتفع أحد من غير أنفسهم فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره فكيف لا يشق عليهم أن يظهر نبي من العرب ويكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل. وهذه الصفة لا تزال غالبة على اليهود ظاهرة فيهم فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا من نواة أو موضع زرع نخلة أو نقرة في أرض أو جبل، وهم يحاولون الآن وحاولوا قبل الآن ذلك بقطع أسباب الرزق عن غيرهم فالنجار اليهودي في بيت المقدس يعمل لك العمل بأجرة أقل من الأجرة التي يرضى بها المسلم أو النصراني وإن كانت أقل من أجرة المثل، ولعلّ جمعياتهم السياسية والخيرية تساعدهم على ذلك، فالدلائل متوفرة على أن القوم يحاولون امتلاك الأرض المقدسة وحرمان غيرهم من جميع أسباب الرزق فيها، يفعلون هذا وليس لهم نصيب من الملك " هذا وما كيف لو ".
وهل يعود إليهم الملك كما يبغون ؟ الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وإنما تبين ما تقتضيه طباعهم فيه لو حصل، وسيأتي البحث في ذلك في تفسير سورة الإسراء التي تسمى أيضا ( سورة بني إسرائيل ) ويدخل في ذلك ما تقتضيه من الكثرة وهم متفرقون ومتعلقون بأموالهم في كل الممالك، ومن الاستعداد للحرب والزراعة وقد ضعف ذلك في أكثرهم، ولكنهم يعتقدون اعتقادا دينيا أنهم سيقيمون الملك أو سوف يقيمونه في البلاد المقدسة، وقد ادخروا لذلك مالا كثيرا فيجب على العثمانيين أن لا يمكنوا لهم في فلسطين ولا يسهلوا لهم طرق امتلاك أرضها وكثرة المهاجرة إليها فإن في ذلك خطرا كبيرا كما نبهنا في تفسير الآيات السابقة من عهد قريب.
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ﴾ الأستاذ الإمام : سبق في الآيات قبل هذه أن اليهود حكموا بأن المشركين أهدى سبيلا من المؤمنين وذلك من الحسد والغرور بأنفسهم فإنهم يقولون ذلك مع أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت فهم في شر حال، ويعيبون من هم في أحسن حال، فالله تعالى يقول إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده ولا يحبون أن يكون لأمة من الأمم فضل أكثر مما لهم أو مثله أو قريبا منه لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم فكأنه قال هل غرر هؤلاء بأنفسهم تغريرا، أم لهم نصيب من الملك في هذا الكون فهم يمنعون الناس فلا يؤتونهم منه نقيرا، أم يحسدون الناس على ما أعطاهم الله من فضله، أي العرب.
﴿ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ﴾ والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل وقد كانت ظهرت تباشير الملك العظيم فيهم عند نزول هذه الآيات فإنها مدنية متأخرة وكانت شوكة المسلمين قد قويت فالآية مبشرة لهم بالملك الذي يتبع النبوة والحكمة، والحاصل أن حال اليهود يومئذ كان لا يعدو هذه الأمور الثلاثة : إما غرور خادع يظنون معه أن فضل الله محصور فيهم، ورحمته تضيق عن غير شعب إسرائيل من خلقه، وإما حسبان أن ملك الكون في أيديهم فهم لا يسمحون لأحد بشئ منه ولو حقيرا كالنقير، وإما حسد العرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادي عظمته. اه ما قاله في الدرس وليس عندنا عنه في ذلك غيره.
وأقول : فسروا الحسد بأنه تمني زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها ولم يرد ذكره في القرآن إلا في هذه الآية وفي قوله في سورة البقرة :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ [ البقرة : ١٠٨ ] وفي سورة الفلق، وأهل الكتاب في آية البقرة هم اليهود فهو لم يسند الحسد إلى غيرهم لأنهم وقد سلب منهم الملك يتمنون عودته إليهم، وقد كبر عليهم أن تسبقهم العرب إلى ذلك ولم يكن النصارى يومئذ يحسدون المسلمين، لأنهم متمتعون بملك واسع، ولا مشركو العرب لأنهم ما كانوا يظنون أن النبوة التي قام بها واحد منهم حق ولا أنها تستتبع ملكا، فإن من ظهر له حقية الدعوة صار مسلما، وأما اليهود فإنه لم يؤمن ممن ظهرت لهم حقية دعوة الإسلام إلا نفر قليل ومنع الحسد باقي الرؤساء أن يؤمنوا وتبعهم العامة تقليدا لهم، وقلما يمنع الناس من اتباع الحق بعد ظهوره لهم مثل الحسد والكبر، فالحسود يؤثر هلاك نفسه على انقيادها لمن يحسده، لأن الحسد يفسد الطباع. وفي التفسير المأثور أن المراد بالناس هنا النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أنهم حسدوه وحسدوا قومه العرب لأنه منهم وهم أسبق إلى الخير الذي جاء به.
ورد في بعض أسباب نزول الآية أن بعض اليهود ككعب بن الأشرف لم يجدوا مطعنا يقولونه في النبي صلى الله عليه وسلم إلا تعدد أزواجه، وقيل حسدوه على ذلك والآية ترد هذه الشبهة، لأن بعض أنبيائهم كداود وسليمان كان لهم أزواج كثيرة، كما رد عليهم استبعادهم أن يكون الملك في غير آل إسرائيل بأنه تعالى أعطى آل إبراهيم من ذرية إسحاق الكتاب والحكمة والنبوة فضلا منه من غير أن يكون لهم حق عليه تعالى، فكذلك يعطي ذلك لآله من ذرية إسماعيل ولا حجر على فضله. فإن كان هذا الفضل الإلهي لا يناله إلا من له سلف فيه فللعرب هذا السلف، على أن هذه الدعوى باطلة، وإلا كانت هذه العطايا قديمة أزلية وليس الإنسان قديما أزليا ولو كان أزليا لما أمكن أن تكون بعض فروعه أزلية، فإيتاء الله تعالى بعض البشر الفضل إما أن يكون بمحض الاختصاص والاختيار وذلك موكول إلى مشيئته عز وجل، وإما أن يكون لمزايا وفضائل فيمن يعطيه ذلك، وحينئذ يكون كل من يكتسب مثل تلك المزايا مستحقا لهذا الفضل والنبوة ومقدماتها بمحض الاختصاص.
أما كثرة النساء لداود وسليمان عليهما السلام فقد نقل بعض المفسرين أنه كان لداود مائة امرأة ويؤخذ ذلك من سورة ص وأنه كان لسليمان ألف وثلاثمائة امرأة وسبع مئة سرية فكيف يستنكر أتباعهما أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة وقد تزوج أكثرهن لحكم وأسباب عامة أو خاصة كما تقدم بيان ذلك في تفسير آية تعدد الزوجات من الجزء الرابع. وفي سفر الملوك الأول من كتابهم المقدس ما نصه : ١ : ١١ أحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موابيات وعمونيات وأدوميات وصيد ونيات وحثيات ٢ من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة٣ وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثة مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبه " الخ ما هناك من الطعن فيه عليه السلام وبرأه الله.
﴿ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ﴾ القول المشهور المقدم في كتب التفسير التي بين أيدينا أن الضمير في قوله :﴿ آمن به ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم أو ما أنزل عليه أي من أولئك اليهود من آمن به ومنهم من أعرض عنه يقال صد الرجل عن الشيء إذا أعرض عنه، ويقال أيضا صد غيره عنه إذا صرفه عنه ونفره منه، وقيل إنه عائد إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أي من آله من آمن به ومنهم من لم يؤمن به، وقيل إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم وقيل إلى الكتاب، وقال الأستاذ الإمام يرجع الضمير إلى ما ذكر من الكتاب والحكمة والملك العظيم فأما الإيمان بالكتاب والحكمة ( وهي ما جاء به الأنبياء من بيان أسرار الكتاب ) فظاهر وأما الإيمان بالملك فهو الإيمان بوعد الله تعالى به، وهكذا شأن الناس في كل شيء لا يتفقون عليه وإنما يأخذ به بعضهم ويعرض عنه آخرون.
﴿ وكفى بجهنم سعيرا ﴾ أي نارا مسعرة لمن صد عنه وآثر إرضاء حسده والعمل بما يزينه له على اتباع الحق فهو لا يزال يغريه بنصر الباطل ومعاندة الحق حتى يدسي نفسه ويفسدها ويهبط بها إلى دار الشقاء وهاوية النكال المعبر عنها بجهنم وبالسعير وهي بئس المثوى وبئس المصير.
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ٥٦ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا٥٧ ﴾.
الأستاذ الإمام : قال تعالى في الآية السابقة ﴿ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ﴾ وتوعد من صد عنه بسعير جهنم ثم فصل هذا الوعيد بقوله :﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ﴾ ونقلوا عن سيبويه أن " سوف " تأتي للتهديد وتنوب عنها السين ويستشهدون بهذه الآية أي على سوف وبما قبلها على السين ولكن ورد دخول السين على الفعل في مقام الوعد في الآية الآتية :﴿ سندخلهم جنات ﴾ والصواب أن السين وسوف على معناهما المشهور في إفادة التنفيس والتأخير واشتق لفظ التسويف بمعنى التأخير من سوف، ولكن بعضهم استشكل التسويف هنا ولو نظروا في مثل هذا الوعيد لرأوا أن حصوله يكون متأخرا جدا عن وقت نزول الآية به، على أن للتراخي والبعد معنى آخر بحسب اعتبار المقام في الخطاب فإذا نظر إلى حال المغرورين بما هم فيه من قوة وعزة، الذين صرفهم غرورهم وطغيانهم بعزتهم عن النظر فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى فصدوا عنه استغناء بما هم فيه يراهم بهذا الغرور بعداء جدا عن تصور الوعيد والتفكير فيه فيكون هذا التسويف مرعيا فيه حالهم ليتفكروا في مستقبل أمرهم.
أقول : وقد تركت هنا في مذكراتي التي كتبتها في درسه بياضا بقدر ثلاثة أسطر بعد قوله تصور الوعيد والتفكر فيه ولا أذكر ماذا كنت أريد أن اكتب فيها ولا يظهر لي الآن وجه استشكال التأخير، والوعيد إنما هو بعذاب الآخرة والعرب تستعمل التسويف فيما هو أقرب منه. وقد ابتدأ الآية بذكر الذين كفروا ليعلم أن هذا الوعيد ليس خاصا بأولئك الكفار من اليهود، والمراد بآيات الله هنا ما يدل على حقيقة دينه مطلقا ويدخل فيها القرآن دخولا أوليا لأنه أدل الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها، ونصليهم نارا معناه نجعلهم يصلونها أي يدخلونها ويعذبون بها ( راجع بحث الصلي والإصلاء في ج ٤ ).
﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ﴾ قال الأستاذ الإمام : نضج الجلود هو نحو نضج الثمار والطعام وهو عبارة عن فقد التماسك الحيوي والبعد عن الحياة وإنما تتبدل لأن النضج يذهب القوة الحيوية التي بها الإحساس فإذا بقيت ناضجة يقل الإحساس بما يمسها أو يزول لذلك تتبدل بها جلود حية غيرها ﴿ ليذوقوا العذاب ﴾ لأن الذوق والإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد، ومن هنا قال بعض المفسرين إن المراد بتبديل الجلود دوام لعذاب فالكلام تمثيل أو كناية عن دوام الإحساس بالعذاب فإنه أراد أن يزيل وهما ربما يعرض للناس بالقياس على ما يعهدون في أنفسهم من أن الذي يتعود الألم يقل شعوره به ويصير عاديا عنده كما نرى من حال الرجل تعمل له عملية جراحية وتتكرر فإنه في المرة الأولى يتألم تألما شديدا ثم لا يزال التألم يخف بالتدريج حتى نراه لا يبالي به، وهكذا نشاهد في كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمرها.
أقول : والظاهر أن نضج الجلود من العذاب إن كان حقيقة لا مجازا يكون هو أثر لفح النار بسمومها لأهل تلك الدار كما قال تعالى :﴿ تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٤ ] ومتى لفح الجلد مرارا يبطل إحساسه وينفصل عن البشرة ويتربى تحته جلد آخر كما هو مشاهد في الدنيا.
ثم تكلم الأستاذ عن استشكال بعض المتكلمين لتعذيب الجلود الجديدة مع أن العصيان لم يكن بها ولم أكتب ما قاله ولا أتذكره والمشهور في الجواب عندهم أن البدل يكون عين الأصل المبدل منه في مادته وغيره في صورته، وهذه سفسطة ظاهرة، وذكر الرازي بعد هذا الجواب جوابا ثانيا وهو أن المعذب هو الإنسان وذلك الجلد ما كان جزءا من ماهيته بل هو كالشيء الزائد الملتصق به، وثالثا وهو أن المراد بالجلود السرابيل قال وطعن فيه القاضي بمخالفته للظاهر ورابعا وهو أن هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع قال كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام : كلما انتهى فقد ابتدأ وكلما انتهى إلى آخره فقد ابتدأ من أوله فكذلك قوله :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ﴾ يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا فيكون المقصود دوام العذاب وعدم انقطاعه اه تصويره لهذا الوجه وقد علمت أنه يوافق ما اختاره الأستاذ الإمام في العبارة ورأيت أنه صورها بما هو أقرب من هذا التصوير إلى العقل واللفظ وذكر الرازي عن السدي وجها خامسا ورده لظهور بطلانه.
وقد رد الألوسي الإشكال من أصله قال : وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه، لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جسد كانت وكذا يقال في النعيم اه وقد أيد هذا الرأي بما ورد من الأحاديث في كبر أجساد أهل الآخرة ثم قال : ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجثماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام فعلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين اه وله الحق في رد الإيراد ولكنه استقل في بعض القول وقلد المتكلمين في بعض آخر كإعادة المعدوم ولهذا البحث موضع آخر نحرره فيه إن شاء الله تعالى ويؤيد ما ذكره من أن النفس هي التي تذوق العذاب كلمة ﴿ ليذوقوا ﴾ ولم يقل " لتذوق " أي الجلود.
وذكر بعضهم في الآية إشكالا آخر وهو أن أصل الذوق تناول شيء قليل بالفم ليعرف طعمه فلا يتجوز به عن العذاب القوي الشديد أو أشد العذاب، وأجاب الرازي بقوله :" المقصود من ذكر الذوق الإخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق المذوق من حيث إنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق اه.
ولست أدري ما هو المانع من كون هذا العذاب يسمى أشد العذاب وإن كان هو في نفسه قليلا كما يدل عليه ظاهر لفظ يذوق وقد استعمل القرآن لفظ الذوق في العذاب كثيرا فاختياره مقصود، وإنما يعرف الأشد بالقياس على غيره فمهما كان عذاب الآخرة فهو أشد من عذاب الدنيا، وأكثر الذين يظنون أنهم ناجون من العذاب في الآخرة يودون أن يكون عذاب المعذبين شديدا بالغا منتهى ما يمكن من الشدة، كأنهم حرموا من ذوق طعم الرحمة، على أنه ليس بيدهم موثقا من الله بنجاتهم وأمنهم من العذاب.
﴿ إن الله كان عزيزا حكيما ﴾ أي إنه تعالى غالب على أمره، حكيم في فعله، فكان من حكمته أن جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب وجعل سنته في ربط الأسباب بمسبباتها مطردة لا يستطيع أحد أن يغلبه فيبطل اطرادها لأنه عزيز لا يغلب على أمره، كما جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم المقيم وبين ذلك بقوله :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ جعل دخول الجنة جزاء من آمن وعمل صالحا إذ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، ولا يكاد يوجد الإيمان بغير العمل الصالح إلا أن يموت المرء عقب إيمانه فلا يتسع الوقت لظهور آثار الإيمان وثمراته منه، ويقول البصريون أن سوف أبلغ من السين في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخل عليه ويرى ابن هشام أنه لا فرق بينهما وكأنهم أخذوا ذلك من قاعدة دلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى فلما كانت سوف أكثر حروفا كان معناها في الاستقبال أوسع ولا بد على هذا من نكتة للتعبير عن جزاء أهل النار بقوله :﴿ سوف نصليهم ﴾ وعن جزاء أهل الجنة بقوله ﴿ سندخلهم ﴾ وكأنه من رحمته تعالى بالفريقين يعجل لأهل النعيم نعيمهم ولا يعجل لأهل العذاب عذابهم وفيه إشارة إلى امتداد وقت التوبة في الدنيا. والخلود طول المكث وأكده هنا بقوله " أبدا " أي دائما.
﴿ لهم فيها أزواج مطهرة ﴾ قالوا أي من الحيض والنفاس، والعيوب والأدناس، أي سواء كانت حسية أو معنوية، وتقدم مثل هذه الجملة في سورة البقرة٢٤ وهناك كلام في نساء أهل الجنة ومعنى مصاحبتهم والاستمتاع بهن مع العلم بأن الجنة عالم غيبي ليس كعالم الدنيا.
﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾ قال الراغب الظل أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس ويعبر بالظل عن العزة والمنعة وعن الرفاهة وأورد الشواهد على ذلك من الآيات ومن كلام الناس كقولهم أظلني فلان أي حرسني وجعلني في ظله أي عزه ومناعته، ثم قال وظل ظليل أي فائض، وندخلهم ظلا ظليلا كناية عن غضارة العيش، وقال غيره إن شدة الحر في بلاد العرب هي السبب في استعمالهم لفظ الظل بمعنى النعيم، والظليل صفة اشتقت من لفظ الظل يؤكد بها معناه كما يقال ليل أليل أي ظل وارف فينان لا يصيب صاحبه حر ولا سموم، ودائم لا تنسخه الشمس وأقول لعل ذلك إشارة إلى النعيم الجسماني كما عهد في القرآن ويؤكد ذلك إسناده إليه سبحانه وتعالى جده وجل ثناؤه.
﴿ *إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا٥٨ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا٥٩ ﴾.
هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما وقد ذكروا لنزولهما أسبابا وصرحوا بأن السبب الخاص لا يخصص عموم الخطاب.
قال في لباب النقول أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال أرني المفتاح ( أي مفتاح الكعبة ) فلما بسط يده إليه قام العباس فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هات المفتاح يا عثمان فقال هاك أمانة الله فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح فدعا عثمان ابن طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ حتى فرغ من الآية. وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في عثمان ابن طلحة أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل به البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية فدعا عثمان فناوله المفتاح. قال : وقال عمر بن الخطاب ما سمعته يتلوها قبل ذلك، قلت ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة اه.
أقول بل الظاهر أنها نزلت قبل فتح مكة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاها يومئذ استشهادا وإن لم يتذكر عمر أنه سمعها قبل ذلك إن صحت الرواية وصح أن عمر قال ذلك فقد صح عنه أنه ذهل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ورد في ذكر موته حتى قرأ أبو بكر ﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ [ آل عمران : ١٤٤ ] فتذكر وذهل عن آية ﴿ وآتيتم أحداهن قنطارا ﴾ [ النساء : ٢٠ ] حتى ذكرته بها المرأة التي راجعته في مسألة تحديد المهور كما تقدم في أوائل هذه السورة وكل أحد عرضة للنسيان والذهول، والرواية عن ابن عباس لا تصح وإن اعتمدها الجلال فقد ذكرنا من قبل أن المحدثين قالوا إن أوهى طرق التفسير عن ابن عباس هي طريق الكلبي عن أبي صالح قالوا إن انضم إليها مروان الصغير فهي سلسلة الكذب. وأما رواية شعبة عن حجاج هذا هو المصيصي الأعور فقد كان ثقة ولكنه تغير في آخر عمره وهو ممن روى عن شعبة وابن جرير ولم يذكروا أن شعبة روى عنه ولكن شعبة روى عن حجاج الأسلمي وهو مجهول كما قال أبو حاتم.
وفي الروايتين بحث من جهة المعنى أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بمفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ومن كل أحد فلو أعطاه للعباس أو غيره لم يكن فاعلا إلا ما له الحق فيه ومن أعطاه إياه يكون هو أهله وأحق به، وليس هذا من باب ﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾ [ الأحزاب : ٦ ] بل لأن الكعبة من المصالح العامة وإنما كان يكون من هذا الباب لو كان المفتاح مفتاح بيت عثمان بن طلحة نفسه ونزع ملكه منه وأعطاه آخر بل الحكام الآن في جميع الممالك ينزعون ملك من يرون المصلحة العامة في نزع ملكه منه ولكنهم يعطونه ثمنه شاء أم أبى.
الأستاذ الإمام : بعد ما بين الله تعالى لنا من شأن أهل الكتاب ما بينه حتى تفضيلهم المشركين في الهداية على المؤمنين بالله وحده وبجميع كتبه ورسله أدبنا بهذا الأدب العالي وأمرنا بالأمانة العامة وهي الاعتراف بالحق سواء كان الحق حسيا أو معنويا فقال :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ فالكلام متصل بما قبله بمناسبة قوية تجعل السياق كعقد من الجوهر متناسب اللآلي فسواء صح ما ذكر من حكاية مفتاح الكعبة أو لم يصح فإن صحته لا تضر بالتئام السياق ولا بعموم الحكم إذ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم.
الأمانة حق عند المكلف يتعلق به حق غيره ويودعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير كالمال والعلم سواء كان المودع عنده ذلك الحق قد تعاقد مع المودع على ذلك بعقد قولي خاص صرح فيه بأنه يجب على المودع عنده أن يؤدي كذا إلى فلان مثلا أم لم يكن كذلك فإن ما جرى عليه التعامل بين الناس في الأمور العامة هو بمثابة ما يتعاقد عليه الأفراد في الأمور الخاصة فالذي يتعلم العلم قد أودع أمانة وأخذ عليه العهد بالتعامل والعرف بأن يؤدي هذه الأمانة ويفيد الناس ويرشدهم بهذا العلم وقد أخذ الله العهد العام على الناس بهذا التعامل المتعارف بينهم شرعا وعرفا بنص قوله :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ] ولذلك عد علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على العالم أن يؤدي أمانة العلم إلى الناس كما يجب على من أودع المال أن يرده إلى صاحبه، ويتوقف أداء أمانة العلم على تعرف الطرق التي توصل إلى ذلك فيجب أن تعرف هذه الطرق لأجل السير فيها. وإعراض العلماء عن معرفة الطرق التي تتأدى بها هذه الأمانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الذي أمروا به وإخفاء الحق بإخفاء وسائله هو عين الإضاعة للحق، فإذا رأينا الجهل بالحق والخير فاشيا بين الناس واستبدلت به الشرور والبدع ورأينا أن العلماء لم يعلموهم ما يجب في ذلك فيمكننا أن نجزم بأن هؤلاء العلماء لم يؤدوا الأمانة وهي ما استحفظوا عليه من كتاب الله ولا عذر لهم في ترك استبانه الطريق الموصل إلى ذلك بسهولة وقرب، فهم خونة الناس وليسوا بالأمناء.
أقول : يعني رحمه الله تعالى أنه يجب على العلماء أن يعرفوا الطرق التي تؤدي إلى إيصال العلم إلى الناس وقبوله وهذه الطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان كما تختلف الطرق التي تؤدي بها أمانة المال ففي هذا العصر تؤدى الأموال إلى أصحابها بطرق لم تكن معروفة في العصور السابقة منها التحويل على مصلحة البريد ومنها المصارف ومنها غير ذلك. وكذلك توجد طرق لنشر العلم بين الناس أسهل من الطرق السابقة فمن أبى سلوكها لا يعذر بعدم تأديته لأمانة العلم النافع وأكثر العلماء المتأخرين يقولون إنه لا يجب على العالم أن يتصدى لتعليم الناس وإنما يجب عليه أن يجيب إذا سئل وربما قيدوا هذا بما إذا فقد من يقوم مقامه في الإفتاء. وإنما قال مثل هذا من قاله من المتقدمين في المسائل الخاصة التي يحتاج إليها عند وقوع الوقائع فأما ما لا بد منه ولا يسع الناس جهله من العقائد والواجبات وأحكام الحلال والحرام فلم يشترط أحد فيه هذا الشرط ولذلك اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يقيدوه بالاستفتاء، والمجهول لا تتوجه النفوس إلى السؤال عنه أفيترك الجاهلون بالسنن العاملون بالبدع حتى يطرقوا أبواب العلماء في بيوتهم أو مدارسهم مع العلم بأنهم لا يفعلون.
ولا يخرج علماء الدين من تبعة الكتمان والخيانة في أمانة الله بتصديهم لتدريس كتب الفقه والعقائد فإن هذه الكتب لا تفهمها العامة ولا تجب عليها معرفتها لأنها وضعت للمنقطعين للعلم يستعينون بها على القضاء والإفتاء في المسائل التي لا يحتاج إليها كل الناس دائما ومنها ما تمر الأعصار ولا يقع بل منها يستحيل وقوعه. فيجب على العلماء أن يتصدوا لتعليم الجمهور ما لا يسع أحدا منهم جهله وأن يأمروهم المعروف وينهوهم عن المنكر من أقرب الطرق وأسهلها وإنما يعرف ذلك بالتجربة والاختبار ولله در الشاعر الذي قال :
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل
﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ قال الأستاذ الإمام بعد ما تقدم آنفا وكذلك أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل، والحكم بين الناس له طرق منها الولاية العامة والقضاء ومنها تحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة فكل من يحكم يجب عليه أن يعدل وقد أمر الله بالعدل في آيات أخرى كقوله :﴿ إن الله يأمر بالعدل ﴾ [ النحل : ٩٠ ] الآية وقوله :﴿ اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾ [ الأنعام : ٧ ] وقوله :﴿ كونوا قوامين بالقسط ﴾ [ المائدة : ١٣٤ ] ونهى عن الظلم وأوعد عليه في آيات كثيرة، ولم يذكر لنا حد العدل ولا تفسيره ولم يرد في السنة تفسير له أيضا. والعدل وقف على أمرين أحدهما : أن يعلم الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليكون الفصل بين الناس به مثال ذلك قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ [ المائدة : ١ ] فهو يوجب علينا أن نوفي بما نتعاقد عليه وقوله :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] الآية وهو قد حرم أكل أموال الناس ورشوة الحكام، وكذلك ما ورد في السنة المتواترة من أحكامه وقضائه صلى الله عليه وآله فيجب على الحاكم تطبيق أحكامه على ما علم من حكم الله ورسوله وقد يكون التطبيق ظاهرا وقد يحتاج فيه إلى قياس واستنباط وإجهاد للفكر، فهذا النوع من العدل معروف عند الناس وإنما يذكر لتنبيه الناس وتذكيرهم.
والركن الثاني للعدل ( هكذا عبر تارة بالنوع وتارة بالركن ) يتألف من أمرين أحدهما : فهم الدعوى من المدعي والجواب من المدعى عليه ليعرف موضوع ما به التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين، ثانيهما : استقامة الحاكم وخلوه من الميل إلى أحد الخصمين ومن الهوى بأن يكره أحد الخصمين وإن كان لا يميل إلى الآخر، وهذا المعنى معروف للناس أيضا فكل من ركني العدل معروف. ولذلك ذكر الله العدل ولم يفسره لأنه معروف بنفسه كالنور.
ولك وقد فهمت ما قلناه أن تقول : العدل عبارة عن إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه ولا يتحقق ذلك إلا بإقامة الركنين اللذين بيناهما فكل ما خرج عنهما فهو ظلم. فإذا أخر القاضي النظر في القضية اتباعا لرسوم وعادات لا يتوقف عليها إقامة العدل أو لم يقبل الشهادة لأنها لم تؤد بألفاظ مخصوصة وإن تبين بها الحق المراد أو أخر الحكم بعد انتهاء المحاكمة واستيفاء أسبابها، هل يكون مقيما للعدل ؟ ( قال الأستاذ هذا في الدرس فضج الحاضرون بقول لا لا ) إذا علمنا هذا وتأملنا في الأحكام التي تجري عندنا اليوم فهل نراها جارية على أصول العدل ( قالوا لا لا ).
نجد محاكمنا الشرعية تشترط في توجيه الدعوى وفي شهادة الشهود شروطا وألفاظا معينة كلفظ أشهد ولفظ هذا والمذكور وتبيين النقد وذكر البلد الذي ضرب فيه وإن كان ذلك مفهوما من الكلام لا يختلف في فهمه القاضي ولا الخصم، فهذه الاصطلاحات كثيرا ما تحول دون العدل، ترد الدعوى من أصلها، أو الشهادة لعدم موافقتها للألفاظ المصطلح عليها وإن أدت معناها، وكذلك كل ما يحول بين الناس وفهم الشريعة يكون من أسباب إضاعة العدل ولا عذر للناس بالجهل إذ يجب عليهم فهم الشريعة وإزالة كل ما يحول دون فهمها من الاصطلاحات. ولو كنا نقيم العدل لما كنا في هذه الحالة من الضعف وسوء الحال.
ثم قال الأستاذ في درس آخر أنه اطلع بعد الدرس الأول ( الذي لخصناه بما رأيت ) على كتاب السياسية الشرعية لابن تيمية فإذا هو كله مبني على هذه الآية، فإنه توسع في ذكر أنواع الأمانة التي أودعها الله في أيدي الحكام، ومنها أن لا يولوا الأمور إلا خيار الناس الصالحين لها وأورد في ذلك أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور ( أي برواية البخاري له ) " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة " ١ أي ساعة قيامة الأمة وهلاكها لأن لكل أمة ساعة أي وقتا تهلك فيه أو يذهب استقلالها.
أقول إن معنى الآية لم يتجلَّ تمام التجلي فيما ذكرناه فلا بد من زيادة البيان، ونفصله في مسائل :
( المسألة الأولى في معنى الأمانة ) الأمانة ما يؤمن عليه الإنسان من الأمن وهو طمأنينة النفس وعدم الخوف، يقال أمنته ( كسمعته ) على الشيء ﴿ هل آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه ﴾ [ يوسف : ٦٤ ] ويقال أمنه بكذا ﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] ويقال ائتمن فلانا أي عده أو اتخذه أمينا وائتمنه على الشيء كأمنه ع
١ أخرجه البخاري في العلم باب٢..
﴿ *إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا٥٨ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا٥٩ ﴾.
هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما وقد ذكروا لنزولهما أسبابا وصرحوا بأن السبب الخاص لا يخصص عموم الخطاب.
أمر الله تعالى بردّ الأمانات إلى أهلها وبالحكم بين الناس بالعدل مخاطبا بذلك جمهور الأمة، ولما كان يدخل في رد الأمانات توسيد الأمة أمر الأحكام إلى أهلها القادرين على القيام بأعبائها، وكان يجب في الحكم بالعدل مراعاة ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وما يتجدد للأمة من الأحكام، وكانت المصلحة في ذلك لا تحصل إلا بالطاعة قال عز وجل :﴿ ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ وقال الأستاذ الإمام في مناسبة الاتصال : إن هذه الآية وما قبلها وردتا في مقابلة قول الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أن الكافرين أهدى من المؤمنين، بعد ما بين تعالى أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، ومن الطاغوت عند المشركين الأصنام والكهان فكانوا يحكمون الكاهن ويجعلونه شارعا ويقتسمون عند الصنم ويعدون ذلك فصلا في الخصومة، وقد اتخذ اليهود الجبت والطاغوت مثلهم وطواغيتهم ورؤسائهم الذين يحكمون فيهم بأهوائهم فيتبعونهم ككعب بن الأشرف مع أن عندهم التوراة فيها حكم الله، ولكنهم كانوا يقولون إن هؤلاء الرؤساء أعلم منا بالتوراة وبمصلحتنا. فالله تعالى قد بين لنا حالهم وقرنه ببيان ما يجب أن نسير عليه في الشريعة والأحكام حتى لا نضل كما ضل المشركون وأهل الكتاب الذين اتخذوا أفرادا منهم أربابا إذ جعلوا شارعين فكانوا سبب طغيانهم ولذلك سموا طواغيت.
( ثم قال ) : أمر بطاعة الله وهي العمل بكتابه العزيز وبطاعة الرسول لأنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وقد أعاد لفظ الطاعة لتأكيد طاعة الرسول، لأن دين الإسلام دين توحيد محض لا يجعل لغير الله أمرا ولا نهيا ولا تشريعا ولا تأثيرا، فكان ربما يستغرب في كتابه الأمر بطاعة غير وحي الله، ولكن قضت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه للناس رسل منهم وتكفل بعصمتهم في التبليغ ولذلك وجب أن يطاعوا فيما يبينون به الدين والشرع. مثال ذلك عن الله تعالى هو الذي شرع لنا عبادة الصلاة وأمرنا بها ولكنه لم يبين لنا في الكتاب كيفيتها وعدد ركعاتها ولا ركوعها وسجودها ولا تحديد أوقاتها فبينها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأمره تعالى إياه بذلك في مثل قوله :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ [ النحل : ٤٤ ] فهذا البيان بإرشاد من الله تعالى فاتباعه لا ينافي التوحيد ولا كون الشارع هو الله تعالى وحده.
قال : وأمرنا أولوا الأمر فقد اختلف فيهم فقال بعضهم هم الأمراء واشترطوا فيهم أن لا يأمروا بمحرم كما قال مفسرنا ( الجلال ) وغيره والآية مطلقة ( أي وإنما أخذوا هذا القيد من نصوص أخرى كحديث ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ١ وحديث ( إنما الطاعة في المعروف ) ٢ وبعضهم أطلق في الحكام فأوجبوا طاعة كل حاكم وغفلوا عن قوله تعالى ﴿ منكم ﴾ وقال بعضهم إنهم العلماء ولكن العلماء يختلفون فمن يطاع في المسائل الخلافية ومن يعصى ؟ وحجة هؤلاء أن العلماء هم الذين يمكنهم أن يستنبطوا الأحكام غير المنصوصة من الأحكام المنصوصة. وقالت الشيعة إنهم الأئمة المعصومون، وهذا مردود إذ لا دليل على العصمة ولو أريد ذلك لصرحت به الآية. ومعنى أولي الأمر الذين يناط بهم النظر في أمر إصلاح الناس أو مصالح الناس، وهؤلاء يختلفون أيضا فكيف يؤمر بطاعتهم بدون شرط ولا قيد ؟.
قال رحمه الله تعالى إنه فكر في هذه المسألة من زمن بعيد فانتهى به الفكر إلى أن المراد بأولي الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا منا، وأن لا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة وهو ما لأولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه. وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد بل هو مما يؤخذ عن الله ورسوله فقط ليس لأحد رأي فيه إلا ما يكون في فهمه.
فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع مختارين في ذلك غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة ويصح أن يقال هم معصومون في هذا الإجماع ولذلك أطلق الأمر بطاعتهم بلا شرط مع اعتبار الوصل والاتباع المفهوم من الآية. وذلك كالديوان الذين أنشاه عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة ( رضي الله عنه ) وغيره من المصالح التي أحدثها برأي أولي الأمر من الصحابة ولم تكن في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يعترض أحد من علمائهم على ذلك.
قال : فأمر الله في كتابه وسنة رسوله الثابتة القطعية التي جرى عليها ( صلى الله عليه وسلم ) بالعمل هما الأصل الذي لا يرد وما لا يوجد فيه نص عنهما ينظر فيه أولوا الأمر إذا كان من المصالح لأنهم هم الذين يثق بهم الناس فيها ويتبعونهم فيجب أن يتشاوروا في تقرير ما ينبغي العمل به فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه، وإن اختلفوا وتنازعوا فقد بين الواجب فيما تنازعوا بقوله :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ وذلك بأن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله وما فيهما من القواعد العامة والسيرة المطردة فما كان موافقا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به وما كان منافرا علم أنه غير صالح ووجب تركه وبذلك يزول التنازع وتجتمع الكلمة، وهذا الرد واستنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس والأول هو الإجماع الذي يعتد به، وقد اشترطوا في القياس شروطا بالنظر إلى العلة، والغرض من هذا الرد أن لا يقع خلاف في الدين والشرع لأنه لا خلاف ولا اختلاف في أحكامهما. كذا قال الأستاذ والمراد أن لا يفضي التنازع إلى اختلاف التفرق الذي يلبس المسلمين شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وسيأتي بيان ذلك مفصلا ولكنهم لم يعملوا بالآية فتفرقوا واختلفوا.
ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أن ما اهتدى إليه في تفسير أولي الأمر من كونهم جماعة أهل الحل والعقد لم يكن يظن أن أحدا من المفسرين سبقه إليه حتى رآه في تفسير النيسابوري، وأقول إن النيسابوري قد لخص في المسألة ما قاله الفخر الرازي بل جميع تفسيره تلخيص لتفسير الرازي مع زيادات قليلة، وإنما خصه الأستاذ بالذكر لأن ظاهر عبارة الرازي تشعر بأن أولي الأمر هم أهل الإجماع المصطلح عليه في أصول الفقه وهم المجتهدون في الأحكام الظنية الفقهية وإن عبر عنه تارة بإجماع الأمة وتارة بإجماع أهل الحل والعقد كأنه رأى أنه يسمي أهل الإجماع أهل الحل والعقد لقوله إن العلماء هم أمراء الأمراء، أي يجب أن يكونوا كذلك ولكنهم ليسوا كذلك بالفعل. وأما النيسابوري فعبارته هي التي تؤدي المعنى الذي قاله الأستاذ فإنه قال بعد إبطال الأقوال المشهورة في تفسير أولي الأمر :" وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء فالمراد بقوله وأولي الأمر ما اجتمعت الأمة عليه " اه. فقوله أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء هو بمعنى قول الأستاذ الذي أدخل فيه أمراء الجند ورؤساء المصالح وهذا هو المعقول لأن مجموع هؤلاء هم الذين تثق بهم الأمة وتحفظ مصالحها، وباتفاقهم يؤمن عليها من التفرق والشقاق ولهذا أمر الله بطاعتهم لا لأنهم معصومون من الخطأ فيما يقررونه.
وقد رأينا أن ننقل بعض ما قاله الرازي لتصريحه فيه بما يسمونه اليوم في عرف أهل السياسة بسلطة الأمة وتفنيده قول من قال إن المراد بأولي الأمر الأمراء والسلاطين وهو ما يتزلف به المتزلفون إليهم حتى أنهم كانوا يتلون هذه الآية على مسامع السلطان عبد الحميد في كل صلاة جمعة على أنا قد صرحنا بهذه الحقائق في المنار وفي التفسير من قبل.
قال الرازي بعد تقرير كون الجزم بطاعة أولي الأمر يقتضي عصمتهم فيما يطاعون فيه ما نصه :﴿ ثم نقول ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا وإيجاب طاعتهم مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة إننا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ( أقول ومثله المجتهدون في الفقه ) عاجزون عن الوصول إليهم ( كذا ) عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم. وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المسلمين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ولا طائفة من طوائفهم، ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله { وأولي الأمر ﴾ أهل الحل والعقد من الأمة وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة ".
ثم ذكر أن الأقوال المأثورة عن علماء التفسير في أولي الأمر أربعة :
١ الخلفاء الراشدون.
٢ أمراء السرايا أقول وهم قواد العسكر عند عدم خروج الإمام فيه أي في العسكر.
٣ علماء الدين الذين يفتون ويعلمون الناس دينهم.
٤ الأئمة المعصومون وعزاه إلى الرافضة.
ثم أورد على التفسير الذي اختاره إيرادين أو سؤالين أحدهما : لما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك بإجماع الأمة باطلا ؟ السؤال الثاني : أن نقول حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولى مما ذكرتم ويدل عليه وجوه الأول : إن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق فهم في الحقيقة أولوا الأمر أما أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى والثاني : أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه : أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل وأما آخر الآية فهو أنه أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الإجماع. الثالث : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالغ بالترغيب في طاعة الأمراء فقال ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ) ٣ فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال ". قال : والجواب أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ على العلماء فإذا قلنا المراد منه جميع العلماء من أهل الحل والعقد لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة بل كان هذا اختيارا لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة فاندفع السؤال الأول.
وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة والذي ذكرناه برهان قاطع فكان قولنا أولى، على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها فأحدها : أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما تجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب، وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة وعن طاعة الله وطاعة رسوله بل يكون داخلا فيه، كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول. أما إذا حملناه على الإجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها لأنه
١ روي الحديث عند مسلم وأصحاب السنن بلفظ:"لا طاعة في معصية الله". أرجه مسلم في الإمارة حديث٣٩، وأبو داود في الجهاد باب٨٧، والنسائي في البيعة، باب ٣٤، وابن ماجه في الجهاد باب٤٠، وأحمد في المسند١/١٣١، ١٢٩، ٤/٤٣٦، ٤٢٧، ٤٢٦، ٥/٧٠، ٦٧، ٦٦..
٢ أخرجه البخاري في الأحكام باب٤، والآحاد باب١، والمغازي باب٥٩، ومسلم في الإمارة حديث ٤٠، ٣٩، وأبو داود في الجهاد باب٨٧، والنسائي في البيعة باب٣٤، وأحمد في المسند١/١٢٤، ٩٤، ٨٢..
٣ أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٠٩، والاعتصام باب٢، والأحكام باب١، ومسلم في الإمارة حديث ٣٣، ٣٢، والنسائي في البيعة باب٢٧، وابن ماجة في المقدمة باب١، والجهاد باب ٣٩، واحمد في المسند ٢/٥١١، ٤٧١، ٤١٦، ٣٨٢، ٣٤٢، ٣١٣، ٢٧٠، ٢٥٢، ٢٤٤، ٩٣..
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالا بعيدا٦٠ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا٦١ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا٦٢ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا٦٣ ﴾.
قال السيوطي في لباب النقول أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا ﴾ إلى قوله ﴿ إلا إحسانا وتوفيقا ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير ورافع بن زيد وبشر يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فأنزل الله فيهم ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون ﴾ الآية. وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم فاختلفا واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فنزلت اه.
الأستاذ الإمام : الكلام متصل بما قبله فإنه تعالى ذكر أن اليهود يؤمنون بالجبت والطاغوت الخ وذكر من سوء لحالهم ووعيدهم ما ذكر ثم أمر المؤمنين بعد ذلك بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، لأن أولئك قد خانوا بجعلهم الكافرين أهدى سبيلا من المؤمنين، وأمرهم بطاعة الله ورسوله في كل شيء وطاعة أولي الأمر فيما يجمعون عليه مختارين لا مسيطر عليهم فيه وبرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسله في مقابلة طاعة أولئك للطاغوت وإيمانهم به وبالجبت واتباعهم للهوى. وبعد هذا بين لنا حال طائفة أخرى بين الطائفتين وهم المنافقون الذين يزعمون أنهم آمنوا، ومن مقتضى الإيمان امتثال ما أمر به المؤمنون في الآيتين السابقتين، ولكنهم مع هذه الدعوى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الذي عليه تلك الطائفة فقال :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾ وقد ذكر المفسرون أسبابا متعددة لنزول هذه الآية يمنعنا اختلافها وتشتت رواياتها أن نجزم بواحدة معينة منها وإنما نسترشد بمجموعها إلى معرفة حال من أعرضوا عن حكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).
وقد تقدم أن " الطاغوت " مصدر الطغيان وهو يصدق على كل من جاءت الروايات في سبب نزول الآية بالتحاكم إليهم ( كما قرأت آنفا ) ومن قصد التحاكم إلى أي حاكم يريد أن يحكم له بالباطل ويهرب إليه من الحق فهو مؤمن بالطاغوت ولا كذلك الذي يتحاكم إلى من يظن أنه يحكم بالحق، وكل من يتحاكم إليه من دون الله ورسوله ممن يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله فهو راغب عن الحق إلى الباطل وذلك عين الطاغوت الذي هو بمعنى الطغيان الكثير، ويدخل في هذا مع ما يقع كثيرا من تحاكم الخصمين إلى الدجالين كالعرافين وأصحاب المندل والرمل ومدعي الكشف ويخرج المحكم في الصلح وكل ما أذن به الشرع مما هو معروف.
أقول والاستفهام في قوله تعالى ﴿ ألم تر ﴾ استفهام تعجيب من أمر الذين يزعمون أنهم آمنوا ويأتون بما ينافي في الإيمان كما تقدم بيانه في تفسير ﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ [ آل عمران : ٢٣ ] وأحوال الأمم تكون متشابهة لأنها مظهر أطوار البشر فالإيمان الصحيح بكتب الله ورسله يقتضي الاتباع والعمل بما شرعه الله تعالى على ألسنة تلك الرسل، وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ في نفس مدعيه فكيف إذا كان العمل بضد ما شرعه الله تعالى ؟ هكذا كان يدعي الإيمان بموسى والتوراة جميع اليهود حتى أولئك الذين يشترون الضلالة بالهدى ويأكلون السحت ويؤمنون بالجبت والطاغوت، وهكذا كان في مسلمي العصر الأول من يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم مع ذلك يرغبون عن التحاكم إليه إلى التحاكم إلى الطاغوت، وهكذا شأن الناس في كل زمان لا يكونون كلهم عدولا صادقين في ملة من الملل، ولا يكونون كلهم منافقين أو فاسقين في ملة من الملل، ومن العجائب أن يقال إن كل المسلمين الذين رأوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا عدولا والقرآن يصف بعضهم بمثل ما في هذه الآية ويسجل على بعضهم النفاق.
والزعم في أصل اللغة القول والدعوى سواء كان ذلك حقا أم باطلا. قال أمية بن أبي الصلت في شعر له.
سينجزكم ربكم ما زعم١
يريد ما وعد وأرى أن القافية اضطرته إلى استعمال هذا الحرف هنا وما هو بمكين ووعده تعالى لا يكون إلا حقا. وقال الليث سمعت أهل العربية يقولون إذا قيل ذكر فلان كذا وكذا فإنما يقال ذلك لأمر يستيقن أنه حق وإذا شك فيه فلم يدره لعله كذب أو باطل قيل زعم فلان كذا. وقيل الزعم الظن وقيل الكذب، وكل هذا مأخوذ من اختلاف الاستعمال بنظر القائل إلى بعض كلام العرب دون بعض، والذي ينظر في مجموع استعمالاتها لهذه الكلمة يجزم بأن الأكثر أن تستعمل فيما لا يجزم به وإن جاز أن يكون حقا. وقال الراغب الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلين به، وأشار إلى بعض الآيات في ذلك ونحن نزيد عليه في بيانها. قال تعالى :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ﴾ [ التغابن : ٧ ] وقال ﴿ وما نرى معكم شفعاؤكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ] وقال ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ﴾ [ الإسراء : ٥٦ ] وقال ﴿ بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] وفي هذه السورة أيضا ﴿ ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم ﴾ [ الكهف : ٥٢ ] وبقي آيات أخرى مستعملة هذا الاستعمال فلغة القرآن أن الزعم يستعمل في الباطل والكذب وهو يرد على الزاعمين ولا يقرهم على شيء.
﴿ وقد أمروا أن يكفروا به ﴾ أي يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به في التنزيل الذي يزعمون أنهم آمنوا به. فهذا التنزيل قد بين ذلك بنص الخطاب أو فحواه قال تعالى في سورة النحل وهي مكية :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ] الآية وهي نص في أن كل نبي أرسله الله تعالى قد أمر أتباعه باجتناب الطاغوت. وقال تعالى :﴿ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] الخ الآيتين. والمعنى أن هؤلاء الزاعمين تدعي ألسنتهم الإيمان بالله وبما أنزله على رسله وتدل أفعالهم على كفرهم بالله وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم لحكمه.
﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ قال الأستاذ الإمام أي إن الشيطان الذي هو داعية الباطل والشر في نفس الإنسان يريد أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة فيكون ضلالهم عنه مستمرا لأنهم لشدة بعدهم عنه لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه. قيل له فما تقول في هذه المحاكم الأهلية والقوانين ؟ قال تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن هداية قوله تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ فإذا كنا قد تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء فلان وكلها آراء الرجال من قبل أن نبتلى بهذه القوانين ومنفذيها فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ومنها المخالف له ؟ ونحن الآن مكرهون إلى التحاكم إلى هذه القوانين فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه أي في أهله ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ الآية.
وانظر إلى ما هو موكول إلينا إلى الآن كالأحكام الشخصية والعبادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد والأزواج والزوجات، فهل نرجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله ؟ إذا تنازع عالمان منا في مسألة فهل يردانها إلى الله ورسوله أم يردانها إلى قيل وقال، فهذا يقول قال الجمل وهذا يقول قال الصاوي وفلان وفلان اه ما كتبته عنه في الدرس وكتبت في آخره يومئذ " يحرر الموضوع " ومراده ظاهر، فإنه يقول : إنه لا قول لأحد في قضية أو مسألة مع وجود نص فيها مما أنزله الله تعالى على رسوله أو ما قضى به ( صلى الله عليه وسلم ) بإذن الله عز وجل، والمسلمون قد تركوا ما جرى عليه السلف من النظر في كل قضية في كتاب الله أولا ثم في سنة رسوله وفي رد المتنازع فيه إليهما، بل عملوا بآراء الناس الذين ينتمون إليهم ويسمونهم علماء مذاهبهم، وإن وجد نص الكتاب أو السنة مخالفا له، ويحرمون الرجوع إلى هذه النصوص، لأن ذلك من الاجتهاد الممنوع عندهم الذي يعد المتصدي له ضالا مضلا في نظرهم.
وقد ترتب على هذا الذنب الذي هو اجتناب تقديم الكتاب والسنة على كل قول ورأي أن سلس المسلمون لحكامهم في مثل مصر، حتى انتقلوا بهم من الحكم بقول فلان وفلان من الذين يسمونهم أهل الفقه ويأخذون بما في كتبهم ابتداء وافق نصوص الكتاب والسنة أم خالفها إلى الحكم بقول فلان وفلان من واضعي القوانين، ولم يكن المتحاكمون إلى رجال القانون أسوأ حالا من المتحاكمين إلى أقوال الفقهاء، وهم الآن أقدر على تحكيم الكتاب والسنة في عباداتهم ومعاملاتهم فيما بينهم وفي محاكمهم الشرعية منهم على تحكيمها في المعاملات المدنية والعقوبات لأنهم في هذا تحت سيطرة الأجانب الأقوياء، وأما في ذاك فليسوا تحت سيطرة أجنبية، فإذا أراد علماؤهم وأهل الرأي والمكانة فيهم ذلك نفذ ولكنهم لا يريدون.
والذين يضعون هذه القوانين المصرية يوافقون في أكثرها الشرع ويبنون رأيهم على المصلحة العامة بحسب ما يصل إليه علمهم ولكنهم لا يلصقون رأيهم بالشرع كالفقهاء، ومراعاة المصلحة من مقاصد الشرع في المنصوص وفي الموكل إلى الرأي والناس يقبلون آراء المنسوبين إلى الفقه ولو فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة، لأنهم يلصقونها بالشرع من حيث يدعون أنها اجتهاد صحيح مبني على أصوله ولكن لا اجتهاد مع النص، وربما كان العامل بالرأي لا يسميه دينا أقل جناية على الشرع ممن يعمل بالرأي يسميه دينا ولا سيما مع وجود النص.
وجملة القول إنه ما كان للمسلمين أن يقبلوا قول أحد أو يعملوا برأيه في شيء له حكم في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة، إلا فيما رخص الله تعالى فيه من أحكام الضرورات والحاجات وما لا حكم له فيهما، فالعمل فيه برأي أولي الأمر في كل زمن بشرطه أولى من العمل دائما برأي بعض المؤلفين لكتب الفقه في القرون الخالية لأنه أقرب إلى المصلحة. هذا هو ما كان يريده رحمه الله تعالى في العبارة التي قالها في درسه بالأزهر وما كان يعتقده. نعم إن من يضعون الأحكام لما لا نص فيه يشترط في الإسلام أن يكونوا عالمين بالنصوص ومقاصد الشريعة وعللها حتى لا يخالفوها وليتيسر لهم رد المتنازع فيها إليها، والأستاذ يقول بهذا أيضا.
١ صدره: "وإني أذين لكم أنه"
والبيت من المتقارب، وهو لأمية في ديوانه ص٥٦، ولسان العرب(زعم)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٢/١٥٦، وتاج العروس(زعم)..

﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا ﴾ صرح في هذه الآية بما دلت عليه التي قبلها من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم كتاب الله وحكم رسوله إلى حكم الطاغوت من أصحاب الأهواء وناهيك بمن فعل ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمه لا يكون إلا حقا ما بينت الدعوى على حقيقتها لأن الحكم بحسب الظاهر، وأما حكم غيره بشريعته فقد يقع فيه الخطأ بجهل القاضي بالحكم أو بتطبيقه على الدعوى. يقول تعالى وإذا قيل لأولئك الذين يزعمون أنهم آمنوا وهم يريدون التحاكم إلى الطاغوت : تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن لنعمل به ونحكمه فيما بيننا وإلى الرسول ليحكم بيننا بما أراه الله رأيت المنافقين أي رأيتهم وهم المنافقون جاء بالظاهر بدل الضمير ليبين حالهم وحال أمثالهم بالنص ويبني عليه ما بعده وهو أثره يصدون عنك صدودا أي يعرضون عنك ويرغبون عن حكمك إعراضا متعمدا منهم. وهو هنا من " صد " اللازم. والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدا ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به فإنه يكون منافقا لا يعتد بما يزعمه من الإيمان وما يدعيه من الإسلام، وهي حجة الله البالغة على المقلدين لبعض الناس فيما استبان حكمه في الكتاب والسنة ولا سيما إذا دعوا إليه ووعظوا به. قال الأستاذ الإمام : إن الحامل لهم على هذا الصدود هو اتباع شهواتهم وإلفتهم للباطل، وعدو الحق يعرض عنه إعراضا شديدا.
قال : ثم أراد تعالى أن يبين سخافتهم وجهلهم وعدم طاقتهم بالثبات على هذا الصدود فقال :﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ﴾ الخ أي لو عقلوا لالتزموا ما أظهروا قبوله من الإسلام وعملوا بمقتضى ما ادعوه من الإيمان ليتم لهم الاستفادة منه لأن العاقل يعلم أن تلك الحال التي اختاروا فيها التحاكم إلى الطاغوت لا تدوم لهم، وأنه يوشك أن ينتقلوا منها فيقعوا في مصاب يضطرهم إلى الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكشفه عنهم، وأن يعتذروا عن صدودهم بأنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا وتوفيقا، كأنه يقول : فكيف يفعلون إذا أطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله والتحاكم إليه وتبين أن عملهم يكذب دعواهم الإيمان ؟ إنهم إذا يستحقون العقوبة والإذلال ليكونوا عبرة لغيرهم. وذهب أبو مسلم إلى أن في الآية بشارة بأن المنافقين سيقعون في مصيبة تفضح أمرهم، وتكشف سرهم، وهل يتوبون حينئذ ويجيئونك أم لا، ويقول غيره ليس المراد بذلك البشارة بشيء سيقع، وإنما هو بيان ناجز لأمرهم، وإيذان بمؤاخذتهم وإذلالهم، وإراءتهم أنهم سفهاء الأحلام، مستحقون لما يعاتبهم به النبي عليه السلام.
أقول : أشار الأستاذ رحمه الله تعالى في الدرس إلى اختلاف المفسرين في الآية وإنما تناقلوا الخلاف فيها لأنه روي عن بعض السلف فيها فهم شاذ فتبعه بعضهم فيه، وهو قول الحسن أن قوله تعالى :﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ﴾ جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها والمعنى : رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ثم جاءك يحلفون بالله الخ أي إذا دعوا إلى ما أنزل الله وإليك يصدون عنك في غيبتك، ثم يجيئونك يعتذرون ويحلفون في حضرتك، فكيف إذا أصابتهم مصيبة أي كيف يكون حال تلك المصيبة والشدة. وقال الرازي أن الواحدي قد اختار هذه الرواية، وأقول لا عجب إذا اختارها، وإن كان النظم الكريم يتبرأ منها، وقد خطرت في بال من هو أحسن منه فهما للكلام، وهل عثر متقدم عثرة ولم يعثر وراءه فيها كثير من المتأخرين لو تكلفا للعثار ؟ ثم إن بعضهم حمل الكلام هنا على معنى الآيات الواردة في المنافقين عامة، وخلط بين الآيات الواردة في الوعد ببيان نفاقهم، وإغراء النبي صلى الله عليه وسلم بعقابهم، وفي الذين يتخلفون منهم عن الخروج معه صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد ثم يعتذرون إليه بعد ذلك كما هو مفصل في سورة التوبة وسورة الأحزاب، وكل ذلك من التوسع الذي يضيع معه المعنى المتبادر من الآية وهو :
فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين أو حالهم وحال أمثالهم، أو كيف يكون الشأن في أمرهم إذا أصابتهم مصيبة بسبب ما قدمت أيديهم أي ما عملوا من السيئات بباعث النفاق الظاهر، والخبث الباطن، فإن الأعمال السيئة تترتب عليها آثار سيئة، وتكون لها عواقب ضارة لا يمكن كتمانها، ولا يستغني صاحبها عن الاستعانة فيها بقومه وأولياء أمره، فالآية تنذر جميع المنافقين الذين يستخفون من الناس بأعمال النفاق مبينة أن هذه الأعمال لابد أن يترتب عليها بعض المصائب التي تفضح أمرهم، وتضطرهم إلى الرجوع إلى النبي والاعتذار له، والحلف على ذلك ليصدقه، فإنهم يشعرون بأنهم متهمون بالكذب. أو كيف تعاملهم في هذه الشدة أيها الرسول بعد علمك بما كان من صدودهم عنك، في وقت الاستغناء عنك، هل تعطف عليهم وتقبل قولهم إذا أصابتهم المصيبة التي يستحقونها بارتكاب أسبابها.
﴿ ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ﴾ أي يخادعونك بالحلف بالله إنهم ما أرادوا بما عملوا من الصدود أو من الأعمال المنكرة والمعاصي التي ترتبت عليها المصيبة إلا إحسانا في المعاملة وتوفيقا بينهم وبين خصمهم بالصلح أو الجمع بين منفعة الخصمين، وقالوا نحن نعلم أنك لا تحكم إلا بمرّ الحق لا تراعي فيه أحدا، فلم نر ضررا في استمالة خصومنا بقبول حكم طواغيتهم والتوفيق بين منفعتنا ومنفعتهم.
سأل العليم الحكيم كيف تكون المعاملة في هذه الحال تمهيدا لبيان ما يجب العمل به وهو قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ من الكفر والحقد والكيد وتربص الدوائر بالمؤمنين ليظهروا عداوتهم. قال الأستاذ الإمام : والعبارة تدل على تعظيم الأمر أي فظاعته وكبره ولا يزال مثلها مستعملا فيما يعظم شأنه من خير وشر ومسرة وحزن، يقول الرجل لمن يحبه ويحفظ وده : الله يعلم ما في نفسي لك، أي ويقول في العدو الماكر المخادع الله يعلم ما في قلبه. والمعنى أن ما في قلوب هؤلاء المنافقين كبير جدا لا يعرفه كما هو إلا الله تعالى ﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي اصرف وجهك عنهم ولا تقبل عليهم بالبشاشة والتكريم ﴿ وعظهم ﴾ ببيان سوء حالهم لهم إذا هم أصروا على ما هم عليه ﴿ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ يبلغ من نفوسهم الأثر الذي تريد أن تحدثه فيها.
أقول : أما الإعراض عنهم فهو يحدث في نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة فإنهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم ولا جازمين بما في نفوسهم من تكذيب الوحي ولذلك كانوا يحذرون أن تنزل سورة تنبئهم بما في قلوبهم، ويحسبون كل صيحة عليهم، فإذا رأوا من النبي صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم وعدم الالتفات إلى أعذارهم المؤكدة بأيمانهم الكاذبة على خلاف عادته مع أصحابه من الإقبال عليهم والبشاشة في وجوههم فإنهم يظنون الظنون : لعله عرف ما نسر في نفوسنا، لعل سورة نزلت نبأته بما في قلوبنا، لعله يريد أن يؤاخذنا بما في بواطننا. وهذه الظنون تعدهم للتأمل فيما يلقي عليهم من الوعظ وهو كما تقدم في تفسير الجزء الثاني النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل.
وأما الأمر الثالث وهو :﴿ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ فقيل معنى قوله :﴿ في أنفسهم ﴾ في شأن أنفسهم كأن يذكر لهم من شأن أنفسهم في عقائدها وما تنطوي عليه سرائرها وما يترتب على تلك العقائد والسرائر، من الأعمال الدالة على أن الظاهر مرآة الباطن، ويبين لهم أن هذه الذبذبة لم تكن خيرا لهم فيما يهمهم من أمر دنياهم، لأنهم صاروا بها في اضطراب دائم، وهم ملازمون، وهي شر لهم في آخرتهم، وقيل في أنفسهم معناه في السر دون الملأ لأن الكلام في السر يبلغ من النفس ما لا يبلغه الكلام على مسمع من الناس، فإن من تحدثه خاليا لا يشغله عن معنى حديثك ما يشغل غيره من ذهاب نفسه وراء تأثير حديثك في نفوس الناس الذين سمعوه : هل يحتقرونه به، هل يحدثون به غيرهم، ماذا ينبغي أن يفعل وأن يقول إذا قيل له فيه أو احتقر لأجله. قيل : المعنى : قولا بليغا في أنفسهم أي يغوصوا فيها ويبلغوا غاية ما يراد به منها، وهو الذي أشار إليه الأستاذ الإمام : وفيه تقديم الصفة على الموصوف وهو جائز عند الكوفيين، وكثيرا ما يرجح الأستاذ الإمام مذهبهم ولا سيما في الجواز واستعمال اللغة، والبصريون لا يجيزونه إلا حيث يجوز تقديم العامل وتوسع بعضهم في الظروف. وقيل إن المراد بالقول البليغ : أن يكون الوعظ بكلام بليغ وقيل هو أمر ثالث فالوعظ النصح المتعلق بأمر الآخرة والقول البليغ ما يكون في أمر الدنيا ومعاملتهم فيها. وذكر بعضهم أن من بلاغة الكلام طوله وهو قول مردود.
وفي الآية شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة على الكلام البليغ وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه، لأن الكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين وهي شهادة له بالحكمة ووضع الكلام في موضعه وهذا بمعنى إيتاء الله تعالى نبيه داود الحكمة وفصل الخطاب وما أوتي نبي فضيلة إلا وأوتي مثلها خاتم النبيين ( صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين ) وشهادة الله تعالى له في هذا المقام أكبر شهادة وإنما آتاه الله تعالى هاتين المزيتين على وجه الكمال بالنبوة والقرآن ولم يكن قبل النبوة مشهورا بين قومه بالفصاحة والبلاغة، وإن كان فصيحا بليغا، لأن الله تعالى صرفه عن مظهر فصاحتهم وبلاغتهم وهو الشعر والخطابة والمماتنة ( المغالبة ) في الأسواق والمجامع. وإنما صرفه الله تعالى عن ذلك لتكون حجته في إعجاز القرآن بالبلاغة أظهر وأبعد عن الشبهة فلا يقولن قائل إنه تمرن على الكلام البليغ وزاوله الزمن الطويل حتى ارتقى فيه إلى هذه القمة العليا التي لا يطاول فيها. هذه هي حجتنا المؤيدة بسيرته الشريفة. على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن معدودا قبل النبوة في بلغاء القوم بالشعر ولا الخطابة ولم يكن يحفل بمفاخراتهم ومماتناتهم فيها وإنما كان مشهورا بالأمانة والفضيلة والصدق. وأما دليلنا على أن الحكمة العليا كالبلاغة العليا قد كمله الله تعالى بها بالنبوة أيضا فنصوص القرآن، وسيأتي منها في هذه السورة قوله تعالى :﴿ وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾ [ النساء : ١١٢ ].
قال القاضي عياض في الشفاء :" وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله، من تأمل حديثه وسبره، علم ذلك وتحققه، وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المعشار الهمذاني وطهفة النهدي وقطن بن حارثة العليمي والأشعث بن قيس ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من أقيال حضر موت وملوك اليمن " ثم أورد الشواهد على ذلك.
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما٦٤ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما٦٥ ﴾.
الكلام متصل بما قبله متمم لسياق وجوب طاعة الله ورسوله والتشنيع على من يرغب عن التحاكم إلى الرسول، ويؤثر عليه التحاكم إلى الطاغوت، وقال الأستاذ الإمام بعدما بين تعالى ما ينبغي للرسول مع أولئك المنافقين قال :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ فهذا كالدليل على استحقاق أولئك المنافقين للمقت لأنهم لم يرضوا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول إننا أرسلنا هذا الرسول على حكمنا وسنتنا في الرسل قبله إننا لا نرسلهم إلا ليطاعوا بإذن الله تعالى، فمن صد عنهم وخرج عن طاعتهم أو رغب عن حكمهم كان خارجا عن حكمنا وسنتنا فيهم مرتكبا أكبر الآثام في ذلك. وقوله :﴿ بإذن الله ﴾ للاحتراس لأن الطاعة في الحقيقة لله تعالى فهذا القيد من قيود القرآن المحكمة الذاهبة بظنون أن الرسول يطاع لذاته بلا شرط ولا قيد فهو عز وجل يقول إن الطاعة الذاتية ليست إلا لله تعالى رب الناس وخالقهم وقد أمر أن تطاع فطاعتهم واجبة بإذنه وإيجابه.
أقول : قوله تعالى :﴿ من رسول ﴾ أبلغ في استغراق النفي من أن يقال :( وما أرسلنا رسولا ) فكل رسول تجب طاعته، وإيجاب طاعة الرسل تشعر بأن الرسول أخص من النبي فالرسول لابد أن يكن مقيما لشريعة.
وفسر بعضهم الإذن بالإرادة وبعضهم بالأمر وبعضهم بالتوفيق والإعانة، وهو مما تجادل فيه الأشعرية والمعتزلة ولا مجال فيه للجدال، قال الراغب : الإذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه نحو :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ أي بإرادته وأمره اه، وقوله بإرادته وأمره تفسير باللازم وإلا فالإذن في اللغة كالأذان والإيذان لما يعلم بإدراك حاسة الأذنين أي بالسمع فقوله ليطاع بإذن الله معناه بإعلامه الذي نطق به وحيه وطرق آذانكم، كقوله في الآية السابقة التي هي أم هذا السياق :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ وما صرف الرازي عن هذا المعنى البديهي إلا انصراف ذكائه للرد على الجبائي دون فهم الآية في نفسها بما تعطيه اللغة الفصحى.
واستدل بالآية على عصمة الأنبياء ووجهه أننا مأمورون بطاعتهم مطلقا فهي واجبة، ولو أتوا بمعصية لكنا مأمورين بطاعتهم فيها فتكون بذلك واجبة قد فرضنا أنها معصية محرمة فيلزم توارد الإيجاب والتحريم على الشيء والواحد وهو جمع بين الضدين بمعنى النقيضين. وفي هذا الاستدلال نظر فإن الآية تدل على وجوب طاعتهم فيما يأمرون أو يحكمون به الممتنع أن يحكموا أو يأمروا بخلاف ما أنزله الله تعالى عليهم. وأما أفعالهم التي لم يأمروا ولم يحكموا بها فلا تدل الآية على وجوب إتباعهم فيها وإن كانت من أكبر الطاعات في نفسها كالتهجد الذي كان مفروضا على نبينا صلى الله عليه وسلم دون المؤمنين، ومنها خصائص كتعدد الزوجات الذي أبيح له منه ما لم يبح لغيره. ومن أوامره وأحكامه ما يكون بالاجتهاد إذا لم يكن في الواقعة أو الدعوى وحي منزل، ولم يقولوا بعصمة الأنبياء من الخطأ في الاجتهاد وإنما قالوا إن الله تعالى لا يقرهم على الخطأ فيه بل يبين لهم الحق فيه وقد يعاتبهم عليه كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم في مسألة أسرى بدر ومسألة الإذن لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، ولكن الخطأ في الاجتهاد ليس من المعصية في شيء فهو لا ينافي العصمة لأن المعصية هي مخالفة ما أمر الله تعالى به أو نهى عنه.
﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ﴾ أي ولو أن أولئك الذين رغبوا عن حكمك إلى حكم الطاغوت عند ظلمهم لأنفسهم بذلك :﴿ جاءوك فاستغفروا الله ﴾ من ذنبهم وندموا أن اقترفوه وحسنت توبتهم ﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ أي دعا الله أن يغفر لهم ﴿ لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ أي لتقبل الله توبتهم على هذا الوجه أتم القبول وأكمله وتغمدهم برحمته وغمرهم بإحسانه لأنه تعالى يقبل التوبة النصوح كثيرا مهما عاد صاحبها ورحمته وسعت كل شيء.
هذا هو معنى صيغة المبالغة في تواب رحيم. وإنما قرن استغفارهم الذي هو عنوان توبتهم باستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ذنبهم هذا لم يكن ظلما لأنفسهم فقط لم يتعد شيء منه إلى الرسول فيكفي فيه توبتهم بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث إنه رسول له وحده الحق في الحكم بين المؤمنين به فكان لابد في توبتهم وندمهم على ما صدر منهم أن يظهروا ذلك للرسول ليصفح عنهم فيما اعتدوا به على حقه، ويدعو الله تعالى أن يغفر لهم إعراضهم عن حكمه، ومن هذا البيان تعرف نكتة وضع الاسم الظاهر موضع الضمير إذ قال :﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ ولم يقل :" واستغفرت لهم " فإن حقه عليهم أن يتحاكموا إليه إنما كان له بأنه رسول الله وأنه مأمور بأن يحكم بين الناس بما أراه الله في وحيه وما هداه إليه في اجتهاده. ولو أنهم اعتدوا في معصيتهم على حقوقه الشخصية كأكل شيء من ماله بغير حق لقال :" واستغفرت لهم " فإن التوبة عن المعاصي المتعلقة بحقوق الناس لا تكون مقبولة ولا صحيحة إلا بعد استرضاء صاحب الحق.
وجعل بعض المفسرين نكتة وضع الظاهر موضع الضمير إجلال منصب الرسالة والإيذان بقبول استغفار صاحب هذا المنصب الشريف وعدم رد شفاعته والظاهر ما قلناه والمنصب هو هو في شرفه وعلوه، ولكن الله لا يغفر للمنافقين إذا لم يتوبوا وإن استغفر لهم الرسول لأن الله تعالى قال له فيهم :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] والآية ناطقة بأن التوبة الصحيحة تكون مقبولة حتما إذا كملت شرائطها، وظاهر الآية أن منها أن تكون عقب الذنب كما يدل الشرط والعطف بالفاء وهو بمعنى " ثم يتوبون من قريب " وتقدم تفسيره. وذكر الأستاذ الإمام أنه تعالى سمّى ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس أي إفسادا لمصلحتها لأن الرسول هاد إلى مصالح الناس في دنياهم وآخرتهم، وهذا الظلم يشمل الاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار هو الإقبال على الله وعزم التائب على اجتناب الذنب وعدم العود إليه مع الصدق والإخلاص لله في ذلك. وأما الاستغفار باللسان عقب الذنب من دون هذا التوجه القلبي فليس استغفارا حقيقيا.
أقول : يعني ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ " أستغفر الله " لا يعد طلبا للمغفرة لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب فلابد أن يشعر القلب أولا بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها، ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس وهو المعصية، وكيف يكون متألما من القذر الحسي من ألفه وعرض بدنه له إذا طلب غسله باللسان، وهو لا يترك الالتياث به ولا يدنو من الماء.
وقال في استغفار الرسول : إنكم تعلمون أن مشاركة الناس بعضهم لبعض في الدعاء مسنونة وإن من سنته تعالى أن يتقبل من الجماعة بأسرع مما يتقبل من الواحد فدعاء الجماعة أرجى للإجابة وإن كان كل داع موعودا بالاستجابة. وحقيقة الدعاء إظهار العبودية والخضوع له تعالى، والإجابة التي وعد بها هي الإثابة وحسن الجزاء فمتى أخلص الداعي أجاب الله دعاءه سواء كان بإعطائه ما طلب أو بغير ذلك من الأجر والثواب، وإنما كانت المشاركة في الدعاء أرجى للقبول لأن الداعين الكثيرين لشخص يؤدون هذه العبادة بسببه أي أن ذنبه يكون هو السبب في شعورهم وإحساسهم كلهم بالحاجة إلى الله تعالى والخضوع له والاتحاد المرضي عنده فكأن حاجته حاجتهم كلهم. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الداعي والمستغفر لأولئك التائبين من ظلمهم لأنفسهم مع استغفارهم هم فذلك من اشتراك قلبه الشريف مع قلوبهم بالحاجة إلى تطهير الله لهم من دنس الذنب وطلب النجاة من عقوبته وناهيك بقرب الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه والرجاء في استجابة دعائه.
وأما اشتراط استغفار الرسول إلى استغفارهم فمعناه أن توبتهم لا تحقق إلا إذا رضي عن توبتهم رضا كاملا بحيث يشعر قلبه الرحيم بالمؤمنين بحاجتهم إلى المغفرة لصحة توبتهم وإخلاصهم فذنبهم ذلك لا يغفر إلا بضم استغفاره صلى الله عليه وسلم إلى استغفارهم وليس كل ذنب كذلك بل يكتفي في سائر الذنوب بتوبة العبد المذنب حيث كان والإخلاص لله تعالى اه.
أقول : وقد بينا الفرق بين هذا الذنب وغيره من الذنوب، ومنه يعلم بعد من قاس كل ذنب على ذنب الرغبة عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإيثار التحاكم إلى الطاغوت، وقاس كل مذنب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على من أعرض عن حكمه في حياته، فجعل مجيء كل مذنب إلى قبره الشريف واستغفاره عنده كمجيء من أعرضوا عن حكمه في حياته تائبين ليعفو عن حقه عليهم ويستغفر لهم.
﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ هذه الآية متصلة بما قبلها أشد الاتصال والسياق محكم متسق وإن ذكروا أسباب خاصة لنزولها، أقسم الله تعالى بربوبيته لرسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا له في ذلك خطاب التكريم، ومن المعهود في اللغة أن مثل هذا القسم يعد تكريما وقد كانت عائشة تقسم برب محمد صلى الله عليه وسلم فلما غضبت مرة أقسمت برب إبراهيم صلى الله عليه وسلم فكلمها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بعد رضاها فقالت : إنما أهجر اسمك. أقسم تعالى بأن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأمثالهم وهم من المنافقين الذين يزعمون الإيمان زعما كما تقدم لا يؤمنون إيمانا صحيحا حقيقيا وهو إيمان الإذعان النفسي إلا بثلاث.
الأولى : أن يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم أي في القضايا التي يختصمون فيها ويشتجرون فلم يتبين الحق فيها لهم، أو لم يعترف به كل منهم، بل يذهب كل مذهبا فيه، فمعنى شجر اختلف واختلط الأمر فيه. قيل إن الشجر ( مصدر شجر ) والتشاجر والاشتجار مأخوذ من الشجر الملتف المتداخل بعضه في بعض، وقال بعضهم بل سمي الشجر شجرا لاشتجار أغصانه وتداخلها وقيل من الشجار ( ككتاب ) وهو خشب الهودج لاشتباك بعضه في بعض، وقيل من الشجر ( بالفتح ) وهو مفتح الفم لكثرة الكلام في الأمور التي يقع النزاع فيها، وكل هذه المعاني مناسبة، وتحكيمه تفويض أمر الحكم إليه.
الثانية : قوله :﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾ الحرج الضيق والقضاء الحكم وزعم بعض المستشرقين من الإفرنج أن لفظ القضاء لم يكن مستعملا في صدر الإسلام الأول بمعنى الحكم وهذا من دعاويهم التي يتجرؤون عليها من غير استقصاء ولا علم. والمعنى ثم تذعن نفوسهم لقضائك وحكمك فيما شجر بينهم بحيث لا يكون فيها ضيق ولا امتعاض من قبوله والعمل به. ولما كان الإنسان لا يملك نفسه أن يسبق إليها الألم والحرج إذا خسرت ما كانت ترجو من الفوز، والحكم لها بالحق المختصم فيه، عفا الله تعالى عن الحرج يفاجئ النفس عند الصدمة الأولى وجعل هذا الشرط على التراخي فعظمه بثم، والمؤمن الكامل الإيمان ينشرح صدره لحكم الرسول من أول وهلة لعلمه أنه الحق وأن الخير له فيه والسعادة في الإذعان له، فإذا كان في إيمانه ضعف ما ضاق صدره عند الصدمة الأولى، ثم يعود على نفسه بالذكرى وينحي عليها باللوم حتى تخشع وتنشرح بنور الإيمان وإيثار الحق الذي حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم على الهوى، وقيل المراد بنفي وجدان الحرج عدم الشك في حقية الحكم بأن يكون موقنا بأنه قضاء بمر الحق الذي لا شبهة فيه، قال هذا من قاله وهو خلاف المتبادر لأن وجدان القلب لا يتعلق به التكليف وقد علمت ما هو الصواب.
الثالثة : قوله تعالى :﴿ ويسلموا تسليما ﴾ التسليم هنا الانقياد بالفعل وما كل من يعتقد حقية الحكم ولا يجد في نفسه ضيقا منه ينقاد له بالفعل وينفذه طوعا وإن لم يخش في ترك العمل به مؤاخذة في الدنيا.
واستدلوا بالآية على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ في الحكم وغيره، وذهب الرازي إلى عدم معارضة هذا بفتواه في أسرى بدر وما في معناه مما عاتبه الله تعالى عليه بقوله :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ [ التوبة : ٤٣ ]، وقوله :﴿ عبس وتولى ﴾ [ عبس : ١ ] الخ، وقوله :﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ [ التحريم : ١ ] وأحال على تأويله لهذه الآيات في مواضعها. ولا شك في عصمته صلى الله عليه وسلم في الحكم بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق بحسب صورة الدعوى ظاهرها لا بحسب الواقع في نفسه لأن الحكم في شريعته على الظاهر والله يتولى السرائر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم :( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها ) ١ رواه الجماعة كلهم مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أم سلمة. وقال صلى الله عليه وسلم :( إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ) ٢ رواه مسلم والنسائي عن رافع بن خديج. وفي معناه :" إنما أنا بشر وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله " ٣ رواه أحمد وابن ماجة عن طلحة وصححوه. ولأجل هذه الأحاديث كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأي هل هو عن وحي أو رأي، فإن كان عن وحي أطاعوا وسلموا تسليما، وإن كان رأيا ذكروا ما عندهم وربما رجع إلى رأيهم كما فعل يوم بدر. فيا لله ما أكمل هديه وما أجمل تواضعه صلى الله عليه وعلى آله وأولئك الصحب الكاملين.
واستدلوا بالآية أيضا على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس فمن بلغه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورده بمخالفة قياسه له فهو غير مطيع للرسول ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاث المشروطة في صحة الإيمان بنص الآية، ومخالفة نص القرآن بالقياس أعظم جرما وأضل سبيلا.
وتدل الآية بالأولى على بطلان التقليد فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يتقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ولرسوله كما أمر الله عز وجل، وإذا قلنا إن للعامي أن يتبع العلماء فليس المعنى أنه يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله المنصوصة، وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها لا في آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص. مثال ذلك أن بعض الفقهاء يقول إن حكم الحاكم على الظاهر والباطن، فإذا حكم لك بما تعلم أنه ليس لك صار حلالا لك أن تأكله، ونص الحديث المتفق عليه الذي أوردناه آنفا أن من قضي له بحق أحد بناء على ظاهر الدعوى وهو يعلم أنه ليس بصاحب هذا الحق فإنما هي قطعة من النار إذا أخذها. فمن بلغه الحديث واعتقد صحته ولم يعارضه عنده نص يرجح عليه أو ينسخه بالدليل لا بالاحتمال، وبقي مقلدا لقول ذلك الفقيه يستحل ما يحكم له به من حق غيره كان غير مطيع لله ولرسوله ولا متصفا بالخصال التي تتوقف عليها صحة الإيمان.
قال الأستاذ الإمام : قوله تعالى فلا وربك الخ تفريع على ما سبقه وهو نفي وإبطال لظن الظانين أنهم بمجرد محافظتهم على أحكام الدين الظاهرة يكونون صحيحي الإيمان مستحقين للنجاة من عذاب الآخرة وللفوز بثوابها، لا وربك لا يكونون مؤمنين حتى يكونوا موقنين في قلوبهم مذعنين في بواطنهم، ولا يكونون كذلك حتى يحكموك فيما شجر واختلط بينهم من الحقوق، ثم بعد أن تحكم بينهم لا يجدوا في أنفسهم الضيق الذي يحصل للمحكوم عليه إذا لم يكن خاضعا للحكم في قلبه، فإن الحرج إنما يلازم قلب من لم يخضع. ذلك بأن المؤمن لا ينازع أحدا في شيء إلا بما عنده من شبهة الحق فإذا كان كل من الخصمين يرضى بالحق متى عرفه وزالت الشبهة عنه، كما هو شأن المؤمن فحكم الرسول يرضيهما ظاهرا وباطنا، لأنه أعدل من يحكم بالحق.
أقول : أما ما ذكروه في أسباب نزول الآية فقد أورد السيوطي منه في لباب النقول ما رواه الأئمة الستة ( أي البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة ) عن عبد الله بن الزبير قال : خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة٤ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ) فقال الأنصاري : يا رسول الله إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجهه ثم قال :( اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك ) ٥، واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنها أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. وهذه عين الرواية الأولى مختصرة، وفيها جزم بأن الآية نزلت في هذه الواقعة. والصواب أن هذا اجتهاد من الرواة لانطباق الآية على الرواية.
١ أخرجه البخاري في الشهادات باب٢٧، والأحكام باب٢٠، والحيل باب١٠، ومسلم في الأقضية حديث٤، وأبو داود في الأقضية باب٧، والترمذي في الأحكام باب١١، والنسائي في القضاة باب٣٣، ١٣، وابن ماجة في الأحكام باب٥، ومالك في الأقضية حديث١، وأحمد في المسند٦/٣٢٠، ٣٠٨، ٢٩٠، ٢٠٣..
٢ أخرجه مسلم في الفضائل حديث١٤٠..
٣ أخرجه ابن ماجة في الرهون باب١٥، وأحمد في المسند١/١٦٣..
٤ الشراج: جمع شرجة، وهي مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والحرة أرض بظاهر المدينة ذات حجارة سوداء..
٥ أخرجه البخاري في تفسير سورة٤، باب١٢، والصلح باب١٢، والمساقاة باب٦ ـ٧، ومسلم في الفضائل حديث ١٢٩، وأبو داود في الأقضية باب٣١، والترمذي في الأحكام باب٢٦، وتفسير سورة ٤، باب١٣، وابن ماجة في المقدمة باب٢، والرهون باب٢، والنسائي في القضاة باب٢٧، ١٩، وأحمد في المسند ١/١٦٦، ٤/٥..
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ٦٦ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما٦٧ ولهديناهم صراطا مستقيما٦٨ ﴾.
الكلام متصل بما سبق والسياق لم ينته، والمروي عن ابن عباس ومجاهد أن قوله تعالى :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ﴾ عائد للمنافقين الذين سبق القول فيهم ومن كان مثلهم فله حكمهم، إذ الأحكام ليست منوطة بذوات المكلفين وشخوصهم بل بصفاتهم وأعمالهم، أي لو أمرناهم بقتل أنفسهم أي بتعريضها للقتل المحقق أو المظنون ظنا راجحا، وقيل قتلها هو الانتحار كما قيل مثل هذا في أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم توبة إلى ربهم من عبادة العجل. أو قلنا لهم اخرجوا من دياركم أي أوطانكم وهاجروا إلى بلاد أخرى ﴿ ما فعلوه ﴾ أي المأمور به من القتل والهجرة من الوطن ﴿ إلا قليل منهم ﴾ هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن عامر " قليلا " بالنصب، قالوا وكذا هو في مصاحف أهل الشام ومصحف أنس بن مالك. وهما لغتان للعرب وإعرابهما ظاهر.
بين الله تعالى لنا أن المؤمن الصادق هو من يطيع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره والسهل والشاق، ولو قتل النفس والخروج من الدار، وهما متقاربان لأن الجسم دار الروح والوطن دار الجسم، وأن المنافق هو من يعبد الله على حرف واحد وهو ما يوافق هواه وغرضه فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، وأنه قلما يوجد في أولئك المنافقين من يصبر على نار الفتنة رياء وتقية فيطيع فيما يكتب عليه ولو كان التعرض للقتل، والجلاء عن الوطن والأهل.
وقيل إن الكلام في جملة المكلفين من الناس، والمعنى أن الإنسان خلق ضعيفا كما تقدم في آية ( ٢٧ ) من هذه السورة، فلو كتبنا عليهم ما يشق احتماله كقتل الأنفس والخروج من الوطن لعصى الكثير منهم، ولم يطع إلا القليل وهم أصحاب العزائم القوية الذين يؤثرون رضوان الله على حظوظهم وشهواتهم، ولكننا لم نكتب عليهم ذلك كما كتبناه على بني إسرائيل من قبلهم، بل أرسلنا خاتم رسلنا بالحنيفية السمحة، التي تجمع لهم بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، فلا عذر لهم بالضعف البشري إن عصوا الرسول، واتبعوا الطاغوت، وإنما ظلموا بذلك أنفسهم.
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ﴾ من الأوامر والنواهي المقرونة بحكمها وبيان فائدتها، والوعد والوعيد لمن عمل بها ومن صد عنها، ﴿ لكان خيرا لهم ﴾ في حفظ مصالحهم، واعتزاز أنفسهم بارتقاء أمتهم، وفي عاقبة أمرهم وآخرتهم، ﴿ وأشد تثبيتا ﴾ لهم في أمر دينهم.
التثبيت : التقوية بجعل الشيء ثابتا راسخا، وإنما كان العمل وإتيان الأمور الموعوظ بها في الدين يزيد العامل قوة وثباتا لأن الأعمال هي التي يكون بها العلم الإجمالي المبهم تفصيليا جليا، وهي التي تطبع الأخلاق والملكات في نفس العامل، وتبدد المخاوف والأوهام من نفسه، مثال ذلك : أن بذل المال في سبيل الله تعالى بأعمال البر آية من أقوى آيات الإيمان، وقربة من أكبر أسباب السعادة والرضوان، فمن آمن بذلك ولم يعمل به لا يكون علمه بمنافعه وفوائده له وللأمة والملة إلا ناقصا، وكلما اعتنّ له سبب من أسباب البذل، تحداه في نفسه طائفة من أسباب الإمساك والبخل، كالخوف من الفقر والإملاق، أو نقصان ماله عن مال بعض الأقران، أو تعليل النفس بادخار ما احتيج إلى بذله الآن، ليوضع فيما هو خير وأنفع في مستقبل الزمان، فإذا هو اعتاد البذل صار السخاء خلقا له، لا يثنيه عنه وسواس ولا خوف، واتسعت معرفته بطرق منافعه، ووضع المال في خير مواضعه.
وقال الأستاذ الإمام : لكان خيرا لهم في مصالحهم، وأشد تثبيتا لهم في إيمانهم، فإن الامتثال إيمانا واحتسابا يتضمن الذكرى وتصور احترام أمر الله والشعور بسلطانه، وإمرار هذه الذكرى على القلب عند كل عمل مشروع يقوي الإيمان ويثبته، وكلما عمل المرء بالشريعة عملا صحيحا انفتح له باب المعرفة فيها، بل ذلك مطرد في كل علم.
أقول وذكر الرازي في التثبيت ثلاثة أوجه :
١ إن ذلك أقرب إلى ثباتهم واستمرارهم لأن الطاعة تدعو إلى مثلها.
٢ إن ذلك يكون أثبت في نفسه لأنه حق، والحق ثابت باق والباطل زائل.
٣ إن الإنسان يطلب الخير أولا فإذا حصله طلب أن يكون الحاصل ثابتا باقيا، فقوله تعالى :﴿ لكان خيرا لهم ﴾ إشارة إلى الحالة الأولى، وقوله :﴿ وأشد تثبيتا ﴾ إشارة إلى الحالة الثانية.
ومن مباحث اللفظ في كيفية الداء اختلاف القراء في " أن " و " أو " من قوله تعالى :﴿ أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا ﴾ قرأ أبو عمرو ويعقوب بكسر نون " أن " وضم واو " أو " وعاصم وحمزة بكسرهما والباقون بضمهما وهما لغتان. فأما الكسر فهو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين عند النحاة وأما الضم فإجراؤهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل تنقل حركة ما بعدها إليها، وأما قراءة أبي عمرو فجمع بين طريقتي العرب في ذلك من قبيل التلفيق. ومنها أن قوله تعالى :﴿ ما فعلوه ﴾ يعود ضميره إلى القتل والخروج، وأفرد الضمير لأن الفعل جنس واحد أو بتأويل ما ذكر.
﴿ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾ " إذا " حرف جواب وجزاء ولذلك ذكر في الكشاف أنها هنا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ماذا يكون من هذا الخير العظيم والتثبيت ؟ فأجيب هو أن نؤتيهم أي نعطيهم أجرا عظيما الخ
﴿ ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾ قيل إن هذا الصراط عبارة عن دين الحق وقيل هو موطن من مواطن القيامة، وقال الأستاذ الإمام : الصراط المستقيم هنا هو طريق العمل الصالح على الوجه الصحيح. وأقول : إن هذه الهداية الرابعة التي شرحها الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة. والصراط هنا هو الصراط هناك : صراط الذين أنعم عليهم المذكورين في الآية التالية، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وصرح بذلك في تفسير الآية :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ﴾.
﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا٦٩ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما٧٠ ﴾.
الصراط المستقيم في الآية السابقة هو الصراط الذي سار عليه عباد الله المصطفون الأخيار الذين أنعم الله عليهم بمعرفة الحق واتباعه وعمل الخيرات واجتناب الفواحش والمنكرات، وهم الأصناف الأربعة في قوله تعالى :﴿ ومن يطع الله والرسول ﴾ الخ وكان الظاهر بادي الرأي أن يقال : ولهديناهم صراطا مستقيما، صراط أولئك الذين أنعم الله عليهم. أو فكانوا مع الذين أنعم الله عليهم، أو ما هو بهذا المعنى. ولكن أعيد ذكر طاعة الله ورسوله، لأنه هو الأصل المراد في السياق الذي تكون سعادة صحبة من أنعم الله عليهم جزاء له. أي إن كل من يطيع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه المبين في الآيات من قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ إلى قوله :﴿ ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾، ﴿ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾. وما قيل من أن الطاعة تصدق بامتثال أمر واحد مرة واحدة وما يبني عليه من الجواب هو مما اعتادوه من اختراع الإيرادات والأجوبة عنها وإن كان السياق يأباها فهذه الطاعة هي التي يدخل فيها إيثار حكم الله ورسوله على حكم الطاغوت من أهل الأهواء، وهي التي علمنا بها أن العمل من أركان الإيمان الصحيح أو شرط له لتوقفه على الإذعان في الظاهر والباطن لحكم الله ورسوله بحيث لا يكون في نفس المؤمن حرج منه ويسلم له تسليما، ويدخل في ذلك امتثال أمر الله ورسوله ولو في تعريض النفس للقتل والخروج من الديار والأوطان.
ذهب بعض المفسرون إلى أن الصديقين والشهداء والصالحين أوصاف متداخلة لموصوف واحد، فالمؤمنون الكاملون فريقان : الأنبياء والمتصفون بالصفات الثلاثة، وهذا وجه ضعيف. والصواب المغايرة بينهم كما هو ظاهر العطف على ما في صفاتهم من العموم والخصوص. وقد اختلفوا في تعريفهم. وهاك ما لا كلفة فيه ولا جناية على اللغة.
الصديقون : جمع صديق وهو من غلب عليه الصدق وعرف به كالسكير، لمن غلب عليه السكر. قال الراغب الصديق من كثر منه الصدق وقيل بل يقال لمن لا يكذب قط وقيل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق، وقيل بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بقوله. قال :﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ﴾ وقال أي في المسيح ﴿ وأمه صديقة ﴾ [ المائدة : ٧٥ ] وقال :﴿ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ فالصديقون هم قوم دوين الأنبياء في الفضيلة على ما بينت ذلك في الذريعة إلى مكارم الشريعة.
الأستاذ الإمام : الصديقون هم الذين زكت فطرتهم، واعتدلت أمزجتهم، وصفت سرائرهم، حتى أنهم يميزون بين الحق والباطل والخير والشر بمجرد عروضه لهم، فهم يصدقون بالحق على أكمل وجه، ويبالغون في صدق اللسان والعمل، كما نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بمجرد ما بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عرف أنها الحق وقبلها وصدق بها فصدق النبي في قوله وعمله أكمل الصدق، ويليه في ذلك جميع السابقين الأولين فإنهم انقادوا إلى الإسلام بسهولة قبل أن تظهر الآيات وثمرات الإيمان تمام الظهور، كعثمان بن عفان بن مظعون وعد آخرين من السابقين ودرجة هؤلاء قريبة من مرتبة النبوة بل الأنبياء صديقون وزيادة.
وأقول : ما نقلناه عن الراغب والأستاذ من كون الصديقية هي المرتبة التي تلي مرتبة النبوة في الكمال البشري قد صرح به كثير من العلماء. وللغزالي كلام كثير فيه. ولا غرو فالصدق في القول والعمل أس الفضائل، كما أن الكذب والنفاق أس الرذائل، واختار الأستاذ الإمام أخذ الصديق من التصديق وهو المبالغة في تصديق الأنبياء وكمال الإيمان بهم، ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه صديقا. وقد وردت الأحاديث الصحاح والتي دون الصحاح في تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس. وفي حديث ابن مسعود عند الديلمي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له نظرة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم ) وعن ابن عباس عند أبي نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال ( ما كلمت في الإسلام أحدا إلا أبى لي وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله وسارع إليه ) وسندهما ضعيف.
وقد عد بعض المستشرقين على أبي بكر رضي الله عنه المسارعة إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وعدم التلبث به، وحسب أن ذلك من السذاجة وضعف الروية، وينقض حسبانه كل ما عرف من سيرة أبي بكر في الجاهلية والإسلام فإنه كان من أجود الناس رأيا، وأنفذهم بصيرة، وأصحهم حكما، وأقلهم خطأ، وإنما يعرف قيمة الصدق الصادقون، وقدر الشجاعة الشجعان، وحقائق الحكمة الحكماء، فلما كانت مرتبة أبي بكر قريبة من مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم في الصدق وتحري الحق وإيثاره على الباطل، وإن ركب في سبيله الصعاب وتقحم في الأخطار، كان السابق إلى تصديقه، وبذل ماله ونفسه في نصره، وقد سمى الله الدين صدقا في قوله :﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ﴾ [ الزمر : ٣٢ ] نعم إن الصادق يكون أسرع إلى تصديق غيره عادة، فإن كان بليدا أو ساذجا غِرًّا صدق غيره في كل شيء، وإن كان ذكيا مجربا كأبي بكر لم يصدق إلا ما هو معقول. ومن كان كبير العقل قوي الحدس يدرك لأول وهلة ما لا يصل إليه غيره إلا بعد السنين الطوال، وكان أبو بكر من أعلم العرب بتاريخ العرب وأنسابها وأخلاقها وظهر أثر هذا في سياسته أيام خلافته ولا سيما في المرتدين ومانعي الزكاة، فلولاه لانتكث فتل الإسلام وغلبته عصبية الجاهلية، أفهكذا تكون السذاجة وضعف الرأي والروية ؟ أم ذلك ما أملاه على ذلك المستشرق كره المخالف ووسوس به شيطان العصبية ؟
الشهداء : جمع شهيدّ، وبين الرازي أنه لا يجوز أن يراد بالشهيد هنا من قتله الكفار في الحرب، لأن الشهادة مرتبة عالية عظيمة في الدين :" وكون الإنسان مقتول الكافر ليس فيه زيادة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله تعالى "، ولأن المؤمنين يدعون الله تعالى أن يرزقهم الشهادة ولا يجوز أن يطلبوا منه أن يسلط عليهم الكفار يقتلونهم، ولأنه ورد إطلاق لفظ الشهيد على المبطون والمطعون والغريق. قال :" فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل بل نقول الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط وهم الذين ذكرهم الله في قوله :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ﴾ [ آل عمران : ١٨ ] ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد، من حيث إنه بذل نفسه في نصرة دين الله وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة كما قال :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
وقال الأستاذ الإمام : الشهداء هم الذين أمرنا الله تعالى أن نكون منهم في قوله :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وهم أهل العدل والإنصاف الذين يؤيدون الحق بالشهادة لأهله بأنهم محقون، ويشهدون على أهل الباطل أنهم مبطلون، ودرجتهم تلي درجة الصديقين. والصديقون شهداء وزيادة.
وأقول إن الشهادة التي تقوم بها حجة أهل الحق على أهل الباطل تكون بالقول والعمل والأخلاق والأحوال. فالشهداء هم حجة الله تعالى على المبطلين في الدنيا والآخرة بحسن سيرتهم. وتقدم القول في ذلك في تفسير :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] من الجزء الثاني، وتفسير ( ١٤ : ٢ ) من الجزء الرابع. ويروى عن سيدنا علي أنه قال إن الأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة. ويتوهم أسرى الاصطلاحات، ورهائن القيود المستحدثات، أن حجج الله تعالى في الأرض هم علماء الرسوم حملة الشهادات، الذين حذقوا النقاش في العبارات، والجدل في مصارعة الشبهات، وجمع النقول في تلفيق المصنفات. كلا إن حجج الله تعالى من الناس هم أعلام الحق والفضيلة، ومُثُلُ العدل والخير، فمنهم العالم المستقل بالدليل وإن سخط المقلدون، والحاكم المقيم للعدل وإن كثر حوله الجائرون، والمصلح لما فسد من الأخلاق والآداب وإن غلب المفسدون، والباذل لروحه حتى يقتل في سبيل الحق وإن حجم الجبناء والمراءون.
الصالحون : هم الذين صلحت نفوسهم وأعمالهم ولم يبلغوا أن يكونوا حججا ظاهرين كالذين قبلهم لأنه ليس لهم من العلم والعمل المتعدي نفعه إلى غيرهم ما يحتج به على المبطلين، والجائرين عن الصراط المستقيم، وقال الأستاذ الإمام : هم الذين صلحت أعمالهم في الغالب ويكفي أن تغلب حسناتهم على سيئاتهم وأن لا يصروا على الذنب وهم يعلمون.
هؤلاء الأصناف الأربعة هم صفوة الله من عباده وقد كانوا موجودين في كل أمة، ومن أطاع الله والرسول من هذه الأمة كان منهم، وحشر يوم القيامة معهم، لأنه وقد ختم الله النبوة والرسالة لابد أن يرتقي في الاتباع إلى درجة أحد الأصناف الثلاثة : الصديقين والشهداء والصالحين ﴿ وحسن أولئك رفيقا ﴾ أي أن مرافقة أولئك الأصناف هي في الدرجة التي يرغب العاقل فيها لحسنها. وفي الكشاف أن في هذه الجملة معنى التعجب كأنه قيل ما أحسن أولئك رفيقا، والرفيق كالصديق والخليط الصاحب، والأصحاب يرتفق بعضهم ببعض. واستعملت العرب الرفيق والرسول والبريد مفردا استعمال الجمع أو الجنس ولهذا حسن الإفراد هنا، وقيل تقدير الكلام وحسن كل فريق من أولئك رفيقا.
وهل يرافق كل فريق فريقه، إذ كان مشاكله وضريبه، أم يتصل كل منهم بمن فوقه ولو بعض الاتصال، الذي يكون في حال دون حال ؟ الظاهر الثاني وهو ما يشير إليه التعبير بالفضل في الآية التالية.
روى الطبراني وابن مردويه بسند قال السيوطي لا بأس به عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية :﴿ ومن يطع الله والرسول ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق أن سبب نزولها قول الصحابة : يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنك لو قد مت لرفعت فوقنا ولم نرك. وأخرج عن عكرمة قال أتى فتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة لا نراك فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنت معي في الجنة إن شاء الله تعالى ) اه وهذه الروايات ضعيفة السند، فإن كان لها أصل فالمراد أن الآية نزلت في سياقها المتصلة به بعد شيء من هذه الأسئلة.
وأما معنى هذه الروايات فيؤيده حديث أبي قرصانة مرفوعا ( من أحب قوما حشره الله معهم ) رواه الطبراني والضياء وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة، وفي معناه حديث أنس عن أحمد والشيخين وغيرهم " المرء مع من أحب " ١.
وقد يغر كثير من المنافقين والفاسقين أنفسهم بدعوى محبة الله ورسوله
١ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة. أخرجه البخاري في الأدب باب٩٦، ومسلم في البر حديث ١٦٥، والترمذي في الزهد باب٥٠، والدعوات باب٩٨، والدارمي في الرقاق باب٧١، وأحمد في المسند١/٣٩٢، ٣/١٦٥، ١٥٩، ١١٠، ١٠٤ ٤٣٩٤، ٣٣٦، ٢٨٨، ٢٨٣، ٢٧٦، ٢٦٨، ٢٥٥، ٢٢٨، ٢٢٧، ٢٢٦، ٢٢٢، ٢١٣، ٢٠٨، ٢٠٧، ٢٠٢، ٢٠٠، ١٩٨، ١٩٢، ١٧٨، ١٧٣، ١٧٢، ١٦٨، ١٦٧، ٤/١٠٧، ١٦٠، ٢٣٩، ٢٤١، ٣٩٢، ٣٩٥، ٣٩٨، ٤٠٥..
﴿ ذلك الفضل من الله ﴾ في هذه العبارة وجهان أحدهما : أن المعنى : ذلك الذي ذكر من جزاء من يطيع الله ورسوله هو الفضل الكامل الذي لا يعلوه فضل، فإن الصعود إلى إحدى تلك المراتب في الدنيا وما يتبعه من مرافقة أهلها وأهل من فوقها في الآخرة هو منتهى السعادة فيه يتفاضل الناس فيفضل بعضهم بعضا وهو من الله تفضل به على عباده. وثانيهما : أن المعنى : ذلك الفضل الذي ذكر من جزاء المطيعين هو من الله تعالى. ويرى بعض الناس أن التعبير بلفظ الفضل ينافي أن يكون ذلك جزاء ويقتضي أن يكون زيادة على الجزاء. سمه جزاء أو لا تسمه، هو من فضل الله تعالى على كل حال.
﴿ وكفى بالله عليما ﴾ وكيف لا تقع الكفاية بعلمه بالأعمال وبدرجة الإخلاص فيها وبما يستحق العامل من الجزاء، وإرادته تعالى للجزاء الوفاق ولجزاء الفضل ولزيادة الفضل ذلك كله تابع لعلمه المحيط، فهو يعطي بإرادته ومشيئته، ويشاء بحسب علمه، فالتذكير بالعلم الإلهي في آخر السياق يشعرنا بأن شيئا من أعمالنا ونياتنا لا يعزب من علمه، ليحذر المنافقون المراءون، لعلهم يتذكرون فيتوبون، وليطمئن المؤمنون الصادقون، لعلهم ينشطون ويزدادون.
﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا٧١ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ٧٢ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما٧٣ ﴾.
الأستاذ الإمام : الكلام من أول السورة إلى قوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ في موضوع خاص وهو ما يكون بين الأهل والأقارب والأزواج واليتامى من المعاملات المالية والمصاهرة والإرث. والآيات من قوله :﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى هنا في مطالبة المؤمنين بالإخلاص في العبادة وحسن المعاملة بين الأقربين واليتامى والمساكين والجيران والأصحاب والأرقاء وسائر الناس، وأحكام بعض العبادات وبيان ما فيها من تثبيت النفس على الصدق في المعاملة، ضرب لهم فيها مثل اليهود الذين كان لهم كتاب يهتدون به ونهاهم أن يكونوا مثلهم، وعلمهم كيف يعملون بأمرهم برد الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم ورد ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله. وأكد أمر طاعة الله والرسول وبين حال المنافقين الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت. ولا شك أن المسلمين إذا عملوا بهذه الأحكام صلح حالهم فيما بينهم واستقامت أمورهم وصاروا متحدين متعاونين على الأعمال النافعة وحفظ الجامعة ووثق بعضهم ببعض في التعاون على مصالحهم والدفاع عن حقيقتهم، فالغرض من هذه الوصايا انتظام شمل وصلاح أمورهم الخاصة والعامة.
بعد بيان هذا، أراد الله تعالى أن يوجه المسلمين إلى أمر آخر يلي اجتماعهم على عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وانتظام شؤونهم وصلاح حالهم، وهو ما يتم لهم به الأمن وحسن الحال بالنسبة إلى غيرهم. وذلك أنه كان للمسلمين عند التنزيل أعداء يناصبونهم ويفتنونهم في دينهم، والإنسان لا يتم له نظام في معيشته ولا هناء ولا راحة إلا بالأمنين كليهما الأمن الداخلي والأمن الخارجي، فلما أرشدنا الله إلى ما به أمننا الداخلي أرشدنا إلى ما به أمننا مع الخارجين عنا المخالفين لنا في ديننا، وذلك إما بمعاهدات تكون بيننا وبينهم نطمئن بها على ديننا وأنفسنا ومصالحنا وإما باتقاء شرهم بالقوة، وهذه الآيات في بيان ذلك وهي كثيرة كما يأتي.
أقول كان الأظهر عندي أن يقال إن الله تعالى بين لنا أصل الحكومة الإسلامية في آية الأمانات والعدل، وقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ الخ وكان قد بين لنا في هذه السورة كثيرا من مهمات الأحكام الدينية والشخصية والمدنية ( كما يقال في عرف هذا العصر ) ثم شدد النكير على من يرغب عن حكم غيره من أهل الطغيان، بعد هذا كله شرع يبين لنا بعض الأحكام الحربية والسياسية ويبين لنا الطريق الذي نسير عليه في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول المحكمة الحكيمة من الأعداء الذين يعتدون علينا.
فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ﴾ قال الراغب الحذر ( بالتحريك ) احتراز عن مخيف. وقال عز وجل : خذوا حذركم أي ما فيه الحذر من السلاح وغيره. اه وظاهره التفرقة بين الحذر بالتحريك والحذر بكسر فسكون. وفي لسان العرب أن الحذر والحذر الخيفة. ومن خاف شيئا اتقاه بالاحتراس من أسبابه، قال في الأساس : رجل حذر متيقظ محترز وحاذر مستعد. وقال الرازي : الحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر والمثل والمثل يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من الخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم، هذا ما ذكره صاحب الكشاف. ثم نقل عن الواحدي فيه قولين : أحدهما أنه السلاح والثاني أن المعنى احذروا عدوكم، والتحقيق ما قدمناه وهو أن الحذر الخيفة ويلزمه الاحتراز والاستعداد.
الأستاذ الإمام : الحذر والحذر الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته وإذا كان الأعداء متعددين فلا بد في أخذ الحذر من معرفة ما بينهم من الوفاق والخلاف وأن تعرف الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا، وأن يعمل بتلك الوسائل. فهذه ثلاثة لا بد منها، وذلك أن العدو إذا أنس غرة منا هاجمنا وإذا لم يهاجمنا بالفعل كنا دائما مهددين منه، فإن لم نهدد في نفس ديارنا كنا مهددين في أطرافها، فإذا أقمنا ديننا أو دعونا إليه عند حدود العدو فإنه لا بد أن يعارضنا في ذلك وإذا احتجنا إلى السفر إلى أرضه كنا على خطر. وكل هذا يدخل في قوله ﴿ خذوا حذركم ﴾ كما قال في آية أخرى ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] الخ وعلى النفوس المستعدة للفهم أن تبحث في كل ما يتوقف عليه امتثال الأمر من علم وعمل.
ويدخل في ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده طرقها ومضايقها وجبالها وأنهارها، فإننا إذا اضطررنا في تأديبه إلى دخول بلاده فدخلناها ونحن جاهلون لها كنا على خطر، وفي أمثال العرب " قتلت أرض جاهلها " وتجب معرفة مثل ذلك من أرضنا بالأولى حتى إذا هاجمنا فيها لا يكون أعلم بها منا.
ويدخل في الاستعداد والحذر معرفة الأسلحة واتخاذها واستعمالها، فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال فيجب تحصيل كل ذلك، كما هو الشأن في هذه الأيام. ذلك أنه أطلق الحذر، أي ولا يتحقق الامتثال إلا بما تتحقق به الوقاية والاحتراز في كل زمن بحسبه. يريد رحمه الله تعالى أنه يجب على المسلمين في هذا الزمان اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيه من المدافع بأنواعها والبنادق والبوارج المدرعة وغير ذلك من أنواع السلاح وآلات الهدم والبناء وكذلك المناطيد الهوائية والطيارات. وأنه يجب تحصيل العلم بصنع هذه الأسلحة والآلات وغيرها وما يلزم لها، والعلم بسائر الفنون والأعمال الحربية وهي تتوقف على ما أشار إليه من العلوم الأخر كتقويم البلدان وخرت الأرض.
قال : وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم عارفين بأرض عدوهم، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عيون وجواسيس في مكة يأتونه بالأخبار ولما أخبروه بنقض قريش العهد استعد لفتح مكة. ولما جاء أبو سفيان لتجديد العهد ظنه أنهم لم يعلموا بنكثهم لم يفلح وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة له واحدا وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة : حاربهم بمثل ما يحاربونك به : السيف بالسيف والرمح بالرمح. وهذه كلمة جليلة، فالقول وعمل النبي وأصحابه كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته.
أقول : تعرض الرازي هنا لمسألة القدر وما عسى أن يقال من عدم نفع الحذر وكونه عبثا قال : وعنه قال عليه الصلاة والسلام :( المقدور كائن والهم فضل ) وقيل أيضا : لا " الحذر لا يغني من القدر " فنقول إن صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع فإنه يقال إذا كان الإنسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الإيمان وإن كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الإيمان والطاعة. فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية. والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الأمر بالحذر أيضا داخلا في القدر فكان قول القائل :" أي فائدة في الحذر " كلاما متناقضا لأنه لما كان الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر اه كلام الرازي.
أقول إن المسلمين قد ابتلوا بمسألة القدر كما ابتلي بها من قبلهم وقد شفي غيرهم من سم الجهل بحقيقتها فلم يعد مانعا لهم من استعمال مواهبهم في ترقية أنفسهم وأمتهم ولما يَشْفَ المسلمون. وقد كشفنا الغطاء عن وجه المسألة غير مرة ولم نر بدا مع ذلك من العود إليها في مثل هذا الموضع، لا لأن مثل الرازي ذكرها، بل لأن المسلمين أمسوا أقل الناس حذرا من الأعداء حتى أن أكثر بلادهم ذهبت من أيديهم وهم لا يتوبون ولا يذكرون، ولا يتدبرون أمر الله في هذه الآية وما في معناها ولا يمتثلون، ثم إنك إذا ذكرتهم يسلون في وجهك كلمة القدر ومثل الحديثين اللذين ذكرهما الرازي.
أما حديث المقدور كائن الخ فلا أذكر أنني رأيته في كتب المحدثين بهذا اللفظ ولكن روى البيهقي في الشعب والقدر مرفوعا " لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك " وهو ضعيف. وأما الحديث الثاني الذي عبر عنه بقوله :" وقيل أيضا " فقد رواه الحاكم عن عائشة بلفظ " لا يغني حذر من قدر " و صححه وما أراه يصح وتساهل الحاكم في التصحيح معروف، والرازي ليس من رجال الحديث ولكنه رأى بالعقل أنه مخالف للآية أو مضعف من تأثير الأمر فيها، وكيف يقول الله ﴿ خذوا حذركم ﴾ ويقول رسوله أن الحذر لا ينفع لأن العبرة بالقدر الذي لا يتغير.
وإني على استبعادي لصحة الحديث وميلي إلى أنه من وضع المفسدين أفسدوا بأس الأمة بأمثال هذه الأحاديث أقول إنه لا يناقض الآية فإن الله أمرنا بالحذر لندفع عنا شر الأعداء ونحفظ حقيقتنا لا لندفع القدر ونبطله، والقدر عبارة عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده.
ثم فرع على أخذ الحذر ما هو الغاية له والمقصد منه أو المتمم له فقال :﴿ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾ ( النفر ) الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالفزع عن الشيء وإلى الشيء كما قال الراغب ومن الأول ﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ﴾ [ الإسراء : ٤١ ] وهم إنما ينفرون عن القرآن لا إليه ومن الثاني النفر إلى الحرب وفيه آيات. وكانوا إذا استنفروا الناس للحرب يقولون النفير النفير. ( والثبات ) جمع ثبة بضم ففتح وهي الجماعة المنفردة، والمعنى فانفروا جماعة في أثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا وهو الذي يتعين إذا كان الجيش كثيرا أو كان موقع العدو يقتضي ذلك وهو الغالب، أو انفروا كلكم مجتمعين إذا قضت الحال بذلك، أو المعنى : فانفروا سرايا وطوائف على قدر الحاجة أو نفيرا عاما، ويجب هذا إذا دخل العدو أرضنا كما قال الفقهاء.
الأستاذ الإمام : النفر مستعمل في الخروج إلى الحرب ثبات وجماعات، ولا تتقيد الجماعة بعدد معين. وجميعا يراد به جميع المؤمنين على الإطلاق، وهذا على حسب حال العدو. وإن أخذ الحذر ليشمل مع ما تقدم كيفية سوق الجيش وقيادته وهو النفر. ولما كان هذا مما قد يتساهل فيه خصه بالذكر فأمر به بهذا التفصيل ولو لم يصرح به لكان الاجتهاد في أخذ الحذر مما قد يقف دونه فلا يصل إليه، وهو أن النفر على حسب الحاجة إلى مقاومة العدو وهو أن يرسل الجيش جماعات وفرقا كما عليه العمل حتى الآن، فإذا احتيج في المقاومة إلى نفر جميع أفراد الأمة وخروجهم للجهاد وجب، وهو قوله :﴿ أو انفروا جميعا ﴾. وليس المراد أن يكون النفر على كيفيتين الأول أن يقسم الجيش إلى فرق وسرايا والثانية أن يسير خميسا واحدا، ليس هذا هو المراد وإنما المراد الأول.
قال : ويتوقف امتثال هذا الأمر على أن تكون الأمة كلها مستعدة دائما للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرنوا عليها بالعمل فيظهر أن المعافاة من الخدمة العسكرية ليست شرفا بل هي إباحة لترك ما أوجبه الله في كتابه. أقول ويدخل فيه اقتناء السلاح مع العلم بكيفية استعماله والتمرن على الرمي بالمدافع وببندق الرصاص في هذا الزمان، كما كانوا يتمرنون على رمي السهام، وقد قصر المسلمون في هذا وسبقهم إليه من يعيبونهم بأنهم أمة حربية، فصارت أمة السلام بدعواها قدوة لأمة الحرب في الحرب وآلاته. فيجب على الحكومة الإسلامية أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى فيه عالة على غيرها، ويجب على الأمة أن تواتيها وتساعدها عليه، وأن تلزمها إياه إذا هي قصرت فيه.
﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا٧١ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ٧٢ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما٧٣ ﴾.
الأستاذ الإمام : الكلام من أول السورة إلى قوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ في موضوع خاص وهو ما يكون بين الأهل والأقارب والأزواج واليتامى من المعاملات المالية والمصاهرة والإرث. والآيات من قوله :﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى هنا في مطالبة المؤمنين بالإخلاص في العبادة وحسن المعاملة بين الأقربين واليتامى والمساكين والجيران والأصحاب والأرقاء وسائر الناس، وأحكام بعض العبادات وبيان ما فيها من تثبيت النفس على الصدق في المعاملة، ضرب لهم فيها مثل اليهود الذين كان لهم كتاب يهتدون به ونهاهم أن يكونوا مثلهم، وعلمهم كيف يعملون بأمرهم برد الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم ورد ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله. وأكد أمر طاعة الله والرسول وبين حال المنافقين الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت. ولا شك أن المسلمين إذا عملوا بهذه الأحكام صلح حالهم فيما بينهم واستقامت أمورهم وصاروا متحدين متعاونين على الأعمال النافعة وحفظ الجامعة ووثق بعضهم ببعض في التعاون على مصالحهم والدفاع عن حقيقتهم، فالغرض من هذه الوصايا انتظام شمل وصلاح أمورهم الخاصة والعامة.
بعد بيان هذا، أراد الله تعالى أن يوجه المسلمين إلى أمر آخر يلي اجتماعهم على عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وانتظام شؤونهم وصلاح حالهم، وهو ما يتم لهم به الأمن وحسن الحال بالنسبة إلى غيرهم. وذلك أنه كان للمسلمين عند التنزيل أعداء يناصبونهم ويفتنونهم في دينهم، والإنسان لا يتم له نظام في معيشته ولا هناء ولا راحة إلا بالأمنين كليهما الأمن الداخلي والأمن الخارجي، فلما أرشدنا الله إلى ما به أمننا الداخلي أرشدنا إلى ما به أمننا مع الخارجين عنا المخالفين لنا في ديننا، وذلك إما بمعاهدات تكون بيننا وبينهم نطمئن بها على ديننا وأنفسنا ومصالحنا وإما باتقاء شرهم بالقوة، وهذه الآيات في بيان ذلك وهي كثيرة كما يأتي.
أقول كان الأظهر عندي أن يقال إن الله تعالى بين لنا أصل الحكومة الإسلامية في آية الأمانات والعدل، وقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ الخ وكان قد بين لنا في هذه السورة كثيرا من مهمات الأحكام الدينية والشخصية والمدنية ( كما يقال في عرف هذا العصر ) ثم شدد النكير على من يرغب عن حكم غيره من أهل الطغيان، بعد هذا كله شرع يبين لنا بعض الأحكام الحربية والسياسية ويبين لنا الطريق الذي نسير عليه في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول المحكمة الحكيمة من الأعداء الذين يعتدون علينا.
﴿ وإن منكم لمن ليبطئن ﴾ الخطاب لمجموع المؤمنين في الظاهر وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء وهم الأقل. فالمنافقون يرغبون عن الحرب لأنهم لا يحبون بقاء الإسلام وأهله فيدافعوا عنه ويحموا بيضته، فكان هؤلاء يبطئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه، والآخرون يبطئون بأنفسهم فقط. والتبطيء يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء معا، والبطء التأخر عن الانبعاث في السير.
قال الأستاذ : أي يبطئ هو عن السير إبطاء لضعف في إيمانه والإتيان بصيغة التشديد للمبالغة في الفعل وتكراره وليس معناه أن يحمل غيره على البطء، فإن الخطاب للمؤمنين وهذا لا يصدر عن مؤمن. ويقال في اللغة " بطأ " بالتشديد ( لازم ) بمعنى أبطأ وقد شرح الله حال هذا القسم من الضعفاء توبيخا لهم وإزعاجا إلى تطهير نفوسهم وتزكيتها فقال :
﴿ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا ﴾ فشكره لله على عدم شهوده لتلك الحرب دليل على عدم إيمانه
﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا٧١ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ٧٢ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما٧٣ ﴾.
الأستاذ الإمام : الكلام من أول السورة إلى قوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ في موضوع خاص وهو ما يكون بين الأهل والأقارب والأزواج واليتامى من المعاملات المالية والمصاهرة والإرث. والآيات من قوله :﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى هنا في مطالبة المؤمنين بالإخلاص في العبادة وحسن المعاملة بين الأقربين واليتامى والمساكين والجيران والأصحاب والأرقاء وسائر الناس، وأحكام بعض العبادات وبيان ما فيها من تثبيت النفس على الصدق في المعاملة، ضرب لهم فيها مثل اليهود الذين كان لهم كتاب يهتدون به ونهاهم أن يكونوا مثلهم، وعلمهم كيف يعملون بأمرهم برد الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منهم ورد ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله. وأكد أمر طاعة الله والرسول وبين حال المنافقين الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت. ولا شك أن المسلمين إذا عملوا بهذه الأحكام صلح حالهم فيما بينهم واستقامت أمورهم وصاروا متحدين متعاونين على الأعمال النافعة وحفظ الجامعة ووثق بعضهم ببعض في التعاون على مصالحهم والدفاع عن حقيقتهم، فالغرض من هذه الوصايا انتظام شمل وصلاح أمورهم الخاصة والعامة.
بعد بيان هذا، أراد الله تعالى أن يوجه المسلمين إلى أمر آخر يلي اجتماعهم على عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وانتظام شؤونهم وصلاح حالهم، وهو ما يتم لهم به الأمن وحسن الحال بالنسبة إلى غيرهم. وذلك أنه كان للمسلمين عند التنزيل أعداء يناصبونهم ويفتنونهم في دينهم، والإنسان لا يتم له نظام في معيشته ولا هناء ولا راحة إلا بالأمنين كليهما الأمن الداخلي والأمن الخارجي، فلما أرشدنا الله إلى ما به أمننا الداخلي أرشدنا إلى ما به أمننا مع الخارجين عنا المخالفين لنا في ديننا، وذلك إما بمعاهدات تكون بيننا وبينهم نطمئن بها على ديننا وأنفسنا ومصالحنا وإما باتقاء شرهم بالقوة، وهذه الآيات في بيان ذلك وهي كثيرة كما يأتي.
أقول كان الأظهر عندي أن يقال إن الله تعالى بين لنا أصل الحكومة الإسلامية في آية الأمانات والعدل، وقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ الخ وكان قد بين لنا في هذه السورة كثيرا من مهمات الأحكام الدينية والشخصية والمدنية ( كما يقال في عرف هذا العصر ) ثم شدد النكير على من يرغب عن حكم غيره من أهل الطغيان، بعد هذا كله شرع يبين لنا بعض الأحكام الحربية والسياسية ويبين لنا الطريق الذي نسير عليه في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول المحكمة الحكيمة من الأعداء الذين يعتدون علينا.
﴿ ولئن أصابكم فضل من الله ﴾ كالظفر والغنيمة ﴿ ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ﴾ أي ليقولن قول من ليس منكم، ولا جمعته مودة بكم، يا ليتني كنت معهم فأفوز بذلك الفضل فوزهم، فهو قد نسي أنه كان أخا لكم، وكان من شأنه أن يخرج معكم، وما منعه أن يخرج إلا ضعف إيمانه، ثم إن تمنيه بعد الظفر أو الغنيمة لو كان معكم دليل على ضعف عقله وكونه ممن يشرون الحياة الدنيا بالآخرة وهم الذين تشير إليهم الآية التالية.
هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في الآية وهو أحد قولين للمفسرين رجحوه بكون الخطاب للذين آمنوا ثم بقوله :﴿ وإن منكم ﴾ ولم يقل فيكم ربما في معناه من قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ﴾ [ التوبة : ٣٨ ] والقول الثاني أن هؤلاء المبطئين هم المنافقون لأن هذه الصفات لا تكون إلا لهم فإن المؤمن مهما كان ضعيف الإيمان لا يقول هذا القول عند مصيبة المؤمنين ولا يعد من نعم الله عليه أنه لم يكن معهم شهيدا، بل يستحي من الله عز وجل ويلوم نفسه أن أطاعت داعي الجبن ويستغفر ربه من ذلك، ولا يكون شديد الشره والحرص على المشاركة في الفوز والغنيمة. فالآية في المنافقين سواء كان التبطيء فيها لازما بمعنى الإبطاء أو متعديا بمعنى حمل الناس عليه، وقد أسند الله تعالى كلا المعنيين إلى المنافقين في عدة آيات، والظاهر هنا معنى الإبطاء عن الخروج إذ لو بطأ غيره وخرج هو لكان قد شهد الحرب فلا معنى لسروره إذا أصيبوا، ولا لتمنيه لو كان معهم إذا ظفروا، ويصح أن يقال أن من أبطأ يبطئ غيره بإبطائه إذ يكون قدوة رديئة لمثله من منافق أو جبان، ويبطئه أيضا بقوله حتى لا ينفرد بهذا الذنب، فإن الفضيحة والمؤاخذة على المنفرد أشد، وإذا كثر المذنبون يتعسر أو يتعذر عقابهم، ولأجل هذا تتألف العصابات في هذا الزمان للأعمال التي يعاقب عليها الحكام، ولفظ التبطيء يدل على كونه يبطئ غيره بسبب إبطائه، فهو أبلغ من غيره.
هؤلاء الذين اختاروا أن المبطئ هو المنافق قد أجابوا عن جعله من المؤمنين بقوله تعالى لهم :﴿ منكم ﴾ بأنه منهم بالزعم والدعوى أو في الظاهر دون الباطن لأنه كان يعامل معاملة المؤمنين وتجري عليه أحكامهم، وزاد بعضهم وجها ثالثا وهو أنه منهم في الجنس والنسب والاختلاط، وليس بشيء.
يجزم هؤلاء بأن الإيمان ينافي ما ذكر من التبطيء عن القتال من معنييه مع ذينك القولين عند المصيبة، وعند الظفر والغنيمة، فإن من يبطئ ويقول ذلك لا يكون له هم ولا عناية بأمر دينه، وإنما أكبر همه شهواته وربحه من الدين، حتى أنه يعد مصيبة المسلمين نعمة إذا لم يصبه سهم منها. فليحاسب المسلمون في هذا الزمان أنفسهم، ليزنوا بهذه الآيات إيمانهم.
ثم إن قوله تعالى :﴿ كأن لم تكن بينكم وبينهم مودة ﴾ جملة معترضة بين القول ومقوله، وذكر المودة هنا نكرة منفية في سياق التشبيه في أوج البلاغة الأعلى فهي كلمة لا تدرك شأوها كلمة أخرى ولا تنتهي إلى غورها في التأثير. ذلك بأن قائل ذلك القول الذي لا يقوله من كان بينه وبين المؤمنين مودة ما معدود من المؤمنين الذين هم بنص كتاب الله إخوة بعضهم أولياء بعض، وبنص حديث رسول الله تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، وهم كأعضاء الجسم الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا كان هذا مكان كل مؤمن من سائر المؤمنين، فكيف يصدر عن أحد منهم مثل ذلك القول وذلك التمني الذي يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله وفضله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه، وهو لا يعقل أن يصدر عمن كان بينه وبينهم مودة ما ولو قليلة في زمن ما ولو بعيدا. أعني أن قليلا من المودة كان في وقت ما ينبغي أن يمنع عن مثل ذلك التمني. وفي هذا من التقريع والتوبيخ بألطف القول وأرق العبارة ما لا يقدر على مثله بلغاء البشر، ومن فوائده أن يؤثر في نفس من يذوقه التأثير الذي لا يدنوا من مثله النبز بالألقاب والطعن بهجر القول، التأثير الذي يحمل صاحبه على التأمل والتفكر في حقيقة حاله، ومعاتبة نفسه، فإن كان فيه بقية من الرجاء تاب إلى ربه، ورجع كله إلى حقيقة دينه، هذه هي فائدة تلك الجملة المعترضة ويا لله ما أعجب التشبيه فيها ونفي الكون وتنكير المودة، إنك إن تعط ذلك حقه من التأمل، ويؤتك ذوق الكلام قسطه من البلاغة، فقد أوتيت آية من آيات الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوقين، وكشف لك عن سر من أسرار عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا الكتاب المبين.
قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ﴿ كأن لم تكن ﴾ بالتاء، والباقون " يكن " بالياء. ومثل ذلك معروف في التنزيل وكلام العرب فتأنيث الفعل هو الأصل لأن المسند إليه مؤنث، ولكن التأنيث فيه لفظي لا حقيقي ولهذا جاز تذكير الفعل وحسن، ويكثر مثله ولا سيما في حال الفصل أي إذا فصل بين الفعل وفاعله أو اسمه فاصل. ومن الأول قوله :﴿ قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴾ ومن الثاني ﴿ فمن جاءه موعظة من ربه ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ] ذكر الفعل وقد فصل بينه وبين فاعله بالضمير الذي هو المفعول.
﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ٧٤ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا٧٥ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا٧٦ ﴾.
أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من أعداء الدعوة الإسلامية وأهلها بالاستعداد التام للحرب، وبالنفر وكيفية تعبئة الجيش وسوقه، وذكر حال المبطئين عن القتال، وكونها لا تتفق مع ما يجب أن يكون عليه أهل الإيمان، ثم أمر بالقتال المشروع يرغب فيه المؤمنين الذين يؤثرون ما عند الله تعالى في دار الجزاء على الكسب والغنيمة وعلى الفخر بالقوة والغلب فقال :
﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ قال الأستاذ الإمام : بين الله تعالى حال ضعفاء الإيمان الذين يبطؤون عن القتال في سبيله ثم دلهم بهذه الآية على طريق تطهير نفوسهم من ذلك الذنب العظيم ذنب القعود عن القتال ولو عملوا كل صالح وضعفت نفوسهم عن القتال لما كان ذلك مكفرا لخطيئتهم، وسبيل الله هي طريق الحق والانتصار له فمنه إعلاء كلمة الله ونشر دعوة الإسلام، ومنه دفاع الأعداء إذا هددوا أمتنا، أو أغاروا على أرضنا، أو نهبوا أموالنا، أو صادرونا في تجارتنا، وصدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس. فسبيل الله عبارة عن تأييد الحق الذي قرره ويدخل فيه كل ما ذكرناه. ويشرون بمعنى يبيعون قولا واحدا بلا احتمال، واستعمال القرآن فيه مطرد ففي سورة يوسف :﴿ وشروه بثمن بخس ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] أي باعوه وقال تعالى :﴿ ولبئسما شروا به أنفسهم ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] أي باعوها وقال :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ﴾ [ البقرة : ٢٠٧ ] أي يبيعها، والباء في صيغة البيع تدخل على الثمن دائما، فالمعنى أن من أراد أن يبيع الحياة الدنيا ويبذلها ويجعل الآخرة ثمنا لها وبدلا عنها فليقاتل في سبيل الله.
أقول إن المفسرين ذكروا في ( يشرون ) وجهين :{ أحدهما : أنه بمعنى البيع كما اختار الأستاذ الإمام والثاني : أنه بمعنى الابتياع الذي يطلق عليه في عرفنا الآن الشراء. وقد قال المفسرون أن شرى يشري يستعمل بمعنى باع وبمعنى ابتاع وأن اللفظ في الآية يحتمل المعنيين فإن أريد به البيع فهو للمؤمنين الصادقين الكاملين وإن أريد به الابتياع فهو لأولئك المبطئين ليتوبوا. وذهب الراغب إلى أن الشراء والبيع إنما يستعملان بمعنى واحد في التعبير عن استبدال سلعة بسلعة دون استبدال سلعة بدراهم. والقرآن استعمل لفظ شرى يشري بمعنى باع يبيع، واشترى يشتري بمعنى ابتاع يبتاع، فهذا هو الصحيح أو الفصيح وإن ورد عن أهل اللغة ( شريت بردا ) بمعنى اشتريته في الشعر بدون ذكر الثمن. وقد يذكر الثمن أو البدل وقد يسكت عنه وهو ما تدخل عليه الباء دائما سواء استعمل الشراء والبيع في الحسيات أو المعنويات.
﴿ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ أي ومتى كان القتال في سبيل الله لا لأجل الحمية والحظوظ الدنيوية فكل من قتل بظفر عدوه به ففاته الانتفاع بالقتال في الدنيا فإن الله تعالى يعطيه في الآخرة أجرا عظيما بدلا مما فاته. وهو إذا ظفر وغلب عدوه لا يفوته ذلك الأجر لأنه إنما ناله بكون قتاله في سبيل الله وهي سبيل الحق والعدل والخير لا في سبيل الهوى والطمع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أقول : وفي هذه الآيات من العبرة أن القتال الديني أشرف من القتال المدني لأن القتال الديني في حكم الإسلام يقصد به الحق والعدل وحرية الدين وهي المراد بقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] أي حتى لا يفتن أحد عن دينه ويكره على تركه ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] وقال في وصف من أذن لهم بالقتال بعد ما بين إلجاء الضرورة إليه ﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ﴾ [ الحج : ٤١ ] وتقدم شرح ذلك مرارا. وأما القتال المدني فإنما يقصد به الملك والعظمة، وتحكم الغالب القوي في المغلوب الضعيف، وإنما يذم أهل المدنية الحرب الدينية، لأنهم أولوا قوة وأولوا بأس شديد في الحروب المدنية، ولهم طمع في بلاد ليس مثلها تلك القوة، وإنما لها بقية من قوة العقيدة، فهم يريدون القضاء على هذه البقية ويتهمونها باطلا بهذه التهمة.
ومنها أن هذه الآيات وسائر ما ورد في القتال في السور المتعددة تدل إذا عرضت عليها أعمال المسلمين، على أن الحرب التي يوجبها الدين، ويشترط لها الشروط ويحدد لها الحدود، قد تركها المسلمون من قرون طويلة. ولو وجدت في الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد كل ما يستطاع من قوة واستعداد للحرب حتى تكون أقوى دولة حربية ثم إنها مع ذلك تتجنب الاعتداء فلا تبدأ غيرها بقتال بمحض الظلم والعدوان، بل تقف عند تلك الحدود العادلة في الهجوم والدفاع، لو وجدت هذه الحكومة لاتخذها أهل المدنية الصحيحة قدوة صالحة لهم، ولكن صار بعض الأمم التي لا تدين بالقرآن أقرب إلى أحكامه في ذلك ممن يدعون اتباعه، وإنما الغلبة والعزة لمن يكون أقرب إلى هداية القرآن بالفعل، على من يكون أبعد عنها وإن انتسب إليه بالقول.

﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ﴾ التفات إلى الخطاب لزيادة الحث على القتال الذي لا بد منه لكونه في سبيل الحق، أي وماذا ثبت لكم من الأعذار في حال ترك القتال حتى تتركوه ؟ أي لا عذر لكم ولا مانع يمنعكم أن تقاتلوا في سبيل الله، لإقامة التوحيد مقام الشرك، وإحلال الخير محل الشر، ووضع العدل والرحمة، في موضع الظلم والقسوة :﴿ والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾ أي وفي سبيل المستضعفين، أو وأخص من سبيل الله إنقاذ المستضعفين، من ظلم الأقوياء الجبارين، وهم إخوانكم في الدين، وقد استذلهم أهل مكة ونالوا منهم بالعذاب والقهر، ومنعوهم من الهجرة ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم في ملتهم.
قال الأستاذ الإمام : الخطاب لضعفاء الإيمان من المسلمين، لا للمنافقين، والمستضعفون هم المؤمنون المحصورون في مكة يضطهدهم المشركون ويظلمونهم وقد جعل لهم سبيلا خاصا عطفه على سبيل الله مع أنه داخل فيه كما علم من تفسيرنا له، والنكتة فيه إثارة النخوة، وهز الأريحية الطبيعية، وإيقاظ شعور الأنفة والرحمة، ولذلك مثل حالهم، بما يدعو إلى نصرتهم، فقال :﴿ الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ أقول بين أنهم فقدوا من قومهم لأجل دينهم كل عون ونصير، وحرموا كل مغيث وظهير، فهم لتقطع أسباب الرجاء بهم، يستغيثون ربهم، ويدعونه ليفرج كربهم، ويخرجهم من تلك القرية وهي وطنهم، لظلم أهلها لهم، ويسخر لهم بعنايته الخاصة من يتولى أمرهم، وينصرهم على من ظلمهم، ليهاجروا إليكم، ويتصلوا بكم، فإن رابطة الإيمان، أقوى من روابط الأنساب والأوطان، ( وإن جهل ذلك في هذا الزمان من لا حظ لهم من الإسلام ) فليكن كل منكم وليا لهم ونصيرا. وقد بينا بعض ما كان عليه مشركوا مكة من ظلم المسلمين وتعذيبهم، ليردوهم عن دينهم، في تفسير ﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] من سورة البقرة حتى كان ذلك سبب الهجرة وما كل أحد قدر على الهجرة فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحبه ( صلى الله عليه وسلم ) هاجرا ليلا ولو ظفروا بهما لقتلوهما إن استطاعوا وكانوا يصدون سائر المسلمين عن الهجرة، ويعذبون مريدها عذابا نكرا، وما كان سبب شرع القتال إلا عدم حرية الدين، وظلم المشركين للمسلمين، ومع هذا كله، وما أفاضت به الآيات من بيانه، يقول الجاهلون والمتجاهلون : إن الإسلام نشر بالسيف والقوة، فأين كانت القوة من أولئك المستضعفين ؟.
القتال في نفسه أمر قبيح ولا يجيز العقل السليم ارتكاب القبيح إلا لإزالة شر أقبح منه، والأمور بمقاصدها وغاياتها، ولذلك بين القرآن في عدة مواضع حكمة القتال وكونه للضرورة وإزالة المفسدة، وإدالة المصلحة، ولم يكتف هنا ببيان ما في هذه الآية من كون القتال المأمور به مقيدا في سبيل الله وهي سبيل الحق والعدل، وإنقاذ المستضعفين المظلومين من الظلم، حتى أكده بإعادة ذكره، مع مقابلته بضده، وهو ما يقاتل الكفار لأجله، فقال :﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾.
ومن مباحث اللفظ في الآية الثانية تذكير صفة اللفظ المؤنث في قوله :﴿ القرية الظالم أهلها ﴾ لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا أجري على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه، فالظالم أهلها هنا كقولك التي يظلم أهلها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أقول : وفي هذه الآيات من العبرة أن القتال الديني أشرف من القتال المدني لأن القتال الديني في حكم الإسلام يقصد به الحق والعدل وحرية الدين وهي المراد بقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] أي حتى لا يفتن أحد عن دينه ويكره على تركه ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] وقال في وصف من أذن لهم بالقتال بعد ما بين إلجاء الضرورة إليه ﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ﴾ [ الحج : ٤١ ] وتقدم شرح ذلك مرارا. وأما القتال المدني فإنما يقصد به الملك والعظمة، وتحكم الغالب القوي في المغلوب الضعيف، وإنما يذم أهل المدنية الحرب الدينية، لأنهم أولوا قوة وأولوا بأس شديد في الحروب المدنية، ولهم طمع في بلاد ليس مثلها تلك القوة، وإنما لها بقية من قوة العقيدة، فهم يريدون القضاء على هذه البقية ويتهمونها باطلا بهذه التهمة.
ومنها أن هذه الآيات وسائر ما ورد في القتال في السور المتعددة تدل إذا عرضت عليها أعمال المسلمين، على أن الحرب التي يوجبها الدين، ويشترط لها الشروط ويحدد لها الحدود، قد تركها المسلمون من قرون طويلة. ولو وجدت في الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد كل ما يستطاع من قوة واستعداد للحرب حتى تكون أقوى دولة حربية ثم إنها مع ذلك تتجنب الاعتداء فلا تبدأ غيرها بقتال بمحض الظلم والعدوان، بل تقف عند تلك الحدود العادلة في الهجوم والدفاع، لو وجدت هذه الحكومة لاتخذها أهل المدنية الصحيحة قدوة صالحة لهم، ولكن صار بعض الأمم التي لا تدين بالقرآن أقرب إلى أحكامه في ذلك ممن يدعون اتباعه، وإنما الغلبة والعزة لمن يكون أقرب إلى هداية القرآن بالفعل، على من يكون أبعد عنها وإن انتسب إليه بالقول.

﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾ تقدم أن الطاغوت من المبالغة في الطغيان وهو مجاوزة حدود الحق والعدل والخير، إلى الباطل والظلم والشر، فلو ترك المؤمنون القتال والكافرون لا يتركونه لغلب الطاغوت وعم، ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] فغلبت الوثنية المفسدة للعقول والأخلاق، وعم الظلم بعموم الاستبداد :﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان ﴾ فأنتم أيها المؤمنون أولياء الرحمن :﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾ وإنه يزين لأصحابه الباطل والظلم والشر، وإهلاك الحرث والنسل، فيوهمهم بوسوسته أنها خير لهم، وفيها عزهم وشرفهم، وهذا هو الكيد والخداع.
ومن سنن الله في تعارض الحق والباطل، أن الحق يعلو والباطل يسفل، وفي مصارعة المصالح والمفاسد بقاء الأصلح، ورجحان الأمثل، فالذين يقاتلون في سبيل الله يطلبون شيئا ثابتا صالحا تقتضيه طبيعة العمران فسنن الوجود مؤيدة لهم، والذين يقاتلون في سبيل الشيطان يطلبون الانتقام، والاستعلاء في الأرض بغير حق، وتسخير الناس لشهواتهم ولذاتهم وهي أمور تأباها فطرة البشر السليمة، وسنن العمران القويمة، فلا قوة ولا بقاء لها، إلا بتركها وشأنها، وإرخاء العنان لأهلها، وإنما بقاء الباطل في نومة الحق عنه، وثم معنى آخر.
قال الأستاذ الإمام : هذه الآية جواب عما عساه يطوف بخواطر أولئك الضعفاء، وهو أننا لا نقاتل لأننا ضعفاء والأعداء أكثر منا عددا، وأقوى منا عددا، فدلهم الله تعالى على قوة المؤمنين التي لا تعادلها قوة، وضعف الأعداء الذي لا يفيد معه كيد ولا حيلة، وهو أن المؤمنين يقاتلون في سبيل الله وهو تأييد الحق الذي يوقن به صاحبه وصاحب اليقين والمقاصد الصحيحة الفاضلة تتوجه نفسه بكل قواها إلى إتمام الاستعداد، ويكون أجدر بالصبر والثبات، وفي ذلك من القوة ما ليس في كثرة العدد والعدد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:أقول : وفي هذه الآيات من العبرة أن القتال الديني أشرف من القتال المدني لأن القتال الديني في حكم الإسلام يقصد به الحق والعدل وحرية الدين وهي المراد بقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] أي حتى لا يفتن أحد عن دينه ويكره على تركه ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] وقال في وصف من أذن لهم بالقتال بعد ما بين إلجاء الضرورة إليه ﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ﴾ [ الحج : ٤١ ] وتقدم شرح ذلك مرارا. وأما القتال المدني فإنما يقصد به الملك والعظمة، وتحكم الغالب القوي في المغلوب الضعيف، وإنما يذم أهل المدنية الحرب الدينية، لأنهم أولوا قوة وأولوا بأس شديد في الحروب المدنية، ولهم طمع في بلاد ليس مثلها تلك القوة، وإنما لها بقية من قوة العقيدة، فهم يريدون القضاء على هذه البقية ويتهمونها باطلا بهذه التهمة.
ومنها أن هذه الآيات وسائر ما ورد في القتال في السور المتعددة تدل إذا عرضت عليها أعمال المسلمين، على أن الحرب التي يوجبها الدين، ويشترط لها الشروط ويحدد لها الحدود، قد تركها المسلمون من قرون طويلة. ولو وجدت في الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد كل ما يستطاع من قوة واستعداد للحرب حتى تكون أقوى دولة حربية ثم إنها مع ذلك تتجنب الاعتداء فلا تبدأ غيرها بقتال بمحض الظلم والعدوان، بل تقف عند تلك الحدود العادلة في الهجوم والدفاع، لو وجدت هذه الحكومة لاتخذها أهل المدنية الصحيحة قدوة صالحة لهم، ولكن صار بعض الأمم التي لا تدين بالقرآن أقرب إلى أحكامه في ذلك ممن يدعون اتباعه، وإنما الغلبة والعزة لمن يكون أقرب إلى هداية القرآن بالفعل، على من يكون أبعد عنها وإن انتسب إليه بالقول.

﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ٧٧ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا٧٨ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا٧٩ ﴾.
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة. فقال :( أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ) فلما حوله الله إلى المدينة أمرهم بالقتال فكفوا، فأنزل الله :﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ﴾ الآية١ ذكره السيوطي في لباب النقول. ورواه ابن جرير في تفسيره وعنده روايات أخرى أنها في أناس من الصحابة على الإبهام.
قال الأستاذ الإمام : إنني أجزم ببطلان هذه الرواية مهما كان سندها لأنني أبرئ السابقين الأولين كسعد وعبد الرحمن مما رموا به، وهذه الآية متصلة بما قبلها فإن الله تعالى أمر بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له وذكر حال المبطئين لضعف قلوبهم وأمرهم بما أمرهم من القتال في سبيله وإنقاذ المستضعفين، ثم ذكر بعد ذلك شأنا آخر من شؤونهم وذلك أن المسلمين كانوا قبل الإسلام في تخاصم وتلاحم وحروب مسحرة مستمرة ولا سيما الأوس والخزرج فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بالإسلام وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. أمرهم الإسلام بالسلم وتهذيب النفوس بالعبادة والكف عن الاعتداء والقتال إلى أن اشتدت الحاجة إليه ففرضه عليهم فكرهه الضعفاء منهم.
قال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ الاستفهام للتعجب منهم إذ أمرهم الله تعالى باحترام الدماء، وكف الأيدي عن الاعتداء، وبإقامة الصلاة، وبالخشوع والعبودية لله، وتمكين الإيمان في قلوبهم، وبإيتاء الزكاة التي تفيد مع تمكين الإيمان أشد أواخي التراحم بينهم، فأحبوا أن يكتب الله عليهم القتال ليجروا على ما تعودوا، فلما كتبه عليهم للدفاع عن بيضتهم، وحماية حقيقتهم، كرهه الضعفاء منهم، وكان عليهم أن يفقهوا من الأمر بكف الأيدي أن الله تعالى لا يحب سفك الدماء، وأنه ما كتب القتال إلا لضرورة دفاع المبطلين المغيرين على الحق وأهله لأنهم خالفوا أباطيلهم، واتبعوا الحق من ربهم، فيريدون أن ينكلوا بهم، أو يرجعوا عن حقهم، فأين محل الاستنكار، في مثل هذه الحال ؟ وهؤلاء هم ضعفاء المسلمين الذين ذكر أنهم يبطئون عن القتال ولذلك قال :﴿ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾ و " أو " هنا بمعنى " بل " أي إنهم يخشون الناس بالقعود عن قتالهم على ما فيه من مخالفة أمر الله تعالى، ولما كان من شأن الذي يساوي بين اثنين في الخشية أن يميل إلى هذا تارة وإلى الآخر تارة، وكان هؤلاء قد رجحوا بترك القتال خشية الناس مطلقا قال :" أو أشد خشية " أي بل أشد خشية.
أقول : استنكر الأستاذ نزول الآية في بعض كبار الصحابة المشهود لهم بالجنة وما استحقوها إلا بقوة الإيمان، والعمل والإذعان، وجعلها في المبطئين على الوجه الذي اختاره فيهم وهو أنهم ضعاف الإيمان ( والوجه الآخر أنهم المنافقون كما تقدم ) فكيف تصدق رواية تجعل عبد الرحمن بن عوف منهم ؟ ؟.
وقد روى ابن جرير عن أبي نجيح عن مجاهد أنها نزلت هي وآيات بعدها في اليهود، وروي عن ابن عباس في ذلك أنه قال في قوله تعالى :﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ﴾ : نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم اه أي أن يكونوا مثل اليهود في ذلك. وإذا صح هذا فالمراد به والله أعلم الاعتبار بما جاء في سورة البقرة من قوله :﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل ﴾ إلى قوله ﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ﴾ [ البقرة : ٢٤٦ ].
والظاهر أن الآية في جماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء، ولا شك أن الإسلام كلفهم مخالفة عادتهم في الغزو والقتال لأجل الثأر، ولأجل الحمية والكسب، وأمرهم بكف أيديهم عن الاعتداء، وأمرهم بالصلاة والزكاة، وناهيك بما فيهما من الرحمة والعطف، حتى خمدت من نفوس أكثرهم تلك الحمية الجاهلية، وحل محلها أشرف العواطف الإنسانية، وكان منهم من يتمنى لو يفرض عليهم القتال، ولا يبعد أن يكون عبد الرحمن بن عوف وبعض السابقين رأوا تركه ذلا وطلبوا الأذن به، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا هم الذين أنكروه بعد ذلك خشية من الناس بل ذلك فريق آخر من غير الصادقين، على أنه لما فرض عليهم القتال لما تقدم ذكره من الحكم والأسباب كان كرها لجمهور المسلمين كما سبق بيان ذلك في تفسير ﴿ كتب عليهم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] ولكن أهل العزم واليقين أطاعوا وباعوا أنفسهم لله عز وجل فكان الفرق بين قتالهم في الجاهلية وقتالهم في الإسلام عظيما.
وأما المنافقون ومرضى القلوب فكانوا قد أنسوا وسكنوا إلى ما جاء به الإسلام من ترك القتال وكف الأيدي فنال منهم الجبن، وأحبوا الحياة الدنيا، وكرهوا الموت لأجلها، وليس هذا من شأن الإيمان الراسخ، فظهر عليهم أثر الخشية والخوف من الأعداء حتى رجحوه على الخشية من الله عز وجل وسهل عليهم مخالفته بالقعود عن القتال وهو يقول :﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] واستنكروا فرض القتال وأحبوا لو تأخر إلى أجل.
﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾ أي هلا أخرتنا إلى أن نموت حتف أنوفنا بأجلنا القريب، هكذا فسره ابن جريج، وقال غيره المراد بالأجل القريب الزمن الذي يقوون فيه ويستعدون للقتال بمثل ما عند أعدائهم، ويحتمل أن لا يكونوا قصدوا أجلا معينا معلوما. وإنما ذكروا ذلك لمحض الهرب والتفضي من القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا في أمر : أمهلني قليلا، أنظرني إلى أجل قريب، وقد أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرد عليهم بقوله :
﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾ أي إن علة استنكارهم للقتال وطلبكم الإنظار فيه إنما هي خشية الموت والرغبة في متاع الدنيا ولذاتها وكل ما يتمتع به في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة لأنه محدود وفان :﴿ والآخرة خير لمن اتقى ﴾ لأن متاعها كثير وباق لا نفاد له ولا زوال، وإنما يناله من اتقى الأسباب التي تدنس النفس بالشرك وبالأخلاق الذميمة كالجبن والقعود عن نصر الحق على الباطل، والخير على الشر، وإذا كانت الآخرة خيرا للمتقين، فهي شر ووبال على المجرمين، فحاسبوا أنفسكم، واعلموا أنكم مجزيون هنالك على أعمالكم ﴿ ولا تظلمون فتيلا ﴾ أي ولا تنقصون من الجزاء الذي تستحقونه بأثر أعمالكم في أنفسكم مقدار فتيل، وهو ما يكون في شق نواة التمرة مثل الخيط أو ما يفتل بالأصابع من الوسخ على الجلد أو من الخيوط، يضرب هذا مثلا في القلة والحقارة. وقيل لا تنقصون أدنى شيء من آجالكم، قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " يظلمون " على الغيبة لتقدمها الباقون " تظلمون " بالخطاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تقدم القول : بأن هذه الآيات كلها من قوله ﴿ ألم تر ﴾ إلى هنا نزلت في اليهود، والقول بأن الذي نزل فيهم هو قوله ﴿ وإن تصبهم حسنة ﴾ وما بعده إلى هنا. كان يقول هذا يهود المدينة بعد أن هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليها. وقيل إنها نزلت في المنافقين وهو يؤيد كون السياق فيهم، وفي مرضى القلوب الذين على مقربة منهم، لا في ضعفاء الإيمان خاصة كما اختار الأستاذ الإمام، وله رحمه الله تعالى مقال في تفسير هاتين الآيتين وكان قد سئل عنهما فأجاب ونشرنا جوابه في المجلد الثالث من المنار ( ص١٥٧ )، ويحسن أن نضعه ههنا فهو موضعه وهو :
" كان بعض القوم بطرا جاهلا إذا أصابه خير ونعمة يقول إن الله تعالى قد أكرمه بما أعطاه من ذلك وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه به لعلو منزلته وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات والشرور. فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه مصدرها الأول ومنبعها الحقيقي كذلك وأن شؤمه هو الذي رماهم بها وهذا هو معنى ﴿ من عند الله ﴾ أو " من عندك " أي من لدنه ومن خزائن عطائه ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس. فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله ﴿ قل كل من عند الله ﴾ أي أن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم إنما هو الله وحده وليس ليمن ولا لشؤم مدخل في ذلك فهو بيان للفاعل الأول الذي يرد إليه الفعل فيما لا تتناوله قدرة البشر ولا يقع عليه كسبهم وهو الذي كان يعنيه أولئك المشاقون عندما يقولون الحسنة من الله والسيئة من محمد في أنه لا دخل لاختيارهم في الأولى ولا في الثانية وأن الأولى من عناية الله بهم والثانية من شؤم محمد، عليهم فجاءت الآية ترميهم بالجهل فيما زعموا، ولو عقلوا لعلموا أن ليس لأحد فيما وراء الأسباب المعروفة فعل، الخير والشر في ذلك سواء.
" هذا فيما يتعلق بمن بيده الأمر الأعلى في الخير والشر والنعم والنقم. أما ما يتعلق بسنة الله في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك فالأمر على خلاف ما يزعمون كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في توفير أسباب سعادتنا والبعد عن مساقط الشقاء، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب فيما وهبت لأجله وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير، وذلك إنما يكون بتصحيح الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه وفهم شرائع الله حق الفهم والتزام ما حدده فيها، فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة، ونبعد عن الشقاء والتعاسة، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى فما أصابك من حسنة فمن الله لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها الحسنات بل واستعمالك لتلك القوى إنما هو من الله لأنك لم تأت بشيء سوى استعمال ما وهب الله فاتصال الحسنة بالله ظاهر، ولا يفصلها عنه فاصل ولا ظاهر ولا باطن.
وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا، وفرطنا في النظر في شؤوننا، وأهملنا العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه، وغفلنا عن فهمه، فاتبعنا الهوى في أفعالنا، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا، كان ما أصابنا من ذلك صادرا عن سوء اختيارنا، وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاء على ما فرطنا، ولا يجوز لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه. ونسبة الشر والسيئات إلينا في هذه الحالة ظاهرة الصحة فأما المواهب الإلهية بطبيعتها فهي متصلة بالخير والحسنات وإنما يبطل أثرها إهمالها، أو سوء استعمالها، وعن كلا الأمرين يساق الشر إلى أهله وهما من كسب المهملين وسيء الاستعمال فحق أن ينسب إليهم ما أصيبوا به وهم الكاسبون لسببه فقد حالوا بكسبهم بين القوى التي غرزها الله فيهم لتؤدي إلى الخير والسعادة وبين ما حقها أن تؤدي إليه من ذلك وبعدوا بها عن حكمة الله فيها وصاروا بها إلى ضد ما خلقت لأجله، فكل ما يحدث بسبب هذا الكسب الجديد فأجدر به أن لا ينسب إلا إلى كاسبه.
" وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظر إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال أن سواه يقدر على ذلك ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلاما لأن نسبة الخير إلى الله ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل فإن الذي يأتي بالخير ويقدر على سوقه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه فالتفريق ضرب من الخبل في العقل.
" وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا سعداء ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي من الله عليه بها فعليه أن يحمد الله ويشكره على ما آتاه، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا نفسه فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب وليس بسائغ له أن ينسب شيئا من ذلك إلى النبي ولا إلى غيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ولم يقهره على إتيان ما كان سببا في الانتقام منه.
" فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك ( يا محمد ) على ما ينالون من خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله وفي التزامها سعادتهم. ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته لأن الكل من عنده وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ويسلب نعمته عمن أساءه.
" وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وإن عصيانه من مجالب النقم، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله.
" ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب فإنك لو كنت فقيرا وأعطاك والدك مثلا رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد في الإنفاق وصرت بذلك غنيا فإنه يحق لك أن تقول إن غناك إنما كان من ذلك الذي أعطاك رأس المال وأعدّك به للغنى. أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك منك فاسترد ما بقي منه وحرمك نعمة التمتع به فلا ريب أن يقال أن سبب ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد وهو والدك غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يحب لأن تحويل الوسائل عن الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه.
" وهناك للآية معنى أدق، ويشعر به ذو وجدان أرق، مما يجده الغافلون من سائر الخلق، وهو أن ما وجدت من فرح ومسرة وما تمتعت به من لذة حسية أو عقلية فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدا بما وهبك. أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة وأخذته كما هو وعلى ما هو عليه لكانت المصائب لديك منزلة التوابل الحريفة يضيفها طاهيك على ما يهيئ لك من طعام لتزيد حسن طعم وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة، واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده والتعرض لنعمه، والتحول عن مصاب نقمة، فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة التأديب، ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته، ولا تلتزم طريقته، فكما يسر طالب الأدب أن يتحمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه، يسره كذلك أن يرتقي فوق المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعا بما حصل، بالغا ما أمل، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي " اهـ.


١ أخرجه النسائي في الجهاد باب١..
ثم جاء بما يذهب بأعذارهم، وينفخ روح الشجاعة والإقدام في المستعدين منهم، فقال :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾. أي أن الموت حتم لا مفر منه ولا مهرب فهو لا بد أن يدرككم في أي مكان كنتم ولو تحصنتم منه في البروج المشيدة، وهي القصور العالية التي يسكنها الملوك والأمراء فيعز الارتقاء إليها بدون إذنهم، أو الحصون المنيعة التي تعتصم فيها حامية الجند. شيد البناء يشيده علاه وأحكم بناءه، وأصله أن يبنيه بالشيد وهو بالكسر كل ما يطلي به الحائط كالجص والبلاط، يقال شاد البناء إذا جصصه، قال في اللسان : وكل ما أحكم من البناء فقد شيد وتشييد البناء إحكامه ورفعه. أي لأن في التفعيل معنى من المبالغة والكثرة في الشيء، وأجاز الراغب أن يكون المراد بالبروج بروج النجم ويكون استعمال لفظ المشيدة فيها على سبيل الاستعارة وتكون الإشارة بالمعنى إلى نحو ما قال زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو نال أسباب السماء بسلم١
وإذا كان الموت لا مفر منه ولا عاصم، وكان المرء يخوض معامع القتال فيصاب ولا يموت، ويخاطر بنفسه فيها أحيانا فلا يصاب بجرح ولا يقتل، وقد يموت المعتصم في البروج والحصون اغتضارا٢، وإذا كان الإقدام على القتال هو أقوى أسباب النجاة من القتل لأن الجبناء يغرون أعداءهم بأنفسهم بعدم دفاعهم عنها، وإذا كان الاستعداد للقتال والإقدام فيه لأجل الدفاع عن الحق وحماية الحقيقة ومنع الباطل أن يسود والشر أن يفشو موجبا لمرضاة الله ولسعادة الآخرة، فما هو عذركم أيها القاعدون المبطئون ؟.
وطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
فلماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم، وهذا ليس من شأن العقلاء والمؤمنين ؟.
كان من مرض قلوب هؤلاء أن كرهوا القتال وجبنوا عنه وخافوا الناس وتمنوا بذلك طول البقاء، فكان هذا صدعا في دينهم وعقولهم قامت به عليهم الحجة. ثم ذكر شأنا آخر من شؤونهم يشبهه في الدلالة على مرض القلب والعقل فقال :
﴿ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ﴾ الحسنة ما يحسن عند صاحبه كالرخاء والخصب والظفر والغنيمة، كانوا يضيفون الحسنة إلى الله تعالى لا بشعور التوحيد الخالص بل غرورا بأنفسهم، وزعما منهم أن الله أكرمهم بها عناية بهم، وهروبا من الإقرار بأن شيئا من ذلك أثر ما جاءهم به الرسول من الهداية، وما حاطهم به من التربية والرعاية، ولذلك كانوا ينسبون إليه السيئة وهو صلى الله عليه وسلم بريء من أسبابها، دع إيجادها وإيقاعها، وذلك قولهم :﴿ وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ﴾ والسيئة ما يسوء صاحبه كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل، كان المنافقون والكفار من اليهود وغيرهم إذا أصاب الناس في المدينة سيئة بعد الهجرة يقولون هذا من شؤم محمد ﴿ قل كل من عند الله ﴾ قل أيها الرسول إن كلا من الحسنة والسيئة من عند الله لوقوعها في ملكه على حسب سننه في نظام الأسباب والمسببات.
﴿ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾ أي فما بال هؤلاء القوم وماذا أصاب عقولهم حال كونها بمعزل عن الغوص في أعماق الحديث وفهم مقاصده وأسراره فهم لا يعقلون حقيقة حديث يلقونه ولا حقيقة حديث يلقى إليهم قط وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى على ظاهر اللفظ بادي الرأي، والفقه معرفة مراد صاحب الحديث من قوله وحكمته فيه من العلة الباعثة عليه والغائبة له. وإذا كانوا قد فقدوا هذا الفقه وحرموه من كل حديث، فأجدر بهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن وحي ربه في حقيقة التوحيد ونظام الاجتماع وسنن الله في الأسباب والمسببات، فهذه المعارف العالية لا تنال إلا بفضل الروية وذكاء العقل وطول التدبر، ومن نالها لا يقول بأن سيئة تقع بشؤم أحد، وإنما يسند كل شيء إلى السبب، أو إلى واضع الأسباب والسنن، ولكل مقام مقال.
وفيه أنه يجب على العاقل الرشيد أن يطلب فقه القول دون الظواهر الحرفية، فمن اعتاد الأخذ بما يطفو من هذه الظواهر دون ما رسب في أعماق الكلام وما تغلغل في أنحائه وأحنائه يبقى جاهلا غبيا طول عمره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تقدم القول : بأن هذه الآيات كلها من قوله ﴿ ألم تر ﴾ إلى هنا نزلت في اليهود، والقول بأن الذي نزل فيهم هو قوله ﴿ وإن تصبهم حسنة ﴾ وما بعده إلى هنا. كان يقول هذا يهود المدينة بعد أن هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليها. وقيل إنها نزلت في المنافقين وهو يؤيد كون السياق فيهم، وفي مرضى القلوب الذين على مقربة منهم، لا في ضعفاء الإيمان خاصة كما اختار الأستاذ الإمام، وله رحمه الله تعالى مقال في تفسير هاتين الآيتين وكان قد سئل عنهما فأجاب ونشرنا جوابه في المجلد الثالث من المنار ( ص١٥٧ )، ويحسن أن نضعه ههنا فهو موضعه وهو :
" كان بعض القوم بطرا جاهلا إذا أصابه خير ونعمة يقول إن الله تعالى قد أكرمه بما أعطاه من ذلك وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه به لعلو منزلته وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات والشرور. فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه مصدرها الأول ومنبعها الحقيقي كذلك وأن شؤمه هو الذي رماهم بها وهذا هو معنى ﴿ من عند الله ﴾ أو " من عندك " أي من لدنه ومن خزائن عطائه ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس. فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله ﴿ قل كل من عند الله ﴾ أي أن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم إنما هو الله وحده وليس ليمن ولا لشؤم مدخل في ذلك فهو بيان للفاعل الأول الذي يرد إليه الفعل فيما لا تتناوله قدرة البشر ولا يقع عليه كسبهم وهو الذي كان يعنيه أولئك المشاقون عندما يقولون الحسنة من الله والسيئة من محمد في أنه لا دخل لاختيارهم في الأولى ولا في الثانية وأن الأولى من عناية الله بهم والثانية من شؤم محمد، عليهم فجاءت الآية ترميهم بالجهل فيما زعموا، ولو عقلوا لعلموا أن ليس لأحد فيما وراء الأسباب المعروفة فعل، الخير والشر في ذلك سواء.
" هذا فيما يتعلق بمن بيده الأمر الأعلى في الخير والشر والنعم والنقم. أما ما يتعلق بسنة الله في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك فالأمر على خلاف ما يزعمون كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في توفير أسباب سعادتنا والبعد عن مساقط الشقاء، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب فيما وهبت لأجله وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير، وذلك إنما يكون بتصحيح الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه وفهم شرائع الله حق الفهم والتزام ما حدده فيها، فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة، ونبعد عن الشقاء والتعاسة، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى فما أصابك من حسنة فمن الله لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها الحسنات بل واستعمالك لتلك القوى إنما هو من الله لأنك لم تأت بشيء سوى استعمال ما وهب الله فاتصال الحسنة بالله ظاهر، ولا يفصلها عنه فاصل ولا ظاهر ولا باطن.
وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا، وفرطنا في النظر في شؤوننا، وأهملنا العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه، وغفلنا عن فهمه، فاتبعنا الهوى في أفعالنا، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا، كان ما أصابنا من ذلك صادرا عن سوء اختيارنا، وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاء على ما فرطنا، ولا يجوز لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه. ونسبة الشر والسيئات إلينا في هذه الحالة ظاهرة الصحة فأما المواهب الإلهية بطبيعتها فهي متصلة بالخير والحسنات وإنما يبطل أثرها إهمالها، أو سوء استعمالها، وعن كلا الأمرين يساق الشر إلى أهله وهما من كسب المهملين وسيء الاستعمال فحق أن ينسب إليهم ما أصيبوا به وهم الكاسبون لسببه فقد حالوا بكسبهم بين القوى التي غرزها الله فيهم لتؤدي إلى الخير والسعادة وبين ما حقها أن تؤدي إليه من ذلك وبعدوا بها عن حكمة الله فيها وصاروا بها إلى ضد ما خلقت لأجله، فكل ما يحدث بسبب هذا الكسب الجديد فأجدر به أن لا ينسب إلا إلى كاسبه.
" وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظر إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال أن سواه يقدر على ذلك ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلاما لأن نسبة الخير إلى الله ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل فإن الذي يأتي بالخير ويقدر على سوقه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه فالتفريق ضرب من الخبل في العقل.
" وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا سعداء ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي من الله عليه بها فعليه أن يحمد الله ويشكره على ما آتاه، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا نفسه فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب وليس بسائغ له أن ينسب شيئا من ذلك إلى النبي ولا إلى غيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ولم يقهره على إتيان ما كان سببا في الانتقام منه.
" فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك ( يا محمد ) على ما ينالون من خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله وفي التزامها سعادتهم. ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته لأن الكل من عنده وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ويسلب نعمته عمن أساءه.
" وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وإن عصيانه من مجالب النقم، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله.
" ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب فإنك لو كنت فقيرا وأعطاك والدك مثلا رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد في الإنفاق وصرت بذلك غنيا فإنه يحق لك أن تقول إن غناك إنما كان من ذلك الذي أعطاك رأس المال وأعدّك به للغنى. أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك منك فاسترد ما بقي منه وحرمك نعمة التمتع به فلا ريب أن يقال أن سبب ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد وهو والدك غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يحب لأن تحويل الوسائل عن الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه.
" وهناك للآية معنى أدق، ويشعر به ذو وجدان أرق، مما يجده الغافلون من سائر الخلق، وهو أن ما وجدت من فرح ومسرة وما تمتعت به من لذة حسية أو عقلية فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدا بما وهبك. أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة وأخذته كما هو وعلى ما هو عليه لكانت المصائب لديك منزلة التوابل الحريفة يضيفها طاهيك على ما يهيئ لك من طعام لتزيد حسن طعم وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة، واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده والتعرض لنعمه، والتحول عن مصاب نقمة، فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة التأديب، ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته، ولا تلتزم طريقته، فكما يسر طالب الأدب أن يتحمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه، يسره كذلك أن يرتقي فوق المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعا بما حصل، بالغا ما أمل، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي " اهـ.


١ البيت من الطويل، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص٣٠، والخصائص ٣/٣٢٥، ٣٢٤، وسر صناعة الإعراب ١/٢٦٧، وشرح شواهد المغني ١/٣٨٦، ولسان العرب(سبب)، ويروى عجز البيت
وإن رام أسباب السماء بسلم.

٢ اغتضر اغتضارا: أي مات شابا في غضارة العيش ونعيمه..
بعد أن بين حقيقة الأمر في السيئات والحسنات بالنسبة إلى موضوعها وسنن الاجتماع فيها وأنها كلها تضاف بهذا الاعتبار إلى الله عز وجل أراد أن يبين حقيقة الأمر فيها من وجه آخر فقال :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾. قيل إن الخطاب هنا لكل من يتوجه إليه من المكلفين، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل من أرسل إليهم، والمعنى مهما يصبك من حسنة فهي من محض فضل الله الذي سخر لك المنافع التي تحسن عندك لا باستحقاق سبق لك عنده وإلا فبماذا استحققت أن يسخر لك الهواء النقي الذي يطهر دمك ويحفظ حياتك، والماء العذب الذي يمد حياتك وحياة كل الأحياء التي تنتفع بها، وهذه الأزواج الكثيرة من نبات الأرض وحيواناتها، وغير ذلك من مواد الغذاء، وأسباب الراحة والهناء، ومهما يصبك من سيئة فمن نفسك فإنك أوتيت قدرة على العمل واختيارا في تقدير الباعث الفطري عليه من درء المضار وجلب المنافع فصرت تعمل باجتهادك في ترجيح بعض الأسباب والمقاصد على بعض فتخطئ فتقع فيما يسوءك، فلا أنت تسير على سنن الفطرة وتتحرى جادتها، ولا أنت تحيط علما بالسنن والأسباب وضبط الهوى والإرادة في اختيار الحسن منها، وإنما ترجح بعضها على بعض في حين دون حين بالهوى أو قبل المعرفة التامة بالنافع والضار منها فتقع فيما يسوءك ولولا ذلك لما علمت السيئات.
وتفصيل القول أن هنا حقيقتين متفقتين :
إحداهما : إن كل شيء من عند الله بمعنى أنه خالق الأشياء التي هي مواد المنافع والمضار، وأنه واضع النظام والسنن لأسباب الوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان، وكل شيء حسن بهذا الاعتبار، لأنه مظهر الإبداع والنظام.
والثانية : إن الإنسان لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه في استبانة الأسباب وتعرف السنن، فالسوء معنى يعرض للأشياء بتصرف الإنسان وباعتبار أنها تسوءه وليس ذاتيا لها ولذلك يسند إلى الإنسان.
مثال ذلك المرض فهو من الأمور التي تسوء الإنسان وهو إنما يصيبه بتقصيره في السير على سنة الفطرة في الغذاء والعمل فيجيء من تخمة قادته إليها الشهوة، أو من إفراط في التعب أو في الراحة، أو من عدم اتقاء أسباب الضرر كتعريض نفسه للبرد القارس أو الحر الشديد، وقس على ذلك غيره من أسباب الأمراض التي ترجع كلها إلى الجهل بالأسباب وسوء الاختيار في الترجيح. والأمراض الموروثة من جناية الإنسان على الإنسان فهي من نفسه أيضا لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هي من محض خلق الله دون اختيار الإنسان لنفسه، فوالداه يجنيان عليه قبل وجوده بتعريض أنفسهما للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة كما يجنيان عليه بعده بتعريضه هو للمرض في صغره بعدم وقايته من أسبابه، في الوقت الذي يكون اختيارهما له قائما مقام اختياره لنفسه.
وأضرب لهم مثلا خاصا غزوة أحد أصابت المسلمين فيها سيئة كان سببها تقصيرهم في الوقوف عند أسباب الفوز والظفر بعصيان قائد عسكرهم ورسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) وترك الرماة منهم موقعهم الذي أقامهم فيه للنضال وكان ذلك لخطأ في الاجتهاد سببه الطمع في الغنيمة كما تقدم في تفسير سورة آل عمران من الجزء الرابع.
فإن قيل : إن جميع الأشياء حسنها وسيئها تسند إلى الله عز وجل ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لموادها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها، ويسند إلى الإنسان منها كل ما له فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات أو السيئات، وقد مضى بهذا عرف الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة بمثل قوله تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ﴾ [ الأنعام : ١٦ ] فلماذا جعل هنا إصابة الحسنة من فضل الله تعالى مطلقا وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا ؟.
فالجواب عن هذا : إن ما ذكر في السؤال حق وما في الآية حق ولكل مقام مقال، والمقام الذي سيقت الآية له هو بيان أمرين أحدهما : نفي الشؤم والتطير وإبطالها ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا يصيبهم بشؤم أحد يكون فيهم، وكانوا يتشاءمون ويتطيرون في الجاهلية ولا يزال التطير والتشاؤم فاشيا في الجاهلين من جميع الشعوب وهو من الخرافات التي يردها العقل وقد أبطلها دين الفطرة. قال تعالى في آل فرعون ﴿ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأنفال : ١٣٠ ] فقد جعل التطير من الجهل وفقد العلم بالحقائق.
ثانيهما : أنه ينبغي لمن أصابته سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه ولا يكتفي بعدم إسنادها إلى شؤم غيره من ليس له فيها عمل ولا كسب لأن السيئة تصيب الإنسان بما تقدم شرحه آنفا من تقصيره وخروجه بجهله أو هواه عن سنة الله في التماس المنفعة من أبوابها، واتقاء المضار باتقاء أسبابها، لأن الأصل في نظام الفطرة البشرية هو ما يجده الإنسان في نفسه من ترجيح الخير لها على الشر، والنفع على الضر، وكون كل قوة من قواه نافعة له إذا أحسن استعمالها، وليس في أصل الفطرة سيئة قط، وإنما الإنسان يقع في الضرر غالبا بسوء الاستعمال وطلب ما لا تقتضيه الفطرة لولا جنايته عليها باجتهاده، كالإفراط في اللذات والتعب تنفر منه الفطرة فيحتال الإنسان عليها ويحملها ما لا تحمله بطبعها لولا ظلمه لها كاستعمال الأدوية لإثارة شهوة الطعام والوقاع وعدم وقوفه فيهما عند حد الداعية الطبيعة كأن لا يأكل إلا إذا جاع من نفسه، ولا يملأ بطنه من الطعام بما يحمله على ذلك من الأدوية المقوية والتوابل المحرضة، فمصائب الإنسان من ظلمه وكسبه ( راجع ج٤ ).
لب هذه الحقيقة الثانية التي علمنا الله إياها وربانا بها هو أن سننه تعالى في فطرة الإنسان، كسننه في فطرة سائر الحيوان والنبات، ﴿ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ﴾ [ الملك : ٣ ] كلها مصادر للحسنات، ليس فيها شيء سيء بطبعه، ولكن الإنسان فضل على غيره بما أوتي من الاستعداد للعلم، ومن الإرادة والاختيار في العمل، فإذا أحكم العلم وأحسن الاختيار مهتديا بسنن الفطرة وأحكام الشريعة وهي كلها من عند الله ومن محض فضله ورحمته كان مغمورا في الحسنات والخيرات، وإذا قصر في العلم وأساء الاختيار في استعمال قواه وأعضائه في غير ما يقتضيه نظام الفطرة وحاجة الطبيعة وقع في الأمور التي تسوؤه، فيجب عليه أن يرجع على نفسه بالمحاسبة والمعاتبة كلما أصابته سيئة، ليعتبر بها ويزداد علما وكمالا، فهذه الآية أصل من أصول علم الاجتماع وعلم النفس فيها شفاء للناس من أوهام الوثنية، وتثبيت في مقام الإنسانية.
ثم قال تعالى :﴿ وأرسلناك للناس رسولا ﴾ وما على الرسول إلا البلاغ المبين وأما الحسنات والسيئات فهي من الله عز وجل خلقا لموادها وأسبابها وتقديرا لتلك الأسباب بجعلها على قدر المسببات، ومنها أن للإنسان عملا في هذه الأسباب فإن أحسن وأصاب كانت له الحسنة بفضل الله في ذلك وإن أخطأ وأساء كانت له السيئة بخروجه عن تلك السنن وتقصيره في تلك الأسباب، وليس للرسول دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات لأنه أرسل للتبليغ والهداية لا للتصرف في نظام الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ [ الفتح : ٢٣ ]، و ﴿ لن تجد لسنة الله تحويلا ﴾ [ فاطر : ٤٣ ] فزعم أولئك الجاهلين أن السيئة تصيبهم من عنده أو بسببه، وما تخيلوا من شؤمه، لا حجة عليه من العقل، وهو مخالف لما بين من وظيفة الرسول في النقل، على أن هدايته جامعة لأسباب النعم فهي من يمنه لا من خلقه.
﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ على صحة رسالتك للناس كافة بتأييدك وآياته، وتصديقك فيما أنذرت به المعرضين، وبشرت به المؤمنين، أو شهيدا بأنك لم ترسل إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، لا مسيطرا عليهم، ولا جبارا لهم، ولا مغيرا لنظام الاجتماع فيهم، وقيل إن المراد بالشهادة هنا الشهادة على أولئك الذين قالوا تلك الأقوال المنكرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تقدم القول : بأن هذه الآيات كلها من قوله ﴿ ألم تر ﴾ إلى هنا نزلت في اليهود، والقول بأن الذي نزل فيهم هو قوله ﴿ وإن تصبهم حسنة ﴾ وما بعده إلى هنا. كان يقول هذا يهود المدينة بعد أن هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليها. وقيل إنها نزلت في المنافقين وهو يؤيد كون السياق فيهم، وفي مرضى القلوب الذين على مقربة منهم، لا في ضعفاء الإيمان خاصة كما اختار الأستاذ الإمام، وله رحمه الله تعالى مقال في تفسير هاتين الآيتين وكان قد سئل عنهما فأجاب ونشرنا جوابه في المجلد الثالث من المنار ( ص١٥٧ )، ويحسن أن نضعه ههنا فهو موضعه وهو :
" كان بعض القوم بطرا جاهلا إذا أصابه خير ونعمة يقول إن الله تعالى قد أكرمه بما أعطاه من ذلك وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه به لعلو منزلته وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات والشرور. فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه مصدرها الأول ومنبعها الحقيقي كذلك وأن شؤمه هو الذي رماهم بها وهذا هو معنى ﴿ من عند الله ﴾ أو " من عندك " أي من لدنه ومن خزائن عطائه ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس. فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله ﴿ قل كل من عند الله ﴾ أي أن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم إنما هو الله وحده وليس ليمن ولا لشؤم مدخل في ذلك فهو بيان للفاعل الأول الذي يرد إليه الفعل فيما لا تتناوله قدرة البشر ولا يقع عليه كسبهم وهو الذي كان يعنيه أولئك المشاقون عندما يقولون الحسنة من الله والسيئة من محمد في أنه لا دخل لاختيارهم في الأولى ولا في الثانية وأن الأولى من عناية الله بهم والثانية من شؤم محمد، عليهم فجاءت الآية ترميهم بالجهل فيما زعموا، ولو عقلوا لعلموا أن ليس لأحد فيما وراء الأسباب المعروفة فعل، الخير والشر في ذلك سواء.
" هذا فيما يتعلق بمن بيده الأمر الأعلى في الخير والشر والنعم والنقم. أما ما يتعلق بسنة الله في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك فالأمر على خلاف ما يزعمون كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في توفير أسباب سعادتنا والبعد عن مساقط الشقاء، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب فيما وهبت لأجله وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير، وذلك إنما يكون بتصحيح الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه وفهم شرائع الله حق الفهم والتزام ما حدده فيها، فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة، ونبعد عن الشقاء والتعاسة، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى فما أصابك من حسنة فمن الله لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها الحسنات بل واستعمالك لتلك القوى إنما هو من الله لأنك لم تأت بشيء سوى استعمال ما وهب الله فاتصال الحسنة بالله ظاهر، ولا يفصلها عنه فاصل ولا ظاهر ولا باطن.
وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا، وفرطنا في النظر في شؤوننا، وأهملنا العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه، وغفلنا عن فهمه، فاتبعنا الهوى في أفعالنا، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا، كان ما أصابنا من ذلك صادرا عن سوء اختيارنا، وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاء على ما فرطنا، ولا يجوز لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه. ونسبة الشر والسيئات إلينا في هذه الحالة ظاهرة الصحة فأما المواهب الإلهية بطبيعتها فهي متصلة بالخير والحسنات وإنما يبطل أثرها إهمالها، أو سوء استعمالها، وعن كلا الأمرين يساق الشر إلى أهله وهما من كسب المهملين وسيء الاستعمال فحق أن ينسب إليهم ما أصيبوا به وهم الكاسبون لسببه فقد حالوا بكسبهم بين القوى التي غرزها الله فيهم لتؤدي إلى الخير والسعادة وبين ما حقها أن تؤدي إليه من ذلك وبعدوا بها عن حكمة الله فيها وصاروا بها إلى ضد ما خلقت لأجله، فكل ما يحدث بسبب هذا الكسب الجديد فأجدر به أن لا ينسب إلا إلى كاسبه.
" وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظر إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال أن سواه يقدر على ذلك ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلاما لأن نسبة الخير إلى الله ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل فإن الذي يأتي بالخير ويقدر على سوقه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه فالتفريق ضرب من الخبل في العقل.
" وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا سعداء ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي من الله عليه بها فعليه أن يحمد الله ويشكره على ما آتاه، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا نفسه فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب وليس بسائغ له أن ينسب شيئا من ذلك إلى النبي ولا إلى غيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ولم يقهره على إتيان ما كان سببا في الانتقام منه.
" فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك ( يا محمد ) على ما ينالون من خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله وفي التزامها سعادتهم. ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته لأن الكل من عنده وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ويسلب نعمته عمن أساءه.
" وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وإن عصيانه من مجالب النقم، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله.
" ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب فإنك لو كنت فقيرا وأعطاك والدك مثلا رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد في الإنفاق وصرت بذلك غنيا فإنه يحق لك أن تقول إن غناك إنما كان من ذلك الذي أعطاك رأس المال وأعدّك به للغنى. أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك منك فاسترد ما بقي منه وحرمك نعمة التمتع به فلا ريب أن يقال أن سبب ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد وهو والدك غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يحب لأن تحويل الوسائل عن الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه.
" وهناك للآية معنى أدق، ويشعر به ذو وجدان أرق، مما يجده الغافلون من سائر الخلق، وهو أن ما وجدت من فرح ومسرة وما تمتعت به من لذة حسية أو عقلية فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدا بما وهبك. أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة وأخذته كما هو وعلى ما هو عليه لكانت المصائب لديك منزلة التوابل الحريفة يضيفها طاهيك على ما يهيئ لك من طعام لتزيد حسن طعم وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة، واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده والتعرض لنعمه، والتحول عن مصاب نقمة، فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة التأديب، ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته، ولا تلتزم طريقته، فكما يسر طالب الأدب أن يتحمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه، يسره كذلك أن يرتقي فوق المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعا بما حصل، بالغا ما أمل، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي " اهـ.

﴿ ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا٨٠ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا٨١ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا٨٢ ﴾.
هذه الآيات متصلة بما قبلها مسايرة لها فقد تقدم أن من أصول هذه الشريعة طاعة الله وطاعة الرسول وقد أمر بهما معا أمر عاما وبين جزاء المطيع وأحوال الناس في هذه الطاعة بحسب قوة الإيمان وضعفه والصدق فيه والنفاق. ثم أمر بالقتال، وبين مراتب الناس في الامتثال، وبعد هذا ذكر المؤمنين بأمر الطاعة وكونها لله تعالى بالذات، ولغيره بالتبع، وبين ضربا من ضروب مراوغة أولئك الضعفاء أو المنافقين فيها فقال :
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ أي أن الرسول هو رسول الله فما يأمر به من حيث هو رسول فهو من الله وهو العبادات والفضائل والأعمال العامة والخاصة التي تحفظ بها الحقوق وتدرأ المفاسد وتحفظ المصالح، فمن أطاعه في ذلك لأنه مبلغ له عن الله عز وجل فقد أطاع الله بذلك، لأن الله تعالى لا يأمر الناس وينهاهم إلا بواسطة رسل منهم يفهمون عنهم ما يوحيه الله إليهم ليبلغوه عنه، وأما ما يقوله الرسول من عند نفسه وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من الأمور الدنيوية والعادات كمسألة تأبير النخل وما يسميه العلماء أمر الإرشاد فطاعته فيه ليست من الفرائض التي فرضها الله تعالى لأنه ليس دينا ولا شرحا عنه تعالى. وإنما تكون من كمال الأدب وقدوة الحب، مثاله أمر نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) بكيل الطعام كالقمح وغيره من الحبوب أي عند اتخاذه وعند إرادة طبخه وهو من التقدير والتدبير في البيوت وأكثر المسلمين يتركونه إلا من يتبع طرق المدنية الحديثة في الاقتصاد وتدبير المنزل، ومن هذا الباب ما لا يظهر له مثل هذه الفائدة وإنما كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يذكره بطريق الاستحسان لمناسبة تتعلق بالمخاطبين كالأمر بأكل الزيت والادهان به والأمر بأكل البلح بالتمر، فهو ما كان يقول مثل هذا باسم الرسالة والتبليغ عن الله عز وجل، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا شكوا في الأمر هل هو عن الله تعالى أو من رأي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واجتهاده وكان لهم رأي آخر سألوه فإن أجابهم بأنه من الله أطاعوا بغير تردد وإن قال أنه من رأيه ذكروا رأيهم وربما رجع ( صلى الله عليه وسلم ) عن رأيه إلى رأيهم كما فعل في بدر وأحد.
فالآية تدل على أن الله تعالى هو الذي يطاع لذاته لأنه رب الناس وإلههم وملكهم وهم عبيده المغمورون بنعمه، وأن رسله إنما تجب طاعتهم فيما يبلغونه عنه من حيث إنهم رسله لا لذاتهم، ومثال ذلك الحاكم تجب طاعته في تنفيذ شريعة المملكة وقوانينها وهو ما يعبرون عنه بالأوامر الرسمية ولا تجب فيما عدا ذلك.
قال الرازي : قال مقاتل في هذه الآية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله، فقال المنافقون قد قارب هذا الرجل الشرك وهو أنه نهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى. فأنزل الله هذه الآية. واعلم أنا بينا كيفية دلالة هذه الآية على أنه لا طاعة البتة للرسول وإنما الطاعة لله اه.
ووجه قول مقاتل هو أن المؤمن الموحد لا يكون مستعبدا خاضعا إلا لخالقه وحده دون جميع خلقه، فالخروج عن ذلك شرك، والشرك نوعان أحدهما أن ترى لبعض المخلوقات سلطة غيبية وراء الأسباب العادية العامة فترجو نفعه وتخاف ضره وتدعوه وتذل له، سواء شعرت في توجه قلبك إليه بأنه ينفعك بذاته أو بتأثيره في إرادة الله تعالى، بحيث يفعل لأجله ما لم يكن يفعله لولاه بمحض فضله ورحمته، وهذا هو الشرك في الألوهية، وثانيهما أن ترى لبعض المخلوقين حق التشريع والتحليل والتحريم لذاته، وهذا هو الشرك في الربوبية، ولذلك قال المنافقون : يريد أن نتخذه ربا. وقد فسر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون، وقد رد الله تعالى شبهة المنافقين وأغلوطتهم وبين أن الرسول إنما يطاع فيما هو مرسل فيه ومأمور بتبليغه عن ربه.
ويؤخذ من هذا أن المؤمن الموحد يكون أعز الناس نفسا، وأعظمهم كرامة، وأنه لا يقبل أن يستبد فيه حاكم ولا أن يستعبده سلطان ظالم، وما قوي الاستبداد في المسلمين إلا بضعف التوحيد فيهم، فالتوحيد هو منتهى ما تصل إليه النفوس البشرية من الارتقاء والكمال، فصاحب التوحيد الخالص يعلم علم اليقين أن كل شيء في هذه الأرض وفي تلك السماوات العلى هو خاضع ومقهور للنواميس والسنن العامة التي قام بها النظام العام وأن تفاوتها في الصفات والخواص لا يقتضي أن يرفع الأقوى في صفة ما على الأضعف رفع الإله على المألوه والرب على المربوب، فحجر الصوان الصلب القوي ليس إلها ولا ربا لحجر الكذان الضعيف، ولا حجر المغناطيس إلها يعظم تعظيما دينيا لما فيه من المزية، والشمس ذات النور والحرارة ليست إلها ولا ربا للسيارات التابعة لها ولا لغيرهن، بل هي مسخرة مثلهن للسنن العامة في نظام الكون، كذلك القوي في جسمه أو عقله ليس إلها للضعيف يدعوه هذا ويذل له ويستخذي أمامه، وواسع العلم ليس ربا لقليل العلم يشرع له ويحلل ويحرم وما على الآخر إلا الطاعة، وكذلك من ظهر منه أمر خارق للعادة المألوفة لا يجب رفعه على غيره والخضوع له تعبدا سواء كان ذلك بعلم انفرد به أو حيلة وهو السحر أو باتفاق أو بقوة روحية ومنه ما يسمونه كرامة، وغايته أنه امتاز على بعض الناس كامتياز القوي على الضعيف والذكي على البليد وهو لا يكون بذلك ربا ولا إلها، ولا خارجا عن سنن الكون بل كل عبيد مسخرون لسنن الله تعالى ويستفيدون منها بقدر علمهم وطاقتهم واجتهادهم، ويكلفون طاعة الله تعالى وحده بحسب ما تصل إليه أفهامهم في شرع لا يجب على أحد منهم أن يعمل باعتقاد غيره ولا برأيه.
نعم إنهم يتعاونون في الأعمال وفي العلوم، فقوي البدن يكون أكثر نفعا للآخرين بقوته البدنية وهو عبد مثلهم لا يقدسونه ولا يرفعون مرتبته عن البشرية التي يشاركهم فيها، وقوي العقل يكون أكثر نفعا برأيه وتدبيره ولا يرتفع بذلك على غيره ارتفاعا قدسيا، ومن كان أكثر تحصيلا للعلم يفيض من علمه على الطلاب وليس على أحد منهم أن يعمل برأيه ولا بفهمه إلا إذا ظهر له أنه الحق وصار علما له واعتقادا، وعند ذلك يكون عاملا باعتقاد نفسه الذي حصله بمساعدة أستاذه لا باعتقاد أستاذه ولا برؤيته. وإذا كان الموحد لا يطيع أمر الرسول لذاته بل لأنه مبلغ عمن أرسله فكيف يجوز له أن يطيع أمر من دونه لذاته ويعمل به من غير أن يثبت عنده أنه أمر من الله تعالى ؟.
هذا هو مقام التوحيد الأعلى الذي جاء به الرسل وهو مناط السعادة في الدارين وليس لقبا من ألقاب الشرف أو لفظا من الألفاظ التي توضع للفصل بين جماعات الناس، على سبيل العرف والاصطلاح، فالتوحيد والإيمان والإسلام لها في هذا الزمان إطلاق عرفي اصطلاحي فيطلق اللفظ منها على أناس لا يفهمون شيئا من معانيها الشرعية ولا تصدق عليهم مدلولاتها، ولا تنطبق عليهم آياتها، ولم ينالوا ما بينه الكتاب العزيز من ثمراتها، ككون المؤمنين الموحدين، هم المنصورين الغالبين، والأئمة الوارثين.
فإن قلت : إنك أثبت في تفسير ﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ أن طاعة الرسول فيما يأمر به باجتهاده واجبة، وذكرت في المسألة الثانية عشرة من المسائل التي جعلتها ذيلا لتفسير الآية موضحا لها أن مراتب الطاعة ثلاث : الأولى ما يبلغه الرسول عن ربه، والثانية ما يأمر به ويحكم فيه باجتهاده، والثالثة ما يستنبطه جماعة أولي الأمر مما تحتاج إليه الأمة. وقد أثبت وجوب طاعة الرسول في اجتهاده في مواضع أخرى من أصرحها وأوضحها ما ذكرته في تفسير ﴿ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله ﴾ [ النساء : ١٣ ] الخ ( ج٤ تفسير ) أفلا ينافي ذلك كون الطاعة لله تعالى وحده وكون هذا مما يدخل في مفهوم التوحيد ؟.
قلت : لا منافاة بين الأمرين فاجتهاد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو بيان للوحي الذي بلغه عن الله تعالى، وقد أذن الله له بهذا البيان فقال :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ [ النحل : ٤٤ ] وهذا الإذن ضروري لا غنى عنه ونظيره اجتهاد القضاة والحكام في تفسير القوانين فطاعتهم فيما يحكمون فيه باجتهادهم في هذه القوانين إنما هو طاعة للقانون لا لشخص الحاكم بجعله شارعا يطاع لذاته. ومن العلماء من يرى أن كل ما أمر به الرسول وما حكم به فهو وحي وأن الوحي ليس محصورا في القرآن بل القرآن هو الوحي الذي نزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا النظم المعجز للتحدي به وثبت بالتواتر القطعي وأمرنا بالتعبد به، وهناك وحي ليس له خصائص القرآن كلها وهو ما كان يلقيه الروح الأمين في روعه ( صلى الله عليه وسلم ) ويعبر عنه بعبارة من عند نفسه ليست معجزة يتحدى بها ولا يتعبد بتلاوتها ولكن يطاع الرسول فيها لأنه ما جاء بها من عند نفسه بل من عند مرسله، ويستدلون على هذا بما جاء في أول سورة النجم ﴿ وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى ﴾ [ النجم : ٤، ٣ ] وغيرهم يجعل هذا النص في القرآن خاصة.
وأما طاعة أولي الأمر فهي لا تنافي التوحيد أيضا ولا تقتضي ذل المؤمن الموحد بخضوعه لمثله من البشر وجعله شارعا يطاع لذاته، لأن أولي الأمر إنما يطاعون فيما تعهد إليهم الأمة وضعه من الأحكام السياسية والمدنية التي مست حاجتها إليها لثقتها بهم لا تقديسا لذواتهم، وما يضعونه بشروطه التي بيناها في تفسير تلك الآية ينسب إلى الأمة لأنهم وضعوه بالنيابة عنها فلا يشعر أحد متبعيه بأنه صار مستعبدا مستذلا لأحد أولئك النواب عنه لما ذكرناه ولأن رأي كل واحد منهم وقد وضعوا ما وضعوه بالمشاورة يكون مدغما في آراء الآخرين، والسلطة في ذلك في مجموعها لا لأولئك الأفراد الذين وكلت إليهم ذلك، على أن الرجل يكل إلى آخر أن ينوب عنه في الأمر أو يوكله فيه فيقوم بذلك ولا يرى العاهد أو الموكل أنه صار مستذلا له ولا يرى الناس ذلك أيضا بل قد يرون عكسه. فالمؤمن لا يذل ويستخذي لأحد من خلق الله لذاته بل لله وحده. والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، كما أثبت الكتاب المبين.
ومن هذا البيان تفهم قوله تعالى :﴿ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ أي ومن تولى وأعرض عن طاعتك التي هي طاعة لله فليس من شؤون رسالتك أن تكرهه عليها لأننا أرسلناك مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، لا حفيظا عليهم أي لا مسيطرا ورقيبا تحفظ على الناس أعمالهم فتكرههم على فعل الخير ولا جبارا تجبرهم عليه بل الإيمان والطاعة من الأمور الاختيارية التي تتبع الاقتناع.
ذكرت في هذا المقام ما حققه الفيلسوف العربي الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون في بعض فصول الفصل الثاني من الكتاب الأول من مقدمته في كون معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة لبأسهم ذاهبة بمنعتهم، وكون الذين يؤخذون بأحكام القهر والسلطة وبأحكام التأديب والتعليم ينقص بأسهم ويغلب عليهم الجبن والضعف، وكون الدين الإسلامي وازعا اختياريا لا يفسد البأس، ولا يذلل النفس، قال بعد مق
﴿ ويقولون طاعة ﴾ أي يقول المسلمون كافة أو أولئك الذين ذكروا في الآيات الأخيرة، قال ابن جرير يعني الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال خشوا الناس كخشية الله أو أشد خشية يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : أمرك طاعة، لك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه اه، وقال غيره التقدير :" أمرنا طاعة " أي شأننا معك الطاعة لك، والأقرب ما قاله ابن جرير، ومعنى أمرك طاعة أنه مطاع فجعل المصدر في مكان اسم المفعول للمبالغة، فهو يدل بإيجازه على أنهم كانوا في حضرة الرسول يدعون كمال الطاعة ويظهرون منتهى الانقياد.
﴿ فإذا برزوا من عندك ﴾ أي فإذا خرجوا من عندك، وكلمة برز من مادة البراز بفتح الباء وهو الفضاء من الأرض أي خرجوا من المكان يكونون معك فيه إلى البراز منصرفين إلى بيوتهم ﴿ بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾ دبرت في أنفسها ليلا غير الذي تقول لها وتظهر الطاعة لك فيه نهارا، أو بيتت غير الذي تقوله هي لك وتؤكده من طاعتك. والتبييت ما يدبر في الليل من رأي ونية وعزم على عمل، ومنه قصد العدو ليلا للإيقاع به، ومنه تبييت نية الصيام أي القصد إليه ليلا، واشتقاقه من البيتوتة فإن وقتها هو الوقت الذي يجتمع فيه الفكر ويصفو فيه الذهن، وقيل إنه مشتق من أبيات الشعر، أي روزوا ورتبوا في سرائرهم غير ما تأمرهم به كما يروزون الأبيات من الشعر. أي يعزمون على المخالفة مع التفكر في كيفيتها واتقاء غوائلها كما يرتبون أبيات الشعر ويزنونها، قال الأستاذ الإمام : ليس هذا خاصا بالمنافقين بل يكون من ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب وهذا الرأي هو الموافق لما قاله في الآيات السابقة. وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : هم ناس يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم وإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعاتبهم الله.
﴿ والله يكتب ما يبيتون ﴾ أي يبينه لك في كتابه ويفضحهم به بمثل هذه الآية أو يكتبه في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه ﴿ فأعرض عنهم ﴾ أيها الرسول ولا تبال بما يبيتون ولا تؤاخذهم بما أسروا ولم يظهروا، أو المراد لا تقبل عليهم بالبشاشة كما تقبل على الصادقين ﴿ وتوكل على الله ﴾ في شأنهم أي اتخذه وكيلا تكل إليه جزاءهم وتفوض إليه أمرهم ﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾ يحيط علمه بالأعمال ظاهرها وباطنها، وبما يستحق العاملون من الجزاء عليها، ويقدر على إيقاع هذا الجزاء لا يعجزه منه شيء، وإنما عليك البلاغ، وعليه الحساب والجزاء، وهذا يؤيد ما تقدم بيانه في تفسيرنا للآية التي قبل هذه الآية.
وقد زعم بعض المفسرين أن الأمر بالإعراض عن المنافقين هنا منسوخ بقوله تعالى :﴿ جاهد الكفار والمنافقين ﴾ [ التوبة : ٧٣ ] ورده الفخر الرازي، وقالوا مثله في الآية السابقة، وقال الأستاذ الإمام إنهم لا يكادون يتركون آية من آيات العفو والصفح والحلم ومكارم الأخلاق في معاملة المخالفين إلا ويزعمون نسخه. وأنكر ذلك أشد الإنكار. وليس عندي شيء عنه في تفسير هذه الآيات غير هذا وما تقدم قريبا من قوله بأن الآية ليست في المنافقين خاصة.
قرأ أبو عمرو وحمزة ﴿ بيت طائفة ﴾ بإدغام التاء في الطاء وهما حرفان متقاربان في المخرج يدغم بعض العرب أحدهما في الآخر كما في هذه القراءة والباقون بغير إدغام.
ومن مباحث اللفظ اتفاق القراء على تذكير " بيت " قالوا لم يقل " بيتت " بتاء التأنيت لأن تأنيث " طائفة " غير حقيقي ولأنها بمعنى الفريق والفوج. وهذا التعليل كاف في بيان الجواز لا في بيان الاختيار والأصل أن يؤنث ضمير المؤنث ولو كان تأنيثه لفظيا ووجه الاختيار الذي أراه هو أن تكرار التاء قبل الطاء القريبة منها في المخرج لا يخلوا من ثقل على اللسان ولذلك تحذف إحدى التاءين من مثل تتصدى وتتكلم فيقال تصدى وتكلم.
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ التدبر هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمي إليها وعاقبة العامل به والمخالف له، والمعنى جهل هؤلاء حقيقة الرسالة، وكنه هذه الهداية، أفلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها، وعاقبة المؤمنين بها والجاحدين لها، فيعرفوا أنه الحق من ربهم، وأن ما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع بهم، لأنه كما صدق فيما أخبر به عما يبيتون في أنفسهم، وما يثنون عليه صدورهم، ويطوون عليه سرائرهم، يصدق كذلك فيما يخبر به من سوء مصيرهم، وكون العاقبة للمتقين الصادقين، والخزي والسوء على الكافرين والمنافقين، بل لو تدبروه حق التدبر لعلموا أنه يهدي إلى الحق، ويأمر بالخير والرشد، وأن عاقبة ذلك لا تكون إلا الفوز والفلاح، والصلاح والإصلاح، فإذا كانوا لاستحواذ الباطل والغي عليهم، لا يدركون كنه هداية هذا القرآن في ذاتها، أفلم يأن لهم أن يدركوا من خصائصه ومزاياه، أنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله ؟.
﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ أي لو كان من عند محمد بن عبد الله القرشي لا من عند الله الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لعدم استطاعته واستطاعة أي مخلوق أن يأتي بمثل هذا القرآن في تصوير الحق بصورته كما هي لا يختلف ولا يتفاوت في شيء منها، لا في حكايته عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقف على تاريخه، ولا في إخباره عن الآتي في مسائل كثيرة وقعت كما أنبأ بها، ولا في بيانه لخفايا الحاضر، حتى حديث الأنفس ومخبآت الضمائر، كبيان ما تبيت هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول صلى الله عليه وسلم أو ما يقوله لها فتقبله في حضرته.
ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد، وقواعد الشرائع، وفلسفة الآداب والأخلاق، وسياسة الشعوب والأقوام، مع اتفاق جميع الأصول، وعدم الاختلاف والتفاوت في شيء من الفروع.
ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر في أنواع المخلوقات، في الأرض والسماوات، وفيها الكلام على الخلق والتكوين ووصف الكائنات بأنواعها، كالكواكب وبروجها ونظامها، والرياح والبحار والنبات والحيوان والجماد، وما فيها من الحكم والآيات. وكلامه في ذلك كله يؤيد بعضه بعضا لا شيء فيه، ولا اختلاف بين معانيه.
ولعدم استطاعته واستطاعة غيره أن يأتي بمثله في بيان سنن الاجتماع، ونواميس العمران، وطبائع الملل والأقوام، وإيراد الشواهد وضروب الأمثال، وتكرار القصة الواحدة، بالعبارات البليغة المتشابهة، تنويعا للعبرة، وتلوينا للموعظة، مع تجاوب ذلك كله على الحق، وتواطئه على الصدق، وبراءته من الاختلاف والتناقض، وتعاليه عن التفاوت والتباين.
وفوق ذلك كله ما فيه من العلم الإلهي والخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الأعمال، والجزاء الوفاق، وكون ذلك موافقا لفطرة الإنسان، وجاريا على سنة الله تعالى في تأثير الأعمال الاختيارية في الأرواح، فالاتفاق والالتئام بين الآيات الكثيرة في هذا الباب، هو غاية الغايات عند من أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
كان هذا القرآن ينزل منجما بحسب الوقائع والأحوال فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية أو الطائفة من الآيات أن توضع في محلها من سورة كذا وهو لا يقرأ في الصحف ما كتب أولا ولا ما كتب آخرا، وإنما يحفظه حفظا، ولم تجر العادة بأن الذي يأتي من عند نفسه بالكلام الكثير في المناسبات والوقائع المختلفة يتذكر عند كل قول جميع ما سبق له في السنين الخالية ويستحضره ليجعل الآخر موافقا للأول، وإذا تذكرت أن بعض الآيات كان ينزل في أيام الحرب وشدة الكرب، وبعضها كان ينزل عند الخصام، وتنازع الأفراد أو الأقوام، جزمت بأن من المحال عادة أن يتذكر الإنسان في هذه الأحوال جميع ما كان قاله من قبل ليأتي بكلام يتفق معه ولا يختلف، وكان إذا تلا عليهم الآيات يحفظونها عنه في صدورهم ويكتبونها في صحفهم، فلم يكن ثم مجال للتنقيح والتحرير لو فرض. وإن تعجب فعجب أن تمر السنون والأحقاب، وتكر القرون والأجيال، وتتسع دوائر العلوم والمعارف، وتتغير أحوال العمران، ولا تنقض كلمة من كلمات القرآن، لا في أحكام الشرع، ولا في أحوال الناس وشؤون الكون، ولا في غير ذلك من فنون القول.
كتب ابن خلدون مقدمته في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والعمران فكانت أفضل الكتب وأحكامها في عصر مؤلفها وبعد عصره بعدة عصور، ثم ارتقت العلوم وتغيرت أصول العمران فظهر الاختلاف والخطأ في كثير مما فيها، بل نرى العالم النابغ في علم معين من علماء هذا العصر يؤلف الكتاب فيه ويستعين عليه بمعارف أقرانه من العلماء الباحثين ثم يطيل التأمل فيه وينقحه ويطبعه فلا تمر سنوات قليلة إلا ويظهر له الخطأ والاختلاف فيه فلا يعيد طبعه إلا بعد أن يغير منه ويصحح ما شاء، فما بالك بما يظهر للإنسان من الاختلاف والتفاوت في الكتب التي يؤلفها غيره من أول وهلة لا بعد مرور السنين، واتساع دائرة العلوم. وقد ظهر هذا القرآن في أمة أمية لا مدارس فيها ولا كتب، على لسان أمي لم يتعلم قراءة ولا كتابة، فكيف يمر عليه ثلاثة عشر قرنا يتغير فيها العمران البشري كما قلنا ولا يظهر فيه اختلاف ولا تفاوت حقيقي يعتد به، ويصلح أن يكون مطعنا فيه، أليس هذا برهانا ناصعا على كونه من عند الله أوحاه إلى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟.
هذا ما جرى به القلم جريا في تفسير هذه الآية بدون استعانة ولا اقتباس من كلام أحد من المفسرين لأنه هو المتبادر عندي، وسلكت فيه طريق الاختصار الذي يدل على التفصيل، وتركت مسألة الفصاحة والبلاغة واتفاق أسلوبه فيهما إلى مراجعة كلامهم فيها، ثم راجعت بعض التفاسير فإذا أنا بابن جرير يختصر القول في الآية فيقول : أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض. اه.
وبين الرازي أن هذه الآية احتجاج بالقرآن على المنافقين تثبت لهم ما كانوا يمترون فيه من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر أن العلماء قالوا : إن دلالة القران على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه : فصاحته واشتماله على أخبار الغيوب وسلامته عن الاختلاف. ( قال ) : وهذا هو المذكور في هذه الآية. وذكر فيه أي الأخير ثلاثة أوجه :
الأول : قول أبي بكر الأصم وحاصله : إن المنافقين كانوا يتواطؤن سرا على أنواع من المكر والكيد فيبينها الله في القرآن، ولما كان كل ما حكاه الله عنهم صدقا على خفائه علم أنه لو كان من غيره لم يطرد فيه هذا الصدق.
الثاني : قول أكثر المتكلمين : إن المراد منه أن القرآن كتاب كبير مشتمل على كثير من العلوم فلو كان من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك.
الثالث : قول أبي مسلم : إن المراد الاختلاف في مرتبة الفصاحة حتى لا يكون في جملة ما يعد في الكلام الركيك بل بقية الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد. ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه المعجز من عند الله تعالى.
نقل الرازي ما نقل في هذا المقام عن مفسري المعتزلة وهم الذين بينوا من بلاغة القرآن ومزاياه العجب العجاب، وقد سبق إلى تحقيق القول في هذه المسألة وتفصيله القاضي أبو بكر الباقلاني إمام الأشعرية ورافع لوائهم المتوفى ٤٠٣ فإنه بين في كتابه :" إعجاز القرآن " وجه إعجازه بإخباره عن المغيبات وباشتماله على العلوم والأخبار التي لا تعرف إلا بالتلقي والتعليم مع كون من جاء به أميا ثم قال :
" والوجه الثالث : أنه بديع النظم عجيب التأليف متناه إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ونكشف الجملة التي أطلقوها، فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه :
منها : ما يرجع إلى الجملة وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له، وقد علمنا أن القرآن مخالف لهذه الوجوه ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي أن فيه شعرا كثيرا، والكلام يذكر بعد هذا الموضع، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم، أنه خارج عن العادة وأنه معجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جمعه.
ومنها : أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف، والتجوز والتعسف، وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عز من قائل :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] ﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ [ النساء : ٨٢ ] فأخبر أن كلام الآدمي إذا امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلاف، وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفضل.
وفي ذلك معنى ثالث هو أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ، واحتجاج، وحكم وأحكام، وأعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف وتعليم، وأخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور، فمن الشعراء من يجود في المدح
﴿ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا٨٣ ﴾.
قيل إن هذه الآية في المنافقين وهم الذين كانوا يذيعون بمسائل الأمن والخوف ونحوها مما ينبغي أن يترك لأهله، وقيل هم ضعفاء المؤمنين، وهما قولان فيمن سبق الحديث عنهم في الآيات التي قبلها، وصرح ابن جرير بأنها في الطائفة التي كانت تبيت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له. أقول ويجوز أن يكون الكلام في جمهور المسلمين من غير تعيين لعموم العبرة، ومن خبر أحوال الناس يعلم أن الإذاعة بمثل أحوال الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة، بل هي مما يلغط به أكثر الناس،
وإنما تختلف النيات فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر، وضعيف الإيمان قد يذيع ما يرى فيه الشبهة، استشفاء مما في صدره من الحكمة، وأما غيرهما من عامة الناس فكثيرا ما يولعون بهذه الأمور لمحض الرغبة في ابتلاء أخبارها، وكشف أسرارها، أو لما عساه ينالهم منها.
فخوض العامة في السياسة وأمور الحرب والسلم، والأمن والخوف، أمر معتاد وهو ضار جدا إذا شغلوا به عن عملهم، ويكون ضرره أشد إذا وقفوا على أسرار ذلك وأذاعوا به، وهم لا يستطيعون كتمان ما يعلمون، ولا يعرفون كنه ضرر ما يقولون، وأضره علم جواسيس العدو بأسرار أمتهم، وما يكون وراء ذلك. ومثل أمر الخوف والأمن سائر الأمور السياسية والشؤون العامة، التي تختص بالخاصة دون العامة.
قال تعالى :﴿ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ﴾ أي إذا بلغهم خبر من أخبار سرية غازية أمنت من الأعداء بالظفر والغلبة أو خيف عليها منهم بظهورهم عليها بالفعل أو بالقوة، أو إذا جاءهم أمر من أمور الأمن والخوف مطلقا سواء كان من ناحية السرايا التي تخرج إلى الحرب أو من ناحية المركز العام للسلطة، أذاعوا به أي بثوه في الناس وأشاعوه بينهم. يقال أذاع الشيء وأذاع به، قال أبو الأسود :
أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب١
أي حتى صار مشهورا يعرفه كل أحد كالنار في المكان العالي أو كأنه نار في رأس علم، والثقوب والثقاب العيدان التي تورى بها النار. ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ من أذاعوه كما قال الزمخشري. وقال الأستاذ الإمام أي أنهم من الطيش والخفة بحيث يستفزهم كل خبر عن العدو يصل إليهم فيطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس. وما كان ينبغي أن تشيع في العامة أخبار الحرب وأسرارها ولا أن تخوض العامة في السياسة فإن ذلك يشغلها بما يضر ولا ينفع يضرهم أنفسهم بما يشغلهم عن شؤونهم الخاصة، ويضر الأمة والدولة بما يفسد عليها من أمر المصلحة العامة، ا ه وهو مبني على رأيه في كون هذه الآيات في ضعفاء المسلمين.
﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ﴾ رد الشيء صرفه وإرجاعه وإعادته، وفي الرد هنا وفي قوله السابق :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ] معنى التفويض. أي ولو أرجعوا ذلك الأمر العام الذي خاضوا فيه وأذاعوا به وفوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أي أهل الرأي والمعرفة بمثله من الأمور العامة والقدرة على الفصل فيها وهم أهل الحل والعقد منهم الذين تثق بهم الأمة في سياستها وإدارة أمورها :﴿ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ أي لعلم ذلك الأمر الذين يستخرجونه ويظهرون مخبأه منهم. الاستنباط استخراج ما كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب ( كما قال ابن جرير ) وأصله استخراج النبط من البئر وهو الماء أول ما يخرج. وفي المستنبطين وجهان :
أحدهما : أنهم الرسول وبعض أولي الأمر، فالمعنى : لو أن أولئك المذيعين ردّوا ذلك الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عنده وعند بعض أولي الأمر وهم الذين يستنبطون مثله ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم، فهو إذا من الأمور التي لا يكتنه سرها كل فرد من أفراد أولي الأمر، وإنما يدرك غوره بعضهم لأن لكل طائفة منهم استعدادا للإحاطة ببعض المسائل الحربية، وهذا يرجح رأيه في المسائل المالية، وهذا يرجح رأيه في المسائل القضائية، وكل المسائل تكون شورى بينهم. فإذا كان مثل هذا لا يستنبطه إلا بعض أولي الأمر دون بعض فكيف يصح أن يجعل شرعا بين العامة يذيعون به ؟.
والوجه الثاني : أن المستنبطين هم بعض الذين يردون الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أي : لو ردوا ذلك الأمر إليهم وطلبوا العلم به من ناحيتهم لعلمه من يقدر أن يستفيد العلم به من الرسول ومن أولي الأمر منهم، فإن الرسول وأولي الأمر هم العارفون به، وما كل من يرجح إليهم فيه يقدر أن يستنبط من معرفتهم ما يحب أن يعرف، بل ذلك مما يقدر عليه بعض الناس دون بعض.
والمختار الوجه الأول، فالواجب على الجميع تفويض ذلك إلى الرسول وإلى أولي الأمر في زمنه صلى الله عليه وسلم وإليهم دون غيرهم من بعده لأن جميع المصالح العامة توكل إليهم ومن أمكنه أن يعلم بهذا التفويض شيئا يستنبطه منهم فليقف عنده ولا يتعداه، فإن مثل هذا من حقهم، والناس فيه تبع لهم، ولذلك وجبت فيه طاعتهم.
لا غضاضة في هذا على فرد من أفراد المسلمين، ولا خدشا لحريته واستقلاله، ولا نيلا من عزة نفسه، فحسبه أنه حر مستقل في خويصة نفسه، لم يكلف أن يقلد أحدا في عقيدته ولا في عبادته، ولا غير ذلك من شؤونه الخاصة به، وليس من الحكمة ولا من العدل ولا المصلحة أن يسمح له بالتصرف في شؤون الأمة ومصالحها، وأن يفتات عليها في أمورها العامة، وإنما الحكمة والعدل في أن تكون الأمة في مجموعها حرة مستقلة في شؤونها كالأفراد في خاصة أنفسهم، فلا يتصرف في هذه الشؤون العامة إلا من تثق بهم من أهل الحل والعقد، المعبر عنهم في كتاب الله بأولي الأمر، لأن تصرفهم وقد وثقت بهم الأمة هو عين تصرفها، وذلك منتهى ما يمكن أن تكون به سلطتها من نفسها.
زعم الرازي وغيره أن في هذه الآية دليلا على حجية القياس الأصولي قال الأستاذ الإمام : وإنما تعلق الأصوليون في هذا بكلمة " يستنبطونه " وهي من مصطلحاتهم الفنية ولم تستعمل في القرآن بهذا المعنى فقولهم مردود. أقول وقد فرع الرازي على هذه المسألة أربعة فروع :
١ أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص.
٢ أن الاستنباط حجة.
٣ أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث.
٤ أن النبي كان مكلفا باستنباط الأحكام كأولي الأمر.
وأورد على ما قاله بعض الاعتراضات وأجاب عنها كعادته. ولما كانت المسألة التي أخذ منها هذه الفروع وبنى عليها هذه المجادلة خارجة عن معنى الآية لا تدخل في معناها من باب الحقيقة ولا من باب المجاز ولا من باب الكناية كان جميع ما أورده لغوا أو عبثا.
هذا شاهد من أفصح الشواهد على ما بيناه قبل من سبب غلط المفسرين، وبعدهم عن فهم الكثير من آيات الكتاب المبين، بتفسيره بالاصطلاحات المستحدثة، فأهل الأصول والفقه اصطلحوا على معنى خاص لكلمة الاستنباط فلما ورد هذا اللفظ في هذه الآية حمل مثل الرازي على فطنته أن يخرج بها عن طريقها ويسير بها في طريق آخر ذي شعاب كثير يضل فيها السائر حتى لا مطمع في رجوعه إلى الطريق السوي.
معنى الآية واضح جلي وهو أن بعض المسلمين من الضعفاء أو المنافقين أو العامة مطلقا يخوضون في أمر الأمن والخوف ويذيعون ما يصل إليهم منه على ما في الإذاعة به من الضرر، والواجب تفويض مثل هذه الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام في الحرب وإلى أولي الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشورى لأنهم هم الذين يستخرجون خفايا هذه الأمور ويعرفون مصلحة الأمة فيها وما ينبغي إذاعته وما لا ينبغي، فأين هذا من مسائل النص في الكتاب على بعض الأحكام والسكوت عن بعض ووجوب استنباط ما سكت عنه مما نص عليه على الرسول وعلى أولي الأمر، ووجوب اتباع العامة للعلماء فيما يستنبطونه مطلقا ؟ ليس هذا من ذاك في شيء.
على أن الرازي كان أبطل قول من قال إن أولي الأمر هم العلماء وقول من قال إنهم الأمراء، وأثبت أنهم أهل الحل والعقد أي جماعتهم. فكيف يبطل ههنا ما حققه في آية :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ بقوله بوجوب تقليد العلماء كما أبطل به ما حققه في تفسير آيات كثيرة من بطلان التقليد ؟ ؟.
قد علمت أيها القارئ الذي أنعم الله عليه بنعمة الاستقلال في الفهم أن الآية التي قبل هذه الآية قد أوجبت تدبر القرآن والاهتداء به على كل مسلم فكانت من الآيات الكثيرة الدالة على منع التقليد في أصول الدين وفاقا للرازي الذي صرح بذلك في تفسير الآية نفسها وكذا في الفروع العملية الشخصية كالعبادات والحلال والحرام لأن أكثرها معلوم من الدين بالضرورة، والنصوص فيها أوضح وأقرب إلى الفهم من مسائل أصول الدين، وفي حديث الصحيحين ( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ٢ الحديث. وهو قد أوجب في الأمور المشتبه فيها أن تترك لئلا تجر إلى الحرام، ولم يوجب على المشتبه في شيء أن يرجع إلى ما يعتقده غيره ويقلده فيه. وأما المسائل العامة كالحرب والسياسة والإدارة فهي التي تفوضها العامة إلى أولي الأمر منهم وتتبعهم فيها، هذا ما تهدي إليه الآية وفاقا لغيرها من الآيات، ولا اختلاف في القرآن.
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ أي لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم أيها المسلمون بما هداكم إليه من طاعة الله ورسوله ظاهرا وباطنا وتدبر القرآن ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول : طاعة لك، وتبيت غير ذلك، والتي تذيع بأمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها به، إلا قليلا من الاتباع أي لاتبعتم الشيطان في أكثر أعمالكم بجعلها من الباطل والشر لا فيها كلها، أو إلا قليلا منكم أوتوا من صفاء الفطرة وسلامتها ما يكفي لإيثارهم الحق والخير كأبي بكر وعلي، فهي كقوله تعالى :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ﴾ [ النور : ٢١ ].
وفسر بعض المفسرين الفضل والرحمة بالقرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم ( لا عناية الله بهدايتهم بهما كما قلنا ) والقليل المستثنى بمثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال نحوه الأستاذ الإمام فهو اختيار منه له.
وقال أبو مسلم الأصفهاني : أن المراد بفضل الله ورحمته هنا النصر والظفر والمعونة التي أشار إليها في قوله في الآيات السابقة من هذا السياق ﴿ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينهم مودة يا ليتني كنت معهم ﴾ [ النساء : ٧٣ ] أي لولا النصر والظفر المتتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا القليل منكم وهم أصحاب البصائر النافذة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولأجل تواتر الانهزام يدل على كونه باطلا، بل الأمر في كونه حقا وباطلا
١ البيت من الطويل، وهو في ديوان أبي الأسود الدؤلي ص٤٥، وفيه"لثقوب" بدل"بثقوب"، والحيوان ٥/٦٠١، وبلا نسبة في لسان العرب(ذيع) وتهذيب اللغة ٣/١٤٨، وتاج العروس(ذيع)..
٢ أخرجه البخاري في البيوع باب٣٩، والبيوع باب٢، ومسلم في المساقاة حديث١٠٨، ١٠٧، وأبو داود في البيوع باب٣، والترمذي في البيوع باب١، والنسائي في البيوع باب٢، والقضاة باب١١، وابن ماجة في الفتن باب١٤، والدارمي في البيوع باب ١، وأحمد في المسند ٤/٢٧٥، ٢٧١، ٢٦٩، ٢٦٧..
﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا٨٤ ﴾.
قال الإمام الرازي في وجه التناسب والاتصال : اعلم أنه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد عاد في هذه الآية إلى الأمر بالجهاد.
وقال الأستاذ الإمام : تقدم أن الآيات في وصف أولئك الضعفاء، ولما قال إن الرسول ليس حفيظا عليهم وإنما هو مبلغ عن الله تعالى أيد هذا وأوضحه بقوله :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ﴾ أي إنك أنت المكلف أن تقاتل في سبيل الله ( وتقدم تفسيرها ) والرقيب على نفسك فقم بما يجب عليك بالعمل وحرض المؤمنين على القتال معك لأن التحريض من التبليغ الذي منه الأمر والنهي ﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾ عسى هنا تدل على الإعداد والتهيئة لأن الترجي الحقيقي محال على العالم بكل شيء فهي بمعنى الخبر والوعد وخبره تعالى حق لأنه لا يخلف الميعاد. والبأس القوة، وكان بأس الكافرين، موجها إلى إذلال المؤمنين، لأجل الإيمان لا لذواتهم وأشخاصهم، فتأييد الإيمان متوقف على كف بأسهم، وكفه متوقف على تصدي المؤمنين للجهاد.
أقول سبق غير مرة تفسير الأستاذ لكلمة عسى بمثل هذا وحاصل المعنى أن تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي دون الإلزام والسيطرة على الاستعداد له وتوطين النفس عليه، وذلك هو الذي يوطن نفوس الكافرين على كف بأسهم عن المؤمنين ويعدهم لترك الاعتداء عليهم، لأنه لا شيء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال، وعلى هذه القاعدة جرى عمل دول أوروبة في هذا العصر وبه يصرحون. تبذل كل دولة منتهى ما في وسعها من اتخاذ آلات القتال في البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى الحربية بينهن متوازنة فلا تطمع القوية في الضعيفة فيغريها ضعفها بالإقدام على محاربتها.
وجعل عسى للترجي لا يقتضي أن يكون المترجي هو الله عز وجل وإنما يكون المعنى أن ما دخلت عليه مرجو في نفسه. بحسب سنة الله في خلقه.
﴿ والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ﴾ أي لا يخيفنكم أيها المؤمنون بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا تصدنكم عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه مذعنين مختارين فإن الله تعالى الذي وعده بالنصر أشد بأسا منهم وأشد تنكيلا لهم مما يحاولون أن ينكلوا بكم، ولكن سنته سبقت بأن تكون العاقبة لأهل الحق إذا اتقوا أسباب الخذلان، واتخذوا أسباب الدفاع مع الصبر والثبات، لا أنه ينصرهم وهم قاعدون أو مقصرون في الجري على سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل، والتنكيل أن تعاقب المجرم بما يكون عبرة ونكالا لغيره يمنعه أن يجرم مثل إجرامه، وهو من النكول بمعنى الامتناع.
ويؤخذ من الآية أن الله تعالى كلف نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده وهي تدل على أنه أعطاه من الشجاعة ما لم يعط أحدا من العالمين، وسيرته صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك فهو قد تصدى لمقاومة الناس كلهم بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال، وإتباع النور الذي أنزل معه، ولما قاتلوه قاتلهم وقد انهزم أصحابه عنه مرة فبقي ثابتا كالجبل لا يتزلزل، وقد علم مما تقدم أن الفاء في قوله :﴿ فقاتل ﴾ للتفريع بترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقيل إنها جواب لشرط مقدر وهو إن أردت الفوز فقاتل. وكان الأقرب أن يقال إن التقدير : وإذ كنت مبلغا عن الله عز وجل لا وكيلا ولا جبارا على الناس فقاتل أنت امتثالا لأمر الله لك، وحرض غيرك من المؤمنين على طاعة الله تعالى بذلك تحريضا، لا إلزام سلطة ولا إجبار قوة، والتحريض الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الخطب فيه كما قال الراغب.
ومعنى لا تكلف إلا نفسك لا تكلف أنت إلا أفعال نفسك دون أفعال الناس فلا يضرك إعراض الذين قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال والذين يقولون لك طاعة ويبيتون غير ذلك، فإن طاعتهم لك إنما تجب لأنك مبلغ عن الله فهي طاعة الله ومن أطاع الله لا يضره عصيان من عصاه.
﴿ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا٨٥ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا٨٦ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا٨٧ ﴾.
الشفاعة من الشفع وهو مقابل الوتر أي الفرد. قال الراغب الشفع ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له سائلا عنه. والذي يناسب السياق واتصال الآية بما قبلها من الآيات أن معنى قوله تعالى :﴿ من يشفع شفاعة حسنة ﴾ من يجعل نفسه شفعا لك وقد أمرت بالقتال وترا ؛ وهي الشفاعة الحسنة لأنها نصر للحق وتأييد له ومثل ذلك كل من ينضم إلى أي محسن ويشفعه ﴿ يكن له نصيب منها ﴾ أي من شفاعته هذه بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة في الدنيا عندما ينتصر الحق على الباطل، وبما يكون له من الثواب في الآخرة سواء أدرك النصر في الدنيا أم لم يدركه. والنصيب الحظ المنصوب أي المعين كما قال الراغب.
﴿ ومن يشفع شفاعة سيئة ﴾ بأن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه، أو يخذل المؤمنين عن قتاله وهذه هي الشفاعة السيئة، ومثلها كل إعانة على السيئات ﴿ يكن له كفل منها ﴾ أي نصيب من سوء عاقبتها وهو ما يناله من الخذلان في الدنيا والعقاب في الآخرة، فالكفل بمعنى النصيب المكفول للشافع لأنه أثر عمله، أو المحدود لأنه على قدره، أو الذي يجيء من الوراء، وهو على هذا مشتق من كفل البعير وهو عجزه، أو مستعار من المركب الذي يسمى كفلا ( بالكسر ) قال في لسان العرب : والكفل من مراكب الرجال وهو كساء يؤخذ فيعقد طرفاه ثم يلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره مما يلي العجز ( أي الكفل بفتح الكاف والفاء ) وقيل هو شيء مستدير يتخذ من خرق أو غير ذلك ويوضع على سنام البعير. وفي حديث أبي رافع قال :" ذلك كفل الشيطان " ١ يعني معقده. ثم قال والكفل ما يحفظ الراكب من خلفه والكفل النصيب مأخوذ من هذا اه كأنه أراد الانتفاع من ناحية الكفل والمؤخر.
والراغب ذهب إلى القول الأول وفاقا لابن جرير. قال إنه مستعار من الكفل ( بالكسر ) وهو الشيء الرديء، واشتقاقه من الكفل، وهو أن الكفل لما كان مركبا ينبو براكبه صار متعارفا في كل شدة كالسيساء وهو العظم الناتئ من ظهر الحمار فيقال لأحملنك على الكفل وعلى السيساء. ثم قال : ومعنى الآية من ينضم إلى غيره معينا له في فعلة حسنة يكون له منها نصيب، ومن ينضم إلى غيره معينا له في فعلة سيئة يناله منها شدة. وقيل الكفل الكفيل ونبه على أن من تحرى شرا فله من فعله كفيل يسأله، كما قيل من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه، تنبيها إلى أنه لا يمكنه التخلص من عقوبته اه.
وفسر الآية بنحو ما ذكرنا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ولكنه جعل الشفاعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن جعلناها له صلى الله عليه وسلم لأنها أمر أولا بالقتال وحده فكان كل من يتصدى للقتال معه قد تصدى لأن يجعل نفسه معه شفيعا. واسم الشرط في " من يشفع " يؤذن بالعموم ولكن يدخل فيه ما ذكرنا دخولا أوليا بقرينة السياق.
قال ابن جرير : وقد قيل إنه عنى بقوله :﴿ من يشفع شفاعة حسنة ﴾ الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض، وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر. وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه فيما يحض المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه بالحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض اه. ثم ذكر أقوال من ذكروا أنها في شفاعة الناس بعضهم لبعض.
وقد ذكر الرازي لاتصال الآية بما قبلها وجوها :( أولها ) و( ثانيها ) أنه جعل تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على القتال بمعنى الشفاعة الحسنة له أجره وأنه ليس عليه ممن تمرد وعصى وزر ولا عيب، و( الثالث ) جواز أن بعض المنافقين كان يشفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن القتال فنهى الله تعالى عن هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله تعالى دون العكس. وهذا الوجه صحيح وكان واقعا وقد ذكر في سورة التوبة استئذانهم في التخلف، وقد يستأذن بعضهم بغيرهم ويشفع له كما يستأذن لنفسه. و( الرابع ) مما ذكره الرازي جواز أن يشفع بعض المؤمنين لبعض في إعانة من لا يجد أهبة القتال أن يعان عليها. وحاصل الوجهين أن الشفاعة ذكرت في هذا السياق لأن من شأنها أن تقع في الإعانة على القتال أو القعود عنه، وإن كان اللفظ عاما على سنة القرآن في الإتيان بالقواعد الكلية والمسائل العامة في سياق بيان بعض ما يدخل في ذلك العموم.
ثم ذكر الرازي في تفسير الشفاعة خمسة وجوه ( أولها ) : أنها تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على الجهاد لأنه بذلك يجعل نفسه شفعا لهم، وذكر علة ثانية لتسمية التحريض شفاعة وهي أن التحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد بل على الرفق والتلطف وذلك يجري مجرى الشفاعة. وهذا التعليل أو التوجيه يؤيد الوجه الأول مما ذكر من وجوه الاتصال والمناسبة ويقر به. ( ثانيها ) : أنها شفاعة المنافقين بعضهم لبعض في التخلف أو شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض في الإعانة، وفاقا لما ذكره في الوجهين الثالث والرابع من وجوه الاتصال. ( ثالثها ) : قوله نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنه ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار ( أي يضمه إليه ) والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم. أقول وكان ينبغي أن يقول بإعانة الكفار على قتال أهل الحق وخذلانهم. ( رابعا ) : قول مقاتل أن الشفاعة الحسنة الدعاء وأن نصيب الشافع منها يؤخذ من حديث ( من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به آمين ولك بمثله ) ٢ رواه مسلم وأبو داود عن أبي الدرداء وأورده الرازي بالمعنى وذكر أن الشفاعة السيئة ما كان من تحريف اليهود للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم :" السام عليكم " أي الموت. أقول والحديث في هذا معروف ولا يظهر فيه معنى الشفاعة البتة. ( خامسها ) : قول الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد أنها شفاعة الناس بعضهم لبعض فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة. ثم جزم الرازي بأن هذه الشفاعة لا بد أن يكون لها تعلق بالجهاد فلا يجوز قصرها على الوجوه الثلاثة وإنما يجوز أن تكون داخلة في معناها بطريق العموم، الذي لا ينافيه خصوص السبب كما هو معلوم.
وقد أنكر الأستاذ الإمام علي الجلال وغيره حمل الشفاعة على ما يكون بين الناس في شؤونهم الخاصة من المعايش وقال : إن هذا التخصيص يذهب بما في الآية من القوة والحرارة ويخرجها من السياق، والصواب أنها أعم، فالمقصود أولا وبالذات الشفاعة المتعلقة بالحرب وقد علمنا أن الآيات في المبطئين عن القتال والذين يبيتون ما لا يرضي الله تعالى من خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ضروب الاعتذار التي كانوا يعتذرون بها، وقد يكون هذا الاعتذار بواسطة بعض الناس الذين يرجى السماع لهم والقبول منهم، وهو عين الشفاعة اه.
ثم أقول إن العلماء متفقون على أن شفاعة الناس بعضهم لبعض تدخل في عموم الآية وأنها قسمان حسنة وسيئة فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم، أو جر منفعة إلى مستحق، ليس في جرها إليه ضرر ولا ضرار، والسيئة أن يشفع في إسقاط حد، أو هضم حق، أو إعطائه لغير مستحق، أو محاباة في عمل، بما يجر إلى الخلل والزلل، والضابط العام أن الشفاعة الحسنة هي ما كانت فيما استحسنه الشرع، والسيئة فيما كرهه أو حرمه.
ومن العبرة في الآية أن نتذكر بها الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإعلامه ما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له، ولا يقبل الشفاعة لأجل إرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل وينافي المصلحة العامة، وأما الحاكم المستبد الظالم فهو الذي تروج عنده الشفاعات لأنه يحابي أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له في استبداد فيثق بثباتهم على خدمته، وإخلاصهم له، وما الذئاب الضارية بأفتك في الغنم، من فتك الشفاعات في إفساد الحكومات والدول، فإن الحكومة التي تروج فيها الشفاعات يعتمد التابعون لها على الشفاعة في كل ما يطلبون منها لا على الحق والعدل، فتضيع فيها الحقوق، ويحل الظلم محل العدل، ويسري ذلك من الدولة إلى الأمة فيكون الفساد عاما.
وقد نشأنا في بلاد هذه حال أهلها وحال حكومتهم. يعتقد الجماهير أنه لا سبيل إلى قضاء مصلحة في الحكومة إلا بالشفاعة أو الرشوة، ولا يقوم عندنا دليل على صلاح حكومتنا إلا إذا زال هذا الاعتقاد، وصارت الشفاعة من الوسائل التي لا يلجأ إليها إلا أصحاب الحق بعد طلبه من أسبابه، والدخول عليه من بابه، وظهور الحاجة إلى شفيع يظهر للحاكم العادل ما لم يكن يعلمه من استحقاق المشفوع له لكذا، أو وقوع الظلم عليه في كذا، وأن يكون ما عدا هذا من النوادر التي لا تخلو حكومة منها، مهما ارتقت وصلح حالها.
﴿ وكان الله على كل شيء مقيتا ﴾ أي مقتدرا أو حافظا أو شاهدا، وعبر بعضهم بالحفيظ والشهيد، أقوال : قال الراغب وحقيقته قائما عليه يحفظه ويقيته ( يعني أنه مشتق من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة ) يقال قاته يقوته إذا أطعمه قوته، وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته اه. ومن جعل لك ما يقوتك دائما كان قائما عليك بالحفظ وشهيدا عليك لا يفوته أمرك ولا يغيب عنه، ويتضمن ذلك معنى القدرة أيضا باللزوم. ولكنهم أوردوا من الشواهد على كون المقيت بمعنى المقتدر ما يدل على أنه غير مشتق من القوت كقول الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنه :
وذي ضغن كففت النفس عنه *** وكنت على إساءته مقيتا٣
وقال النضر بن شميل :
تجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة *** فإني على ما ساءهم لمقيت
ورجح ابن جرير هنا معنى المقتدر مستدلا ببيت الزبير لأنه من قريش. وفي لسان العرب أقات على الشيء اقتدر عليه وأنشد بيت الزبير وعزاه أولا إلى أبي قيس بن رفاعة ثم قال وقد روي أنه للزبير عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قبل ذلك في تفسير اللفظ في الآية : الفراء : المقيت المقتدر والمقدر كالذي يعطي كل شيء قوته. وقال الزجاج المقيت القدير وقيل الحفيظ قال وهو بالحفيظ أشبه لأنه مشتق من القوت يقال قتُّ الرجل أقوته إذا حفظت نفسه بما يقوته، والقوت اسم الشيء يحفظ نفسه ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى المقيت الحفيظ الذي يعطي الشيء قدر الحاجة من الحفظ، وقال الفراء المقيت كالذي يعطي كل رجل قوته، ويقال المقيت الحافظ للشيء والشاهد له، وأنشد ثعلب للسموأل بن عادياء :
رب شتم سمعته وتصامم *** ت وعي تركته فكفيت٤
ليت شعري وأشعرن إذا ما *** قربوها منشورة ودعيت
إلى الفضل أم علي إذا حو *** سبت إني على الحساب مقيت
أي أعرف ما علمت من السوء لأن الإنسان على نفسه بصيرة. حكى ابن برّي عن أبي سعيد السيرافي قال الصحيح رواية من روى :
ربي على الحساب مقيت
الخ. ما ذكره ومنه تفسير بعضهم للمقيت في بيت السموأل بالموقوف على الحساب.
وحاصل معنى الجملة وكان الله ومازال على كل شيء مقيتا أي مقتدرا م
١ أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٨٧، والترمذي في الصلاة باب١٦٥، وأحمد في المسند ١/١٤٦..
٢ أخرجه مسلم في الذكر حديث ٨٧، وأبو داود في الوتر باب٢٩..
٣ البيت من الوافر، وهو لأبي قيس بن رفاعة، أو للزبير بن عبد المطلب في لسان العرب(قوت)، وتاج العروس(ثوت)، والتنبيه والإيضاح١/١٧٠، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص٤٠٧، والمخصص ٢/٩١، ومقاييس اللغة ٥/٣٨، وإصلاح المنطق ص٢٧٦، وتهذيب اللغة ٩/٢٥٥..
٤ الأبيات من الخفيف، وهي في ديوان السمو أل بن عاديا، ص ٨١، ولسان العرب(قوت)، وتاج العروس(قوت)..
قال الأستاذ الإمام بعد أن علم الله المؤمنين طريقة الشفاعة الحسنة والسيئة وهي من أسباب التواصل بين الناس علّمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم الضعفاء والأقوياء في الإيمان وحسن الأدب بينهم وبين من يلقونه في أسفارهم فقال :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾، وهذا ما يراه الأستاذ في وجه الاتصال والمناسبة بين الآية والتي قبلها. وذكر الرازي في النظم وجهين : الأول : أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن يرضوا بالمسالمة إذا رضي الأعداء بها فهذه الآية عنده كقوله تعالى :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] والثاني : أن الرجل كان يلقى الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه فقد لا يلتفت إلى سلامه ويقتله فمنع الله المؤمنين من ذلك وأمرهم بأن يقابلوا كل من يسلم عليهم أو يكرمهم بنوع من الإكرام بمثل ما قابلهم به أو بأحسن منه.
هذا ملخص قوله، وفي الأول : أنه جعل التحية بمعنى السلام والسلم، وفي الثاني : من التوسع في التحية ما فيه وسيأتي في هذه السورة :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ﴾ [ النساء : ٩٤ ] وقد ذكر هنا أدب التحية كما ذكر ما ينبغي وما لا ينبغي في الشفاعة لأن لكل من التحية والشفاعة شأنا عظيما في حال القتال، يكون به نفعهما أو ضررهما أقوى منه في سائر الأحوال، ويدل على ذلك في التحية اشتقاقها من الحياة.
التحية مصدر حياة إذا قال له حيّاك الله. هذا هو الأصل ثم صارت التحية اسما لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل هو عليه من نحو دعاء أو ثناء كقولهم أنعم صباحا وأنعم مساء، وقالوا عم صباحا ومساء، وجعلت تحية المسلمين السلام للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان وأنهم أهل السلم ومحبو السلامة، ومن التحيات الشائعة في بلادنا إلى هذا اليوم : أسعد الله صباحكم، أسعد الله مساءكم وهذا بمعنى قول العرب القدماء أنعم صباحا ومساء ونهارك سعيد، وليلتك سعيدة وهذا مترجم عن الإفرنجية.
وقد أوجب الله تعالى علينا في هذه الآية أن نجيب من حيانا بأحسن من تحيته أو بمثلها أو عينها كأن نقول له الكلمة التي يقولها وهذا هو ردها، وفسروه بأن تقول لمن قال السلام عليكم، بقولك وعليكم السلام، والأحسن أي تقول وعليكم السلام ورحمة الله، فإذا قال هذا في تحيته فالأحسن أن تقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر. وأقول قد يكون أحسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه في الألفاظ أو ما هو أخصر منه، فمن قال لك أسعد الله صباحكم ومساءكم، فقلت له أسعد الله جميع أوقاتكم كانت تحيتك أحسن من تحيته، ومن قال لك السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية فقلت له وعليكم السلام بصوت أرفع وإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها، وإن كانت مثلها في لفظها. والناس يفرقون في القيام للزائرين بين من يقوم بحركة خفيفة وهمة تشعر بزيادة العناية ومن يقوم متثاقلا، ومن أهل دمشق من يشترطون في العناية بالقيام إظهار الاندهاش فيقولون قام له باندهاش أو قام بغير اندهاش.
علم من الآية أن الجواب عن التحية له مرتبتان أدناهما ردها بعينها وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها. فالمجيب مخير وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء، ورد عين التحية لمن دونهم. وروي عن قتادة وابن زيد أن جواب التحية بأحسن منها للمسلمين وردها بعينها لأهل الكتاب، وقيل للكفار عامة. ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنة. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أنه قال من سلم عليك من خلق الله فردد عليه وإن كان مجوسيا فإن الله يقول :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ أقول وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين ومن قال لخصمه " السلام عليكم " فقد أمنه على نفسه وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من أخلاقهم الراسخة ولذلك عدّ الأستاذ الإمام ذكر التحية مناسبا للسياق بكونها من وسائل السلام، ولما صار لفظ السلام تحية المسلمين صارت التحية به عنوانا على الإسلام كما يأتي في قوله تعالى من هذه السورة ﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ﴾ [ النساء : ٩٤ ].
ومما ينبغي بيانه هنا أن بعض المسلمين يكرهون أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام ويرون أنه لا ينبغي رد السلام على غير المسلم، أي يرون أنه لا ينبغي لغير المسلم أن يتأدب بشيء من آداب الإسلام، وفاتهم أن الآداب الإسلامية إذا سرت في قوم يألفون المسلمين ويعرفون فضل دينهم وربما كان ذلك أجذب لهم إلى الإسلام، ومن صفات المؤمن أنه يألف ويؤلف، وقد سئلت عن هذه الآية وآية النور :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ﴾ [ النور : ٢٧ ] هل السلام فيهما على إطلاقه وعمومه فيشمل المسلمين أم هو خاص بالمسلمين فأجبت في المجلد الخامس من المنار ( ص٨٥٣ ٥٨٥ ) بما نصه :
ج إن الإسلام دين عام ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين لأن من سلم على أحد فقد أمنه فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنا ناكثا للعهد. وكان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيرد عليهم السلام حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ ( السام ) أي الموت فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم بقوله :( وعليكم ) وسمعت عائشة واحدا منهم يقول له : السام عليك. فقالت له : وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبينا لها أن المسلم لا يكون فاحشا ولا سبابا وأن الموت علينا وعليهم. وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا يقولون للذمي : السلام عليك. وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصراني سلم عليه : عليك السلام ورحمة الله تعالى. قيل له في ذلك فقال " أليس في رحمة الله يعيش " وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف. وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال :﴿ فحيوا بأحسن منها ﴾ للمسلمين ﴿ أو ردّوها ﴾ لأهل الكتاب وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة.
هذه لمحة مما روي عن السلف ثم جاء الخلف فاختلفوا في السلام على غير المسلم فقال كثيرون إنهم لا يُبدؤون بالسلام لحديث ورد في ذلك وحملوا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحاجة أي لا يسلم عليهم ابتداء إلا لحاجة. وأما الرد فقال بعض الفقهاء إنه واجب كرد سلام المسلم وقال بعضهم أنه سنة وفي الخانية من كتب الحنفية : ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالرد. وهذا يدل على أنه مباح عند هذا القائل لا واجب ولا مسنون مع أن السنة وردت به في الصحيح.
أما ما ورد من حق المسلم على المسلم فلا ينافي حق غيره، فالسلام حق عام، ويراد به أمران : مطلق التحية وتأمين من تسلم عليه من الغدر والإيذاء وكل ما يسئ، وقد روى الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة :" أن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا " وأكثر الأحاديث التي وردت في السلام عامة وذكر في بعضها المسلم كما ذكر في بعضها غيره كحديث الطبراني المذكور آنفا.
أما جعل تحية الإسلام عامة فعندي أن ذلك مطلوب وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم فكان من تحريفهم ما كان سببا لأمر النبي صلى الله تعالى عليه والسلم بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ " وعليكم " حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين. ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه. ولم يرد أن أحدا من الصحابة نهى اليهود عن السلام، لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام، ولكن خلف من بعدهم خلف أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصون له عن المخالفين، وكلما زادوا بعدا عن حقيقة الإسلام زادوا إيغالا في هذا الضرب من التعظيم، وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم ويوزعون كثيرا من كتبه على الناس مجانا ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم حتى أن الأوروبيين فرحوا فرحا شديدا عندما وافقهم خديو مصر ( إسماعيل باشا ) على استبدال التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري وعدّوا هذا من آيات الفتح. ونرى القوم الآن يسعون في جعل يوم الأحد عيدا أسبوعيا للمسلمين يشاركون فيه النصارى بالبطالة. ومع هذا كله نرى المسلمين لا يزالون يحبون منع غيرهم من الأخذ بآدابهم وعاداتهم ويزعمون أن هذا تعظيم للدين، وكأن هذا التعظيم لا نهاية له إلا حجب هذا الدين عن العالمين، إن هذا لهو البلاء المبين، وسيرجعون عنه بعد حين " اه.
هذا ما أفتينا به منذ بضع سنين وحديث عائشة المشار إليه في الفتوى رواه الشيخان في صحيحيهما. والرد على أهل الكتاب " بلفظ وعليكم " رواه الشيخان أيضا عن أنس، ورويا عن أبي هريرة عدم ابتدائنا إياهم بالسلام ولعل ذلك كان لأسباب خاصة اقتضاها ما كان بينهم وبين المسلمين من الحروب وكانوا هم المعتدين فيها، روى أحمد عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إني راكب غدا إلى اليهود فلا تبدءوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم ) ١ فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدءوهم لأن السلام تأمين وما كان يحب أن يؤمنهم وهو غير أمين منهم لما تكرر من غدرهم ونكثهم للعهد معه فكان ترك السلام عليهم تخويفا لهم ليكونوا أقرب إلى المواتاة، وقد نقل النووي في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز ( رضي الله عنه ) قال وهو وجه لأصحابنا. وعندي أن الحاجة إلى معرفة سبب الأحاديث لأجل فهم المراد منها أشد من الحاجة إلى معرفة سبب نزول القرآن، لأن القرآن كله هداية عامة للناس يجب تبليغها، وفي الأحاديث ما ليس فيه من الأمور الخاصة والرأي الذي لم يقصد به أن يكون دينا ولا هداية عامة ولا أن يبلغ للناس، فتوقف فهمها على معرفة أسبابها أظهر.
والذي عليه جماهير المسلمين في البلاد التي نعرفها أنهم يبدؤون أهل الكتاب بغير السلام من أنواع التحية المعروفة. بعد كتابة هذا راجعت ( زاد المعاد ) فإذا هو يقول في حديث النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام :" قيل إن هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة " وتردد في كونه حكما عاما لأهل الذمة أو خاصا بمن كانت حاله مثل حالهم وذكر خلاف السلف في المسألة بعد حديث مسلم المطلق في النهي عن الابتداء.
هذا وإن ابتداء السلام سنة مؤكدة عند الجمهور وقيل واجب، وأما رده فالجمهور على وجوبه. وظاهر الآية أن رد كل تحية واجب وليس الوجوب خاصا بتحية السلام. ويكفي أن يسلم بعض الجماعة وأن يرد بعض من يلقى عليهم السلام لأن الجماعة لتضامنها واتحادها، يقوم فيها الواحد مقام الجميع.
والسنة أن يسلم القادم على من يقدم عليهم وإذا تلاقى الرجلان فالسنة أن يبدأ الكبير في السن أو الق
١ أخرجه أحمد في المسند ٦/٣٩٨..
ثم قال :﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ﴾ التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء في الدار الآخرة هما الركنان الأولان للدين وإنما الرسل يبلغون الناس ما يجب من إقامتهما ودعمهما بالأعمال الصالحة، فلا غرو أن يصرح القرآن بهما معا تارة وبالأول منهما تارة أخرى في أثناء سرد الأحكام فإن ذكرهما هو العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بتلك الأحكام، وناهيك بأحكام القتال التي يبذل المؤمن فيها نفسه وماله للدفاع عن الحق والحقيقة وحرية الدين الإلهي ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله، وهل يبذل العاقل نفسه إلا في مرضاة من يجزيه على ذلك ما هو أفضل من هذه الحياة الدنيا وكل ما فيها.
فالمعنى : الله لا إله إلا هو لا يعبد غيره فلا تقصروا في طاعته والخضوع لأمره فإن في طاعته شرفكم وسعادتكم، وارتقاء أرواحكم وعقولكم، إذ حرركم بذلك من الرق والعبودية والخضوع لأمثالكم من البشر، بَلهَ الخضوع والذل لما دون البشر من المعبودات التي ذل لها المشركون، وسيجعل لكم بهذا الدين ملكا عظيما ويجعلكم الوارثين، وهل هذا كل ما عنده من الجزاء للمحسنين ؟ كلا إنه والله ليجمعنكم ويحشرنكم إلى يوم القيامة، لا ريب في ذلك اليوم ولا فيما يكون فيه من الجزاء الأوفى على الأعمال، فقد أكد الله تعالى خبره بالقسم وهو أقوى المؤكدات :﴿ ومن أصدق من الله حديثا ﴾ أي لا أحد أصدق منه عز وجل فيرجح خبره على خبره. فكلام غيره يحتمل الصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن جهل أو سهو، وأما كلامه تعالى فهو عن العلم المحيط بكل شيء ﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ [ طه : ٥٢ ] فلا يحتمل أن يكون خبره غير صادق لنقص في العلم، كما لا يجوز أن يكون كذلك لغرض أو حاجة لأنه تعالى غني عن العالمين، وقد دل إعجاز القرآن على كونه كلام الله تعالى فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل، إذا آثر على قوله تعالى أقوال المخلوقين، كما هو دأب المقلدين الضالين.
﴿ *فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا٨٨ ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا٨٩ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا٩٠ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا٩١ ﴾.
ابتدأ هذه الآيات بالفاء لوصلها بما سبقها إذ السياق لا يزال جاريا في مجراه من أحكام القتال وذكر شؤون المنافقين والضعفاء فيه، ومن المنافقين من كان ينافق بإظهار الإسلام فتخونه أعماله كما تقدم، ومنهم من كان ينافق بإظهار الولاء للمؤمنين والنصر لهم وهم بعض المشركين ( وكذا بعض أهل الكتاب ) وهذه الآيات في المنافقين في إبان الحرب بإظهار الولاء والمودة أو بالإيمان في غير دار الهجرة، ورد في أسباب نزولها روايات متعارضة : روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس كانوا خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فرقتين : فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس فقال :( من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني ) فقال سعد بن معاذ : إن كان من أوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك. فقام سعد بن عبادة فقال ما لك يا ابن معاذ طاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين، فقام محمد بن سلمة فقال : اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يأمرنا فننفذ أمره. فأنزل الله ﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ الآية. وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم ؟ قالوا أصابنا وباء المدينة قالوا : أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ؟، فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا. فأنزل الله الآية، وفي إسناده تدليس وانقطاع اهـ من لباب النقول للسيوطي، والمراد بالذي يؤذي النبي في حديث سعد بن معاذ هو عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين، وما كان منه في قصة الإفك. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام ويعينون المشركين على المسلمين. ورجحها بعضهم حتى على رواية الشيخين بذكر المهاجرة في الآية الثانية.
روى ابن جرير في التفسير عن ابن عباس بعد ذكر سنده من طريق محمد بن سعد : قوله :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد عليه السلام فليس علينا منهم بأس وأن المؤمنين لما أخبروا خرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم قالت طائفة من المؤمنين اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين سبحان الله أو كما قالوا تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك ؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت. وذكر الآية. وهذا لا يدل على أن أولئك القوم قد أسلموا بالفعل كما توهمه عبارة بعض الناقلين. وروى ابن جرير عن معمر بن راشد قال بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم قد أسلموا وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة دماؤهم حلال، وقالت طائفة دماؤهم حرام، فأنزل الله الآية.
وروي أيضا عن الضحاك قال هم ناس تخلفوا عن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر فسماهم الله منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا.
ثم ذكر ابن جرير روايات من قال إنها نزلت في منافقين كانوا في المدينة وأرادوا الخروج منها معتذرين بالمرض والتخمة، ومن قال إنها نزلت في أهل الأفك ثم رجح قول من قالوا أنها نزلت في قوم من مكة ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم لذكر الهجرة في الآية.
ومن المعهود أنهم يجمعون بين الروايات في مثل هذا بتعدد الوقائع ونزول الآية عقبها، ولا يمنعهم من هذا أن يكون بين الوقائع تراخ وزمن طويل، وأقرب من ذلك أن يحملها كلٌّ على واقعة يرى أنها تنطبق عليها من باب التفسير لا التاريخ، ولكن من الروايات ما يكون نصا أو ظاهرا في التاريخ وتعيين الواقعة، إلا أن تكون الرواية منقولة بالمعنى كما هو الغالب وحينئذ تكون الرواية في سبب النزول ليست أكثر من فهم للمروي عنه في الآية ورأي في تفسيرها يخطئ فيه ويصيب، ولا يلزم أحدا أن يتبعه فيه، بل لمن ظهر له خطؤه أن يرده عليه ولا سيما إذا كان ما يتبادر من معنى الآيات يأباه. وقد رأيت أن بعضهم رد رواية الصحيحين في جعل المراد بالمنافقين هنا فئة عبد الله بن أبيّ ابن سلول الذين رجعوا عن القتال في أحد واستدلوا بما رأيت من ذكر المهاجرة في الآية الثانية، ويمكن تأويل هذا اللفظ بما تراه. وأقوى منه في رد هذه الرواية وما دونها في قوة السند من سائر الروايات ( أي التي جعلت الآية في منافقي المدينة ) إن الأحكام التي ذكرت في هذه الآيات لم يعمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها في أحد ممن قالوا إنها نزلت فيهم وهو قتلهم حيثما وجدوا بشرطه، وهذه آية من آيات صد بعض الروايات الصحيحة السند عن الفهم الصحيح الذي يتبادر من الآيات بلا تكلف.
ورجح ابن جرير وغيره رواية ابن عباس ( رضي الله عنه ) في نزول هذه الآية في أناس كانوا بمكة يظهرون الإسلام خداعا للمسلمين وينصرون المشركين. وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إنها نزلت في المنافقين في الولاء والمحالفة وهذه عبارته في الدرس : الفاء في قوله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ تشعر بارتباط الآية بما قبلها، وزعم بعضهم أن الفاء للاستئناف وهذا لا معنى له وإنما يخترع الجاهل تعليلات ومعاني لما لا يفهمه ( وقد يخترع الروايات كما صرح به في غير موضع ) فالآية مرتبطة بما قبلها أشد الارتباط إذ الكلام السابق كان في أحكام القتال حتى ما ورد في الشفاعة الحسنة والسيئة، وقد ختمه بقوله :" الله لا إله إلا هو " الخ أي لا إله غيره يخشى ويخاف أو يرجى فتترك تلك الأحكام لأجله، ثم جاء بهذه الآيات موصولة بما قبلها بالفاء وهي تفيد تفريع الاستفهام الإنكاري فيها على ما قبله، أي إذا كان الله تعالى قد أمركم بالقتال في سبيله وتوعد المبطئين عنه والذين تمنوا تأخير كتابته عليهم، وإذا كان لا إله غيره فيترك أمره وطاعته لأجله فما لكم تترددون في أمر المنافقين وتنقسمون فيهم إلى فئتين ؟.
قال : والمنافقون هنا غير من نزلت فيهم آيات البقرة وسورة المنافقين وأمثالهن من الآيات، المراد بالمنافقين هنا فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون، ضلعهم مع أمثالهم من المشركين، ويحتاطون في إظهار الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم قوة، فإذا ظهر لهم ضعفهم انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة. فكان المؤمنون فيهم على قسمين منهم من يرى أن يعدوا من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المحاذين لهم جهرا، ومنهم من يرى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المجاهرين بالعداوة ( وعبارته ممن لا ينافق ) فأنكر الله عليهم ذلك وقال :﴿ والله أركسهم بما كسبوا ﴾ أي كيف تتفرقون في شأنهم والحال أن الله تعالى أركسهم وصرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك والمعاصي حتى أنهم لا ينظرون فيه نظر إنصاف وإنما ينظرون إليكم وما أنتم عليه نظر الأعداء المبطلين ويتربصون بكم الدوائر اه ما نقلناه عن الدرس وليس عندنا عنه هنا شيء آخر.
أقول الركس بفتح الراء مصدر ركس الشيء يركسه ( بوزن نصر ) إذا قلبه على رأسه أو رد آخره على أوله، يقال ركسه وأركسه فارتكس. قال في اللسان بعد معنى ما ذكر : وقال شمر بلغني عن ابن الأعرابي أنه قال المنكوس والمركوس المدبر عن حاله والركس ردّ الشيء مقلوبا اه ويظهر أنه مأخوذ من الركس ( بكسر الراء ) وهو كما في اللسان شبيه بالرجيع، وأطلق في الحديث على الروث. والحاصل أن الركس والأركس شر ضروب التحول والارتداد وهو أن يرجع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس أو مقلوبا أو متحولا عن حاله إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث، والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال أو إلى الشرك. وقد استعمل هنا في التحول والانقلاب المعنوي أي من إظهار الولاء والتحيز إلى المسلمين إلى إظهار التحيز إلى المشركين، وهو شر التحول والارتداد المعنوي كأن صاحبه قد نكس على رأسه وصار يمشي على وجهه :﴿ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ﴾ [ الملك : ٢٢ ] ومن كانت هذه حاله في ظهور ضلالته في أقبح مظاهرها فلا ينبغي أن يرجو أحد من المؤمنين نصر الحق من قبله، ولا أن يقع الخلاف بينهم وبين سائر إخوانهم في شأنه.
وقد أسند الله تعالى فعل هذا الإركاس إليه وقرنه بسببه وهو كسب أولئك المركسين للسيئات والدنايا من قبل حتى فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئتهم فأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحق حتى لم يعد يخطر على بالهم ولا يجول في أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه، مقاومة ظاهرة عند القدرة، وخفية عند العجز، هذا هو أثر كسبهم للسيئات في نفوسهم وهو أثر طبيعي، وإنما أسنده الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته في تأثير الأعمال الاختيارية في نفوس العاملين، أو معنى أركسهم أظهر ركسهم بما بينه من أمرهم وهذا هو معنى قوله :﴿ أتريدون أن تهدوا من أضل الله ﴾ وهو استفهام إنكاري معناه ليس في استطاعتكم أن تغيروا سنن الله في نفوس الناس، فتنالوا منها ضد ما يقتضيه ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات، بتأثير ما كسبته طول عمرها من الأعمال.
﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي من تقضي سنته تعالى في خلقه بأن يكون ضالا عن طريق الحق :﴿ فلن تجد له سبيلا ﴾ يصل بسلوكها إليه فإن للحق سبيلا واحدة وهي صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وشمالها كل من سلك سبيلا منها بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] ولما تلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية وضح معناها بالخطوط الحسية فخط في الأرض خطا جعله مثالا لسبيل الله وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان، ومن المحسوس الذي لا يحتاج إلى ترتيب الأقيسة للاستدلال أن غاية أي خط من تلك الخطوط لا تلتقي بغاية الخط الأول.
قلت إن سبيل الحق هي صراط الفطرة، وبيان هذا أن مقتضى الفطرة أن يستعمل الإنسان عقله في كل ما يعرض له في حياته ويتبع فيه ما يظهر له بعد النظر والبحث أنه الحق الذي باتباعه خيره ومنفعته العاجلة والآجلة وكماله الإنساني، على قدر علمه بالحق والخير والكمال، ومن مقتضى الفطرة أن يبحث الإنسان دائما ويطلب زيادة العلم بهذه الأمور، ولا يصده عن هذا الصراط المستقيم شيء كالتقليد والغرور بما هو عليه وظنه أنه ليس وراءه خير له منه وأنفع وأكمل، أولئك الذين يقطعون على نفسهم طريق العقل والنظر، والتمييز بين الخير والشر، والنفع والضر، والحق والباطل، فيكونون أتباع كل ناعق، ويسلكون ما لا يحصى من السبل وإن ادعى كل منهم الانتساب إلى زعيم واحد، وشبهتهم على ترك صراط الفطرة أن عقولهم قاصرة عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وأنهم اتبعوا من بلغهم من آبائهم ومعاشريهم أنهم كانوا أقدر منهم على معرفة ذلك وبيانه، والحق الواقع أنهم لا يعلمون حقيقة ما كان عليه أولئك الزعماء ولا شيئا يعتد به من علمهم، وإنما يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم من الثقة بزعماء عصرهم ولو كان آباؤهم وزعماؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ومن قطع على نفسه طريق النظر، وكفر نعمة العقل، لا يمكن إقامة الحجة عليه، ولذلك قال تعالى :﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ [ النساء : ٨٨ ] فإن ﴿ سبيلا ﴾ نكرة في سياق النفي تفيد العموم كأنه قال من ترك سبيل الله وهي اتباع الفطرة باستعمال العقل كان من سنة الله أن يكون ضالا طول حياته إذ لا تجد له سبيلا أخرى يسلكها فيهتدي بها إلى الحق.
﴿ *فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا٨٨ ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا٨٩ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا٩٠ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا٩١ ﴾.
ابتدأ هذه الآيات بالفاء لوصلها بما سبقها إذ السياق لا يزال جاريا في مجراه من أحكام القتال وذكر شؤون المنافقين والضعفاء فيه، ومن المنافقين من كان ينافق بإظهار الإسلام فتخونه أعماله كما تقدم، ومنهم من كان ينافق بإظهار الولاء للمؤمنين والنصر لهم وهم بعض المشركين ( وكذا بعض أهل الكتاب ) وهذه الآيات في المنافقين في إبان الحرب بإظهار الولاء والمودة أو بالإيمان في غير دار الهجرة، ورد في أسباب نزولها روايات متعارضة : روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس كانوا خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فرقتين : فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس فقال :( من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني ) فقال سعد بن معاذ : إن كان من أوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك. فقام سعد بن عبادة فقال ما لك يا ابن معاذ طاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين، فقام محمد بن سلمة فقال : اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يأمرنا فننفذ أمره. فأنزل الله ﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ الآية. وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم ؟ قالوا أصابنا وباء المدينة قالوا : أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ؟، فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا. فأنزل الله الآية، وفي إسناده تدليس وانقطاع اهـ من لباب النقول للسيوطي، والمراد بالذي يؤذي النبي في حديث سعد بن معاذ هو عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين، وما كان منه في قصة الإفك. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام ويعينون المشركين على المسلمين. ورجحها بعضهم حتى على رواية الشيخين بذكر المهاجرة في الآية الثانية.
﴿ ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾ أي أن هؤلاء المنافقين الذين ترجون نصرهم لكم وتطمعون في هدايتهم، ليسوا من الكفار القانعين بكفرهم، الغافلين غيرهم، بل هم يودون لو تكفرون ككفرهم وتكونون مثلهم سواء، ويقضي على الإسلام الذي أنتم عليه ويزول من الأرض.
ومن مباحث اللفظ في الآيات أن الفاء في قوله تعالى :﴿ فتكونون سواء ﴾ للعطف لا للجواب كقوله :﴿ ودّوا لو تدهن فيدهنون ﴾ [ القلم : ٩ ]
﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾ أي فلا تتخذوا منهم أنصارا لينصروكم على المشركين حتى يهاجروا إليكم ويتحدوا بكم، لأن المؤمن الصادق لا يدع النبي ومن معه من المؤمنين عرضة للخطر ولا يهاجر إليهم لينصرهم إلا للعجز، فترك الهجرة مع القدرة عليها دليل على نفاق أولئك المختلف فيهم.
والأستاذ الإمام يقدر هنا حتى يؤمنوا ويهاجروا " وكانت الهجرة لازمة للإيمان لزوما بينا مطردا فلذلك استغنى بذكرها عن ذكره إيجازا " . ومن جعل الآيات في المنافقين في الدين من أهل المدينة وما حولها جعل المهاجرة هنا من باب حديث ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) ١ وهو بعيد جدا. ومعنى الحديث أن المهاجر الكامل من كان كذلك.
ويرد ما قالوه كما سبق التنبيه إليه، قوله تعالى :﴿ فإن تولوا ﴾ أي أعرضوا عن الإيمان والهجرة.
﴿ فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليّا ولا نصيرا ﴾ ولا يجوز بحال أن يكون المراد أن الذين لا يهجرون ما نهى الله عنه يقتلون حيث وجدوا، وما سمعنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتل أحدا من المنافقين في الإيمان بذنبه، بل كان يهم الرجل من أصحابه بقتل المنافق فيمنعه وإن ظهر المقتضي لئلا يقال إن محمدا يقتل أصحابه. ولا يظهر هذا التعليل في أولئك المنافقين الذين كانوا بمكة ينصرون المشركين، وأما المنافقون في الولاء فالأمر بقتالهم أظهر فقد كانوا يعاهدون فَيَفِي لهم المسلمون وهم يغدرون، ويستقيم المسلمون على عهدهم وهم ينكثون، ولم يأمرهم الله تعالى بمعاملتهم بما يستحقون إلا بعد تكرار ذلك منهم، لأنه تعالى جعل الوفاء من صفات المؤمنين بمثل قوله :﴿ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ﴾ [ الرعد : ٢٢ ] وأكد حفظ ميثاقهم حتى أنه حرم نصر المؤمنين غير الذين مع رسوله عليهم بقوله :﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا وما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] وقد بين أحكامهم وأحكام أمثالهم مفصلة هنا، وفي أول سورة التوبة، وهي صريحة في علة الأمر بقتالهم وهي غدرهم وتصديهم لقتال المسلمين، وقد جعل هذه العلة من قبيل الضرورة تقدر بقدرها، ولذلك عقب نهيه عن اتخاذ ولي أو نصير منهم بقوله.
١ أخرجه البخاري في الإيمان باب٤، والرقاق باب٢٦، وأبو داود في الوتر باب١٢، ١١، ٢، والجهاد باب٢، والنسائي في الإيمان باب٩، وابن ماجة في الفتن باب٢..
﴿ *فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا٨٨ ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا٨٩ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا٩٠ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا٩١ ﴾.
ابتدأ هذه الآيات بالفاء لوصلها بما سبقها إذ السياق لا يزال جاريا في مجراه من أحكام القتال وذكر شؤون المنافقين والضعفاء فيه، ومن المنافقين من كان ينافق بإظهار الإسلام فتخونه أعماله كما تقدم، ومنهم من كان ينافق بإظهار الولاء للمؤمنين والنصر لهم وهم بعض المشركين ( وكذا بعض أهل الكتاب ) وهذه الآيات في المنافقين في إبان الحرب بإظهار الولاء والمودة أو بالإيمان في غير دار الهجرة، ورد في أسباب نزولها روايات متعارضة : روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس كانوا خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فرقتين : فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس فقال :( من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني ) فقال سعد بن معاذ : إن كان من أوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك. فقام سعد بن عبادة فقال ما لك يا ابن معاذ طاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين، فقام محمد بن سلمة فقال : اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يأمرنا فننفذ أمره. فأنزل الله ﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ الآية. وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم ؟ قالوا أصابنا وباء المدينة قالوا : أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ؟، فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا. فأنزل الله الآية، وفي إسناده تدليس وانقطاع اهـ من لباب النقول للسيوطي، والمراد بالذي يؤذي النبي في حديث سعد بن معاذ هو عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين، وما كان منه في قصة الإفك. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام ويعينون المشركين على المسلمين. ورجحها بعضهم حتى على رواية الشيخين بذكر المهاجرة في الآية الثانية.
﴿ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ الخ ذهب أبو مسلم إلى أن هذا استثناء من المؤمنين الذين لم يهاجروا، قال كما نقل عنه الرازي : لما أوجب الله الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذرفقال :" إلا الذين يصلون " وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة إلا أنه كان في طريقهم من الكفار من يخافونه، فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، وأقاموا عندهم ينتهزون الفرصة لإمكان الهجرة، واستثنى أيضا من صاروا إلى الرسول والمؤمنين ولكن لا يقاتلون المسلمين ولا يقاتلون الكفارمعهم لأنهم أقاربهم أو لأنهم تركوا فيهم أولادهم وأزواجهم فيخافون أن يفتكوا بهم إذا هم قاتلوا مع المسلمين.
وقد أبعد أبو مسلم في هذا إذ لا يظهر معنى لنفي قتال المسلمين للنبي ومن معه، ولا لامتنان الله تعالى عليهم بأنه لم يسلطهم عليهم.
وذهب الجمهور إلى أن الذين استثناهم الله تعالى هم من الكفار وكانوا كلهم حربا للمؤمنين يقتلون كل مسلم ظفروا به إذا لم يمنعه أحد فشرع الله للمؤمنين معاملتهم بمثل ذلك وأن يقتلوهم حيث وجدوهم إلا من استثنى. وهذا يؤيد رأي الأستاذ في نفاقهم.
ونقول إن الكلام في المنافقين الذين في دار الشرك لا في دار الهجرة سواء كان نفاقهم بدعوى الإسلام أو بالولاء والعهد، وقد أركسهم الله وأظهر نفاقهم وشدة حرصهم على ارتداد المسلمين كفارا مثلهم، وأذن بقتلهم أينما وجدوا لأنهم يغدرون بالمسلمين فيوهمونهم أنهم معهم، ويقتلونهم إذا ظفروا بهم، واستثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين : أحدهما : أن يصلوا وينتهوا إلى قوم معاهدين للمسلمين فيدخلوا في عهدهم ويرضوا بحكمهم، فيمتنع قتالهم مثلهم، وثانيهما : أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم بل يكونون على الحياد وهذا هو قوله تعالى :
﴿ أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ﴾ أي جاءوكم قد ضاقت صدروهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين. ولا يظهر هذا ظهورا بينا لا تكلف فيه إلا على قول الأستاذ الإمام أن نفاقهم كان بالولاء، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم لأنهم قومهم. وقبول عذر الفريقين موافق للأصل الذي تقدم في سورة البقرة ﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ﴾ البقرة : ١٩٠ ] فيا لله ما أعدل القرآن، وما أكرم أصول الإسلام.
ولما كان الكف عن هؤلاء مما قد يثقل على المسلمين لما جرت عليه عادة العرب من الشدة في أمر المعاهدين والمحالفين وتكليفهم قتال كل أحد يقاتل مخالفيهم ولو كانوا من الأهل والأقربين قال تعالى مخففا ذلك عنهم ومؤكدا أمر منع قتال المسلمين.
﴿ ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ﴾ أي إن من رحمته تعالى بكم أن كف عنكم بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم ولو شاء أن يسلطهم عليكم لسلطهم فلقاتلوكم، وذلك بأن يسوق إليهم من الأخبار ويلهمهم من الآراء ما يرجحون به ذلك. ولكنه بتوفيقه ونظامه في الأسباب والمسببات، وسننه في الأفراد وحال الاجتماع، جعل الناس في ذلك العصر أزواجا ثلاثة :
١ السليم والفطرة الأقوياء الاستقلال وهم الذين سارعوا إلى الإيمان.
٢ المتوسطون وهم الذين رجحوا مسالمة المسلمين فلم يكونوا معهم من أول وهلة ولا أشداء عليهم.
٣ الموغلون في الضلال والشرك والراسخون في التقليد والمحافظة على القديم وهم المحاربون.
وإذا كان وجود هؤلاء المسالمين بمشيئة الموافقة لحكمه وسننه فلا يثقل عليكم اتباع أمره بترك قتالهم ﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾ أي فإن اعتزلكم أولئك الذين يمتون إليكم بإحدى تينك الطريقتين فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم أي أعطوكم زمام أمرهم في المسالمة بحيث وثقتم بها وثوق المرء بما يلقى إليه، فما جعل الله لكم طريقا تسلكونها إلى الاعتداء عليهم، فإن أصل شرعه الذي هداكم إليه أن لا تقاتلوا إلا من يقاتلوكم، ولا تعتدوا إلا على من اعتدى عليكم.
وفي الآية من الأحكام ( على قول من قالوا إنهم كانوا مسلمين أو مظهرين للإسلام ثم ارتدوا ) أن المرتدين لا يقتلون إذ كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا يوجد في القرآن نص بقتل المرتد فيجعل ناسخا لقوله ﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ﴾ الخ نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل من بدّل دينه١ وعليه الجمهور، وفي نسخ القرآن بالسنة الخلاف المشهور. ويؤيد الحديث عمل الصحابة.
وقد يقال إن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر كان بالاجتهاد فإنهم قاتلوا من تركوا الدين بالمرة كطي وأسد، وقاتلوا من منع الزكاة من تميم وهوازن. لأن الذين ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربا لكل أحد لم يعاهدوه على ترك الحرب. والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم، والرجل الواحد إذا منع الزكاة لا يقتل عند الجمهور.
أما قول من قال : المراد بالمنافقين هنا العرنيون. ففيه أن قتل العرنيين كان لمخادعتهم وغدرهم وقتلهم راعي الإبل التي أعطاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتمثيلهم به. على أن هذا القول واه جدا لأن العرنيين لا يأتي فيهم التفصيل الذي في الآيات، ولكن من هم هؤلاء ؟.
روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة، فقالوا مه، فقال " دعوه، ما تريد ؟ " قلت بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم. فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيد خالد فقال :( اذهب معه فافعل ما يريد ) فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم. فأنزل الله تعالى ﴿ ودّوا ﴾ حتى بلغ ﴿ إلا الذين يصلون ﴾ فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم. اه من لباب النقول وعزا الآلوسي هذه الرواية إلى ابن أبي شيبة.
وروى ابن جرير عن عكرمة أنه قال نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف اه من تفسيره. وعزا السيوطي هذه الرواية في اللباب إلى ابن أبي حاتم فقط، ثم قال : وأخرج أيضا عن مجاهد أنها أنزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وكان بينه وبين المسلمين عهد وقصده ناس من قومه فكره أن يقاتل المسلمين وكره أن يقاتل قومه.
وقال الرازي تبعا للكشاف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه من الجوار مثل ما لهلال.
وهذه الروايات كلها ترد ما ذكره السيوطي في أسباب نزول الآية الأولى صحيحة السند وضعيفة وتؤيد ما قاله الأستاذ في كون المنافقين في هذا السياق هم المنافقين في العهد والولاء.
وقوله :﴿ أو جاءوكم حصرت صدورهم ﴾ [ النساء : ٩٠ ] معطوف على الذين يصلون، والتقدير أو الذين جاءوكم قد حصرت صدروهم، وقرئ في الشذوذ " حصرت صدورهم " وعندي أنه تفسير للجملة بالحال لا قراءة.
وقد فسر بعضهم ﴿ إلا الذين يصلون إلى قوم ﴾ بصلة النسب، ورده المحققون قائلين إن كفار قريش الذين يتصل نسبهم بنسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يمتنع قتالهم بل كان أشد القتال منهم وعليهم فكيف يمتنع قتال من اتصل بالمعاهدين بالنسب ؟ ويريد من قال ذلك القول أن يفتح به بابا أغلقه الإسلام، وقد سرى سمه حتى إلى بعض من رد هذا القول فجعله بشرى لمن لا بشارة لهم فيه.
١ لفظ الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه" أخرجه البخاري في الجهاد باب١٤٩، والاعتصام باب ٢٨، والاستتابة باب٢، وأبو داود في الحدود باب١، والترمذي في الحدود باب٢٥، والنسائي في التحريم باب١٤، وابن ماجة في الحدود باب٢، وأحمد في المسند ١/٣٢٣، ٢٨٣، ٢٨٢، ٧، ٢، ٥/٢٣١..
﴿ *فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا٨٨ ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا٨٩ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا٩٠ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا٩١ ﴾.
ابتدأ هذه الآيات بالفاء لوصلها بما سبقها إذ السياق لا يزال جاريا في مجراه من أحكام القتال وذكر شؤون المنافقين والضعفاء فيه، ومن المنافقين من كان ينافق بإظهار الإسلام فتخونه أعماله كما تقدم، ومنهم من كان ينافق بإظهار الولاء للمؤمنين والنصر لهم وهم بعض المشركين ( وكذا بعض أهل الكتاب ) وهذه الآيات في المنافقين في إبان الحرب بإظهار الولاء والمودة أو بالإيمان في غير دار الهجرة، ورد في أسباب نزولها روايات متعارضة : روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس كانوا خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فرقتين : فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس فقال :( من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني ) فقال سعد بن معاذ : إن كان من أوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك. فقام سعد بن عبادة فقال ما لك يا ابن معاذ طاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال إنك يا ابن عبادة منافق وتحب المنافقين، فقام محمد بن سلمة فقال : اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يأمرنا فننفذ أمره. فأنزل الله ﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ الآية. وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحمّاها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم ما لكم رجعتم ؟ قالوا أصابنا وباء المدينة قالوا : أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ؟، فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا. فأنزل الله الآية، وفي إسناده تدليس وانقطاع اهـ من لباب النقول للسيوطي، والمراد بالذي يؤذي النبي في حديث سعد بن معاذ هو عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين، وما كان منه في قصة الإفك. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام ويعينون المشركين على المسلمين. ورجحها بعضهم حتى على رواية الشيخين بذكر المهاجرة في الآية الثانية.
﴿ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ﴾ هؤلاء فريق من الذين لم يهتدوا بالإسلام، ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله بحد الحسام، فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، لا يهمهم إلا سلامة أبدانهم، والأمن على أرواحهم وأموالهم، فهم يظهرون لكل من المتحاربين أنهم منهم أو معهم، روى ابن جرير عن مجاهد أنهم ناس كانوا يأتون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيسلمون رياء فيرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يؤمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا اه.
وروي عن ابن عباس أنه قال : كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام فيقرّب إلى العود والحجر وإلى العقرب والخنفساء فيقول المشركون له قل " هذا ربي " للخنفساء والعقرب.
وروي عن قتادة أنهم حي كانوا بتهامة قالوا : يا نبي الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، وأرادوا أن يأمنوا نبي الله ويأمنوا قومهم فأبى الله ذلك عليهم فقال ﴿ كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها ﴾، يقول كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
وروي عن السدي أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين ينقل الحديث بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمشركين. ولا يبعد أن يكون كل من ذكر من هذا الفريق وأن يكون منهم غير من ذكر.
ونزيد في بيان معنى قوله :﴿ كل ما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها ﴾ أنهم كانوا يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين إما بإظهار الإسلام وإما بالعهد على السلم وترك القتال ومساعدة الكفار على المؤمنين ثم يفتنهم المشركون أي يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين وهو الإركاس، فيرتكسون أي فيتحولون شر التحول معهم، ثم يعودون إلى ذلك النفاق والارتكاس المرة بعد المرة، أي فهم قد مردوا على النفاق فلا ينبغي أن يختلف المؤمنون في شأنهم، وقد بين الله حكمهم بقوله :
﴿ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي فإن لم يعتزلوكم بترككم وشأنكم والتزامهم الحياد، ويلقوا إليكم السلم أي زمام المسالمة بالصفة التي تثقون بها حتى كأن زمامها في أيديكم، ( وفسره بعضهم بالصلح ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس، إن لم يفعلوا ذلك ويؤمن به غدرهم وشرهم فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، إذ ثبت بالاختبار أنه لا علاج لهم غير ذلك، فقد قامت الحجة لكم على ذلك، وذلك قوله تعالى :﴿ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ﴾ أي جعلنا لكم حجة واضحة وبرهانا ظاهرا على قتالهم، فقد روي عن غير واحد أن السلطان في كتاب الله تعالى هو الحجة. وهذا يقابل قوله تعالى في من اعتزلوا وألقوا السلم ﴿ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾ وكل من العبارتين تؤيد الأخرى في بيان كون القتال لم يشرع في الإسلام إلا للضرورة، وأن هذه الضرورة تقدر بقدرها في كل حال.
قال الرازي : قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم... ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] وقوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ﴾ [ البقرة : ١٩٠ ] فخص الأمر بالقتال بمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا اه.
والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين من يقول إن في الآيات نسخا. ولا يظهر النسخ فيها إلا بتكلف فما وجه الحرص على هذا التكلف ؟ ويأتي في هذه الآية ما ذكرناه عقب التي قبلها في قتل المرتدين وغيرهم.
﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما٩٢ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما٩٣ ﴾.
لما بين الله تعالى أحكام قتل المنافقين الذين يظهرون الإسلام مخادعة ويسرون الكفر ويعينون أهله على قتال المؤمنين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم، ناسب أن يذكر أحكام قتل من لا يحل قتله من مؤمن ومعاهد وذمي وما يقع من ذلك خطأ فقال ﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ﴾ بينا في غير موضع أن هذا الضرب من النفي نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل أي ما كان من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن ولا من خلقه وعمله أن يقتل أحدا من أهل الإيمان وهو صاحب السلطان على نفسه والحاكم على إرادته المصرفة لعمله هو الذي يمنعه من هذا القتل أن يجترحه عمدا ولكنه قد يقع منه ذلك خطأ فقوله تعالى :﴿ إلا خطأ ﴾ منقطع معناه ما ذكرنا من الاستدراك. وقيل هو متصل معناه : ما ثبت ولا وجد قتل المؤمن للمؤمن إلا خطأ، وهو نفي بمعنى النهي للمبالغة.
﴿ ومن قتل مؤمنا خطأ ﴾ بأن ظنه كافرا محاربا والكافر الحربي غير المعاهد والمستأمن والذمي من إذا لم تقتله قتلك إذا قدر على قتلك، أو أراد رمي صيد أو غرض فأصاب المؤمن، أو ضربه بما لا يقتل عادة كالصفع باليد أو الضرب بالعصا فمات، وهو لم يكن يقصد قتله.
﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ أي فعليه من الكفارة على عدم تثبته تحرير رقبة مؤمنة أي عتق رقبة نسمة من أهل الإيمان من الرق، لأنه لما أعدم نفسا من المؤمنين كان كفارته أن يوجد نفسا، والعتق كالإيجاد، كما أن الرق كالعدم. عبر بالرقبة عن الذات لأن الرقيق يحني رقبته دائما لمولاه، كلما أمره ونهاه، أو يكون مسخرا له كالثور الذي يوضع النير على رقبته لأجل الحرث، ولهذا قال جمهور العلماء لا يجزئ عتق الأشلّ ولا المقعد لأنهما لا يكونان مسخرين ذلك التسخير الشديد في الخدمة الذي يحب الشارع إبطاله وتكريم البشر بتركه، ومثلهما الأعمى والمجنون الذي قلما يصلح للخدمة وقلما يشعر بذل الرق، وروي عن مالك أنه لا يجزئ عتق الأعرج الشديد العرج والأكثرون على أنه يجزئ كالأعور، وتفصيل هذه الأحكام في كتب الفقه. والحر والعتيق في أصل اللغة كريم الطباع، ويقولون الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد، وإنما يكونون لؤماء لأنهم يساسون بالظلم، ويسامون الذل، والتحرير جعل العبد حرا.
واختلفوا في تحديد معنى المؤمنة هنا فروي عن ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم من مفسري السلف وفقهائهم أنها التي صلت وعقلت الإيمان ويظهر هذا في الكافر الذي يسلم دون من نشأ في الإسلام. وقال آخرون من فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي أن كل من يصلى عليه إذا مات يجوز عتقه في الكفارة، وهذا هو التعريف المناسب لزمنهم الذي كثر فيه الأرقاء الناشئون في الإسلام.
وروى ابن جرير في سبب نزول هذه الآية عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال له ( قم فحرر ) ورواه ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا. وروي عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء في سرية حمل عليه بالسيف قال لا إله إلا الله، فضربه.
ثم قال ﴿ ودية مسلمة إلى أهله ﴾ أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية يدفعها إلى أهل المقتول. فالكفارة حق الله، والدية ما يعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه أو عن حقهم فيه. وهي مصدر ودي القتيل يديه وديا ودية ( كعدة وزنة من الوعد والوزن ) ويعرفها الفقهاء بأنها المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها. وقد أطلق الكتاب الدية وذكرها نكرة فظاهر ذلك أنه يجزئ منها ما يرضي أهل المقتول وهم ورثته قلّ أو كثر، ولكن السنة بينت ذلك وحددته على الوجه الذي كان معروفا مقبولا عند العرب. وأجمع الفقهاء على أن دية الحر المسلم الذكر المعصوم ( أي المعصوم دمه بعدم ما يوجب إهداره ) مئة بعير مختلفة في السن، وتفصيلها في كتب الفقه. وقالوا يجوز العدول عن الإبل إلى قيمتها والعدول عن أنواعها في السن بالتراضي بين الدافع والمستحق. وإذا فقدت وجبت قيمتها. ودية المرأة ومثلها الخنثى نصف دية الرجل. والأصل في ذلك أن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أكبر من المنفعة التي تفوت بفقد الأنثى فقدرت بحسب الإرث. وظاهر الآية أنه لا فرق بين الذكر والأنثى.
وفي حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه ( أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياؤه المقتول، وإن في النفس الدية مئة من الإبل ) إلى أن قال بعد ذكر قود الأعضاء ( وعلى أهل الذهب ألف دينار ) وهذا يدل على أن دية الإبل على أهلها التي هي رأس مالهم، وأن على أهل الذهب الدية من الذهب، وظاهر الحديث أن الدية على الذين يتعاملون بالنقد كأهل المدن تكون من الذهب والفضة وأن هذا أصل لا قيمة للإبل. وسيأتي مزيد لبحث الدية في دية الكافر. والحديث روي مرسلا عند أبي داود والنسائي وموصولا عند غيرهما واختلف فيه وعمل به الجماهير. والاعتباط القتل بغير سبب شرعي من اعتبط الناقة إذا ذبحها لغير علة. والقود ( بالتحريك ) القصاص أي يقتل به إلا إذا عفا عنه أولياء المقتول.
وقوله تعالى :﴿ إلا أن يصدقوا ﴾ معناه أن الدية تجب على قاتل الخطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم فلا تجب حينئذ لأنها إنما فرضت لهم تطيبا لقلوبهم وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتل صاحبهم وإرضاء لأنفسهم عن القاتل حتى لا تقع العداوة والبغضاء بينهم. فإذا طابت نفوسهم بالعفو عنها حصل المقصود، وانتفى المحذور، لأنهم يرون أنفسهم بذلك أصحاب فضل ويرى القاتل لهم ذلك، وهذا النوع من الفضل والمنة لا يثقل على النفس حمله كما يثقل عليها حمل منة الصدقة بالمال، وقد عبر عنه بالتصدق للترغيب فيه.
﴿ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن ﴾ أي فإن كان المقتول من أعدائكم والحال أنه هو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين يحاربونهم وقد آمن ولم يعلم المسلمون بإيمانه لأنه لم يهاجر وإنما قتله عياش في حال خروجه مهاجرا لأنه لم يعلم بذلك. ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه إذا قتل ﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ أي فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على عداوتهم وقتالهم وقيل أن ديته واجبة لبيت المال، ولو صح هذا لما سكت عنه الكتاب في معرض البيان.
﴿ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ وهم المعاهدون لكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما عليه الدول في هذا العصر كلهم معاهدون قد أعطى كل منهم للآخرين ميثاقا على ذلك وهو ما يعبر عنه بالمعاهدات وحقوق الدول، ومثلهم أهل الذمة بعموم الميثاق أو بقياس الأولى ﴿ فدية مسلّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ﴾ أي فالواجب في قتل المعاهد والذمي هو كالواجب في قتل المؤمن : دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى الذي حرم قتل الذميين والمعاهدين، كما حرم قتل المؤمنين، وقد نكر الدية هنا كما نكرها هناك وظاهره أنه يجزئ كل ما يحصل به التراضي وإن للعرف العام والخاص حكمه في ذلك ولا سيما إذا ذكر في عقد الميثاق أن من قتل تكون ديته كذا وكذا فإن هذا النص أجدر بالتراضي وأقطع لعرق النزاع. وسيأتي ما ورد من الروايات المرفوعة والآثار في ذلك.
وقد قدم هنا ذكر الدية وأخر ذكر الكفارة وعكس في قتل المؤمن، ولعل النكتة في ذلك الإشعار بأن حق الله تعالى في معاملة المؤمنين مقدم على حقوق الناس ولذلك استثنى هنالك في أمر الدية فقال ﴿ إلا أن يصدقوا ﴾ لأن من شأن المؤمن العفو والسماح، والله يرغبهم فيما يليق بكرامتهم ومكارم أخلاقهم، ولم يستثن هنا لأن من شأن المعاهدين المشاحة والتشديد في حقوقهم، وليسوا مذعنين لهداية الإسلام فيرغبهم كتابه في الفضائل والمكارم، وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة. ومن محاسن نظم الكلام وتأليفه أن يؤخر المعطوف الذي له متعلق على ما ليس له متعلق وما متعلقاته أكثر على ما متعلقاته أقل وهذه نكتة لفظية لتأخير ذكر الدية في حق المؤمن إذا تعلق بها الوصف وهو قوله ﴿ مسلّمة إلى أهله ﴾ والاستثناء وهو قوله ﴿ إلا أن يصّدّقوا ﴾.
ثم إنه لم يقل هنا في الدية ﴿ مسلّمة إلى أهله ﴾ ويدل ذلك على أن القاتل لا يكلف أن يوصل الدية إلى أهل المقتول ألبتة وهم في غير حكم المسلمين إذ ربما يتعذر أو يتعسر عليه ذلك، ولأنها حق لهم فعليهم أن يحضروا لطلبه وأخذه، وقد يكون من شروط العهد أن تعطى إلى رؤساء قوم المقتول وحكامهم الذين يتولون عقد العهود والمواثيق أو إلى من ينيبونه عنهم في دار الإسلام، فوسع الله في ذلك. هذا ما ظاهر لي في هذه الإطلاقات والقيود ونكتها ولم أر من بينها.
هذا هو الذي تعطيه الآية في دية غير المسلم إذا لم يكن محاربا وناهيك به عدلا. وقد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين لاختلاف الرواية وعمل الصدر الأول فيه، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( عقل الكافر نصف دية المسلم ) ١ رواه أحمد والترمذي وحسنه. وفي لفظ " قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين " ٢ رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال معروف والجمهور على قوله. والمراد بالعقل الدية لأن الأصل فيها عند العرب الإبل تعقل في فناء دار أهل المقتول. ولفظ الكافر في الحديث عام يشمل الكتابي وغيره ورواية أهل الكتابين لا تصلح لتخصيصه ولا لتقييده فإنها صادقة في نفسها ومفهوم اللقب ليس بحجة. وفي رواية أخرى للحديث ( كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمان مئة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم. قال وكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال : إن الإبل قد غلت. قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق ( الفضة ) اثني عشر ألفا ( أي من الدراهم ) وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألف شاة وعلى أهل الحلل مئتي حلة. قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. رواه أبو داود٣.
وروى الشافعي والدارقطني والبيهقي وابن حزم عن سعيد بن المسيب قال كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلا
١ أخرجه الترمذي في الديات باب١٦..
٢ أخرجه ابن ماجة في الديات باب١٣، وأحمد في المسند ٢/٢٢٤، ١٨٣..
٣ كتاب الديات باب ١٦، وأخرجه أحمد في المسند ٢/١٨٠، ٢١٥..
ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن تعمدا بما يوافق مفهوم هذه الآية من كونه ليس من شأنه أن يقع من مؤمن فلم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعد به الكافرين فقال :﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما ﴾.
قال الأستاذ الإمام : هذا فرع عن كون القتل ليس من شأن المؤمن مع المؤمن لأنه ينافي الإيمان. وقال ابن عباس هذه الآية آخر آية نزلت في عقاب القتل. وقال بعض الصحابة إن قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ النساء : ٤٨ ] نزل قبل هذه الآية بستة أشهر فهذه الآية مخصصة له وقد قلنا من قبل إن قوله تعالى :﴿ لمن يشاء ﴾ فيه مع تغليظ أمر الشرك أن كل شيء بمشيئته تعالى فلو شاء أن يخصص أحدا بالمغفرة فلا مردّ لمشيئته.
وقد يقال إنه أخرج من هذه المشيئة من يقتل مؤمنا متعمدا فآية :﴿ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ نزلت ترغيبا للمشركين الذين آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، وهم الذين نزل فيهم :﴿ إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٨ ] وقد نقل عن ابن عباس أن قاتل العمد لا توبة له وقالوا إن آية الفرقان نزلت في المشركين والتوبة فيها متعلقة بعدة أعمال منها القتل ومنها الشرك.
أقول ويعني بآية الفرقان قوله تعالى :﴿ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ] بعد أن ذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، وتوعد على ذلك كله بمضاعفة العذاب والخلود فيه.
قال : وقد يقال كيف تقبل التوبة من المشرك القاتل الزاني ولا تقبل من المؤمن الذي ارتكب القتل وحده ؟ ويمكن أن يُجاب من القائلين بعدم توبة القاتل بأن المشرك الذي لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور له شبه عذر لأنه كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة وما يتبع ذلك، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه هو كفر وضلال تاب وأناب وآمن وعمل الصالحات، فهو جدير بالعفو وإن كان في إجرامه السابق مقصرا في النظر والاستدلال، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وتحريم الله للقتل وجعل قاتل النفس البريئة كقاتل الناس جميعا فلا عذر له، بل لا يعقل أن يرجح هواه على إيمانه مع أنه لم يطرأ على إيمانه من الشك الاضطراري ما يكون له شبه عذر. أما إذا طرأ عليه ذلك فإن حكمه حكم القاتل الكافر. وذلك أن الكافر الذي بلغته الدعوة ولم يؤمن لم يعرض عن الإيمان إلا لأن الدليل لم يظهر له على صحة النبوة، وهو يعاقب على التقصير في النظر وتصحيح الاستدلال حتى يخلد في النار. وإذا أحسن النظر وتبين له الهدى فآمن واهتدى يغفر له ما قد سلف في زمن الكفر، لأنه كان عملا مرتبا على الكفر، والكفر نفسه كان خطأ منه فأشبه قتله قتل الخطأ. ومثله من أخطأ في الدليل بعد التسليم به لشبهة عرضت على إيثاره لهواه على ما عند الله.
أما القاتل المؤمن فأمره على غير ذلك فإنه مؤمن بالله وبرسوله وبما جاء به إيمان يقين وإذعان لما جاء به الدين من تعظيم أمر الدماء، وهو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير بحكم الإيمان فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه، وحل ما عقده وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته وتجرئة الناس على مثل ذلك حتى يهن المسلمون ويضعفوا ويكون بأسهم بينهم شديدا. لا جرم أن عقابه يكون شديدا بحيث لا تقبل توبته.
ومن نظر إلى انحلال أمر الإسلام والمسلمين بعدما أقدم بعضهم على سفك دم بعض من زمن طويل يظهر له وجه هذا وأن القاتل لا يعذر بهذه الجراءة على هذه الجريمة وهو لم تعرض له شبهة في أمر الله، إذ لا رائحة للعذر في عمله بل هو مرجح للغضب وحب الانتقام وشهوة النفس على أمر الله تعالى، ومن فضل شهوة نفسه الخسيسة الضارة على نظر الله وعلى كتابه ودينه ومصلحة المؤمنين بغير شبهة ما فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، ويدل على هذا قوله تعالى :﴿ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ [ آل عمران : ١٣٤ ] وتأمل قوله :﴿ يعلمون ﴾ ولو سمح الله أن يفضل أحد شهوته أو حميته وغضبه على الله ورسوله وكتابه ودينه والمؤمنين، ووعده بالمغفرة، لتجرأ الناس على كل شيء ولم يكن للدين ولا للشرع حرمة في قلوبهم. فهذا تقرير قول من قالوا إن القاتل لا تقبل توبته ولابد من عقابه والروايات فيه عن الصحابة والسلف كثيرة تراجع في تفسير ابن جرير.
هذا ما عندنا عن الأستاذ الإمام في الآية وهو من خير ما يبين به وجه ما ذهب إليه المشددون في هذه الجناية. وقال الزمخشري في الكشاف.
" هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم، وخطب غليظ "، ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة. وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا لا توبة له. وذلك محمول منهم على سنة الله في التغليظ والتشديد وإلا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث :( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم ) ١ وفيه :( لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه ) وفيه ( إن هذا الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه ) ٢ وفيه ( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ) ٣.
والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث وقول ابن عباس بمنع التوبة ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة. ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ [ محمد : ٢٤ ] اه.
أقول : وقد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار وأوّله بعضهم بطول المكث فيها وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار فيقال إن المراد به طول المكث أيضا. وقال بعضهم إن هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله تعالى وقد يعفو عنه فلا يجازيه، رواه ابن جرير عن أبي مجلز. وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد وأن العفو والتجاوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله تعالى، فليس في هذا التأويل تفص من خلود بعض القاتلين في النار، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين، لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين. وقال بعضهم إن هذا الوعيد مقيد بقيد الاستحلال والمعنى ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له فجزاؤه جهنم خالدا فيها الخ. وفيه أن الآية ليس فيها هذا القيد ولو أراده الله تعالى لذكره كما ذكر قيد العمد، وأن الاستحلال كفر فيكون الجزاء متعلقا به لا بالقتل، والسياق يأبى هذا.
وقال بعضهم إن هذا نزل في رجل بعينه فهو خاص به. وهذا أضعف التأويلات، لا لأن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب فقط بل لأن نص الآية على مجيئه بصيغة العموم " من " الشرطية جاء بفعل الاستقبال فقال :" ومن يقتل " ولم يقل :" ومن قتل ". وقال آخرون إن هذا الجزاء حتم إلا من تاب وعمل من الصالحات ما يستحق به العفو عن هذا الجزاء كله أو بعضه. وفيه أنه اعتراف بخلود غير التائب المقبول التوبة في النار، ولعل أظهر هذه التأويلات قول من قال إن المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود وهم لا يعتقدون أن شيئا يدوم دواما لا نهاية له. وكون حياة الآخرة لا نهاية لها لم يؤخذ من هذا اللفظ وحده بل من نصوص أخرى.
إن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) كان يقول : إن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له كما ذكرنا ذلك في عبارة شيخنا وعبارة الكاشف، ونقل ابن جرير القول بقبول توبته عن مجاهد وهو تلميذ ابن عباس. وذكر روايات كثيرة عن ابن عباس في عدم قبول توبته منها رواية سالم ابن أبي الجعد قال كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال :﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ﴾ فقال أفرأيت فإن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه، وأنى له التوبة ؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول :( ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا جاء يوم القيامة آخذا بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بيده الأخرى يقول : سل هذا فيم قتلني ) ٤ والذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسخها من آية أخرى حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان. وفي رواية أخرى : فما جاء نبي بعد نبيكم ولا نزل كتاب بعد كتابكم.
وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين اللتين في النساء ﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا ﴾ إلى آخر الآية، والتي في الفرقان :﴿ ومن يفعل ذلك يلق آثاما ﴾ إلى ﴿ ويخلد فيه مهانا ﴾ [ الفرقان : ٦٩ ]. قال ابن عباس إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له، وأما التي في الفرقان فإنها لما نزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله ( أي أشركنا ) وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق فما ينفعنا الإسلام ؟ قال فنزلت :﴿ إلا من تاب ﴾ وفي رواية أخرى قال إنها نزلت في أهل الشرك. وروي عنه أنه قال : إن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بسنة، وفي رواية أخرى بثماني سنين، وهذه أقرب فإن سورة الفرقان مكية حتما وسورة النساء مدنية نزل أكثرها بعد غزوة أحد كما تقدم وأما الرواية التي ذكرها الأستاذ الإمام وهي أنها نزلت بعدها بستة أشهر فقد رواها ابن جرير عن زيد بن ثابت. وروي عن ابن مسعود أن الآية محكمة وما تزداد إلا شدة. وعن الضحاك أنه ما نسخها شيء وأنه ليس له توبة.
وقد بين الأستاذ الإمام الفرق بين قبول توبة المشرك من الشرك وما يتبعه من الجرائم وعدم قبول توبة المؤمن من القتل على قول ابن عباس، وهو فرق واضح معقول من وجه وغير معقول من وجه آخر، وهو أنه لا ينطبق على قاعدتنا في حكمة الله في الجزاء على الشرك والذنوب وعلى الإيمان والأعمال الصالحة وقد بيناها مرارا كثيرة، وهي أن الجزاء تابع لتأثير الاعتقاد والعمل في تزكية النفس أو تدسيتها.
نعم إن إقدام المرء بعد الإيمان ومعرفة ما عظم الله تعالى من تحريم الدماء وما شدد من الجزاء على جريمة القتل يكاد يكون ردة عن الإسلام وهو أولى بما ورد في الصحيح ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ٥ الخ وقد تقدم في بحث التوبة في تفسير هذه السورة، فإن القتل أكبر إثما وأشد جرما من الزنا والسرقة وشرب الخمر التي ورد بها الحديث، ولكن لا نسلم ما قاله شيخنا من أنه ليس لفاعله شبهة عذر بعد الإسلام، وإذا سلمنا ذلك وحكمنا بأن نفس القاتل قد صارت بالقتل شر النفوس وأشدها رجسا، وأبعدها عن موجبات الرحمة، وهو معنى ما في الآية من اللعنة، فلا نستطيع أن نحكم بأن صلاحها بالتوبة النصوح والمواظبة على الأعمال الصالحة متعذر ولا متعسر.
أما شبهة العذر أو شبهه فقد يظهر فيمن كان شديد الغضب حديد المزاج، إذا رأى من خصمه ما يثير غضبه وينسيه ربه، فقد يندفع إلى القتل لا يملك فيه نفسه، إلا أن يقال إن هذا القتل لا يعد من العمد أو التعمد الذي هو أبلغ من العمد لما في صيغة التفعل من الدلالة على معنى التربص أو التروي في الش
١ أخرجه الترمذي في الديات باب٧، وابن ماجة في الديات باب١..
٢ رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث١/١٥٨، من حديث سليمان عليه السلام ولفظه:"من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون"..
٣ أخرجه ابن ماجة في الديات باب١..
٤ أخرجه أحمد في المسند ١/٢٩٤، ٢٤٠..
٥ أخرجه ابن ماجة في الفتن باب٣..
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا٩٤ ﴾.
روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ﴾ ١ الآية. وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير فقال أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( كيف لك بلا إله إلا الله غدا ) وأنزل الله هذه الآية. وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله ابن أبي حدرد الأسلمي قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا، فحمل عليه محلم فقتله. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ﴾ الآية. وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه. وروى الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن اسم المقتول مرداس بن نهيك من أهل فدك وأن اسم القاتل أسامة بن زيد وأن اسم أمير السرية غالب بن فضالة الليثي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده وكان ألجأ غنمه بجبل فلما لحقوه قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد. فلما رجعوا نزلت الآية.
وأخرج ابن جرير من طريق السدي وعبد ( كذا وهو عبد الرزاق ) من طريق قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال أنزلت هذه الآية... في مرداس. وهو شاهد حسن. وأخرج ابن منده عن جزء بن الحدرجان قال وفد أخي قداد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيته سرية النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم أنا مؤمن فلم يقبلوا منه وقتلوه فبلغني ذلك فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية أخي. انتهى من لباب النقول. وحديث جزء إسناده مجهول كما قال الحافظ في الإصابة ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية لأن مثل هذا من شأنه أن يقع في مثل تلك الحال. وقد أورد الروايات ابن جرير بزيادة تفصيل والآية متصلة بما قبلها والظاهر أنها نزلت معها بعد وقوع تلك الحوادث وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها.
الأستاذ الإمام : بين الله تعالى في الآية السابقة بعض أحكام المنافقين ومنه نهي المؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا ومنها أن الذين يلقون إلى المؤمنين السلم ويعتزلون قتالهم لا يجوز لهم أن يقاتلوهم. فنهى عن قتل من لم يقاتل. ثم ذكر أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ. وبعد هذا أراد تعالى أن ينبه المؤمنين على ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين. وذلك أن الإسلام كان قد انتشر ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميلون إلى الإسلام ويتربصون الفرص للاتصال بأهله للدخول فيهم فأعلم الله المؤمنين بذلك وأمرهم أن لا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرا وأن يتبينوا فيمن تظهر منهم علامات الإسلام كالشهادة أو السلام الذي هو تحية المؤمنين وعلامة الأمن والاستئمان، وأن لا يحملوا مثل هذا على المخادعة إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألمّ بها إن لم يكن تمكن فيها، وقد أفادت الآية أن ما سبق من قتل من ألقى السلام لشبهة التقية قد مضى على أنه من قتل الخطأ وأن الله تعالى أراد بإنزالها أن يعد ما يقع منه بعد نزولها من قتل العمد لأنه أمر فيها بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعي الإسلام ولو بإلقاء تحيته فكيف بمن ينطق بالشهادتين. ثم ذكر ما من شأنه أن يقوي الشبهة في نفس من يظن أن إظهار الإسلام لأجل التقية وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا. فهدى المؤمن بهذا إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبني الظن على ميله وهواه، بل أوجب عليه أن يبني على الظاهر ويقبله حتى يتبن له خلافه اه.
أقول ويزاد على هذا أن إلقاء السلام قد يكون إلقاء للسلم وإيذانا بعدم الحرب، وقرئ في المتواتر ( السلم ) كما يأتي قريبا وقد علم من الآيات السابقة في هذا السياق نفسه النهي عن قتل الذين يعتزلون القتال ويكفون أيديهم عنه ويلقون السلم إلى المؤمنين فليس الإسلام وحده هو المانع من القتل، إذ ليس الكفر وحده هو الموجب له. وإنما كان الكفار هم الذين بدأوا المسلمين بالحرب وما كان القتال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا دفاعا حتى في الغزوات التي صورتها صورة المهاجمة وما هي إلا مهاجمة قوم حرب يدعون إلى السلم فلا يجيبون، وما رضوا بالسلم مرة وأباها النبي صلى الله عليه وسلم حتى في صلح الحديبية التي ثقلت فيها شروط المشركين على المؤمنين، وكيف يأباها والله تعالى يقول له :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ﴾ [ الأنفال : ٦٢ ] وقد أشار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري إلى هذا فاشترط فيمن يباح قتله أن يكون حربا للمسلمين، وإننا نذكر عبارته في ذلك، وعليها نعتمد في جل تفسير الآية قال :
يعني جل ثناؤه بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ ياأيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم :﴿ إذا ضربتم في سبيل الله ﴾ إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم ﴿ فتبينوا ﴾ يقول فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم ﴾ يقول ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم ﴿ لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ﴾ فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا أي طلبا لمتاعها الذي هو عرض زائل، وما أذن الله لكم في قتال الذين يقاتلونكم لتكونوا مثلهم في أطماعهم الدنيوية بل للدفاع عن الحق وإعلاء كلمته ونشر هدايته ﴿ فعند الله مغانم كثيرة ﴾ من رزقه وفواضل نعمه.
هذا ما قاله ابن جرير ذكرناه بلفظه إلا تفسير قوله تعالى :﴿ لست مؤمنا ﴾ الخ فقد ذكرناه بالمعنى مع زيادة ما. والتبين طلب بيان الأمر. وقرأ حمزة والكسائي ( فتثبتوا ) في الموضعين من التثبيت في الأمر وهو التأني واجتناب العجلة. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة ( السلم ) بغير ألف وهو كالسلم بكسر السين ضد الحرب، وبه فسر بعضهم قراءة الباقين ( السلام ) بالسلم وهو معناه الأصلي والضرب في الأرض ضربها بالأجل في السفر.
أما قوله تعالى :﴿ كذلك كنتم من قبل ﴾ ففيه وجهان :
( أحدها ) أنكم كنتم كذلك تستخفون بدينكم كما استخفى بدينه من قومه هذا الذي ألقى إليكم السلام فقتلتموه إلى أن لحق بكم، أي فإنه ما بقي يخفي الإسلام بينهم، إلا خوفا على نفسه منهم، وكذلك كان السابقون الأولون وهم خيار المؤمنين يخفون إسلامهم حتى أسلم عمر فأظهر إسلامه وحملهم على إظهار إسلامهم ثم كان من بعدهم إذا أسلم يخفي إسلامه حتى يتيسر له الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ﴿ فمن الله عليكم ﴾ بالهجرة والقوة حتى أظهرتم الإسلام ونصرتموه.
و( الوجه الثاني ) أنكم كذلك كنتم كفارا مثل من قتلتم بتهمة الكفر فمن الله عليكم بالهداية إلى الإسلام فمنكم من أسلم لظهور حقية الإسلام له من أول وهلة ومنكم من أسلم تقية أو لسبب آخر ثم حسن إسلامه عند ما خبر الإسلام وعرف محاسنه.
وقيل معنى :﴿ فمن الله عليكم ﴾ أنه تفضل عليك بالتوبة من قتل من قتلتموه بهذه التهمة التي كنتم مثله فيها ﴿ فتبينوا ﴾ أي اطلبوا البيان أو كونوا على بينة من الأمر تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن ولا بالظنة ( التهمة )، أو تثبتوا ولا تعجلوا بعد في مثل هذا ﴿ إن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ لا يخفى عليه شيء من نيتكم فيه ومن المرجح له هل هو محض الدفاع عن الحق أم ابتغاء الغنيمة. قال الأستاذ الإمام هذا تأكيد لذلك التنبيه في قوله :﴿ تبتغون عرض الحياة الدنيا ﴾ لأجل التحذير من الوقوع في مثل هذا الخطأ فهو شبيه بالوعيد. ويحتمل أن يكون وعيدا إذا قلنا إن قوله تعالى :﴿ تبتغون عرض الحياة الدنيا ﴾ حكم جديد بأن قتل من ألقى السلام يعدّ من قتل المؤمن عمدا. والمعنى أن الله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء من مرجحات الحمل عليها في نفوسكم فإن كان فيه ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تغفلوا، بل تثبتوا وتبينوا، وحكم الآية يعمل به بصرف النظر عن سبب نزولها وهو أن كل من أظهر الإسلام يقبل منه ويعد مسلما ولا يبحث عن الباعث له على ذلك، ولا يتهم في صدقه وإخلاصه.
أقول فأين هذا من حرص من لم يهتدوا بكتاب الله في إسلامهم ولا في عملهم بأحكامه على تكفير من يخالف أهواءهم من أهل القبلة بل من أهل العلم الصحيح والدعوة إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ! ! فليعتبر المعتبرون.
هذا وإن الجاهلين بتاريخ الإسلام، وبأحوال الأمم والدول إلى هذا الزمان، يظنون أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ملومين في أخذ الغنائم ممن يظفرون بهم، وأن بعض أمم الحضارة صارت أرقى في هذا الأمر منهم، وأن قوانينها في الحرب أقرب إلى النزاهة والعدل من أحكام الإسلام، وكيف هذا وقوانين الدول المرتقية كلها تبيح أخذ كل ما تصل إليه اليد من أموال المحاربين ؟ لا يصدهم عن ذلك سلاح ولا دين، وقد علمت من هذه الآيات أن الإسلام يمنع قتل من يظهر الإسلام، ومن يلقي السلم أو السلام، ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق، إما على المناصرة وإما على ترك القتال، ومن اتصل بأهل الميثاق المعاهدين، ومن اعتزل القتال فلم يساعد فيه قومه المقاتلين، وبعد هذا كله رغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال، ليكون لمحض رفع البغي والعدوان، وتقرير الحق والإصلاح، ولا هم لجميع الدول والأمم الآن، إلا الربح وجمع الأموال، وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء، ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء، وهو ما شدد الإسلام في حفظه، وحافظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم في عهده، وحافظ عليه خلفاؤه الراشدون من بعده، فأين أرقى أمم المدنية من أولئك الأئمة المهديين، رضوان الله عليهم أجمعين.
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة٤، باب ١٧، والترمذي في تفسير سورة٤، باب١٦، وأحمد في المسند ١/٣٢٤..
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما٩٥ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما٩٦ ﴾.
مضت سنة القرآن في مزج آيات الأحكام العملية بما يرغب في الأعمال الصالحة وينشط عليها، ويحفز الهمم إليها، وينفر من القعود عنها، والتكاسل والتواكل فيها، وعلى هذه السنة جاءت هاتان الآيتان بين آيات أحكام القتال، فهما متصلتان بها أتم الاتصال.
قال تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين ﴾ أي عن الجهاد في سبيل الله لتأييد حرية الدين، وصد غارات المشركين، وتطهير الأرض من الفساد، وإقامة دعائم الحق والإصلاح ﴿ غير أولي الضرر ﴾ العاجزين عن هذا الجهاد كالأعمى والمقعد والزمِن والمريض ﴿ والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها، وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الصعاب في القتال، مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم في الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمؤنة، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل في سبيل الحق، لأجل منع القتل في سبيل الطاغوت، لأن المجاهدين هم الذين يحمون أمتهم وبلادهم، والقاعدين الذين لا يأخذون حذرهم، ولا يعدون للدفاع عدتهم، يكونون عرضة لفتك غيرهم بهم، ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٥٠ ] بغلبة أهل الطاغوت عليها، وظلمهم لأهلها، وإهلاكهم للحرث والنسل فيها.
﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ﴾ هذا بيان لمفهوم عدم استواء المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر، وهو أن الله تعالى رفع المجاهدين عليهم درجة وهي درجة العمل الذي يترتب عليه دفع شر الأعداء عن الملة والأمة والبلاد ﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي ووعد الله المثوبة الحسنى كلا من الفريقين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد عجزا منهم عنه وهم يتمنون لو قدروا عليه فقاموا به، فإن إيمان كل منهما واحد وإخلاصه واحد. قدم مفعول " وعد " الأول وهو لفظ " كلا " لإفادة حصر هذا الوعد الكريم في هذين الفريقين المتساويين في الإيمان والإخلاص، المتفاضلين في العمل، لقدرة أحدهما وعجز الآخر. وفسر قتادة الحسنى بالجنة.
﴿ وفضل الله المجاهدين ﴾ بأموالهم وأنفسهم ﴿ على القاعدين ﴾ من غير أولي الضرر كما قال ابن جريج ﴿ أجرا عظيما ﴾ وهو ما يبينه قوله تعالى :﴿ درجات منه ومغفرة ورحمة ﴾.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن نافعا وابن عامر قرءا ﴿ غير أولي الضرر ﴾ بنصب " غير " على الحال أو الاستثناء وقرأها الباقون بالرفع وهي حينئذ صفة للقاعدون. وقرئت بالجر شذوذا على أنها صفة للمؤمنين أو بدل منهم. وقوله :﴿ أجرا عظيما ﴾ نصب " أجر " على المصدر لأنه بمعنى أجرهم أجرا عظيما، أو على الحال " ودرجات " بدل منه.
وقد تركت ما ذكروه في تفسير الآية من حديث زيد بن ثابت في كون قوله :﴿ غير أولي الضرر ﴾ نزل لأجل ابن أم مكتوم لأن هذا من المشكلات الجديرة بالرد مهما قووا سندها، ولعلنا نفصل القول فيها في مقدمة التفسير.
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما٩٥ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما٩٦ ﴾.
مضت سنة القرآن في مزج آيات الأحكام العملية بما يرغب في الأعمال الصالحة وينشط عليها، ويحفز الهمم إليها، وينفر من القعود عنها، والتكاسل والتواكل فيها، وعلى هذه السنة جاءت هاتان الآيتان بين آيات أحكام القتال، فهما متصلتان بها أتم الاتصال.
﴿ درجات منه ومغفرة ورحمة ﴾ أما الدرجات فقد بينا في غير هذا الموضع ما تدل عليه الآيات المتعددة فيها من تفاوت درجات الناس في الدنيا والآخرة ومنها قوله تعالى :﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] وبينا أن درجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا في الإيمان والفضيلة والعمل النافع، لا في الرزق وعرض الدنيا. وقد حمل بعض المفسرين الدرجات هنا على ما يكون للمجاهد في الدنيا من الفضائل والأعمال فقال قتادة : كان يقال : الإسلام درجة، والإسلام في الهجرة درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتال في الجهاد درجة اه.
وجعل بعضهم الجهاد هنا عدة درجات بحسب ما فيه من الأعمال الشاقة فقال ابن زيد : الدرجات هي السبع التي ذكرها الله تعالى في سورة براءة ( التوبة ) ﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، ولا نصب، ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ [ التوبة : ١٢١ ] يعني أن هذه الأمور السبعة التي يتعرض لها المجاهدون هي الدرجات لأن لكل منها أجرا كما قال تعالى ومجموعها مع المغفرة والرحمة هو الأجر العظيم، والصواب أن المراد هنا درجات الآخرة لأنها تفسير للأجر كما قال ابن جرير، وهي مرتبة على ما ذكر وعلى غيره مما يفضل المجاهدون به القاعدون، وأهمه مصدره من النفس وهو قوة الإيمان بالله وإيثار رضاه على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة. والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي أن يكون لذنوبهم في نفوسهم عند الحساب أثر من الآثار التي قضى عدل الله بأن تكون سبب العقاب لأن ذلك الأثر يتلاشى في تلك الأعمال التي استحقوا بها الدرجات كما يتلاشى الوسخ القليل في الماء الكثير. والرحمة ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه.
قال البيضاوي : وقيل الأول ما خولهم الله في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر والثاني ما حصل لهم في الآخرة. وقيل الدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله. والدرجات منازلهم في الجنة. وقيل القاعدون الأول الأضراء، والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم. وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار، والآخرون من جاهد نفسه، وعليه قول علي عليه السلام : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر اه.
﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ وكان شأن الله وصفته أنه غفور لمن يستحق المغفرة، رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة، فهو ما فضلهم بذلك إلا بما اقتضته صفاته، وما هو شأنه في نفسه، فإذا لا بد من ذلك الأجر العظيم بأنواعه لا مرد له.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩* ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما١٠٠ ﴾.
روى البخاري١ عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ وأخرجه ابن مردويه وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا القيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف. وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا :" غر هؤلاء دينهم " فقتلوا ببدر.
وأخرجه ابن أبي حاتم وزاد منهم الحارث بن زمعة بن أسود والعاص بن منبه بن الحجاج. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ إلا المستضعفين ﴾.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾ فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل. وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه. اهـ من لباب النقول.
أقول : هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق أحكام القتال لأن بلاد العرب كانت في ذلك العهد قسمين دار هجرة المسلمين ومأمنهم ودار الشرك والحرب. وكان غير المسلم في دار الإسلام حرا في دينه لا يفتن عنه وحرا في نفسه لا يمنع أن يسافر حيث شاء. وأما المسلم في دار الشرك فكان مضطهدا في دينه يفتن ويعذب لأجله ويمنع من الهجرة إن كان مستضعفا لا قوة له ولا أولياء يحمونه، وكانت الهجرة لأجل هذا واجبة على كل من يسلم ليكون حرا في دينه آمنا في نفسه، وليكون وليا ونصيرا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين كان الكفار يهاجمونهم المرة بعد المرة، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها. وكان كثير منهم يكتم إيمانه ويخفي إسلامه ليتمكن من الهجرة.
وفي مثل هذه الحال ينقسم الناس بالطبع إلى أقسام منهم من ذكرنا ومنهم القوي الشجاع الذي يظهر إيمانه وهجرته وإن عرض نفسه للمقاومة، ومنهم من يؤثر البقاء في وطنه بين أهله لأنه لضعف إيمانه يؤثر مصلحة الدنيا التي هو فيها على الدين، ومنهم الضعيف المستضعف الذي لا يقدر على التفلت من مراقبة المشركين وظلمهم ولا يدري أية حيلة يعمل ولا أي طريق يسلك. وقد بين الله حكم من يترك الهجرة لضعف دينه وظلمه لنفسه مع قدرته عليها لو أرادها، ومن يتركها لعجزه وقلة حيلته وظلم المشركين له
فقال :
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ الخ توفي الشيء أخذه وافيا تاما، وتوفي الملائكة للناس عبارة عن قبض أرواحهم عند الموت، ولفظ توفاهم.
هنا يحتمل أن يكون فعلا ماضيا أي توفتهم الملائكة، وكل من تذكير الفعل وتأنيثه جائز هنا. وعلى هذا تكون العبارة حكاية حال ماضية، ويكون سحب حكمهم على جميع من كانت حاله مثل حالهم بطريق القياس. ويحتمل وهو الأقرب أن يكون فعلا مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين فيكون الحكم فيه عاما بنص الخطاب. والمعنى أن الذين تتوفاهم الملائكة بقبض أرواحهم عند انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بعدم إقامة دينهم وعدم نصره وتأييده، وبرضاهم بالإقامة في الذل والظلم حيث لا حرية لهم في أعمالهم الدينية ﴿ قالوا فيم كنتم ﴾ أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم ( وفيه الالتفات على الوجه المختار ) : في أي شيء كنتم من أمر دينكم. قال في الكشاف معنى " فيم كنتم " التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا. يعني أن الاستفهام يراد به التوبيخ على شيء معلوم، لا حقيقة الاستعلام عن شيء مجهول، ولهذا حسن في جوابه.
﴿ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ﴾ وهو اعتذار من تقصيرهم الذي وبخوا عليه بالاستضعاف أي إننا لم نستطع أن نكون في شيء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا، فرد الملائكة هذا العذر عليهم و ﴿ قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ولا هو من شأنه. أي إن استضعاف القوم لكم لم يكن هو المانع لكم من الإقامة معهم في دارهم بل كنتم قادرين على الخروج منها مهاجرين إلى حيث تكونون في حرية من أمر دينكم ولم تفعلوا ﴿ فأولئك مأواهم جهنم ﴾ قيل أن هذا هو خبر " إن الذين توفاهم الملائكة " وقيل بل خبره قوله :" قالوا فيم كنتم " وقيل محذوف. ومعنى الجملة سواء كانت هي الخبر أم لا أن أولئك الذين لم يكونوا على شيء يعتد به من أمر دينهم لإقامتهم بين الكفار الذين يصدونهم عن ذلك مأواهم ومسكنهم في الآخرة نار جهنم ﴿ وساءت مصيرا ﴾ أي وقبحت جهنم مأوى ومصيرا لمن يصير إليها لأن كل ما فيها يسوءه لا يسره منه شيء. قيل إنه توعدهم بجهنم كما يتوعد الكفار لأن الهجرة للقادر كانت شرطا لصحة الإسلام، وقيل بل كانوا من المنافقين الذين أظهروا الإسلام ولم يتبطنوه. وهناك وجه آخر هو الذي يلجأ إليه في مثل هذا جمهور الفقهاء وهو أن جهنم تكون لهم مأوى موقتا على قدر تقصيرهم وما فاتهم من الفرائض في الإقامة مع الكفار تحت سلطانهم وما عساهم اقترفوا ثم من المعاصي.
قال في الكشاف بعد تفسير الآية : وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة. ثم ختم الكلام فيها بدعاء أبان فيه أنه إنما هاجر إلى مكة فرارا بدينه ليتمكن من إقامته كما يجب.
وهاك ما عندي في الآية عن درس الأستاذ الإمام : ذكر تعالى في الآية السابقة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين لغير عجز فعلم أن العاجز معذور، ومعنى سبيل الله الطريق الذي يرضيه ويقيم دينه. ثم ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصر الدين بل وعن إقامته حيث هو، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم. ولكنهم في الحقيقة غير معذورين لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم، فهم بحبهم لبلادهم، وإخلادهم إلى أرضهم، وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم، ضعفاء في الحق لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا بعزة المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق، فظلمهم لأنفسهم عبارة عن تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند عشرائهم المبطلين. وهذا الاعتذار هو نحو مما يعتذر به الذين جاروا أهل البدع على بدعهم في هذا العصر وفي كثير من الأعصار، يعتذرون بأنهم يجبّون الغيبة عن أنفسهم ويدارون المبطلين، وهو عذر باطل، فالواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم، وللفقهاء خلاف في الهجرة هل وجوبها مضى أو هو مستمر في كل زمان ؟ والمالكية على الوجوب قال : ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه، أو يؤذى فيه إيذاء لا يقدر على احتماله. وأما المقيم في دار الكافرين ولكنه لا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر وذلك كالمسلمين في بلاد الإنكليز لهذا العهد بل ربما كانت الإقامة في دار الكفر سببا لظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه اه ( أي إذا كان المسلمون المقيمون هنالك على حريتهم يعرفون حقيقة الإسلام ويبينونها للناس بالقول والعمل والأخلاق والآداب ).
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩* ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما١٠٠ ﴾.
روى البخاري١ عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ وأخرجه ابن مردويه وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا القيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف. وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا :" غر هؤلاء دينهم " فقتلوا ببدر.
وأخرجه ابن أبي حاتم وزاد منهم الحارث بن زمعة بن أسود والعاص بن منبه بن الحجاج. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ إلا المستضعفين ﴾.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾ فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل. وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه. اهـ من لباب النقول.
أقول : هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق أحكام القتال لأن بلاد العرب كانت في ذلك العهد قسمين دار هجرة المسلمين ومأمنهم ودار الشرك والحرب. وكان غير المسلم في دار الإسلام حرا في دينه لا يفتن عنه وحرا في نفسه لا يمنع أن يسافر حيث شاء. وأما المسلم في دار الشرك فكان مضطهدا في دينه يفتن ويعذب لأجله ويمنع من الهجرة إن كان مستضعفا لا قوة له ولا أولياء يحمونه، وكانت الهجرة لأجل هذا واجبة على كل من يسلم ليكون حرا في دينه آمنا في نفسه، وليكون وليا ونصيرا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين كان الكفار يهاجمونهم المرة بعد المرة، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها. وكان كثير منهم يكتم إيمانه ويخفي إسلامه ليتمكن من الهجرة.
وفي مثل هذه الحال ينقسم الناس بالطبع إلى أقسام منهم من ذكرنا ومنهم القوي الشجاع الذي يظهر إيمانه وهجرته وإن عرض نفسه للمقاومة، ومنهم من يؤثر البقاء في وطنه بين أهله لأنه لضعف إيمانه يؤثر مصلحة الدنيا التي هو فيها على الدين، ومنهم الضعيف المستضعف الذي لا يقدر على التفلت من مراقبة المشركين وظلمهم ولا يدري أية حيلة يعمل ولا أي طريق يسلك. وقد بين الله حكم من يترك الهجرة لضعف دينه وظلمه لنفسه مع قدرته عليها لو أرادها، ومن يتركها لعجزه وقلة حيلته وظلم المشركين له
قال تعالى :﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾ دل الوعيد في الآية السابقة مع الاستثناء في هذه الآية على أن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى الله ورسوله غير صادقين في اعتذارهم فإن الاستضعاف الحقيقي عذر صحيح ولذلك استثنى أهله من الوعيد بهذه الآية، وقرن الرجال بالنساء والولدان فيها يشعر بأن المراد بالرجال الشيوخ الضعفاء والعجزة الذين هم كمن ذكر معهم ﴿ لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ﴾ أي قد ضاقت بهم الحيل كلها فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها، وعميت عليهم الطرق جميعها فلم يهتدوا طريقا منها، إما للزمانة والمرض، وإما للفقر والجهل بمسالك الأرض وأخراتها ومضايقها، قال بعض المفسرين " بحيث لو خرجوا هلكوا " أي بركوب التعاسيف أو قلة الزاد أو عدم الراحلة. وفسر بعضهم الولدان هنا بالعبيد والإماء، وقال بعضهم بل هم الأولاد الصغار الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض وروي عن ابن عباس أنه قال " : كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا، " واستشكل بأن الأولاد غير مكلفين فلا يتناولهم الوعيد فيحتاج إلى استثنائهم، وأجاب في الكشاف بأنه " يجوز أن يكون المراد المراهقين منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف ".
أقول ويجوز أن يكونوا قد ذكروا تبعا لوالديهم، لأنهم يكلفون أن يهاجروا بهم، فإذا كان الوالدان عاجزين عن السير مع الوالدين والولدان عاجزين عن حملهم كان من عذرهما أن يتركا الهجرة ما داما عاجزين ولا يكلفان ترك أولادهم.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩* ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما١٠٠ ﴾.
روى البخاري١ عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ وأخرجه ابن مردويه وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا القيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف. وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا :" غر هؤلاء دينهم " فقتلوا ببدر.
وأخرجه ابن أبي حاتم وزاد منهم الحارث بن زمعة بن أسود والعاص بن منبه بن الحجاج. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ إلا المستضعفين ﴾.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾ فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل. وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه. اهـ من لباب النقول.
أقول : هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق أحكام القتال لأن بلاد العرب كانت في ذلك العهد قسمين دار هجرة المسلمين ومأمنهم ودار الشرك والحرب. وكان غير المسلم في دار الإسلام حرا في دينه لا يفتن عنه وحرا في نفسه لا يمنع أن يسافر حيث شاء. وأما المسلم في دار الشرك فكان مضطهدا في دينه يفتن ويعذب لأجله ويمنع من الهجرة إن كان مستضعفا لا قوة له ولا أولياء يحمونه، وكانت الهجرة لأجل هذا واجبة على كل من يسلم ليكون حرا في دينه آمنا في نفسه، وليكون وليا ونصيرا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين كان الكفار يهاجمونهم المرة بعد المرة، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها. وكان كثير منهم يكتم إيمانه ويخفي إسلامه ليتمكن من الهجرة.
وفي مثل هذه الحال ينقسم الناس بالطبع إلى أقسام منهم من ذكرنا ومنهم القوي الشجاع الذي يظهر إيمانه وهجرته وإن عرض نفسه للمقاومة، ومنهم من يؤثر البقاء في وطنه بين أهله لأنه لضعف إيمانه يؤثر مصلحة الدنيا التي هو فيها على الدين، ومنهم الضعيف المستضعف الذي لا يقدر على التفلت من مراقبة المشركين وظلمهم ولا يدري أية حيلة يعمل ولا أي طريق يسلك. وقد بين الله حكم من يترك الهجرة لضعف دينه وظلمه لنفسه مع قدرته عليها لو أرادها، ومن يتركها لعجزه وقلة حيلته وظلم المشركين له
﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ﴾ والإشارة بأولئك إلى من استثناهم ممن توعدهم على ترك الهجرة، أي إن أولئك المستضعفين الذين لم يهاجروا للعجز وتقطع الأسباب والحيل وتعمية السبل يرجى أن يعفو الله عنهم ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الكفر. والوعد بعسى الدالة على الرجاء، أطمعهم تعالى بالعفو ولم يجزم به للإيذان بأن أمر الهجرة مضيق فيه، وأنه لا بد منه، ولو باستعمال دقائق الحيل، والبحث عن مضايق السبل، حتى لا يخدع محب وطنه نفسه ويعد ما ليس بمانع مانعا. وصرح كثير من المفسرين بأن صيغة الرجاء من الله تعالى للتحقيق والقطع، وليس هذا الذي قالوه بالتحقيق الذي يقطع به، وإنما الرجاء فيها بالنسبة إلى المخاطب وعلم الله بتحقيق الرجاء أو عدمه قطعي. وقال الأستاذ الإمام : قالوا إن " عسى " في كلام الله للتحقيق. ولا يصح على إطلاقه لأنه يسلب الكلمة معناها فكأنه لا محل لها. ونقول فيها ما قلناه في لعل وهو أن معناها الإعداد والتهيئة، والمعنى أنه تعالى يعدهم ويهيئهم لعفوه، والنكتة في اختيار التعبير عن التحقيق بعسى الدالة على الترجي إن صح هي تعظيم أمر ترك الهجرة وتغليظ جرمه.
﴿ وكان الله عفوا غفورا ﴾ أي وكان شأن الله تعالى العفو عن المخالفات التي لها أعذار صحيحة بعدم المؤاخذة عليها، ومغفرتها بسترها في الآخرة وعدم فضيحة صاحبها، لأنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩* ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما١٠٠ ﴾.
روى البخاري١ عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ وأخرجه ابن مردويه وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا القيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف. وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا :" غر هؤلاء دينهم " فقتلوا ببدر.
وأخرجه ابن أبي حاتم وزاد منهم الحارث بن زمعة بن أسود والعاص بن منبه بن الحجاج. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ إلا المستضعفين ﴾.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾ فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل. وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه. اهـ من لباب النقول.
أقول : هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق أحكام القتال لأن بلاد العرب كانت في ذلك العهد قسمين دار هجرة المسلمين ومأمنهم ودار الشرك والحرب. وكان غير المسلم في دار الإسلام حرا في دينه لا يفتن عنه وحرا في نفسه لا يمنع أن يسافر حيث شاء. وأما المسلم في دار الشرك فكان مضطهدا في دينه يفتن ويعذب لأجله ويمنع من الهجرة إن كان مستضعفا لا قوة له ولا أولياء يحمونه، وكانت الهجرة لأجل هذا واجبة على كل من يسلم ليكون حرا في دينه آمنا في نفسه، وليكون وليا ونصيرا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين كان الكفار يهاجمونهم المرة بعد المرة، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها. وكان كثير منهم يكتم إيمانه ويخفي إسلامه ليتمكن من الهجرة.
وفي مثل هذه الحال ينقسم الناس بالطبع إلى أقسام منهم من ذكرنا ومنهم القوي الشجاع الذي يظهر إيمانه وهجرته وإن عرض نفسه للمقاومة، ومنهم من يؤثر البقاء في وطنه بين أهله لأنه لضعف إيمانه يؤثر مصلحة الدنيا التي هو فيها على الدين، ومنهم الضعيف المستضعف الذي لا يقدر على التفلت من مراقبة المشركين وظلمهم ولا يدري أية حيلة يعمل ولا أي طريق يسلك. وقد بين الله حكم من يترك الهجرة لضعف دينه وظلمه لنفسه مع قدرته عليها لو أرادها، ومن يتركها لعجزه وقلة حيلته وظلم المشركين له
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ﴾ وصل هذا بما قبله للترغيب في الهجرة وتنشيط المستضعفين وتجرئتهم على استنباط الحيل لها، لأن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به ويتخيل فيه من المشقات والمصاعب ما لعله لا يوجد إلا في خياله، فبعد أن توعد التارك المقصر، وأطمع التارك المعذور في العفو إطماعا مبنيا على أن ذلك من شأن الله تعالى أن يفعله، بين تعالى أن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له، وأن عسرها إلى يسر، ومن يهاجر بالفعل يجد في الأرض مراغما كثيرا أي متحولا من الرغام وهو التراب، أو مذهبا في الأرض. يرغم بسلوكه أنوف من كانوا مستضعفين له. أو مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل، فيرغم بذلك أنوفهم، وفيه الوعد للمهاجرين في سبيل الله بتسهيل السبل وسعة العيش. وإنما تكون الهجرة في سبيل الله حقيقة إذا كان قصد المهاجر منها إرضاء الله تعالى بإقامة دينه كما يجب وكما يحب تعالى، ونصر أهله المؤمنين، على من يبغي عليهم من الكافرين.
﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ﴾ المهاجر كسائر الناس عرضة للموت ولما وعد تعالى من يهاجر فيصل إلى دار الهجرة بالظفر بما ينبغي من وجدان المراغم والسعة، وعد من يموت في الطريق قبل بلوغها بأجر عظيم يضمنه عز وجل له. فمتى خرج من بيته بقصد الهجرة إلى الله أي حيث يرضي الله وإلى نصرة رسوله في حياته، ومثلها إقامة سننه بعد وفاته، كان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد مجاوزته عتبة الباب ولم يصب تعبا ولا مشقة، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له، وقد أبهم هذا الأجر وجعله حقا واقعا عليه تبارك اسمه للإيذان بعظم قدره، وتأكيد ثبوته ووجوبه، والوجوب والوقوع يتواردان على معنى واحد، ومنه قوله تعالى :﴿ فإذا وجبت جنوبها ﴾ [ الحج : ٣٦ ] أي سقطت جنوب البدن عند ما تنحر في النسك، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما شاء وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا إذ لا سلطان فوق سلطانه، فأين هذا الوعد للمهاجرين في تأكيده وإيجابه من وعد تاركي الهجرة لضعفهم وعجزهم من جعله محل الرجاء والطمع فقط ؟ لا يستويان ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي وكان شأنه الثابت له أزلا وأبدا أنه غفور يستر ما سبق لأمثال هؤلاء المهاجرين من الذنوب بإيمانهم الذي حملهم على ترك أوطانهم ومعاهد أنسهم لأجل إقامة دينه واتباع سبيله، رحيما بهم يشملهم بعطفه ويغمرهم بإحسانه.
هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق واحد متصلا بعضها ببعض كما قلنا، ومن شمله الوعد من المهاجرين في تلك الأثناء ضمرة بن جندب فعدوا خبر هجرته من أسباب نزول الشق الأخير من هذه الآية، وما هو بسبب إلا في اصطلاحهم الذي يتساهلون فيه بإطلاق السبب كما بينا مرارا. روى ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي ﴿ ومن يخرج من بيته مهاجرا ﴾. ومنهم أبو ضمرة أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة الزرقي وكان بمكة فلما نزلت :﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ﴾ قال إني لغني وإني لذو حيلة فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت هذه الآية :﴿ ومن يخرج من بيته ﴾. ومنهم آخرون.
قال السيوطي في اللباب بعد إيراد الروايتين المذكورتين آنفا : وأخرج ابن جرير نحو ذلك من طرق عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم وسمى في بعضها ضمرة بن العيص بن ضمرة وفي بعضها جندب بن حمزة الجندعي وفي بعضها الضمري وفي بعضها رجل من بني ضمرة وفي بعضها رجل من خزاعة وفي بعضها رجل من بني ليث وفي بعضها من بني كنانة وفي بعضها من بني بكر قال : وأخرج ابن أبي حاتم وابن منده والبارودي في الصحابة عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام قال هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت الآية. وأخرج الأموي في مغازيه عن عبد الملك بن عمير قال لما بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه قال فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه فانتدب له رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك من أنت وما أنت وبم جئت ؟ قال أنا محمد بن عبد الله وأنا عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾ [ النحل : ٩٠ ]. فأتيا أكثم فقالا له ذلك، فقال أي قوم، إنه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا أذنابا. فركب بعيره متوجها إلى المدينة فمات في الطريق فنزلت فيه الآية. مرسل إسناده ضعيف. وأخرج أبو حاتم في كتاب المعمرين من طريق عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية قال : نزلت في أكثم، قيل : فأين الليثي ؟ قال : هذا قبل الليثي بزمان وهي خاصة عامة اه ومجموع الروايات يؤيد رأينا من أنها نزلت هي وما قبلها في سياق أحكام الحرب لا منفردة فطبقوها على الوقائع التي حدثت في ذلك العهد ولم تنزل لأجل واقعة معينة منها.
حكمة الهجرة وسبب مشروعيتها
قد علم من هذه الآيات ومن غيرها مما نزل في الهجرة ومن الأحاديث والسنة التي جرى عليها الصدر الأول من المسلمين أن الهجرة شرعت لثلاثة أسباب أو حكم اثنان منها يتعلقان بالأفراد والثالث يتعلق بالجماعة : أما الأول فهو أنه لا يجوز لمسلم أن يقيم في بلد يكون فيها ذليلا مضطهدا في حريته الدينية والشخصية، فكل مسلم يكون في مكان يفتن فيه عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته فيه كما يعتقد يجب عليه أن يهاجر منه إلى حيث يكون حرا في تصرفه وإقامة دينه، وإلا كانت إقامته معصية يترتب عليها ما لا يحصى من المعاصي، وإلا جاز له الإقامة. وهذا هو الذي عناه الأستاذ الإمام بما قاله عن بعض المسلمين المقيمين في بلاد الإنكليز متمتعين بحريتهم الدينية.
وأما الثاني : فهو تلقي الدين والتفقه فيه وكان ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خاصا بالزمن الذي كان فيه إرسال الدعاة والمرشدين من قبله صلى الله عليه وسلم متعذرا لقوة المشركين على المسلمين وصدهم إياهم عن ذلك. ولا يجوز لمن أسلم في مكان ليس فيه علماء يعرفون أحكام الدين أن يقيم فيه بل يجب أن يهاجر إلى حيث يتلقى الدين والعلم.
وأما الثالث : المتعلق بجماعة المسلمين فهو أنه يجب على مجموع المسلمين أن تكون لهم جماعة أو دولة قوية تنشر دعوة الإسلام، وتقيم أحكامه وحدوده، وتحفظ بيضته، وتحمي دعاته وأهله من بغي الباغين، وعدوان العادين، وظلم الظالمين، فإذا كانت هذه الجماعة أو الدولة أو الحكومة ضعيفة يخشى عليها من إغارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا أن يشدوا أزرها، حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها، فإذا توقف ذلك على هجرة البعيد عنها إليها وجب عليه ذلك وجوبا قطعيا لا هوادة فيه، وإلا كان راضيا بضعفها أو معينا لأعداء الإسلام على إبطال دعوته، وخفض كلمته.
كانت هذه الأسباب الثلاثة متحققة قبل فتح مكة فلما فتحت قوي الإسلام على الشرك في جزيرة العرب كلها وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا والنبي صلى الله عليه وسلم يرسل إلى كل جهة من يعلم أهلها شرائع الإسلام، فزال سبب وجوب الهجرة لأجل الأمن من الفتنة والقدرة على إقامة الدين، وسبب وجوبها لأجل التفقه في الدين إلا نادرا، وسبب وجوبها لتأييد جماعة المسلمين وتقويتهم ونصرهم على من كان يحاربهم لأجل دينهم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ) ١ رواه أحمد والشيخان وأكثر أصحاب السنن من حديث ابن عباس. ورووا مثله عن عائشة. ومما لا مجال للخلاف فيه أن الهجرة تجب دائما بأحد الأسباب الثلاثة كما يجب السفر لأجل الجهاد إذا تحقق سببه، وأقوى موجباته اعتداء الكفار على بلاد المسلمين واستيلاؤهم عليها.
١ أخرجه البخاري في الصيد باب١٠، والجهاد باب١٩٤، ٢٧، ١، ومسلم في الإمارة حديث ٨٥، وأبو داود في الجهاد باب٢، والترمذي في السير باب٣٢، والنسائي في البيعة باب١٥، وابن ماجة في الجهاد باب٩، والدارمي في السير باب٦٩، وأحمد في المسند ١/٣٥٥، ٣١٦، ٢٦٦، ٢٢٦، ٣/٤٠١، ٦/٤٦٦..
﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا١٠١ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا١٠٢ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا١٠٣ ﴾.
صلاة السفر والخوف
السياق في أحكام الجهاد في سبيل الله وجاء فيه حكم الهجرة. والصلاة فرض لازم في كل حال لا يسقط في وقت القتال ولا في أثناء الهجرة ولا غير الهجرة من أيام السفر، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في السفر وحال الحرب إقامتها فرادى وجماعة كما أمر الله تعالى أن تقام في صورتها ومعناها، فناسب في هذا المقام أن يبين الله تعالى ما يريد أن يرخص لعباده فيه من القصر من الصلاة في هاتين الحالتين فقال :
﴿ وإذا ضربتم في الأرض ﴾ الضرب في الأرض عبارة عن السفر فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته، كما يقال طرق الأرض إذا مر بها كأنه ضربها بالمطرقة ومنه الطريق أي السبيل المطروق. وقال ههنا ضربتم في الأرض ولم يقل :﴿ ضربتم في سبيل الله ﴾ كما قال في الآية ( ٩٣ ) من هذه السورة الواردة في حكم إلقاء السلام في الحرب لأن هذه أعم فهي رخصة لكل مسافر ولو لم يكن سفره في سبيل الله للدفاع عن الحق وإقامة الدين بأن كان للتجارة أو لمجرد السياحة مثلا، وإذا كان السفر في سبيل الله فالمسافر أحق بالرخصة وهي له أولا وبالذات بقرينة السياق وما جاء في الآية التي بعد هذه ﴿ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ﴾ أي فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة دين الله ( وهو الحنيفية السمحة ) في القصر من الصلاة. والجناح فسر بالإثم وبالتضييق وبالميل عن الاستواء قيل هو من جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها قاله الراغب وهو الذي فسر جنوح السفينة بما ذكر، وفسره غيره بأنه عبارة عن بلوغها أرضا رقيقة تغرز فيها ويمتنع جريها، وهذا المعنى يناسب الجناح أيضا على أن الجنوح معناه الميل وهو من الجنح بالكسر بمعنى الجانب. ومن فسر الجناح بالتضييق أخذه من قولهم جنح البعير ( بصيغة المجهول ) إذا انكسرت جوانحه ( أضلاعه ) لثقل حمله، وتفسيره بالإثم مأخوذ من هذا أيضا وهو مجاز. والقصر ( بالفتح ) ( كعنب ) ضد الطول وقصرت الشيء جعلته قصيرا.
فالقصر من الصلاة هو ترك شيء منها تكون به قصيرة ويصدق بترك بعض ركعاتها وبترك بعض أركانها كالركوع والسجود والجلوس للتشهد. واختلف العلماء في هذه الآية فقيل إن المراد بالقصر من الصلاة فيها ترك بعض ركعاتها وهي صلاة السفر التي تقصر فيها الرباعية فقط فتصلى ثنتين، وقيل بل المراد به صلاة الخوف مطلقا أو كيفية من كيفياتها وهي المبينة في الآية التي بعد هذه. وقيل بل المراد بها القصر من هيئتها لا من ركعاتها، وقيل بل القصر من العدد والأركان جميعا. وجمع المحقق ابن القيم في الهدي النبوي بين الأقوال فقال في فصل صلاة الخوف :
" وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أن أباح الله سبحانه وتعالى قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر. وقصر العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه. وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم وبه يعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف " اه وسيأتي تفصيل ذلك.
فقوله تعالى :﴿ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة، والفتنة الإيذاء بالقتل أو غيره كما صرح به بعضهم وأصله الاختبار بالمكروه والأذى كما تقدم من قبل. قال ابن جرير : وفتنتهم إياهم فيها حملهم عليهم وهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم فيمنعوهم من إقامتها وأدائها ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له اه وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلي قطاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر.
﴿ إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ﴾ تعليل لتوقع الفتنة من الذين كفروا أي كان شأنهم أنهم أعداء مظهرون للعداوة بالقتال والعدوان، فهم لا يضيعون فرصة اشتغالكم بمناجاة الله تعالى ولا يراقبون الله ولا يخشونه فيكم فيمتنعوا فيكم عن الإيقاع بكم، إذا وجدوكم غافلين عنهم، والعدو يستوي فيه الواحد والجمع.
بعد هذا أقول : إن القصر في هذه الآيات مجمل وإنما اختلف العلماء في المراد منه لأن الآية التي بعد هذه الآية تبين لنا نوعا أو أنواعا من قصر الصلاة المعروفة في الإسلام فقيل أنها مبنية لما قبلها، ورد بعضهم هذا بأن الأصل أن تفيد كل آية من الآيتين معنى جديدا تفاديا من التكرار، وأنهم كانوا يفهمون من القصر نقص عدد الركعات بدليل حديث ذي اليدين المشهور إذ قال : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله١ ؟ ( وهذا دليل ضعيف ) ومن أسباب الخلاف ما ثبت في السنة وجرى عليه العمل من العصر الأول إلى الآن من قصر الصلاة الرباعية. والسنة مبينة لإجمال القرآن، ولا يمكن أن تعرف الاصطلاحات الشرعية من ألفاظ اللغة بدون توقيف، والقرآن نفسه لم يبين لنا إلا كيفية القليل من العبادات كالوضوء والتيمم، فالسنة هي التي بينت كيفية الصلاة وكيفية الحج وغير ذلك. وإنني أذكر ما قاله الأستاذ الإمام في هاتين الآيتين قبل أن أفسر الثانية منهما ثم أذكر ملخص ما ثبت في السنة في قصر الصلاة وصلاة الخوف ثم أبين معنى الآية الثانية وكيفيات صلاة الخوف التي وردت.
الأستاذ الإمام : الكلام لا يزال في الجهاد وقد مر في الآيات السابقة الحث عليه لإقامة الدين وحفظه، وإيجاب الهجرة لأجل ذلك وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر فيها على إقامة دينه، والجهاد يستلزم السفر، والهجرة سفر، وهذه الآيات في بيان أحكام من سافر للجهاد أو هاجر في سبيل الله إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها، وهو أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلي جماعتها بالكيفية التي ذكرت في الآية الثانية من هذه الآيات. قال : والقصر المذكور في الآية الأولى هنا ليس هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين بشروطه في كتب الفقه فذلك مأخوذ من السنة المتواترة، وأما ما هنا فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة وغيرهم من السلف، والشرط فيها على ظاهره، والقول بأنه لبيان الواقع فلا مفهوم له لغوٌ من القول لا يجوز أن يقال في أعلى الكلام وأبلغه، فهذا القصر المذكور في الآية الأولى هو المبين في الآية التي بعدها، وفي سورة البقرة بقوله تعالى :﴿ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ﴾ [ البقرة : ٢٣٩ ] فآية البقرة في القصر من هيأة الصلاة والرخصة في عدم إقامة صورتها بأن يكتفي الرجال المشاة والركبان بالإيماء عن الركوع والسجود، وهو قول في القصر المراد، والآية التي نحن بصدد تفسيرها في القصر من عدد الركعات بأن تصلي طائفة مع الإمام ركعة واحدة فإذا أتمتها جاءت طائفة أخرى وهي التي كانت تحرس الأولى فصلت معه الركعة الثانية، وليس في الآية أن واحدة من الطائفتين تتم الصلاة. اه ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس ملخصا.
وأما ما ورد في السنة فقد لخصه ابن القيم في الهدي النبوي أحسن تلخيص وناهيك بسعة حفظه وحسن استحضاره وبيانه. قال في بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في السفر وعبادته فيه ما نصه :
" وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة. وأما حديث عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم " فلا يصح. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، وقد روي " كان يقصر وتتم " الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك " يفطر وتصوم " أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين. قال شيخنا ابن تيمية وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم. والصحيح عنها " أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر "، فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه ؟.
قال ابن القيم قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس وغيره أنها تأولت كما تأول عثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال : فكان يقصر وتتم هي. فغلط بعض الرواة فقال : كان يقصر ويتم، أي هو. والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر فإذا زال الخوف زال سبب القصر. وهذا التأويل غير صحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا وكان يقصر الصلاة والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه بالشفاء وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة.
" وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له، وقد يقال أن الآية اقتضت قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين الضرب في الأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصر فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة. وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده ؟، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد. وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية. فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفي الأركان وسميت صلاة أمن. وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق. وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وإنما لم تدخل في قصر الآية، والأول : اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني : يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما :
" قالت عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع وإنما هي مفروضة كذلك. وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس. وقال عمر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر ( رضي الله عنه ) وهو الذي سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أجابه بأنه هذا صدقة
١ أخرجه البخاري في الصلاة باب٨٨، والأذان باب٦٩، والسهو باب٥، ٤، والأدب باب٤٥، والأيمان باب١٥، والآحاد باب١، ومسلم في المساجد حديث ٩٧ ـ ٩٩، ١٠٢، وأبو داود في الصلاة باب١٨٩، والترمذي في الصلاة باب١٧٥، والنسائي في السهو باب٢٢، وابن ماجة في الإقامة باب١٣٤، والدارمي في الصلاة باب١٧٥، ومالك في النداء حديث ٦٠، ٥٩، ٥٨، وأحمد في المسند ٢/٤٦٠، ٤٢٣، ٢٣٥، ٧٧..
كيفية صلاة الخوف في القرآن
قال عز وجل بعد ما تقدم من الإذن بالقصر من الصلاة :﴿ وإذا كنت فيهم ﴾ أي وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين ومثله في هذا كل إمام في كل جماعة ﴿ فأقمت لهم الصلاة ﴾ إقامة الصلاة تطلق على الذكر الذي يدعى به إلى الدخول فيها وهو نصف ذكر الأذان وزيادة " قد قامت الصلاة " مرتين بعد كلمة " حي على الفلاح " كما ثبت في السنة الصحيحة، وقيل هو كالأذان مع زيادة ما ذكر، وتطلق على الإتيان بها مقومة تامة الأركان والشرائط والآداب، والظاهر هنا المعنى الأول، لتعديته باللام ولأن الصلاة المبينة في الآية ليست تامة بل هي مقصور منها، وتقابل صلاة الخوف هنا صلاة الاطمئنان المأمور بها في الآية التالية، فمعنى أقمت لهم الصلاة دعوتهم إلى أدائها جماعة، أي والزمن زمن الحرب وفتنة الكفار مخوفة.
﴿ فلتقم طائفة منهم معك ﴾ في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين للعدو يحرسون المصلين خوفا من اعتدائه :﴿ وليأخذوا أسلحتهم ﴾ أي وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها، وعن ابن عباس أن الأمر بأخذ السلاح أي حمله هو للطائفة الأخرى لقيامها بالحراسة، ويجوز الزجاج والنحاس أن يكون للطائفتين جميعا أي وليكن المؤمنون حين انقسامهم إلى طائفتين واحدة تصلي وواحدة تراقب وتحرس حاملين للسلاح لا يتركه منهم أحد، ووجه تقديم الأول أن من شأن الجميع في مثل تلك الحال أن يحملوا أسلحتهم إلا في وقت الصلاة التي لا يكون فيها قتال ولا نزال فاحتيج إلى الأمر بحمل السلاح في الصلاة لأنه مظنة المنع والامتناع. والأسلحة جمع سلاح وهو كل ما يقاتل به وإنما يحل منه في حال إقامة الصلاة التامة الأركان ما يسهل حمله فيها كالسيف والخنجر والنبال من أسلحة الزمن الماضي، ومثل البندقية على الظهر والمسدس في الحزام أو الجيب من أسلحة هذا العصر.
﴿ فإذا سجدوا ﴾ أي فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة :﴿ فليكونوا من ورائكم ﴾ أي فليكن الآخرون الذين يحرسونكم من خلفكم، وأحوج ما يكون المصلي للحراسة ساجدا لأنه لا يرى حينئذ من يهم به، أو عبر بالسجود عن الصلاة أي إتمامها لأنه آخر صلاة الطائفة الأولى، ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم، والصلاة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما صلوا، و هو قوله :﴿ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ﴾ أي ولتأت الطائفة الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا معك كما صلت الطائفة الأولى :﴿ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾ في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم، وزاد هنا الأمر بأخذ الحذر وهو التيقظ والاحتراس من المخاوف، وتقدم تحقيق القول فيه في تفسير قوله تعالى من هذه السورة بل من هذا السياق فيها :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ﴾ [ النساء : ٧١ ] قيل إن حكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية هو أن العدو قلّما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين فيها بل يظن إذا رآهم صفا أنهم قد اصطفوا للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة، كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة، وقد بين تعالى لنا هذا معللا به الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة فقال :
﴿ ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾ أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم أي يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح، تاركون حماية المتاع والزاد، فيصيبون منكم غرة فيقتلون من استطاعوا قتله، وينتهبون ما استطاعوا أخذه، فلا تغفلوا عنهم، ولا تجعلوا لهم سبيلا عليكم، وهذا الخطاب عام لجميع المؤمنين لا يختص الطائفة الحارسة دون المصلية، وهو استئناف بياني على سنة القرآن في قرن الأحكام بعللها وحكمها.
ولما كان الخطاب عاما لجميع المحاربين، وكان يعرض لبعض الناس من العذر ما يشق معه حمل السلاح، عقب على العزيمة بالرخصة لصاحب العذر فقال :﴿ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ﴾ أي ولا تضييق عليكم ولا إثم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم، وربما أفسد الماء السلاح لأنه سبب الصدأ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل، ولكن يجب عليكم حتى في هذه الحال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم، ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم، والضرورة تتقدر بقدرها :﴿ إن الله أعدّ للكافرين عذابا مهينا ﴾ بما هداكم إليه من أسباب النصر، كإعداد كل ما يستطاع من القوة وأخذ الحذر، والاعتصام بالصلاة والصبر، ورجاء ما عند الله من الرضوان والأجر، فالظاهر أن العذاب ذا الإهانة هو عذاب الغلب وانتصار المسلمين عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به من الأسباب النفسية والعملية، وسيأتي قريبا ما يؤيد هذا المعنى في هذا السياق كالأمر بذكر الله كثيرا، وقوله :﴿ إنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ﴾. ويؤيده قوله تعالى :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيدكم ويخزهم وينصركم عليهم ﴾ [ التوبة : ١٥ ] وقال جمهور المفسرين إن المراد به عذاب الآخرة، وإنه مع ذلك ينفي ما ربما يخطر في البال من أن الأمر بأخذ السلاح والحذر يشعر بتوقع النصر للأعداء.
روى البخاري أن الرخصة في الآية للمرضى نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا، والمعنى عندي أن الآية قد انطبق حكمها عليه وإلا فهي قد نزلت في سياق الآيات بأحكام أعم وأشمل، وروى أحمد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عياش الرزقي قال كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر، فقالوا قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ﴾ ١ الحديث وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس اه من لباب النقول.
كيفيات صلاة الخوف في السنة
ورد في أداء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لصلاة الخوف جماعة كيفيات متعددة أوصلها بعضهم إلى سبعة عشر. والتحقيق ما قاله ابن القيم من أن أصولها ست وأن ما زاد على ذلك فإنما هو من اختلاف الرواة في وقائعها واعتمده الحافظ ابن حجر. والحق أن كل كيفية منها صحت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهي جائزة، وهاك أصولها المشهورة :
١ روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة ( وفي لفظ عمن صلى مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم ذات الرقاع ) أن طائفة صفت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وطائفة وجاه العدو ( أي تجاهه مراقبة له ) فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم " ٢ وغزوة ذات الرقاع هذه هي غزوة نجد لقي بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جمعا من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال ولكن القتال كان منتظرا فلذلك صلى بأصحابه صلاة الخوف، وسميت ذات الرقاع لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الرقاع أي الخرق وقيل لأن حجارة تلك الأرض مختلفة الألوان كالرقاع المختلفة وقيل غير ذلك.
هذه الكيفية في حالة كون العدو في غير جهة القبلة وهي منطبقة على الآية الكريمة فليس في الآية ذكر السجود إلا مرة واحدة فظاهرها أن كل طائفة تصلي ركعة واحدة هي فرضها لا تتم ركعتين لا مع الإمام ولا وحدها، وهو الذي يصلي ركعتين، وقد قال بهذه الصلاة أفقه فقهاء الصحابة عليهم الرضوان علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وكذا أبو هريرة وأبو موسى وسهل بن أبي حثمة راوي الحديث المتفق عليه، وعليها من فقهاء آل البيت عليهم السلام القاسم والمؤيد بالله وأبو العباس، ومن فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم.
٢ روى أحمد والشيخان عن ابن عمر ( قال صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو. وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ركعة ثم سلم. ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ) ٣.
هذه الكيفية تنطبق على الآية أيضا وهي كالتي قبلها في حال كون العدو في غير جهة القبلة، ولا فرق بينها وبين الأولى إلا في قضاء كل فرقة ركعة بعد سلام الإمام ليتم لها ركعتان والظاهر أنهما تأتيان بالركعتين على التعاقب لأجل الحراسة، وأما فرض كل منهما في الكيفية الأولى فركعة واحدة. والظاهر أن الطائفة الثانية تتم بعد سلام الإمام من غير أن تقطع صلاتها بالحراسة، فتكون ركعتاها متصلتين، وأن الأولى لا تصلي الركعة الثانية إلا بعد أن تنصرف الطائفة الثانية من صلاتها إلى مواجهة العدو. وهو ما رواه أبو داود٤ من حديث ابن مسعود فإنه قال :( ثم سلم وقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ) وقد أخذ بهذه الكيفية الحنفية والأوزاعي وأشهب ورجحها ابن عبد البر على غيرها بقوة الإسناد وموافقتها للأصول في كون المأموم يتم صلاته بعد سلام إمامه.
٣ روى أحمد والشيخان عن جابر قال :( كنا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذات الرقاع وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أربع وللقوم ركعتان ) ٥.
هذه الكيفية منطبقة على الآية أيضا وكانت كاللتين ذكرتا قبلها في حال وجود العدو في غير جهة القبلة، إلا أنه ليس فيها تفصيل كأن جابرا قال ما قاله لمن كان يعرف القصة وكون كل طائفة كانت تراقب العدو في جهته عند صلاة الأخرى، أو أن الراوي عنه ذكر من معنى حديثه ما احتيج إليه، والفرق بين هذه وما قبلها أن الصلاة كانت فيها ركعتين للجماعة وأربعا للإمام، وفي رواية ابن عمر ركعتين لكل من الجماعة والإمام، وفي رواية سهل ركعة واحدة للجماعة وركعة للإمام، فلا فرق إلا في عدد الركعات، وقد صرح بأن هذه كانت في ذات الرقاع وكذلك الأولى، والظاهر أن الثانية كانت فيها أيضا أو في غزوة مثلها كان العدو فيها في غير جهة القبلة.
وفي رواية للشافعي والنسائي عن الحسن عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلّى بآخرين ركعتين ثم سلم. وفي رواية أخرى للحسن عن أبي بكرة عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم قال :( صلّى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصلّى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلّى بهم ركعتين ثم سلم، فصار للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان ) وقد أعلّوا هذا الرواية بأن أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة وأج
١ أخرجه أحمد في المسند ٤/٩..
٢ أخرجه البخاري في المغازي باب٣١، ومسلم في المسافرين حديث ٣١٠، وأبو داود في السفر باب١٤، ومالك في الخوف حديث١، وأحمد في المسند ٥/٣٧٠، ٦/٢٧٥..
٣ أخرجه البخاري في الخوف باب١، ومسلم في المسافرين حديث ٣١٢، ٣٠٥، وأحمد في المسند ٢/٣٢٠، ١٥٥، ١٥٠، ١٤٧، ١٣٢..
٤ كتاب السفر باب١٥..
٥ أخرجه البخاري في الخوف باب١، ومسلم في المسافرين حديث٣١٢، ٣١١..
﴿ فإذا قضيتم الصلاة ﴾ أي أديتموها وأتممتوها في حال الخوف كما بينا لكم من القصر منها، وهو كقوله ﴿ فإذا قضيت الصلاة ﴾ [ الجمعة : ١٠ ] وقوله ﴿ فإذا قضيتم مناسككم ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] ﴿ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ أي اذكروه في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا وإعداد الثواب والرضوان في الآخرة، وإن ذلك جزاؤهم عنده ما داموا مهتدين بكتابه، جارين على سننه في خلقه، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتسبيح والتهليل والدعاء اذكروه على كل حال تكونون عليها من قيام في المسايفة والمقارعة، وقعود للرمي أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، لتقوى قلوبكم وتعلو هممكم، وتحتقروا متاعب الدنيا ومشاقها في سبيله، فهذا مما يرجى به الثبات والصبر، وما يعقبهما من الفلاح والنصر، وهذا كقوله تعالى في سورة الأنفال ﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ [ الأنفال : ٤٦ ].
وإذا كنا مأمورين بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يعطيه السياق، فأجدر بنا أن نؤمر بذلك في كل حال من أحوال السلم كما يعطيه الإطلاق، على أن المؤمن في حرب دائمة وجهاد مستمر، تارة يجاهد الأعداء، وتارة يجاهد الأهواء، ولذلك وصف الله المؤمنين العقلاء بقوله ﴿ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] وأمرهم بكثرة الذكر في عدة آيات. وذكر الله أعون ما يعين على تربية النفس وإن جهل ذلك الغافلون. روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية : لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على عقله، فقال ﴿ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال اه.
﴿ فإذا اطمأننتم ﴾ أي فإذا اطمأنت أنفسكم بالأمن وزال خوفكم من العدو ﴿ فأقيموا الصلاة ﴾ أي ائتوا بها مقومة تامة الأركان والحدود والآداب، لا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم في حال من أحوال الخوف، ولا من ركعاتها ونظام جماعتها كما أذن لكم في حال أخرى منها، وقيل إن المراد بالاطمئنان الاستقرار في دار الإقامة بعد انتهاء السفر لأنه مظنته. وإذا كان هذا الحكم مقابلا لما تقدم من حكم القصر من الصلاة إذا عرض الخوف، ومن كيفية صلاة الخوف، فالمراد بالاطمئنان فيه ما يقابل السفر والخوف جميعا، كما أن المراد بإقامة الصلاة ما يقابل القصر منها بنوعيه : القصر من هيئتها وحدودها والقصر من عدد ركعاتها، وذلك أن السفر تقابله الإقامة ولم يقل فإذا أقمتم، والخوف يقابله الأمن كما قال في آية أخرى ﴿ وآمنهم من خوف ﴾ [ قريش : ٤ ] ولم يقل هنا فإذا أمنتم، ومعنى الاطمئنان السكون بعد اضطراب وانزعاج فهو يقابل كلا من الخوف والسفر مجتمعين ومنفردين إذ يصدق على من زال خوفه في سفره أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان، كما يصدق على من انتهى سفره واستقر في وطنه أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان.
وهذا المعنى يلتئم مع قول من قال إن الآيتين السابقتين وردتا في صلاة الخوف لا صلاة السفر سواء منهم من قال إن صلاة السفر قد ثبت القصر فيها بالسنة المتواترة ومن قال إنها شرعت ركعتين ركعتين إلا المغرب فقط فإنها ثلاث، ومع قول من قال إنهما جامعتان لصلاة السفر بقصر الرباعية فيه ولصلاة الخوف بأنواعها، ومنها ما تكون فريضة المأموم فيها ركعة واحدة ومنها ما يكون بالإيماء، سواء منهم من تأول في اشتراط الخوف فلم يجعل له مفهوما أو جعل مفهومه منسوخا، ومن فصل فجعل شرط السفر خاصا بقصر الرباعية إلى ثنتين وشرط الخوف خاصا بقصرها إلى ركعة واحدة، أو القصر من هيئتها وأركانها.
وذهب الزمخشري إلى أن الآية بمعنى آية البقرة في صلاة الخوف فجعل قضاء الصلاة فيها عبارة عن أدائها، والذكر بمعنى الصلاة، والمعنى فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فصلوا قياما مسايفين ومقارعين، وقعودا جاثين على الركب مرامين، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح. وفسر الاطمئنان بالأمن وإقامة الصلاة بعده بقضاء ما صلّي بهذه الكيفية أي القضاء المصطلح عليه في الفقه وهو إعادة الصلاة بعد فوات وقتها. وجعل الآية بهذا حجة للشافعي في إيجابه الصلاة على المسافر في حال القتال في المعركة كيفما اتفق ثم قضائها في وقت الأمن خلافا لأبي حنيفة الذي يجيز ترك الصلاة في حال القتال وتأخيرها إلى أن يطمئن. وقد خرج الزمخشري بهذا عن الظاهر المتبادر من استعمال لفظي القضاء وإقامة الصلاة في القرآن، وهو الدقيق في فهم اللغة وتفسير أكثر الآيات بما يفصح عنه صميمها المحض، وأسلوبها الغض، فسبحان المنزه عن الذهول والسهو.
﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ هذا تذييل في تعليل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف ولو مع القصر منها، أي إن الصلاة كانت في حكم الله ومقتضى حكمته في هداية عباده كتابا أي فرضا مؤكدا ثابتا ثبوت الكتاب في اللوح أو الطرس، موقوتا أي منجّما في أوقات محدودة لابد من أدائها فيها بقدر الإمكان، وإن أداءها في أوقاتها مقصورا منها بشرطه خير من تأخيرها لقضائها تامة، وسنبين ذلك في بحث حكمة التوقيت. روى ابن جرير عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير " موقوتا " منجما كلما مضى نجم جاء نجم ( قال ) يقول كلما مضى وقت جاء وقت آخر اه يقال وقت العمل يقته ( كوعده يعده ) ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدي فيه، ويقال أقته أيضا بالهمزة بدلا من الواو كما يقال وكدت الشيء توكيدا وأكدته تأكيدا.
حكمة توقيت الصلاة
التشكيك شنشنة لأهل الجدل والمراء من دعاة الملل، ومتعصبي مقلدة المذاهب والنحل، وناهيك بمن يتخذونه صناعة وحرفة كدعاة النصرانية الذين عرفناهم في بلادنا، وقد صار بعض شبهاتهم على الإسلام يروح في سوق المتفرنجين، فيما يوافق أهواءهم من التفصي من عقل الدين، ومن أغرب ذلك اعتراضهم على توقيت الصلاة وزعمهم أنه عبارة عن جعلها رسوما صورية، وعادات بدنية، وأن المعقول أن يوكل كل هذا إلى اختيار المؤمن فيذكر ربه ويناجيه عندما يجد فراغا تسلم به الصلاة من الشواغل، ولا توجد قاعدة من قواعد الشرائع أو القوانين، ولا نظرية من نظريات العلم والفلسفة، ولا مسألة من مسائل الاجتماع والآداب، إلا ويمكن الجدال فيها، والمراء في نفعها أو ضرها. وقد سئلت عن هذه المسألة في شعبان سنة١٣٢٨ وأنا في القسطنطينية فأجبت عنها جوابا وجيزا مستعجلا نشر في ( ص٥٧٩ ) من مجلد المنار الثالث عشر. وهذا نص السؤال وقد ورد مع أسئلة أخرى :
" إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي إلى تهذيب الأخلاق وترقية النفوس، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم صلاته بمواعيد، فكيف يعقل والناس على ما ترى أن كل الصلوات التي تقام في المساجد والبيوت هي بإخلاص عند كل المسلمين ؟ وإذا كان الجزء القليل منها هو المقصود من الدين والمبني على الفضيلة فلماذا لا تترك الحرية التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم ؟ وإلا فما هي الفائدة التي تعود على النفس من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيق للعبادة، بل اتباعا للمواعيد، واحتراما للتقاليد ؟ ".
وهذا هو الجواب :
الجواب عن هذا يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصة بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل نفسه بما يعتقد أنه الحق وفيه الفائدة والخير، بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك العناية بتكميل إيمانه، وتهذيب نفسه، وشكر ربه وذكره، وقد رأيت بعض المتعلمين في المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على الحتم، ولكن تقتضي الاستحباب، وربما انتقدوا أيضا وجوب غير ذلك من أنواع الطهارة بناء على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته إليها، والعقل يحدد ذلك ويوقته ! ! هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع، وإن ما جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس، وكلا الحسبانين خطأ فهم قد تربّوا على أعمال من الطهارة ( النظافة ) منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في الصباح ( التواليت ) وهو مثل الوضوء، أو الغسل العام، ومنها ما هو مقيد بعمل من الأعمال وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة فقياس سائر الناس عليهم في البدو والحضر خطأ جليّ.
إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى اجتهادهم ولذلك ترى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها وأثاثها كل يوم في أوقات معينة عرضة للأوساخ، فتارة تكون نظيفة، وتارة تكون غير نظيفة، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم وقت معين وإن لم يلم بها أذى ولا غبار فهي التي تكون نظيفة دائما. فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه وأن يترك المكان أو الفراش أو البساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء، فالتربية التجريبية تقضي بأن تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة ليكون التنظيف خلقا وعادة لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل. وعندي أن أظهر حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها مقررا في النفس محتما لا هوادة فيه. وقد قال لي متشل أنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر أنه يوجد إلى الآن في أوربة أناس لا يغتسلون مطلقا إننا نحن الإنكليز أكثر الأوروبيين استحماما وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام عن أهل الهند ثم سبقنا جميع الأمم فيها. فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم للصحة والهناء.
واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبة موقوتة مفروضة بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم.
إذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله تعالى شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم، ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم، وبشكر نعم الله عليهم باستعمالها في الخير ومنع الشر، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها الخير ويرغبها فيه مثل ذكر الله عز وجل، أي تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته، وفضله ورحمته، وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال. ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح وتلاوة القرآن والدعاء، فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبته لله عز وجل وحبه له، أي حبه للكمال المطلق، وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص،
﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما١٠٤ ﴾.
روى ابن جرير أن عكرمة قال نزلت هذه الآية في غزوة أحد كما نزل فيها ﴿ إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله ﴾ [ آل عمران : ١٤٠ ] حين باتوا مثقلين بالجراح. أقول وقبل آية آل عمران هذه ﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٣٩ ] ( راجع من جزء التفسير الرابع ) فالظاهر أن عكرمة ذكر مسألة أحد رواية عن ابن عباس واستنبط من موافقة معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها لآية آل عمران أنها نزلت مثلها في غزوة أحد. ثم جاء الجلال فنقل رأي عكرمة بالمعنى من غير عزو فأخطأ في تصويره إذ قال إنها نزلت " لما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فشكوا الجراحات " وقد ردّ قوله الأستاذ الإمام في الدرس فقال : المعروف في القصة أن الصحابة ( رضي الله عنهم ) كانوا بعد غزوة أحد يرغبون اقتفاء أثر أبي سفيان على أثقالهم بالجراح. ولا حاجة في فهم الآية إلى ما ذكر بل هو مناف للأسلوب البليغ إذ القصة ذكرت في سورة آل عمران تامة وهذه جاءت في سياق أحكام أخرى.
( ثم قال ) كان الكلام فيما سبق في شأن الحرب وما يقع فيها وبيان كيفية الصلاة في أثنائها وما يراعى فيها إذا كان العدو متأهبا للحرب من اليقظة وأخذ الحذر وحمل السلاح في أثنائها. وبين للمؤمنين في هذا السياق شدة عداوة الكفار لهم وتربصهم غفلتهم وإهمالهم ليوقعوا بهم. بعد هذا نهى عن الضعف في لقائهم، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم، لأن ما في القتال والاستعداد له من الألم والمشقة يستوي فيه المؤمن والكافر، ويمتاز المؤمن بأن عنده من الرجاء بالله ما ليس عند الكافر، فهو يرجو منه النصر الذي وعد به، ويعتقد أنه قادر على إنجاز وعده، ويرجو ثواب الآخرة على جهاده لأنه في سبيل الله، وقوة الرجاء تخفف كل ألم وربما تذهل الإنسان عنه وتنسيه إياه اه.
أقول : فالآية تفسر هكذا ﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ﴾ أي عليكم بالعزيمة وعلوّ الهمة مع أخذ الحذر والاستعداد حتى لا يلمّ بكم الوهن ( وهو الضعف مطلقا أو في الخلق أو الخلق كما قال الراغب ) في ابتغاء القوم الذين ناصبوكم العداوة أي طلبهم، فهو أمر بالهجوم بعد الفراغ من الصلاة، بعد الأمر بأخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها، وذلك أن الذي يلتزم الدفاع في الحرب تضعف نفسه وتهن عزيمته، والذي يوطن نفسه على المهاجمة تعلو همته وتشتد عزيمته، فالنهي عن الوهن نهي عن سببه، وأمر بالأعمال التي تضاده فتحول دون عروضه، ﴿ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ﴾ لأنهم بشر مثلكم، يعرض لهم من الوجع والألم مثل ما يعرض لكم، لأن هذا من شأن الأجسام الحية المشترك بينكم وبينهم.
﴿ وترجون من الله ما لا يرجون ﴾ لأنكم تعلمون من الله ما لا يعلمون، وتخصونه بالعبادة والاستعانة وهم به مشركون، وقد وعدكم الله إحدى الحسنيين النصر أو الجنة بالشهادة إذا كنتم للحق تنصرون، وعن الحقيقة تدافعون، فهذا التوحيد في الإيمان، والوعد من الرحمن، هما مدعاة الأمل والرجاء، ومنفاة اليأس والقنوط، والرجاء يبعث القوة، ويضاعف العزيمة، فيدأب صاحبه على عمله بالصبر والثبات. واليأس يميت الهمة، ويضعف العزيمة، فيغلب على صاحبه الجزع والفتور، فإذا استويتم معهم في آلام الأبدان، فقد فضلتموهم بقوة الوجدان، وجرأة الجنان، والثقة بحسن العاقبة، فأنتم إذا أجدر بالمهاجمة، فلا تهنوا بالتزام خطة المدافعة، وكان الله عليما حكيما وقد ثبت في علمه المحيط، واقتضت حكمته البالغة، ومضت سنته الثابتة، بأن يكون النصر للمؤمنين على الكافرين، ما داموا بهديه عاملين، وعلى سننه سائرين، لأن أقل شأن المؤمنين حينئذ أن يكونوا مساوين للكفار في عدد القتال وأسبابه الظاهرة، وهم يفضلونهم بالقوى والأسباب الباطنة، وإذا أقاموا الإسلام كما أمر الله تعالى أن يقام فإنهم يكونون أشد للقتال استعدادا، وأحسن نظاما وسلاحا.
فهذه الآية برهان علمي عقلي على صدق وعد الله للمؤمنين بالنصر، وقد بينا هذه المسألة من قبل في التفسير وغير التفسير من مباحث المنار، ونقلنا في الكلام على حرب الإنكليز لأهل الترنسفال اعتراف الأوربيين بكون الإيمان من أسباب النصر في الحرب. فما بال المسلمين في أكثر البلاد لا يحاسبون أنفسهم بعرضها على القرآن، والنظر فيما بينه من مزايا الإيمان ؟ ؟.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ أي إنا أوحينا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام فاحكم به ﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ تخاصم عنهم وتناضل دونهم، وهو طعمه وقومه الذين سرقوا الدرع وأرادوا أن يلصقوا جرمهم باليهودي البرئ، فهو كقوله تعالى في السورة الآتية ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ﴾ [ المائدة : ٤٩ ] فالحق هو المطلوب في الحكم سواء كان المحكوم عليه يهوديا أو مجوسيا، أو مسلما حنيفيا. قال شيخ المفسرين ابن جرير ﴿ بما أراك الله ﴾ يعني بما أنزل الله إليك من كتابه ﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ يقول ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما تخاصم عنه وتدافع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه " اه وتسمية إعلامه تعالى لنبيه بالأحكام إراءة يشعر بأن علمه ( صلى الله عليه وسلم ) بها يقيني كالعلم بما يراه بعينه في الجلاء والوضوح.
وقال الأستاذ الإمام : هذه الجملة مستأنفة فعطفها على ما قبلها ليس من قبيل عطف المفرد على المفرد المشارك له في الحكم بل من قبيل عطف الجملة الابتدائية على جملة قبلها لارتباطها بالمعنى العام، والمعنى ولا تتهاون بتحري الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة صلابتهم في الخصومة لئلا تكون خصيما لهم وتقع في ورطة الدفاع عنهم، وهذا الخطاب ليس خاصا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بل هو عام لكل من يحكم بين الناس بما أنزل الله كما أمر الله. أقول ويؤيد قول الأستاذ الإمام حديث أم سلمة المتفق عليه في الصحيحين والسنن ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) ٣.
ومن مباحث الأصول في هذه الآية مسألة حكمه صلى الله عليه وسلم بالوحي فقط أو بالوحي تارة وبالاجتهاد أخرى. وقد تقدم أن قوله تعالى :﴿ أراك الله ﴾ معناه أعلمك علما يقينيا كالرؤية في القوة والظهور وما ذلك إلا الوحي الذي يفهم صلى الله عليه وسلم منه مراد الله فهما قطعيا. وروي أن عمر ( رضي الله عنه ) كان يقول : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وأما أحدنا فرأيه يكون ظنا لا علما. ذكره الرازي ثم قال :
" إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون : هذه الآية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي والنص " ثم فرع عن ذلك أن الاجتهاد ما كان جائزا له وإنما يجب عليه الحكم بالنص، وذكر أن الأمر باتباعه يقتضي تحريم القياس وعدم جوازه لولا أن أجيب عن ذلك بأن القياس ثبت بالنص أيضا.
وقال الإمام سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في كتاب ( الإشارات الإلهية، إلى مباحث الأصولية ) :﴿ لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ يحتمل أن المراد بما نصه لك في الكتاب ويحتمل أن المراد بما أراكه بواسطة نظرك واجتهادك في أحكام الكتاب وأدلته وفيه على هذا دليل على أنه عليه السلام كان يجتهد فيما لا نص عنده فيه من الحوادث وهي مسألة خلاف في أصول الفقه.
" حجة من أجاز هذه الآية وأن الاجتهاد في الأحكام منصب كمال، فلا ينبغي أن يفوته عليه السلام، وقد دل على وقوعه منه قوله عليه السلام ( لو قلت نعم لوجب٤ ولو سمعت شعره قبل قتله لم أقتله ) في قضيتين مشهورتين ".
" حجة المانع ﴿ وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى ﴾ [ النجم : ٤، ٣ ] ولأنه قادر على يقين الوحي والاجتهاد لا يفيد اليقين لجوازه في حقه والحالة هذه كالتيمم مع القدرة على الماء ".
" ثم على القول الأول وهو أن الاجتهاد جائز له هل يقع منه الخطأ فيه أم لا ؟ فيه قولان للأصوليين أحدهما لا لعصمته. والثاني نعم بشرط أن لا يقر عليه استدلالا بنحو ﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ [ التوبة : ٩ ] ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ] ونحو ذلك ".
" ويتعلق بهذا مسألة التفويض وهو أنه هل يجوز أن يفوض الله عز وجل إلى نبي حكم الأمة بأن يقول أحكم بينهم باجتهادك وما حكمت به فهو حق، أو وأنت لا تحكم إلا بالحق ؟ فيه قولان أقربهما الجواز وهو قول موسى بن عمران من الأصوليين لأنه مضمون له إصابة الحق. وكل مضمون له ذلك جاز له الحكم أو يقال هذا التفويض لا محذور فيه وكل ما كان كذلك كان جائزا " اه. كلام الطوفي.
أقول : الآية في الحكم بكتاب الله لا في الاجتهاد ولكنها لا تدل على منع الاجتهاد، ولا عليه أيضا ﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾ لأن هذا في القرآن خاصة وإلا كان كل كلامه عليه الصلاة والسلام وحيا وقد ورد أن الوحي كان ينقطع أياما متعددة وأنه كان يسأل عن الشيء فينتظر الوحي كما كان يسأل أحيانا فيجيب من غير انتظار للوحي.
٣ أخرجه البخاري في الشهادات باب٢٧، والحيل باب١٠، والأحكام باب٢٠، ومسلم في الأقضية حديث٤، وأبو داود في الأقضية باب٧، والترمذي في الأحكام باب١١، والنسائي في القضاة باب٣٣، ١٣، وابن ماجة في الأحكام باب٥، ومالك في الأقضية حديث١، وأحمد في المسند٢/٣٣٢، ٦/٣٢٠، ٣٠٧، ٢٠٣..
٤ روي الحديث بلفظ:"لو قلت نعم لوجبت"، أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥، باب١٥، والنسائي في المناسك باب١، وابن ماجة في المناسك باب٢، والدارمي في المناسك باب٤..
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ واستغفر الله ﴾ قال ابن جرير :" وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن " وأورد الرازي في الاستغفار ثلاثة وجوه :
١ لعله مال إلى نصرة طعمة لأنه في الظاهر من المسلمين.
٢ لعله هم أن يحكم على اليهودي عملا بشهادة قوم طعمة التي لم يكذبها شيء حتى نزل الوحي، فعلم أنه لو حكم لوقع قضاؤه خطأ لبنائه على كذب القوم وزوّرهم وكل من هذين الأمرين مما يستغفر منه النبي صلى الله عليه وسلم والذنب فيه من قبيل قولهم : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
٣ يحتمل أن المراد واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته. اه ملخصا.
وقال الأستاذ الإمام : واستغفر الله مما يعرض لك من شؤون البشر من نحو ميل إلى من تراه ألحن بحجته. أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به، فإن ذلك قد يوقع الاشتباه، وتكون صورة صاحبه صورة من أتى الذنب الذي يوجب له الاستغفار، وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل، والتحيز إلى الخصم، فهذا من زيادة الحرص على الحق، كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع كاف في وجوب الاحتراس منه، وناهيك بما في ذلك من التشديد فيه.
أقول : ظاهر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى تصديق المسلمين وإدانة اليهودي لما كان يغلب على المسلمين في ذلك العهد من الصدق والأمانة، وعلى اليهود من الكذب والخيانة، ولذلك قال العلماء في القديم والحديث إن أولئك المسلمين، لم يكونوا إلا منافقين، لأن مثل عمل طعمة وتأييد من أيده فيه لا يصدر عمدا إلا من منافق، وتبع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ود لو يكون الفلج بالحق في الخصومة للمسلمين الذين يرجح صدقهم فأراد أن يساعدهم على ذلك ولكنه لم يفعل انتظارا لوحي الله تعالى، فعلمه الله تعالى بهذه الآيات وعلمنا أن الاعتقاد الشخصي، والميل الفطري والديني، لا ينبغي أن يظهر لهما أثر ما في مجلس القضاء، ولا أن يساعد القاضي من يظن أنه هو صاحب الحق، بل عليه أن يساوي بين الخصمين في كل شيء، وإذا كان هذا هو الواجب وكان ذلك الميل إلى تأييد من غلب على الظن صدقه يفضي إلى مساعدته في الخصومة فيكون الحاكم خصيما عنه لو فعل، وإذا كان طلب الانتصار لهم من الخائنين في الواقع ونفس الأمر في هذه القضية فقد وجب الاستغفار من هذا الاجتهاد وحسن الظن فهذا أحسن ما يوجه به ما ذهب إليه الرازي على تقدير صحة الرواية في سبب نزول الآيات. وما قاله الأستاذ الإمام أبلغ في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يليق به، أما العصمة فلا ينقضها شيء مما ورد ولا الأمر بالاستغفار، لأن الأنبياء معصومون من الحكم أو العمل بغير ما أوحاه الله تعالى إليهم أو ما يرون باجتهادهم أنه الصواب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات بشيء، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق، ولكنه أحسن الظن في أمر بين له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه وما ينبغي له في معاملة ذويه، ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي كان شأنه ذلك وتقدم شرح مثل هذه الجملة مرارا.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ أي يخونونها بل يتعملون ويتكلفون ما يخالف الفطرة من الخيانة التي تعود على أنفسهم بالضرر. قال الأستاذ الإمام : إن هؤلاء الخائنين يوجدون في كل زمان ومكان. وهذا النهي لم يكن موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وإنما هو تشريع وجه إلى المكلفين كافة، وفي جعله بصيغة الخطاب له وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة في التحذير من هذه الخلة المعهودة من الحكام، ﴿ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ﴾ أي من اعتاد الخيانة وألف الإثم فلم يعد ينفر منه، ولا يخاف العقاب الإلهي عليه، فيراقبه فيه، وإنما يحب الله أهل الأمانة والاستقامة.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ﴾ أي إن شأن هؤلاء الخوانين الراسخين في الإثم أنهم يستترون من الناس عند ارتكاب خيانتهم واجتراحهم الإثم لأنهم يخافون ضرهم، ولا يستترون من الله تعالى بتركه لأنهم لا إيمان لهم، إذ الإيمان يمنع من الإصرار والتكرار، ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم ولا تتكرر حتى تحيط بصاحبها خطيئته، على أنه لا يمكن الاستخفاء منه تعالى، فمن يعلم أنه تعالى يراه وراء الأستار في حنادس الظلمات وهو المؤمن الصادق فلابد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى أو خوفا من عقابه ﴿ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ﴾ أي وهو تعالى شاهدهم في الوقت الذي يدبرون فيه من الليل، ما لا يرضى من القول، لأجل تبرئة أنفسهم، ورمي غيرهم بخيانتهم وجريمتهم، ﴿ وكان الله بما يعملون محيطا ﴾ لا يفوته شيء منه، فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ﴾ هذه الآية تدل على أن الذين أرادوا مساعدة بني أبيرق على اليهودي جماعة وأن النهي عن الجدال عنهم موجه إلى هؤلاء وحدهم وإن بدئ بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده. أي ها أنتم يا هؤلاء جادلتم عنهم وحاولتم تبرئتهم في الحياة الدنيا ﴿ فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ﴾ يوم يكون الخصم والحاكم هو الله المحيط علمه بأعمالهم وأحوالهم وأحوال الخلق كافة ؟ أي لا يمكن أن يجادل هنالك أحد عنهم، ولا أن يكون وكيلا بالخصومة لهم، فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى في مثل ذلك ولا يحسبوا أن من أمكنه أن ينال الفلج بالحكم له من قضاة الدنيا بغير حق، يمكنه كذلك أن يظفر في الآخرة، ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ] الذي يحاسب على الذرة ﴿ وإن كان مثال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] وفي هذا دليل على أن حكم الحاكم في الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن يأخذ به إذا علم أنه حكم له بغير حقه.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ هذا بيان للمخرج من الذنب بعد وقوعه. والسوء ما يسوء أي ما يترتب عليه الغم والكدر وفسروه بالذنب مطلقا لأن عاقبته تسوء ولو عند الجزاء. وهذه الآيات تشير إلى كل نوع من أنواع الذنوب التي ارتكبت في القصة التي نزل السياق بسببها.
الأستاذ الإمام : هذه الآيات تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدم ركنهما وهذا الركن هو المقصود من الشرائع، وإنما يمتثل هذا التحذير بالاجتهاد وتحري العدل وعدم الاغترار بظواهر الخصماء. والسوء ما يسوء به الإنسان غيره، والظلم ما كان ضرره خاصا بالعامل كترك الفريضة ( أي هذا هو المراد بهما هنا ) والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى ويتضمن ذلك لازمه وهو الشعور بقبح الذنب والتوبة منه. ولسيدنا علي كرم الله وجهه وجه خطبة في تفسير الاستغفار بالتوبة التي تذيب الشحم وتفني العظم. ومعنى وجدانه الله غفورا رحيما : أن الله أكرم من أن يرد توبة عبده إذا اطلع على قلبه وعرف منه الصدق والإخلاص.
أقول : وقد كنت كتبت في مذكراتي عن الدرس عندما تقدم " أنه لابد من نكتة لهذا التعبير وهي "... وتركت بياضا لأكتب فيه ما ظهر لي من النكتة ثم نسيته إلى الآن. ولعل المراد بوجدان الله غفورا رحيما هو أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته، ويجد أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل ذلك الدرن منها. فيكون السوء أو الظلم الذي تاب منه العبد مصداقا لقول ابن عطاء الله الإسكندري :" رب معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا " والمراد الذل والانكسار لله عز وجل الذي يورث صاحبه العزة والرفعة مع غيره. وفي الآية ترغيب لطعمة وأنصاره في التوبة.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ﴾ أي ومن يعمل الإثم عن قصد ويرى أنه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه هذا وبال على نفسه وضرر لا نفع لها كما يتوهم لجهله بعواقب الآثام السيئة في الدنيا والآخرة، ومن العواقب غير المأمونة في الدنيا فضيحة الآثم ومهانته بظهور الأمر للناس وللحاكم العادل كما وقع لأصحاب القصة الذين نزلت بسببهم الآيات وسترى تحديد معنى الإثم في تفسير الآية التي بعد هذه ﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ قال الأستاذ الإمام أي أنه تعالى قد حدد للناس بعلمه حدود الشرائع التي يضرهم تجاوزها، وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها، فهو إذا يضر نفسه ولا يضر الله شيئا.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ﴾ أقول يطلق العلماء الخطيئة والإثم والذنب والسيئة على المعصية. ولكل لفظ منها معنى في أصل اللغة يناسبه إطلاق القرآن. ولا يمكن أن يكون الإثم هنا بمعنى الخطيئة. ويقول الراغب إن الإثم في الأصل اسم للأفعال المبطئة عن الثواب. أي مثل السكر والميسر لأنهما يشغلان صاحبهما عن كل عمل صالح ولذلك قال تعالى :﴿ فيهما إثم كبير ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] وأما الخطيئة فظاهر أنها من الخطأ ضد الصواب، وصيغة فعلية تدل على معنى أيضا، فالخطيئة الفعلة العريقة في الخطأ لظهوره فيها ظهورا لا يعذر صاحبه بجهله. والخطأ قسمان أحدهما أن تخطئ ما يراد منك، وهو ما يطالبك به الشرع ويفرضه عليك الدين، أو ما جرى عليه العرف والعهد، ويدخل في القسم الثاني ويخطئه الفاعل من مطالب الشرع أي يتجاوزه ولو عمدا، ومن هنا جعلوا الخطيئة بمعنى المعصية مطلقا، وفسرها ابن جرير هنا بالخطأ والإثم بالعمد.
وقال الأستاذ الإمام : الخطيئة ما يصدر من الذنب عن الفاعل خطأ أي من غير ملاحظة أنه ذنب مخالف للشريعة، والإثم ما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب. ويعني بالملاحظة تذكر ذلك وتصوره عند الفعل، وقال إن عدم الملاحظة والشعور بالذنب عند فعله قد يكون سببه تمكن داعيته من النفس ووصولها إلى درجة الملكات الراسخة والأخلاق الثابتة التي تصدر عنها الأعمال بغير تكلف ولا تدبر، وهذا المعنى هو المراد هنا. أقول : ويصح أن يكون هذا البيان توجيها لقول من فسر الخطيئة هنا بالمعصية الكبيرة. والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه أي يحيره ويدهشه.
والمعنى أن من يكسب خطيئة أو إثما ثم يبرئ نفسه منه أي مما ذكر ويرمي به بريئا أي ينسبه إليه ويزعم أنه هو الذي كسبه، فقد احتمل أي كلف نفسه أن يحمل وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه ووزر الإثم البين الذي كسبه وتنصل منه. وقد فشا هذا بين المسلمين في هذا الزمان ومع هذا ينسب المارقون ضعفهم إلى دينهم، وإنما سببه ترك هدايته، فالحادثة التي نزلت هذه الآيات في إثر وقوعها كانت فذة في بابها وما زال المفسرون يجزمون بأن المسلمين الذين سرق أو خان بعضهم ونصره آخرون وبهتوا اليهودي برميه بجرمه وهو بريء لم يكونوا مسلمين إلا في الظاهر، وإنما هم منافقون في الباطن، لأن مثل هذا الإثم المبين، والبهتان العظيم، لا يكون من المؤمنين الصادقين، ولكن مثلها صار اليوم مألوفا، بل وجد في حملة العمائم من يفتي بجواز خيانة غير المسلمين، وأكل أموال المعاهدين والمستأمنين بالباطل، كما علمنا من واقعة حال استفتينا فيها ونشرت الفتوى في المنار، ونعوذ بالله من هذا الخذلان.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما١٠٥ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ١٠٦ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما١٠٧ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا١٠٨ هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ١٠٩ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ١١٠ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما١١١ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا١١٢ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما١١٣ ﴾.
روى الترمذي١ والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك٢ فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سأنظر في ذلك ) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة ) ؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ بني أبيرق، ﴿ واستغفر الله ﴾ أي مما قلت لقتادة إلى قوله ﴿ عظيما ﴾ فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله ﴿ ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] إلى قوله ﴿ ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ٦٠ ] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ﴾ الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال ﴿ ولا تجادل ﴾ الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ﴿ ومن يشاقق الرسول ﴾ الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكيلا ﴾.
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال ( وذكرت الآيات ) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق.
وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق.
هذا ما ورد في سبب النزول. وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :

" في كيفية النظم وجوه :

( الأول ) : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ـ رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
( والوجه الثاني : في بيان النظم ) أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه
( الوجه الثالث ) : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك " اهـ.
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال ( وذكر الآية الأولى ).
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى :﴿ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل :
بعد أن بين الله تعالى هذه الأحكام والحكم والمواعظ المنطبقة على تلك الواقعة، ووجه إلى كل من له شأن فيها ما يناسبه في سياق هذه القواعد العامة، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم بين الخصمين فيها بقوله :﴿ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك ﴾. أي لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة، ورحمته لك ببيان حقيقة الواقعة، لهمت طائفة من الذين يختانون أنفسهم بالمعصية أو بمساعدة الخائن أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها، أي يضلوك بقول الزور وتزكية المجرم وبهت اليهودي البريء، لعلمهم أن الحكم إنما يكون بالظواهر، أو بمحاولة الميل إلى إدانة اليهودي توهما منهم أن الإسلام يبيح ترجيح المسلم على غيره ونصره ظالما أو مظلوما كما يعهدون في غيره من الملل. ولكنهم قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به جاءك الوحي ببيان الحق، وإقامة أركان العدل، والمساواة فيه بين جميع الخلق.
وقيل إن الآية نزلت في وفد ثقيف إذ قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا جئنا لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا، فردهم ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ بانحرافهم عن الصراط المستقيم الذي هداهم إليه الإسلام واتباع الهوى والتعاون عليه ﴿ وما يضرونك من شيء ﴾ وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم. وهذه الآية ناطقة بأنه صلى الله عليه وسلم لم يجادل عنهم ولا أطمعهم في التحيز لهم قبل نزول الوحي ولا بعده بالأولى.
هذا ما ظهر لي الآن. وقد رجعت بعد كتابته إلى مذكراتي التي كتبتها في درس الأستاذ الإمام فإذا فيها ما نصه :
كان الكلام في المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحق، وقد أراد تعالى بعد بيان تلك الأوامر والنواهي وتوجيهها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين فضله ونعمته عليه. قال الأستاذ : ولا يصح تفسير الآية بما ورد من قصة طعمة لأنه على ما روي قد همّ هو وأصحابه بإضلال النبي عن الحق الذي أنزله الله عليه، وهو تعالى يقول إنه بفضله ورحمته عليه قد صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلاله والهمّ بذلك. وذلك أن الأشرار إذا توجهت إرادتهم وهممهم إلى التلبيس على شخص ومخادعته ومحاولة صرفه عن الحق فلابد له أن يشغل طائفة من وقته لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم وذلك يشغل المرء عن تقرير الحقائق وصرف وقت المقاومة إلى عمل آخر صالح نافع، ولذلك تفضل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه حتى بالهم بغشه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه اه.
﴿ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم ﴾ الكتاب : القرآن، والحكمة : فقه مقاصد الكتاب وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على سنن الاجتماع البشري واتحادها مع مصالح الناس في كل زمان ومكان. ﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾ هو في معنى قوله تعالى :﴿ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] ولا دليل فيه على أن المراد به تعليمه الغيب مطلقا بل هو الكتاب والشريعة، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي.
﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ إذ اختصك بهذه النعم الكثيرة وأرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له، ويجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا بهذا الفضل خير أمة أخرجت للناس، وقدوة لهم في جميع الخيرات.
﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما١١٤ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا١١٥ ﴾.
أقول : تقدم في بيان سبب نزول الآيات التي قبل هذه أن ( طعمة ) الخائن لم يكد يفتضح أمره حتى فر إلى المشركين وأظهر الشرك والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم كأنه كان قد أسلم ليتخذ من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أعوانا ونصراء يعينونه على اتباع الهوى والخيانة بالعصبية على المخالفين، وما علم أن الإسلام قد جاء ليبطل الخيانة والضلال ويمحق الأباطيل ويؤيد الحق والفضيلة، أفلا يسمع هذا المبطلون من أهل أوروبا الذين لا يزالون يقلدون قسوس قرونهم المظلمة مثيري الحروب الصليبية في زعمهم أن المسلمين كانوا في العصر الأول جمعية لصوص وقطاع طريق ! ! ألا يدلوننا على حكومة من أرقى حكوماتهم أوصلها دينها ومدنيتها وعلومها وحضارتها إلى الرضا بمساواة أبنائها وأوليائها بأعدى أعدائها، ويشددون في ذلك مثلما شددت الآيات التي تقدم تفسيرها في قصة ( طعمة ) مع اليهودي ؟ ؟ كيف ونحن نراهم في بلادنا لا يرضون بالمساواة بيننا وبينهم، وأن الرجل من أشرار جناتهم وتحوت صعاليكهم قد يقتل الواحد من خيار الناس في مصر فيحاكمه قنصل دولته كما يريد، ويحكم عليه بأن يغيب عن الأرض التي لوثها بدم الجناية زمنا طويلا أو قصيرا ثم يعود إن شاء ؟.
فعلى هذا الذي تقدم يكون قوله تعالى :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ وما بعده نزل في سياق تلك القصة وأن ضمير ﴿ نجواهم ﴾ يعود على أولئك المختانين لأنفسهم الذين يبيتون في ليلهم من الأقوال ما لا يرضي ربهم، وهذا هو المختار. والنجوى مصدر أو اسم مصدر معناه المسارة بالحديث، قيل أصله من النجوة وهي المكان المرتفع عما حوله بحيث ينفرد من فيه عمن دونه، وقيل من النجاة كأنه نجا بسره ممن يحذر اطلاعهم عليه، ويوصف به فيقال قوم نجوى ورجلان نجوى ومنه قوله تعالى في سورة الإسراء :﴿ وإذ هم نجوى ﴾ [ الإسراء : ٤٧ ] ومن استعماله بالمعنى المصدري في القرآن قوله تعالى :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾ [ المجادلة : ٧ ] وقوله :﴿ وأسروا النجوى ﴾ [ طه : ٦٢ ] وأجاز المفسرون هنا أن تكون النجوى بمعنى المتناجين أي المتسارين ويكون المعنى : لا خير في كثير من المتناجين الذي يسرون الحديث من جماعة ( طعمة ) الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته، ومن سائر الناس إلا من أمر منهم بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وهذه الثلاثة هي مجامع الخيرات التي يحتاج فيها إلى النجوى، فيكون الاستثناء متصلا على ظاهر قواعد النحو. وأما على القول بأن النجوى هنا بمعنى التناجي فالظاهر أن الاستثناء منقطع أي لا خير في كثير من تناجي هؤلاء الناس ولكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فذلك هو الخير الذي يكون في نجواه الخير وإلا فإنهم يقدرون للإعراب مضافا محذوفا والتقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف الخ وقد تقدم تحرير مثل هذه المسألة في تفسير :﴿ ولكن البر من آمن بالله ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] من سورة البقرة ورأي الأستاذ الإمام فيه ( فليراجع في الجزء الثاني من هذا التفسير ).
وقال الأستاذ هنا : أن الكلام في الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ومعناه أن الغالب عليهم الشر فهو الذي يجري في نجواهم لأنه أكبر همهم وذكر مسألة الاستثناء ثم قال إن النكتة في ذكر الكثير هنا هو أن من النجوى ما يكون في الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر، ولا هي مرادة من الخير، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي الخير عنها النجوى في شؤون الناس ولذلك استثنى الأمور الثلاثة التي هي مجامع الخير للناس اه.
أقول : إذا كان الكلام هنا في أولئك الخائنين فنفي الخير عن الكثير من نجواهم ظاهر، ولكننا نرى الكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنة الإثم والشر مطلقا ولذلك خاطب المؤمنين بقوله في سورة المجادلة :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون، إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ [ المجادلة : ١٠، ٩ ] وهذا بعد أن بين أن بعض الناس نهوا عن النجوى ثم هم يعودون إليها، وهم اليهود والمنافقون.
والحكمة في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر هي أن العادة الغالبة وسنة الفطرة المتبعة هي استحباب إظهار الخير والتحدث به في الملأ، وإن الشر والإثم هو الذي يخفى، ويذكر في السر والنجوى، وفي الحديث الشريف :( الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس ) ١ وقلما يكتم الناس شيئا من الخير المطلق المتفق على كونه خيرا، وإنما الغالب في كتمان بعض الخير وإسراره وجعل الحديث فيه نجوى أن يكون ذلك الخير خيرا للمتناجين وشرا لغيرهم أو مؤذيا له ولو من بعض الوجوه. كأسرار الحرب والسياسة التي يتوخى بها أهلها نفع أنفسهم وضرر غيرهم فيكتمون أخبارها ويجعلونها نجوى بينهم لئلا تصل إلى خصمهم وعدوهم الذي يضره ما ينفعهم، وينفعه ما يحبط عملهم ويبطل كيدهم. ويشبه ذلك ما يكون بين التجار وغيرهم من طلاب الكسب من التناجي فيما يخافون أن يطلع عليه غيرهم فيسبقهم إليه أو يشاركهم فيه، فإن ما يريدون أن يفوته من الكسب خير لهم وشر له.
وهنالك أمور من الخير تتوقف خيريتها أو كمال الخير فيها وخلوه من الشوائب على كتمانه وجعل التعاون عليه سرا والحديث فيه نجوى، وهو ما ذكره الله تعالى من هذه الأمور الثلاثة. فما استثناها الله تعالى من النجوى التي لا خير في أكثرها إلا لأنها يحتاج فيها إلى النجوى. وإني لم أفطن لهذا إلا عند كتابة تفسير الآية وليس عندي فيه نقل، وقد عجبت للأستاذ الإمام كيف ذهل عنه فلم يبينه ما لم أعجب لغيره، فإنه أبو عذرة هذه الدقائق في علم الإنسان والقرآن، على أنني كنت أود لو كان بين يدي جميع كتب التفسير المعتبرة لأراجع تفسير الآية فيها٢.
أما الصدقة فهي من الخيرات التي لا مرية فيها وإن إظهارها قد يؤذي المتصدق عليه ويضع من كرامته، وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة له من إيتائه إياها جهرا، ولو كان ذلك مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى، ولهذا قال عز وجل :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ [ البقرة : ٢٧١ ] فقد مدحها الله تعالى مطلقا، وجعل إخفاء ما يؤتاه الفقير منها خيرا من إظهاره لأن بعض الفقراء يتأذى بالإظهار ويراه إهانة له، ولو كان جميع الفقراء أو أكثرهم يتأذون بالإظهار لحرمة الله تعالى وأوجب الإخفاء إيجابا. فلما ذمّ الله تعالى النجوى وبين أنه لا خير في كثير منها وكان مما قد يترتب على ذلك أن لا يتناجى المتعاونون على الخير فيما بينهم في أمر بعضهم بعضا بالصدقة الخفية على المستحقين لها من أهل الحياء والكرامة الذين يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف، استثنى الحكيم الخبير هذا النوع من النجوى حتى لا يتحاماه المتورعون خوفا أن يدخل فيما لا خير فيه.
وأما المعروف فقد يخفى وجه استثنائه، وهو في اللغة ضد المنكر أي ما تعرفه وتقره النفوس وتتلقاه بالقبول، لموافقته للمصالح وانطباقه على الطباع والعقول، قال بعض أهل الفراسة من العرب : إني لأعرف في عيني الرجل إذا عرف، وأعرف في عينيه إذ أنكر، وأعرف فيهما إذا لم يعرف ولم ينكر، الخ ولما كان الشرع مهذبا للنفوس ومرشدا للعقول، ومقوما لما مال وانْآد من أحكام الفطرة البشرية بسوء اجتهاد الناس، صار أعرف المعروف ما أرشد إليه أو أقره واستحسنه، وأنكر المنكر ما نهى عنه وذمه وكرهه، فالذي يؤمر بالمعروف على مسمع من الناس يستاء في الغالب من الآمر، ولا سيما إذا كان من أقرانه حقيقة أو ادعاء، لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل، واتهاما له بالتقصير أو الجهل، وإشرافا عليه بالتعليم والتهذيب، من أجل هذا كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، وأقرب إلى القبول والإمضاء، وكان من هداية اللطيف الخبير أن يدخله في هذا الاستثناء، ليكف عنه محبو الاستعلاء، ولا يتأثم به من يعرفون فائدة الإخفاء.
وأما الإصلاح بين الناس فهو أيضا من الخير الذي قد يترتب على إظهاره والتحدث به في الملأ شر كبير، وضرر مستطير، فينقلب الإصلاح المطلوب إفسادا، وهذا مما لا يكاد يخفى على أحد عاش بين الناس واختبر أحوالهم فيما يكون بينهم من الخصام والشقاق والتنازع والصلح والتراضي بسعي محبي الإصلاح. فإن منهم من إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر زيد من الناس، لا يستجيب ولا يقبل، ومنهم من يصده عن الرضا بذلك ذكره بين الناس وعلمهم بأنه كان بسعي وتواطؤ، ومنهم من يشترط أن يكون خصمه هو الذي طلب مصالحته، ومنهم من يشترط أن يظن ذلك، والجهر بالحديث في ذلك قد يبطل ذلك. فالإصلاح بين الناس يحتاج فيه إلى الكتمان وأن يكون الأمر به والسعي إليه بين من يتعاونون عليه بالنجوى فيما بينهم.
لو أطلق القول في الكتاب بأن كثيرا من النجوى لا خير فيه ولم يستثن من ذلك شيء لذهب اجتهاد كثير من المتورعين إلى أن هذه الأمور من ذلك الكثير فيتركون النجوى بها خوفا من الوقوع فيما لا خير فيه، وحينئذ إما أن يرجحوا الجهر بالأمر بها فيفوت الغرض المقصود منها، ولو في بعض دون بعض، وإما أن يرجحوا ترك الأمر بها البتة، لئلا يترتب على النفع المقصود من الصدقة الضرر، وتأخذ من يؤمر بالمعروف العزة بالإثم، ويتحول إصلاح ذات البين إلى إفساد، فهذا ما ظهر لي الآن في المسألة.
﴿ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ بغى الشيء طلبه بالفعل وابتغاه أبلغ من بغاه في الدلالة على الطلب لأنه يدل على الاجتهاد فيه والاعتمال له، وإنما تنال مرضاة الله تعالى بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله، ويكون الفاعل له مظهرا لرحمته تعالى وحكمته، مع تذكر هذا عند العمل والشعور به، وبهذا القيد يكون المؤمن أرقى من الفيلسوف في عمله، وأبعد عن الغرور والدعوى فيه، وأرسخ قدما في الإخلاص، وتحري نفع الناس، والثبات على ذلك وعدم مزاحمة الأهواء الشخصية له وترجيحها عليه، ذلك بأن الفلاسفة وأخص منهم فلاسفة هذا الزمان يقولون إن الخير والفضيلة والكمال في الإنسانية هو أن يفعل الإنسان الخير لأنه خير نافع للهيأة الاجتماعية التي هو منها، والإيمان يهدينا إلى هذا وإلى ما هو أعلى منه وأشرف، وهو أن نشعر أنفسنا عند عمله أننا مظاهر لرحمة الله تعالى ورأفته بعباده، ومجالي لحكمته في إصلاح خلقه، وأن لنا بذلك قربا معنويا من ربنا، وإننا نلنا به مرضاته عنا، وصرنا به أهلا للجزاء الأوفى. في حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى، وإن هذا الجزاء هو المعبر عنه بالأجر العظيم، وناهيك بما يشهد الله تعالى بعظمته في كتابه الحكيم، وليس هو من قبل جزاء الملوك والكبراء لمن يحسن خدمتهم، وينال مرضاتهم
١ يروى الحديث بلفظ: "الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، أخرجه مسلم في البر حديث ١٥، ١٤، والترمذي في الزهد باب٥٢، والدارمي في البيوع باب٢، وأحمد في المسند٤/٢٢٨، ٢٢٧، ١٨٢، ٥/٢٥٦، ٢٥٢، ٢٥١..
٢ إني أكتب هذا في الباخرة التي تحملني إلى الهند في ليلة الجمعة ٢٦ ربيع الأول سنة ١٣٣٠(المؤلف)..
﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ﴾ الخ.
قال الأستاذ الإمام : لما بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه وعده بالجزاء الحسن للذين يتناجون بالخير، ويبتغون بنفع الناس مرضاة الله عز وجل، أراد أن يبين في هذه الآية وعيده لأولئك الذين يتناجون بالشر، ويبيتون ما يكيدون به للناس، فهو يقول إن أولئك القوم مشاقون للرسول إذ كانوا يفعلون ما يفعلون بعد أن ظهرت لهم الهداية على لسانه صلى الله عليه وسلم، وقامت عليهم الحجة بحقيقة ما جاء به، وأما من لم تتبين لهم الهداية فلا يستحقون هذا الوعيد، وهم متفاوتون فمن نظر منهم في الدليل فلم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص فهو معذور غير مؤاخذ كالذي لم تبلغه الدعوة، وعليه جمهور الأشاعرة. والمشاقة بعد تبين الهدى إنما تكون عنادا وعصبية أو اتباعا لشهوة تفوت بهذه الهداية اه.
أقول : المشاقة المعادة مشتقة من شق العصا، أو هي مفاعلة من الشق كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق غير الذي فيه الآخر كما قالوا. والكلام جاء بصيغة العموم وهو يصدق على ( طعمة ) كما ذكر في قصته وعلى قليل من الناس منهم بعض علماء اليهود في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما قلنا إنه يصدق على قليل من الناس لأن أكثر الناس فطروا على ترجيح الهدى على الضلال والحق على الباطل والخير على الشر إذا تبين لهم ذلك وعرفوه وناهيك بمن دخل فيه وعمل به ورأى الفرق بينه وبين ما كان عليه هو وقومه ( كطعمة ) ولا يشترط في هذا الترجيح الفطري والعمل به أن يكون قد تبين بالبرهان اليقين المنطقي الذي يقبل النقض بل يكفي أن يظهر للمرء أن هذا هو الهدى أو أنه أهدى من مقابله إذا كان هناك مقابل. وسبب هذا ومنشأه أن الإنسان فطر على حب نفسه وحب الخير والسعادة لها والسعي إلى ذلك واتقاء ما ينافيه ويحول دونه لذلك كانت شريعة الإسلام التي هي دين الفطرة مبنية على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح فكل ما حرم فيها على الناس فهو ضار بهم وكل ما فرض عليهم أو استحب لهم فيه فهو نافع لهم، ولهذا كان غير معقول أن يتركها أحد بعد أن يعرفها وتتبين له وكان إن وقع لا بد له من سبب، وهو ما أشار إليه القرآن الحكيم في قوله تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ [ البقرة : ١٣٠ ] ؟ أي لا أحد يرغب عنها إلا من احتقر نفسه وأزراها بالسفه والجهالة. ونحن نبين أصناف الناس في اتباع الهدى وتركه وسبب ذلك فنقول.
الصنف الأول : من تبين له الهدى بالبرهان الصحيح، ووصل فيه إلى حق اليقين، وهذا لا يمكن أن يرجع عنه اعتقادا، ويندر جدا أن يرجع عنه عملا، وللأستاذ الإمام كلمة كبيرة في هذا المقام لا يقولها إلا مثله من الأعلام، وهي :" الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق كلاهما قليل في الناس "، وهو يعني الرجوع بالعمل إذ الإنسان يملك من عمله ما لا يملك من اعتقاده فمن كان موقنا بأن المخلوق لا يكون إلها ولا شريكا لله يؤثر في إرادته ويحمله على فعل ما لم يكن ليفعله لولاه لا يستطيع بعد اليقين الحقيقي في ذلك أن يعتقد أن المسيح أو غيره ممن عبد ومما عبد من دون الله أو مع الله آلهة أو شركاء لله، ولكنه يستطيع ويدخل في إمكانه أن يدعوها من دون الله أو مع الله، وأن يعبدها بغير الدعاء أيضا كالتمسح بها والتعظيم الذي يعده أهلها من شعائر العبادات، لا من عموم العبادات، وهو وإن كان يستطيع ما أشرنا إليه من عباداتها لا يفعله، أي لا يرجع عن الحق بالعمل، إلا أن يكون لما أشرنا إليه من السبب، وسنبينه بعد.
الصنف الثاني : من تبين لهم الهدى بالدلائل المعتادة التي يرجح بها بعض الأشياء على بعض بحسب أفهامهم وعقولهم، لا بالبرهان المنطقي المؤلف من اليقينيات البديهة أو المنتهية إليها، وهؤلاء لا يرجعون عن الهدى إلى الضلال وهم يعلمون أنه الهدى بهذا النوع من العلم الذي أشرنا إليه إذ يكفي أنهم معتقدون به أنهم على الحق والخير والصلاح، فلا يشاقون من جاءهم بذلك ولا يتبعون غير سبيل أهله إلا لسبب يقل وقوعه كما سيأتي.
الصنف الثالث : من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به من الناس كآبائه وخاصة أهله ورؤساء قومه وهذا لا يدخل فيمن تبين لهم الحق والهدى لأنه لم يتبين لهم شيء ولذلك يتركون الهدى إلى كل ما يقرهم عليه رؤساؤهم من البدع والضلالات كما هو مشاهد في جميع الملل والأديان.
الصنف الرابع : من لم يتبع الهدى لأنه نشأ على تقليد أهل الضلال، فلما دعي إلى الهدى لم ينظر في دعوة النبي الذي دعي إلى دينه، ولا تأمل في دليله، لأنه صدق الرؤساء الذين قلدهم بأنه ليس أهلا للاستدلال وأن الله حرم عليه وعلى أمثاله النظر في الأدلة والبينات، وفرض عليهم أن يقلدوا أهل الاجتهاد، ومن ينقل إليهم مذاهبهم من العلماء، فمن قلد عالما، لقي الله سالما، ومن نظر واستدل، زل وضل، وهذا ما كان عليه جمهور أهل الكتاب في زمن بعثة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك غيرهم من أصحاب الأديان المدونة كالمجوس، وأمثال هؤلاء إذا ترك رؤساؤهم دينهم أو مذهبهم يتبعونهم في الغالب، ولا سيما إذا دخلوا في مذهب أو دين جديد ليس بينهم وبين أهله عداوات دينية ولا سياسية تنفرهم منهم تنفيرا طبيعيا، ولذلك دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ملوكهم ورؤساءهم إلى الإسلام وكتب لكل رئيس أن عليه إثم قومه أو مرؤوسيه إذا هو تولى عن الإيمان، ولم يجب دعوة الإسلام.
الصنف الخامس : كالذي قبله في التقليد لأهل الضلال تعظيما لجمهور قومه ومن نشأ على احترامهم من آبائه وأجداده، واستعبادا لكونهم كانوا متفقين على اتباع الضلال، وأن يكون هذا الداعي قد عرف الهدى من دونهم، أو أوحى إليه ولم يوح إليهم، وهذا ما كانت عليه عامة العرب عند ظهور الإسلام، والآيات المبينة لحالهم هذه كثيرة ليس هذا محل سردها، وإنما الفرق بينهم وبين مقلدة أهل الكتاب والأديان المدونة ذات الكتب والهياكل والرؤساء الروحيين، أن تقليد هؤلاء العرب أضعف، وجذبهم إلى النظر والاستدلال أسهل، وكذلك كان، وهو من أسباب ظهور الإسلام فيهم دون سائر الناس.
الصنف السادس : علماء الأديان الجدليون المغرورون بما عندهم من العلم الناقص بها، الذين دعوا إلى الهدى فلم يتولوا عنه اتباعا لرؤساء فوقهم، ولم ينظروا فيه بالاستقلال والإخلاص، بل أعرضوا احتقارا له لأنه غير ما جروا عليه ووثقوا به، وجعلوه مناط عظمتهم، وحسبوه منتهى سعادتهم، وهم في الحقيقة مقلدون كعامتهم، ولكن عندهم من الصوارف عن قبول الهدى ما ليس عند العامة من معرفة عظمة أسلافهم الذين ينتمون إليهم وما ينسب إليهم من العلم والصلاح والفضائل والكرامات، ومن الأدلة الجدلية على حقية ما هم عليه.
الصنف السابع : الذين بلغتهم دعوة الهدى على غير وجهها الصحيح المحرك للنظر فلم ينظروا فيها ولم يبالوا بها لأنهم رأوها بديهية البطلان، ومن هؤلاء أكثر كفار هذا الزمان الذين لا يبلغهم عن الإسلام إلا أنه دين من جملة الأديان الكثيرة المخترعة فيه وفي أهله من العيوب والأباطيل ما هو كذا وكذا كما اخترع وافترى رؤساء النصرانية وغيرهم على الإسلام ولا سيما ما كتبوه قبل تأليب الشعوب الأوربية على الحرب الشهيرة بالصليبية. فهؤلاء لا يبحثون عن حقيقة الإسلام كما أن المسلمين لا يبحثون عن دين المورمون مثلا.
الصنف الثامن : من بلغتهم دعوة الهدى على وجهها أو غير وجهها فنظروا فيها بالإخلاص ولم تظهر لهم حقيقتها ولا تبينت لهم هدايتها، فتركوها وتركوا إعادة النظر فيها.
الصنف التاسع : هم أهل الاستقلال الذين نظروا في الدعوة كمن سبقهم ولا يتركون النظر والاستدلال إذا لم يظهر لهم الحق من أول وهلة، بل يعودون إليه ويدأبون طول عمرهم عليه، وهم الذين نقل الأستاذ الإمام عن محققي الأشاعرة القول بنجاتهم لعذرهم.
الصنف العاشر : من لم تبلغهم دعوة الحق والهدى البتة، وهم الذين يعبر عنهم بعضهم بأهل الفترة، ومذهب الأشاعرة أنهم معذورون وناجون.
هذه هي أصناف الناس في الهدى والضلال، بحسب ما خطر للفكر القاصر الآن، ولا يصدق على صنف منها أنه تبين له الهدى إلا الأول والثاني، فمن يشاقق الرسول من أفرادهما في حياته، أو يعادي سنته من بعده، ﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين ﴾ الذين هم أهل الهدى، وإنما سبيلهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يقول الله تعالى فيه :﴿ نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ﴾ وهو الذي يصدق عليه قوله تعالى في سورة أخرى :﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ؟ أفلا تذكرون ! ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] وهم أجدر الناس بدخول جهنم وصليها والاحتراق بها وسائر أنواع عذابها لأنهم استحبوا العمى على الهدى، وعاندوا الحق واتبعوا الهوى.
وأما سائر الأصناف فيولي الله كلا منهم ما تولى أيضا كما هي سنته في الإنسان الذي خلقه مريدا مختارا حاكما على نفسه وعلى الطبيعة المحيطة به بحيث يتصرف فيهما التصرف الذي يراه خيرا له. و لذلك غير في أطوار كثيرة أحوال معيشته وأساليب تربيته وسخر قوى الطبيعة العاتية لمنافعه ﴿ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ﴾ [ الجاثية : ١٣ ] فهو مربي نفسه ومربي الطبيعة التي ألهها بعض أصنافه جهلا منهم بأنفسهم وهو لا متصرف فوقه في هذه الأرض إلا رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم. أقول هذا نسفا لأساس جبرية الفلسفة الأوربية الحاضرة بعد نسف أساس جبرية الفلسفة الغابرة، هؤلاء الذين يظنون أن ما يسمونه الأفعال المنعكسة تعمل في الإنسان عملها، وأنه لا عمل له بها، والصواب أنه حاكم عليها كحكمها عليه فإن ترك لها الحكم استبدت وإن أراد أن يتصرف فيه وفيها فعل.
قلت : إن من سنته تعالى في الإنسان أن يولي كلا من تلك الأصناف ما تولى ولكنه لا يصلي كلا منهم جهنم التي ساء مصيرها، لأن إصلاء جهنم هو تابع لما يتولاه الإنسان من الضلالة في اعتقاده، وناهيك به إذا تولاها بعد أن ظهرت الهداية له، وذلك أن الجزاء أثر طبيعي لما تكون عليه النفس في الدنيا من الطهارة والزكاء والكمال بحسب تزكية صاحبها لها أو من ضد ذلك بحسب تدسيته لها، ويدل على هذا وذاك قوله تعالى :﴿ نوله ما تولى ﴾.
وإنني لا أتذكر أنني اطلعت على تفسير واضح لهذه الجملة الحكيمة العالية ﴿ نوله ما تولى ﴾ وإنما يفسرون اللفظ بمدلوله اللغوي كأن يقولوا نوجهه إلى حيث توجه، أو نجعله واليا لما اختار أن يتولاه، أو يزيدون على ذلك استدلال كل فرقة بالآية على مذهبها أو تحويلها إليه أعني مذاهبهم في الكسب والقدر والجبر، وتعلق الإرادة الإلهية أو عدم تعلقها بالشر، والذي أريد بيانه وتوجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله تعالى في عمل الإنسان، ومقدار ما أعطيه من الإرادة والاستقلال، والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها في حياته، والغاية التي يقصدها من عمله، يوليه الله إياها ويوجهه إليها أي يكون بحسب سننه تعالى واليا لها، وسائرا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه، ولو شاء تعالى لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة في الطاعة كالملائكة ولكنه شاء أن يخلقهم ع
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا١١٦ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا١١٧ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا١١٨ ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا١١٩ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا١٢٠ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا١٢١ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا١٢٢ ﴾.
بين الله لنا في الآية التي قبل هذه الآية أن جهنم هي مصير من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، وكلا هذين الأمرين كان يكون في زمن الرسول ظاهرا جليا بمثل ما فعل طعمة من ترك صحبة النبي والمؤمنين، وموالاة أعدائهم من المشركين، كما يظهر ذلك في عصره وغير عصره في كل من بلغته دعوته وتبين له الهدى فيها فتركها وعادى أهلها ووالى أعدائهم، فإن مشاقة ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مشاقة له. ولكن وراء ذلك أنواعا من الكفر والضلال لا يصدق على كل واحد منها أنه مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، كما بينا ذلك في تفسير تلك الآية وقلنا : إن كل صنف من أصناف الضالين يوليه الله ما تولى ويوجهه إلى حيث توجه بكسبه واجتهاده لأن الله تعالى وكل أمر النوع الإنساني إلى نفسه، إلا أن يختص من شاء من الناس برحمة من لدنه. وبقي علينا أن نعرف ما يجوز أن يغفره الله تعالى للناس من أنواع ضلالهم وخطاياهم ومالا يغفره لهم البتة فإن هذا مما يحتاج إليه في هذا المقام فبينه تعالى بقوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ وقد تقدم هذا النص بعينه في سياق آخر من هذه السورة ولم يمنع ذلك من إعادته هنا لأن القرآن ليس قانونا ولا كتابا فنيا فيذكر المسألة مرة واحدة يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها وإنما هو كتاب هداية ومثاني يتلى لأجل الاعتبار والاستبصار تارة في الصلاة وتارة في غير الصلاة، وإنما ترجى الهداية والعبرة بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يوجه النفوس إليها أو يعدها ويهيؤها لقبولها، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني، ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة في النفوس إلا بالتكرار، ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذين عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم، بل قال بعض علماء الاجتماع : إن نشر التجار للإعلانات التي يمدحون بها سلعهم وبضائعهم ويدلون الناس على الأماكن التي تباع فيها هو عمل بهذه القاعدة فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء ولو من المتهم في مدحه لا بد أن يؤثر فيه.
وقال الأستاذ الإمام : تقدم صدر هذه الآية في هذه السورة وتتمتها هناك ﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما مبينا ﴾ وقد تقدمها هنالك إثبات ضلال أهل الكتاب وتحريفهم ودعوتهم إلى الإيمان بما أنزله الله على نبيه مصدقا لما معهم، فقد بين لهم أن اتباع الرسول فيما جاء به والتسليم له درجات فمنها ما تغلب النفوس على مخالفته نزوات الشهوة وثورات الغضب ثم يعود صاحبه ويتوب، فهذا مما قد تناله المغفرة، وأما التوحيد الذي هو أساس الدين فلا يغفر الميل عنه إلى ضرب من ضروب الشرك. والآيات التي قبل هذه الآية تفيد أن السياق هنا كالسياق هناك فأعادها لذلك المقصد وهو بيان أن مشاقة الرسول ومخالفته إنما تكون بالخروج عن التوحيد والوقوع في الشرك لأن التوحيد روح الدين وقوامه، فالمناسبة هنا تقتضي أن يعاد هذا المعنى، وهي إعادة تنادي البلاغة بطلبها ولا تعد من التكرار الذي قالوا إنه ينافي البلاغة، فإن هذا إنما يتحقق إذا كان المخاطبون وقد فهموا منك معنى تمام الفهم كما تريد ثم ذكرته لهم بعبارة لا تزيدهم فائدة ولا تأثيرا جديدا ولا تمكينا للمعنى. وأما ما يفيد شيئا من هذا الذي ذكرناه فهو الذي تقتضيه البلاغة اه.
أقول : إن هذا يقال على تقدير كون القرآن يوجه إلى كل فرد من أفراد المكلفين وأنهم جميعهم يسمعونه أو يتلونه كله ويتذكرون عند كل سياق ما يناسبه فيغيره، وإذا أنت تذكرت أن الله تعالى يعلم أن الأمر لا يكون كذلك وأنه ربما يسمع هذا السياق الذي جاءت هذه الآية فيه من لم يكن سمع ذلك السياق الذي جاءت فيه الأخرى سواء كان ذلك في الصلاة أو غير الصلاة، فإنك تجزم بأنه لا محل لجعل هذه الآية من التكرار الذي يفرون منه، لأنه في هذه الحال يكون من قبيل ذكر الشاعر لمعنى من المعاني في قصيدتين يمدح في كل واحدة منهما رجلا غير الذي يمدحه في الأخرى. وعلى هذا لا يتجه قول جمهور المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم أن هذا التكرار للتأكيد والتأكيد تكأتهم في تعليل كل تكرار وإنما نقول هذا على تقدير كون التكرار المحض منتقدا ومخلا بالبلاغة وقد علمت أنه ليس كذلك بل هو ركن البلاغة الركين الذي لا يبلغ المتكلم مراده من النفس بدونه.
وأما معنى ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ فهو ظاهر وتقدم في تفسير الآية السابقة ولا يصدنا ذلك أن نقول فيه شيئا هنا نرجو أن يكون مفيدا : أكد الله للناس أنه لا يغفر لأحد شركه به البتة أنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه، وقد بينا في التفسير وفي بعض مباحث المنار أن عقاب الله تعالى للمذنبين هو أثر طبيعي لذنوبهم، وما تحدثه من الصفات القبيحة من أنفسهم، فكما أن السكر يحدث في البدن أمراضا يتعذب صاحبها بها في الدنيا يحدث هو وغيره من الشرور والخطايا أمراضا في القلوب والأرواح يتعذب بها صاحبها في الآخرة. وكما أن قوة البدن وصحة المزاج تغلب بعض جراثيم الأمراض فلا يظهر لها تأثير مؤلم يعذب صاحبه كذلك قوة الروح بالتوحيد وصحة مزاجها بالإيمان والفضائل تغلب بعض المعاصي التي قد يلم بها المؤمن بجهالة أو نسيان ثم يتوب منها من قريب. ولكن قوة البدن لا تدفع ما يعرض للقلب فيقطع نياطه أو للدماغ فيتلفه، وكذلك الشرك يشبه في إفساده للأرواح ما يصيب القلب أو الدماغ من سهم نافذ أو رصاصة قاتلة، فلا مطمع في النجاة من العقاب عليه.
ذلك بأن الشرك في نفسه هو منتهى فساد الأرواح وسفاهة النفس وضلال العقول فكل حق أو خير يقارنه لا يقوى على إضعاف شروره ومفاسده. والعروج إلى جوار الله تعالى بروح صاحبه، فإن روحه تكون في الآخرة على ما كانت في الدنيا متعلقة بشركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له، والمذنب قد يكون في إيمانه وسريرته خالصا لله عبدا له وحده فالعبد المملوك قد يعصي وقد يأبق فلا العصيان ولا الإباق يخرجانه عن كونه عبدا لسيد واحد، ولسيده أن يعاقبه وأن يعفو عنه، ولا يغفر له أن يجعل نفسه عبدا لغيره لا قنا ولا مبعضا ﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا مسلما لرجل هل يستويان مثلا ؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ بل هم يجهلون أن شركاءهم الذين استكبروا امتيازهم عليهم بعلم أو عمل غير معتاد كبعض الأنبياء والأولياء والملوك، كل هؤلاء عبيد أمثالهم لا ينبغي أن يكون لهم شركة ما في مقام العبادة لا بدعاء ولا نداء، وكذلك ما استكبروا خلقه أو نفعه أو ضره كالكواكب والنار وبعض الأنهار والحيوانات. ﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ﴾ " أولئك الذين يدعون " أي يدعونهم ويتوسلون بهم هم " يبتغون إلى ربهم الوسيلة " التي تقربهم إليه زلفى وهي التوحيد والإخلاص والعمل الصالح " أيهم أقرب " أي أقربهم وأعلاهم منزلة كالملائكة والمسيح يبتغي هذه الوسيلة إليه عز وجل " ويرجون رحمته ويخافون عذابه " وإن أعرفهم به أشدهم خوفا منه ورجاء في فضله ورحمته. ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك كما قال عز وجل فتجد الملايين منهم يدعون المسيح ويوجهون كل عبادتهم إليه وحده تارة، ويذكرون اسم الله مع اسمه تارة أخرى، وتجد ملايين من دونهم يدعون وينادون من دون المسيح من الأولياء، ويصمدون إلى قبورهم أو إلى الصور والتماثيل التي اتخذها قدماء المفتونين بهم تذكارا لهم، وإنني أكتب هذا في ضواحي مدينة ( دلهي من أعظم مدن الهند ) وأنا أرى أصنافا من هؤلاء المشركين يجولون أمامي في مصالحهم ﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾ [ الزخرف : ٩ ] وإنما هؤلاء المعبودات أو الأولياء، وسائط بيننا وبينه وشفعاء ﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] ولكن الله تعالى لا يقبل العبادة إلا خالصة لوجهه من كل شائبة ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون* إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ﴾ [ الزمر : ٣ ].
ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثلما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلا وشفاعة، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء، ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله ونداؤه لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكفى ذلك عبادة له هو وشركا بالله عز وجل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الدعاء هو العبادة ) ١ رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح وفي رواية ضعيفة ( الدعاء مخ العبادة ) ٢ و الأولى تفيد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء، وهو حصر على سبيل المبالغة كأن ما عدا الدعاء لا يعد عبادة بالنسبة إليه. وقد قالوا إن هذا الحديث من قبيل حديث ( الحج عرفة ) ٣ أي هو الركن الأهم الذي لا يعتد بغيره عند تركه، ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جدا يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولا سيما عند الشدة، وأن ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان فكله أو جله تعليمي تكليفي يفعل بالتكلف وبالقدوة وقد يكون في الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو العمل عبادة وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية. حتى أن الأدعية التعليمية في جميع الأديان قد تكون خالية من معنى العبادة وروحها الذي ذكرناه سواء دعي بها الله وحده أو دعي بها غيره معه أو وحده، ولا سيما الأدعية الراتبة في الصلوات الموقوتة أو في غير الصلوات، فإن الحافظ لها يحرك بها لسانه في الوقت المعين وقلبه مشغول بشيء آخر، إنما العبادة جد العبادة في الدعاء الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب وقرارة النفس، عند وقوع الخطب، وشدة الكرب، والشعور بشدة الحاجة إلى الشيء، واستعصاء الوسائل إليه، وتقطع الأسباب دونه، ذلك الدعاء الذي تسمعه من أصحاب الحاجات، وذوي الكربات،
١ أخرجه الترمذي في تفسير سورة٢، باب١٦، وابن ماجه في الدعاء باب١، وأحمد في المسند٤/٢٧٦، ٢٧١، ٢٦٧..
٢ أخرجه الترمذي في الدعاء باب١..
٣ روي الحديث بلفظ:"الحج عرفات". أخرجه الترمذي في تفسير سورة٢، باب٢٢، وأبو داود في المناسك باب٦٨، وابن ماجه في المناسك باب٥٧، والدارمي في المناسك باب٥٤..
ثم بين تعالى بعض أحوال المشركين فقال :﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا ﴾ أي إنهم لا يدعون من دون الله لقضاء حاجتهم وتفريج كروبهم، إلا إناثا كاللات والعزى ومناة، وكان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بني فلان، أو المراد أسماء معبودات وآلهة ليس لها من حقيقة معنى الألوهية شيء كما قال في سورة أخرى :﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ [ الأعراف : ٧١ ] أي أسماء مؤنثة في الغالب، أو المراد معبودات ضعيفة أو عاجزة كالإناث لا تدافع عدوا ولا تدرك ثأرا. كما وصفها في موضع آخر بأنها لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، وكانت العرب تصف الضعيف بالأنوثة لما ذكرنا من ضعف المرأة بل ضعف إناث الحيوان عن الذكور حتى قالوا للحديد اللين أنيث، ورجح الراغب وغيره أن وجه تسمية معبوداتهم إناثا هو كونها جمادات منفعلة لا فعل لها كالحيوان الذي هو فاعل منفعل كما وصفت في غير هذا الموضع بكونها لا تسمع ولا تبصر وليس لها أيد تبطش بها ولا أرجل تمشي بها. كأنه يذكرهم بهذا النوع من الأدلة على بطلان ألوهيتها بما ارتكبوه من العار والخزي بعبادة ما كان هذا وصفه. وقد استبعد الأستاذ الإمام تفسير الإناث بالأصنام المذكورة كما استبعد تفسيره بالملائكة لأنهم سموهم بنات الله، وقال : إن كثيرا من المفسرين قالوا إن المراد بالإناث هنا الموتى لأن العرب تطلق عليهم لفظ الإناث لضعفهم أو يقال لعجزهم ومع ذلك كانوا يعظمون بعض الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمي هذه القرون وهذا هو الذي اختاره الأستاذ. وقال : إن المراد بالدعاء ذلك التوجه المخصوص بطلب المعونة لهيبة غيبية لا يعقل الإنسان معناها.
﴿ وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ﴾ أي وما يدعون إلا شيطانا مريدا، قالوا الشيطان يطلق على العارم١ الخبيث من الجن والإنس. والمريد والمارد المتعري من الخيرات من قولهم : شجر أمرد إذا تعرى من الورق ومنه رملة مرداء لم تنبت شيئا. أو هو من مرد على الشيء إذا مرن عليه حتى صار يأتيه بغير تكلف ومنه قوله تعالى :﴿ ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ﴾ [ التوبة : ١٠١ ] أي شيطانا مرد على الإغواء والإضلال. أو تمرد واستكبر عن الطاعة
١ العارم: الفاسد والمؤذي والشرس..
ثم وصفه وصفا آخر فقال :﴿ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا١١٨ ﴾. واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد مع السخط والإهانة والخزي، أي أبعده الله عن مواقع فضله وتوفيقه وموجبات رحمته. أي إنهم ما يدعون إلا ذلك الشيطان المريد الملعون الذي هو داعية الباطل والشر في نفس الإنسان بما يوسوس في صدره ويعده ويمنيه كما بينه قوله تعالى :﴿ وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ﴾ الخ النصيب الحصة والسهم من الشيء وهو ليس نصا في قلة ولا كثرة وقد يتبادر منه القلة، والمفروض المعين وأصله من الفرض والحز في الخشبة كما بيناه في أوائل السورة ومنه الفرض في العطاء. يحتمل أن يكون هذا النصيب طائفة الذين يضلهم ويغويهم ويزين لهم الشرك والمعاصي، وأن يكون حظه من نفس كل فرد من أفراد الناس وهو الاستعداد الفطري للباطل والشر المقابل للاستعداد الفطري للحق والخير وهو المختار.
قال الأستاذ الإمام : النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل أحد من الاستعداد للشر الذي هو أحد النجدين في قوله تعالى :﴿ وهديناه النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ] فهذا هو عون الشيطان على الإنسان، وهو عام في الناس حتى المعصومين، ولكن أخبرنا الله تعالى أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين، فإذا هو زين لهم شيئا لا يغلبهم على عمله، فما من إنسان إلا ويشعر من نفسه بوسوسة الشيطان فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها أو الرياء في العبادة اه أقول وقد ورد في القرآن والحديث الصحيح ما يؤيد هذا وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضع آخر من التفسير.
وهذا القول وأمثاله في القرآن المجيد في مخاطبة إبليس مع البارئ جل وعلا هو من الأقوال التكوينية أي التي يعبر بها عن تكوين العالم وما خلقه الله عليه كقوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ [ فصلت : ١١ ] فقوله تعالى هذا للسماء والأرض قول تكويني لا تكليفي فهو من قبيل قوله للشيء " كن فيكون " وقولهما :﴿ أتينا طائعين ﴾ تكويني أيضا فهو عبارة عن كونهما وجدتا كما أراد الله تعالى أن توجدا عليه كما يجيب العبد العاقل نداء مولاه. والمعنى أن الشيطان خلق هكذا فدعاؤه دعاء متمرد على الحق بعيد عن الخير مغري بإغواء البشر وإضلالهم كما عبر عن طبعه وسجيته بصيغة القسم.
﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ﴾ أي لأتخذن منهم نصيبا ولأضلنهم عن الحق ولأشغلنهم بالأماني الباطلة، أي هذا شأنه ومقتضى طبعه، والأماني جمع أمنية، قال الراغب : وهي الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء. يقال تمنى الشيء إذا أحب أن يكون له وإن لم يتخذ له أسبابه كما يتمنى المقامر الثروة بالمقامرة وهي ليست سببا طبيعيا للغنى بل ليست من الكسب المعتاد. والمعنى الأصلي لهذه المادة التقدير، يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر، والمصدر المنى بالفتح. قال الراغب ومنه المنا الذي يوزن به فيما قيل. وأقول الأجدر بهذا أن يكون هو الأصل على المذهب المعروف في كون الأشياء الجامدة والمدركة بالحواس هي أصل للأشياء المعنوية. والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وقد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون عن روية وبناء على أصل، ولما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك، فأكثره تصور ما لا حقيقة له كما قال الراغب.
وقال الأستاذ الإمام : إن إضلاله لمن يضلهم هو عبارة عن صرفهم عن العقائد الصحيحة بمعنى أنه يشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى. وأما التمنية فهي في الأعمال بأن يزين لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة وبالعمل الصالح. بل هذا اسم جامع لأنواع وحي الشيطان كلها وتغريره للناس بعفو الله ورحمته ومغفرته.
﴿ ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ﴾ البتك يقارب البت في معناه العام الذي هو القطع والفصل فالبت يقال في قطع الحبل والوصل من الحسيات، وفي الطلاق يقال طلقها بتة أي طلاقا بائنا. والبتك يقال في قطع الأعضاء والشعر ونتف الريش وبتكت الشعر تناولت بتكة منه وهي بالكسر القطعة المنجذبة جمعها بتك قال الشاعر :
*طارت وفي يده من ريشها بتك١*
والمراد به ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم كالبحائر التي كانوا يقطعون أو يشقون آذانها شقا واسعا ويتركون الحمل عليها. وكان هذا من أسخف أعمالهم الوثنية وسفه عقولهم قال الأستاذ الإمام : ولهذا خصه بالذكر وإن كان داخلا فيما قبله.
﴿ ولأمرنهم فليغرن خلق الله ﴾ تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه عام يشمل التغيير الحسي كالخصاء وقد رووا تفسيره بالخصاء عن ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما فليعتبر به من يطعنون في الإسلام نفسه باتخاذ ملوك المسلمين وأمرائهم للخصيان ويظنون أن خصيهم جائز في هذا الدين ويشمل سائر أنواع التشويه والتمثيل بالناس الذي حرمه الشرع، وإذا كان قد حرم تبتيك آذان الأنعام فكيف لا يحرم سمل أعين الناس وصلم آذانهم وجدع أنوفهم وما أشبه ذلك مما كان يفعله بعض الملوك والأمراء الظالمين بغير حق ولا حجة ويشمل التغيير المعنوي وقد روي عن ابن عباس وغيره أن المراد هنا بخلق الله دينه لأنه دين الفطرة وهي الخلقة، قال تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ﴾ [ الروم : ٣٠ ] وروي أيضا تفسير تغيير خلق الله بوشم الأبدان ووشر الأسنان وكل منهما يقصد به الزينة وفي الحديث ( لعن الله الواشمة والمستوشمة ) ٢ ولعل سبب التشديد فيه إفراطهم فيه حتى يصل إلى درجة التشويه بجعل معظم البدن ولا سيما الظاهر منه كالوجه واليدين أزرق بهذا النقش القبيح وكان الناس ولا يزالون يجعلون منه صورا للمعبودات وغيرها كما يرسم النصارى به الصليب على أيديهم وصدورهم. وأما وشر الأسنان بتحديدها وأخذ قليل من طولها إذا كانت فلا يظهر فيه معنى التغيير المشوه بل هو إلى تقليم الأظافر وتقصير الشعر أقرب، ولولا أن الشعر والأظافر تطول دائما ولا تطول الأسنان لما كان ثم فرق. وجملة القول أن التغيير الصوري الذي يجدر بالذم ويعد من إغراء الشيطان هو ما كان فيه تشويه وإلا لما كان من السنة الختان والخضاب وتقليم الأظافر.
الأستاذ الإمام : جرى قليل من المفسرين على أن المراد بتغيير خلق الله تغيير دينه وذهب بعضهم إلى أنه التغيير حسي وبعضهم إلى أنه التغيير المعنوي وبعضهم إلى ما يشملها، وقال كثير منهم إن المراد تغيير الفطرة الإنسانية بتحويل النفس عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها على الأباطيل والرذائل والمنكرات، فالله سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وهؤلاء يفسدون ما خلق ويطمسون عقول الناس اه.
أقول : إن هذا القول هو بمعنى القول بأن المراد تغيير الدين لأن من قالوا أنه تغيير الدين استدلوا بآية ﴿ فأقم وجهك للدين ﴾ [ الروم : ٣٠ ] كما ذكرنا ذلك آنفا والدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل عليهم السلام فإن هذه الأحكام من كلام الله الذي أوحاه إليهم ليبلغوه ويبينوه للناس، لا مما خلقه في أنفس الناس وفطرهم عليه وقد بينا الدين الفطري في غير هذا الموضع ومعنى كون الإسلام دين الفطرة، وحديث ( كل مولود يولد على الفطرة )٣ وقد أشار الأستاذ الإمام إلى ذلك بما نقلناه عنه آنفا من كون الإنسان فطر على طلب الحق والاستدلال والأخذ بما يظهر له بالدليل أنه الحق أو الخير إن لم يكن ظاهرا بالبداهة، ومن أصول الدين وأسسه الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهي إليها الأسباب وتقف دون اكتناه حقيقتها العقول أي لمصدر هذه السلطة والتصرف في الكائنات كلها وهو الله عز وجل، وكان أكبر وأشد مفسدات الفطرة حصر تلك السلطة العليا في بعض المخلوقات التي يستكبرها الإنسان ويعيا في فهم حقيقتها بادي الرأي وإن كان فهمها وعلمها ممكنا في نفسه لو جاءه طالبه من طريقه، وهذا هو أصل الشرك وقد بيناه آنفا في تفسير ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ [ النساء : ٤٨ ] وفي مواضع أخرى. ويتلو هذا الفساد والإفساد التقليد الذي يمده ويؤيده ويحول بين العقول التي كمل الله بها فطرة البشر وبين عملها الذي خلقت لأجله وهو النظر والاستدلال لأجل التوصل إلى معرفة الحق والخير وترجيح الحق والخير متى تبينا له على ما يقابلهما.
﴿ ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ﴾ أي من يتخذ الشيطان وليا له وتلك حاله في التمرد والبعد من أسباب رحمة الله وفضله وإغوائه للناس وتزيينه لهم الشرور وسوء التصرف في فطرة الله وتشويه خلقه، بأن يواليه ويتبع وسوسته فقد خسر خسرانا بينا ظاهرا في معاشه ومعاده إذ يكون أسيرا للأوهام والخرافات يتخبط في عمله على غير هدى فيفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل وسائر القوى والمواهب.
١ صدره:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها
والبيت من البسيط، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص١٧٥، ولسان العرب(كفف)، (تبك)، (علم)، وتهذيب اللغة١٠/١٥٤، وجمهرة اللغة ص٢٥٥، وكتاب العين٥/٣٤٢، ومقاييس اللغة١/١٩٥، ومجمل اللغة١/٢٣٦، وأساس البلاغة(تبك)، وتاج العروس(تبك)، (علم)..

٢ أخرجه البخاري في اللباس باب ٨٧، ٨٢، ومسلم في اللباس حديث ١٢٠، ١١٩، وأبو داود في الأدب باب ٣٣..
٣ أخرجه البخاري في الجنائز باب٩٢، وأبو داود في السنة باب١٧، والترمذي في القدر باب٥، ومالك في الجنائز حديث٥٢، وأحمد في المسند ٢/٤٨١، ٤١٠، ٣٩٣، ٢٧٥، ٢٣٣، ٣/٣٥٣..
﴿ يعدهم ويمنيهم ﴾ قال تعالى في سورة البقرة :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ﴾ [ البقرة : ٢٦٨ ] أي يعد الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله. وهاهنا حذف مفعول الوعد فهو يشمل الوعد بالفقر ويشمل غيره من وعوده التي يوسوس بها فإنه إذا كان يعد من يريد التصدق الفقر ويوسوس إليه قائلا : إن مالك ينفد أو يقل فتكون فقيرا ذليلا، فإنه يسلك في الوسوسة إلى من يغريه بالقمار مسلكا آخر فيعده الغنى والثروة، وكذلك يعد من يغريه بالتعصب لمذهبه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه الجاه والشهرة وبعد الصيت، ويؤيد وعوده الباطلة بالأماني الباطلة يلقيها إليه ولهذا أعاد ذكر الأمنية في مقام بيان خسران من يتخذ الشيطان وليا بعد أن ذكر عن لسان الشيطان قوله :﴿ ولأمنينهم ﴾، ويدخل في وعد الشيطان وتمنيه ما يكون من أوليائه من الإنس وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي ويعدونهم بالمال والجاه، ويمدونهم في الطغيان.
قال الأستاذ الإمام : لولا وعود الشيطان لما عني أولياؤه بنشر مذاهبهم الفاسدة وآرائهم وأضاليلهم، التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال، وهؤلاء موجودون في كل زمان ويعرفون بمقاصدهم، وقد دل على هذا ما قبله ولكنه ذكره ليصل به قوله :﴿ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾ أي إلا باطلا يغترون به ولا يملكون منه ما يحبون. أقول فسر بعضهم الغرور بأنه إظهار النفع فيما هو ضار أي في الحال أو المال كشرب الخمر والقمار والزنا وغير ذلك.
﴿ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ﴾ أي أولئك الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته أو بإغواء دعاة الباطل والشر من أوليائه مأواهم جهنم لا يجدون معدلا عنها يفرون إليه لأنهم منجذبون إليها بطبعهم يتهافتون فيها بأنفسهم، كما يتهافت الفراش في النار.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ هؤلاء عباد الله الذين ليس للشيطان ولا لأوليائه عليهم من سبيل ذكرهم في مقابلة أولئك الذين يتولون الشيطان ويتبعون إغواءه على سنة القرآن في قرن الوعد بالوعيد :﴿ وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ﴾ أي لا قيل أصدق من قيله ولا وعد أحق من وعده لأنه هو القادر على أن يعطي كل ما وعد به، وأما الشيطان فهو عاجز عن الوفاء، على أنه لا يطاع لقدرته وإنما يدلي أولياءه بغرور، فوعده باطل وقوله كذب وزور. والقيل بوزن الفعل قلبت واوه ياء لكسر ما قبلها.
وقد جعل الله تعالى وعده الكريم بالجنات والخلود في النعيم لمن يؤمن به لا يشرك به شيئا. ويعمل الصالحات التي تغذي الإيمان وترفع النفس، وتقدم مثل هذا مرارا.
﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا١٢٣ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا١٢٤ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا١٢٥ ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ١٢٦ ﴾.
روى غير واحد عن مجاهد أنه قال قالت العرب : لا نبعث ولا نحاسب وقالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات فأنزل الله ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾.
وعن مسروق قال احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال المسلمون : نحن أهدى منكم وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم فأنزل الله هذه الآية.
وعن قتادة قال : ذكر لنا أن المسلمون وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فانزل الله ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ ومن أحسن دينا ﴾ الآية فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
وعن السدي : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم ـ نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فرد الله عليهم قولهم فقال :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ الخ.
وعن الضحاك وأبي صالح نحو ذلك بل روى ابن جرير نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكروا أن الآيات الثلاث نزلت في ذلك.
الأستاذ الإمام : يقال في سبب النزول أنه اجتمع نفر من المسلمين واليهود والنصارى وتكلم كل في تفضيل دينه فنزل قوله تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ﴾ الآية والمعنى بناء على ذلك : ليس شرف الدين وفضله ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم : إن ديني أفضل وأكمل، وأحق وأثبت، وإنما عليه إذا كان موقنا به أن يعمل بما يهديه إليه فإن الجزاء إنما يكون على العمل لا على التمني والغرور، فلا أمر نجاتكم أيها المسلمون منوطا بأمانيكم في دينكم، ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بأمانيهم في دينهم، فإن الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء إليها والتمدح بها بلوك الألسنة والتشدق في الكلام، بل شرعت للعمل.
قال : والآية مرتبطة بما قبلها سواء صح ما روي في سبب نزولها أم لم يصح لأن قوله تعالى :﴿ يعدهم ويمنيهم ﴾ في الآيات التي قبلها يدخل فيه الأماني التي كان يتمناها أهل الكتاب غرورا بدينهم إذ كانوا يرون إنهم شعب الله الخاص ويقولون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وغير ذلك مما يقولون ويدعون، وإنما سرى هذا الغرور إلى أهل الأديان من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء لذاتهم، فهم بكرامتهم يدخلون الجنة وينجون من العذاب لا بأعمالهم، فحذرنا الله أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى في سورة الحديد ﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ﴾ [ الحديد : ١٦ ] الآية فهذا خطاب للذين كانوا ضعفاء الإيمان من المسلمين في العصر الأول ولأمثالهم في كل زمان، والله عليم بما كانوا عليه حين أنزل هذه الموعظة وبما آل وما يؤول إليه أمرهم بعد ذلك، ولو تدبروا قوله لما كان لأمثال هذه الأماني عليهم من سلطان فقد بين لهم طرق الغرور ومداخل الشيطان فيها. وقد روي حديث عن الحسن " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " وقال الحسن : إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
ثم ذكر الأستاذ الإمام بعد هذا حال مسلمي هذا العصر في غرورهم وأمانيهم ومدح دينهم وتركهم العمل به وبين أصنافهم في ذلك. ومما قاله : إن كثيرا من الناس يقولون تبعا لمن قبلهم في أزمنة مضت : إن الإسلام أفضل الأديان، أي دين أصلح إصلاحه ؟ أي دين أرشد إرشاده ؟ أي شرع كشرعه في كماله ؟ ولو سئل الواحد منهم : ماذا فعل الإسلام ؟ وبماذا يمتاز على غيره من الأديان ؟ لا يحير جوابا. وإذا عرضت عليه شبهة على الإسلام وسئل كشفها حاص حيصة الحمر وقال : أعوذ بالله، أعوذ بالله. والضال يبقى على ضلاله، والطاعن في الدين يتمادى في طعنه، والمغرور يسترسل في غروره، فالكلام كثير ولا علم ولا عمل يرفع شأن الإسلام والمسلمين. اه ما قاله الأستاذ الإمام بإيضاح لبعض الجمل واختصار في بيان ضروب الغرور وأصناف المغترين.
﴿ ومن يعمل سوءا يجز به ﴾ هذا بيان من الله لحقيقة الأمر في المسألة فإنه لما نفى أن يكون الأمر منوطا بالأماني والتشهيات وغرور الناس بدينهم كان من يسمع هذا النفي جديرا بأن يتشوف إلى استبانة الحق والوقوف على حكم الله فيه، ويجعله موضوع السؤال، فبينه عز وجل بصيغة العموم، والمعنى أن كل من يعمل سوءا يلق جزاءه لأن الجزاء بحسب سنة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف في أتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأماني والظنون فعلى الصادق في دينه المخلص لربه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله ويجعله معيار سعادته لا كون ذلك الكتاب أكمل، وذلك الرسول أفضل فإن من كان دينه أكمل تكون الحجة عليه في التقصير أقوى، وقد روي في التفسير المأثور أن هذه الكلية العامة :" من يعمل سوءا يجز به " راعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأخافته فسأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنها وقال : من ينج مع هذا يا رسول الله ؟ فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما تحزن أما تمرض أما يصيبك البلاء ؟ قال : بلى يا رسول الله. قال :( هو ذاك ).
وأورد السيوطي في الدر المنثور أحاديث في الجزاء الدنيوي على الأعمال وجعلها تفسيرا للآية. وبعض ما ورد في ذلك مطلق عام ويؤخذ من بعضه أنه خاص بالمؤمنين أو كمَلَتِهم كأبي بكر، وهذا هو الذي مال إليه الأستاذ في الدرس. وإذا طبقنا المسألة على سنة الله التي لا تبديل لها ولا تحويل علمنا أن مصائب الدنيا تكون جزاء على ما يقصر فيه الناس من السير على سنن الفطرة وطلب الأشياء من أسبابها، واتقاء المضرات باجتناب عللها ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ [ الشورى : ٣٠ ] ومن ذلك التقصير ما هو معصية شرعية كشرب الخمر الذي هو علة أمراض كثيرة ومنها ما ليس كذلك. ولما كان عمل السوء يدسي النفس ويدنس الروح كان سببا طبيعيا للجزاء في الآخرة كما تكون الخمر سببا للجزاء في الدنيا بتأثيرها في الكبد والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي بل والمجموع العصبي. فهل يكون المرض الناشئ عن شرب الخمر كفارة للجزاء على شربها في الآخرة ويكون ذلك داخلا في معنى كون مصائب الدنيا كفارات للذنوب وأن من لم يصب بمرض ولا مصيبة بسبب ذنبه يعاقب عليه في الآخرة ويحرم من مثل هذه الكفارة كما إذا شرب الخمر مرة أو مرات لم تؤثر في بدنه تأثيرا شديدا ؟ أم المصائب تكون كفارات للذنوب التي هي مسببة عنها ولغيرها مطلقا ؟ وكيف ينطبق هذا التكفير على سنة الله في الجزاء الأخروي ؟.
الحق في المسألة أنه لا يشذ شيء عن سنن الله تعالى، وأن المصيبة في الدنيا إنما تكون كفارة في الآخرة إذا أثرت في تزكية النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا لقوة الإيمان أو ترك السوء والتوبة منه لظهور ضرره في الدين أو الدنيا، أو الرغبة في عمل صالح بما تحدثه من العبرة، ومن شأن المؤمن المهتدي بكتاب الله تعالى أن يستفيد من المصائب والنوائب فتكون مربية لعقله ونفسه كما بيناه في التفسير وغير التفسير مرارا. ولا يعقل أن تكون كل مصيبة كفارة لذنب أو لعدة ذنوب بل ربما كانت المصيبة سببا لمضاعفة الذنوب واستحقاق أشد العذاب، كالمصائب التي تحمل أهل الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان دع الكفر على ذنوب لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة. والكلام في الآية على جزاء الآخرة بالذات كما يدل عليه مقابله في الآية الأخرى.
أما قوله تعالى :﴿ ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ فمعناه أن من يعمل السوء ويستحق الجزاء عليه بحسب سنن الله تعالى في تأثير عمل السوء تأثيرا تكون عاقبته شرا منه كما قال في سورة أخرى :﴿ ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء ﴾ [ الروم : ١٠ ] لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره، ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحل به، لا من الأنبياء الذين تفاخر ويتفاخر أصحاب الأماني بالانتساب إليهم، ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا، لا على معنى أنها هي الخالقة بل على معنى أنها شافعة وواسطة، فكل تلك الأماني في الشفعاء كأضغاث الأحلام، برق خلب وسحاب جهام، وإنما المدار في النجاة على الإيمان والأعمال، كما صرح به فقال :﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هذا وإن في هاتين الآيتين( ١٢٣-١٢٤ ) من العبرة والموعظة ما يدك صروح الأماني ومعاقل الغرور التي يأوي إليها ويتحصن فيها الكسالى والجهال والفساق من المسلمين الذين جعلوا الدين كالجنسية السياسية وظنوا أن الله العزيز الحكيم يحابي من يسمي نفسه مسلما ويفضله على من يسميها يهوديا أو نصرانيا بمجرد اللقب، وأن العبرة بالأسماء والألقاب لا بالعلم والعمل، ومتى يرجع هؤلاء إلى هدي كتابهم الذي يفخرون به، ويبنون قصور أمانيهم على دعوى اتباعه ؟ ـ وقد نبذوه وراء ظهورهم، وحرموا الاهتداء به على أنفسهم، لأن بعض المعممين سموا الاهتداء به من الاجتهاد الذي أقفل دونهم بابه، وانقرض في حكمهم أربابه، ولا تلازم بين الاهتداء بالقرآن، والقدرة على استنباط ما تحتاج إليه الأمة من الأحكام، فقد كان عامة أهل الصدر الأول من هؤلاء المهتدين، ولم يكونوا كلهم أئمة مستنبطين، وقد يقدر على الاستنباط، من لم يكن قائما على هذا الصراط، فيا أهل القرآن ! لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتهتدوا بهديه في الإيمان والأعمال، وتبذلوا في سبيله الأنفس والأموال، وإلا فقد رأيتم ما حل بكم بعد ترك هديته من الخزي والنكال، وضياع الملك وسوء الحال، فإلى متى هذا الغرور والإهمال، وحتى م تتعللون بالأماني وكواذب الآمال ؟.
هذا ـ ومن أراد زيادة البصيرة في غرور المسلمين بدينهم على تقصيرهم في العمل به وفي نشره والدعوة إليه فليراجع كتاب الغرور في آخر الجزء الثالث من كتاب الإحياء للغزالي ولولا أنني الآن حلف أسفار، لا يقر لي في بلد قرار، لأطلت بعض الإطالة في بيان الغرور والمغترين، والأماني والمتمنين، إثارة لكوامن العبرة واستدرارا لبواخل العبرة، وليس عندي في هذه الآية شيء عن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.

﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا١٢٣ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا١٢٤ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا١٢٥ ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ١٢٦ ﴾.
روى غير واحد عن مجاهد أنه قال قالت العرب : لا نبعث ولا نحاسب وقالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات فأنزل الله ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾.
وعن مسروق قال احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال المسلمون : نحن أهدى منكم وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم فأنزل الله هذه الآية.
وعن قتادة قال : ذكر لنا أن المسلمون وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فانزل الله ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ ومن أحسن دينا ﴾ الآية فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
وعن السدي : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم ـ نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فرد الله عليهم قولهم فقال :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ الخ.
وعن الضحاك وأبي صالح نحو ذلك بل روى ابن جرير نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكروا أن الآيات الثلاث نزلت في ذلك.
﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ أي كل من يعمل ما يستطيع عمله من الصالحات أي الأعمال التي تصلح بها النفوس في أخلاقها وآدابها وأحوالها الشخصية والاجتماعية سواء كان ذلك العامل ذكرا أو أنثى خلافا لبعض البشر الذين حقروا شأن الإناث، فجعلوهن في عداد العجماوات لا في عداد الناس من يعمل ما ذكر من الصالحات وهو متلبس بالإيمان مطمئن به فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم، ويكونون مظهر فضل الله تعالى وكرمه، ومحل إحسانه ورضوانه، ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ما أي لا ينقصون شيئا وإن كان بقدر النقير وهو النكتة التي تكون في ظهر النواة وهي ثقبة صغيرة وتسمى نقرة كأنها حصلت بنقر منقار صغير ويضرب بها المثل في القلة لا ينقصون شيئا بل يزيدهم الله من فضله.
ولا يعارض هذه الآية والآيات الكثيرة التي بمعناها حديث :( لن يدخل أحدكم الجنة عمله ) ١ الخ لأن معناه أن الإنسان مهما عمل من الصالحات لا يستحق على عمله تلك الجنة العظيمة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إلا بفضل الله الذي جعل الجزاء الكبير على عمل قليل. وهو الذي هدى إليه، وأقدر عليه.
وقد قدم ههنا ذكر العمل على ذكر الإيمان لأن السياق في خطاب قوم مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله قد قصروا في الأعمال واغتروا بالأماني ظانين أن مجرد الانتساب إلى أولئك الرسل والإيمان بتلك الكتب هو الذي يجعلهم من أهل جنة الله، وأكثر الآيات يقدم فيها ذكر الإيمان على ذكر العمل لورودها في سياق بيان أصل الدين، ومحاجة الكافرين، والإيمان في هذا المقام هو الأصل المقدم والعمل أثره وممده، ومن الحديث في معنى الآية :( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها. وتمنى على الله ) ٢ قال الحاكم على شرط البخاري.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:هذا وإن في هاتين الآيتين( ١٢٣-١٢٤ ) من العبرة والموعظة ما يدك صروح الأماني ومعاقل الغرور التي يأوي إليها ويتحصن فيها الكسالى والجهال والفساق من المسلمين الذين جعلوا الدين كالجنسية السياسية وظنوا أن الله العزيز الحكيم يحابي من يسمي نفسه مسلما ويفضله على من يسميها يهوديا أو نصرانيا بمجرد اللقب، وأن العبرة بالأسماء والألقاب لا بالعلم والعمل، ومتى يرجع هؤلاء إلى هدي كتابهم الذي يفخرون به، ويبنون قصور أمانيهم على دعوى اتباعه ؟ ـ وقد نبذوه وراء ظهورهم، وحرموا الاهتداء به على أنفسهم، لأن بعض المعممين سموا الاهتداء به من الاجتهاد الذي أقفل دونهم بابه، وانقرض في حكمهم أربابه، ولا تلازم بين الاهتداء بالقرآن، والقدرة على استنباط ما تحتاج إليه الأمة من الأحكام، فقد كان عامة أهل الصدر الأول من هؤلاء المهتدين، ولم يكونوا كلهم أئمة مستنبطين، وقد يقدر على الاستنباط، من لم يكن قائما على هذا الصراط، فيا أهل القرآن ! لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتهتدوا بهديه في الإيمان والأعمال، وتبذلوا في سبيله الأنفس والأموال، وإلا فقد رأيتم ما حل بكم بعد ترك هديته من الخزي والنكال، وضياع الملك وسوء الحال، فإلى متى هذا الغرور والإهمال، وحتى م تتعللون بالأماني وكواذب الآمال ؟.
هذا ـ ومن أراد زيادة البصيرة في غرور المسلمين بدينهم على تقصيرهم في العمل به وفي نشره والدعوة إليه فليراجع كتاب الغرور في آخر الجزء الثالث من كتاب الإحياء للغزالي ولولا أنني الآن حلف أسفار، لا يقر لي في بلد قرار، لأطلت بعض الإطالة في بيان الغرور والمغترين، والأماني والمتمنين، إثارة لكوامن العبرة واستدرارا لبواخل العبرة، وليس عندي في هذه الآية شيء عن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.


١ أخرجه البخاري في الرقاق باب١٨، والمرضى باب١٩، ومسلم في المنافقين حديث٧٨، ٧٧، ٧٥، ٧٢، وأحمد في المسند ٢/٥٢٤، ٥٠٩، ٤٦٩، ٣٩٠، ٣٨٦، ٣٢٦، ٢٦٤، ٦/١٢٥، ٢٧٣..
٢ أخرجه الترمذي في القيامة باب٢٥، وابن ماجة في الزهد باب٣١، وأحمد في المسند٤/١٢٤..
﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا١٢٣ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا١٢٤ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا١٢٥ ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ١٢٦ ﴾.
روى غير واحد عن مجاهد أنه قال قالت العرب : لا نبعث ولا نحاسب وقالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات فأنزل الله ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾.
وعن مسروق قال احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال المسلمون : نحن أهدى منكم وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم فأنزل الله هذه الآية.
وعن قتادة قال : ذكر لنا أن المسلمون وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فانزل الله ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ ومن أحسن دينا ﴾ الآية فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
وعن السدي : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم ـ نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فرد الله عليهم قولهم فقال :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ الخ.
وعن الضحاك وأبي صالح نحو ذلك بل روى ابن جرير نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكروا أن الآيات الثلاث نزلت في ذلك.
ولما بين تعالى أن أمر النجاة بل السعادة منوط بالعمل الإيمان معا أتبع ذلك ببيان درجة الكمال في ذلك وهو الدين القيم فقال :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾ أي لا أحد أحسن دينا ممن جعل قلبه سلما خالصا لله وحده لا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجابا من الوسطاء والحجاب، بل يكون موحدا صرفا لا يرى في الوجود إلا الله وآثار صفاته وسننه في ربط الأسباب بالمسببات، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته، ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من أبوابها وهي السنن والأسباب، ولا يدعو معه ولا من دونه أحدا في تيسير هذه الأسباب، وتسهيل الطرق وتذليل الصعاب، وهو مع هذا الإيمان الخالص، والتوحيد الكامل، محسن في عمله، متقن لكل ما يأخذ به، متخلق بأخلاق الله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء صنعه.
﴿ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ أي واتبع في دينه ملة إبراهيم حنيفا أي حال كونه حنيفا مثل إبراهيم، أو حال كون إبراهيم حنيفا، أي اتبعه في حنيفيته، التي كان عليها وهي ميله عن الوثنية وأهلها، وتبرؤه مما كان عليه أبوه وقومه منها، ﴿ إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ﴾ أي جعل البراءة من الشرك ونزعاته وتقاليده والاعتصام بالتوحيد الخالص كلمة باقية في عقبه يدعو إليها النبيون والمرسلون منهم.
الأستاذ الإمام : تقدم في الآيات السابقة وصف الضالين الذين لا يستعملون عقولهم في فهم الدين وآياته وذكر حظ الشيطان منهم وإشغالهم بالأماني الخادعة، ثم بين أن أمر الآخرة ليس بالأماني وإنما هو بالعمل والإيمان، وأن العبرة عند الله بالقلوب والأعمال، والحقيقة واحدة لا تختلف باختلاف الأوقات والأحوال، ولا تتبدل بتبديل الأجيال والآجال، ثم زاد هذا بيانا بهذه الآية فبين أن صفوة الأديان التي ينتحلها الناس هي ملة إبراهيم في إخلاص التوحيد وإحسان العمل، وعبر عن توجه القلب بإسلام الوجه لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال والإعراض والخشوع والسرور والكآبة وغير ذلك، وقد يظهر بعض الناس الخضوع أو الاحترام للآخر بإشارة اليد ولكن هذا يكون بالتعمل ويعرف بالمواضعة، وما يظهر في الوجه هو الفطري الذي يدل على السريرة وهو يتمثل في كل جزء منه كالعينين والجبهة والحاجبين والأنف والحركة، فإسلام الوجه لله هو تركه له بأن يتوجه إليه وحده في طلب حاجاته وإظهار عبوديته، وهو كمال التوحيد وأعلى درجات الإيمان، وأما الإحسان فهو إحسان العمل خلافا للجلال فيهما إذ عكس واتباع ملة إبراهيم يراد به فيما يظهر ما أشار إليه في قوله عز وجل :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ [ الشورى : ١٣ ] فإقامة الدين مرتبة فوق مرتبة التدين المطلق وهي العمل به على وجه الكمال بحيث يقوم بناؤه ويثبت، وعدم التفرق فيه والتعادي بين أهله.
﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ أي اصطفاه لتوحيده وإقامة دينه في زمن وبلاد غلبت عليها الوثنية وقوم أفسد الشرك عقولهم ودنس فطرتهم فكان إبراهيم خالصا مخلصا لله، وبهذا المعنى سماه الله خليلا، وإذا أراد الله أن يكرم عبدا من عباده أطلق عليه ما شاء، وإلا فإن المعنى المتبادر من لفظ الخليل في استعمالها له يتنزه الله عنه فإن الخلة بين الخليلين إنما تتحقق بشيء من المساواة بينهما وهي من مادة التخلل الذي هو بمعنى الامتزاج والاختلاط اه.
أقول : يطلق الخليل بمعنى الحبيب أو المحب لمن يحبه إذا كانت هذه المحبة خالصة من كل شائبة بحيث لم تدع في قلب صاحبها موضعا لحب آخر، وهو من الخلة ( بالضم ) أي المحبة والمودة التي تتخلل النفس وتمازجها كما قال الشاعر :
قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا
والله يحب الأصفياء من عباده ويحبونه وقد كان إبراهيم كامل الحب لله ولذلك عادى أباه وقومه وجميع الناس في حبه تعالى والإخلاص له. وقيل إن الخليل هنا مشتق من الخلة ( بفتح الخاء ) وهي الحاجة لأن إبراهيم ما كان يشعر بحاجته إلى أحد غير الله عز وجل حتى قال في الحاجات العادية التي تكون بالتعاون بين الناس ﴿ الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين ﴾ [ الشعراء : ٧٩ ] والأول أظهر وأكمل، والمراد بذكر هذه الخلة الإشارة إلى أعلى مراتب الإيمان التي كان عليها إبراهيم ليتذكر الذين يدعون اتباعه من اليهود والنصارى والعرب ما كان عليه من الكمال، وما هم عليه من النقص، ولذلك ذكر أهل الأثر أن هذه الآية نزلت في سياق الرد على أولئك المتفاخرين بدينهم المتبجح كل منهم بأنه على ملة إبراهيم. والمعنى أن إبراهيم قد اتخذه الله خليلا بأن من عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة بالوحي والفناء في التوحيد، فأين أنتم من ذلك ؟ ولا تكاد توجد كلمة في اللغة تمثل هذه المعاني غير كلمة الخليل، وأما لوازم هذه الكلمة في استعمال البشر التي هي خاصة بهم فينزه الله عنها بأدلة العقل والنقل.
ثم قال عز وجل :
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ﴾ قال الأستاذ الإمام : ختم هذا السياق بهذه الآية لفوائد :
إحداها : التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده في الآيات التي قبلها فإن له ما في السموات والأرض خلقا وملكا وهو أكرم من وعد وأقدر من أوعد.
ثانيها : إن الدليل على أنه المستحق وحده لإسلام الوجه له والتوجه إليه في كل حال، وهذا هو روح الدين وجوهره لأنه هو المالك لكل شيء وغيره لا يملك بنفسه شيئا، فكيف يتوجه العاقل إلى من لا يملك شيئا ويترك التوجه إلى مالك كل شيء أو يشرك به غيره في التوجه ولو لأجل قربه منه ؟
ثالثها : نفي ما ربما يسبق إلى بعض الأذهان من اللوازم العادية في اتخاذ الله إبراهيم خليلا كأن يتوهم أحد أن هنالك شيئا من المناسبة أو المقاربة في حقيقة الذات أو الصفات، فبين تعالى أن كل ما في السموات والأرض ملك له ومن خلقه مهما اختلفت صفات تلك المخلوقات ومراتبها في أنفسها وبنسبة بعضها إلى بعض. فإذا هي نسبت إليه فهو الخالق المالك المعبود وهي مخلوقات مملوكة عابدة له خاضعة لأمره التكويني.
﴿ وكان الله بكل شيء محيطا ﴾ إحاطة قهر وتصرف وتسخير، وإحاطة علم وتدبير، قال الأستاذ الإمام : فسروا الإحاطة بالقدرة والقهر ويصح أن تكون إحاطة وجود لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها، ولا هي ابتدعت نفسها وإنما وجودها مستمد من ذلك الوجود الواجب الأعلى، فالوجود الإلهي هو المحيط بكل موجود فوجب أن يخلص الخلق له ويتوجه إليه العباد وحده، ولا يشركوا به أحدا من خلقه.
( يقول محمد رشيد مؤلف هذا التفسير ) هذه الآية كانت آخر ما فسره شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في الجامع الأزهر، فرضي الله عنه وجزاه عن نفسه وعنا خير الجزاء، وسنستمر في التفسير على هذه الطريقة التي اقتبسناها منه إن شاء الله تعالى وإن كنا محرومين في تفسير سائر القرآن من الفوائد والحكم التي كانت تهبط من الفيض الإلهي على عقله المنير إلا في الجزء الثلاثين فإنه كتب له تفسيرا مختصرا مفيدا. وكان فراغه من تفسير هذه الآية في منتصف المحرم سنة ١٣٢٣ وقد توفي في شهر جمادى الأولى منها رحمه الله تعالى ونفعنا به. وكتبت تفسير هذه الآيات في مدينة بمبي ( أو بومباي ) من ثغور الهند في غرة ربيع الآخر سنة١٣٣٠ والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا التفسير، إنه على ما يشاء قدير.
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما١٢٧ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا١٢٨ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما١٢٩ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما١٣٠ ﴾.
تقدم أن الكلام كان من أول السورة إلى ما قبل قوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن آية ﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى آخر ما تقدم تفسيره في أحكام عامة أكثرها في أصول الدين وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال. وقد جاءت هذه الآيات بعد ذلك في أحكام النساء فهي من جنس الأحكام التي في أول السورة. ولعل الحكمة في وضعها ههنا تأخر نزولها إلى أن شعر الناس بعد العمل بتلك الآيات بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فإنهم كانوا يهضمون حقوق الضعيفين ـ المرأة واليتيم ـ كما تقدم فأوجبت عليهم تلك الآيات مراعاتها وحفظها وبينتها لهم، وجعلت للنساء حقوقا ثابتة مؤكدة في المهر والإرث كالرجال وحرمت ظلمهن، وتعدد الزوجات منهن، مع الخوف من عدم العدل بينهن، وحددت العدد الذي يحل منهن في حال عدم الخوف من الظلم، فبعد تلك الأحكام عرف النساء حقوقهن، وأن الإسلام منع الرجال الأقوياء أن يظلموهن، فكان من المتوقع بعد الشروع في العمل بتلك الأحكام أن يعرف الرجال شدة التبعة التي عليهم في معاملة النساء وأن يقع لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن تحدث بعضهم نفسه بأن يحل له أو لا يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث وهو يرغب أن ينكحها، ويشتبه بعضهم فيما يصالح امرأته عليه إذا أرادت أن تفتدي منه، ويضطرب بعضهم في حقيقة العدل الواجب بين النساء : هل يدخل فيه العدل في الحب أو في لوازمه العملية الطبيعية من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أم لا ؟.
كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فهو مما كان يكون موضع السؤال والاستفتاء، فلهذا جاء بهذه الآيات بعد طائفة من الآيات وطائفة من الزمان، وقد علمنا من سنة القرآن عدم جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد في سياق واحد، لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعبرة ينمي بها الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، وبسننه في خلقه، وحكمته في عباده، ويقوي بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير، والحرص على التزام الحق، ولو طال سرد الآيات في موضوع أحكام المعاملات البشرية ـ لمل القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعول، وحسب طلاب الأحكام المفصلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة، والسور المتعددة، ولا يجعلونها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمت.
أما قوله تعالى :﴿ ويستفتونك في النساء ﴾ فمعناه يطلبون منك أيها الرسول الفتيا في شأنهن، وبيان المشكل والغامض عليهم في أحكامهن، من حيث الحقوق المالية والزواج لأجلها والنشوز والخصام والصلح والعدل والعشرة والفراق، ويدل على ذلك كله الجواب في الآيات الأربع، وهو من إيجاز القرآن البديع، وغفل عن هذا من قال إن المراد ﴿ يستفتونك في ميراثهن ﴾ لما روي في سبب نزولها من أن حصن بن عيينة قال للنبي صلى الله عليه وسلم بلغنا أنك تعطي البنت والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويجوز الغنيمة فقال صلى الله عليه وسلم :( بذلك أمرت ). فيا لله العجب ! كيف يغفل أمثال أولئك الأذكياء بمثل هذه الرواية عما تدل عليه الآيات الواردة في موضوع واحد هو استفتاء وفتوى فيقطعونها إربا إربا، ويجعلونها جذاذا وأفلاذا لا صلة بينها، ولا جامعة تضمها ؟.
وروي عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح أن الآية نزلت في بنات أم كجة وميراثهن عن أبيهن، وعن عائشة أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من مهر مثلها، وإذا كانت مرغوبا عنها لقلة مالها وجمالها تركها، وفي رواية هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وقد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها لدمامتها، ويكره أن يزوجها غيره حتى لا يذهب بمالها، فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله عن ذلك. وقد تقدم هذا في أول السورة.
﴿ قل الله يفتيكم فيهن ﴾ بما ينزله من الآيات في أحكامهن بعد هذا الاستفتاء ﴿ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان ﴾ أي ويفتيكم في شأنهن ما يتلى عليكم في الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء في أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي جرت عادتكم أن لا تعطونهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديكم لولايتكم عليهن، وترغبون في أن تنكحوهن لدمامتهن، فلا تنكحونهن ولا تنكحونهن غيركم، ليبقى مالهم في أيديكم، وما يتلى عليكم أيضا في شأن المستضعفين من الولدان الذين لا تعطونهم حقهم من الميراث، والمراد بهذا الذي يتلى عليهم في الضعيفين المرأة واليتيم هو ما تقدم من الآيات في أول السورة من الآية الأولى أو ما بعدها في آخر آيات الفرائض يذكرهم الله تعالى بتلك الآيات المفصلة أن يتدبروها ويتأملوا معانيها ويعملوا بها. وذلك أن من طباع البشر أن يغفلوا أو يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي يراد بها إرجاعهم، وإذا توهموا أن شيئا منها غير قطعي وأنهم بالاستفتاء عنه ربما يفتون بما فيه التخفيف عنهم، وموافقة رغبتهم، لجأوا إلى ذلك واستفتوا، وقد أشرنا في أول تفسير الآية إلى أن معنى الإفتاء بيان دقائق الأمور وما يخفى منها. وقيل أن قوله تعالى :﴿ وما يتلى عليكم ﴾ معطوف على ضمير " فيهن " المجرور أي ويفتيكم أيضا فيما يتلى عليكم من الآيات التي نزلت في الأحكام التي تستفتون عنها الآن فيبين لكم أنها أحكام محكمة لا هوادة فيها فلا يحل لكم بحال من الأحوال أن تظلموا النساء وأمثالهن من المستضعفين لصغرهم.
﴿ وأن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ أي ويفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين بالقسط أي تعنوا عناية خاصة بتحري العدل في معاملتهم والإقساط إليهم على أتم الوجوه وأكملها، فإن هذا هو معنى القيام بالشيء ومثله إقامة الشيء كما بيناه في تفسير إقامة الصلاة. ولما كان هذا هو الواجب الذي لا هوادة فيه وكان من الكمال أن يعامل اليتيم بالفضل لا بمجرد العدل قال تعالى :﴿ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ﴾ أي وما تفعلوه من الخير لليتامى بترجيح منفعتهم، والزيادة في قسطهم، فهو مما لا يعزب عن علمه تعالى ولا ينسى الإثابة عليه، كسائر أفعال الخير، وهذا ترغيب في الإحسان إلى اليتامى وتكميل لبيان مراتب معاملتهم وهي ثلاث، أولاها هضم شيء من حقوقهم وهي المحرمة الواجبة السفلى، والثانية القيام لهم بالقسط والعدل التام بأن لا يظلموا من حقهم شيئا وهي الواجبة الوسطى، والثالثة الزيادة في رزقهم وإكرامهم بما ليس لهم من مال، وما لا يجب لهم من عمل، وهي المندوبة الفضلى.
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما١٢٧ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا١٢٨ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما١٢٩ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما١٣٠ ﴾.
تقدم أن الكلام كان من أول السورة إلى ما قبل قوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن آية ﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى آخر ما تقدم تفسيره في أحكام عامة أكثرها في أصول الدين وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال. وقد جاءت هذه الآيات بعد ذلك في أحكام النساء فهي من جنس الأحكام التي في أول السورة. ولعل الحكمة في وضعها ههنا تأخر نزولها إلى أن شعر الناس بعد العمل بتلك الآيات بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فإنهم كانوا يهضمون حقوق الضعيفين ـ المرأة واليتيم ـ كما تقدم فأوجبت عليهم تلك الآيات مراعاتها وحفظها وبينتها لهم، وجعلت للنساء حقوقا ثابتة مؤكدة في المهر والإرث كالرجال وحرمت ظلمهن، وتعدد الزوجات منهن، مع الخوف من عدم العدل بينهن، وحددت العدد الذي يحل منهن في حال عدم الخوف من الظلم، فبعد تلك الأحكام عرف النساء حقوقهن، وأن الإسلام منع الرجال الأقوياء أن يظلموهن، فكان من المتوقع بعد الشروع في العمل بتلك الأحكام أن يعرف الرجال شدة التبعة التي عليهم في معاملة النساء وأن يقع لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن تحدث بعضهم نفسه بأن يحل له أو لا يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث وهو يرغب أن ينكحها، ويشتبه بعضهم فيما يصالح امرأته عليه إذا أرادت أن تفتدي منه، ويضطرب بعضهم في حقيقة العدل الواجب بين النساء : هل يدخل فيه العدل في الحب أو في لوازمه العملية الطبيعية من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أم لا ؟.
كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فهو مما كان يكون موضع السؤال والاستفتاء، فلهذا جاء بهذه الآيات بعد طائفة من الآيات وطائفة من الزمان، وقد علمنا من سنة القرآن عدم جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد في سياق واحد، لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعبرة ينمي بها الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، وبسننه في خلقه، وحكمته في عباده، ويقوي بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير، والحرص على التزام الحق، ولو طال سرد الآيات في موضوع أحكام المعاملات البشرية ـ لمل القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعول، وحسب طلاب الأحكام المفصلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة، والسور المتعددة، ولا يجعلونها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمت.
﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ﴾ الخوف توقع ما يكره بوقوع بعض أسبابه أو ظهور بعض أماراته، والنشوز الترفع والكبر وما يترتب عليهما من سوء المعاملة، وتقدم تفسيره من قبل والإعراض الميل والانحراف عن الشيء أي وإن خافت امرأة خافت من بعلها نشوزا وترفعا عليها، أو إعراضا عنها، بأن ثبت لها ذلك وتحقق ولم يكن وهما مجردا، أو وسواسا عارضا، يدل على ذلك جعل فعل الخوف المذكور، مفسرا لفعل محذوف، للاحتراس من بناء الحكم على أساس الوسوسة التي تكثر عند النساء وهو من إيجاز القرآن البديع وذلك أن المرأة إذا رأت زوجها مشغولا بأكبر العظائم المالية أو السياسية أو حل أعوص المسائل العلمية، أو بغير ذلك من المشاكل الدنيوية أو المهمات الدينية، لا تعد ذلك عذرا يبيح له الإعراض عن مسامراتها أو منادمتها، أو الرغبة عن مناغاتها ومباعلتها، والواجب عليها أن تتبين وتتثبت فيما تراه من أمارات النشوز والإعراض، فإذا ظهر لها أن ذلك لسبب خارجي لا لكراهتها والرغبة عن معاشرتها بالمعروف فعليها أن تعذر الرجل وتصبر على ما لا تحب من ذلك، وإن ظهر لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها.
﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ﴾ قرأ الكوفيون " يصلحا " بوزن " يكرما " من الإصلاح والباقون " يصالحا " بتشديد الصاد وأصله يتصالحا. أي فلا جناح عليها ولا عليه في الصلح الذي يتفقان عليه بينهما، كأن تسمح له ببعض حقها عليه في النفقة أو المبيت معها أو بحقها كله فيهما أو في أحدهما لتبقى في عصمته مكرمة أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل ذلك ليطلقها، فهو كقوله تعالى في سورة البقرة ﴿ فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] وإنما يحل للرجل ما تعطيه من حقها إذا كان برضاها لاعتقادها أنه خير لها من غير أن يكون ملجئا إياها إليه بما لا يحل له من ظلمها أو إهانتها. روي عن بعض مفسري السلف أن هذه الآية نزلت في الرجل تكون عنده المرأة يكرهها لكبر سنها أو دمامتها ويريد التزوج بخير منها ويخاف أن لا يعدل بينها وبين الجديدة فيكاشفها بذلك ويخيرها بين الطلاق وبين البقاء عنده بشرط أن تسقط عنه حقها في القسم أي حصتها من المبيت عندها، ومثله الرجل الذي عنده امرأتان مثلا يكره إحداهما ويريد فراقها إلا أن تصالحه على إسقاط حقها في المبيت، أو يعجز عن النفقة عليهما فيريد أن يطلق إحداهما إلا أن تصالحه على إسقاط حقها من النفقة، فإذا لم ترض المكروهة لكبرها أو قبحها إلا بحقها في القسم والنفقة وجب على الرجل إيفاؤها وحقها وأن لا ينقص منه شيئا، فإن قدر على أن يصالحها بمال يبذله لها بدلا من لياليها ورضيت بذلك جاز لهما ولا جناح عليهما فيه كما لا جناح عليهما في غير هذه الصورة من صور الصلح فإن المقصد هو التراضي والمعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان.
﴿ والصلح خير ﴾ من التسريح والفراق وإن كان بإحسان وأداء المهر والمتعة وحفظ الكرامة كما هو الواجب على المطلق لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ، وميثاقها من أغلظ المواثيق وأجدرها بالوفاء، وعروض الخلاف والكراهة وما يترتب عليها من النشوز والإعراض وسوء المعاشرة لمن لم يقف عند حدود الله من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من بين البشر، والشريعة العادلة الرحيمة هي التي تراعى فيها السنن الطبيعية والوقائع الفعلية بين الناس، ولا يتصور في ذلك أكمل مما جاء به الإسلام فإنه جعل القاعدة الأساسية هي المساواة بين الزوجين في كل شيء إلا القيام برياسة الأسرة والقيام على مصالحها لأنه أقوى بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة فقال :﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] وهذه الدرجة هي التي بينها بقوله :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ [ النساء : ٣٤ ] وفرض عليهم العدل والإحسان في هذه الرياسة. فيجب على الرجل وراء النفقة على امرأته أن يعاشرها بالمعروف وأن يحصنها ويعفها ويحصن نفسه ويعفها بها، ولا يجوز له أن يجعل لها ضرة شريكة في ذلك إلا إذا وثق من نفسه بالعدل بينهما، وإنما أبيح له ذلك بشرطه لأنه من ضرورات الاجتماع ولا سيما في أزمنة الحروب التي يقل فيها الرجال ويكثر النساء كما بينا كل ذلك بالتفصيل في محله فإن أراد ذلك أو فعله أو وقع بينهما النفور بسبب آخر فيجب على كل منهما أن يتحرى العدل والمعروف، فإن خافا أن لا يقيما حدود الله فعلى الذي يريد منهما أن يخلص من الآخر أن يسترضيه، وكما جعل الله الطلاق للرجل لأنه أحرص على عصمة الزوجية لما تكلفه من النفقة ولأنه أبعد عن طاعة الانفعال العارض جعل للمرأة حق الفسخ إذا لم يف بحقوقها من النفقة والإحصان. وقيل أن كلمة " خير " ليست للتفضيل وإنما هي لبيان خيرية الصلح في نفسه.
﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ بين لنا سبحانه وتعالى في هذه الحكمة السبب الذي قد يحول بين الزوجين وبين الصلح الذي فيه الخير وحسم مادة الخلاف والشقاق لأجل أن نتقيه ونجاهد أنفسنا في ذلك وهو الشح، ومعناه البخل الناشيء عن الحرص، ومعنى إحضاره الأنفس أنها عرضة له فإذا جاء مقتضى البذل ألم بها ونهاها أن تبذل ما ينبغي بذله لأجل الصلح وإقامة المصلحة، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة شحيحات بها، والرجال أيضا حريصون على أموالهم أشحة بها، فينبغي لكل منهما أن يتذكر أن هذا من ضعف النفس الذي يضره ولا ينفعه، وأن يعالجه فلا يبخل بما ينبغي بذله والتسامح فيه لأجل المصلحة، فإن من أقبح البخل أن يبخل أحد الزوجين في سبيل مرضاة الآخر بعد أن أفضى بعضهما إلى بعض وارتبطا بذلك الميثاق العظيم، بل ينبغي أن يكون التسامح بينهما أوسع من ذلك وهو ما تشير إليه الجملة الآتية :
﴿ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم فتتراحموا وتتعاطفوا ويعذر بعضكم بعضا وتتقوا النشوز والإعراض، وما يترتب عليهما من منع الحقوق أو الشقاق، فإن الله كان بما تعملونه من ذلك خبيرا لا يخفى عليه شيء من دقائقه وخفاياه ولا من قصدهم فيه، فيجزي الذين أحسنوا منكم بالحسنى. والذين اتقوا بالعاقبة الفضلى، قال بعض المفسرين : المراد بهذه الجملة حث الرجال على الحرص على نسائهم وعدم النشوز والإعراض عنهن، وإن كرهوهن لكبرهن أو دمامتهن، كما قال في آية أخرى ﴿ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾ [ النساء : ١٩ ].
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما١٢٧ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا١٢٨ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما١٢٩ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما١٣٠ ﴾.
تقدم أن الكلام كان من أول السورة إلى ما قبل قوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن آية ﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى آخر ما تقدم تفسيره في أحكام عامة أكثرها في أصول الدين وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال. وقد جاءت هذه الآيات بعد ذلك في أحكام النساء فهي من جنس الأحكام التي في أول السورة. ولعل الحكمة في وضعها ههنا تأخر نزولها إلى أن شعر الناس بعد العمل بتلك الآيات بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فإنهم كانوا يهضمون حقوق الضعيفين ـ المرأة واليتيم ـ كما تقدم فأوجبت عليهم تلك الآيات مراعاتها وحفظها وبينتها لهم، وجعلت للنساء حقوقا ثابتة مؤكدة في المهر والإرث كالرجال وحرمت ظلمهن، وتعدد الزوجات منهن، مع الخوف من عدم العدل بينهن، وحددت العدد الذي يحل منهن في حال عدم الخوف من الظلم، فبعد تلك الأحكام عرف النساء حقوقهن، وأن الإسلام منع الرجال الأقوياء أن يظلموهن، فكان من المتوقع بعد الشروع في العمل بتلك الأحكام أن يعرف الرجال شدة التبعة التي عليهم في معاملة النساء وأن يقع لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن تحدث بعضهم نفسه بأن يحل له أو لا يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث وهو يرغب أن ينكحها، ويشتبه بعضهم فيما يصالح امرأته عليه إذا أرادت أن تفتدي منه، ويضطرب بعضهم في حقيقة العدل الواجب بين النساء : هل يدخل فيه العدل في الحب أو في لوازمه العملية الطبيعية من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أم لا ؟.
كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فهو مما كان يكون موضع السؤال والاستفتاء، فلهذا جاء بهذه الآيات بعد طائفة من الآيات وطائفة من الزمان، وقد علمنا من سنة القرآن عدم جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد في سياق واحد، لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعبرة ينمي بها الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، وبسننه في خلقه، وحكمته في عباده، ويقوي بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير، والحرص على التزام الحق، ولو طال سرد الآيات في موضوع أحكام المعاملات البشرية ـ لمل القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعول، وحسب طلاب الأحكام المفصلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة، والسور المتعددة، ولا يجعلونها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمت.
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾ هذه الآية فتوى أخرى غير الفتاوى المبينة في الآيتين قبلها والمستفتون عنها هم الذين كان عندهم زوجتان أو أكثر من قبل نزول ﴿ فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة ﴾ [ النساء : ٣ ] ومثلهم من عدد بعد ذلك ناويا العدل حريصا عليه ثم ظهر له وعورة مسلكه، واشتباه أعلامه، والتحديد بين ما يملكه وما لا يملكه اختياره منه، فالورع من هؤلاء يحاول أن يعدل بين امرأتيه حتى في إقبال النفس، والبشاشة والأنس، وسائر الأعمال والأقوال، فيرى أنه يتعذر عليه ذلك لأن الباعث على الكثير منه الوجدان النفسي، والميل القلبي، وهو مما لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره، ولا يملك آثاره الطبيعية، ولوازمه الفطرية، فخفف الله برحمته على هؤلاء المتقين المتورعين، وبين لهم أن العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ولا يتعلق به التكليف، كأنه يقول : مهما حرصتم على أن تجعلوا المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن، وهو حقيقة معنى العدل فلن تستطيعوا ذلك بحرصكم عليه، ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائهما به، وإذا كان الأمر كذلك في الواقع.
﴿ فلا تميلوا كل الميل ﴾ إلى المحبوبة منهن بالطبع، المالكة لما لا تملكه الأخرى من القلب، فتعرضوا بذلك عن الأخرى ﴿ فتذروها كالمعلقة ﴾ كأنها غير متزوجة وغير مطلقة، فإن الذي يغفر لكم من الميل وما يترتب عليه من العمل بالطبع، هو ما لا يدخل في الاختيار، ولا يكون من تعمد التقصير أو الإهمال، فعليكم أن تقوموا لها بحقوق الزوجية الاختيارية كلها ﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ﴾ أي وإن تصلحوا في معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض في المعاملات الاختيارية كالقسم والنفقة فإن الله يغفر لكم ما دون ذلك مما لا ينضبط بالاختيار كالحب ولوازمه الطبيعية من زيادة الإقبال وغير ذلك لأن شأنه سبحانه المغفرة والرحمة لمستحقها.
يظن بعض الميالين إلى منع تعدد الزوجات أنه يمكن أن يستنبط من هذه الآية وآية :﴿ فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة ﴾ [ النساء : ٣ ] أن التعدد غير جائز لأن من خاف عدم العدل لا يجوز له أن يزيد على الواحدة وقد أخبر الله تعالى أن العدل غير مستطاع وخبره حق لا يمكن لأحد بعده أن يعتقده أنه يمكنه العدل بين النساء، فعدم العدل صار أمرا يقينيا ويكفي في تحريم التعدد أن يخاف عدم العدل بأن يظنه ظنا، فكيف إذا اعتقده يقينيا ؟.
كان يكون هذا الدليل صحيحا لو قال تعالى :﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾ ولم يزد على ذلك، ولكنه لما قال :﴿ فلا تميلوا كل الميل ﴾ الخ علم أن المراد بغير المستطاع من العدل هو العدل الكامل الذي يحرص عليه أهل الدين والورع كما بيناه في تفسير الآية وهو ظاهر من قوله :﴿ ولو حرصتم ﴾ فإن العدل من المعاني الدقيقة التي يشتبه الحد الأوسط منها بما يقاربه من طرفي الإفراط والتفريط ولا يسهل الوقوف على حده والإحاطة بجزئياته ولا سيما الجزئيات المتعلقة بوجدانات النفس كالحب والكره وما يترتب عليهما من الأعمال، فلما أطلق في اشتراط العدل اقتضى ذلك الإطلاق أن يفكر أهل الدين والورع والحرص على إقامة حدود الله وأحكامه في ماهية هذا العدل وجزئياته ويتبينوها كما تقدم آنفا، فبين لهم سبحانه في هذه الآية ما هو المراد من العدل وأنه ليس هو الفرد الكامل الذي يعم أعمال القلوب والجوارح لأن هذا غير مستطاع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
نعم إن في الآية موعظة وعبرة لمن يتأملها من غير أولئك الورعين الحريصين على إقامة حدود الله وأحكامه بقدر الطاقة لمن يتأملها ويعتبر بها من عباد الشهوات والأهواء الذين لا يقصدون من الزوجية إلا تمتيع النفس باللذة الحيوانية الموقتة من غير مراعاة أركان الحياة الزوجية التي بينها الله تعالى في قوله :﴿ ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ [ الروم : ٢١ ] ولا مراعاة أمر النسل وصلاح الذرية، أولئك السفهاء الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، يتزوجون الثانية لمحض الملل من الأولى وحب التنقل، ثم الثالثة والرابعة لأجل ذلك، لا يخطر في بال واحد منهم أمر العدل، ولا أنه يجب لإحداهن عليه شيء، وقد ينوي من أول الأمر أن يظلم الأولى ويهضم حقها، ولا يشعر بأنه ارتكب في ذلك إثما، ولا أغضب الله واستهان بأحكامه، وبين هؤلاء وأولئك قوم يزعمون أنهم على شيء من الدين ومراعاة أحكامه يظنون أن العدل بين المرأتين أمر سهل فيقدمون على التزوج بالثانية والثالثة والرابعة قبل أن يتفكروا في حقيقة العدل الواجب وماهيته. ألا فليتق الله الذواقون ! ألا فليتق الله المترفون ! ألا فليتفكروا في ميثاق الزوجية الغليظ ! وفي حقوقها المؤكدة ! ألا فليتفكروا في عاقبة نسلهم ومستقبل ذريتهم ! ألا فليتفكروا في حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على دعائم الشهوات والأهواء وفساد الأخلاق والذرية التي تنشأ بين أمهات متعاديات وزوج شهواني ظالم ! ألا فليتفكروا في قوله تعالى :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ﴾ [ النساء : ١٢٩ ] ! وليحاسبوا أنفسهم ليعلموا هل هم من المصلحين لأمر نسائهم ونظام بيوتهم أم من المفسدين، وهل هم من المتقين الله في هذا الأمر أم من المتساهلين أو الفاسقين ؟ ؟.
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما١٢٧ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا١٢٨ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما١٢٩ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما١٣٠ ﴾.
تقدم أن الكلام كان من أول السورة إلى ما قبل قوله تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن آية ﴿ واعبدوا الله ﴾ إلى آخر ما تقدم تفسيره في أحكام عامة أكثرها في أصول الدين وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال. وقد جاءت هذه الآيات بعد ذلك في أحكام النساء فهي من جنس الأحكام التي في أول السورة. ولعل الحكمة في وضعها ههنا تأخر نزولها إلى أن شعر الناس بعد العمل بتلك الآيات بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فإنهم كانوا يهضمون حقوق الضعيفين ـ المرأة واليتيم ـ كما تقدم فأوجبت عليهم تلك الآيات مراعاتها وحفظها وبينتها لهم، وجعلت للنساء حقوقا ثابتة مؤكدة في المهر والإرث كالرجال وحرمت ظلمهن، وتعدد الزوجات منهن، مع الخوف من عدم العدل بينهن، وحددت العدد الذي يحل منهن في حال عدم الخوف من الظلم، فبعد تلك الأحكام عرف النساء حقوقهن، وأن الإسلام منع الرجال الأقوياء أن يظلموهن، فكان من المتوقع بعد الشروع في العمل بتلك الأحكام أن يعرف الرجال شدة التبعة التي عليهم في معاملة النساء وأن يقع لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن تحدث بعضهم نفسه بأن يحل له أو لا يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث وهو يرغب أن ينكحها، ويشتبه بعضهم فيما يصالح امرأته عليه إذا أرادت أن تفتدي منه، ويضطرب بعضهم في حقيقة العدل الواجب بين النساء : هل يدخل فيه العدل في الحب أو في لوازمه العملية الطبيعية من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أم لا ؟.
كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فهو مما كان يكون موضع السؤال والاستفتاء، فلهذا جاء بهذه الآيات بعد طائفة من الآيات وطائفة من الزمان، وقد علمنا من سنة القرآن عدم جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد في سياق واحد، لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعبرة ينمي بها الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، وبسننه في خلقه، وحكمته في عباده، ويقوي بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير، والحرص على التزام الحق، ولو طال سرد الآيات في موضوع أحكام المعاملات البشرية ـ لمل القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعول، وحسب طلاب الأحكام المفصلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة، والسور المتعددة، ولا يجعلونها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمت.
﴿ وإن يتفرقا ﴾ أي وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافا كلاهما أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله كالذي يكره امرأته لدمامتها أو كبرها ويريد أن يتزوج غيرها ولم يتصالح معها على شيء يرضيان به، وكالذي عنده زوجان لا يقدر أن يعدل بينهما ولا تسمح له المرغوب عنها بشيء من حقوقها بمقابل ولا غير مقابل، إن يتفرق هذان على ترجيح الطلاق على دوام الزوجية ( كما يدل على إسناد الفعل إليهما ) وعدم حرص أحد منهما على استرضاء الآخر وصلحه ﴿ يغن الله كلا من سعته ﴾ يغن الله كلا منهما عن صاحبه بسعة فضله فقد يسخر للمرأة رجلا خيرا منه يقوم لها بحقوقها، ويجعل له من امرأة أخرى عنده أو يتزوجها من تحصنه وترضيه فيستقيم أمر بيته وتربية أولاده. وإنما يكون كل منهما جديرا بإغناء الله إياه عن الآخر بزوج خير منه إذا التزما في التفرق حدود الله بأن يجتهد كل منهما في الاتفاق والصلح حتى إذا ظهر لهما بعد إجالة الرأي فيه والتروي في أسبابه ووسائله أنه غير مستطاع لهما تفرقا بإحسان يحفظ كرامتهما ولا يكونان به مضغة في أفواه الناس، وقدوة سيئة لفاسدي الأخلاق، ﴿ وكان الله واسعا حكيما ﴾ أي كان ولا يزال واسع الفضل والرحمة يوفق بين الأقدار، ويؤلف بين المسببات والأسباب، حكيما فيما شرعه من الأحكام، جاعلا لها على وفق مصالح الناس.
وقد يكون من أسباب الرغبة في كل من الزوجين المتفرقين ما يراه الناس من حسن تعاملهما في تفرقهما، والتزامهما فيه حفظ كرامتهما، وإنما قلت :" قد يكون " للإشارة إلى أن هذا إذا لم يكن مرغبا لدهماء الناس وتحوتهم، فهو أكبر المرغبات لكرامهم وفضلائهم وإنما الخير فيهم فإن الرجل الفاضل الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأن نفسها الشريفة لم تقبل أن ينشز أو يعرض عنها، أو يقرن بها من لا يعدل بينها وبينها، وهي مع ذلك لم تخدش كرامته بقول ولا فعل وإنما أحبت أن تتفق معه على طريقة عادلة فلم يمكن، فتفرقا بأدب وإحسان حفظ به شرفهما، وحسن به ذكرهما، وعلم أنه هو الذي أساء إليها، لا لعيب في أخلاقها ولا لسوء في أعمالها بل لتعلق قلبه بغيرها، فإن هذا الفاضل الكريم يرى فيها أفضل صفات الزوجية التي يتساهل لأجلها فيما عداها، فإن كانت فتاة رغب فيها الفتيان وغيرهم، وإن كانت نصفا رغب فيها كثيرون من أمثالها في السن وشرف الأدب، وأكثر الناس رغبة في مثلها من يتزوجون لأجل المصلحة والقيام بحقوق الزوجية، لا لمحض إرضاء الشهوة الحيوانية، وهم الذين يرجى أن تدوم لهم العيشة المرضية، كذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون في الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف أو يسرحها بإحسان، ولا يلجئه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود الله.
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا١٣١ ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا١٣٢ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا١٣٣ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا١٣٤ ﴾.
اقتضت حكمة الله في ترتيب كتابه أن يجيء بعد تلك الأحكام العملية في شؤون النساء واليتامى أو بعدها وبعد ما قبلها من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب أيضا وأن يعقب عليها بآيات في العلم الإلهي تذكر المخاطبين بتلك الأحكام بعظمته وسعة ملكه واستغنائه عن خلقه، وقدرته على ما يشاء من التصرف فيهم أو إثباتهم على طاعته فيما شرعه لهم لخيرهم ومصلحتهم، ـ تذكرهم بذلك ليزدادوا بتدبرها أيمانا يحملهم على العمل لها، والوقوف عند حدودها، وهي هذه الآيات.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ ملكا وخلقا وعبيدا فبأمره وحده قام نظام الأكوان، وله وحده التدبير والتكليف الذي ينتظم به أمر الإنسان ﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ﴾ في إقامة سننه، ولإقامة دينه وشريعته، فبإقامة السنن تعلو معارفكم الإلهية، وترتقي مرافقكم الدنيوية، وبإقامة الأحكام والآداب الدينية، تتزكى أنفسكم وتنتظم مصالحكم المدنية والاجتماعية، ﴿ وإن تكفروا ﴾ نعمه عليكم وتتركوا تقواه في ذلك ﴿ فإن لله ما في السموات والأرض ﴾ لا ينقص كفركم من ملكه شيئا وإنما ضرره عليكم، كما أن منفعة الشكر خاصة بكم ﴿ وكان الله غنيا حميدا ﴾ غنيا عن كل شيء بذاته لذاته، ولأن كل شيء له ومنه، محمودا بذاته لذاته وكمال صفاته، محمودا على جميع أفعاله، لأنه أحسن كل شيء خلقه، فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه، ولا إلى حمدكم لتحقيق حمده، ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ] وفي الحديث القدسي المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل :( يا عبادي ! إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) ١ رواه مسلم وهو آخر حديث طويل اكتفينا منه بمحل الشاهد في موضوعنا.
١ أخرجه مسلم في البر حديث٥٥..
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا١٣١ ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا١٣٢ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا١٣٣ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا١٣٤ ﴾.
اقتضت حكمة الله في ترتيب كتابه أن يجيء بعد تلك الأحكام العملية في شؤون النساء واليتامى أو بعدها وبعد ما قبلها من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب أيضا وأن يعقب عليها بآيات في العلم الإلهي تذكر المخاطبين بتلك الأحكام بعظمته وسعة ملكه واستغنائه عن خلقه، وقدرته على ما يشاء من التصرف فيهم أو إثباتهم على طاعته فيما شرعه لهم لخيرهم ومصلحتهم، ـ تذكرهم بذلك ليزدادوا بتدبرها أيمانا يحملهم على العمل لها، والوقوف عند حدودها، وهي هذه الآيات.
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ﴾ أعاد تذكيرهم بكونه مالك السماوات والأرض أي العوالم كلها ليتمثلوا عظمته، ويستحضروا الدليل على غناه وحمده، فيعلموا أنه إذا كان قد توكل بإغناء كل من الزوجين إذا أقاما حدوده في تفرقهما فإنه قادر على ذلك كما أنه قادر على إنجاز كل ما وعد وأوعد به، فيجب أن يكتفوا به في التوكل لهم، ويستعمل الوكيل بمعنى المهيمن والمسيطر والرقيب.
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا١٣١ ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا١٣٢ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا١٣٣ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا١٣٤ ﴾.
اقتضت حكمة الله في ترتيب كتابه أن يجيء بعد تلك الأحكام العملية في شؤون النساء واليتامى أو بعدها وبعد ما قبلها من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب أيضا وأن يعقب عليها بآيات في العلم الإلهي تذكر المخاطبين بتلك الأحكام بعظمته وسعة ملكه واستغنائه عن خلقه، وقدرته على ما يشاء من التصرف فيهم أو إثباتهم على طاعته فيما شرعه لهم لخيرهم ومصلحتهم، ـ تذكرهم بذلك ليزدادوا بتدبرها أيمانا يحملهم على العمل لها، والوقوف عند حدودها، وهي هذه الآيات.
﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ﴾ إذا علمتم أيها الناس أن لله ما في السماوات وما في الأرض يتصرف فيه كيف شاء فاعلموا أنه إن يشأ أن يذهبكم بعذاب ينزله بكم أو أمة قوية يسلطها عليكم فتسلب استقلالكم حتى تجعلكم عبيدا أو كالعبيد لها لا تستطيعون أن تقوموا بمصالحكم ومنافعكم التي بها وحدتكم فإن يذهبكم ﴿ ويأت بآخرين ﴾ يحلون محلكم في الوجود أو الحكم والتصرف. وقال في سورة أخرى :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، ما ذلك على الله بعزيز ﴾ [ إبراهيم : ٢٠، ١٩ ] وفي سورة أخرى :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ [ محمد : ٣٨ ] قيل إن الآية من قبيل هاتين الآيتين في تهديد المشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقاومون دعوته. والظاهر أنها تنبيه للناس وتوجيه لأفكارهم إلى التأمل في سننه تعالى بحياة الأمم وموتها وكون هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة لا مرد لها ﴿ وكان الله على كل ذلك قديرا ﴾ لأن بيده ملكوت كل شيء.
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا١٣١ ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا١٣٢ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا١٣٣ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا١٣٤ ﴾.
اقتضت حكمة الله في ترتيب كتابه أن يجيء بعد تلك الأحكام العملية في شؤون النساء واليتامى أو بعدها وبعد ما قبلها من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب أيضا وأن يعقب عليها بآيات في العلم الإلهي تذكر المخاطبين بتلك الأحكام بعظمته وسعة ملكه واستغنائه عن خلقه، وقدرته على ما يشاء من التصرف فيهم أو إثباتهم على طاعته فيما شرعه لهم لخيرهم ومصلحتهم، ـ تذكرهم بذلك ليزدادوا بتدبرها أيمانا يحملهم على العمل لها، والوقوف عند حدودها، وهي هذه الآيات.
﴿ من كان يريد ﴾ منكم بسعيه وكدحه وجهاده في حياته ﴿ ثواب الدنيا ﴾ ونعيمها بالمال والجاه ﴿ فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ﴾ جميعا وقد وهبكم من القوى والجوارح وهداية الحواس والعقل والوجدان والدين ما يمكنكم به نيل ذلك فعليكم أن تطلبوا الثوابين جميعا ولا تكتفوا بالأدنى الفاني عن الأعلى الباقي والجمع بينهما ميسور لكم، ومما تناله قدرتكم، فمن سفه النفس، وأفن الرأي، أن ترغبوا عنه. والآية تدل على أن الإسلام يهدي أهله إلى سعادة الدارين، وأن يتذكروا أن كلا من ثواب الدنيا وثواب الآخرة من فضل الله ورحمته، وقد سبق بيان هذا في تفسير :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ [ البقرة : ٢٠١ ].
﴿ وكان الله سميعا بصيرا ﴾ سميعا لأقوال العباد في مخاطباتهم ومناجاتهم، بصيرا بجميع أمورهم في جميع حالاتهم، فيجب عليهم أن يراقبوه في أقوالهم وأفعالهم، فذلك الذي يعينهم على تزكية نفوسهم، والوقوف عند حدود العدل والفضيلة التي يستقيم بها أمر دنياهم، ويستعدون به للحياة الأبدية في آخرتهم.
﴿ * ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا١٣٥ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا١٣٦ ﴾.
قد علم مما سبق مكان هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة مما قبلها وهي أحكام عامة في الإيمان والعمل وأحوال المنافقين وأهل الكتاب في ذلك. فأما قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ﴾ الخ فهو يتصل بما قبله من الآيات القريبة خاصة بما فيه من الأمر العام بالقسط بعد الأمر بالقسط في اليتامى والنساء، فهنالك خص اليتامى والنساء في سياق الاستفتاء فيهن، ولأن حقهن آكدا، وظلمهن معهود، وهاهنا عمم الأمر بالقسط لأن العدل حفاظا النظام، وقوام أمر الاجتماع، وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس أو الوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد في ذلك لغناه، أو مراعاته لفقره، لأن العدل والحق مقدمان على الحقوق الشخصية وحقوق القرابة وغيرها. وكانت محاباة الأقربين معهودة في الجاهلية، لأن أمرهم قائم بالعصبية، فالواحد منهم كان ينصر قومه وأهل عصبيته لأنه يعتز بهم، كما يظلم النساء واليتامى لضعفهن، وعدم الاعتزاز بهن، فحضر الله محاباة المرء نفسه أو أهله هنا وإعطاءهم ما ليس لهم من الحق، يقابل حظر ظلم النساء واليتامى هناك وهضم ما لهن من الحق. روى ابن المنذر من طريق ابن جرير عن مولى لابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفتها سورة النساء قال فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابنه أو ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي فنزلت ﴿ كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ﴾ فتأمل كيف بقي تأثير المحاباة فيهم بعد الإسلام حتى نزلت الآية.
القوامون بالقسط هم الذين يقيمون العدل بالإتيان به على أتم الوجوه وأكملها وأدومها فإن ﴿ قوامين ﴾ جمع قوام وهو المبالغ في القيام بالشيء، والقيام بالشيء هو الإتيان به مستويا تاما لا نقص فيه ولا عوج، ولذلك أمر تعالى بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط، لتأكيد العناية بهذه الأشياء، ومن بنى جدارا مائلا أو ناقصا لا يقال إنه أقام البناء أو أقام الجدار، قال تعالى :﴿ فوجدوا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ﴾ [ الكهف : ٧٧ ] وإنما احتاج الجدار إلى الإقامة لأنه كان مائلا متداعيا للسقوط. وهذه العبارة أبلغ ما يمكن أن يقال في تأكيد أمر العدل والعناية به، فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض : تقول اعدلوا أو أقسطوا، وتقول كونوا عادلين أو مقسطين، وهذه أبلغ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإتيان بالقسط الذي يصدق بمرة، وتقول : أقيموا القسط، وأبلغ منه : كونوا قائمين بالقسط، وأبلغ من هذا وذاك : كونوا قوامين بالقسط، أي لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى يكون ملكة راسخة في نفوسكم.
والقسط يكون في العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد، ويكون في الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكمه الناس فيما بينهم. وكان ينبغي أن يكون المسلمون بمثل هذه الهداية أعدل الأمم وأقومهم بالقسط، وكذلك كانوا عندما كانوا مهتدين بالقرآن، وصدق على سلفهم قوله تعالى :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ [ الأعراف : ١٨١ ] ثم خلف من بعد أولئك السلف خلف نبذوا هداية القرآن وراء ظهورهم، حتى صارت جميع الأمم تضرب المثل بظلم حكامهم وسوء حالهم، وتفخر عليهم بالعدل، بل صار الذين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه يلتمسون من تلك الأمم القسط، وما يهدي إليه من العلم.
وقوله تعالى :﴿ شهداء لله ﴾ خبر بعد خبر أي كونوا شهداء لله والشهداء جمع شهيد بوزن " فعيل " والأصل في صيغة " فعيل " أن تدل على الصفات الراسخة كعليم وحكيم فهو على هذا أمر بالعناية بأمر الشهادة والرسوخ فيها، وقد تقدم تفسير الشهادة في تفسير أواخر سورة البقرة فتراجع في الجزء الثاني من التفسير، ومعنى كون الشهادة لله أن يتحرى فيها الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة ولا محاباة لأحد.
﴿ ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ﴾ أي كونوا شهداء بالحق لوجه الله وامتثال أمره واتباع شرعه، الذي تنالون به مرضاته ومثوبته، ولو كانت الشهادة على أنفسكم، بأن يثبت بها الحق عليكم ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها لأن الشهادة إظهار الحق أو على والديكم وأقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم، فإنه ليس من بر الوالدين ولا من صلة رحم الأقربين أن يعانوا على ما ليس لهم بحق، بالإعراض عن الشهادة عليهم، أو ليها والتحريف فيها لأجلهم، وإنما البر والصلة في الحق والمعروف والحق أحق أن يتبع والذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم، فتكون المحاباة في الشهادة من أسباب فشو الظلم والعدوان، وذلك من المفاسد التي لا يأمن شرها أحد من الناس، فالمحاباة في الشهادة مفسدة ضررها عام وإن كانت لمصلحة يريد المحابي بها نفع أهله أو الشفقة على فقير أو العصبية لغني ولذلك قال عز وجل :
﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ﴾ أي إن يكن المشهود عليه من الأقربين أو غيرهم غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، وشرعه أحق أن يتبع فيهما، فلا تحابوا الغني طمعا في بره، ولا خوفا من شره، ولا الفقير عطفا عليه ورحمة به، فمرضاة الفقير ليست خيرا لكم ولا له من مرضاة الله تعالى، ولا أنتم أرحم بالفقير وأعلم بمصلحته من ربه عز وجل، ولولا أنه تعالى يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق، هي خير للشاهد والمشهود عليه، سواء كان غنيا أو فقيرا لما شرع الله ذلك وأوجبه، روى ابن جرير عن السدي في الآية قال نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان حلفه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير اه، أي كان ميله القلبي موجها إلى الفقير لظنه أنه لا يتصدى لظلم الغني، وهو وإن ظن ذلك لا يحكم إلا بالحق الذي تظهره البينة والحجة سواء أنزلت الآية في ذلك أم لا، وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في هذه الآية أنه قال ونعم ما قال : هذا في الشهادة، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين أو الأقربين أو على ذي قرابتك وأشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي بالعدل لنفسه والإقساط. والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الصادق على الكاذب، ومن المبطل على المحق، وبالعدل يصلح الصادق ويكذب الكاذب ويرد المعتدي ويوبخه تعالى ربنا وتبارك، وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم. إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، ويقول الله أنا أولى بغنيكم وفقيركم. ولا يمنعك غنى غني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم فإن ذلك من الحق. اه.
قال تعالى :﴿ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ﴾ أي فلا تتبعوا الهوى وميل النفس إلى أحد ممن كلفتم العدل فيهم، أو الشهادة لهم أو عليهم، كراهة أن تعدلوا، بل آثروا العدل على الهوى، فبذلك يستقيم الأمر في الورى، أو لا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل فالهوى مزلة الأقدام ﴿ وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ كتبت ﴿ تلووا ﴾ في المصحف الإمام بواو واحدة لتحتمل القراءتين المتواترتين وهي قراءة الكوفيين " تلوا " بضم اللام وإسكان الواو من الولاية وقراءة الباقين بسكون اللام وضم الواو من اللي والمعنى على الأول : وإن تلوا أمر الشهادة وتؤدوها، أو تعرضوا على تأديتها وتكتموها، فإن الله كان خبيرا بعملكم لا يخفى عليه قصدكم ونيتكم فيه، وعلى الثاني وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرفوها، أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها، فإن الله كان بعملكم هذا خبيرا فيجازيكم عليه. وقد ذكرهم هنا بكونه خبيرا ولم يقل عليما لأن الخبرة هي العلم بدقائق الأمور وخفاياها، فهي التي تناسب هذا المقام الذي تختلف فيه النيات، ويكثر فيه الغش والاحتيال، حتى أن الإنسان ليغش نفسه ويلتمس لها العذر في كتمان الشهادة أو التحريف فيها، فهل يتدبر المسلمون الآية كما أمرهم الله بتدبر القرآن فيقيموا العدل والشهادة بالحق، أم يعملون برأي أهل الحيل الذين يزعمون أن الله كلفهم اتباعهم دون اتباع كتابه والاهتداء به ؟ ؟.
﴿ ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾، روى الثعلبي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين إذ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه ( أي سوى ما ذكر ) من الكتب والرسل، فقال :( بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله ) فقالوا لا نفعل، فنزلت قال فآمنوا كلهم ( وهم من اليهود ) وروي عن الضحاك أيضا أنها نزلت في أهل الكتاب، وجمهور المفسرين على أن الخطاب فيها للمؤمنين كافة أمرهم الله أن يجمعوا بين الإيمان به وبرسوله الأعظم خاتم النبيين والقرآن الذي نزله عليه وبين الإيمان بجنس الكتب التي نزلها على رسله من قبل بعثه خاتم النبيين بأن يعلموا أن الله قد بعث قبله رسلا، وأنزل عليهم كتبا، وأنه لم يترك عباده في الزمن الماضي سدى، محرومين من البينات والهدى، ولا يقتضي ذلك أن يعرفوا أعيان تلك الكتب ولا أن تكون موجودة، ولا أن يكون الموجود منها صحيحا غير محرف، وإذا كان المتبادر من الآية هو الأمر بالجمع بين الإيمان بالنبي الخاتم والكتاب الآخر، وبين ما قبله كما قلنا فلا حاجة في جعل ﴿ آمنوا ﴾ بمعنى أثبتوا وداوموا على الإيمان بذلك كما قالوا، فليس المقام مقام الأمر بالمواظبة والمداومة، سواء أصح ما ورد في سبب النزول أم لم يصح.
ولما أمر بالإيمان بكل ما ذكر توعد على الكفر بأي شيء منه فقال :﴿ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ فالإيمان بالله هو الركن الأول والإيمان بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث، والإيمان بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلغوها الناس هو الركن الرابع، والإيمان باليوم الآخر الذي يجزى فيه المكلفون على عملهم بتلك الكتب مع الإيمان بما ذكر كل بحسب كتابه إلا أن ينسخ بما بعده هو الركن الخامس، ومن فرق بين كتب الله ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى لا يعتد بإيمانه لأنه متبع للهوى فيه أو للتقليد الذي هو عين الجهل، وقد وصف الله خاتم رسله وأمته التي هي خير الأمم بقوله :﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ].
ولولا التقليد الذي هو جهل وعمى، أو التعصب واتباع الهوى، لما كان يعقل أن يفهم أحد معنى النبوة والرسالة ويؤمن بموسى أو عيسى عن علم وبصيرة بذلك ثم يكفر بمحمد صلى الله عليه وعليهما وسلم، فإن سر الرسالة هو الهداية ولم يكن موسى ولا عيسى أهدى من محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فمن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر فقد ضل عن صراط الحق الصحيح الذي ينجي صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم، لأنه إذا كفر ببعض تلك الأركان بجحود أصله وإنكاره البتة كانت حياته في هذه الدنيا حيوانية محضة، لا يزكي نفسه ولا يعد روحه للحياة الباقية الأبدية، وإن كفر ببعض الكتب والرسل كان كفره بها دليلا على أنه لم يؤمن بشيء منها إيمانا صحيحا مبنيا على فهم معناها والبصيرة بحكمتها كما بينا ذلك آنفا، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طريق الهداية ومحجة السلامة، وإنما بعده عنها جهل صاحبه لوجودها، ومن جهل وجود الشيء لا يطلبه بالبحث عن بيناته، وطلب أعلامه وآياته، وأما من ضل عن الشيء وهو يؤمن بوجوده، فإنه يبحث عنه ويستدل عليه حتى يصل إليه، فيكون ضلاله قريبا. ووصف الضلال بالبعيد من أبلغ الوصف وأعلاه. وقد وحد لفظ الكتاب في أول الآية ليناسب لفظ الرسول المفرد، وجمعه في آخرها ليناسب جمع الرسل.
﴿ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا١٣٧ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما١٣٨ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا١٣٩ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا١٤٠ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا١٤١ ﴾.
بين الله لنا في هذه الآيات حال أناس من أصحاب الضلال البعيد الذي ذكره في الآية التي قبلهن آمنوا في الظاهر نفاقا أو تقليدا وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم فلم يدع فيها استعدادا لفهم الإيمان فلذلك لم يعصمهم من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى، لأنهم لم يعرفوا حقيقته ولا ذاقوا حلاوته، ثم وعيد المنافقين كافة وبيان موالاتهم للكافرين وما بينهم من التناسب الذي يقتضي اشتراكهم في الوعيد وتحذير المؤمنين منهم فقال :﴿ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ﴾ ذلك بأنه قد تبين من ذبذبتهم بين الإيمان والكفر أنه قد طبع على قلوبهم حتى فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وحقيته ومزاياه، فهم بحسب سنة الله في خلقه لا يرجى لهم أن يهتدوا إلى سبيل من سبله، ولا أن يغفر لهم ما دنس أرواحهم من ذنوبه، وإنما قلنا إن الآية مبينة لسنة الله تعالى في أمثالهم لأن أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا من عباده المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة، وإنما مشيئته مقترنة بحكمته وقد قضت حكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا في نفوسهم، فمن طال عليه أمد التقليد، حجب عقله عن نور الدليل، حتى لا يجد إليه من سبيل، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان، حجب عن أسباب الغفران، وهي التي بينها تعالى في قوله :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ] وقوله حكاية لدعاء الملائكة واستغفارهم للمؤمنين :﴿ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ﴾ [ غافر : ٧ ] وغير ذلك من الآيات.
وقد بينا مرارا أن المغفرة عبارة عن محو أثر الذنب من النفس بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يضاد أثره أثر ذلك الذنب وهو الذي يدل عليه قوله تعالى :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ [ هود : ١١٤ ] والقرآن يفسر بعضه بعضا. ولا تدل الآية على أن هؤلاء إذا آمنوا إيمانا صحيحا لا يقبل منهم بل يقبل قطعا، وقد روي عن قتادة أن المراد بالآية أهل الكتاب آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن ابن زيد ومجاهد أنها نزلت في المنافقين، والأول لا يظهر إلا على قول بعضهم أن كفر اليهود الأول كان باتخاذهم العجل وعبادته والثاني كفرهم بالمسيح والثالث الذي ازدادوا به كفرا وهو كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على أن كثيرا من اليهود قد آمنوا.
وأما القول الثاني فهو يظهر فيمن جهروا بالكفر من المنافقين كما يظهر فيمن يدخلون في الإسلام تقليدا لبعض من يثقون بهم ثم يرجعون إلى الكفر لمثل ذلك لأنهم لم يفهموا حقيقة الإيمان والإسلام وهكذا فعلوا مرة بعد أخرى ثم رأوا أن الكفر ألصق بنفوسهم لطول أنسهم به وانهماكهم فيه.
﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ﴾ الغالب في استعمال البشارة أن تكون في الأخبار لما يسر فهي إذا مأخوذة من انبساط بشرة الوجه كما السرور مأخوذ من انبساط أساريره، وعلى هذا يقولون إن استعمالها فيما يسوء كما هنا يكون من باب التهكم، وقيل إن البشارة تستعمل فيما يسر وفيما يسوء استعمالا حقيقيا لأن أصلها الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه في الانبساط والتمدد، أو الانقباض والتغضن، والأليم الشديد الألم.
ثم وصف هؤلاء المبشرين بقوله :﴿ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ أي الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا متجاوزين ولاية المؤمنين وتاركيها إلى ولايتهم وممالأتهم عليهم لاعتقادهم أن الدولة ستكون لهم فيجعلون لهم يدا عندهم ﴿ أيبتغون عندهم العزة ﴾ استفهام تقريع وتوبيخ. إن كانوا يبتغون عندهم العزة وهي المنعة والغلبة ورفعة القدر ﴿ فإن العزة لله جميعا ﴾ فهو يؤتيها من يشاء فكان عليهم أن يطلبوها منه بصدق الإيمان والسير على سنته تعالى واتباع هداية وحيه الذي يرشدهم إلى طرقها، ويبين أسبابها، وقد آتاها الله نبيه والمؤمنين باهتدائهم بكتابه، وسيرهم على سننه، ولما أعرض المسلمون عن هذه الهداية التي اعتز بها سلفهم ذلوا وساءت حالهم وصار فيهم منافقون يوالون الكفار دونهم يبتغون عندهم العزة والشرف وما هم لهما بمدركين، فعسى الله أن يرفق المسلمين إلى الرجوع إلى تلك الهداية فيعودوا إلى حظيرة ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ [ المنافقون : ٨ ].
﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ قالوا : الخطاب عام لجميع من كان يظهر الإيمان من صادق ومنافق. والذي نزله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى في سورة الأنعام التي نزلت قبل هذه السورة لأنها مكية وهذه السورة مدنية ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ] نزلت هذه في مشركي مكة إذ كانوا يخوضون في الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن، وكان بعض المسلمين يجلسون معهم في هذه الحال ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم، وعدم الجلوس إليهم في هذه الحال. ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون لهم فنهى الله المؤمنين على الإطلاق عن ذلك. ومجموع الآيتين يدل على أن بعض ما كان يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم يراد به أمته ومعنى :﴿ سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ﴾ سمعتم الكلام الذي موضوعه جعل الآيات في موضع السخرية والاستهزاء الذي يراد به التحقير والتنفير، بمجرد السفه وقول الزور.
ويدخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع كما روي عن ابن عباس. قال في " فتح البيان في مقاصد القرآن " : وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى : قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه بكذا. وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا يألوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامه الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل١، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم، كما أوضح الشوكاني ذلك في " القول المفيد " " وأدب الطلب " اه. ويا ليت هؤلاء الذين جعلوا كلام شيوخهم أصلا للدين والكتاب والسنة فرعين أو مهملين يتبعون الأئمة الذين يدعون الانتساب إليهم وهم لا يعرفون هديهم ولا يتبعونهم، وإنما يتبع كل أهل عصر شيوخهم على جهلهم.
﴿ إنكم إذا مثلهم ﴾ هذا تعليل للنهي أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم وشركاء لهم في كفرهم، لأنكم أقررتموهم عليه ورضيتموه لهم، ولا يجتمع الإيمان بالشيء وإقرار الكفر والاستهزاء به. ويؤخذ من الآية : أن إقرار الكفر بالاختيار كفر، ويؤخذ منه : أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر، وهذا منصوص عليه أيضا. وأن إنكار الشيء يمنع فشوه بين من ينكرونه حتما، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان، أو بين الطاعة والعصيان، فإن كثيرا من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات الله ويستهزئون بالدين، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم، لضعف الإيمان والعياذ بالله تعالى.
﴿ إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ﴾ هذا وعيد للفريقين المستهزئين من الكفار ولمقربيهم من المنافقين بأنهم سيجتمعون في العقاب كما اجتمعوا على الإثم وكذا غيرهم من الفريقين.
١ الرأي الفائل: الرأي المخطئ الضعيف..
﴿ الذين يتربصون بكم ﴾ أي الذين ينتظرون بكم أيها المؤمنون ما يحدث من كسر أو نصر، أو خير أو شر، وهذا وصف للمنافقين كقوله في الآية السابقة :﴿ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ ﴿ فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ﴾ هذا تفصيل للتربص أي فإن نصركم الله أو فتح عليكم ادعوا أنهم كانوا معكم وأنهم منكم، يستحقون مشاركتكم في نعمتكم :﴿ وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ﴾ أي وإن كان للكافرين نصيب من الظفر لأن الحرب سجال متّوا إليهم ومنوا عليهم، بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين بتخذيلهم، والتواني في الحرب معهم والاستحواذ يفسرونه بالاستيلاء وهو في الأصل من الحوذ وهو السوق سمي حوذا لأن الحوذي ( السائق ) يضرب حاذيي البعير أو غيره من الدواب، والحاذيان هما جانبا الفخذين من الوراء، والحاذ الظهر ويطلق على جانبيه حاذيين، وهذا الضرب من السوق يستولي به الحوذي على ما يسوقه فصاروا يطلقون الاستحواذ على الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيه فهم يقولون للكفار إننا قد استولينا عليكم، وتمكنا من الإيقاع بكم، ولم نفعل بل منعناكم أي جمعناكم وحفظناكم من المؤمنين.
والنكتة في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب هي إفادة أن العاقبة في القتال للمؤمنين، فهم الذين يكون لهم الفتح والاستيلاء على الأمم الكافرة ولكن الحرب سجال قد يقع في أثنائها نصيب من الظفر للكافرين لا ينتهي إلى أن يكون فتحا يستولون به على المؤمنين، وذلك أن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر في مثل قوله :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٧ ] المقيد بقوله عز وجل :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ﴾ [ محمد : ٨ ] وإنما نصر الله أن يقصد بالحرب حماية الحق وتأييده وإعلاء كلمته ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، وآيته مراعاة سنن الله في أخذ أهبته، وإعداد عدته، التي أرشد إليها كتابه العزيز في مثل قوله :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] وقوله :﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ [ الأنفال : ٤٥ ] وقد بينا غيره مرة كون الإيمان نفسه من أسباب النصر، وأنه يقتضي الاستعداد وأخذ الحذر، وإنما غلب المسلمون في هذه القرون الأخيرة وفتح الكفار بلادهم التي فتحوها هم من قبل بقوة الإيمان، وما يقتضيه من الأعمال، لأنهم ما عادوا يقاتلون لإعلاء كلمة الله وتأييد الحق ونشر الإسلام، ولا عادوا يعدون ما استطاعوا من قوة كما أمرهم القرآن، فهم يستطيعون أن ينشئوا البوارج المدرعة، والمدافع المدمرة، ويتعلموا ما يلزم لها وللحرب من العلوم الرياضية والطبيعية والميكانيكية، وهي فرض عليهم، بمقتضى قواعد دينهم، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد تركوا كل ذلك بل صار أدعياء العلم فيهم، يحرمون ذلك عليهم.
﴿ فالله يحكم بينكم يوم القيامة ﴾ أي يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فهنالك لا تروج دعواهم التي يدعونها عن النصر والفتح إنهم منكم :﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾ أي أن الكافرين لا يكون لهم من حيث هم كافرون سبيلا ما على المؤمنين من حيث هم مؤمنون يقومون بحقوق الإيمان ويتبعون هديه، وكلمة " سبيل " هنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم وقد أخطأ من خصها بالحجة، وسبب هذا التخصيص عدم فهم ما قررناه آنفا من كون النصر مضمونا بوعد الله وسنته للمؤمنين بشرطه الذي أشرنا إليه. وقال بعضهم إن هذا خاص بالآخرة. والصواب أنه عام فلا سبيل للكافرين على المؤمنين مطلقا وما غلب الكافرين المسلمين في الحروب والسياسة وأسبابها العلمية والعملية من حيث هم كافرون، بل من حيث إنهم صاروا أعلم بسنن الله في خلقه وأحكم عملا بها والمسلمون تركوا ذلك كما علمت، فليعتبر بذلك المعتبرون !.
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا١٤٢ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا١٤٣ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا١٤٤ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما١٤٧ ﴾.
اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾ تقدم الكلام في مخادعة المنافقين أول سورة البقرة ولكنني لا أتذكره الآن وأنا أكتب هذا في السفر والجزء الأول من التفسير ليس معي فأراجعه. كانت العرب تسند الخداع إلى الضب كما اشتقت كلمة النفاق من جحره الذي سمي النافقاء، وهو إنما يخدع طالبه بجحره، قيل لأنه يجعل له بابين إذا فوجئ من أحدهما هرب من الآخر، وقيل إنه يعد عقربا فيجعلها في بابه لتلدغ من يدخل يده فيه، ولذلك قيل : العقرب بواب الضب وحاجبه. ومن أمثالهم :" أخدع من ضب " ويقولون : طريق خادع وخيدع. أي مضل كأنه يخدع سالكه فيحسبه موصلا إلى غايته أو قريبا وهو ليس كذلك. والخداع صيغة مشاركة، ومعناه الذي يؤخذ مما ذكرنا من استعمالهم هو إيهامك أن الشيء أو الشخص على ما تحب أو تريد وهو على غير ما تحب وما تريد، كما يوهم جحر الضب من يريد صيده أنه قريب المنال ليس دونه مانع فإذا مد يده إليه لدغته العقرب، فإن لم يكن هنالك عقرب خرج الضب من الباب الآخر ورجع الصائد بخفي حنين، وكما يوهم الطريق الخيدع سالكه فيضل دون الغاية التي يطلبها.
قال الراغب :" الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه قال تعالى :﴿ يخادعون الله ﴾ أي يخادعون رسوله وأولياءه ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث أن معاملة الرسول كمعاملته ولذلك قال :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ] وجعل ذلك خداعا له تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه. وقول أهل اللغة : إن هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أوتي بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين : أحدهما : فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة وإنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله، والثاني : التنبيه على عظم المقصود بالخداع وأن معاملته كمعاملة الله وأعاد هنا الاستشهاد بآية المبايعة.
أقول : فسر مخادعة الله عز وجل بمخادعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأوليائه وهم الصحابة ( رضي الله عنهم ) لأن المعاملة كانت بين المنافقين وبينهم، ولأن المؤمنين بالله لا يقصدون مخادعته، والمعطلين لا يؤمنون بوجوده والمعدوم لا تتوجه النفس إلى معاملته، فإن قيل : إن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم أول سورة البقرة :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾ [ البقرة : ٨ ] وقد عزا إليهم المخادعة هنالك في الآية التي بعد هذه الآية، وذكرت في تفسيرها عن الأستاذ الإمام أنهم صنف ثالث غير المؤمنين والكافرين الذين ذكروا ثمة في آيات أخرى وأن المراد بهم أن إيمانهم بالله على غير الوجه الصحيح فلا يعتد به ومن كان هذا شأنه لا يبعد أن تصدر عنه مخادعة الله تعالى كما يفعل الذين يحتالون على منع الزكاة وأكل الربا بتطبيق حيلهم على أقوال لفقهائهم وهم يعلمون أن هذا مخالف لمراد الله تعالى من إيجاب الزكاة ومنع الربا وهو الرحمة بالفقراء والمساكين ومواساتهم وإعانة سائر أصناف المستحقين للزكاة على الإيمان والبر والخير، وعدم أكل أموال الناس بالباطل. أقول : إن مثل هذا قد يقع من أهل الإيمان التقليدي غير المطابق للحق ولكنهم لا يقصدون به مخادعة الله تعالى قصدا وإنما هو جهل وضلال في معنى المخادعة.
والوجه المعقول للتعبير عن مخادعة الرسول والمؤمنين بمخادعة الله عز وجل هو أنهم يخادعونهم فيما يقيمون به دين الله ويعملون بما أنزل إليهم منه لا في المعاملات الشخصية الدنيوية كالبيع والشراء والمعاشرة فإن المخادعة في مثل هذا قد تكون مباحة أو مكروهة إذا لم يكن فيها غش ولا ضرر والمحرم منها لضرره لا يصل إلى درجة المخادعة في شؤون الإيمان وتبليغ دين الله وإقامة كتابه فيكون من قبيل المخادعة له، وهذا الوجه يتضمن أيضا تعظيم شأن الرسول والمؤمنين في التعبير عن مخادعتهم بمخادعة الله تبارك وتعالى.
وأما قوله تعالى :﴿ وهو خادعهم ﴾ فقد قيل إن معناه يجازيهم على خداعهم وإنه عبر عن ذلك بالمخادعة للمشاكلة كما قال في آية أخرى :﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] وإنما جعلوه من المشاكلة لأن هذا اللفظ كلفظ المكر قد استعمل في التعبير عن المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب غالبا أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه وغلب ذلك فيه. وإلا فإن الخداع قد يكون في الخير، ولأجل حماية الحقيقة وإقامة الحق، وقد أباح الشرع الخداع في الحرب لأن الحرب في الإسلام لا تكون إلا للدفاع عن الملة والأمة، ولحماية الدعوة، وفي الحديث ( الحرب خدعة ) ١ فيجوز أن يعبر عن سنة الله تعالى في عاقبة أمرهم عاجلها وآجلها من حيث إنها تكون على خلاف ما يحبون وما يريدون بلفظ مشتق من الخديعة كأنهم بخداعهم للرسول والمؤمنين يسيرون في طريق خادع يضلون فيه مطلبهم وينتهون إلى الخزي والنكال، من حيث يطلبون السلامة والفلاح، وهذا يلاقي قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ فخداعهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو عين خديعة الله تعالى لهم إذ كانت سنته فيمن يعمل عملهم ما أشرنا إليه آنفا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. ولفظ " خادعهم " اسم فاعل من الثلاثي والذي يسبق إلى ذهني أنه يدل على الغلبة ( وهو ما تضم عين فعله المضارع ) أي وهو تعالى يغلبهم في الخديعة بجعل خداعهم عليهم لا لهم.
هذا شأن المنافقين في كل ملة وأمة، يخادعون ويكذبون، ويكيدون ويغشون، ويتولون أعداء أمتهم، ويتخذون لهم يدا عندهم، يمتون بها إليهم إذا دالت الدولة لهم، وسيأتي في الآية التي بعد هذه بيان ذبذبتهم، ولكن لا يخفى على كل من الأمتين حالهم.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم٢
فهم يهدمون بناء الثقة بهم بأيديهم، وكأين من منافق كانت خيانته لأمته ومساعدة أعدائها عليها سببا لهلاكه بأيدي أولئك الأعداء أنفسهم، وقولهم : لو كان في هذا خير لكان قومه أولى بخيره منا ونحن أعداؤه وأعداؤهم، فإن كان قد خانهم فستكون خيانته لنا أشد. والناس يقرءون أخبار هؤلاء الأشرار في كتب التاريخ ولا يعتبرون، ويكثر هؤلاء المنافقون في طور ضعف الأمة وقوة أعدائها لأنهم طلاب المنافع ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين. وإنما تلتمس المنافع من الأقوياء وإن اقترن التماسها بالعار، والذل والصغار.
﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ﴾ أي متثاقلين لا رغبة تبعثهم ولا نشاط لأنهم لعدم إيمانهم لا يرجون فيها ثوابا في الآخرة، ولا يبتغون بها تربية ملكة مراقبة الله تعالى وحبه والأنس بذكره ومناجاته لتنتهي نفوسهم بذلك عن الفحشاء والمنكر، وتكون أهلا لرضوان الله الأكبر، كما هو شأن المؤمنين الصادقين. وإنما هي عندهم كلفة مستثقلة فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين تركوها. وإذا كانوا معهم سايروهم بالقيام إليها :﴿ يراءون الناس ﴾ بها، أي يبتغون بذلك أن يراهم الناس المؤمنون فيعدوهم منهم، فالكسل التثاقل عما ينبغي النشاط فيه، والمراءاة أن يكون المرء الذي يرائيك بحيث تراه كما يراك فهو فعل مشاركة من الرؤية.
﴿ ولا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ قيل معناه أنهم لا ينطقون إلا بالأذكار الجهرية التي يسمعها الناس كالتكبيرات، وقول :" سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد " عند القيام من الركوع، والسلام وقيل إن المراد بالذكر هنا ذكر النفس، وإنما يقع هذا من المرتابين، دون الجاحدين، وقيل إن المراد به الصلاة أي لا يصلون إلا قليلا وذلك إذا أدركتهم الصلاة وهم مع المؤمنين. وكل هذه الأقوال قريبة، ويجوز أن تراد كلها من اللفظ عند بعض العلماء، ولعل القول الثاني أقواها. هذه حال منافقي الصدر الأول ومنافقوا هذا العجز الأخير شر منهم، لا يقومون إلى الصلاة البتة، ولا يرون للمؤمنين قيمة في دنياهم فيراءوهم فيها، وإنما يقع الرياء بالصلاة من بعضهم إذا صاروا وزراء وحضروا مع السلاطين والأمراء بعض المواسم الدينية الرسمية، وقلما يحضرون معهم غير المواسم المبتدعة كليلة المعراج وليلة النصف من شعبان وليلة المولد النبوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن مباحث اللفظ في الآيتين قولهم إن جملة ﴿ ولا يذكرون الله ﴾ حال من فاعل " يراءون "، وكذا " مذبذبين "، وقيل : إن هذا منصوب على الذم.

١ أخرجه البخاري في الجهاد باب١٥٧، والمناقب باب٢٥، والاستتابة باب٦، ومسلم في الجهاد حديث ١٧، ١٨، والزكاة حديث١٥٣، وأبو داود في الجهاد باب٩٢، والسنة باب٢٨، والترمذي في الجهاد باب٥، وابن ماجة في الجهاد باب٢٨، وأحمد في المسند ١/١٣٤، ١٣١، ١٢٦، ١١٣، ٩٠، ٨١، ٢/٣١٢، ٣١٤، ٣/٣٠٨، ٢٩٧، ٢٢٤، ٦/٤٥٩، ٣٨٧..
٢ البيت من الطويل، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص٣٢، والجنى الداني ص٦١٢، والدرر٤/١٨٤، ٥/٨٢، وشرح شواهد المغني ص٧٤٣، ٧٣٨، ٣٨٦، وشرح قطر الندى ص٣٧، ومغني اللبيب ص٣٣٠، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٣/٥٧٩، ومغني اللبيب ص٣٢٣، وهمع الهوامع ٢/٥٨، ٣٥..
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا١٤٢ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا١٤٣ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا١٤٤ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما١٤٧ ﴾.
اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.
﴿ مذبذبين بين ذلك ﴾ قال الراغب :" الذبذبة حكاية صوت الحركة للشيء المعلق ثم استعير لكل اضطراب وحركة. قال تعالى :﴿ مذبذبين بين ذلك ﴾ أي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين وتارة إلى الكافرين " وقيل بين الكفر والإيمان. ويقوي الأول قوله :﴿ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾ أي لا يخلصون في الانتساب إلى واحد من الفريقين لأنهم يطلبون المنفعة، ولا يدرون لمن تكون العاقبة، فهم يميلون إلى اليمين تارة وإلى الشمال أخرى، فمتى ظهرت الغلبة التامة لأحد الفريقين ادعوا أنهم منه، كما بينه تعالى في الآية التي قبل هاتين الآيتين :﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ أي ومن قضت سنة الله في أخلاق البشر وأعمالهم أن يكون ضالا عن الحق موغلا في الباطل، فلن تجد له أيها الرسول أو أيها السامع سبيلا للهداية برأيك واجتهادك، فإن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول هذا هو معنى إضلال الله تعالى الذي يتفق به نصوص كتابه بعضها مع بعض وتظهر به حكمته في التكليف والجزاء. وليس معناه أنه ينشئ فطرة بعض الناس على الكفر والضلال فيكون مجبورا على ذلك لا عمل له ولا اختيار فيه كعمل المعدة في الهضم، والقلب في دورة الدم، كما توهم من لا عقل له ولا علم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن مباحث اللفظ في الآيتين قولهم إن جملة ﴿ ولا يذكرون الله ﴾ حال من فاعل " يراءون "، وكذا " مذبذبين "، وقيل : إن هذا منصوب على الذم.
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا١٤٢ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا١٤٣ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا١٤٤ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما١٤٧ ﴾.
اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.
﴿ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ فإن هذا من فعل المنافقين، يوالونهم وينصرونهم من دون المؤمنين لأنهم لا يكرهون أن يكون لهم النصر والسلطان، وأن يلحقوا بهم، ويعدوا أنفسهم منهم، ولا يكون هذا من مؤمن. حذر الله تعالى المؤمنين أن يحذو بعض ضعفائهم حذو المنافقين في ولاية الكافرين من دون المؤمنين أي من غير المؤمنين وفي خلاف مصلحتهم، يبتغون عندهم العزة، ويرجون منهم المنفعة، فإنه ربما يخطر في بال صاحب الحاجة منهم أن ذلك لا يضر كما فعل حاطب بن بلتعة١ إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في شأنهم لأن له عندهم أهلا ومالا. فالأولياء جمع ولي من الولاية بكسر الواو وهي النصرة. وأما الولاية بفتح الواو فهي تولي الأمر، وقيل يطلق اللفظان على كلا المعنيين والمراد هنا النصرة بالقول أو الفعل فيما ينافي مصلحة المسلمين. ومثله قوله تعالى في سورة المائدة :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ﴾ [ المائدة : ٥١ ] الخ وإن عم بعض المفسرين في هذه، والله تعالى يقول بعدها ﴿ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة. فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ﴾ [ المائدة : ٥٢ ] وهؤلاء هم المنافقون، فالخوف من إصابة الدائرة، وذكر الفتح وندمهم إذا جعله الله للمؤمنين، مما يدل على أن الولاية هنا ولاية النصرة لليهود والنصارى الذين كانوا حربا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين، فهو لا يشمل من ليسوا كذلك كالذميين إذا استخدمتهم الدولة في أعمالها الحربية أو الإدارية بل لهؤلاء حكم آخر.
ولما كنت في الآستانة سنة ١٣٢٨ أحببت أن أعرف حال التعليم الديني في دار الفنون التي هي المدرسة الجامعة في عاصمة الدولة فلما دخلت الحجرة التي يقرأ فيها التفسير ألفيت المدرس يفسر آية المائدة هذه وعمدته تفسير البيضاوي ( وهو الذي يقرأه أكثر المسلمين في مدارسهم الدينية ) وهو يفسر الآية بعدم الاعتماد على اليهود والنصارى وعدم معاشرتهم معاشرة الأحباب ( وهذا من أغرب أغلاطه ) فلما قرر ذلك المفسر بالتركية قام أحد الطلبة وقال له : إذا كيف جعلتهم دولتنا في مجلسي المبعوثين والأعيان وفي هيئة الوكلاء ؟ ( أي وزراء الدولة ) ففاجأ المدرس الحصر وخرج العرق من جبينه. فإنه إذا قال إن عمل الدولة هذا مخالف لنص القرآن، خاف على نفسه من ديوان الحرب العرفي أن يحكم عليه بالإعدام، ولم يظهر له في الآية غير ما قاله البيضاوي، وهل للمقلد إلا نقل ما يراه في الكتاب ؟ فقلت له أتأذن لي أن أجيب هذا الطالب ؟ قال : نعم.
فقمت واقفا وبينت معنى الولاية وكيف كان حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين مع أهل الكتاب وغيرهم في صدر الإسلام وتحقيق كون الولاية المنهي عنها في الآية هي ولاية النصرة والمعونة لهم وكانوا محاربين، وكون استخدام الذميين منهم في الحكومة الإسلامية لا يدخل في مفهومها بل له أحكام أخرى، والصحابة قد استخدموهم في الدواوين الأميرية والعباسيون جعلوا إسحاق الصابي وزيرا... فاقتنع السائل، وأفرخ روع المدرس، ولما علم بذلك مدير قسم الإلهيات والأدبيات في دار الفنون اتخذه وسيلة لإصدار أمر من ناظر المعارف بقراءة درس التفسير وكذا درس الحديث بالعربية في بعض السنين، وأراد أن يجعل ذلك وسيلة لجعلي مدرسا للتفسير إن أقمت في الآستانة.
﴿ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ﴾ أي أتريدون أن تجعلوا لله عليكم يوم القيامة حجة بينة على استحقاقكم لعذابه إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين، لأن هذا من عمل المنافقين، فالسلطان بمعنى الحجة والبرهان.
وقيل إنه بمعنى السلطة ومعناه أن يسلطهم عليكم بذنوبكم، ولكن وصف السلطان بالمبين أظهر في المعنى الأول. ويستعمل المبين بمعنى البين في نفسه ومعنى المبين لغيره.
١ هو حاطب بن أبي بلتعة ولعل هناك خطأ من الناسخ..
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا١٤٢ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا١٤٣ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا١٤٤ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما١٤٧ ﴾.
اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.
ثم بين تعالى جزاء المنافقين بعد بيان أحوالهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ الدرك ( بسكون الراء وبه قرأ الكوفيون وبفتحها وبه قرأ الباقون ) عبارة عن الطبقة والدرجة من الجانب الأسفل، لأن هذه الطبقات متداركة متتابعة. ودل هذا على أن دار العذاب في الآخرة ذات دركات بعضها أسفل من بعض كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض، نسأل الله أن يجعلنا مع المقربين من أهلها ﴿ أولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى ﴾ [ طه : ٧٦ ].
وإنما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار لأنهم شر أهلها بما جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الله والمؤمنين وغشهم، فأرواحهم أسفل الأرواح، وأنفسهم أخس الأنفس، وأكثر الكفار قد أفسد فطرتهم التقليد، وغلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد، فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره، باتخاذهم شفعاء عنده، ووسطاء بينهم وبينه، قياسا على معاملة ملوكهم المستبدين، وأمرائهم الظالمين، وهم لا يرضون لأنفسهم النفاق في الدين، ومخادعة الله والمؤمنين، والإصرار على الكذب والغش، ومقابلة هذا بوجه وذاك بوجه، فلما كان المنافقون أسفل الناس أرواحا وعقلا كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل من النار :﴿ ولن تجد لهم نصيرا ﴾ ينقذهم من عذابها، أو يرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها.
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا١٤٢ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا١٤٣ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا١٤٤ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما١٤٧ ﴾.
اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.
﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ﴾ استثنى الله تعالى من ذلك الجزاء الشديد الذي أعده للمنافقين من تابوا من النفاق والكفر بالندم على ما كان منهم مع تركه والعزم على عدم مفارقته وعززوا هذه التوبة بثلاثة أمور :
أحدها : الإصلاح وهو إنما يكون بالاجتهاد في أعمال الإيمان التي تغسل ما تلوثت به النفس من أعمال النفاق كالتزام الصدق والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والأمانة التامة، والوفاء، وإقامة الصلاة بالخشوع والحضور، ومراقبة الله تعالى وما أشبه ذلك.
ثانيها : الاعتصام بالله، وهو إنما يكون بالتمسك بكتابه، تخلقا بأخلاقه وتأدبا بآدابه، واعتبارا بمواعظه، ورجاء في وعده، وخوفا من وعيده، وانتهاء عن منهياته، وائتمارا بأوامره، بحسب الاستطاعة، قال تعالى في سورة آل عمران :﴿ واعتصموا بحبل الله ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] وقال في سورة المائدة :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا* فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ﴾ [ النساء : ١٧٥ ] أي اعتصموا بهذا النور الذي أنزل إليهم وهو القرآن المجيد، وهو حبل الله في الآية الأخرى.
ثالثها : إخلاص الدين لله عز وجل بأن يتوجه إليه وحده فلا يدعى من دونه أحد، ولا يدعى معه أحد، لا لكشف ضر ولا لجلب نفع، ولا يتخذ من دونه أولياء يجعلون وسطاء عنده، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة وأعظمها وأهم أركانها الدعاء خالصا له وحده، لا تتوجه فيه النفس إلى غيره ولا يسأل اللسان سواه، ولا يستعان فيما وراء الأسباب العامة بين البشر بمن عداه ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾.
هذا هو أهم ما يقال في إخلاص الدين لله. قال تعالى :﴿ فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون. إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ﴾ [ الزمر : ٣ ].
فالمنافقون في الدرك الأسفل من الهاوية إلا من استثني.
﴿ فأولئك مع المؤمنين ﴾ أي فأولئك التائبون، الذين هم لتلك الأعمال عاملون، يكونون مع المؤمنين لأنهم منهم، يؤمنون إيمانهم ويعملون عملهم، ثم يجزون جزاءهم، وهو ما عظم الله تعالى شأنه بقوله :﴿ وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ﴾ أي سوف يعطيهم في الآخرة أجرا لا يعرف أحد كنهه، ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ [ السجدة : ١٧ ].
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا١٤٢ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا١٤٣ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا١٤٤ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما١٤٧ ﴾.
اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة.
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ﴾ استفهام إنكاري بين الله لنا به أنه سبحانه لا يعذب أحدا من عباده تشفيا منه ولا انتقاما بالمعنى الذي يفهمه الناس من الانتقام بحسب استعمالهم إياه فيما بينهم، وإنما ذلك جزاء كفرهم بنعم الله عليهم بالحواس والعقل والوجدان والجوارح باستعمالها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها إلى تكميل نفوسهم بالعلوم والفضائل والأعمال النافعة وكفرهم بالله تعالى باتخاذ شركاء له : وإن سماهم بعضهم وسطاء وشفعاء. فبكفرهم بالله تعالى وبنعمه عليهم في الآفاق وفي أنفسهم تفسد فطرتهم، وتتدنس أرواحهم، فتهبط بهم في دركات الهاوية ويكونون هم الجانين على أنفسهم. ولو شكروا وآمنوا فطهرت أرواحهم من دنس الشرك والوثنية، وظهرت آثار عقولهم وسائر قواهم بالأعمال الصالحة المصلحة لمعاشهم ومعادهم، لعرجت بهم تلك الأرواح القدسية إلى المقام الكريم، والرضوان الكبير في دار النعيم، وقدم الشكر هنا على الإيمان لأن معرفة النعم والشكر عليها طريق إلى معرفة المنعم والإيمان به.
﴿ وكان الله شاكرا عليما ﴾ يثيب الشاكرين الصالحين المصلحين على حسب علمه بحالهم، لا أنه يعذبهم، بل يعطيهم أكثر مما يستحقون على شكرهم وإيمانهم، قال عز وجل :﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ [ إبراهيم : ٧ ] سمى ثباتهم على الشكر شكرا، وهم إنما يحسنون بشكره إلى أنفسهم، وهو غني عنهم وعن شكرهم وإيمانهم، ولكن قضت حكمته، ومضت سنته، بأن يكون للإيمان الصحيح والأعمال الصالحة أثر صالح في النفس، يترتب عليه الجزاء الحسن والعكس بالعكس، فنسأله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الشاكرين، وأن يشكر لنا ذلك في الدارين، والحمد لله رب العالمين.
تم الجزء الخامس من التفسير وقد نشر في المجلد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من المنار. بدأت بكتابة هذا الجزء وأنا في القسطنطينية سنة ١٣٢٨ ففاتني تصحيح ما طبع منه في أثناء رحلتي تلك. وأتممته في أثناء رحلتي هذا العام ( ١٣٣٠ ) إلى الهند فمنه ما كتبته في البحر وما كتبته في المدن والطرق بالهند، ومنه ما كتبته في مسقط والكويت والعراق، وقد أتممته في المحجر الصحي بين حلب وحماه في أوائل شعبان سنة ثلاثين وثلاث مئة وألف، ونشر آخره في جزء المنار الذي صدر في آخر رمضان، ولم أقف على تصحيح شيء مما كتبته في أثناء هذه الرحلة أيضا. وفي أثناء هذا الجزء انتهت دروس الأستاذ الإمام عليه الرحمة والرضوان. وسنسير في تتمة التفسير إن شاء الله على الطريقة التي أخذناها عنه ونهتدي بهديه فيها إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.
﴿ *لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ( ١٤٨ ) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾.
بينا في تفسير الآيات من أواخر الجزء الماضي موقع هذه الآيات إلى آخر السورة مما قبلها بالإجمال، ولهاتين الآيتين مناسبة مع ما قبلهما وما بعدمها وإن كانتا كالغريبتين في السياق الشارح لأحوال المنافقين والكافرين ومحاجة أهل الكتاب منهم، فإن الله تعالى بين فيه كثيرا من عيوبهم ومفاسدهم، لإقامة الحجة عليهم، وتحذير المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم، فإن الله تعالى يكره لهم ذلك كما قال :﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقسمت قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : ١٦ ]
ثم بين في أثناء ذلك حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه لئلا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك فيهم، وفيه من الضرر ما ترى بيانه فيما يلي.
قال تعالى :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ﴾ ينسب الحب والبغض أو الكره إلى الله تعالى بالمعنى الذي يليق به ويلزم الحب الرضا والإثابة وضده ضدهما، والجهر يقابل السر والإخفاء والكتمان، والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه، كذكر عيوبه ومساويه، والله تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لأن في هذا الجهر مفسدتين كبيرتين : إحداهما : أنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهرون بالسوء ومن ينسب إليهم هذا السوء، وقد تفضي العداوة إلى هضم الحقوق وسفك الدماء، الثانية : أن الجهر بالسوء بذكره على مسامع الناس يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا ضارا، فإن الناس يقتدي بعضهم ببعض فمن سمع إنسانا يذكر آخر بالسوء لكرهه إياه أو استيائه منه يقلده في ذلك القول إذا كان لم يسبق له مثله، ويزداد ضراوة فيه إذا كان قد سبق وقوعه منه، أو يقلد فاعل السوء في عمله، خصوصا إذا كان السامع من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته في الهيئة الاجتماعية، لأن عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات في الخواص لا تلبث أن تفشو في العوام. ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يتجرأ على ارتكابه إذا علم أن له سلفاه وقدوة فيه، وربما لا يتجرأ عليه إذا لم يعلم بذلك، بل يؤثر سماع القول السوء في نفوس خواص الكهول الأخيار، وليس تأثيره مقصورا على العوام والصغار، فسماع السوء كعمل السوء، ذاك يؤثر في نفس السامع، وهذا يؤثر في نفس الناظر، وأقل تأثيره أنه يضعف في النفس استبشاعه واستغرابه ولاسيما إذا تكرر سماع خبره أو النظر إليه.
وإننا نرى علماء التربية يجعلون جميع كتب التعليم غفلا من قول السوء والكلم الخبيث ومن الرفث وأسماء أعضاء التناسل حتى أنهم لا يذكرونها في معاجم اللغة التي يراجع فيها طلاب العلوم والفنون حرصا على أنفسهم أن تعلق بها كلمة خبيثة من كلم السوء تقودها إلى عمل السوء. ورب كلمة خبيثة تفتح لمن تعلق بنفسه بابا من الفساد، لا ينجو من شره أبد الآباد، وفي الحديث ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار ) ١ رواه الترمذي بهذا اللفظ وروي في الصحيحين وغيرهما أيضا.
يجهل كثير من الناس، مبلغ تأثير الكلام في قلوب الناس، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إيه، وما يعقل كنه ذلك إلا العالمون الراسخون. وإن للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى كلمة شعرية في المبالغة في تمثيله للفهم وتقريبه إلى الذهن يعدها البديعي من الإغراق الذي تقتضيه البلاغة في هذا المقام وهي : إنني إذا ألقيت كلمة في مكان خالي من الناس في حندس الليل فإنها تبقى معلقة في الهواء حتى تصادف نفسا مستعدة فتؤثر فيها- أو ما هذا معناه- وقد اتفق لأهل بيت من فضلاء الأمريكانيين أن اهتدوا إلى الإسلام في مصر وصاروا يترددون على الأستاذ الإمام لأخذ أحكام الدين وحكمه عنه. وإنه ليحدثهم يوما وإذا بلسانه وقد فلتت منه كلمة ( اليأس ) وكان في أهل ذلك البيت فتاة ذكية الفوائد فقالت للأستاذ كيف ينطق مثلك في علمه وحكمته بهذه الكلمة وهي من الكلمات ذات المدلولات الضارة ؟ فأعجب الأستاذ بذكائها وفهمها، ووافقها على قولها، وأظن أنه اعتذر عن ذلك بأن أمثال هذه الكلمة مما لا يمكن اجتنابه عند بيان بعض الحقائق بين العلماء الذين كملت تربيتهم، وإنما يتحرى اجتناب ذكرها بقدر الإمكان في خطاب النشء في المدارس والبيوت. وتكلم في تأثير الكلام في كل سامع وذكر كلمته التي نقلنا أنفا، فقالت الفتاة أتأذن لي أن أفسر هذه الجملة الجليلة ؟ قال : نعم، قالت إن العلم بالشيء يكون في نفس الإنسان إجماليا فإذا : تكلم به ولو في المكان الخلو ( أو كتبه ) ينتقل من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل والبيان، ويلزم من ذلك إعادة ذكره على مسامع الناس فيؤثر فيهم على حسب استعدادهم. فقال الأستاذ : أحسنت.
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار كما يعلم من نهيه تعالى عن النجوم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأمره بالتناجي بالبر والتقوى فقط، وإنما خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين في هذا السياق كما علمت. والجهر بالسوء أشد ضررا من الإسرار به لأن ضرره وفساده يفشو في جمهور الناس حتى لا يكاد يسلم منه أحد. وقد قلت يوما للعالم اللغوي الراوية الشهير الشيخ محمد محمود بن التلاميذ الشنقيطي : إنني أنكرت نفسي في مصر فإن كثرة رؤيتي للمنكرات فيها ككشف العورات في الحمامات، وشرب الخمر على أفاريز الطرقات، وكثرة سماعي لقول السوء خفف استشباع ذلك في نفسي وضعف كره أصحابه والنفور منهم فإنني كنت في بلدي ( القلمون المجاورة لطرابلس الشام ) إذا سمعت بأن رجلا ارتكب فاحشة لا أستطيع النظر إليه و لا الحديث معه، فقال الشيخ : وأنا أيضا أنكرت نفسي مثلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فإن قيل ولماذا اخترت ترك وطنك الذي لا ترى ولا تسمع فيه من المنكر وقول السوء ما ترى وتسمع في مصر التي آثرتها عليه ؟ فجوابي : أنني لم أكن أستطيع وأنا في وطني الأول أن أقول الحق ولا أن أكتبه ولا أن أخدم الملة والأمة بما خدمتها به في مصر، وأنا أعتقد أن هذه الخدمة فرض علي، وقد آذتني الحكومة الحميدية عليه في أهلي ومالي وأنا بعيد عن سلطتها، ولو قدرت علي لما اكتفت بمنعي من هذه الخدمة بل لنكلت بي تنكيلا.
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول :﴿ إلا من ظلم ﴾ أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته للحكام أو غير الحاكم ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة الظلم فلا حرج عليه في هذا الجهر ولا يكون خارجا عما يحبه الله تعالى، لأن الله تعالى لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم ويخضعوا للضيم بل يحب لهم أن يكونوا أعزاء أباة، فإذا تعارضت مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم وهو من قول السوء ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوه والاستمرار عليه المؤدي إلى هلاك الأمم وخراب العمران كان أخف الضررين مقاومة الظلم بالجهر بالشكوى منه وبكل الوسائل الممكنة. وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من وقع عليه الظلم للدفاع عن نفسه، وقال بعضهم : إن الجهر بمعنى المجاهر ( من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل ) أي لا يحب الله المجاهرين بالسوء إلا المظلومين منهم إذا هبوا لمقاومة الظلم، ولو بالقول وحده إذا تعذر الفعل.
وقد علم مما قلناه أنفا أن إباحة الجهر بالسوء للمظلوم أو مشروعيته له هو من باب الضرورات لأنه ارتكاب أخف الضررين، والضرورات تقدر بقدرها-كما قال أهل الأصول-فلا يجوز للمظلوم أن يتبع هواه في الاسترسال والتمادي في الجهر بالسوء بما لا دخل له في منع الظلم والتفصي منه وأطر٢ الظالم على الحق والأخذ على يده أو ينتهي عن الظلم، وارجو أن لا يؤاخذه الله بما يحرك به الألم لسانه من غير روية وإن لم يكن شرحا لظلامته، ووسيلة للانتصاف من ظالمه، وفي الحديث المرفوع ( 'إن لصاحب الحق مقالا ) ٣ رواه أحمد وغير.
﴿ وكان الله سميعا عليما ﴾ أي كان السمع والعلم ولا يزالان من صفاته الثابتة فلا يفوته تعالى قول من أقوال من يجهر بالسوء، ولا يعزب عن علمه السبب الباعث له عليه، لأنه لا يخفى عليه شيء ن أقوال العباد ولا من أفعالهم ولا نياتهم فيهما، فمن كان معذورا في الجهر بالسوء الذي لا يحبه الله تعالى لعباده لضرره ومفسدته فيهم بسبب الظلم فإنه تعالى لا يؤاخده ولا يعاقبه على جهره وربما أثابه على ما يقصد من رفع الضيم عن نفسه، وإرجاع الظالم إلى رشده، وإراحة الناس من شره، لأنه إذا لم يؤاخذ على ظلمه إياه يزداد ضراوة فيه وإصرارا عليه، إلا أن يكون من كرام الناس واتقيائهم الذين لا يقع الظلم منهم إلا هفوات.
١ أخرجه البخاري في الرقاق باب٢٣، ومسلم في الزهد حديث ٥٠، والترمذي في الزهد باب ١٠، وابن ماجه في الفتن باب١٢، ومالك في الكلام حديث ٦، وأحمد في المسند ٢٣١/٢، ٢٩٧، ٣٣٤، ٣٥٥، ٤٠٢، ٥٣٣..
٢ الأطر في الأصل عطف الشيء، ومن المجازات، أطرت فلانا على مودتك، وفي الحديث: (حتى تأطروهم على الحق أطرا) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥، باب ٦، ٧، وأبو داود في الملاحم باب ١٧، وابن ماجه في الفتن باب ٢٠، وأحمد في المسند ١/٣٩١..
٣ أخرجه البخاري في الاستقراض باب ٤، والوكالة باب ٦، ومسلم في المساقاة حديث ١٢٠، وأحمد في المسند ٤/٢٦٨، ٤١٦، ٤٥٦..
﴿ *لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ( ١٤٨ ) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( ١٤٩ ) ﴾.
بينا في تفسير الآيات من أواخر الجزء الماضي موقع هذه الآيات إلى آخر السورة مما قبلها بالإجمال، ولهاتين الآيتين مناسبة مع ما قبلهما وما بعدمها وإن كانتا كالغريبتين في السياق الشارح لأحوال المنافقين والكافرين ومحاجة أهل الكتاب منهم، فإن الله تعالى بين فيه كثيرا من عيوبهم ومفاسدهم، لإقامة الحجة عليهم، وتحذير المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم، فإن الله تعالى يكره لهم ذلك كما قال :﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقسمت قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : ١٦ ]
﴿ إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ﴾ لما بين تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول بغير عذر الظلم، بين تعالى حكم إبداء الخير وإخفائه سواء كان قولا أو عملا وحكم العفو عن السوء وعدم مؤاخذة فاعله به، وهو أن فاعلي الخيرات جهرا أو سرا والعافين عن الناس الذين يسيئون إليهم يجزيهم سبحانه وتعالى من جنس عملهم، فيعفو عن سيئاته ويجزل مثوبتهم، وكان شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل، وإذا عفا فإنما يعفو عن قدرة كاملة على العقاب فصيغة المبالغة من القدرة وهي كلمة قدير } هي التي تدل على إجزال المثوبة وعلى الترغيب في العفو مع القدرة على المؤاخذة، وإلا كان وضعها في هذا الموضع غير متفق مع بلاغة القرآن. وإذا قال ملك أو أمير لبعض عبيده أو رجال دولته : إن تعمل كذا من الأعمال المرضية فإن عندي مالا كثيرا، أو بيدي أعلى الأوسمة والرتب، فإن أحدا لا يفهم من هذا القول أنه يريد أن يجزيه على ذلك بدريهمات يرضخ بها له، أو رتبة واطئة يوجهها إليه، أو وسام من الدرجة الدنيا يحليه به، بل يفهم من يعرف اللغة أن هذا الجزاء يكون عظيما. وإنما ذهبنا إلى أن كلمة ( قديرا ) قد أفادت بوضعها هنا الدلالة على عظم الجزاء على العمل الذي رغبت فيه الآية، وعلى استحباب العفو مع القدرة، ولم نقصرها على الأمر الثاني وحده كما فعل بعضهم لأن الأصل في الوعد بالجزاء أن يكون في كل آية أو سياق على جميع ما ذكر فيها من الأعمال وفي هذه الآية ذكر إبداء الخير وإخفائه والعفو عن المسيء فلا يصح أن يكون الوعد خاصا بالأخير منها.
الأصل في الشر أن لا يفعل قولا كان أم عملا إلا لضرورة كالجهر بالسوء ممن ظلم للاستعانة على إزالة الظلم، والأصل في الخير أن يفعل قولا كان أم عملا. وأما المفاضلة بين إبداء الخير وإخفائه فهي تختلف باختلاف العاملين والباعث على العمل وأثر الإبداء والإخفاء له، فمن كان كامل الإيمان عالي الأخلاق لا يخاف على نفسه الرياء لا فرق عنده بين إبداء الخير وإخفائه من جهة نفسه فهو يرجح أحد الأمرين على الآخر بنية صالحة، أو منفعة بينة، ومن ليس كذلك ينبغي أن يرجح الإخفاء حتى لا يكون له هوى فيه. ومن بواعث الإبداء قصد القدوة، ومن بواعث الإخفاء قصد الستر وحفظ كرامة من يوجه إليه الخير كالصدقة على الفقراء المتعففين.
﴿ إن الذين يكفرون بالله رسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ( ١٥٠ ) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( ١٥١ ) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحميا ( ١٥٢ ) ﴾
يبين الله تعالى لنا في هذه الآيات أصلي الإيمان الأولين اللذين يبنى عليهما ما عداهما وكونهما لا يقبل الأول منها بدون الثاني فمن ادعاه فدعواه مردودة، وجزاء الكافر بهما أو بأحدهما، ثم جزاء من أقامهما كما أمر الله أن يقاما.
فقال :﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ﴾ هذا القول منهم تفسير لتفرقتهم بين الله ورسله أي يؤمنون بالله ولا يؤمنون برسله، وهم فريقان منهم من لا يؤمن بأحد من الرسل لإنكارهم الوحي وزعمهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أتوا بما أتوا به من الهدى والشرائع من عند أنفسهم، وأكثر كفار هذا العصر من هذا الفريق، ومنهم من يؤمن ببعض الرسل دون بعض، بل يقولون ذلك بأفواههم ويدعونه بألسنتهم - كقول اليهود : نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد وإن لم يسموهما رسولين- ﴿ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ﴾ أي طريقا بين الإيمان بالله ورسله بفصل أحدهما عن الآخر.
﴿ إن الذين يكفرون بالله رسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ( ١٥٠ ) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( ١٥١ ) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحميا ( ١٥٢ ) ﴾
يبين الله تعالى لنا في هذه الآيات أصلي الإيمان الأولين اللذين يبنى عليهما ما عداهما وكونهما لا يقبل الأول منها بدون الثاني فمن ادعاه فدعواه مردودة، وجزاء الكافر بهما أو بأحدهما، ثم جزاء من أقامهما كما أمر الله أن يقاما.
﴿ أولئك هم الكافرون حقا ﴾ هذا هو الخبر الذي حكم الله تعالى به على أولئك المفرقين بينه وبين رسله أي أولئك المفرقون هم الكافرون الكاملون في الكفر الراسخون فيه، وأكد هذا الحكم بالجملة المعرفة الجزئين المشتملة على ضمير الفصل بينهما، وبقوله :( حقا ) وأي حق يكون أثبت وأصح مما يحقه الله تعالى حقا ؟ ﴿ واعتدنا للكافرين ﴾ منهم ومن غيرهم- وهذه هي نكتة وضع المظهر موضع الضمير إذ قال :( للكافرين ) ولم يقل :( لهم ) - ﴿ عذابا مهينا ﴾ أي ذا إهانة تشملهم فيه المذلة والضعة.
أما سبب هذا الحكم الشديد، وما ترتب عليه من الوعيد، فهو أن من يؤمن بالله أي بأن للعالم خالقا ولا يؤمن بوحيه له من الشكر سبيلا، لا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ولا كيف يزكي نفسه التزكية التي يستحق بها دار كرامته، ولذلك نرى هؤلاء الكافرين بالرسل ماديين لا تهمهم إلا شهواتهم، وأوسعهم علما وأعلاهم تربية من يراعي في أعماله ما يسمونه الشرف باجتناب ما هو مذموم بين الطبقة التي يعيش فيها أو اجتناب إظهاره فقط.
وأما الذين يقولون إنهم يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض كأهل الكتاب فلا يعتد بقولهم ولا يعد ما هم عليه من التعصب لبعضهم وحفظ بعض المأثور عنهم من الأحكام والمواعظ إيمانا صحيحا، وإنما تلك تقاليد اعتادوها، وعصبية جنسية أو سياسية جروا عليها، وإنما الإيمان بالرسالة والمراد منها وصفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم. ومن فهم هذا لا يمكن أن يؤمن بموسى وعيسى ويكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام. فإن صفات الرسالة قد ظهرت في محمد صلى الله عليه وسلم بأكمل مما ظهرت في غيره، والهداية به كانت أكبر من الهداية بمن قبله، وحجته كانت أنهض، وطرق العلم بها أقوى، والشبهة عليها أضعف، فقد نشأ موسى عليه السلام في بيت الملك، ومهد الشرائع والعلم، ونشأ عيسى عليه السلام في أمة ذات شريعة، ودولة ذات علم ومدنية، وبلاد انتشرت فيها كتب الآداب والحكمة، فلا يظهر البرهان على كون ما جاء به كل منهما وحيا إليها لا كسب له فيه كما يظهر البرهان على ما جاء به محمد وهو أمي الذي نشأ بين الأميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون دينهما. وأما جعل النصارى نبيهم إلها في الشكل الذي أظهره فيه الملك قسطنطين الوثني وخلفه من الرومانيين فذلك طور آخر لم يعرفه المسيح وحواريه عليه السلام، وتشكيل لدينهم بشكل من أشكال وثنيتهم السابقة مؤلف من تقاليد وثنيي الهند والصين والمصريين والأوربيين وغيرهم كما بين ذلك علماء أوروبة الأحرار.
﴿ إن الذين يكفرون بالله رسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ( ١٥٠ ) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( ١٥١ ) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحميا ( ١٥٢ ) ﴾
يبين الله تعالى لنا في هذه الآيات أصلي الإيمان الأولين اللذين يبنى عليهما ما عداهما وكونهما لا يقبل الأول منها بدون الثاني فمن ادعاه فدعواه مردودة، وجزاء الكافر بهما أو بأحدهما، ثم جزاء من أقامهما كما أمر الله أن يقاما.
ثم ذكر تعالى مقابل هؤلاء الكفار فقال :﴿ والذين امنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ﴾ في الإيمان وإن كانوا لا يلتزمون العمل إلا بشريعة الأخير منهم، لعلمهم بأنهم كلهم مرسلون من عند الله عز وجل وأن مثلهم كمثل الولاة الذين يرسلهم السلطان إلى البلاد، ومثل الكتب التي جاءوا بها كمثل القوانين التي تصدر الإدارة السلطانية بالعمل بها ( ولا حرج في ضرب الأدنى مثلا للأعلى ) فكل وال يحترم لأنه من قبل السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه وإن كان الأخير ينسخ ما قبله، فالتفرق إما من جهل هذه الحقيقة وهو جهل حقيقة الرسالة والكتب المنزلة، وإما من اتباع الهوى وإيثاره على طاعة الله ورسله. فالمؤمنون الذين يعتد بإيمانهم هم الذين يعرفون حقيقة الرسالة وبها يعرفون الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.
﴿ أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ﴾ لأنهم وقد صح إيمانهم بالله ورسله وكانوا على بصيرة فيه ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) الصحيح إلى العمل الصالح الذي هو أثره ولازمه، ولم يذكر العمل هنا كما هي سنة القرآن العامة في مقام الجزاء لأن السياق هنا في مقابلة الإيمان الصحيح بالله ورسله بلا تفرقة بالكفر التام، ومقابلة وعده للمؤمنين بوعيده للكافرين. ولم يقل في هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال في أولئك إنهم هم الكافرون حقا، لئلا يتوهم متوهم أن كمال الإيمان يوجد وإن لم يترتب عليه لازمه من الهدى والعمل الصالح فيغتر بذلك، وقد وقع الناس في مثل هذا على كثرة ما ينافيه ويرده من آيات القرآن. أما المؤمنون حقا فقد بين الله وصفهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى :{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلب قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [ الأنفال : ٢-٤ ] وتأمل الفرق بين الوعد في هذه الآية الأخيرة من هذه الآيات والوعد في الآية التي نفسرها تجده عظيما فإنه تعالى أثبت لهؤلاء الذين هم المؤمنون حقا الدرجات العلى عند ربهم والرزق الكريم بلام الملك جزاء على ما أثبت لهم من أصل شجرة الإيمان وفروعها، وأما أولئك الذين أثبت لهم الأصل فقط هو الإيمان بالله ورسله بلا تفرقة بينهم فإنما وعدهم بأنه يعطيهم أجورهم أي بحسب حالهم في لعمل. قرأ حفص عن عاصم ويعقوب عن قالون ( يؤتيهم ) في الآية بالياء والباقون بالنون.
﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ غفورا لهفوات من صح إيمانه فلم يشرك بربه شيئا ولم يفرق بين أحد من رسله، رحيما بهم يعاملهم بالإحسان لا بمحض العدل، وقد يختص من شاء بضروب من رحمته التي وسعت كل شيء فلا يشاركهم فيها غيرهم.
تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.
فقال :
﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ﴾ بأن ينزل عليهم منها محررا بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم، أو ينزل باسم جماعتهم، أو أسماء أفراد معينين من أحبارهم، وهم الذين اقترحوا ذلك-أقوال، وقيل أرادوا أن ينزل عليهم كتاب شريعة هذا النبي جملة واحدة كالألواح التي جاء بها موسى. وفي هذا أن اليهود طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم شريعته كلها جملة واحدة هو كالتوراة. والظاهر أن هذا مما كان يغش به اليهود المسلمين، فالمعروف في التوراة التي عندهم أن الذي جاء به موسى من عند الله تعالى جملة واحدة هو الوصايا العشر منقوشة في لوحين جاء بهما في المرة الأولى فلما رآهم قد عبدوا العجل المصنوع من الحلي في غيبته غضب وألقى اللوحين فكسرهما، ثم أمره الله تعالى بأن ينحت لوحين آخرين وكتب له فيهما تلك الوصايا ( راجع الفصل ٢٤ والفصل ٣١ من سفر الخروج ) وأما سائر الأحكام فقد كانت توحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم في أوقات متعاقبة، ولم تنزل عليه مكتوبة جملة واحدة.
يقول الله تعالى يسألك أهل الكتاب هذا على سبيل التعنت والتعجيز ولا بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع، وإن تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره وتستكبر عليهم، ﴿ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ سأله ذلك سلف هؤلاء الذين يسألونك أن تنزل عليهم كتابا من السماء، وإنما الخلف والسلف في الصفات والأخلاق سواء، لأن الأبناء ترث الآباء، والإرث يكون على أشده وأتمه في أمثال هؤلاء اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء، على أن سنة القرآن في مخاطبة الأمم والحكاية عنها معروفة مما تقدم في شأن اليهود كغيرهم. وهو أن الأمة لتكافلها وتوارثها واتباع خلفها لسلفها تعد كالشخص الواحد فينسب إلى المتأخرين منها ما فعله المتقدمون. ويمكن جريان الكلام هنا على طريق الحقيقة بصرف النظر عن هذه السنة. وذلك أن كلا من السؤالين مسند إلى جنس أهل الكتاب وهو لا يقتضي أن يكون الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الأول عين الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الثاني.
إن سؤال هؤلاء القوم رؤية الله تعالى جهرة أكبر وأعظم من سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وكل من السؤالين يدل على جهلهم أو عنادهم، أما سؤال إنزال الكتاب فهو يدل على أحد أمرين : إما أنهم لا يفهمون معنى النبوة والرسالة على كثرة ما ظهر فيهم من الأنبياء والرسل، ولا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين سائر الأمور المستغربة كحيل السحر والشعوذة لمخالفتها للعادة، وقد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق والخير لا بمجرد آية أو أعجوبة يعلمها ( كما نص على ذلك في أول الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع وغيره ) وإما أنهم معاندون يقترحون تعجيزا ومرواغة. وأيا ما قصدوا من هاتين الأمرين فلا فائدة في إجابتهم إلى ما سألوا كما قال تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا أن هذا إلا سحر مبين ﴾ [ الأنعام : ٨ ].
وأما سؤالهم رؤية الله جهرة أي عيانا كما يرى بعضهم بعضا فهو أدل على جهلهم وكفرهم بالله تعالى لأنهم ظنوا أنه جسم محدود تدركه الأبصار، وتحيط به أشعة الأحداق، وقد عوقبوا على جهلهم هذا ﴿ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ﴾ إذ شبهوا ربهم بأنفسهم إلى ما فوق مرتبتها وقدرها ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ [ الزمر : ٢٧ ]. والصاعقة نار جوية، وتشتغل باتحاد الكهرباء الإيجابية بالسلبية، وتقدم تفسير مثل هذا في سورة البقرة ( راجع آية ٥٥ ﴿ وإذ قتلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نر الله جهرة ﴾ في الجزء الأول ) وفيه أن هذه الواقعة معروفة في كتبهم وفيها التعبير بالنار بدل الصاعقة. وربما يظن الظان أنها نار خلقها الله تعالى من العدم. ولكن القرآن بين لنا أنها من الصواعق المعتادة أرسلها الله عليهم عند ظلمهم هذا، ولا يمنع ذلك أن تكون حدثت بأسبابها، والله تعالى يوفق أقدارا لأقدار.
﴿ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ﴾ المثبتة للتوحيد النافية للشرك على يد موسى عليه الصلاة والسلام. وتقدم بيان هذا في تفسير آية ( ٥١-٩٢ ) من سورة البقرة :﴿ فعفونا عن ذلك ﴾ الذنب الذي هو اتخاذ العجل حين تابوا منه تلك التوبة النصوح التي قتلوا بها أنفسهم كما بين الله لنا ذلك في سورة البقرة ( ١ : ٥١-٥٤ ) فراجعه وما قبله في الجزء الأول ﴿ وأتينا موسى سلطانا مبينا ﴾ أي سلطة ظاهرة بما أخضعناهم له على تمردهم وعصيانهم، حتى في قتل أنفسهم.
تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.
﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾ أي بسبب ميثاقهم ليأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين. وقد تقدم هذا أيضا في الجزء الأول في تفسير قوله تعالى :﴿ وإذا أخذنا ميثاقهم ورفعنا فوقكم الطور ﴾ [ البقرة : ٦٣ ] ومنه أن الظاهر أن هذا كان آية من الآيات الكونية لكنه ليس نصا قاطعا فيه بدليل آية الأعراف فراجعه.
﴿ وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ﴾ أي ادخلوا باب القرية أي المدينة خاضعين لله أو مطامني الرؤوس مائلي الأعناق ذلة وانكسارا لعظمة الله كما يقال سجد البعير إذا طأمن رأسه لراكبه، وتقول العرب شجرة ساجدة للرياح إذا كانت مائلة، والسفينة تسجد للرياح أي تطيعها، ذكر ذلك كله في الأساس. قيل تلك القرية بيت القدس وقبل أريحا وقيل غير ذلك وتقدم في الجزء الأول أن المختار السكوت عن تعيينها كما سكت الكتاب العزيز.
﴿ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ﴾ أي لا تتجاوزا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي-وقد بين لنا تعالى في سورة البقرة أن بعضهم اعتدى في السبت، وجاء سورة الأعراف بيان اعتدائهم في السبت بصيد السمك وأن بعضهم انكروا على المعتدين وبعضهم سكتوا، فهم قد خالفوا في السبت وخالفوا في دخول الباب سجدا فلا تستغرب بعد هذا مشاغبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاندتهم.
﴿ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ﴾ أي عهدا مؤكدا ليأخذن التوراة بقوة وجد وليعملن بها وليقيمن حدود الله فيها ولا يعتدونها. وقد أخذ الله على بني إسرائيل عدة موثيق والظاهر أن المراد بهذا الميثاق الغليظ ما ذكرناه من العمل بالتوراة كلهم بقوة واجتهاد. وما يتبع ذلك من البشارة بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهو ما تراه أو ترى بقاياه إلى الآن في الفصل التاسع والعشرين إلى الفصل الثالث والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم. وأما الفصل الأخير وهو الرابع والثلاثون فهو ذكر موت موسى عليه الصلاة والسلام.
افتتح الفصل التاسع والعشرون بهذه الجملة ( ١-هذا كلام العهد الذي أمر الرب موسى بأن يقطعه مع نبي إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي قطعه معهم في حوريب ) وسماه فيه عهدا وقسما، وتوعد على نقصه فيه بأشد الوعيد والغضب وجميع اللعنات والعقوبات ومنها الاستئصال من أرضهم. كما وعد على حفظه بأعظم البركات والخيرات. وكذلك عظم أمره في الفصل الثلاثين والحادي والثلاثين. ومما جاء في آخره ونعتمد بنصه ترجمة اليسوعيين لأنها أفصح قوله :
( ٢٤ ولما فرغ موسى من رقم كلام هذه التوراة بتمامها ٢٥ أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب وقال لهم ٢٦ خذوا سفر هذه التوراة واجعلوه إلى جانب تابوت عهد الرب إلهكم فيكون ثم عليكم شاهدا ٢٧ لأني أعلم تمردكم وقساوة رقابكم فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الرب فكيف بعد موتي ٢٨ اجمعوا إلي شيوخ اسباطكم وعرفاءكم حتى على أتلو على مسامعهم هذا الكلام وأشهد عليهم السماء والأرض ٢٩ فإني أعلم أنكم بعد موتي ستفسدون وتعدلون عن الطريق التي سننتها لكم فيصيبكم الشر في آخر الأيام إذا صنعتم الشر في عيني الرب حيث تسخطونه بأعمال أيديكم ٣٠ وتلا موسى على مسامع كل الجماعة إسرائيل كلام هذا النشيد إلى آخره ).
أما النشيد الذي وثق به العهد عليهم فهو من أول الفصل الثلاثين إلى الجملة ٤٣ منه وأوله ( أنصتي أيتها السماوات فأتكلم وتستمع الأرض لأقوال في ) وبعدها أمره الله بأن يموت وباركه قبل موته بهذه الكلمة وهي آخر وحيه إليه فقال :( ٢ : ٣٣ أقبل الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتجلى من جبل فاران ) ( وترجمة البروتستان- وتلألأ من جبل فاران ) وأتى من ربوات القدس وعن يمينه قبس ( نار ) شريعة لهم وفاران هي مكة كما ذكره في معجم البلدان. وفي الفصل ٢١ من سفر التكوين أن الله أوحى إلى هاجر بأنه سيجعل ولدها إسماعيل ( أمة عظيمة ) وأنه ( ٢١ سكن في برية فاران ) ومن المعلوم بالتواتر أنه سكن في البرية التي بنى بها هو ووالده إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام بيت الله الحرام وبه تكونت مكة. وجبل فاران هو أبو قبيس الذي نزل فيه الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيت الله الحرام وهو في غار حراء. فإذا كان هؤلاء اليهود قد نقضوا عهد الله وميثاقه الغليظ عليهم بحفظ التوراة كما تنبأ عنهم نبيهم عند أخذ الميثاق عليهم، فهل يستغرب منهم تحريف بشارته بعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ومشاقتهما ؟
تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.
قال تعالى :
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ﴾ أي فبسبب نقض أهل الكتاب لميثاقهم الذين واثقهم الله به إذ نكثوا فيه، وأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله، وكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم يره سواهم، وقتلهم الأنبياء الذين بعثوا لهدايتهم، كزكريا ويحيى عليهما السلام، وقولهم قلوبنا غلف، وغير ذلك من سيئاتهم التي يذكر أهم كبائرها في الآيات الآتية- أي بسبب هذا كله فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والغضب وضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال، لأن هذه الذنوب قد مزقت نسيج وحدتهم، وفرقت شمل أمتهم، وذهبت بريحهم وقوتهم، وأفسدت جميع أخلاقهم، فكل ما حل بهم من البلاء، هو أثر ذلك النقض والكفر والعصيان.
فعلم من هذا أن قوله تعالى :﴿ فبما نقضهم ﴾ متعلق بمحذوف يدل عليه ما عرف من حالهم في القرآن، وفي التاريخ والعيان، مثل هذا الحذف كثير في الكلام، و كلمة " ما " الفاصلة بين الباء و قوله :" نقضهم " تفيد التأكيد سواء كانت مزيدة في الإعراب، أو نكرة تامة مجرورة بالباء ونقضهم بدل منها. وقيل إنه متعلق بقوله تعالى في الآية الأتية :﴿ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ [ النساء : ١٦٠ ] كأنه قال فبسبب نقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتلهم الأنبياء وقولهم غلف، وبكفرهم بعد ذلك بعيسى وافترائهم على أمه، وتبجحهم بدعوى قتله، وبظلمهم في غير ذلك من أعمالهم وأحكامهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الخ فيكون قوله تعالى ﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم ﴾ الخ بدلا من قوله تعالى :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم ﴾ ومثل هذا معهود في الكلام إذا طال. ولكن اعتراض هذا من جهة المعنى لا الإعراب. وذلك أن تحريم تلك الطيبات عليهم كان قبل هذه الجرائم التي منها قتل الأنبياء وبهت المسيح ووالدته العذراء، وأن تحريم بعض الطيبات عليهم عقاب قليل لا يقابل هذه الموبقات كلها بل هو قليل على واحدة منها، فهو إنما كان جزاء على ما دون هذه الموبقات من ظلمهم لأنفسهم.
وأما قولهم :( قلوبنا غلف ) فذكر المفسرون فيه وجهين أحدهما : أن ( غلف ) جمع ( أغلف ) وهو الذي غلاف يمنع نفود الشيء إليه. أي أن قلوبهم لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول فهي لا تدركه وهو لا يؤثر فيها. كما حكى الله تعالى عن المشركين :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ [ فصلت : ٥ ] وثانيها : أنه جمع غلاف ( ككتاب وكتب ) وسكنت اللام فيه كما تسكن إلى شيء جديد تستفيده من الرسول أو من غيره.
وقد رد الله تعالى عليهم هذا الزعم بقوله :﴿ بل طبع الله عليهم بكفرهم ﴾ أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع بل طبع الله عليها بكفرهم أي كان كفرهم شديدا وما له من الأثر القبيح في الأخلاقهم وأعمالهم سببا للطبع على قلوبهم أي جعلها كالسكة المطبوعة ( الدراهم مثلا ) في قساوتها وتكيفها بطبعة خاصة لا تقبل غيرها من النقوش، فهم بجمودهم على ذلك الكفر التقليدي ولوازمه لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، ولا يتأملون فيه تأمل الإخلاص والاستبصار، وإنما النظر والتأمل من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم، ويصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر لم يؤمن، ﴿ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ من الإيمان كإيمانهم بموسى والتوراة وهو إيمان لا يعتد به، لأنه-على ضعفه في نفسه- تفريق بين الله ورسله، ( وتقدم بيان هذا ) أو إلا قليلا منهم- كعبد الله بن سلام وأصحابه-وكذلك كان.
تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.
﴿ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ﴾ هذا معطوف على قوله تعالى :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم ﴾ الخ والمراد بالكفر هنا كما يظهر من القرينة الكفر بعيسى ولذلك عطف عليه بهت أمه ( عليهما السلام ) وهو قذفها بالفاحشة. والبهتان الكذب الذي يبهت من يقال فيه أي يدهشه ويحيره لبعده عنه وغرابته عنده. يقال قال فلان البهتان وقول البهتان، وقال الزور، وفي الحديث الكبائر ( ألا وقول الزور ) ١ ( ألا وشهادة الزور ) ٢ كما يقال في مقابله قال الحق ( قوله الحق ) ووصف البهتان بالعظيم، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية النقية أعظم من هذا ؟ أي فهذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله ولعنته. ومن توابعه ما بينه بقوله عطفا على ما قبله.
١ أخرجه البخاري في العلم باب ٣٠، والترمذي في البيوت باب ٣، وأحمد في المسند ٢/٤٥٢، ٥٠٥، ٣/٢٣٣، ٥/٢٩١..
٢ أخرجه أبو داود في الأقضية باب ١٥، وابن ماجه في الأحكام باب ٣٢، وأحمد في المسند٤/١٧٨، ٢٣٣، ٣٢١، ٥/٣٦، ٣٨..
تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ﴾ أي وبسبب قولهم هذا فإنه قول يؤذن بمنتهى الجرأة على الباطل، والضراوة بارتكاب الجرائم، واستهزاء بآيات الله ورسله. ووصفه هنا بصفة الرسالة للإيذان بتهكمهم به عليه السلام واستهزائهم بدعوته. وهو أن أناجيلهم ناطقة بأنه كان موحدا لله تعالى مدعيا للرسالة كقوله في رواية إنجيل يوحنا ( ٣ : ١٧ وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته ) ويجوز أن يكون قوله :( رسول الله ) منصوبا على المدح أو الاختصاص للإشارة إلى فظاعة عملهم، ودرجة جهلهم وشناعة زعمهم.
﴿ وما قتلوه وما صلبوه ﴾ أي الحال أنهم ما قتلوه كما زعموا تبجحا بالجريمة وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ أي وقع لهم الشبهة أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وإنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا ﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ﴾ أي وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره أي في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض. فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم، هذا إذا كان-كما يقول المنطق- لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والذين يتبعون الظن في أمرهم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل. والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك، وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر، قال الركاض الدبيري :
يشك عليك الأمر ما دام مقبلا وتعرف ما فيه إذا هو أدبرا١
فجعل المعرفة في مقابلة الشك. وقال ابن الأحمر :
وأشياء مما يعطف المرء ذا النهى تشك علي فما أستبينها ٢
وفي لسان العرب أن الشك ضد اليقين. فهو إذا يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق، وهو ما ترجح أحد طرفيه. فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب أم غيره ؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول إنه هو، وبعضهم يقول إنه غيره، وما لأحد منها علم يقيني بذلك وإنما يتبعن الظن. وقوله تعالى :﴿ إلا اتباع الظن ﴾ استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له. وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن المسيح قال لتلاميذه ( كلكم تشكون في هذه الليلة ) أي التي يطلب فيها للقتل ( متى ٢٦ : ٣١ ومرقس ١٣ : ٢٧ ).
فإذا كانت أناجيلهم لا تزال ناطقة بأنه أخبر أن تلاميذه وأعرف الناس به يشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا فهل يستغرب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره، وقد قصته رواية تاريخية منقطعة الإسناد ؟
﴿ وما قتلوه يقينا ﴾ أي وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة. وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه. وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الأسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح لأنه ألقى عليه شبهه. فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية. وقيل إن الضمير في قوله تعالى :﴿ وما قتلوه يقينا ﴾ للعلم الذي نفاه عنهم، والمعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن وما قتلوا العلم يقينا وتثبتا به بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها. يقال قتلت علما وخبرا-كما في الأساس- إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب. وروي عن ابن عباس أنه راجع إلى الظن الذي يتبعونه، قال :" وما قتلوه يقينا " رواه ابن جرير، أي أنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح والحكم التي توصل إلى العلم. وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة، كجمع المسيح لحوارييه ( أو تلاميذه ) وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم، وقوله لبعضهم أنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له. ولكن بعضهم قال أن شبهه ألقى على من دلهم عليه، وبعضهم قال بل ألقى شبهه على جميع ما كانوا معه، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه. والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أيدي مريدي قتله فقتلوا آخر ظانين أنه هو.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في مباحث تتعلق بمسألة الصلب
إن مسألة الصلب من المساءل التاريخية التي لها نظائر وأشباه كثيرة، فقد كان الملوك والحكام يقتلون ويصلبون، وناهيك بالرومانيين وقسواتهم، واليهود وعصبيتهم، وقد قتل هؤلاء غير واحد من أنبيائهم أشهرهم زكريا ويحيى عليهما السلام. والفائدة في إثبات التاريخ لمثل هذه الوقائع لا تعدو العبرة بأخلاق الأمة ودرجة ضلالها وهدايتها وسيرة الحكام فيها. وقد كان اليهود في عصر المسيح تحت سلطان الروم ( الرومانيين ) والحاكم الروماني في بيت المقدس في ذلكم العهد ( ببلاطيس ) لم يكن يريد قتل المسيح، ولم يحفل بوشاية اليهود وسعايتهم فيه، ولا خاف أن يكون ملكا يزيل سلطان الروم عن قومه، هكذا تقول النصارى في كتبها، وإنما كانت اليهود تريد قتله عليه السلام لما دعا إليه من الإصلاح الذي يزحزحهم عن تقاليدهم المادية، لأنهم بقتل زكريا ويحيى قد أصيبوا بالضراوة بسفك دماء النبيين والمصلحين، فسواء صح خبر دعوى قتل عيسى وصلبه أم لم يصح، فلا صحته تفيدنا عبرة بحال أولئك القوم لم تكن معروفة، ولا عدمها ينقص من معرفتنا بأخلاقهم وتاريخ زمنهم.
نعم إن مسألة الصلب ليست في ذاتها بالأمر الذي يهتم بإثباته أو نفيه في كتاب الله عز وجل بأكثر من إثبات قتل اليهود النبيين بغير حق وتقريعهم على ذلك، لولا أن النصارى جعلوها أساس العقائد وأصل الدين، فمن فاته الإيمان بها فهو في الآخرة من الهالكين، ومن آمن بها على الوجه الذي يقولونه ويدعون إليه كان هو الناجي الفائز بملكوت السماء مع المسيح والرسل والقديسين. لأجل هذا كبر عليهم نفي القرآن العظيم لقتل المسيح وصلبه، وهم يوردون في ذلك الشبهات على القرآن والإسلام. لهذا رأينا أن نبين عقيدة الصلب عندهم، وشبهاتهم على نفيها مع الجواب عنها، وما يتعلق بذلك من المباحث المهمة.
عقيدة النصارى في المسيح والصلب
نرى دعاة النصارى في بلادنا قد جعلوا قاعدة دعوتهم وأساسها عقيدة صلب المسيح فداء عن البشر، فهذه العقيدة عندهم هي أصل الدين وأساسه والتثليث يليها. لأن أصل الدين وأساسه هو الذي يدعى إليه أولا، ويجعل ما عداه تابعا له. ولذلك كان التوحيد هو الأصل والأساس لدعوة الإسلام، ويليه الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واليوم الآخر، وكان أول شيء دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) ودعا أهل الكتاب في كتبه إلى الإسلام بقوله عز وجل :﴿ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ [ آل عمران : ٦٣ ] وبهذا أمره الله تعالى. فكان يكتفي في دعوته الأولى لمشركي العرب بتوحيد الألوهية لأن شركهم إنما كان في الألوهية بعبادة غير الله تعالى وهي اتخاذ أولياء يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، بواسطتهم يدفع الله عنهم الضر ويسوق إليهم الخير كما كانوا يزعمون. وأما المشركون أهل الكتاب فكان قد طرأ على توحيدهم مثل هذا الشرك في الألوهية باتخاذ غيره من حواريه وغيرهم آلهة بالوساطة والشفاعة، وطرد عليه فوق ذلك الشرك في الربوبية بإتباعهم لأحبارهم ورهبانهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم. فدعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى توحيد الألوهية والربوبية معا. فلولا أن عقيدة الصلب والفداء هي أصل هذه الديانة النصرانية عند أهلها لما كانوا يبدءون بالدعوة إليها قبل كل شيء.
أما تقرير هذه العقيدة كما سمعنا من بعض دعاة البروتستانت في بعض المجامع العامة التي يعقدونها للدعوة في مدارسهم، وفي المجالس الخاصة التي اتفق لنا حضورها مع بعضهم، فهي أن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها صار هو و جميع أفراده ذريته خطاة مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي- ثم إن جميع ذريته جاؤوا خطاة مذنبين فكانوا مستحقين للعقاب أيضا بذنوبهم كما أنهم مستحقون له بذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة جميعا طرأ عليه ( سبحانه تعالى عن ذلك ) مشكل منذ عصى آدم. وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته فلا يكون رحيما ! ! وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله فلا يكون عادلا ! ! فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة ! ! فلم يهتد إلى ذلك سبيلا إلا منذ ألف وتسع مئة واثنتي عشرة سنة بالنسبة إلى سنتنا هذه ( سبحانه سبحانه ) وذلك بأن يحل ابنه تعالى الذي هو هو نفسه في بطن امرأة من ذرية آدم ويتحد بجنين في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث هو ابنها وإلها كاملا من حيث هو ابن الله – وابن الله هو الله- ويكون معصوما من جميع معاصي بني آدم، ثم بعد أن يعيش زمنا معهم يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، ويتلذذ كما يتلذذون ويتألم كما يتألون، يسخر أعداءه لقتله أفظع قتله، وهي الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي، فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر وخلاصهم من خطاياهم فقط بل لخطايا كل العالم أيضا ﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ].
كنت مرة مارا بشارع محمد علي في القاهرة وأنا قريب عهد بالهجرة إليها فرأيت رجلا واقفا على باب المدرسية الإنكليزية فيه يدعو كل من مر أمامه : تفضلوا تعالوا اسمعوا كلام الله. ولما خصني بالدعوة أجبت فدخلت فإذا بناس على مقاعد من الخشب في رحبة المدرسة، فلما كثر الجمع قام أحد دعاة النصرانية فألقى نحو ما تقدم آنفا من العقيدة الصليبية. وبعد فراغه وحثه الناس على الأخذ بما قاله والإيمان به، ودعواه أن لا خلاص لهم بدونه، قمت فقلت إذا كنتم قد دعوتمونا إلى هذ المكان لتبلغونا هذه الدعوة شفقة علينا ورحمة بنا، فأذنوا لي أن أبين لكم موقعها من نفسي، فأذن لي القس بالكلام فوقفت في موقف الخطابة وأوردت عليهم ما يترتب على هذه الدعوة من العقائد الباطلة والقضايا المتناقضة التي سأبينها هنا، وطلبت الجواب عنها، فكان الجواب أن هذا المكان خاص بالوعظ والكرازة دون الجدال، فإن كنت تريد الجدال والمناظرة فموضعهما المكتبة الإنكليزية، فلما سمع المسلمون الحاضرون هذا الجواب صاحوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصرفوا. أما ما يؤخذ من هذه العقيدة وما يترتب عليها فدونكه بالاختصار :
ما يرد على عقيدة الصلب

١-
لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما، وفي كل صنعه حكيما، لأنها تستلزم الجهل والبدء على الباري عز وجل، كأنه حين خلق آدم ما كان يعلم ما يكون عليه أمره، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه، حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته، وواقعا في ورطة التناقض بينهما، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم أن لا يتفق مع العقل، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب، ويقول آمنت به وإن لم يدركه، ولم تذعن له نفسه، ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية ( سفر التكوين ) هذه الجملة ( ٦ : ٦ فندم الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه ( تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا ).

٢-
يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم ما يحيله كل عقل مستقبل من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبه الذرة إليها وإلى سمواتها التي ترى منها، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة فيصلبوه مع اللصوص ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله ( تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا ).

٣-
تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكير فيه ألوفا من السنين فلم يتم له ذلك الشيء، وذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب، فإنهم يقولون إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة وهم لم يؤمنوا بها-لنا أن نقول إنه لم يؤمن بها أحد قط لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك، والذين يقولون إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تقليدا لمن لقنهم ذلك. فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا، نقول إن أكثر البشر لا يقولونه بل يردونه بالدلائل العقلية، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية، ومن دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية، ومنم من لم يعلموا بهذه القصة، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى. فإذا عذبهم الله تعالى في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته-كما تدعى النصارى- لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة ؟

٤-
يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق ( تعالى وتقدس ) عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب-على ما زعموا- لا يصدر من عادل ولا من رحيم بالأحرى. فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم، أو يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا ؟ ؟

٥-
إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة ينجو من عذاب الآخرة كيفما كانت أخلاقه وأعماله، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ويفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من أهل الملكوت الأعلى لا يعذب على شروره وخطيئاته ولا يجازى عليها بشيء. فله أن يفعل في هذه الدنيا ما يشاء هواه، وهو آمن من عذاب الله، -وناهيك بهذا مفسدا للبشر- وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبين فما مزية هذه العقيدة ؟ وإذا كان له امتياز عند الله تعالى في نفس الجزاء فأين العدل الإلهي ؟

٦-
ما رأينا أحدا من العقلاء ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه، ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، وترى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو ويقولون إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة.
الجزاء والخلاص في الإسلام
يتوهم دعاة النصرانية من القياس على مذهبهم ومن الخرفات التي سرت إلى بعض عامة المسلمين أن الإسلام مبني على أن النجاة في الآخرة والسعادة الأبدية فيها إنما تكون ما يسمونه الفداء في عقيدة الصلب، وأن الفرق بين الإسلام والنصرانية إنما هو في الفادي، فهم يقولون إنه المسيح ونحن نقول إنه محمد ( عليهما الصلاة والسلام ) ولذلك يشككون عوام المسلمون في دينهم، بما يكتبون من سفسطة الجدل في صحفهم وكتبهم، وما يقولون في المجالس والمجامع بألسنتهم، ومداره على قولهم إن المسيح لم يخطئ قط وأن نبينا قد أذنب. والمذنب لا يستطيع أن ينقد من هو مثله من تبعة ذنبه، وإنما يستطيع ذلك من لم يذنب.
أما نحن المسلمين فلا نرد عليهم هذا بتخطئة هذه القاعدة فقط، ولا بتعجيزهم في إثبات دعواهم أن المسيح لم يقترف خطيئة بالدليل الع


١ البيت من الطويل، وهو للركاض الدبيري في أساس البلاغة (شكك)..
٢ البيت من الطويل، وهو لابن أحمر في أساس البلاغة، وليس في ديوانه..
تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.
وأما قوله تعالى :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾ فقد سبق نظيره في سورة آل عمران وذلك قوله تعالى :﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ] روي عن ابن عباس تفسير التوفي هنا بالإماتة كما هو الظاهر المتبادر وعن ابن جريح تفسيرها بأصل معناها وهو الأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله الذي اصطفاه وقربه إليه. قال ابن جرير بسنده عن ابن جريج ( فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا ) أي ليس المراد الرفع إلى السماء لا بالروح والجسد ولا بالروح فقط. وعلى أن القول أن التوفي إماتة لا يظهر للرفع معنى إلا رفع الروح. والمشهور بين المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء ويستدلون على هذا الحديث المعراج إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآه هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية : ولو كان هذا يدل على أنه رفع بروحه وجسده إلى السماء لدل أيضا على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء في سائر السماوات، ولم يقل بهذا أحد.
وذكر الرازي أن المشبهة يستدلون بالآية على إثبات المكان لله تعالى وذكر للرد عليهم وجوها منها : أن المراد ( برافعك إلي ) إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعا للتفخيم والتعظيم ومثله قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾ [ الصافات : ٩٩ ] وإنما ذهب من العراق إلى الشام ومنها : أن المراد إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه غير الله.
وقد فسرنا آية آل عمران في الجزء الثالث وذكرنا ما قاله الأستاذ الإمام فيها وفي مسألة نزول عيسى في آخر الزمان كما ورد في الأحاديث. وقد أنكر بعض الباحثين ما أوردناه في ذلك وهو يحتاج إلى تمحيص وبيان ليس التفسير بمحل له لأن القرآن لم يثبت لنا هذه المسألة.
﴿ وكان الله عليم حكيما ﴾ فبعزته وهي كونه يقهر ولا يقهر، ويغلب ولا يغلب، أنقذ عبده ورسوله عيسى عليه السلام من اليهود الماكرين، والروم الحاكمين وبحكمته جزى كل عامل بعمله، فأحل باليهود ما أحل بهم وسيوفيهم جزاءهم في الآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في مباحث تتعلق بمسألة الصلب
إن مسألة الصلب من المساءل التاريخية التي لها نظائر وأشباه كثيرة، فقد كان الملوك والحكام يقتلون ويصلبون، وناهيك بالرومانيين وقسواتهم، واليهود وعصبيتهم، وقد قتل هؤلاء غير واحد من أنبيائهم أشهرهم زكريا ويحيى عليهما السلام. والفائدة في إثبات التاريخ لمثل هذه الوقائع لا تعدو العبرة بأخلاق الأمة ودرجة ضلالها وهدايتها وسيرة الحكام فيها. وقد كان اليهود في عصر المسيح تحت سلطان الروم ( الرومانيين ) والحاكم الروماني في بيت المقدس في ذلكم العهد ( ببلاطيس ) لم يكن يريد قتل المسيح، ولم يحفل بوشاية اليهود وسعايتهم فيه، ولا خاف أن يكون ملكا يزيل سلطان الروم عن قومه، هكذا تقول النصارى في كتبها، وإنما كانت اليهود تريد قتله عليه السلام لما دعا إليه من الإصلاح الذي يزحزحهم عن تقاليدهم المادية، لأنهم بقتل زكريا ويحيى قد أصيبوا بالضراوة بسفك دماء النبيين والمصلحين، فسواء صح خبر دعوى قتل عيسى وصلبه أم لم يصح، فلا صحته تفيدنا عبرة بحال أولئك القوم لم تكن معروفة، ولا عدمها ينقص من معرفتنا بأخلاقهم وتاريخ زمنهم.
نعم إن مسألة الصلب ليست في ذاتها بالأمر الذي يهتم بإثباته أو نفيه في كتاب الله عز وجل بأكثر من إثبات قتل اليهود النبيين بغير حق وتقريعهم على ذلك، لولا أن النصارى جعلوها أساس العقائد وأصل الدين، فمن فاته الإيمان بها فهو في الآخرة من الهالكين، ومن آمن بها على الوجه الذي يقولونه ويدعون إليه كان هو الناجي الفائز بملكوت السماء مع المسيح والرسل والقديسين. لأجل هذا كبر عليهم نفي القرآن العظيم لقتل المسيح وصلبه، وهم يوردون في ذلك الشبهات على القرآن والإسلام. لهذا رأينا أن نبين عقيدة الصلب عندهم، وشبهاتهم على نفيها مع الجواب عنها، وما يتعلق بذلك من المباحث المهمة.
عقيدة النصارى في المسيح والصلب
نرى دعاة النصارى في بلادنا قد جعلوا قاعدة دعوتهم وأساسها عقيدة صلب المسيح فداء عن البشر، فهذه العقيدة عندهم هي أصل الدين وأساسه والتثليث يليها. لأن أصل الدين وأساسه هو الذي يدعى إليه أولا، ويجعل ما عداه تابعا له. ولذلك كان التوحيد هو الأصل والأساس لدعوة الإسلام، ويليه الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واليوم الآخر، وكان أول شيء دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) ودعا أهل الكتاب في كتبه إلى الإسلام بقوله عز وجل :﴿ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ [ آل عمران : ٦٣ ] وبهذا أمره الله تعالى. فكان يكتفي في دعوته الأولى لمشركي العرب بتوحيد الألوهية لأن شركهم إنما كان في الألوهية بعبادة غير الله تعالى وهي اتخاذ أولياء يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، بواسطتهم يدفع الله عنهم الضر ويسوق إليهم الخير كما كانوا يزعمون. وأما المشركون أهل الكتاب فكان قد طرأ على توحيدهم مثل هذا الشرك في الألوهية باتخاذ غيره من حواريه وغيرهم آلهة بالوساطة والشفاعة، وطرد عليه فوق ذلك الشرك في الربوبية بإتباعهم لأحبارهم ورهبانهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم. فدعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى توحيد الألوهية والربوبية معا. فلولا أن عقيدة الصلب والفداء هي أصل هذه الديانة النصرانية عند أهلها لما كانوا يبدءون بالدعوة إليها قبل كل شيء.
أما تقرير هذه العقيدة كما سمعنا من بعض دعاة البروتستانت في بعض المجامع العامة التي يعقدونها للدعوة في مدارسهم، وفي المجالس الخاصة التي اتفق لنا حضورها مع بعضهم، فهي أن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها صار هو و جميع أفراده ذريته خطاة مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي- ثم إن جميع ذريته جاؤوا خطاة مذنبين فكانوا مستحقين للعقاب أيضا بذنوبهم كما أنهم مستحقون له بذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة جميعا طرأ عليه ( سبحانه تعالى عن ذلك ) مشكل منذ عصى آدم. وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته فلا يكون رحيما ! ! وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله فلا يكون عادلا ! ! فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة ! ! فلم يهتد إلى ذلك سبيلا إلا منذ ألف وتسع مئة واثنتي عشرة سنة بالنسبة إلى سنتنا هذه ( سبحانه سبحانه ) وذلك بأن يحل ابنه تعالى الذي هو هو نفسه في بطن امرأة من ذرية آدم ويتحد بجنين في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث هو ابنها وإلها كاملا من حيث هو ابن الله – وابن الله هو الله- ويكون معصوما من جميع معاصي بني آدم، ثم بعد أن يعيش زمنا معهم يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، ويتلذذ كما يتلذذون ويتألم كما يتألون، يسخر أعداءه لقتله أفظع قتله، وهي الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي، فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر وخلاصهم من خطاياهم فقط بل لخطايا كل العالم أيضا ﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ].
كنت مرة مارا بشارع محمد علي في القاهرة وأنا قريب عهد بالهجرة إليها فرأيت رجلا واقفا على باب المدرسية الإنكليزية فيه يدعو كل من مر أمامه : تفضلوا تعالوا اسمعوا كلام الله. ولما خصني بالدعوة أجبت فدخلت فإذا بناس على مقاعد من الخشب في رحبة المدرسة، فلما كثر الجمع قام أحد دعاة النصرانية فألقى نحو ما تقدم آنفا من العقيدة الصليبية. وبعد فراغه وحثه الناس على الأخذ بما قاله والإيمان به، ودعواه أن لا خلاص لهم بدونه، قمت فقلت إذا كنتم قد دعوتمونا إلى هذ المكان لتبلغونا هذه الدعوة شفقة علينا ورحمة بنا، فأذنوا لي أن أبين لكم موقعها من نفسي، فأذن لي القس بالكلام فوقفت في موقف الخطابة وأوردت عليهم ما يترتب على هذه الدعوة من العقائد الباطلة والقضايا المتناقضة التي سأبينها هنا، وطلبت الجواب عنها، فكان الجواب أن هذا المكان خاص بالوعظ والكرازة دون الجدال، فإن كنت تريد الجدال والمناظرة فموضعهما المكتبة الإنكليزية، فلما سمع المسلمون الحاضرون هذا الجواب صاحوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصرفوا. أما ما يؤخذ من هذه العقيدة وما يترتب عليها فدونكه بالاختصار :
ما يرد على عقيدة الصلب

١-
لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما، وفي كل صنعه حكيما، لأنها تستلزم الجهل والبدء على الباري عز وجل، كأنه حين خلق آدم ما كان يعلم ما يكون عليه أمره، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه، حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته، وواقعا في ورطة التناقض بينهما، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم أن لا يتفق مع العقل، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب، ويقول آمنت به وإن لم يدركه، ولم تذعن له نفسه، ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية ( سفر التكوين ) هذه الجملة ( ٦ : ٦ فندم الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه ( تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا ).

٢-
يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم ما يحيله كل عقل مستقبل من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبه الذرة إليها وإلى سمواتها التي ترى منها، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة فيصلبوه مع اللصوص ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله ( تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا ).

٣-
تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكير فيه ألوفا من السنين فلم يتم له ذلك الشيء، وذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب، فإنهم يقولون إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة وهم لم يؤمنوا بها-لنا أن نقول إنه لم يؤمن بها أحد قط لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك، والذين يقولون إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تقليدا لمن لقنهم ذلك. فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا، نقول إن أكثر البشر لا يقولونه بل يردونه بالدلائل العقلية، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية، ومن دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية، ومنم من لم يعلموا بهذه القصة، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى. فإذا عذبهم الله تعالى في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته-كما تدعى النصارى- لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة ؟

٤-
يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق ( تعالى وتقدس ) عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب-على ما زعموا- لا يصدر من عادل ولا من رحيم بالأحرى. فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم، أو يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا ؟ ؟

٥-
إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة ينجو من عذاب الآخرة كيفما كانت أخلاقه وأعماله، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ويفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من أهل الملكوت الأعلى لا يعذب على شروره وخطيئاته ولا يجازى عليها بشيء. فله أن يفعل في هذه الدنيا ما يشاء هواه، وهو آمن من عذاب الله، -وناهيك بهذا مفسدا للبشر- وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبين فما مزية هذه العقيدة ؟ وإذا كان له امتياز عند الله تعالى في نفس الجزاء فأين العدل الإلهي ؟

٦-
ما رأينا أحدا من العقلاء ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه، ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، وترى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو ويقولون إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة.
الجزاء والخلاص في الإسلام
يتوهم دعاة النصرانية من القياس على مذهبهم ومن الخرفات التي سرت إلى بعض عامة المسلمين أن الإسلام مبني على أن النجاة في الآخرة والسعادة الأبدية فيها إنما تكون ما يسمونه الفداء في عقيدة الصلب، وأن الفرق بين الإسلام والنصرانية إنما هو في الفادي، فهم يقولون إنه المسيح ونحن نقول إنه محمد ( عليهما الصلاة والسلام ) ولذلك يشككون عوام المسلمون في دينهم، بما يكتبون من سفسطة الجدل في صحفهم وكتبهم، وما يقولون في المجالس والمجامع بألسنتهم، ومداره على قولهم إن المسيح لم يخطئ قط وأن نبينا قد أذنب. والمذنب لا يستطيع أن ينقد من هو مثله من تبعة ذنبه، وإنما يستطيع ذلك من لم يذنب.
أما نحن المسلمين فلا نرد عليهم هذا بتخطئة هذه القاعدة فقط، ولا بتعجيزهم في إثبات دعواهم أن المسيح لم يقترف خطيئة بالدليل الع

تقدم في الآيات التي قبل هذه بيان حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بينه تعالى وبين رسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وهم أهل الكتاب الذين جعلوا الدين رياسة وعصبية، لا هداية إلهية، ثم بين هذه الآيات بعض أحوال الإسرائليين منهم في تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين.
﴿ وإن من أهل الكتاب ﴾ أي وما من أهل الكتاب أحد ﴿ إلا ليؤمنن به ﴾ أي ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا وهو أنه عبد الله ورسوله وآيته للناس ﴿ قبل موته ﴾ أي قبل موت ذلك الأحد الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. وحاصل المعنى أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وغيره من أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيمانا صحيحا، فاليهودي يعلم أنه رسول صادق غير دعي ولا كذاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله فلا هو إله ولا ابن الله.
﴿ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ﴾ يشهد عليهم، بما تظهر به حقيقة أمره معهم، ومنه ما حكاه عنه في آخر سورة المائدة ﴿ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ﴾ [ المائدة : ١١٧ ] وقد يشهد للمؤمن منهم في حال الاختبار والتكليف بإيمانه، وعلى الكافر بكفره، لأنه مبعوث إليهم وكل نبي شهيد على قومه كما قال تعالى :﴿ فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ [ النساء : ٤٢ ] وذهب بعضهم إلى أن المراد أن كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى قبل موت عيسى وهذا مبني على القول تعالى :﴿ إني متوفيك ورافعك إلي ﴾ وهم على هذا يحتاجون إلى تأويل النفي العام هنا بتخصيصه بمن يكون منهم حيا عند نزوله فيقولون : المعنى وما من أحد من أهل الكتاب الذين ينزل المسيح من السماء إلى الأرض وهم أحياء إلا ليؤمنن به ويتبعنه. والمتبادر من الآية المعنى الأول وهذا التخصيص لا دليل عليه وهو مبين على شيء لا نص عليه في القرآن حتى يكون قرينة له. والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسرة للآية.
أما المعنى الأول الذي هو الظاهر المتبادر من النظم البليغ فيؤيده ما ورد من اطلاع الناس قبل موتهم من الآخرة ومن كونهم يبشرون برضوان الله وكرامته أو بعذابه وعقوبته. ففي حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وأن الكافر إذا حضر الموت ( بضم الحاء أي حضره الموت ) بشر بعذاب الله وعقوبته. وروى أحمد والنسائي من حديث أنس وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت وعن عائشة زيادة في حديث ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) ١ الذي في الصحيحين وغيرهما وهي أنهم قالوا يا رسول الله كلنا نكره الموت فقال :( ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب لقاءه. وأن الفاجر إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه )٢ وروى ابن مردويه وابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس ( ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار ) وروى عن ابن أبي الدنيا عن رجل لم يسم عن علي مرفوعا. فهذه الأحاديث تؤيد ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير الآية من كون الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح، مع الإنكار الشديد والتقبيح، ومما يؤيد هذه الحقيقة النص في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق. ولها دلائل أخرى كالأحاديث الواردة في عدم قبول التوبة عند الغرغرة٣ والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في مباحث تتعلق بمسألة الصلب
إن مسألة الصلب من المساءل التاريخية التي لها نظائر وأشباه كثيرة، فقد كان الملوك والحكام يقتلون ويصلبون، وناهيك بالرومانيين وقسواتهم، واليهود وعصبيتهم، وقد قتل هؤلاء غير واحد من أنبيائهم أشهرهم زكريا ويحيى عليهما السلام. والفائدة في إثبات التاريخ لمثل هذه الوقائع لا تعدو العبرة بأخلاق الأمة ودرجة ضلالها وهدايتها وسيرة الحكام فيها. وقد كان اليهود في عصر المسيح تحت سلطان الروم ( الرومانيين ) والحاكم الروماني في بيت المقدس في ذلكم العهد ( ببلاطيس ) لم يكن يريد قتل المسيح، ولم يحفل بوشاية اليهود وسعايتهم فيه، ولا خاف أن يكون ملكا يزيل سلطان الروم عن قومه، هكذا تقول النصارى في كتبها، وإنما كانت اليهود تريد قتله عليه السلام لما دعا إليه من الإصلاح الذي يزحزحهم عن تقاليدهم المادية، لأنهم بقتل زكريا ويحيى قد أصيبوا بالضراوة بسفك دماء النبيين والمصلحين، فسواء صح خبر دعوى قتل عيسى وصلبه أم لم يصح، فلا صحته تفيدنا عبرة بحال أولئك القوم لم تكن معروفة، ولا عدمها ينقص من معرفتنا بأخلاقهم وتاريخ زمنهم.
نعم إن مسألة الصلب ليست في ذاتها بالأمر الذي يهتم بإثباته أو نفيه في كتاب الله عز وجل بأكثر من إثبات قتل اليهود النبيين بغير حق وتقريعهم على ذلك، لولا أن النصارى جعلوها أساس العقائد وأصل الدين، فمن فاته الإيمان بها فهو في الآخرة من الهالكين، ومن آمن بها على الوجه الذي يقولونه ويدعون إليه كان هو الناجي الفائز بملكوت السماء مع المسيح والرسل والقديسين. لأجل هذا كبر عليهم نفي القرآن العظيم لقتل المسيح وصلبه، وهم يوردون في ذلك الشبهات على القرآن والإسلام. لهذا رأينا أن نبين عقيدة الصلب عندهم، وشبهاتهم على نفيها مع الجواب عنها، وما يتعلق بذلك من المباحث المهمة.
عقيدة النصارى في المسيح والصلب
نرى دعاة النصارى في بلادنا قد جعلوا قاعدة دعوتهم وأساسها عقيدة صلب المسيح فداء عن البشر، فهذه العقيدة عندهم هي أصل الدين وأساسه والتثليث يليها. لأن أصل الدين وأساسه هو الذي يدعى إليه أولا، ويجعل ما عداه تابعا له. ولذلك كان التوحيد هو الأصل والأساس لدعوة الإسلام، ويليه الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واليوم الآخر، وكان أول شيء دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) ودعا أهل الكتاب في كتبه إلى الإسلام بقوله عز وجل :﴿ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ [ آل عمران : ٦٣ ] وبهذا أمره الله تعالى. فكان يكتفي في دعوته الأولى لمشركي العرب بتوحيد الألوهية لأن شركهم إنما كان في الألوهية بعبادة غير الله تعالى وهي اتخاذ أولياء يقربونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، بواسطتهم يدفع الله عنهم الضر ويسوق إليهم الخير كما كانوا يزعمون. وأما المشركون أهل الكتاب فكان قد طرأ على توحيدهم مثل هذا الشرك في الألوهية باتخاذ غيره من حواريه وغيرهم آلهة بالوساطة والشفاعة، وطرد عليه فوق ذلك الشرك في الربوبية بإتباعهم لأحبارهم ورهبانهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم. فدعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى توحيد الألوهية والربوبية معا. فلولا أن عقيدة الصلب والفداء هي أصل هذه الديانة النصرانية عند أهلها لما كانوا يبدءون بالدعوة إليها قبل كل شيء.
أما تقرير هذه العقيدة كما سمعنا من بعض دعاة البروتستانت في بعض المجامع العامة التي يعقدونها للدعوة في مدارسهم، وفي المجالس الخاصة التي اتفق لنا حضورها مع بعضهم، فهي أن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها صار هو و جميع أفراده ذريته خطاة مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي- ثم إن جميع ذريته جاؤوا خطاة مذنبين فكانوا مستحقين للعقاب أيضا بذنوبهم كما أنهم مستحقون له بذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم. ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة جميعا طرأ عليه ( سبحانه تعالى عن ذلك ) مشكل منذ عصى آدم. وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته فلا يكون رحيما ! ! وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله فلا يكون عادلا ! ! فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة ! ! فلم يهتد إلى ذلك سبيلا إلا منذ ألف وتسع مئة واثنتي عشرة سنة بالنسبة إلى سنتنا هذه ( سبحانه سبحانه ) وذلك بأن يحل ابنه تعالى الذي هو هو نفسه في بطن امرأة من ذرية آدم ويتحد بجنين في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث هو ابنها وإلها كاملا من حيث هو ابن الله – وابن الله هو الله- ويكون معصوما من جميع معاصي بني آدم، ثم بعد أن يعيش زمنا معهم يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، ويتلذذ كما يتلذذون ويتألم كما يتألون، يسخر أعداءه لقتله أفظع قتله، وهي الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي، فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر وخلاصهم من خطاياهم فقط بل لخطايا كل العالم أيضا ﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ].
كنت مرة مارا بشارع محمد علي في القاهرة وأنا قريب عهد بالهجرة إليها فرأيت رجلا واقفا على باب المدرسية الإنكليزية فيه يدعو كل من مر أمامه : تفضلوا تعالوا اسمعوا كلام الله. ولما خصني بالدعوة أجبت فدخلت فإذا بناس على مقاعد من الخشب في رحبة المدرسة، فلما كثر الجمع قام أحد دعاة النصرانية فألقى نحو ما تقدم آنفا من العقيدة الصليبية. وبعد فراغه وحثه الناس على الأخذ بما قاله والإيمان به، ودعواه أن لا خلاص لهم بدونه، قمت فقلت إذا كنتم قد دعوتمونا إلى هذ المكان لتبلغونا هذه الدعوة شفقة علينا ورحمة بنا، فأذنوا لي أن أبين لكم موقعها من نفسي، فأذن لي القس بالكلام فوقفت في موقف الخطابة وأوردت عليهم ما يترتب على هذه الدعوة من العقائد الباطلة والقضايا المتناقضة التي سأبينها هنا، وطلبت الجواب عنها، فكان الجواب أن هذا المكان خاص بالوعظ والكرازة دون الجدال، فإن كنت تريد الجدال والمناظرة فموضعهما المكتبة الإنكليزية، فلما سمع المسلمون الحاضرون هذا الجواب صاحوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصرفوا. أما ما يؤخذ من هذه العقيدة وما يترتب عليها فدونكه بالاختصار :
ما يرد على عقيدة الصلب

١-
لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما، وفي كل صنعه حكيما، لأنها تستلزم الجهل والبدء على الباري عز وجل، كأنه حين خلق آدم ما كان يعلم ما يكون عليه أمره، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه، حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته، وواقعا في ورطة التناقض بينهما، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم أن لا يتفق مع العقل، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب، ويقول آمنت به وإن لم يدركه، ولم تذعن له نفسه، ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية ( سفر التكوين ) هذه الجملة ( ٦ : ٦ فندم الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه ( تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا ).

٢-
يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم ما يحيله كل عقل مستقبل من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبه الذرة إليها وإلى سمواتها التي ترى منها، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة فيصلبوه مع اللصوص ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله ( تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا ).

٣-
تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكير فيه ألوفا من السنين فلم يتم له ذلك الشيء، وذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب، فإنهم يقولون إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة وهم لم يؤمنوا بها-لنا أن نقول إنه لم يؤمن بها أحد قط لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك، والذين يقولون إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تقليدا لمن لقنهم ذلك. فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا، نقول إن أكثر البشر لا يقولونه بل يردونه بالدلائل العقلية، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية، ومن دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية، ومنم من لم يعلموا بهذه القصة، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى. فإذا عذبهم الله تعالى في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته-كما تدعى النصارى- لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة ؟

٤-
يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق ( تعالى وتقدس ) عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب-على ما زعموا- لا يصدر من عادل ولا من رحيم بالأحرى. فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم، أو يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا ؟ ؟

٥-
إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة ينجو من عذاب الآخرة كيفما كانت أخلاقه وأعماله، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ويفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من أهل الملكوت الأعلى لا يعذب على شروره وخطيئاته ولا يجازى عليها بشيء. فله أن يفعل في هذه الدنيا ما يشاء هواه، وهو آمن من عذاب الله، -وناهيك بهذا مفسدا للبشر- وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبين فما مزية هذه العقيدة ؟ وإذا كان له امتياز عند الله تعالى في نفس الجزاء فأين العدل الإلهي ؟

٦-
ما رأينا أحدا من العقلاء ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه، ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، وترى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو ويقولون إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة.
الجزاء والخلاص في الإسلام
يتوهم دعاة النصرانية من القياس على مذهبهم ومن الخرفات التي سرت إلى بعض عامة المسلمين أن الإسلام مبني على أن النجاة في الآخرة والسعادة الأبدية فيها إنما تكون ما يسمونه الفداء في عقيدة الصلب، وأن الفرق بين الإسلام والنصرانية إنما هو في الفادي، فهم يقولون إنه المسيح ونحن نقول إنه محمد ( عليهما الصلاة والسلام ) ولذلك يشككون عوام المسلمون في دينهم، بما يكتبون من سفسطة الجدل في صحفهم وكتبهم، وما يقولون في المجالس والمجامع بألسنتهم، ومداره على قولهم إن المسيح لم يخطئ قط وأن نبينا قد أذنب. والمذنب لا يستطيع أن ينقد من هو مثله من تبعة ذنبه، وإنما يستطيع ذلك من لم يذنب.
أما نحن المسلمين فلا نرد عليهم هذا بتخطئة هذه القاعدة فقط، ولا بتعجيزهم في إثبات دعواهم أن المسيح لم يقترف خطيئة بالدليل الع


١ أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤١، ومسلم في الذكر حديث ١٤-١٨، والترمذي في الزهد باب ٧، والنسائي في الجنائز باب ١٠، وابن ماجه في الزهد باب ٣١، والدارمي في الرقاق باب ٤٣، وأحمد في المسند ٢/٤٢٠، ٣/١٠٧، ٣١٦، ٦/٤٤، ٥٥، ٢٠٧، ٢١٨، ٢٣٦..
٢ راجع الترخيم السابق..
٣ لفظ الحديث:(إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٩٨، وابن ماجه في الزهد باب ٣٠، وأحمد في المسند ٢/١٣٢، ١٥٣، ٣/٤٢٥..
﴿ فَبظلم منَ الَّذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ( ١٦٠ ) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ( ١٦١ ) لكن الراسخون في العلم منهم المؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوات والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيماً ( ١٦٢ ) ﴾
بين الله في الآيات السابقة ما كان من اليهود من نقض العهد والكفر وقتل الأنبياء... ثم بين في هذه الآيات جزاءهم على ما دون ذلك من سيئاتهم فقال :﴿ فَبظلم منَ الَّذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ أي فإذا كان هؤلاء اليهود قد استحقوا بظلم ما ظلموا به أنفسهم أن نحرم عليهم طيبات كانت أحلت لهم ولمن قبلهم، فحرمناها عليهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، فكيف لا يستحقون أكبر الخزي والنكال في الدنيا والآخرة بنقضهم ميثاق ربهم، وقتلهم لأنبيائه ورسله، وكفرهم بالمسيح وبهتهم لأمه، وتبجحهم بدعوى قتله وصلبه ؟ فتعليل تحريم الطيبات عليهم بظلم مبهم منهم، وبما ذكر بعده من المعاصي عطفا عليه زائدا عنه أو بيانا له يدل على العقاب العظيم والخزي الكبير الذي يستحقونه على نقض الميثاق الأكبر وما عطف عليه من الكفر والموبقات، وهو المتعلق المحذوف لقوله تعالى :( فبما نقضهم ميثاقهم ) الخ فهو قد حذف ذلك المتعلق، ثم ذكر عقابهم في الدنيا على ما دون ذلك وهو تحريم بعض الطيبات عليهم، فعلم منه أن ذلك المتعلق المحذوف يشمل كل ما أصابهم في الدنيا من الخزي والنكال وفقد الاستقلال، وختم الآيات بذكر عذابهم في الآخرة.
أما الطيبات التي حرمها الله عليهم فهي مبينة بقوله عز وجل :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ [ الأنعام : ١٤٧ ] الآية هكذا ذهب بعض المفسرين. وتوقف بعضهم فلم يجزم بتعيين ما حرم عليهم، ولم يعرف ما نكره الكتاب. وفي الفصل الحادي عشر من سفر الأوليين ( الأحبار ) تفصيل ما حرم عليهم في التوراة من حيوانات البر والبحر وهي كثيرة جدا. وكانت قد أحلت لهم بقاعدة كون الأصل في الأشياء الحل بإحلالها لسلفهم كما ورد في قوله تعالى :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ﴾ [ آل عمران : ٩٣ ] فليراجع تفسير هذه الآية في أول جزء التفسير الرابع. وتقديم ( فبظلم ) على ( حرمنا ) يفيد الحصر أي حرم عليهم ذلك بسبب الظلم لا بسبب آخر. وقد أبهم ما حرم عليهم هنا لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة لا بيانه في نفسه، كما أبهم ما حرم عليهم هنا لأن الغرض من السياق العبرة بكونه عقوبة لا بيانه في نفسه، كما أبهم الظلم الذي كان سببا له، ليعلم القارئ والسامع أن أي نوع من الظلم يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة، هذا إذا لم يكن ما عطف عليه بيانا له، والعقاب قسمان : دنيوي وأخروي، ولكل منها أقسام سيأتي بسطها. ومن الدنيوي التكاليف الشرعية الشاقة في زمن التشريع، والجزاء الوارد فيها على الجرائم من حد أو تعزيز، وما اقتضته سنن الله تعالى في نظام الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها، واستيلاء أمة أخرى على ملكها.
وأما قوله تعالى :﴿ وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ﴾ فهو عطف على قوله، ( فبظلم ) وقد أشرنا آنفا إلى احتمال أنه هو وما عطف عليه مبين له أي للظلم، وهو حينئذ لا ينافي الحصر، لأن العطف على المعمول المتقدم على عامله ينافي الحصر إذا كان المعطوف مغاير له، وأما إذا كان مبينا له فهو عينه. ويجوز أن يكون عطف مغايرة وأن يكون تقديم ذكر الظلم للاهتمام ببيان قبح قليله وكثيره واقتضائه العقاب لا للحصر. وقيل إن بصدهم متعلق بمحذوف، أي بسبب صدهم على سبيل الله الخ شددنا عليهم في أحكام التكاليف أخرى كالبقرة التي أمروا بذبحها في حادثة القتيل التي تقدمت في الجزء الأول. وعلى الأول يكون من البيان والتفصيل بعد الإبهام والإجمال، وهو أوقع في النفس، وأبلغ في العبرة والموعظة.
والصدود والصد يستعمل لازما ومتعديا ومعناه المنع. أي صدودهم أنفسهم عن سبيل الله مرارا كثيرة بما كانوا يعصون موسى عليه السلام ويعاندونه، أو صدهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقال بعض المفسرين إن المراد صدهم الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأوقعوا أنفسهم بهذا التفسير في الإشكال وحار بعضهم في الخروج منه، ونسوا أنهم كانوا في غنى عن الدخول فيه، حتى عد بعضهم الآية من أكبر المشكلات، لأن تحريم تلك الطيبات على بني إسرائيل كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يكون الصد عن الإيمان به سببا لها والسبب يجب أن يكون قبل المسبب ؟ ويتفصى بعضهم من الإشكال بجعل هذا الصد متعلقا بفعل محذوف كما تقدم. وتساءل بعضهم : من حرم ذلك عليهم ومتى كان ؟ وبمثل هذه الأفهام الضعيفة وتقليد بعضهم لبعض يولدون لنا شبها على القرآن وأصل الدين، ينقلها الكافرون به عنهم ويطعنون بها في بلاغته وبيانه، والصواب ما جرينا عليه أولا وأن صدهم عن سبيل هو إعراضهم عن هداية دينهم غواية وإغواء. وذلك مفصل في كتبهم الدينية.
﴿ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ﴾ أي بسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم ولكن التوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم، ومن إخوتهم دون الأجانب ففي سفر الخروج ( ٢٢ : ٢٥ إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي، لا تضعوا عليه ربا ) وفي سفر الاويين ( الأحبار ) ( ٣٥ : ٢٥ ) وإذا افتقر أخوك وقصرت يده عندك فاعضده غريبا أو مستوطنا فيعيش معك ٣٦ لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة بل اخش الهك فيعيش أخوك معك ٣٧ فضتك لا تعطه بالربا وطعامك لا تعطه بالمرابحة ) وفي سفر تثنيه الاشتراع ( ١٩ : ٢٣ لا تقرض أخاك بالربا، ربا فضة أو ربا شيء ما مما يقرض بربا ٢٠ للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا ).
ونحن لا نسلم أن هذا هو نص التوراة التي كتبها موسى عليه السلام لأن نسخة موسى فقدت بإجماع اليهود والنصارى، وهذه التي عندهم قد كتبت بعد السبي وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة. والظاهر أن عبارة ( للأجنبي تقرض بربا ) قد أخذها الذي كتب التوراة عزرا أو غيره من مفهوم الأخ لأنه كتب ما حفظ منها بالمعنى. وهذا من مفهوم المخالفة الذي لا يحتج به جمهور علماء الأصول إذا كان مفهوم لقب. على أن بعض أنبيائهم قد أطلقوا ذم الربا والنهي عنه إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل ولا بإخواتهم كقول داود عليه السلام في المزمور الخامس عشر ( وهو الرابع عشر في نسخة الجزويت ) ( فضته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة من البريء ) وكقول سليمان عليه السلام في سفر الأمثال ( ٨ : ٢٨ ) المكثر ماله بالربا والمرابحة فلمن يرحم الفقراء يجمعه ) وقول حزقيال مما أوحاه إليه الرب في صفات البارّ ( ٧ : ١٨ بذل خبره للجوعان وكسا العريان ثوبا ٨ ولم يعط بالربا ولم يأخذ مرابحة ) وشريعة هؤلاء الأنبياء هي التوراة فلا بد أن يكونوا أخذوا إطلاق تحريم الربا منها.
﴿ وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾ كالرشوة والخيانة وغير ذلك ١ فإن من أخذ من مال آخر شيئا بغير مقابل، فقد أكله بالباطل، وإنما يعتد بالمقابل إذا كنت تملكه، ولا يجب عليك بذله بغير عوض٢.
ثم بين تعالى جزاءهم في الآخرة على هذه الذنوب بعد بيان بعض جزائها في الدنيا ﴿ واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ﴾ عذاب النار المؤلم أعتده الله أي هيأه للذين كفروا منهم بأي رسول من رسله ولاسيما عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهم الذين بين الله حالهم في السياق وغيره.
١ راجع تفسير (ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) في الجزء الثالث من التفسير..
٢ راجع تفسير (ولا تأكلون أموالكم بينكم بالباطل) في الجزاء الثاني من التفسير..
لما أطلق القول في هذا السياق ببيان سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم، وكان ذلك يوهم أن ما ذكر عنهم عام مستغرق لجميع أفرادهم، جاء الاستدراك عقبه في بيان حال خيارهم، الذين لم يذهب عمى التقليد ببصيرتهم، وهو﴿ لكن الراسخون في العلم منهم ﴾ أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين من اليهود، الآخذون فيه بالدليل دون التقليد، الراسخون أي الثابتون فيه ثبات الأطواد، بحيث لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه ﴿ والمؤمنون ﴾ من عامتهم أو من أمتك أيها الرسول إيمان إذعان يبعث على العمل، لا إيمان دعوى وعصبية وجدل، كما هو المعروف عن المقلدة في كل الملل، كل منهم ﴿ يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ أيها الرسول من البينات والهدى في القرآن ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم السلام، لا يفرقون بين الله ورسله بالهوى والعصبية. روى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أنه قال في هذه الجملة : استثنى الله منهم فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم وما أنزل على الله يؤمنون به ويصدقون به، ويعلمون أنه الحق من ربهم. وروى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه قال في الآية : نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا.
وما جرينا عليه من جعل ما تقدم جملة تامة ظاهر يسيغه الفهم بغير غصة، ولا يعترض الذهن فيه شبهة ولا كبوة، واختار بعضهم أن جملة ( يؤمنون ) الخ حالية أو معترضة لا خبرية وأن الخبر هو جملة ( أولئك سنؤتيهم ) في آخر الآية. وقد راجعت تفسير الرازي بعد كتابة ما تقدم فإذا هو يجزم بأن ( الراسخون ) مبتدأ خبره ويؤمنون، وإذا هو يفسر الراسخين بالمستدلين وعلل ذلك بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة، وأورد في قوله :( والمؤمنون ) وجهين : أحدهما : أنهم المؤمنون منهم. والثاني : أنهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار، وهذا أظهر وإلا قال :( لكن الراسخون في العلم والمؤمنون منهم ) الخ والمعنى أن الراسخين في العلم منهم هم ومؤمنوا المهاجرين والأنصار سواء في كونهم يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إلى من قبله من الرسل صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرقون بينهم.
وأما قوله تعالى :﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ فهو جملة مستقلة، و ( المقيمين ) فيه منصوب على الاختصاص أو المدح على ما قاله النحاة البصريون سيبويه وغيره والتقدير : أعني أو وأخص المقيمين الصلاة منهم الذين يؤدونها على وجه الكمال، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان. والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هنا ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة وكون إقامتها آية كمال الإيمان. على أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى التأمل فيها، ويهدي الفكر إلى استخراج مزيتها، وهو من أركان البلاغة، ونظيره في النطق أن يغير المتكلم جرس صوته وكيفية آدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها، كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها. وقد عد مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصح الكلام وأبلغه. وقيل إن المقيمين معطوف على المجرور قبله. والمعنى يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك على الرسل، وبالمقيمين الصلاة، وهم الأنبياء أنفسهم فإن الله تعالى قال في الأنبياء :﴿ وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة ﴾ [ الأنبياء : ٧٣ ] أي إقامتها، أو الملائكة فإنه تعالى حكى عنهم قولهم :﴿ وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ﴾ [ الصافات : ١٦٥، ١٦٦ ] ووصفهم بقوله :﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ﴾ [ الأنبياء : ٢٠ ] والإيمان بهم من أركان الإيمان كالإيمان بالرسل.
وما ذكرناه أولا أبلغ عبارة، وإن عده الجاهل أو المتجاهل غلطا أو لحنا، وروي أن الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود مرفوعة ( والمقيمون الصلاة ) فإن صح ذلك عنه وعمن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءة وإلا فهي كالعدم. وروي عن عثمان أنه قال إن في كتابة المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، وقد ضعف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع فالصواب أنها موضوعة، ولو صحت لما صح أن يعد ما هنا من ذلك اللحن لأنه فصيح بليغ. وإنني بعد كتابة ما تقدم راجعت الكشاف فإذا هو يقول : نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظره في الكتاب ( أي كتاب سيبويه ) ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين.... كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم، اه.
﴿ والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ يجوز أن يكون هذا عطفا على ( الراسخون ) وعلى ضمير ( يؤمنون بما أنزل إليك ) وأن يكون مبتدأ خبره محذوف. أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. أو كذلك، أي مثل أولئك المؤمنين أو مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع، وإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس، فإن الذي يقيم الصلاة لا يمكن أن يمنع الزكاة لأن الصلاة تعلي همته وتزكي نفسه فيهون عليه ماله، وقد قال تعالى :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا*وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين ﴾ [ المعارج : ٢١ : ١٩ ] الخ.
وقد يرد هاهنا سؤال وهو أن من سنة القرآن أن يذكر الإيمان بالله قبل العمل الصالح سواء ذكر الإيمان غفلا مطلقا أو ذكرت أركانه كلها أو بعضها كقوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ﴾ [ الكهف : ١٠٧ ] ومثلها كثير وكقوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله باليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ [ البقرة : ٦٢ ] والجواب أن القاعدة الأساسية في التقديم والتأخير هي أن يقدم الأهم الذي يقتضيه السياق لا الأهم في ذاته. ولذلك قال تعالى في سياق تخطئة المفاخرين بدينهم بالأماني ﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ [ النساء : ١٢٤ ] بعد ما قال في الآية التي قبلها ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. من يعمل سوءا يجز به ﴾ [ النساء : ١٢٣ ] فالسياق لبيان أن العبرة بالعمل بالدين لا بالانتماء إليه وإلى الرسول الذي جاء به والفخر بذلك، فقدم ذكر العمل على الإيمان. والسياق الذي نحن فيه هو بيان أحوال أهل الكتاب في عصر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فكان المهم أولا بيان إيمان خيارهم بما أنزل إليه كإيمانهم بما أنزل إلى أنبيائهم من قبله، ثم كون هذا الإيمان إذعانيا يترتب عليه العمل، واكتفى منه بأعلى أنواع العبادات البدنية والمالية. ثم ختم الكلام، بوصفهم بأول صفات الكمال، أي بالإيمان بالله واليوم الآخر، ويجوز أن يراد بالمؤمنين هنا المهاجرين والأنصار وبالمؤمنين في أول الآية المؤمنون من أهل الكتاب.
﴿ أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر كله سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يدرك كنهه في الدنيا أحد منهم.
لا يزال الكلام في أهل الكتاب عامة، وكان أول هذا السياق أنهم يفرقون بين الله ورسله فيدعون الإيمان ببعضهم ويصرحون بالكفر ببعض، وأن هذا عين الكفر. وإيمان يتبع فيه الهوى ليس من معرفة الله ومعنى رسالته في شيء. ثم ذكر بعده شيء من عناد اليهود خاصة وإعناتهم وسؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وبين له تعالى أنهم شاغبوا موسى صلى الله عليه وآله وسلم من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك، وكفروا بعيسى وبهتوا بأمه، وحاولوا قتله وصلبه، فليس كفرهم وعنادهم ناشئا عن عدم وضوح الدليل، بل عن عناد أصيل وهوى دخيل، كأنه يقول له إنه لولا ذلك لبادروا إلى الإيمان بك أيها الرسول، ولما شاغبوك بهذا القال والقيل، لأن أمر نبوتك ورسالتك، أوضح دليلا وأقوم قيلا مما يدعون الإيمان بمثله ممن قبلك. ولهذا ناسب أن يختم الكلام في محاجة اليهود ويمهد للكلام في محاجة النصارى ببيان أن الوحي جنس واحد، وأنه لو كان إيمانهم بمن يدعون الإيمان بهم من الرسل السابقين صحيحا مبنيا على الفهم والبصيرة لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال عز وجل :
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين ومن بعده ﴾ أي إنا بما لنا من العظمة والإرادة المطلقة اللائقة بمقام الألوهية، والرحمة التي هي شأن الربوبية، قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الذين يدعي الإيمان بهم هؤلاء الناس، ولم ننزل على أحد من أممهم ولا منهم كتابا من السماء، كما سألوك للتعجيز والعناد، لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي، وما هو بالأمر المشاهد الحسي، بل هو أمر روحي، يعد الله له النبي، ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ].
الوحي في اللغة يطلق على الإشارة والإيماء، ومنه قوله تعالى :﴿ فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ﴾ [ مريم : ١١ ] وعلى الإلهام الذي يقع في النفس وهو أخفى من الإيماء ومنه قوله تعالى :( وأوحينا إلى أم موسى ) [ القصص : ٧ ] ويظهر أن هذا بعناية خاصة من الله تعالى، وعلى ما يكون غريزة دائمة ومنه قوله تعالى :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾ [ النحل : ٦٨ ] وعلى الإعلام في الخفاء وهو أن تعلم إنسانا بأمر تخفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى :﴿ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى البعض ﴾ [ الأنعام : ١١٣ ] وأطلق على الكتابة والرسالة لما يكون فيهما من التخصيص. ووحي الله إلى أنبيائه هو ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم بعد أن يكون أعد أرواحهم لتلقيه بواسطة كالملك أو بغير واسطة. وعرفه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد بأنه ( عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين لأنه من قبل الله، بواسطة أو بغير واسطة. والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت. ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى. وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور ) ثم بين وجه إمكانه ووقوعه في فصلين لم ينسخ أحد على منوالهما.
بدأ الله تعالى بذكر نوح لأنه أقدم نبي مرسل ذكر في كتب القوم ( وقصة بعثه في سفر التكوين وهو السفر الأول من الأسفار الخمسة التي يسمونها التوراة ) وإنما تنهض الحجة على الناس إذا كانت مقدماتها معروفة عندهم.
ثم خص بعض النبيين الذين جاؤوا من بعد نوح بالذكر لشهرتهم وعلو مقامهم عن أهل الكتاب فقال :﴿ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ﴾ أي وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده. فأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام، فمجمع على فضله ونبوته عند أهل الكتاب كلهم وعند العرب أيضا، وكل أولئك الأنبياء الذين ذكروا بعده من ذريته. ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم واشتهر بلقب ( إسرائيل ) فسائر أنبياء أهل الكتاب من ذريته، ويسمون أنبياء بني إسرائيل، وأما محمد خاتم النبيين والمرسلين، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فهو من نسل أخيه الأكبر إسماعيل الذبيح عليه الصلاة والسلام.
وأما الأسباط فجمع سبط وهو يطلق على ولد الولد. وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطا، فكل نسل ولد من أولاد يعقوب العشرة وولدي ابنه يوسف وهما ( أفرايم ومنسي ) يسمى سبطا ولذلك قيل إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في ولد إسماعيل. وأما أبناء يعقوب العشرة آباء الأسباط الأخرى فهم :
١- رؤبين ( بالهمزة ويخفف فيقال روبين وتصرف فيه بعض العرب فقالوا ربيل ).
٢- شمعون.
٣- يهوذا.
٤- يساكر.
٥- زبولون.
٦- بنيامين.
٧- دان.
٨- نفتالي.
٩- جاد.
١٠- أشير.
فسلالة هؤلاء مع ابني يوسف هم اثنا عشر سبطا. وأما سلالة ( لاوي ) الابن الثالث ليعقوب فلم تجعل سبطا مستقلا بل نيط بهم خدمة دينية خاصة ولهم أحكام خاصة بهم. والمراد بالوحي إلى الأسباط الوحي إلى الأنبياء الذين بعثوا فيهم، وخص منهم بالذكر أشهر المرسلين لأن لهم كتبا يهتدى بها. وما كل نبي يوحى إليه مرسلا وله كتاب والمشهور عند المفسرين أن الأسباط هم أولاد يعقوب ولذلك استشكلوا الوحي إليهم وكونهم من النبيين مع ما بينه الله تعالى من كيدهم لأخيهم يوسف وكذبهم على أبيهم وغير ذلك مما لا يليق بالنبيين، وأجاب بعضهم بأن ذلك كان منهم قبل النبوة، ولا يرضى هذا من يقول إن الأنبياء معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها. وهم بعموم هذه معصومون وإن كان الدليل الذي يحتجون به خاصا بالرسل منهم، وقد علمت أن إطلاق لفظ الأسباط على أبناء إسرائيل من صلبه خاصة غلط، وأن المتفق عليه أهل الكتاب عامة وهو ما ذكرناه، وما حاجهم الله تعالى إلا بما هو معروف عندهم، فالآية لا تدل على نبوة إخوة يوسف من أولاد يعقوب.
﴿ وآتينا داود زبور ﴾ أي وكما أعطينا داود كتابا خاصا مزبورا أي مكتوبا فالزبور بمعنى كالركوب بمعنى المركوب، وقرأ حمزة وخلف بضم الزاي وهو جمع وزن مفرده ووزنه ( كعرق وعروق ) أو ( فلس وفلوسي ) وقيل جمع زبور بالفتح وقيل مصدر. وهو على كل حال بمعنى كتاب ومكتوب. وقد ذكر بهذا اللفظ ولم يعطف على ما قبله فيفيد مطلق الوحي، لأن لزبور داود شأنا خاصا في كتب الوحي وعند أهل الكتاب، وهو مع هذه الفائدة موفق لنسق الفواصل فائتلف به اللفظ مع المعنى، فصاحة وبلاغة وحسنا.
﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ﴾ أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة أوحينا إليهم كما أوحينا إلى هؤلاء، وهم المسرودة أسماؤهم أو المبينة قصصهم في كل السور المكية، وأجمع الآيات لأسماء الأنبياء قوله تعالى في سورة الأنعام في سياق الكلام عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا، ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحي وعيسى وإلياس كل من الصالحين* وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ﴾ [ الأنعام : ٨٤٨٦ ] وأجمع السور لقصصهم هود وطسم الشعراء. ومنهم هود وصالح وشعيب وهم من العرب.
﴿ ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾ أي كالمرسلين إلى الأمم المجهول علمها وتاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك، كأمم الشرق ( الصين واليابان والهند )، وأمم بلاد الشمال ( أوروبة ) وأمم القسم الآخر من الأرض ( أمريكة ) وإنما لم يقص الله تعالى خبر الرسل الذين أرسلهم إلى أولئك الأقوام لأن حكمة ذكر الرسل وفوائد بيان قصصهم له صلى الله عليه وآله وسلم لا تتحقق بقصص أولئك المجهول حالهم وحال أممهم عند قومه وجيران بلاده من أهل الكتاب. وهذه الحكم والفوائد هي المشار إليها في قوله تعالى ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ [ يوسف : ١١١ ] وقوله :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذا الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ [ هود : ١٢٠ ] وقوله :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين* ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آيتنا ولكنا كنا مرسلين* وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾ [ القصص : ٤٤٤٥ ].
فالعبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك يظهر في قصص من ذكرهم من الرسل دون من لم يذكرهم. وحسبنا العلم بأن الله تعالى أرسل الرسل من كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا محصورة في شعب معين احتكرها لنفسه كما كان يزعم أهل الكتاب، غير مبالين بكونه لا يليق بحكمة الله ولا ينطبق على سعة رحمته. قال تعالى :﴿ ولقد بعثنا في كل الأمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ] وقال :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وما من أمة إلا خلا فيها نذير ﴾ [ فاطر : ٢٤ ] وهذه الحقيقة من حقائق العلم الإلهي والدين السماوي لم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعم مشاغبوهم أن القرآن مقتبس من كتبهم، وكم فيه من الحقائق ولكن طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون. ولا نخوض في إحصاء الأنبياء والرسل فإنه لا يعلم إلا بوحي من الله تعالى ولم يبين الله ذلك في كتابه ولا رسوله فيما صح من الخبر عنه.
﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ خاصا ممتازا عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين، ولولا ذلكم لم يختلف التعبير، كما علمت من إيتاء داود الزبور، وإن صح أن يسمى الوحي إليهم تكليما، والتكليم لهم وحيا، كما يفهم من قوله تعالى ﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا، أو من وراء الحجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ﴾ [ الشورى : ٥١ ] والظاهر أن تكليم موسى كان من النوع الثاني وهو التكليم من وراء حجاب. وقد سماه وحيا في قوله تعالى :﴿ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ﴾ [ طه : ١٣ ] الخ. أما حقيقة ذلك الوحي والتكليم فليس لنا أن نخوض فيه لأننا لم نكن من أهله، على أننا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا مع بعض بواسطة الأصوات التي تجعل كل ذرة من الهواء متكيفة به، وهي أعم الوسائط وأظهرها. وأما الحجاب فحكمته حصر القوة الروحية والاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد تتحد فيه همومها وأهواؤها المفترقة كما كان شأن موسى إذا رأى النار في الشجرة. وأما الرسول الذي يرسله الله فيوحي إلى النبي بإذنه ما يشاء فهو ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين.
واستدل بعضهم بتأكيد الفعل على كون تكليم الله لموسى لم يكن بواسطة الملك، يعنون أنه لو قال هنا كما قال في سورة البقرة :﴿ ومنهم من كلم الله ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] ولم يزد عليه كلمة ( تكليما ) المؤكدة لجاز أن يكون التكليم مجازيا، فإن الفراء قال : إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. وقال بعضهم إن هذا التأكيد لا يمنع أن يكون التكليم نفسه مجازيا لأنه يمنع المجاز في الفعل لا في الإسناد، بل يجوز أن يسند الكلام المؤكد بمثله إلى المبلغ عن المتكلم كما يبلغ عن الملك حاجبه أو وزيره وعن المرأة المحجبة زوجها أو ولدها، أقول ومنه إسناد الكلام إلى الترجمان إذ المقصد من التكليم توجيه الخطاب إلى المخاطب ولو بواسطة الترجمان أو غيره، والمقصد من الكلام معناه، إلا أن يكون رسالة مقصودة لذاتها. ولكن نقل عنهم تأكيد االفعل المستعمل في الحقيقة دون المجاز كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان :
بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجا من جذام المطارف
فأكدت ( عجت ) مع العلم بأنه مجاز لأن المطارف ( جمع مطرف بالكسر والضم وهو رداء من خزله أعلام ) لا تعج ( والعجيج الصياح ).
﴿ رسلا مبشرين ومنذرين ﴾ أي أرسلنا أولئك الرسل الذين منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك، رسلا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالأجر العظم، ومنذرين من كفر وأجرم بالعذاب الأليم، ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ بأن يدعوا أنهم ما كفروا وأجرموا إلا لجهلهم ما يجب عليهم بهدايتهم من الإيمان والعمل الصالح قال تعالى :﴿ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ﴾ [ طه : ١٣٤ ] وقال عز وجل :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ﴾ [ القصص : ٤٧ ] ثم قال في هذه السورة ﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا. وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾ [ القصص : ٥٩ ] وقال سبحانه ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ [ الإسراء :] ١٥وقال تبارك اسمه ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ﴾ [ الأنعام : ١٥٥-١٥٧ ].
المتبادر من الشواهد الأولى أنها في عذاب الدنيا سواء كان بالاستئصال، أو فقد الاستقلال، وهو المشار إليه بالهلاك، أو بما دون ذلك وهو المشار إليه بالمصيبة، وأما الشاهد الأخير فيظهر أنه أعم، وقد جاء بعده الوعيد بسوء العذاب، والتهديد بقوله :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك أو يأتي بعض آيات ربك ﴾ [ النساء : ١٥٧وفيه تهديد بعذاب الدنيا أو الموت وقيام الساعة العامة أو الخاصة، ويعقب ذلك عذاب الآخرة.
وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي مطلقة والمتبادر منها أن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عندما يحاسبهم الله تعالى في الآخرة ويقضي بعذابهم، ومفهومه ومفهوم سائر الآيات أنه لولا إرسال الرسل لكان للناس أن يحتجوا في الآخرة على عذابها وعلى عذاب الدنيا الذي كان أصابهم بظلمهم. واستدل بها كثير من العلماء على امتناع مؤاخذة الله الناس وتعذيبهم على ترك الهداية التي لا تعرف إلا من الرسل عليهم السلام. ويستدلون بآية الإسراء على نجاة أهل الفترة، وكل من لم تبلغه الدعوة. ولما كانوا شيعا تتعصب كل شيعة منهم لمذهب ينسب إلى عميد منهم قدسوه بإشهاره والانتساب إليه صارت كل شيعة تلمس من الآيات ما يؤيد مذهبها وتؤول ما ينقضه.
وعلى هذا الأساس أول بعضهم آية الإسراء بأن المراد بالرسول فيها العقل، ويرد هذا التأويل سائر الآيات التي بمعناها كالآية التي نفسرها، فلا يجد أبرع المؤولين والمحرفين منفذا لمثل هذا القول في الرسل المبشرين المنذرين، الذين ذكروا في سياق إثبات الوحي وقص الله على نبيه بعضهم وذكرهم بأسمائهم وبين أحوالهم، وكذلك آية القصص ﴿ حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا ﴾ [ القصص : ٥٩ ] لا يقول عاقل إن الرسول هنا هو العقل ولكن قد يقوله الذي جن في مذهبه جنونا مطبقا، وما المجانين في ذلك بقليل، وكيف والتقليد مبني على عدم استعمال العقل في فهم الدين، والاكتفاء فيه بما يعزى إلى المذهب بحجة أن المقلدين تعجز عقولهم عن إدراك الأدلة العقلية والنقلية وإنما يفهمون كلام علمائهم دون كلام الله وكلام رسوله.
اختلف العلماء الذين اتبع الناس مذاهبهم في التكليف هل يتوقف كله على إرسال الرسل، أم يمكن أن يعرف كله أو بعضه بالعقل، فقالت طائفة لا يجب على أحد إيمان ولا عمل صالح، ولا يحرم على أحد كفر ولا جرم، ولا يستحق أحد ثوابا ولا عقابا على شيء، إلا من بلغته دعوة الرسول قامت بها عليه الحجة فإنه يكلف العمل بما جاء به فحسب، ولا يجازى إلا على ذلك. وذهبت طائفة إلى أن التكليف بعد بعثة الرسل لا يتعدى ما جاؤوا به لمن بلغته، وأما من لم تبلغه دعوة فإنه يمكن أن يدرك بعقله حسن الأشياء والأعمال وقبحها ويجب عليه أن يعمل الحسن ويترك القبيح والله تعالى يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالعقل، كما يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالشرع.
والمتبادر من الآية التي نحن بصدد تفسيرها أن عدم إرسال الرسل يمكن أن يكون حجة للناس يوم القيامة إذا أراد الله أن يؤاخذهم ويعذبهم على ترك الهدى الذي جاءهم به أولئك الرسل. والمتبادر من آية سورة الإسراء أنه ليس من شأن الله تعالى ولا من سنته أن يعذب الأمم التعذيب السماوي العام الذي عبر عنه بقوله :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفناه به الأرض ومنهم من أغرقنا. وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ] إلا إذا أرسل إليهم رسولا فكذبوه، وسنته في هذا النوع من التعذيب مبينة في مواضع من الكتاب العزيز، فهو لا يأخذ به كل قوم كذبوا رسولهم، بل من أنذرهم العذاب فتماروا بالنذر، وتمادوا في عناد الرسل.
من أخذ القرآن بجملته وفقه أحكامه وحكمه يعلم أن الدين وضع إلهي لا يستقبل العقل البشري بالوصول إليه بنفسه بل يعرف بالوحي، وأنه مع هذا موفق لسنن الفطرة في تزكية النفس، وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس، فهو من حيث هو وضع إلهي، يترتب على العمل به والترك جزاء وضعي يحدده الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا الجزاء خاص بمن بلغته دعوته على وجهها. ومن حيث إنه موافق لسنن الفطرة يترتب على الاهتداء به تزكية النفس وعلى الإعراض عنه تدسيتها، وتأثير العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة والآداب العالية التي إليها تأثير فطري ذاتي، فكل من اهتدى بها زكت نفسه بقدر اهتدائه بها وإن لم يعلم أن رسولا جاء بها. وكذلك تأثير العقائد الباطلة والأعمال القبيحة والأخلاق الفاسدة التي ينهى عنها، فكل من تلوثت بها نفسه فسدت وسفلت، والأصل في هذا وذالك الإخلاص في الإيثار ما يعتقد الإنسان أنه الحق والخير على ضده.
فكما دلت الآيات على أن الله تعالى لا يؤاخذ الناس بمخالفة ما جاءت به الرسل إلا إذا بلغتهم دعوتهم، وقامت عليهم حجتهم، لأن هذا النوع من المؤاخذة وضعي لا يتحقق إلا بتحقيق الوضع الذي يترتب هو عليه. وكذلك تدل آيات أخرى على الحساب والجزاء العام بالقسط على حسب تأثير الأعمال في النفوس، فمن دسى نفسه وأبسلها، لا يمكن أن يكون عند الله كمن زكى نفسه وأسلمها. ولا يمكن أن يقول عاقل إن نفوس من لم تبلغهم الدعوة الصحيحة تكون سواء مهما اختلفت عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، فإن هذا مخالف لحكم العقل وإدراك الحس، إذ لم توجد ولا توجد أمة إلا وفيها الصالحون والأبرار والفجار، والذين يؤثرون ما يرونه من الهدى على داعية الشهوة والهوى، والعكس. فهل يكون الفريقان عند الحكم العدل سواء ؟ ﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيب ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ] ﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ﴾ [ هود : ٢٤ ] ؟
﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك ﴾ هذا استدراك على ما علم من سياق من إنكارهم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وعدم شهادتهم بها، وهي عندهم في المرتبة المشهود به لوضوحها، ولكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان، فسألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدا له مقنعا لهم، فبين الله تعالى له أن هذا الطلب جار على شنشنتهم في معاملة أنبيائهم من قبل، وأن وحيه إليه هو من جنس وحيه إلى أولئك الأنبياء الذين يزعمون أنهم يؤمنون بهم ويشهدون لهم، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم إنهم مع وضوح أمر نبوتك في نفسه، لا يشهدون بما أنزل إليك وإن كانوا يشهدون لما هو من جنسه، لكن الله يشهد لك به، فإنه ﴿ أنزله بعلمه ﴾ أي متلبسا بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل إنزاله إليك ﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ [ هود : ٣٨ ] ﴿ وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] ﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ االعنكبوت : ٤٨ ].
فهو بما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والقضائية والاجتماعية، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم وغير ذلك، وبما جاء به من الأسلوب البديع الذي لم يسبق إليه ولا يلحقه فيه، من مزج هذه العلوم بعضها ببعض مزجا دقيقا يؤلف بين ما كان موضوعه منها أعلى الموضوعات كالمسائل الإلهية، وما كان منها أدنى كشؤون الكفار والمجرمين، بحيث يكون القليل من آياته كالكثير منها مؤثرا في جذب القلوب إلى الإيمان، وتغذيتها بالحق والخير، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته وبلاغته، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل، وبما فيه من التناسق والتصادق، والسلامة من الخلاف والتعارض، على كثرة علومه، وتشعب فنونه، هو بمثل هذا الخصائص والمزايا البارزة في أعلى حلل الفصاحة والبلاغة، مثبت لشهادة الله تعالى به، وبأنه وحي من عنده، لأن تلك الخصائص والمزايا لا يقدر على الإتيان بها أفراد العلماء الواسعي الإطلاع، فضلا عن أمي نشأ بين الأميين ووصل إلى سن الكهولة ولم يظهر منه شيء من مثل ذلك، ولا مما دونه من مظاهر فصاحة قومه كالشعر والخطابة والمفاخرة، فإذا كان لا يقدر على مثله أحد من علماء الدنيا والدين، وفحول البلاغة المقرمين، تعين أنه من عند الله. فكأنه تعالى يقول لنبيه : ماذا يضرك جحود اليهود وعدم شهادتهم لك، والله يشهد بما أنزله إليك، وأنت على يقين من ذلك بالوحي، وقد أيد شهادته لك بعلمه الذي أودعه هذا القرآن فكان بذلك مثبتا لحقية نفسه وكونه أنزل عليك من ربك، بأقوى من إثبات الدعاوى بالبينات والشهادات التي تحتمل النقض، ويؤيدها كذلك يوما بعد يوم بتصديق ما أنزله في القرآن من الوعد لك بالفلاح والنصر، ووعد من عادوك بالخذلان والخسر. ؟
﴿ والملائكة يشهدون ﴾ أيضا بذلك لأن الذي نزل به هو الروح الأمين منهم، وأنت تراه وتتلقى عنه لا ريب عندك في ذلك. والله يؤيدك بجند منهم ينفخون روح التثبيت والسكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ [ الأنفال : ١٢ ] وكل ذلك قد كان، وثبتت به شهادة ملائكة الله عند نبيه وعند المؤمنين بأخبار الله، وبما ظهر لهم من صدقها في أنفسهم. ﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ فشهادته أصدق، وقوله الحق، ﴿ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ { [ الأنعام : ١٩ ].
﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلال بعيدا ( ١٦٧ ) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ( ١٦٨ ) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ( ١٦٩ ) يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ( ١٧ ) ﴾.
لقد تجلت في الآيات السابقة الحجة، وتضاءل كل ما أورده اليهود على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من شبهة، فثبتت هذه النبوة بشهادة الله تعالى بما أنزله عليه إذ لا يستطيع أحد من الخلق أن يأتي بمثله، فحسن بعد هذا أن ينذر الذين يصرون على كفرهم، ويستمرون على صدهم وظلمهم، وإنما ينذرهم عز وجل سوء العاقبة، ويبين لهم مصيرهم من الهاوية، لذلك قال بعد ما تقدم :
﴿ إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله ﴾ أي أعرضوا عن طريق الحق والخير الموصلة إلى رضوان الله تعالى، وحملوا غيرهم على الإعراض عنها، بسوء القدوة، وتمويه الشبهة ﴿ قد ضلوا ضلال بعيدا ﴾ بسيرهم في سبل الشيطان سيرا حثيثا، بعدوا به عن سبيل الله بعدا شاسعا، حتى لم يعودوا يبصرون ما اتصف به من الوضوح والاستقامة، ولا يفقهون أنها هي الموصلة إلى خير العاقبة ومرسى السلامة.
﴿ إن الذين كفروا وظلموا ﴾ أنفسهم بكفرهم وقبح عملهم، وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم وسوء سيرتهم، ﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ أي ليس من شأنه ولا من مقتضى سنته في خلقه، أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء، لأن الكفر والظلم يؤثران في النفس ويكيفانها بكيفية خاصة من الظلمة وفساد الفطرة لا يزولان بمقتضى سنته تعالى في النفوس البشرية وتأثير عقائدها وأعمالها فيها إلا بما يضاد ذلك الكفر والظلم في الدنيا من الإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي يزكي النفس ويطهرها فتنشأ خلقا جديدا، ولا سبيل إلى ذلك في يوم الحساب وما يتلوه من الجزاء المشار إليه بقوله :﴿ ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم ﴾ أي ليس من شأنه ولا من مقتضى سنته أن يهديهم طريقا أي يوصلهم إلى طريق من طرق الجزاء على عملهم إلا طريق جهنم، وهي تلك الهاوية التي ينتهي إليها كل من يدسي نفسه بالكفر والظلم، وهي الطريق التي اختاروها لأنفسهم، وأوغلوا في السير فيها طول عمرهم، كالذي يهبط الوادي يكون منتهى شوطه قرارة ذلك الوادي لا قمة الجبل الذي هو فيه، فانتظار المغفرة ودخول الجنة لهؤلاء كانتظار الضد من الضد والنقيض من النقيض، أو انتظار إبطال نظام العالم ونقض سنن الله تعالى وحكمته في خلق الإنسان.
هذا هو التحقيق في مثل هذا التعبير، لا ما يزعمه القائلون بالجبر لفظا ومعنى أو معنى فقط، ولا ما يزعمه خصومهم من كل وجه. وقيل إن هذه الآية نزلت في قوم معينين علم الله منهم أنهم لا يتوبون من كفرهم وظلمهم، والأوجب تقييد عدم المغفرة والهداية لغير طريق جهنم بشرط عدم التوبة لأن من تاب تاب الله عليه كما هو ثابت بالنص والإجماع. وما حمل قائلي هذا القول عليه إلا غفلتهم عن كون هذا هو جزاء الكافرين الظالمين في الآخرة، وظنهم أن قوله تعالى ( ولا ليهديهم طريقا ) الخ هو عبارة عن حرمانهم من الهداية في الدنيا، وهذا هو الذي ساقهم إلى معتركهم في الجبر والقدر، لعدم تطبيق مثله على مقتضى الحكمة واطراد الأسباب والسنن.
ولما كان مقتضى سنة الله في أولئك الكافرين الظالمين أنه لا يهديهم بكفرهم وظلمهم طريقا إلا طريق جهنم، وعلم منه أنهم صائرون إليها، ولا بد أن يصلوها، قال ﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا. قيل إن لفظ ( أبدا ) ينفي أن يراد بالخلود طول المكث فيكون معنى العبارة الخلود الدائم الذي لا نهاية له. والصواب أن هذا معنى اصطلاحي لا لغوي. أما معنى الخلود في اللغة فهو كما يؤخذ من مفردات الراغب بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغير ولا فساد كقولهم للأثافي ( حجارة الموقد ) خوالد قال ( ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها ) وفسر الخلد في اللسان بدوام البقاء في دار لا يخرج منها. والمراد بالسكنى الدائمة في العرف ما يقابل السكنى الموقتة المتحولة كسكنى البادية، فالذين لهم بيوت في المدن يسكنونها يقال في اللغة إنهم خالدون فيها. قال في اللسان : وخلد بالمكان يخلد خلودا ( من باب نصر ) وأخلد أقام... وخلد ( كضرب ونصر ) خلد وخلودا أبطأ عنه الشيب. من كبر ولم يشب أو يسقط أسنانه يقال له مخلد وقال زهير :
لمن الديار غشيتها بالغرقد كالوحي في حجر المسيل المخلد١
والأبد كما قال الراغب ( عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان... وتأبد الشيء بقي أبدا ويعبر به عما يبقى مدة طويلة ) وفي لسان العرب ( الأبد الدهر ) وفيه تساهل. وقالوا في المثل ( طال الأبد على لبد ) يضرب ذلك لكل ما قدم. وقالوا : أبد بالمكان ( من باب ضرب ) أبودا، أقام به ولم يبرحه. ولم يكن عندهم شيء بمعنى اللانهاية يدور في كلامهم.
﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره، لأنه مقتضى حكمته وسنته، ولا يستعصي على قدرته، فعلى العاقل أن يتدبر ويتفكر، ليعلم أنه لا ملجأ له من الله ولا مفر، ولكل نبأ مستقر.
١ البيت من الكامل، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٦٨، ولسان العرب (خلد). (غرقد)، والتنبيه والإيضاح ٢/٢٠، وتهذيب اللغة ٥/٢٩٨، وتاج العروس (غرقد)، (وحى)..
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ﴾ نادى الله تعالى بهذه الآية جميع الناس، في سياق خطاب أهل الكتاب، لأن الحجة إذا قامت عليهم بشهادة الله تعالى بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجب عليهم الإيمان به، فبالأولى تقوم على غيرهم، ممن ليس لهم كتاب ككتابهم، وذكر الرسول هاهنا معرفا لأن أهل الكتاب قد بشروا به، وكانوا ينتظرون بعثته، بعنوان أنه الرسول الكامل، الذي هو المتم الخاتم، ومما يدل على أن اليهود كانوا ينتظرون من الله مسيحا ونبيا بشر بهما أنبياؤهم ما جاء في أوائل الفصل الأول من إنجيل يوحنا وهو أنهم أرسلوا بعض الكهنة واللاويين إلى يوحنا ( يحيى عليه السلام ) ليسألوا من هو وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة فسألوه أأنت المسيح ؟ قال لا، قال أأنت النبي ؟ قال لا. والشاهد أنهم ذكروا له النبي بلام العهد. فلا شك أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية في زمن التنزيل تذكر مجيء الرسول المعرف بصيغة التحقيق ( قد ) فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة ( وهو في سفر تثنيه الاشتراع ) وعيسى في الإنجيل ( وسيأتي شاهد منه في تفسير الآية التالية لهذا ) وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام.
ومن لم يعرف شيئا من أمر هذه البشارات يفهم من التعريف معنى آخر هو صحيح ومراد وهو أن التعريف لإفادة أن هذا الرسول هو الفرد الكامل في الرسل لظهور نبوته، ونصوع حجته، وعموم بعثته، وختم النبوة والرسالة به، ومعنى كونه جاء الناس بالحق من ربهم، أنه جاءهم بالقرآن الذي هو أبلغ بيان للحق، وأظهر الآيات المؤيدة له. واختيار لفظ الرب هنا للإشعار بأن هذا الحق الذي جاء به يصدق به تربية المؤمنين وتكميل فطرتهم، وتزكية نفوسهم، ولهذا قال ﴿ فآمنوا خيرا لكم ﴾ أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس الحسية والمعنوية، ويؤهلكم للسعادة الأبدية، وهذا هو التقدير المتبادر عندي وعليه الكسائي وأما الخليل وتلميذه فيقدران واقصدوا بالإيمان خيرا لكم، أي مما أنتم عليه. وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم.
ويدل على ما اخترناه قوله في مقابله ﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض ﴾ أي إن تؤمنون يكن الإيمان خيرا لكم، وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم، وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم، وما يترتب عليه من سوء عملكم، لأن له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وعبيدا، وكل يعبده طوعا أو كرها، أما عبادة الكره وعدم الاختيار، فبالخضوع للسنن والأقدار، وهي عامة في جميع الخلق، والملائكة الأبرار، وأمثالهم من جنود الله ﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ أي كان شأنه العلم المحيط والحكمة الكاملة كما يظهر ذلك في جميع أفعاله وأحكامه وسننه، فلا يخفى عليه شيء من أمركم، في إيمانكم وكفركم، ولا يعدو حكمته أمر جزائكم، وحاشا عمله وحكمته أن يخلقكم عبثا، وأن يترككم بعد ذلك سدى، كلا إنه يجزي كل نفس بما تسعى، فطوبى لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( ١٧١ ) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستكنف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( ١٧٢ ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( ١٧٣ ) ﴾.
هذه الآيات نزلت في محاجة النصارى خاصة بعد محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وقد غلت اليهود في تحقير عيسى وإهانته والكفر به ففرطوا كل التفريط، فغلت النصارى في تعظيمه وتقديسه فأفرطوا كل الإفراط.
فلما دحض تعالى شبهات أولئك قفى بدحض شبهات هؤلاء، فقال عز من قائل ﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ﴾ فتتجاوزوا الحدود التي حدها الله لكم، فإن الزيادة في الدين كالنقص منه، كلاهما مخرج له عن وضعه ﴿ ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾ أي الثابت المتحقق في نفسه، إما بنص ديني متواتر، وإما ببرهان عقلي قاطع، وليس لكم على مزاعمكم في المسيح شيء منهما ﴿ إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله ﴾ إلى بني إسرائيل أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، وأن يرجعوا عن الإيمان بالجبت والطاغوت، وعن إتباع الهوى وعبادة المال، وإيثار شهوات الأرض على ملكوت السماء، وزهدهم في الحياة الدنيا، وحثهم على حق التقوى، وبشرهم بالنبي الخاتم الذي يبين لهم كل شيء، ويقيمهم على صراط الاعتدال، ويهديهم إلى الجمع بين حقوق الأرواح وحقوق الأجساد.
﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم ﴾ أي هو تحقيق كلمته التي ألقاها إلى أمه مريم ومصداقها، والمراد كلمة التكوين أو البشارة، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاما زكيا فاستنكرت أن يكون لها ولد وهي عذراء لم تتزوج فقال لها :﴿ كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ [ آل عمران : ٤٧ ] فكلمة ( كن ) هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض قدرة الله تعالى عند إرادته خلق الشيء وإيجاده وقد خلق المسيح بهذه الكلمة. وفي تفسيرها وجوه أخرى سبقت في الجزء الثالث من التفسير والإلقاء يستعمل في المعاني والكلام كما يستعمل في المتاع، قال تعالى :﴿ فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم ﴾ [ النحل : ٨٦٨٧ ] ومعناه الطرح والنبذ. فلما عبر الله عن التكوين أو البشارة بالكلمة حسن التعبير بقوله ( كلمته ألقاها إلى مريم ) أي أوصلها إليها وبلغها إياها.
وأما قوله ﴿ وروح منه ﴾ ففيه وجهان أحدهما : أن معناه أنه مؤيد بروح منه تعالى. ويوضحه قوله فيه ﴿ وأيدناه بروح القدس ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] وقال في صفات المؤمنين الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كان من ذوي القربى ﴿ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] وثانيهما : أن معناه أنه خلق بنفخ من روح الله وهو جبريل عليه السلام، ويوضحه قوله تعالى في أمه ﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ﴾ [ الأنبياء : ٩١ ] وقال تعالى فيها ﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾ [ مريم : ١٦ ] كما قال في خلق الإنسان بعد ذكر بدئه من طين ﴿ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ﴾ [ الحج : ٨ ٩ ] وقال بعضهم إن المراد بالروح هنا النفخ الملك بأمر الله في مريم فإنه استعمل بمعنى النفخ والنفس الذي ينفخ كم قال ذو الرمة في إضرام النار :
فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واجعلها لها فيئة قدرا١
والروح الذي يحيا به الإنسان مأخوذة من اسم الريح ( أصل الريح رِوح بالكسر فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة وجمعه أرواح ورياح وأصل هذه رواح بالكسر ) كما ان اسم النفس بسكون الفاء من النفس بفتحها.
ويجوز أن يراد بقوله تعالى :( وروح منه ) الأمران معا أي أنه خلق بنفخ الملك المعبر عنه بالروح القدس في أمه نفخا كان كالتلقيح الذي يحصل باقتران الزوجية، وكان مؤيدا بهذا الروح مدة حياته ولذلك غلبت عليه الروحانية، وظهرت آيات الله فيه زمن الطفولة وزمن الرجولية، ﴿ إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ﴾ [ المائدة : ١١٣ ] فلما كان كذلك أطلق عليه أنه ( روح ) كأنه هو عين ذلك الملك الذي جعله الله سبب ولادته، وأيده به مدة حياته، كما يقال ( رجل عدل ) على سبيل المبالغة والمراد ذو عدل. وقال بعض المفسرين إن المراد بالروح هنا الرحمة كقوله تعالى في المؤمنين ﴿ وأيدهم بروح منه ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] ويقويه قوله تعالى فيه :﴿ ولنجعله آية للناس ورحمة منا ﴾ [ مريم : ٢٠ ] ويمكن إدخال هذا المعنى في الوجه الأول لأنه من فروعه. والمعنى الجامع أن الروح ما به الحياة، والحياة قسمان حسية ومعنوية. فالأولى ما به يشعر الإنسان ويدرك ويتفكر ويتذكر، ما به يكون رحيما حكيما فاضلا محبا محبوبا نافعا للخلق، وقد سمى الله الوحي روحا فقال لخاتم رسله :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ﴾ [ الزخرف : ٥٢ ] وقال ﴿ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ﴾ [ النحل : ٢ ] وكلا المعنيين متحقق في عيسى عليه السلام على وجه الكمال، فلهذا جوزنا الوجهين في مسألة.
وآية الله تعالى في خلق عيسى بكلمته، وجعله بشرا سويا بما نفخ فيه من روحه، كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه، إذ كان خلق كل منهما بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
وقد علم مما قررناه أن قوله ( منه ) متعلق بمحذوف صفة لروح أي وروح كائنة منه، وزعم بعض النصارى أن من للتبعيض وأن عيسى جزاء من الله بمعنى أنه ابنه. ونقل المفسرون أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الوقدي المروزي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية. فقرأ له الواقدي قوله تعالى :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ﴾ [ الجاثية : ١٢ ] وقال يلزم إذا أن تكون جميع هذه الأشياء أجزاء منه تبارك وتعالى، فانقطع النصراني وأسلم ففرح الرشيد بإسلامه ووصل الواقدي بصلة فاخرة.
وأما أناجيل النصارى وكتبهم فقد استعملت لفظ الروح في معان مختلفة فيما يتعلق بالمسيح وفي غير ما يتعلق به. فمن ذلك قول متى :( ١ : ١٨ أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا : لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ) وفي الفصل الأول من إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتها في ذلك، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها ( الروح القدس يحل عليك ) فروح القدس ليس هو الله، ومن يؤيده الله به لا يكون إلها، ففي هذا الفصل نفسه من إنجيل لوقا أن ( اليصابات ) أم يحيى امتلأت من الروح القدس ( ٤١ ) وبذلك حملت بيحيى وكانت عاقراً. –وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس ( ٦٧ ) وفي الفصل الثاني منه ما نصه ( ٢٥ وكان رجل في أرشليم اسمه سمعان وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر إسرائيل والروح القدس كان عليه ٢٦ وكان قد أوحي إليه بالروح القدس ) وهذا الاستعمال كثير عندهم لا حاجة لإضاعة الوقت بكثرة إيراد الشواهد فيه، وإنما نقول إن روح القدس عندهم وعندنا واحد هو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصي عددهم غير تعالى، والقدس الطهر، ويذكر في مقابلِهِ في الأناجيل الروحُ النجس أي الشيطان، فجعلوه إلها كما فعل الوثنيون من قبل.
وجملة القول إن هذه الأناجيل تدل على ما ذكرناه آنفا من كون عيسى خلق بواسطة روح القدس، وأن يحيى خلق كذلك، وكان خلقه آية من وجه آخر إذا كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا، ولكن الواسطة والسبب واحد وهو الملك المسمى بروح القدس أيدهم الله به نساء ورجالا عليهم السلام، فمن الحماقة أن يقول القائل مع هذا ان قوله تعالى :( وروح منه ) يفيد أنه جزء من الله تعالى عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه. بل يقولون إن تلاميذ المسيح أنفسهم كانوا مؤيدين بروح القدس حتى من طرده المسيح ولعنه منهم وسماه شيطانا. وقد أيد به من كان دونهم أيضا.
علمنا أن مؤلفي الأناجيل يستعملون كلمة روح القدس استعمالا يدل على أنه ملك من خلق الله، ولكن يوحنا قد انفرد بعبارات يمكن إرجاعها إلى استعمال غيره ويمكن تحريفها للاستدلال بها على شيء آخر كما فعلوا، فهم يقولون إن الروح منبثق من الأب وأنه عين الأب ويستدلون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح ( ١٥ : ٢٦ ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق على ما وراءه )، وفي قراءة أخرى في ترجمة البرتستانت ( يخرج ) فمن هذه الكلمة استنبطوا عقيدة وثنية وتنقضها نصوص كثيرة في الأناجيل.
وهذه الجملة خبر عن شيء يكون في المستقبل ( وفرق بين ينبثق من عنده وبين انبثق منه على هذه أن لا تدل على ما زعموا أيضا ) وهي بشارة من المسيح بمن يرسله الله تعالى بعده الذي عبروا عنه هنا بالمعزي. وكلمة المعزي ترجمة للبارقليط وهي كلمة يونانية معناها ( محمد أو أحمد ) وتقرأ بالاستقامة وبالامالة فلا يحتاج في تحريفها عن المعنى الذي قلناه إلى معنى المعزي الذي قالوه إلا إلى لي اللسان بها ليا قليلا. وقد ترجمت في إنجيل برنابا بمحمد فكانت هذه الترجمة موضع الاستغراب عند كثير من الناس ظانين أن برنابا نقل عن المسيح أنه نطق بكلمة محمد العربية، والظاهر أنه نطق بترجمتها، ومن عادة أهل الكتاب، ترجمة الأعلام والألقاب، على أن ( روح الحق ) من جملة أسماء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كما ترى في أسمائه المسرودة في دلائل الخيرات. وقد بين يوحنا في الفصل السادس عشر من إنجيله تفصيلا عن المسيح عليه السلام لبشارته بالبارقليط، منه أنه خير لهم أن يذهب هو من الدنيا لأنه إذا لم يذهب لا يأتي البارقليط، وأنه متى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البر والحساب ( الدينونة ) وفسر الخطيئة بعدم الإيمان به أي المسيح، ومنه أنه هو المسيح لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء لعدم استعدادهم وعدم طاقتهم الاحتمال.
قال " ( ١٣ وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ١٤ ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم ) ولم يجيء بعد المسيح أحد من عند الله وبخ الناس وبكتهم على عدم الإيمان بالمسيح وعلى طعن بعضهم فيه وفي أمه، وعلى غلو طائفة فيهما وجعلهما إلهين مع الله، وعلم الناس كل شيء من أمور العقائد والآداب والفضائل والأحكام الشخصية والمدنية، وأخبر بالأمور المستقبلية لم يجيء أحد بكل هذا إلا روح الحق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو منبثق من الله أي مرسل منه لإحياء الناس كما يرسل الله الغيث لإحياء الأرض.
وفي الحديث أنه شبه بعتثه بالغيث الذي تأخذ منه كل أرض بحسب استعدادها. فإذا كانت عبارة يوحنا تدل على أن روح الحق الذي بشر به المسيح وأنه يأتي بعده تدل بلفظ الانبثاق على ما قالوا فليجعلوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الأقنوم الثالث أو أقنوما رابعا وينتقلوا من التثليث إلى التربيع، لا، لا أقول لهم أصروا على هذا التأويل والتضليل، بل أقول لهم ما قاله الله عز وجل ﴿ لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ﴾ الخ أي فإذا كان الأمر كذلك وهو المعقول، الذي لا يتحمل غيره النقول، فآمنوا بالله إيمانا يليق به وهو أنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، تنزه عن صفات الحوادث، ونسبتها إليه واحدة، وهي أنها مخلوقة وهو الخالق، ومملوكة هو المالك، وأن هذه الأرض في مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها، فمن الجهل الفاضح أن يجعل له ند وكفؤ فيها، أ
١ يروى البيت:
فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا
والبيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٤٢٩ ولسان العرب (قوت)، (روح)، (حيا)، وتهذيب اللغة ٥/٢٢٥، ٢٨٥، ٩/٢٥٤، ومقاييس اللغة ٥/٣٨، ومجمل اللغة ٤/١٣١، وديوان الأدب ٣/٣١٣، وكتاب العين ٥/٢٠٠، وأساس البلاغة(روح)، (قوت)، وتاج العروس(قوت)، (روح)، (حيا)..

﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( ١٧١ ) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستكنف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( ١٧٢ ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( ١٧٣ ) ﴾.
هذه الآيات نزلت في محاجة النصارى خاصة بعد محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وقد غلت اليهود في تحقير عيسى وإهانته والكفر به ففرطوا كل التفريط، فغلت النصارى في تعظيمه وتقديسه فأفرطوا كل الإفراط.
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ﴾ الاستنكاف الإمتناع عن الشيء أنفة وانقباضا منه. قيل أصله من نكف الدمع إذا نحاه عن خده بأصبعه حتى لا يظهر، ونكف منه أنف. وأنكفه عنه برأه. والمعنى لن يأنف المسيح ولا يتبرأ من أن يكون عبدا لله ولا هو بالذي يترفع عن ذلك لأنه من أعلم خلق الله بعظمة الله وما يجب له على العقلاء من خلقه من العبودية والشكر، وأن هذه العبودية هي أفضل ما يتفاضلون به ﴿ ولا الملائكة المقربون ﴾ يستنكفون عن أن يكونوا عبيدا لله أو عن عبادته، أو لا يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا لله. ( كل تقدير من هذه التقديرات صحيح يفهم من الكلام ) على أنهم أعظم من المسيح خلقا وأفعالا، ومنهم روح القدس جبريل عليه السلام الذي بنفخة منه خلق المسيح وبتأييد الله إياه به كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ولولا نفخته وتأييده لما كان للمسيح مزية على غيره من الناس.
وقد استدل بهذه الآية على أن الملائكة المقربين أفضل من الأنبياء المرسلين وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني والحليمي من أئمة الأشعرية وجمهور المعتزلة، وأما جمهور الأشعرية فيفضلون الأنبياء على الملائكة، ووجه التفضيل أن السياق في رد غلو النصارى في المسيح إذا اتخذوا إلها ورفعوه عن مقام العبودية فالبلاغة في الرد عليهم تقتضي الترقي في الرد من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقي لا يستنكف عن تقبيل يده الوزير ولا الأمير. فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير مزية ولا فائدة، بل يكون لغوا لأنه يندمج في الأول بالطريق الأولى. وقد بين ذلك الزمخشري وجزم به فتكلف بعضهم في الرد عليه وكان آخر شوط البيضاوي أن جعل غاية الآية تفضيل الملائكة المقربين على أولى العزم من المرسلين لا كل الملائكة على كل الأنبياء.
وأما القاضي أحمد بن المنير فإنه بعد أن أطال في تقريره على الكشاف برد طريقة الترقي والتفصي من الاستدلال بها على تفضيل الملائكة المقربين، على الأنبياء المرسلين، عاد إلى الإنصاف من نفسه، وجزم بأن الآية تدل على تفضيل هؤلاء الملائكة في الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو الذي يناسب الرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها، والملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعلمون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم، ولكن هذا التفضيل في غير موضع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة وهو كثرة الثواب على الأعمال في الآخرة. والمنصف يرى أن التفاضل في هذا من الرجم بالغيب، إذ لا يعلم إلا بنص من الشارع ولا نص، وليس للخلاف في هذه المسألة فائدة في الإيمان ولا عمل، ولكنه من توسيع مسافة التفرق بالمراء والجدال.
﴿ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ﴾ الاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي عليه غرورا وإعجابا فيحملها بذلك عل غمظ الحق سواء كان لله أو لخلقه وعلى احتقار الناس. ومعنى الجملة : ومن يترفع عن عبادته أنفة ويتبرأ منها، ويجعل نفسه كبيرة فيرى أنه لا يليق بها التلبيس بها ﴿ فسيحشرهم إليه جميعا ﴾ أي فسيحشر هؤلاء المستنكفين والمستكبرين للجزاء، مجتمعين مع غير المستكبرين والمستنكفين الذي ذكر بعضهم في أول الآية، فإن الله يحشر الخلق كلهم في صعيد واحد كما ورد.
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( ١٧١ ) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستكنف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( ١٧٢ ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ( ١٧٣ ) ﴾.
هذه الآيات نزلت في محاجة النصارى خاصة بعد محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وقد غلت اليهود في تحقير عيسى وإهانته والكفر به ففرطوا كل التفريط، فغلت النصارى في تعظيمه وتقديسه فأفرطوا كل الإفراط.
ثم يحاسبهم ويجزيهم كما يجزي غيرهم على النحو المبين في قوله :﴿ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ﴾ أي يعطيهم أجورهم على إيمانهم وعملهم الصالح وافية تامة كما يستحقون بحسب سنته تعالى في ترتيب الجزاء على تأثير الإيمان والعمل في النفس، ويزيدهم عليه من محض فضله وجوده من عشرة أضعاف إلى سبع مئة ضعف – إلى ما شاء ( وتقدم الكلام في المضاعفة في تفسير سورة البقرة ).
﴿ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ﴾ أي فيعذبهم عذابا مؤلما كما يستحقون بحسب سنته تعالى أيضا، ولكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا، لأن الرحمة سبقت الغضب، فهو تعالى يجازي المحسن بالعدل والفضل، ويجازي المسيء بالعدل فقط ﴿ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يتولى شيئا من أمرهم يوم الجزاء والحساب، ولا نصيرا ينصرهم فيدفع العذاب، ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾ [ الانفطار : ١٩ ].
ومن مباحث اللفظ والإعراب في الآية إفراد فعل يستنكف وما عطف عليه مراعاة لفظ ( من ) وجمع ( فسيحشرهم ) مراعاة لمعناها فإنها من صيغ العموم ( ومنها ) مسألة مطابقة التفصيل في هذه الآية للمفصل المذكور بصيغة العموم في آخر الآية التي قلبها. قال بعضهم إن التفصيل للمجازاة لا للمحشورين المجزيين فلا حاجة إلى المطابقة وذلك أن الجزاء لازم للحشر فبينه عقبه، واختار هذا البيضاوي ورده السعد.
وقال الزمخشري هو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ( أي أعطاه ما يركبه ) ومن خرج نكل به. وصحة ذلك لوجهين أحدهما : أن يحذف أحد الفريقين لدلالة الآخر عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا ﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ﴾ [ النساء : ١٧٥ ] والثاني : هو أن الإحسان إلى غيرهم مما يفهمهم فكان داخلا في جملة التنكيل بهم. فكأنه قيل ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله اه أقول وقد يدل على حشر المستنكفين مع غيرهم قوله تعالى :﴿ جميعا ﴾ كما أشرنا إليه.
ثم وجه آخر وهو القرآن كثيرا ما يذكر بصيغة العاملين مبتدأ يكون خبره محذوفا لدلالة الكلام أو القرينة عليه ولاسيما إذا كان شرطا كما هنا وكان جزاؤه كلاما عاما يشير إلى الخير إشارة ضمنية كقوله تعالى :﴿ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾ [ الأنفال : ٥ ] وقوله :﴿ ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ﴾ [ الحديد : ٢٤ ] ولا يبعد أن يكون ما هنا من هذا القبيل، والمراد : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيجزيه إذ يحشر الناس كلهم للجزاء. ثم فصل هذا الجزاء المشار إليه لازمه، والله أعلم.
﴿ يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ( ١٧٤ ) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ( ١٧٥ ) ﴾.
لما قامت الحجة في الآيات الأخيرة على النصارى وفيما قبلها على اليهود وهم أهل الكتاب، والمعرفة بالنبوات والشرائع، وقامت الحجة قبل ذلك على المنافقين في أثناء السورة كما قامت على المشركين فيها وفي سور كثيرة، وظهرت نبوة النبي الخاتم ظهور الشمس ليس دونها سحاب لأن سحب الشبهات قد انقشعت بالحجج المشار إليها كل الانقشاع، نادى الله تعالى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه، والاهتداء بالنور الذي جاء به، فقال :
﴿ يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ﴾ أي قد جاءكم من قبل ربكم، بفضله وعنايته بتربيتكم وتزكية نفوسكم، برهان عظيم أو جلي يبين لكم حقيقة الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وجميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم – مؤيدا لكم ذلك بالدلائل والبينات والحكم، وهو محمد النبي العربي الأمي، الذي يظهر لكل من عرف سيرته في نشأته وتربيته، وحاله في بعثته وسنته، أنه هو نفسه برهان على حقية ما جاء به : أمي لم يتعلم شيئا من كتب قط، ولم يعن في طفولته ولا في شبابه بشيء مما كان يسمى علما عند قومه الأميين كالشعر والنسب وأيام العرب، قام في كهولته يعلم الأميين والمتعلمين حقائق العلوم الإلهية، وصفات الربوبية، وما يجب لتلك الذات العلية، وما تتزكى به النفس البشرية، وتصلح به الحياة الاجتماعية، ويكشف ما اشتبه على أهل الكتاب من أصول دينهم، وما اضطرب فيه نظار الفلسفة العليا من مسائل فلسفتهم، ويرفع قواعد الإيمان على أساس الحجج الكونية العقلية، ويسلك هذا المسلك في بيان الشرائع العلمية، والحكمة الأدبية، والسياسية والحربية والاجتماعية، كل ذلك كان على طريق الحجة والبرهان، فلا غرو أن يسمى هو نفسه برهانا.
وهو برهان بسيرته العملية، كما أنه برهان في دعوته الشرعية، فقد نشأ يتيما لم يعن بتربيته عالم ولا حكيم ولا سياسي، بل ترك كما كان ولدان المشركين يتركون وشأنهم، وكان في سن التعليم وتكون الأخلاق والملكات يرعى الغنم نهارا وينام من أول الليل، فلا يحضر سمار قومه ( مواضع السمر في الليل ) ولا معاهد لهوهم، واتجر قليلا في شبابه، مع قومه من أبناء الجاهلية وأترابه، فهو لم يصادف من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته، ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، ولكنه قام بهذه التربية أكمل قيام، وما زال يعجز عن مثل ما قام به من يستعدون له بالعلوم والأعمال، فكان بهذا برهانا على عناية الله به، وتأييده إياه وبوحيه وتوفيقه، وذلك قوله عز وجل :
﴿ وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾ أي أنزلنا إليكم أيها الناس بما أوحينا إليه كتابا من لدنا هو كالنور : بيّن في نفسه، مبين لكل ما أنزل لبيانه، وتنجلي لكم الحقائق ببلاغته وأساليب بيانه بحيث لا يشتبه فيها من تدبره وعقل معانيه، بل تثبت في عقله، وتؤثر في قلبه، وتكون هي الحاكمة على نفسه، والمصلحة له عمله.
مثال ذلك توحيد الله في ألوهيته وربوبيته، هو أثبت الحقائق، وأعلى ما يصل إليه البشر من المعارف، وأفضل ما تتزكى به النفوس، وتترقى به العقول، وقد بعث به جميع رسل الله إلى جميع الأمم، كان كل منهم يدعو أمته إليه، وكان يستجيب الناس لهم بقدر استعدادهم لفهم هذه الحقيقة العليا، ثم لا يلبثون أن يشوهوها بعدَهم بالشرك وضروب الوثنية التي تطمس العقول، وتدنس النفوس، وتهبط بالفطرة البشرية من أوج كرامتها وعزتها التي جعلها الله أهلا لها، إلى المهانة والذلة بالخضوع والخنوع والاستخداء لبعض المخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى فضل الله جنسهم عليها، وكان أقرب الأمم التاريخية عهدا بالأنبياء والرسل اليهود والنصارى وكانوا على نسيانهم حظا مما ذكروا به لا يزالون يحفظون بعض وصايا رسلهم بالتوحيد ولكنهم لا يفقهون معناها إذ يلبسونها بالشرك في الألوهية كاتخاذ المسيح إلها بل اتخاذ من دونه من مقدسيهم آلهة أو أنصاف آلهة يزعمون أنهم وسطاء بينهم وبين الله في كل ما ينفعهم ويضرهم في معاشهم ومعادهم، وبالشرك في الربوبية باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ويحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم.
هكذا كانت اليهود والنصارى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتبعون أناسا من علمائهم وأحبارهم ومقدسيهم في عقائد وآداب وشرائع مشوبة بالوثنية والخضوع لغير الله تعالى، لم تؤخذ من وحي الله المنزلة كما هو الواجب في أمور الدين الخالص من العقائد والعبادات وسائر ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولو كان البشر يستقلون بمعرفة هذا من غير وحي من الله لما كانوا محتاجين إلى بعثة الرسل. وقد يزعمون أنهم كانوا مبينين لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، ولو صدقوا لما صار دينهم في شكل غير ما كانا عليه هما ومن كان متبعا لهما في زمنهما، بحيث لو بعثا ثانية لأنكرا كل ما عليه هؤلاء الأعيان أو أكثره. وإذا كان الركن الأعظم لدينهما وهو التوحيد قد زلزل عند اليهود وزال من عند النصارى فكيف يكون دينهما هو دين موسى وعيسى عليهما السلام ؟. هذه إشارة إلى ما كان عليه أقرب الناس عهدا بدعوة الرسل إلى التوحيد فما ظنك بغيرهم ؟، فما الذي فعله القرآن في بيان هذه العقيدة ؟
لو لم يجئ محمد عليه الصلاة والسلام في بيان التوحيد بغير عنوانه في الشهادتين ( لا إله إلا الله ) لما كان كتابه نورا مبينا لهذا الحقيقة لأن من أشرك من أهل الكتاب وأمثالهم من الأمم القديمة كالهنود والكلدانيين والمصريين واليونان كانوا يقولون إن الإله واحد، وبعضهم كان يصرح بمثل كلمة التوحيد عندنا أو بها نفسها ولكنهم كانوا على ذلك مشركين يزعمون أن بعض البشر أو الحيوان أو الجماد ينفع أو يضر بصفة خارقة للعادة غير داخلة في سلسلة نظام الأسباب والمسببات، فيتوجهون إلى تلك الأشياء المعتقدة توجه العباد. ويزعمون أن ما جاء به رسلهم من أحكام الدين غير كاف في بيان الدين فيجب تركه إلى ما يضعه رؤسائهم من أحكام الحلال والحرام من غير نظر التقليدي فيه، لدعمه به وإرجاعه إليه.
فلما كانت الوثنية قد تغلغلت في جميع الأديان المأثورة وأفسدتها على أهلها، فقلد بعضها بعضا فيما ورثوه منها، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين ( القرآن ) فكان أشد إبانة لدقائق مسائل التوحيد وخفاياها من نور الكهرباء المتألق في هذا العصر الذي نرى فيه السراج الواحد في قوة أو ألوف من نور الشمع، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية، وضرب الأمثال المادية والمعنوية وضروب القصص والمواعظ، والهداية إلى النظر والتجارب، وكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين، وأوهام الضالين، التي مزجتها بالشرك مزجا، جمع بين الضدين بل النقضين جمعا، ولون أساليب الكلام فيها ونوعه لتتقبل النفس تكراره بقبول حسن، ولا يعرض لها من ترتيل آياته شيء من الملل، فكان بيانه في تشييد صرح الوحدانية، وتقويض بناء الوثنية، بيانا لم يعهد مثله في كماله وتأثيره في كتاب بشري ولا إلهي.
إلا أن إدراك هذه الحقيقة العليا والإحاطة بها، والعلم بما كان من ضروب الشبهات عليها، والأباطيل المتخللة فيها، وبما لها من التمكن في نفوس الناس، وما يتوقف عليه امتلاخها وانتزاعها من فنون البيان، بحسب سنة الله تعالى في تحويل الأمم من حال إلى حال، كل ذلك مما لا يعقل أن يتفق لرجل أمي لم يقرأ كتابا في الدين ولا في العلم، ولا عاشر أحدا عارفا بهما، كيف وقد كان ذلك فوق علوم الذين صرفوا كل حياتهم في الدرس والقراءة. بل نقول إن هذا البيان الأكمل لتقرير التوحيد واجتثات جذور الوثنية الذي جاء به القرآن وأشرنا إليه آنفا لم يكن قط معهودا من الحكماء الربانيين، ولا من النبيين والمرسلين، دع من دونهم من الأميين أو المتعلمين، لهذا تعين أن يكون الله تعالى هو المنزل لهذا النور المبين، ﴿ وانه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ﴾ [ الشعراء : ١٩٥ ١٩٦ ].
فمن تأمل ما قلناه بإنصاف ظهر له به على اختصاره أن محمدا النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم كان نفسه برهانا من الله تعالى أي حجة قطعية على حقية دينه، وأن كتابه القرآن العربي أنزل من العلم الإلهي عليه، ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله، وإنما أنزل نورا مبينا إلى جميع الناس، ليروا بتدبره حقيقة دين الله الذي يسعدون به في حياتهم الدنيا، وينالون به في الآخرة ما هو خير وأبقى، ولذلك قال :
﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ﴾
﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ﴾ الاعتصام الأخذ والتمسك بما يعصم ويحفظ، مأخوذ من العصام وهو الحبل الذي تشد به القرابة والإداوة لتحمل به، والأعصم الوعل يعتصم في شعاف الجبال وقننها، فالذين يعتصمون بهذا القرآن يدخلهم الله في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم ويدل على هذا التخصيص تنكير الفضل والرحمة، ورحمة الله وفضله غير محصورين، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما. وقد فسر الرحمة هنا بالجنة، والفضل بما يزيد الله به أهلها على ما يستحقون من الجزاء، كما قال في آية أخرى تقدمت ﴿ ويزيدهم من فضله ﴾ ويمكن أن يفسرا بما هو أهم من نعيم الآخرة جزاء وزيادة، فيشملا ما يكون لأهل الاعتصام بالقرآن الذي هو حبل الله المتين من الخصوصية في الدنيا، إذ يكونون رحمة للناس بعلومهم وأعمالهم وفضائلهم، واجتماعهم وتعاونهم وتراحمهم، يرحم الناس الاقتداء بهم والاقتباس منهم، ومن ذلك أنهم يكونون رحماء للناس، تحملهم رحمتهم على السعي لخير الناس، وبذل فضلهم من علم وعمل ومال لهم، فيكونون أئمة للناس برحمتهم وفضلهم.
﴿ ويهديهم إليه صراطا مستقيما ﴾ أي ويهديهم تعالى هداية خاصة موصلة إليه صراطا مستقيما أي طريقا قويما قريبا يبلغون به الغاية من العمل بالقرآن، أما في الدنيا فبالسيادة والعزة والكمال، وأما في الآخرة فبالجنة والرضوان، فهذا الصراط المستقيم لا يهتدى إليه إلا بالاعتصام بالقرآن الكريم، فيا خسارة المعرضين، ويا طوبى للمعتصمين، وقد صدق وعد الله للصادقين، ففاز من اعتصم من الأولين، وخاب وخسر من أعرض من الآخرين، فعسى أن يعتبر بذلك المنتمون في هذا العصر إلى هذا الدين. وقد سكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للعلم به من المقابلة، وللإيذان بأنه بعد ظهور البرهان، وتألق نور البيان، لا ينبغي أن يوجد، وإن وجد لا يؤبه له لأنه كالعدم.
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ( ١٧٦ ) ﴾
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الفرائض١. هكذا أورده في الدر المنثور عند ذكره هذه الآية. وهي المراد من آية الفرائض هنا للتصريح بذلك في روايات أخرى عند كثيرين منها ما رواه ابن سعد والنسائي وابن جرير والبيهقي في سننه عن جابر قال : اشتكيت فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي فقلت يا رسول : أوصي لأخواتي بالثلث ؟ قال :( أحسن )، قلت بالشطر ؟ قال :( أحسن )، ثم خرج علي فقال ( لا أراك تموت في وجعك هذا، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك وهو الثلثان ) فكان جابر يقول نزلت هذه الآية في ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾.
وأخرج العدني والبزار في مسنديهما وأبو الشيخ في الفرائض بسند صحيح عن حذيفة قال نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسير له فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو بحذيفة فلقاها إياه. فلما كان في الخلافة عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها، فقال حذيفة لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقيتك كما لقاني والله لا أزيدك على ذلك شيئا أبدا. أقول ويفسر قوله ( فلقيتك كما لقاني ) ما رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين قال : نزلت ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة ورجا أن يكون عنده تفسيرها فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدثك يومئذ فقال عمر : لم أرد هذا رحمك الله.
وقد بينا في الجزء الرابع من التفسير معنى الكلالة واشتباه عمر رضي الله عنه فيها وسؤاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها بنفسه وبواسطة بنته حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى ابن راهوية وابن مردويه أن هذه الآية نزلت بسبب سؤاله عن الكلالة فلم يفهمها فكلف حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها عند ما تراه طيبة نفسه. وروى مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال ( ما سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال ( تكفيك آية الصيف التي آخر سورة النساء ) ٢. وروى أحمد وأبو داود والترمذي والبيهقي عن البراء بن عازب أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة فقال ( تكفيك آية الصيف ) ٣ وروى عبد بن حميد وأبو داود في المراسيل والبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مثله وزاد ( فمن لم يترك ولدا ولا والدا فورثته كلالة ) وأخرجه الحاكم موصولا عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
قال الخطابي : أنزل الله في الكلالة آتين إحدهما في الشتاء وهي الآية التي في أول سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين هذا المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف وهي التي في آخر سورة النساء، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها اه. أقول : وقد بينا في تفسير الآية الأولى أنها نزلت في الإخوة من الأم بعد بيان إرث الوالدين لأنهم يحلون محلها عند فقدها فيأخذون ما كانت تأخذه. ثم عرضت الحاجة إلى بيان حكم إخوة العصب عند مرض جابر فنزلت هذه الآية. وما ورد أنها نزلت في السفر غلط سببه أن حذيفة لما تلقاها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظن أنها نزلت في ذلك الوقت لأنه لم يكن سمعها من قبل، وبهذا يجمع بين الروايتين، وكثيرا ما يظن الصحابي عند سماعه الآية لأول مرة أو عند حدوث حادثة أنها نزلت في ذلك الوقت أو حدوث تلك الحادثة وتكون قد نزلت قبل ذلك، ومن علم هذا سهل عليه الجمع بين كثير من الروايات المتعارضة في أسباب النزول وهي كثيرة جدا. ومن الغلط على الغلط قول بعضهم ان السفر الذي نزلت فيه سفر حجة الوداع، وإنما كانت حجة الوداع في الشتاء وقد صرح في الروايات الصحيحة أن هذه هي آية الصيف ورواية نزولها بسبب سؤال عمر لا تصح.
ثم إن اختلافهم في تفسير الكلالة له مثار من اللغة ومجال من الآيتين. أما الأول فقد قيل إن أصل الكلالة في اللغة ما لم يكن من النسب لحا أي لاصقا بلا واسطة، وقيل إنه ما عدا الوالد والولد من القرابة وهو بيان للقول الأول، وقيل ما عدا الولد فقط، وقيل الإخوة من الأم. قال في لسان العرب عند ذكره ( وهو المستعمل ) وقيل الكلالة من العصبة من ورث معه الإخوة من الأم. ويطلق هذا اللفظ على الميت الذي يرثه من ذكر، وقيل بل على الورثة غير من ذكر، وقيل على كل منهما والمرجح القرينة، وهذا هو الصحيح لغة الذي يجمع بين النصوص. والجمهور على أن الكلالة من المورثين من لا ولد له ولا والد، وهو الذي قضى به أبو بكر ( رض ) وهو الحق وفيه الحديث الذي أرسله أبو داود ووصله الحاكم، ولعله لو بلغهم كلهم لزال به كل خلاف.
وأما الثاني وهو مجال الخلاف من الآيتين فهو أن الآية الأولى التي ذكرت بين آيات الفرائض في أول السورة لم تفسر الكلالة وإنما ذكرت ما يرثه الإخوة للأم إرث كلالة، وأجمعوا على أن المراد بالإخوة فيها الإخوة من الأم. والآية الثانية بينت فرض أخوات العصب كلالة واشترطت فيه عدم الولد. ولكن من تأمل الآيات كلها، علم أنه لا خلاف ولا إشكال فيها، ذلك أنه بين قبل الآية الأولى إرث الأولاد ثم إرث الوالدين مع وجود الأولاد وعدمه، ومع وجود الإخوة وعدمه، ثم إرث الأزواج مع وجود الأولاد وعدمه، وهؤلاء هم الذين يدلون إلى من يرثونه بأنفسهم وكل من عداهم يرث بالواسطة فيعد كلالة على الإطلاق، ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى :﴿ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ﴾ [ النساء : ١١ ] ومعنى يورث كلالة يموت فيرثه من يرثه من أهله إرث كلالة أو حال كونه أي الميت كلالة أي لا ولد ولا والد، فلو لم يعلم هذا من اللغة لعلم من الآيات السابقة لأنه تقدم فيها ذكر إرث كل منهما، فتعين أن تكون الكلالة عبارة عن عدمهما، ولم يشترط أن لا يكون له زوج لأن العرب تطلق الكلالة على النسب دون الصهر، ولولا ذلك لكانت القرينة قاضية بأن يقال إن المراد بالكلالة هنا من ليس له ولد ولا والد ولا زوج لأن الزوج يرث بلا واسطة كالأصول والفروع وقد ذكر فرضه ذكرا وأنثى قبل ذكر الكلالة.
فعلم من هذه الآية أن الإخوة من الأم أصحاب فرض في الكلالة وأن فرضهم هو فرض الأم التي حلوا محلها في الإرث، وهو من القرائن على كون المراد الإخوة من الأم. وبقي الإخوة من الأب والأم معا أو الأب فقط مسكوتا عنهم، وقد بينت السنة أن من لم يفرض من الأقارب يحوز ما بقي من التركة بعد الفريضة إن كان عصبة على قاعدة أخذ الذكر مثل حظ الاثنين وقاعدة كون الأقرب يحجب الأبعد. فلما مرض جابر وله أخوات من عصبته أراد أن يوصي لهن لأنه ليس لهن فرض وهو الكلالة والعرب لم تورث الإناث فأنزل الله آية الفتوى في الكلالة فجعل لهن فيها فرضا، ولكن روي أن عمر ( رض ) أخذ بظاهر هذه الآية إذ نفت الولد ولم تنف الوالد، وروي أنه كان كتب رأيه في لوح ومكث يستخير الله مدة فيه يقول اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي ولم يدر أحد ما كتب فيه، فقال : إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. وروى عبد الرزاق وابن سعيد عن ابن عباس قال أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال ( احفظ عني ثلاثا فإني أخاف أن لا يدركني الناس : أما أنا فلم اقض في الكلالة ولم استخلف على الناس خليفة وكل مملوك لي عتيق ) وروي أيضا أن عليا كان أنكر قول أبي بكر أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ثم رجع إلى قوله.
ههنا عبرة يجب تدبرها وهي أنني لم أر في سيرة عمر ( رض ) أغرب من هذه المسألة ولا أدل منها قوة دينه وإيمانه بالقرآن وحرصه على بيان كل حكم من الشرع بدليله، ووقوفه إذا لم تتبين له الحجة، ولاسيما إذا كان الحكم في القرآن فلا مجال للاجتهاد فيه، وقد سئل مرة عن الكلالة وهو على المنبر فقال : الكلالة، الكلالة، الكلالة، وأخذ بلحيته ثم قال والله لأن اعلمها أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من شيء، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ( ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف ) فأعادها ثلاث مرات. رواه ابن جرير.
فالظاهر إن صحت الروايات – أن عمر كان يحب أن يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحكام الكلالة بالتفصيل فيسأله عن الكلالة سؤالا مطلقا مبهما لا يبين مراده منه فيذكر له صلى الله عليه وآله وسلم ما أنزل الله ولا يزيده من اجتهاده شيئا، فكبرت المسألة في نفسه وصارت إذا ذكرت تهوله وتحدث في نفسه اضطرابا فلا يتجرأ أن يستعمل اجتهاده ورأيه في فهمها. وقد عهد في كثير من العقلاء ما هو أغرب من هذا وهو أن يعجزوا عن تصور بعض الأمور كبعض أرقام الحساب مثلا ويكون تصورهم وإدراكهم لكل ما عدا ذلك صحيحا من غير أن يكون هنالك ما تخافه النفس ويضطرب له العصب كالقول في كتاب الله تعالى بغير بينة. فهل يعتبر بهذا من يقدمون اجتهادهم أو اجتهاد شيوخهم على ظاهر القرآن أو السنة أو الذين لا يقدمون كتاب الله على كل شيء ؟
وجملة القول إن الكلالة من الوارثين من كل وأعيا عن أن يصل إلى الميت المورث بنفسه فهو يصل إليه بواسطة من يتصل نسبه به بالذات، وإنما النسب المتصل بالذات الأصل والفرع، وما علا من الأصول وسفل من الفروع هو عمود النسب فلا يكون كلالة، فالكلالة من الوارثين إذا هم الحواشي الذين يدلون إلى الميت بواسطة الأبوين أحدهما أو كليهما من الأطراف. والكلالة من المورثين هو الذي يرثه غير الولد والوالد فهذا ما كان يفهمه الصحابة لأنه المعروف في العربية ولا صحة لغيره، وما اشتبه بعضهم إلا لنفي الولد في هذه الآية، لأنهم عهدوا أن القرآن خال من العبث واعتقدوا أنه منزه عنه في ذكر ما يتركه في معرض الحاجة إلى بيانه، وهم موقنون بأنهم حفظوا هذا القرآن أكمل حفظ وأتمه فلا يحتمل أن يكونوا قد نسوا أو تركوا ذكر نفي الوالد مع نفي الولد في الآية. ولهذا أغلظ حذيفة الرد على عمر في خلافته لما سأله عن الآية إذا توهم أن يحمله على أن يقول فيها شيئا برأيه. وعلى هذا يكون محل الإشكال هو نكتة نفي الولد دون نفي الوالد في الآية وإليك تفسيرها متضمنا لهذا النكتة :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ أي يطلبون منك أيها الرسول الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد الله الذي ليس له والد ولا ولد، وله أخوات من عصبته وهؤلاء لم يفرض لهم شيء في التركة من قبل، وإنما فرض للإخوة من الأم السدس للواحد منهم والثلث لما زاد عن الواحد شركاء فيه مهما كثروا لأنه سهم أمهم ليس لها سواه، فقال لهم الله يفتيكم في
١ أخرجه البخاري في الوضوء باب ٤٤، والمرضى باب ٢١، ومسلم في الفرائض حديث ٨، وأبو داود في الفرائض باب ٢، وابن ماجه في الفرائض باب ٥، وأحمد في المسند ٣/٢٩٨..
٢ أخرجه مالك في الفرائض حديث ٧..
٣ أخرجه مسلم في الفرائض حديث٩، وأبو داود في الفرائض باب ٣..
Icon