قال المهايمي سميت به لدلالة إخراج اليهود عنده، على لطف الله وعنايته برسوله وبالمؤمنين وقهره وغضبه على أعدائهم وهو من ألطف مقاصد القرآن.
وكان ابن عباس يقول " سورة بني النضير " ، روى البخاري١ عن سعيد بن جبير قال " قلت لابن عباس سورة الحشر ؟ قال سورة بني النضير " ، وعنه قال قلت لابن عباس " سورة الحشر ؟ قال سورة بني النضير " وهم قوم من اليهود، وهي مدنية وآيها أربع وعشرون بلا خلاف.
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحشرقال المهايميّ: سميت به لدلالة إخراج اليهود عنده، على لطف الله وعنايته برسوله وبالمؤمنين، وقهره وغضبه على أعدائهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن.
وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير.
روى البخاري «١» عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟
قال: سورة بني النضير.
وعنه قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: سورة بني النضير. وهم قوم من اليهود. وهي مدنية. وآيها أربع وعشرون، بلا خلاف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تقدم القول في تأويل نظيره.
ثم أشار إلى بيان بعض آثار عزته تعالى، وإحكام حكمته، إثر وصفه بالعزة القاهرة، والحكمة الباهرة على الإطلاق، بقوله: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا أي لشدة بأسهم ومنعتهم، فصار آية لكم، لأنه من آثار سنته تعالى في إذلال المفسدين وقهرهم. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من بأسه فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي عذابه، وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي لم يظنوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي أنزله إنزالا شديدا فيها، لدلالة مادة (القذف) عليه، كأنه مقذوف الحجارة.
قال القاشاني: أي نظر بنظر القهر إليهم فتأثروا به، لاستحقاقهم لذلك، ومخالفة الحبيب ومشاقته ومضادته، ولوجود الشك في قلوبهم، وكونهم على غير بصيرة من أمرهم، وبينة من ربهم، إذ لو كانوا أهل يقين ما وقع الرعب في قلوبهم، ولعرفوا رسول الله ﷺ بنور اليقين، وآمنوا به فلم يخالفوه.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي كيف حل بالمفسدين ما حل ونزل بهم ما نزل، لتعلموا صدق الله في وعده ووعيده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٣ الى ٤]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الخروج من أوطانهم لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا أي بالقتل والسبي، كما فعل بإخوانهم بني قريظة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ذلِكَ أي الجلاء والعذاب بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا أي خالفوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما نهاهم عنه من الفساد، ونقض الميثاق. وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي له في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ٥]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
تنبيه:
ذكر علماء الأخبار وأئمة السير، أن سبب الأمر بجلاء بني النضير هو نقضهم العهد. قال الإمام ابن القيّم: لما قدم النبيّ ﷺ المدينة، صار الكفار معه ثلاثة أقسام، قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم. ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمر به ربه- تبارك وتعالى- فصالح يهود المدينة، وكتب بينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.
فكانت بنو قينقاع أول من نقض ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، وحاصرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاوروه بها. ثم نقض العهد بنو النضير. وذلك أن رسول الله ﷺ خرج إليهم يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وجلس رسول الله ﷺ إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو رجل فيلقي صخرة عليه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم، وصعد ليلقي عليه صخرة، ونزل الوحي على الرسول صلوات الله عليه بما أراد القوم.
فقام ورجع بمن معه من أصحابه إلى المدينة. وأمر بالتهيؤ لحربهم. ثم سار بالناس، حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله ﷺ بقطع النخيل وتحريقها، ثم قذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلّت به الإبل. فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها رسول الله ﷺ على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف
يامين بن عمير بن كعب، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله ﷺ قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك، وما هم به من شأني؟
فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل له عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون. ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل به. فيهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ٦]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي أعاد عليه من أموال بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ أي فما أجريتم على تحصيله خيلا ولا ركابا، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم. و (الإيجاف) من الوجيف، وهو سرعة السير. و (الركاب) : ما يركب من الإبل، غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه. وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي من أهل الفساد والإفساد ليقوم الناس بالقسط. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قال الزمخشري: المعنى أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير، شيء لم يحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم، وعلى ما في أيديهم، كما كان يسلط رسله على أعدائهم. فالأمر فيه مفوض إليه، يضعه حيث يشاء. يعني أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها، وأخذت عنوة وقهرا. وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ٧]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي من أموال محاربيها، وهو بيان للأول، ولذا لم يعطف عليه، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ أي الفيء الذي حقه أن يكون لمن ذكر دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ
أي يتداولونه وحدهم دون من هم أحق به. أو دولة جاهلية، إذ كان من عوائدهم استئثار الرؤساء والأغنياء بالغنائم دون الفقراء وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي من قسمة غنيمة أو في فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي عن أخذه منها فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي لمن خالفه إلى ما نهى عنه.
تنبيهات:
الأول- قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بالآية على أن (الفيء) ما أخذ من الكفار بلا قتال، وإيجاف خيل وركاب، ومنه ما جلوا عنه خوفا. و (الغنيمة) ما أخذ منهم بقتال، كما تقدم في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ... [الأنفال:
٤١] الآية، خلافا لمن زعم أنهما بمعنى واحد، أو فرق بينهما بغير ذلك. انتهى.
وكأن الذي زعم أنهما بمعنى واحد رأى أن مجمل هذه الآية بيّنه آية الأنفال، حتى زعم قتادة أن هذه منسوخة بتلك. قال- فيما رواه عنه ابن جرير-: كان الفيء في هؤلاء ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر. وكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس. فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، ويقسم الخمس الثاني على خمسة أخماس: فخمس لله وللرسول، وخمس لقرابة رسول الله ﷺ في حياته، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل.
والمسألة مبسوطة في مطولات الفروع.
الثاني- قال الزمخشري: الأجود أن يكون قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الآية- عامّا في كل ما آتى رسول الله ﷺ ونهى عنه. وأمر الفيء داخل في عمومه.
وفي (الإكليل) : فيه وجوب امتثال أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: وكل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، يصح أن يقال إنه في القرآن، أخذا من هذه الآية. انتهى.
وهذا الأخير من غلوّ الأثريين، والإغراق في الاستنباط.
ثم بين تعالى من أصناف من تقدم، الأحق بالعناية والرعاية، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ٨]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)
ثم أشار إلى أن إيثار هؤلاء بالعطاء مما تطيب به نفوس إخوانهم الأنصار، لحرصهم، رضي الله عنهم، على الإيثار دون الاستئثار، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ٩]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ أي دار الهجرة. أي توطنوها وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل مجيء المهاجرين إليهم. وعطف الْإِيمانَ قيل: بتقدير عامل. أي وأخلصوا الإيمان. وقيل: استعمل التبوّؤ في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكّن.
والمعنى: لزموا الدار والإيمان. وجوّز أيضا تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكّن فيه، على أنه استعارة بالكناية، ويثبت له التبوّؤ على طريق التخييل.
يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ أي لوجود الجنسية في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء. قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا، مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرّم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر، كما قيل:
يا أخي! واللّبيب، إن خان دهر، | يستبين العدوّ ممن يحبّ |
قال القاشاني: لتجرّدهم وتوجّههم إلى جناب القدس، وترفّعهم عن مواد الرجس، وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا، باقتضاء الفطرة، وفرط محبة الإخوان بالحقيقة، والأعوان في الطريقة. فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم، لمكان الفتوّة، وكمال المروّة، ولقوة التوحيد، والاحتراز عن حظ النفس.
في (الإكليل) : في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. انتهى.
وقال ابن كثير: هذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: ٨]، وقوله:
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: ١٧٧]، فإن هؤلاء تصدّقوا، وهم يحبون ما تصدّقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه، ولا ضرورة به. وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدّق الصّديق رضي الله عنه بجميع ماله،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟
فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله! وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل، أحوج ما يكون إلى الماء، فردّه الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالسعادتين. وفي إضافة الشّحّ إلى النفس إشارة لما قاله القاشاني من أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء. والشح من غرائزها المعجونة في طينتها، لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها. ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور، من عصمه الله.
قال ابن جرير: الشح في كلام العرب البخل، ومنع الفضل من المال. والعلماء يرون أن الشح في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق. ثم روي أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يدي شيء! قال: ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما. ذلك البخل، وبئس الشيء البخل! انتهى.
والظاهر أنه عنى بالعلماء علماء الأثر. لأنه لم يفسر إلا بالمأثور. ولعل ابن مسعود فسّر الآية بذلك، لدلالة سياقها عليه، إذ القصد تزهيد الأنصار في أن تطمح أنفسهم لما جعل للمهاجرين دونهم. أو هو يرى الفرق بين الشح والبخل بما ذكره.
وعلى كل، فلا يتعين تأويل الآية بما ذكره بل هي مما تحتمله.
وروي ابن جرير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: برئ من الشح من أدّى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من قبلكم: أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا.
وعن أبي هريرة «٢» أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ١٠]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني بالذين جاءوا من بعدهم، الذين هاجروا حين قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم. فالمراد مجيئهم إلى المدينة بعد مدة. والمجيء حسي. وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة. فالمجيء إما إلى الوجود، أو إلى الإيمان. ونظير هذه الآية، آية براءة:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: ١٠٠].
قال الشهاب: والمراد بدعاء اللاحق للسابق، والخلف للسلف، أنهم متبعون لهم، أو هو تعليم لهم بأن يدعوا لمن قبلهم، ويذكروهم بالخير.
تنبيه:
جعل الزمخشري قوله: وَالَّذِينَ عطفا على الْمُهاجِرِينَ كالموصول قبله في قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا... إلخ. فيكون قوله يُحِبُّونَ وقوله يَقُولُونَ حالين.
(٢) أخرجه النسائي في: الجهاد، ٨- باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه.
وعندي أن هذا هو الوجه، ما قبله تكلف، وأن الموصولين مستأنفان لمدح إيمان الأنصار والتابعين لهم بتلك الأخلاق الفاضلة، والخصال الكاملة. وما حمل الزمخشري ومن تابعه على الاقتصار على الوجه الأول إلا لتشمل أصناف من يستحق الفيء من فقراء كلّ، كأنه قيل: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا... إلخ، وَللفقراء الَّذِينَ تَبَوَّؤُا... إلخ، وللفقراء الذين جاءوا من بعدهم... إلخ، مع أن سياق الآيات المذكورة، ورعاية وقت نزولها، والمهاجرون في جهد، والأنصار في سعة ورغد- يقضي بأن المقصود منها للفيء، هو فقراء المهاجرين خاصة وأن الذين تبوءوا الدار في غنى عنه وعدم تشوف إليه، لشدة محبتهم لإخوانهم، بل رغبتهم في إيثارهم. ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه، ويدعو له ابتهاجا بما أتوا، واغتباطا بما عملوا، لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله، محبة في الله ورسوله، وبين محب لمن هاجر، مكرم له، بل مؤثر إياه، مما أشفّ عن قوة الإيمان، والإخلاص في تدعيم روابط الإيقان، هذا هو الظاهر من نظم الآيات الكريمة، وذوق سوقها. وأما فقراء الصنفين الآخرين، فإنهم يستحقون من الفيء قياسا على الصنف الأول، لاشتراكهم في الفقر. إلا أنه في عهد النبيّ ﷺ لم يشك أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقرا، إلا سهلا وأبا دجانة- كما تقدم- فأعطاهما صلى الله عليه وسلم. وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها المغانم، فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبين في آيات أخر، فإن التنزيل الكريم بيّن مقاسم الأموال لذويها في عدة آيات.
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة: ٦٠]. حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثم قال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ... [الأنفال: ٤١] الآية. ثم قال: هذه الآية لهؤلاء. ثم قرأ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الحشر: ٧]. حتى بلغ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: ١٠]. ثم قال:
استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، فليس أحد إلا له فيها حق. ثم قال لئن عشت ليأتين الراعي. وهو يسيّر حمره، نصيبه، لم يعرق فيها جبينه!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ١١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١)
قال ابن جرير: ذكر أن الذين نافقوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول. ووديعة ومالك ابنا نوفل، وسويد، وداعس. بعثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله ﷺ للحرب أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن معكم قوتلتم قاتلنا وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم، إلا الحلقة، كما تقدم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ١٢]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي منهزمين، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي بنوع مّا من أنواع النصر. والضمير للمنافقين أو اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ١٣]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله، لاحتجابهم بالخلق عن الحق، بسبب جهلهم بالله، وعدم معرفتهم له، إذ لو عرفوه لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه، ولم يستخفوا بمعاصيه، ويستخفّوا بأوامره. والضمير للمنافقين أو اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ١٤]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤)
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرّقة، لاختلاف مقاصدها، وتجاذب دواعيها، وتفرّقها عن الحق بالباطل. ذلِكَ قال المهايمي: أي الاجتماع في الظاهر، مع افتراق البواطن، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي أنه يوجب جبنهم المفضي إلى الهلاك الكليّ. انتهى.
وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم، والحمل عليهم، وتبشير لهم بأنهم المنصورون الغالبون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ١٥]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مثل هؤلاء اليهود من بني النضير، فيما نزل بهم من العقوبة، كمثل من نالهم جزاء بغيهم من قبلهم، وهم كفار قريش في وقعة بدر، أو بنو فينقاع. قال ابن كثير: والثاني أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله ﷺ قد أجلاهم قبل هذا. انتهى.
قال قتادة: إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد. وكان من أمرهم أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت. فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فتقلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على حكمه، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى الشام- والتفصيل في السير-.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عزّ وجلّ مثل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب، مما هو مذيقهم من نكاله، بالذين من قبلهم من مكذبي
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١٦ الى ١٧]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين في إغراء بني النضير على القتال، ووعدهم النجدة أو الخروج معهم، ومثل انخداع بني النضير بوعد أولئك الكاذب، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي إذ غر إنسانا ووعده على اتباعه وكفره بالله، النصرة عند الحاجة إليه فَلَمَّا كَفَرَ أي بالله، واتبعه وأطاعه قالَ أي مخافة أن يشركه في عذابه، مسلما له وخاذلا إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ أي فلا أعينك إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي في نصرتك فلم ينفعه التبرؤ، كما لم ينفع الأول وعده الإعانة فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي في حق الله تعالى، وحق العباد. أي وهكذا جزاء اليهود من بني النضير والمنافقين، الّذين وعدوهم النصرة. وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به. إنهم في النار مخلدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
قال المهايمي: يعني أن مقتضى إيمانكم أن لا تأمنوا مكر الله، فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر، ثم يتبرأ منكم.
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي لما بعد الموت من الصالحات وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم بحسبها.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ قال ابن جرير: أي لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم، فأنساهم حظوظ أنفسهم من الخيرات.
وقال القاشاني: نَسُوا اللَّهَ أي بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية، والاشتغال باللذات النفسانية فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه، فذهلوا عن الجوهرة القدسية، والفطرية النورية.
وقال ابن القيّم في (دار السعادة) : تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفا عظيما. وهو أن من نسي ربه، أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه، في معاشه ومعاده، فصار معطلا مهملا، بمنزلة الأنعام السائبة بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه، لبقائها علي هداها الذي أعطاها إياه خالقها. وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه. فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل به، وتزكو به، وتسعد به في معاشها ومعادها. قال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف: ٢٨]. فغفل عن ذكره ربه، فانفرط عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله، وما تزكو به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر، حيران لا يهتدي سبيلا، فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله، ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها، وما تزكو به وتفلح به. فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، انتهى.
أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي: الذين خرجوا عن الدين القيّم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وخانوا وغدروا، ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ٢٠]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وهم الناسون الغادرون وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي: بالنعيم المقيم.
الأول- قال الزمخشري: استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر. انتهى.
وردّ الاستدلال بذلك أحد أئمة الشافعية، وهو برهان الدين في (تفضيل السلف على الخلف) بما مثاله:
احتج بهذه الآية بعض الشافعية في مسألة قتل المسلم بالذمي، وهذا في غاية الضعف، لأن أحدا لم يسوّ بينهما. وإيجاب القصاص ليس بتسوية، لأنه ما من متباينين في وجوه، إلا وقد استويا في وجه أو وجوه. فلا يكون إيجاب القود استواء كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواء. فهذا كلام من ضعف نظره في مورد الانتزاع من شواهد الفرقان. انتهى.
الثاني- قال أبو السعود: لعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء، من جهتهم، لا من جهة مقابليهم.
فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين. زيادة ونقصانا، وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص. وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد:
١٦]، إلى غير ذلك من المواقع وأما قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]، فلعل تقديم الفاضل فيه، لأن صلته ملكة لصلة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : آية ٢١]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ أي الجامع للمواعظ، الموجب للنظر والتقوى بكل حال، عَلى جَبَلٍ قال المهايمي أي بتفهيمه له وتكليفه بما فيه، بعد إعطاء القوى المدركة والمحركة لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً أي متذللا لعظمة الله مُتَصَدِّعاً أي متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي مع عظم مقداره، وغاية صلابته، وتناهي قساوته. قال القاشاني: أي قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول، إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع
قال الزمخشري: الآية تمثيل كما مرّ في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: ٧٢]. وقد دل عليه قوله: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه، عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره.
ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه، مع أنه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ما غاب عن الحس وشوهد هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ أي المنعم بالنعم العامة والخاصة. ومن كان مطلعا على الأسرار يحب أن يخشع له، ويخشى منه، لا سيما من حيث كونه منعما. إذ حق المنعم أن يخشع له، ويخشى أن تسلب نعمه هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي الغني المطلق، الذي يحتاج إليه كل شيء، المدبر للكل في ترتيب نظام لا أكمل منه الْقُدُّوسُ أي المنزه عما لا يليق بجلاله، تنزها بليغا السَّلامُ أي الذي يسلم خلقه من ظلمه، أو المبرأ عن النقائص كالعجز الْمُؤْمِنُ أي لأهل اليقين بإنزال السكينة، ومن فزع الآخرة الْمُهَيْمِنُ أي الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلائه وحفظه الْعَزِيزُ أي القويّ الذي يغلب ولا يغلب الْجَبَّارُ أي الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، والذي لا يخرج أحد عن قبضته- قاله الغزالي في (المقصد الأسنى) -.
وقال الإمام ابن القيّم في (الكافية الشافية) :
وكذلك (الجبّار) من أوصافه | والجبر في أوصافه قسمان |
جبر الضعيف. وكل قلب قد غدا | ذا كسرة، فالجبر منه داني |
والثان جبر القهر بالعز الذي | لا ينبغي لسواه من إنسان |
وله مسمّى ثالث وهو العلوّ | فليس يدنو منه من إنسان |
من قولهم (جبّارة) للنخلة ال | عليا التي فاتت بكل بنان |
يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. أي في تدبيره خلقه.
وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم.
تنبيهات:
الأول- قال السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) : مقام معرفة كمال الرب الكريم، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائه الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم، ولذلك عدّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكايدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا فذموا الأمر المحمود. ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي، والجحد المحض، وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة.
قال الله جل جلاله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: ١٨٠]. وقال سبحانه وتعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: ١١٠]. فما كان منها منصوصا في كتاب الله وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهر اسم ذمّ لله سبحانه. وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته.
وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفا في صحته، لم يصح استعماله، فإن الله أجلّ من أن يسمّى باسم لم يتحقق أنه تسمّى به.
ثم قال: وعادة بعض المحدّثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلما تركا
ثم أطال رحمه الله في ذلك وأطاب. فليرجع إليه النّهم بالتحقيقات.
الثاني- قال الغزاليّ في (المقصد الأسنى) - وهو من أنفس ما ألف في معاني الأسماء الحسنى-: هل الصفات والأسامي المطلقة على الله تعالى تقف على التوقيف. أو تجوز بطريق العقل؟ والذي مال إليه القاضي أبو بكر الباقلاني أن ذلك جائز، إلا ما منع منه الشرع، أو أشعر بما يستحيل معناه على الله تعالى. فأما ما لا مانع فيه فإنه جائز. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمة الله عليه، أن ذلك موقوف على التوقيف، فلا يجوز أن يطلق في حق الله تعالى. إلا إذا أذن فيه.
والمختار عندنا أن نفصل ونقول: كل ما يرجع إلى الاسم، فذلك موقوف على الإذن، وما يرجع إلى الوصف، فذلك لا يقف على الإذن، بل الصادق منه مباح دون الكاذب. ثم جوّد رحمه الله البيان بما لا غاية بعده.
الثالث- قال السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) : قد تكلم على معانيها جماعة من أهل العلم والتفسير، وأكثرها واضح. والعصمة فيها عدم التشبيه، واعتقاد أن المراد بها أكمل معانيها، الكمال الذي لا يحيط بحقيقته إلا الله تعالى.
ثم قال: ولا بد من الإشارة هنا إلى أمر جمليّ، وهو أصل عظيم. ، وذلك تفسير الحسنى جملة: فاعلم أنها جمع (الأحسن) لا جمع الحسن، وتحت هذا سر نفيس:
وذلك أن (الحسن) من صفات الألفاظ، ومن صفات المعاني، فكل لفظ له معنيان حسن وأحسن، فالمراد الأحسن منهما حتى يصح جمعه (حسنى)، ولا يفسر بالحسن منهما إلا الأحسن بهذا الوجه. ثم بيّن مثال ذلك فانظره.