ﰡ
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢)(أَنْ) في موضع نصب مفعول له، المعنى لأن جاءه الأعمى.
وهذه الآيات وما بعدها إلى قوله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)
نزلت في عبد اللَّه ابن أمِّ مكتوم. كان صار إلى النبي - ﷺ - والنبي يدعو بعض أشراف قريش إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامه غيره، فتشَاغَل - عليه السِلام - بدعائه عن الإقبال
على عبد الله بن أم مكتوم، فأمره الله ألا يتشاغَلَ عن الإقبالِ على أَحَدٍ من
المسلمين بغيره، فقال: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤)
(فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى)
وُيقْرَأُ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى).
فمن نصب فعلى جواب (لَعَلَّ) ومن رفع فعلى العطف على (يَزَّكَّى)
* * *
وقوله: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)
أي أنت تقبل عليه، ويقرأ (تَصَّدَّى)، فمن قرأ (تَصَدَّى) - بتخفيفِ الصاد - فالأصل تَتصَدَّى، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين، ومن قرأ (تَصَّدَّى)
المخرجين - مخرج التاء مِنَ الصادِ.
* * *
وقوله: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧)
أي أي شيء عليك أن لا يسلم من تَدْعُوه إلى الإسلام.
* * *
وقوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
معناه تَتَشَاغَلُ، يقال: لَهيت عن الشيء
ألهى عنه إذا تشاغلت عنه.
* * *
وقوله: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١)
يعنى به هذه الموعظة التي وعظ الله بها النبي عليه السلام.
* * *
(فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢)
ذُكِرَ لأن الموعظة والوعظ واحد، والمعنى راجع إلى حَمَلَةِ القُرآن
المعنى فمن شاء أن يذكره ذكره.
ثم أخبر جلَّ وعزَّ أن الكتابَ في اللوح المحفوظ عنده، فقال: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
والسَّفَرَةُ الكتبة، يعني به الملائكة، واحدهم سَافِر وَسَفَرة مثل كاتب
وكتبة، وكافر وكفرة، وَإنما قيل للكتاب سَفَرة، وللكاتب سافِر، لأن مَعْنَاه أنه يبَيِّن الشيءَ وُيوَضحُه، يقال أَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا أضاء، وسفرت المرأة إذا كشفت النقاب عن وَجْهِهَا، ومنه: سَفَرت بين القوم أي كشفت قلب هذا وقلب هذا لأصلح بينهم.
* * *
وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
جمع بارٍّ.
* * *
وقوله: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)
يكون على جهة لفظ التعجُب، ويكون التَعَجب مِمَّا يؤمَرُ بِهِ الآدَمِيُّونَ
كُفْرِ الإنْسَان، ويجوز على معنى التوبيخ ولفظه لفظ الاستفهام.
أيْ أيُّ شيء أكفَرَهُ. ثم بَيَّن مِن أَمْره ما كان ينبغي أن يُعْلَمَ مَعَهُ أن الله خَالِقُه، وأنه وَاحِد فقال:
* * *
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)
على لفظ الاستفهام، ومعناه التقرير ثم بيَّن فقال:
* * *
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)
المعنى فَقَدَّرَهُ على الاستواء كما قال عزَّ وجلَّ: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧).
* * *
وقوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)
أي هداه السبيل (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
* * *
وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)
معنى أقبره جعل له قَبراً يوارى فيه، يقال أَقْبَرْتُ فُلَاناً، جعلت له قبراً.
وقبرت فلاناً دفنته فأنا قابِرُهُ.
قال الشاعر:
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا... عَاشَ ولم يُنْقَلْ إلَى قَابِرِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
معناه بعثه، يقال: أنشر اللَّهُ المَوْتَى، فَنُشِرُوا، فالواحد نَاشِر
قال الشاعر:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مَمَّا رَأَوْا... يَا عَجَبَاً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
أي فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه وطعام جميع الحيوان الذي
جعله الله سبباً لحياتِهِمْ.
* * *
(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (٢٥)
(إِنَّا صَبَبْنَا)
ويقرأ (أَنَّا صَبَبْنَا)، فمن قرأ (إِنَّا) فعلى الابتداء والاستئناف ومن قرأ (أَنَّا)
فعلى البدل من الطعَام، ويكون (إِنَّا) في موضع جرٍّ، المعنى فلينظر الإنسان إلى إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (١).
* * *
(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)
أي بالنبات.
* * *
(فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧)
والحبُ كل ما حُصِدَ، كالحنطة والشعير وكل ما
يتغَذى به من ذي حَبٍّ. والقضب الرطْبة.
* * *
(وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠)
حدائق واحدتها حديقة، وهي البساتين، والشجر الملتف، قوله (غُلْبًا)
معناه مُتَكاثِفَة عِظام.
* * *
(وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)
الأب جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشيةُ، وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ من آياته ما
يدل على وحدانيته في إنشاء ما يغذو جميع الحيوان.
* * *
وقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢)
منصوب، مصدر مؤكد لقوله (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا) الأشياء التي ذكرت، لأن إنباته
هذه الأشياء قد أمتع بها الخلق من الناس وجميع الحيوان.
* * *
وقوله. (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)
قوله: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً﴾: قرأ الكوفيون «أنَّا» بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف. والباقون بالكسر. والحسنُ بن عليّ بالفتحِ والإِمالةِ. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ «طعامِه» فتكونُ في محلِّ جر. استشكل بعضُهم هذا الوجهَ، وَرَدَّه: «بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ. ورُدَّ على هذا بوجهَيْن، أحدهما: أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ: وهو أنَّ المعنى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه فصَحَّ البدلُ، وهذا ليسَ بواضح. والثاني: أنَّه مِنْ بدلِ الاشتمالِ بمعنى: أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير. وقد نحا مكي إلى هذا فقال: لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ، ومنها يتكوَّنُ؛ لأنَّ معنى» إلى طعامه «: إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه».
والوجه الثاني: أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ، أي: فلينظُرْ لأِنَّا، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها. والوجهُ الثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو أنَّا صَبَبْنا، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ، وجوابُه ما تقدَّمَ.
وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه. وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي «أنَّى» التي بمعنى «كيف» وفيها معنى التعجبِ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ، وعلى غيرِها كلمتان.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
يدعى فيه لإحيائها..
ثم فسَّرَ في أي وقت تجيء فقال:
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
(يُغْنِيهِ)
بالغين معجمة، وقد قرئت (شَأْنٌ يُعْنِيهِ)، أي شأن لا يهمه معه غيرُه
وكذلك (يُغْنِيهِ) لَا يَقْدِرَ مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره.
ثم بَينَ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ والكَافِرِينَ فوصف أحوال المؤمنين فقال:
* * *
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)
(مُسْفِرَةٌ) مضيئة قد علمت ما لها من الفوز والنعيم.
ووصف الكفار وأهل النار فقال:
* * *
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١)
أي غَبَرَةٌ يعلوها سواد كالدخَانِ، ثم بَينَ مَنْ أَهْل هَذِه الحالِ فقال:
(أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢).