تفسير سورة التوبة

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة التوبة مدنية حروفها ١٠٠٨٧ كلمها ٢٤٧٩ وآياتها ١٢٩.
(سورة التوبة)
(مدنية حروفها ١٠٠٨٧ كلمها ٢٤٧٩ وآياتها ١٢٩)
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ١٦]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
426
القراآت:
وَرَسُولِهِ بالنصب: روح وزيد. الباقون: بالرفع. أَئِمَّةَ بهمزتين:
عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة. الباقون أيمة بهمز ثم ياء. لا أَيْمانَ بكسر الهمزة: ابن عامر. الباقون: بالفتح جمع يمين يعملون بياء الغيبة: عباس.
الوقوف:
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ط مُعْجِزِي اللَّهِ لا للعطف الْكافِرِينَ هـ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا للعطف وَرَسُولِهِ ط لَكُمْ ج لابتداء الشرط مع الواو مُعْجِزِي اللَّهِ ط أَلِيمٍ هـ للاستثناء مُدَّتِهِمْ ط الْمُتَّقِينَ هـ مَرْصَدٍ ج سَبِيلَهُمْ ط رَحِيمٌ هـ مَأْمَنَهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ج لأن «ما» للجزاء مع اتصالها بالفاء فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ط الْمُتَّقِينَ هـ وَلا ذِمَّةً ط قُلُوبُهُمْ ج فاسِقُونَ هـ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا. يَعْمَلُونَ هـ وَلا ذِمَّةً ط الْمُعْتَدُونَ هـ فِي الدِّينِ ط يَعْلَمُونَ هـ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ لا لتعلق «لعلهم» بقوله فَقاتِلُوا وما بينهما اعتراض يَنْتَهُونَ هـ أَوَّلَ مَرَّةٍ ط أَتَخْشَوْنَهُمْ ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء مُؤْمِنِينَ هـ لا للعطف قُلُوبِهِمْ ط مَنْ يَشاءُ ط حَكِيمٌ هـ وَلِيجَةً ط تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
قد عد في الكشاف من أسماء هذه السورة «براءة» وذلك واضح، و «التوبة» لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين و «المقشقشة» لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه و «المبعثرة» و «المثيرة» و «الحافرة» و «الفاضحة» و «المنكلة» و «المشردة» و «المخزية» و «المدمدمة» لأنها تبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس: ما زالت تقول وَمِنْهُمْ حتى حسبنا أن لا تدع أحدا. وللعلماء خلاف في سبب إسقاط التسمية من أولها.
فعن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان في ذلك فقال: كان النبي ﷺ كلما نزلت عليه سورة يقول: ضعوها في موضع كذا، وكانت براءة آخر القرآن نزولا وتوفي رسول الله ﷺ ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصة الأنفال فقرنت بينهما وكأنه أراد بالمشابهة.
ما روي عن أبيّ بن كعب في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى. واستبعد جمع من العلماء هذا القول لأنا لو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السورة الواحدة وذلك يفضي إلى تجويز الزيادة والنقصان في القرآن على ما يقول به
427
الإمامية. وقال بعض العلماء: إن الصحابة اختلفوا في أن «الأنفال» مع «التوبة» سورتان أم سورة واحدة لأنهما مائتان وست آيات فهما بمنزلة إحدى الطوال، وكلتاهما وردت في القتال والمغازي، فلمكان هذا الاختلاف فرجوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان، ولم تكتب البسملة تنبيها على قول من يرى أنهما واحدة فعملوا عملا يدل على أن هذا الاشتباه حاصل. وفيه أنهما لما لم يسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا متشددين في ضبط الدين وحفظ القرآن من التغيير والتحريف وذلك يبطل قول الإمامية، وفيه دليل على أن البسملة آية من كل سورة والإجازات كتابتها هاهنا بل عند كل مقطع كلام.
وعن ابن عباس: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك فقال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أما وأن هذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود.
وذكر سفيان بن عيينة هذا المعنى وأكده بقوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: ٩٤] فقيل له: أليس أن النبي ﷺ كتب إلى أهل الحرب «بسم الله الرحمن الرحيم» ؟. فأجاب بأن ذلك ابتداء منه يدعوهم إلى الله ولم ينبذ إليهم عهدهم ولهذا قال في آخر الكتاب وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: ٤٧] ومما يؤكد شبهة من زعم أنهما سورة واحدة هو أن ختم الأنفال وقع بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، وقوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تأكيد لذلك الكلام وتقرير له. ومعنى البراءة انقطاع العصمة وهي خبر مبتدأ محذوف وو «من» لابتداء الغاية متعلق بمحذوف لا بالبراءة لفساد المعنى. والمعنى هذه براءة واصلة من الله ورسوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كما تقول: كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون بَراءَةٌ مبتدأ لتخصصها بصفتها هي الجار والمجرور كما قلنا والخبر محذوف كما ذكرنا نظيره قولك: رجل من بني تميم في الدار. كان قد أذن الله في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله وعاهدوهم فلما نقضوا العهد أوجب الله النبذ إليهم وكأنه قيل للمسلمين: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين. روي أنهم كانوا عاهدوا المشركين من غير أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين ساروا. والأشهر هي الحرم لقوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ والسياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب منه يقال للصائم سائح لتركه المطعم والمشرب. والمعنى في هذا الأمر إباحة الذهاب مع الأمان وإزالة الخوف.
روي أن فتح مكة كان سنة ثمان من الهجرة وكان
428
رسول الله ﷺ قد ولّى عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم، فاجتمع في تلك السنة في المواقف ومعالم الحج المسلمون والمشركون ونزلت هذه السورة سنة تسع، وكان أمر فيها أبا بكر على الموسم فلما نزلت السورة أتبعه عليا راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر؟ فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور.
وروي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام وقال: يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك فأرسل عليا فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أشيء نزل من السماء؟ قال: نعم.
فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. وعن مجاهد ثلاث عشرة. ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب السيوف.
استدلت الإمامية بهذه القصة على تفضيل علي كرم الله وجهه وعلى تقديمه. وأجاب أهل السنة بأنه أمر أبا بكر على الموسم وبعث عليا خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي علي خلف أبي بكر ويكون ذلك جاريا مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر. وأما
قوله: «لا يبلغ عني إلا رجل مني»
فذلك لأن المتعارف بين العرب أنه إذا عقد السيد الكبير منهم لقوم حلفا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العهد إلا هو أو رجل من ذوي قرابته كأخ أو عم. فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينافي نقض العهد فأزيلت علتهم بتولية ذلك عليا. وقيل: لما أحضر أبا بكر لتولية أمر الموسم أحضر عليا لهذا التبليغ تطبيبا للقلوب ورعاية للجوانب. ولنرجع إلى التفسير. قال ابن الأنباري:
في الكلام إضمار التقدير: فقل لهم سيحوا. ويكون ذلك رجوعا من الغيبة إلى الحضور كقوله وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً [الدهر: ٢١، ٢٢] واختلفوا في الأشهر الأربعة.. فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال والمراد شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. وكانت حرما لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرما على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدّة من عشر ذي القعدة إلى
429
عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة. قال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطت إلى أربعة ومن كانت مدته أقل رفعت إليها. والمقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا في أنفسهم ويحتاطوا في الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة: الإسلام أو قبول الجزية أو السيف. فيصير ذلك حاملا لهم على قبول الإسلام ظاهرا وإلى هذا المعنى أشار بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب، وفيه ضرب من التهديد كأنه قيل: افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب. وقوله مُخْزِي الْكافِرِينَ من باب الالتفاف من الحضور إلى الغيبة. ومن وضع الظاهر موضع المضمر ليكون فيه إشارة إلى أن سبب الإخزاء هو الكفر.
ثم أراد أن يعلم جميع الناس البراءة المذكورة فقال وَأَذانٌ وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها. وخطىء الزجاج في قوله «إنه معطوف على براءة» لأنه لو عطف عليها لكان هو أيضا مخبرا عنه بالخبر الأوّل وهو إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ لكنه غير مقصود بل المقصود الإخبار عنه بقوله إِلَى النَّاسِ والأذان اسم بمعنى الإيذان الإعلام كالأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ومنه أذان الصلاة. أمر الله تعالى بهذا الإعلام يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو الجمع الأعظم الذي حضر فيه المؤمن والمشرك والعاهد الناكث وغير الناكث ليصل الخبر إلى جميع الأطراف ويشتهر، وكان النبي ﷺ يريد أن يحج في السنة الآتية فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يحضر الموقف غير المؤمنين الموحدين وقيل: يوم الحج الأكبر يوم عرفة لأن فيه أعظم أعمال الحج وهو الوقوف بعرفة ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» «١» وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وإحدى الروايتين عن علي عليه السلام وابن عباس ورواية المسوّر بن مخرمة عن رسول الله ﷺ أنه قال: خطب رسول الله ﷺ عشية عرفة فقال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: هو يوم النحر. ووافقه قول الشعبي والنخعي والسدي والمغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. وذلك أن معظم أفعال الحج من الطواف والحلق والرمي والنحر يقع فيه. ومثله ما
روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال: ما يوم الحج الأكبر؟ فقال: يومك هذا خلّ عن دابتي يعني يوم النحر.
وعن ابن
(١) المصدر السابق.
430
عمر أن رسول الله ﷺ وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
قال ابن جريج عن مجاهد: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وهو قول سفيان الثوري. وكان يقول: يوم الحج الأكبر أيامه كلها كيوم صفين ويوم الجمل يراد به الحين والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة. وعلى هذا فقد وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر. وقيل: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد. عن مجاهد أيضا: هذا وقد حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفا والتقدير أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقوله وَرَسُولِهِ بالرفع مبتدأ محذوف الخبر أي ورسوله أيضا كذلك، أو هو معطوف على المنوي في بَرِيءٌ أي بريء هو ورسوله. وجاز العطف من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. وقرىء بالجر على الجوار أو على أن الواو للقسم كقوله سبحانه لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: ٧٢] والفرق بين قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وبين قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ أن المقصود من الكلام الأول هو الإخبار بثبوت البراءة، والمقصود من هذا الثاني إعلام جميع الناس بما حصل وثبت. وأيضا المراد بالأول البراءة من العهد، وبالثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة، ولهذا لم يصف المشركين ثانيا بوصف معين كالمعاهدة تنبيها على أن الموجب لهذه البراءة وهو كفرهم وشركهم ولهذا أتبعه قوله فَإِنْ تُبْتُمْ أي عن الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وفيه ترغيب في التوبة والإقلاع الموجب لزوال البراءة وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن التوبة أو بقيتم على التولي والإعراض عن الإيمان والوفاء فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ فائتين أخذ الله وعقابه. قال بعض العلماء: قوله سبحانه فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ليس بتكرار لأن الأول للمكان والثاني للزمان.
وَبَشِّرِ يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب. وفيه من التهكم والتهديد ما فيه كيلا يظن أن عذاب الدنيا لو فات وزال خلصوا من العذاب بل العذاب الشديد معدّ لهم يوم القيامة.
أما قوله إِلَّا الَّذِينَ قد قال الزجاج: إن الاستثناء يعود إلى قوله بَراءَةٌ والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلا الذين لم ينقضوا العهد. وقال في الكشاف:
وجهه أن يكون مستثنى من قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين والتقدير: فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم. وقيل:
استثناء من قوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ومعنى لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً لم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم قط. ومعنى لَمْ يُظاهِرُوا لم يعاونوا أي لم يقدموا على المحاربة بأنفسهم ولم يهيجوا أقواما آخرين. وقرىء ينقضوكم بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم.
ومعنى فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ أدوه إليهم تاما كاملا. قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من
431
عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين ولا يجعل الوفي كالغادر، ومن جملة الغادرين بنو بكر عدوا على خزاعة عيبة رسول الله ﷺ وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله ﷺ فأنشد:
لا هم إني ناشد محمدا... حلف أبينا وأبيك الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا... ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا... وقتلونا ركعا وسجدا
فقال صلى الله عليه وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم
ومعنى ناشد محمدا أذكر له الحلف والعهد لأنه كان بين أبيه عبد المطلب وبين خزاعة حلف قديم. والأتلد الأقدم.
ثم بين حكم انقضاء أجل الناكثين فقال فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا. وانسلاخ الشهر تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه فكلاهما ظرف فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ يعني الناقضين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل أو حرم وفي أي وقت كان. وَخُذُوهُمْ وأسروهم والأخيذ الأسير وَاحْصُرُوهُمْ امنعوهم من التصرف في البلاد وقيدوهم. وقال ابن عباس: حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام.
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي في كل ممر ومجاز ترقبوهم هناك. وانتصابه على الظرف كما مر في قوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: ١٦] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ إن حصلوا على شروطها فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ المراد من التخلية الكف عنهم وإطلاقهم من الأسر والحصر عن البيت الحرام، أو عن التصرف في مهماتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما سلف لهم من الكفر والغدر. قال الشافعي: إنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فما لم يوجد أحد هذه الأمور لم يوجد هذا المجموع، فوجب أن تبقى إباحة الدم على الأصل. فتارك الصلاة يقتل، ولعل أبا بكر استدل بمثل ذلك على جواز قتال مانعي الزكاة. وحمل أكثر الأئمة الإقامة والإيتاء هاهنا على اعتقاد وجوبهما والإقرار بذلك وإن كان له وجه عدول عن الظاهر.
وعن الحسن أن أسيرا نادى بحيث يسمع النبي ﷺ أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثا. فقال صلى الله عليه وسلم:
«عرف الحق لأهله فأرسلوه».
قال بعض العلماء: ذكر التوبة هاهنا عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، وذكر الصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي، ولا
432
ريب أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى جعلنا الله من أهلها. لما أوجب الله سبحانه بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفي في إزاحة علتهم فينتج ذلك أن أحدا من المشركين لو طلب الدليل والحجة يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام أو بالجزية أو بالقتل، فأزال الله تعالى بكمال رأفته هذه الشبهة فقال وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ الآية. قال علماء العربية: ارتفع أَحَدٌ بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره:
وإن استجارك أحد استجارك. كرهوا الجمع بين المفسر والمفسر فحذفوا المفسر.
والغرض بناء الكلام على الإبهام ثم التفسير من حيث إنّ «إن» من مظان وقوع الفعل بعده. وأيضا ذكر الفاعل هاهنا أهم لما بينا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشرك فقدم ليدل على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار. يقال: استجرت فلانا أي طلبت منه أن يكون جارا لي أي محاميا وحافظا من أن يظلمني ظالم، ومنه يقال: أجاره الله من العذاب أي أنقذه. والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انسلاخ الأشهر لا عهد بينك وبينه.
فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ سماع تدبر وتأمل ثُمَّ أَبْلِغْهُ داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت فيها، وفيه أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد وأن النظر في دين الله من أعلى المقامات فإن الكافر الذي دمه مهدر لما أظهر من نفسه كونه طالبا للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه، أما زمان مهلة النظر فليس في الآية ما يدل على ذلك ولعله مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فمتى ظهر على ذلك المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك، ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه وأبلغ المؤمن. ويشبه أن يقال: المدة أربعة أشهر وهو الصحيح من مذهب الشافعي. والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع القرآن إلا أنه ألحق به كونه طالبا لسماع الدلائل والجواب الشبهات لأنه تعالى علل وجوب الإجارة بكونه غير عالم حيث قال في آخر الآية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ فكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته. وفي سماع كلام الله وجوه: قيل أراد جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه. وقيل: سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين والأولى حمله على كل الدلائل، وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الحاوي لمعظم الدلائل. واعلم أن الأمان قد يكون عاما يتعلق بأهل إقليم أو بلدة أو ناحية وهو عقد المهادنة ويختص بالإمام وقد مر في تفسير قوله تعالى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
433
وقد يكون خاصا يتعلق بأفراد الكفار وهذا يصح من الولاة ومن آحاد المسلمين أيضا وهذا مقصود الآية وإنه ثابت غير منسوخ.
روي عن سعيد بن جبير أن رجلا من المشركين جاء إلى علي رضي الله عنه فقال: أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: «لا». واستدل بالآية.
وعن السدي والضحاك هو منسوخ بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وشرط الأمان الإسلام والتكليف فيصح من العبد والمرأة والفاسق.
روي أنه ﷺ قال: «يسعى بذمتهم أدناهم» «١»
وعن أم هانىء قالت: أجرت رجلين من أحمائي فقال صلى الله عليه وسلم: «أمنا من أمنت».
ويعتبر أن الإسلام والتكليف الاختيار فلا يصح أمان المكره على عقد الأمان، وينعقد الأمان بكل لفظ مفيد للغرض صريحا كقوله: أجرتك أو لا تخف، وكناية كقوله: أنت على ما تحب أو كن كيف شئت، ومثله الكتابة والرسالة والإشارة المفهمة.
روي عن عمر أنه قال: والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك فنزل على ذلك ثم قتله لقتلته.
هذا إذا دخل الكافر بلا سبب أما إذا دخل لسفارة فلا يتعرض له، وكذا إذا دخل لسماع الدلائل وقصد التجارة لا يفيد الأمان إلا إذا رأى الإمام مصلحة في دخول التجار. وحكم الأمان إذا انعقد عصمة المؤمن من القتل والسبي فإن قتله قاتل ضمن بما يضمن له الذمي، ولا يتعدى الأمان إلى ما خلفه في دار الحرب من أهل ومال، وأما الذي معه منهما فإن وقع التعرض لأمانه اتبع الشرط وإلا فالأرجح أن لا يتعدى الأمان إلى ذلك. وقد بقي في الآية مسألة أصولية هي أن المعتزلة استدلوا بالآية على أن كلام الله تعالى هو هذه الحروف المسموعة ويتبع ذلك أن يكون كلامه محدثا لأن دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب. وأجيب بأن هذه المسموعة فعل الإنسان وليست هي التي خلقها الله تعالى أوّلا عندكم فعلمنا أن هذا المسموع ليس كلام الله بالاتفاق فيجب ارتكاب التجوز البتة، ونحن نحمله على أنها هي الدالة على الكلام النفسي فلهذا أطلق عليها أنها كلام الله كما أن الجبائي قال: إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارئ. وزعم بعض الناس حين رأوا أنه تعالى جعل كلامه مسموعا أن هذه الحروف والأصوات قديمة ليلزم قدم كلامه تعالى وفيه ما فيه، ثم أكد المعاني المذكورة من أول السورة إلى هاهنا فقال على سبيل الاستنكار والاستبعاد كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ المرفوع اسم كان وفي خبره
(١) رواه البخاري في كتاب الجزية باب ١٠، ١٧. كتاب الاعتصام باب ٥. مسلم في كتاب العتق حديث ٢٠. أبو داود في كتاب المناسك باب ٩٥. الترمذي في كتاب الولاء باب ٣. النسائي في كتاب القسامة باب ١٠، ١٤. ابن ماجه في كتاب الديات باب ٣١. أحمد في مسنده (٢/ ٣٩٨).
434
ثلاثة أوجه: الأول كَيْفَ وقدم للاستفهام، الثاني لِلْمُشْرِكِينَ وعند على هذين ظرف للعهد أو ليكون أو للجار أو هو وصف للعهد. الثالث الخبر عِنْدَ اللَّهِ ولِلْمُشْرِكِينَ تبيين أو متعلق ب يَكُونُ وكَيْفَ حال من العهد يعني محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم يضمرون الغدر في كل عهد، فلا تطعموا في الوفاء منهم ولا تتوانوا في قتلهم. ثم استثنى منهم المعاهدين عند المسجد الحرام الذين لم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ثم بيّن حكمهم فقال فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ في «ما» وجهان: أحدهما أن تكون زمانية وهي المصدرية على التحقيق أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم. الثاني شرطية أي إن استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين.
ثم كرر الاستبعاد فقال كَيْفَ وحذف الفعل لكونه معلوما أي كيف يكون لهم عهد وَحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يغلبوكم، ويظفروا بكم وذلك أن الغلبة من الكمال عند الشخص وكل من تصور في نفسه كمالا فإنه يريد أن يظهر ذلك لغيره فأطلق الظهور على الغلبة لكونه من لوازمها لا يَرْقُبُوا لا يراعوا فِيكُمْ ولا ينتظروا بكم إِلًّا وَلا ذِمَّةً قال في الصحاح: الأل العهد والقرابة. ووجه ذلك في الكشاف بأن اشتقاقه من الأل هو الجؤار والأنين لأنهم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم، وسميت به القرابة لأنها تعقد بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق. وفي الصحاح أيضا أن الأل بالكسر من أسماء الله عزّ وجلّ.
وفي الكشاف أنه قرىء «إيلا» بمعناه. وقيل: جبرئيل وجبرئلّ من ذلك. وقيل: منه اشتق الأل بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن. قال الزجاج: الأل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدّة من ذلك الألة الحربة، وأذن مؤللة محدّدة. ومعنى العهد والقرابة غير خارج من ذلك، والذمة العهد وجمعها ذمم وذمام وهو كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمك مذمة. وقال أبو عبيدة: الذمة ما يتذمم منه أي ما يجتنب فيه الذم. قال في الكشاف يُرْضُونَكُمْ كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل. ثم قال سبحانه وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ عن ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض هؤلاء الكفار قد أسلم وتاب فلهذا لم يحكم بالفسق على الكل. والظاهر أنه أراد أن أكثرهم فساق في دينهم لا يتحرزون عن الكذب ونقض العهد الذي هو مذموم في جميع الأديان والنحل اشْتَرَوْا استبدلوا بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن أو بالإسلام ثَمَناً قَلِيلًا هو اتباع الأهواء فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فصرفوا عنه غيرهم وعدلوا هم
435
أنفسهم. قال مجاهد: أراد الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. وقيل: يبعد أن يراد طائفة من اليهود الذين أعانوا المشركين على نقض العهود، فإن هذا اللفظ من القرآن كالأمر المختص باليهود ولأنه وصفهم بقوله لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ولو أراد المشركين كان تكرارا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ المتجاوزون حدود الله في دينه وما يوجبه العهد والعقد. ثم قال فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فإن كان هذا في اليهود وما ذكره قبل في الكفار فلا تكرار، وإن كان كلاهما في الكفار فجزاء الأول تخلية سبيلهم وجزاء الثاني قوله فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ فلم يكن من التكرار في شيء. قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأنهم هم المنتفعون بالبيان. وهذه جملة معترضة تفيد الحث على التأمل في أحكام المشركين وعلى المحافظة على مواردها وَإِنْ نَكَثُوا يعني هؤلاء التائبين أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي من بعد إسلامهم حتى يكونوا مرتدين، أو المراد نكث المشركين عهودهم ومواثيقهم. والنكث نقض طاقات الخيط من بعد برامه. وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ثلبوه وعابوه فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ هي جمع إمام وأصلها «أأممة» كمثال وأمثلة نقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت الميم في الميم، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن من كان بهذه المثابة من الغدر وقلة الوفاء وعدم الحياء فهو عريق في الكفر متقدم فيه لا يشق كافر غباره. وقيل: خص سادتهم بالذكر لأن من سواهم يتبعهم لا محالة. ثم أبدى غرض القتال بقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ليعلم أن الباعث على قتالهم هو ردهم إلى طاعة معبودهم رحمة عليهم لا أمر نفساني وداع شهواني ووسط بين الأمر بالقتال وبين الحامل عليه قوله إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ تنبيها على العلة الفاعلية للقتال، أثبت لهم الأيمان أوّلا في الظاهر حيث قال وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ثم نفاها عنهم في الحقيقة لأن إيمانهم ليست مما يعد أيمانا إذ لم يوفوا بها. وبهذا تمسك أبو حنيفة في أن يمين الكافر لا تكون يمينا، وعند الشافعي يمينهم يمين لأنه تعالى وصفها بالنكث ولو لم تكن منعقدة لم يتصور نكثها. ومن قرأ لا أَيْمانَ لهم بالكسر أي لا إسلام لهم أو لا يعطون الأمان بعد الردة والنكث فظاهر. قال العلماء: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة.
ثم شرع في ذكر سائر الأسباب المحرّضة على القتال فقال أَلا تُقاتِلُونَ قال أهل المعاني: إذا قلت: ألا تفعل كذا. فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده. وإذا قلت:
ألست تفعل فإنما تقول فى ذلك في فعل تحقيق وجوده. والفرق أن «لا» ينفي بها
436
المستقبل فإذا دخلت عليه الألف صار تحضيضا على فعل ما يستقبل و «ليس» مستعمل في نفي الحال فإذا دخلت عليه الألف صار لتحقيق الحال.
قال ابن إسحق والسدي والكلبي: نزلت فى كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول من مكة حتى هاجر أو من المدينة. يريد اليهود هموا بإخراجه منها ونكثوا عهده وظاهروا أبا سفيان عليه ﷺ يوم الأحزاب.
وقيل: همت قريش يوم الحديبية بأن يدخلوه ﷺ مكة ثم يخرجوه قبل أن يتم حجه استخفافا به صلى الله عليه وسلم،
وعلى هذا أريد بالهم العزم على الفعل وإن لم يوجد وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالقتال يعني يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه. أو المراد أنهم قاتلوا حلفاءه من خزاعة، أو المراد أن الرسول ﷺ جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى المقاتلة والبادئ أظلم. والحاصل أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء للقتال حقيق بأن لا تترك مقاتلته وأن يوبخ من فرط فيها. ثم زاد في التوبيخ فقال فيه أَتَخْشَوْنَهُمْ تقريرا للخشية منهم وتقوية لداعية القتال كما إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك لأنه يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه.
ثم بيّن ما يجب أن يكون الأمر عليه قائلا فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا الله، لأن قدرته أتم وعقابه أشدّ بل لا قدرة إلا له ولا يكون إلا ما يريد. وفي الفاء نوع من تعليل لأن الاستفهام في معنى النهي كأنه قيل: لا تخشوهم لأن الله أحق بالخشية وأحرى بالطاعة، وفيه نوع مجازاة كأنه قيل:
إن صح أنكم مؤمنون فلا تخشوا إلا الله. ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال قاتِلُوهُمْ ورتب عليه خمس نتائج: الأولى: قوله يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ أي القتل والأسر واغتنام الأموال، وهذا لا ينافي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: ٣٣] لأنه أراد هناك عذاب الاستئصال. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن الذي يدخل في الوجود من الأفعال كلها من الله يظهرها على أيدي العباد. واعترض الجبائي بأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال: كذب الله أنبياءه على لسان الكفرة. وأجيب بأن الأمر كذلك عندنا إلا أنا لا نقوله رعاية للأدب كما لا يقال يا خالق الخنافس والحشرات. وكما أنكم لا تقولون يا مسهل أسباب الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها. الثانية: وَيُخْزِهِمْ قيل: هو الأسر.
وقيل: المراد ما نزل بهم من الذل والهوان حين شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين وهو قريب من الأول. أو هو هو. وقيل: هو عذاب الآخرة. الثالثة: وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أورد عليه أن النصر يستتبعه إخزاء الخصم فأي حاجة إلى إفراده بالذكر؟ والجواب
437
أن المغايرة كافية في إفراد كل من المتلازمين بالذكر على أنه من المحتمل أن يحصل لهم الخزي من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة لسبب آخر، فلما وعدهم النصر على الإطلاق زال ذلك الاحتمال. الرابعة: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ هم خزاعة.
وعن ابن عباس: بطون من اليمن وسبأ، قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فبعثوا إلى رسول الله ﷺ يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب.
الخامسة: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ قيل: شفاء الصدر وإذهاب غيظ القلب كلاهما بمعنى فيكون تكرارا. والجواب أن القلب أخص من الصدر كقوله:
يا دار ميّة بالعلياء فالسند أو شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار شاق وإن كان مع الثقة بالموعود فإذهاب غيظ القلب إشارة إلى الفتح وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها وكان ذلك دليلا على صدق النبي ﷺ وإعجازه. ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وهو ابتداء كلام للإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وقد وقع، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرىء وَيَتُوبُ بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى كقوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: ١٠] أما أن التوبة كيف تقع جزاء للمقاتلة فذلك من قبل الكفرة واضح فإن القتال قد يصير سببا لتوبة بعضهم عن الكفر، وأما من جهة المؤمنين فلعل القتال كان شاقا على بعضهم فإذا أقدم عليه صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة عن تلك الكراهة. وأيضا إن حصول النصر والظفر إنعام عظيم والعبد إذا شاهد توالي النعم لم يبعد أن يصير ذلك داعيا له إلى أن يتوب عن جميع الذنوب وقد تصير كثرة المال والجاه سببا لتحصيل اللذات بالطريق الحلال فينتهي عن الحرام. وأيضا الإنسان حريص على ما منع فإذا انفتحت عليه أبواب الخيرات الدنيوية فربما يصير ذلك سببا لانقباضه عن الدنيا وإعراضه عنها وهذا هو أحد الوجوه التي ذكروها في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: ٣٥] يعني بعد حصول هذا الملك لا ينبغي للنفس الاشتغال بالدنيا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بكل ما يجري في ملكه وملكوته حَكِيمٌ مصيب في أفعاله وأقواله وأحكامه وتدابيره. عن ابن عباس أن قوله أَلا تُقاتِلُونَ الآية. ترغيب في فتح مكة لأن النتائج المذكورة مشاكلة لتلك الأحوال. واستبعده الحسن لأن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة بسنة. ثم بين أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال وإنما المقصود أن يؤتى به انقيادا لأمر الله ولتكاليفه ليظهر المخلص من المنافق فقال أَمْ حَسِبْتُمْ الآية.
وقد مرّ وجه إعرابه في آل عمران عند قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: ١٤٢].
438
وقوله وَلَمْ يَتَّخِذُوا معطوف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة. والوليجة لبطانة يعني الحبيب الخالص «فعلية» من ولج كالدخيلة من دخل، أو هو الرجل يكون في القوم وليس منهم. قال الواحدي: يقال هو وليجتي وهم وليجتي يستوي فيه الواحد والجمع. ومعنى الآية لا تحسبوا أن تتركوا على ما أنتم عليه ولم يظهر بعد معلوم الله من تميز المجاهدين المنافقين من المجاهدين الخلص الذين جاهدوا لوجه الله ولم يتخذوا حبيبا من الذين يضادون رسول الله والمؤمنين. ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ليعلموا أنه لم يزل عالما بالأشياء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فيجدّوا في استقامة السيرة ويجتهدوا في نقاء السريرة.
التأويل:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ من النفوس المشركة التي اتخذت الهوى وصنم الدنيا معبودا فهادنها الروح والقلب في أوان الطفولية لاستكمال القالب وتربيته فَسِيحُوا في أرض البشرية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هي مدة كمال الأوصاف الأربعة: النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الصفات الناسوتية يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يوم الوصول إلى كعبة الجمال والحج الأصغر الوصول إلى كعبة القلب إن زيارة كعبة الوصال حرام على مشركي الصفات الناسوتية فَإِنْ تُبْتُمْ عن الناسوتية بإفنائها في اللاهوتية فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من قيامكم بالناسوت وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ركنتم إلى غير الله فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ عن التصرف فيكم. أما لأهل السعادة فبالجذبات الأزلية، وأما لأهل الشقاوة فبأليم عذاب القطيعة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أيها القلوب والأرواح من مشركي النفوس على التوافق في العبودية ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شيئا من وظائف الشريعة وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من الشيطان والدنيا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بالمداراة والرفق إلى أوان طلوع قمر العناية ونجم الجذبة والهداية. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ استكملت مدة التربية تمام الأوصاف الأربعة فَاقْتُلُوا النفوس المشركة بسيف النهي عن الشهوات حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الطاعة بأن تكلفوها إياها وفي المعصية بأن تزجروها عنها وَخُذُوهُمْ بآداب الطريقة وَاحْصُرُوهُمْ احبسوهم في حصار الحقيقة وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ راقبوهم في الأحوال كلها فَإِنْ تابُوا رجعوا إلى طلب الحق وَأَقامُوا الصَّلاةَ أدّوا حق العبودية وَآتَوُا الزَّكاةَ تزكت عن الأخلاق الذميمة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتركوا التشديد عليهم بالرياضات ليعملوا بالشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية وَإِنْ أَحَدٌ من مشركي صفات النفس اسْتَجارَكَ يا قلب لترك ما هو المخصوص به من الصفات الذميمة فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
439
كَلامَ اللَّهِ
حتى يلهم بإلهام ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وهو وارد الجذبة الإلهية، وإن الجذبة إذا تعلقت بصفة من صفات النفس تنجذب النفس بجميع صفاتها ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ الله وأسراره فلا يميلون إليه ويعلمون الدنيا وشهواتها فيركنون إليها. كَيْفَ يَكُونُ لمشركي النفوس ثبات على العهد وقد جبلت ميالة إلى السفليات وغايتها بعد إصلاح حالها أن تميل إلى نعيم الجنات إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام الوصول المحرم على أهل الدنيا وهو مقام أهل الله وخاصته، الذين تنورت نفوسهم بأنوار الجمال والجلال فيثبتها الله على العهد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على الصراط المستقيم فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ بشرحها في متسع رياض الشريعة ولا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً لا يحفظوا حقوق الجنسية فإن الأرواح والقلوب والنفوس مزدوجة في عالمي الأمر والخلق يُرْضُونَكُمْ بالأعمال الظاهرة وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فيما يعملون خارجون عن الصدق والإخلاص اشْتَرَوْا بدلالات توصلهم إلى الله ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا ومصالحها فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قطعوا طريق الحق على الأرواح والقلوب فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ رفقاؤكم في طلب الحق فارعوا حقوقهم فإن لنفسك عليك حقا. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أن السير إلى الله من أعظم المقامات وأهم المهمات وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أنكروا مذهب السلوك أَئِمَّةَ الْكُفْرِ النفوس وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ يعني الواردات الغيبية بانسداد روزنة القلب أَوَّلَ مَرَّةٍ في أوان الطفولية. أَتَخْشَوْنَهُمْ في فوات حظوظهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بفوات حقوقها. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ يعني وحشة الأرواح والقلوب وكدورتها وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بالرجوع إلى الحق قبل التمادي في الباطل من غير حاجة إلى رياضة شديدة وَاللَّهُ عَلِيمٌ باستعدادات النفوس حَكِيمٌ فيما يدبر لكل منها. أَمْ حَسِبْتُمْ أيها النفوس الأمارة أَنْ تُتْرَكُوا بلا رياضة وَلِيجَةً أولياء من الشيطان والدنيا والهوى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ٢٨]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
440
القراآت:
مسجد الله ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: على الجمع يُبَشِّرُهُمْ خفيفا: حمزة وعشيراتكم على الجمع: أبو بكر وحماد وجبلة وَضاقَتْ ونحو ممالة: حمزة رَحُبَتْ ثُمَّ مظهرا: أبو جعفر ونافع وابن كثير وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.
الوقوف:
بِالْكُفْرِ ط أَعْمالُهُمْ ج لعطف المختلفين خالِدُونَ هـ الْمُهْتَدِينَ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط عِنْدَ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ لئلا يشتبه بالوصف وَأَنْفُسِهِمْ لا لأن ما بعده خبر «الذين» عِنْدَ اللَّهِ ط الْفائِزُونَ هـ مُقِيمٌ هـ لا لأن ما بعده حال أَبَداً ط عَظِيمٌ هـ عَلَى الْإِيمانِ ط الظَّالِمُونَ هـ بِأَمْرِهِ ط الْفاسِقِينَ هـ كَثِيرَةٍ لا لعطف الظرف على الظرف حُنَيْنٍ لا لأن «إذ» ظرف نَصَرَكُمُ. مُدْبِرِينَ هـ ج للآية والعطف. كَفَرُوا ط الْكافِرِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط رَحِيمٌ هـ هذا ج إِنْ شاءَ ط حَكِيمٌ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بدأ السورة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم، ثم أراد يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون في أن هذه البراءة غير جائزة مع الجواب عنها.
قال المفسرون: لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه
441
المسلمون فعيروه بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي رضي الله عنه له القول فقال العبّاس:
ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال علي عليه السلام: ألكم محاسن؟
فقال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى ردا عليهم ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ
ما صح لهم وما استقام أن يعمروا مسجد الله يعني المسجد الحرام. ومن قرأ على الجمع فإما أن يراد جميع المساجد فيشمل المسجد الحرام أيضا الذي هو أشرفها وهذا آكد لأن طريقه طريق الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفي لقراءته القرآن من تصريحك بذلك، أو يراد المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد، أو لأن بقعة منه مسجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم، وبالعكس كقولهم: فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكا واحدا. وعمارة المسجد إما لزومه وإما كثرة إتيانه للصلاة والاعتكاف، ولا شك أنه ليس للمشرك ذلك وإما مرمته وتعهده، وليس للمشرك هذا أيضا لأنه يجري مجرى الإنعام على المسلمين ولا ينبغي أن يكون للكافر منه على أهل الإسلام، ولأن دخوله المسجد يؤدي إلى تلوث المسجد إما لكونه نجسا في الحكم، وإما لأنه قلما يحترز من النجاسات. وما
روي أنه صلى الله عليه وآله أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار وشدّ ثمامة بن أثال الحنفي على سارية من سواري المسجد
محمول على تعظيم شأنه ﷺ كأنه أراد أن يكون ذلك بمحضر منه وهو في المسجد. وقوله شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ حال من الواو في يَعْمُرُوا والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة معابد الله مع الكفر به. وفي تفسير هذه الشهادة أقوال أصحها أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب النبي والقرآن ولهذا قال السدي: هي أن النصراني إذا قيل له ما أنت؟ قال:
نصراني. واليهودي يقول: يهودي، وعابد الوثن يقول: أنا عابد الوثن. وقيل: هي قولهم في طوافهم «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك». وعن ابن عباس أنه قال: المراد أنهم يشهدون على محمد بالكفر. وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٨] ثم بيّن تعالى ما هو الحق في هذا الباب فقال أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الصادرة عنهم كإكرام الوالدين وبناء الربط وإطعام الجائع لأنه لا يفيد مع الكفر طاعة لأن الكفر يوجب عقاب الأبد ولهذا قال وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ولإفادة هذا التركيب الحصر احتجت الأشاعرة به على خلاص صاحب الكبيرة. ثم وصف من له استئهال عمارة المسجد فقال إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأن
442
المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه. وإنما طوى ذكر الرسول تنبيها على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث: «المصلي يناجي ربه». وقيل: إن المشركين كانوا يقولون إن محمدا ادّعى رسالة الله طلبا للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره صلى الله عليه وسلم. وقيل: دل عليه بقوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ لأنهما معلومتان من أفعاله ﷺ ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة. ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سببا للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة، فلو لم يكن مؤديا للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد. ثم قال وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامرا له. فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة «إنما» في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفا بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد، وأن المسجد يجب صونه عن غير العبادة.
فقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة»
وعنه صلى الله عليه وسلم: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»
وقال صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى: «إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره»
ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح.
فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه».
وفي قوله فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائرا بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزّ وجلّ. هذا وقد مر أن بعض الأمة ذهبوا إلى أن «عسى» من الله الكريم واجب. وقال بعضهم: إن الرجاء راجع إلى العباد.
ثم إنه قال أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعا من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء
443
نزر. قال المفسرون: إنها نزلت في مناظرة جرت بين فريقين إلا أنهم اختلفوا فقيل:
«كافر» و «مؤمن» لقوله كَمَنْ آمَنَ وقصة ما مر أن العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج. وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم: أنتم أفضل. وقيل: إن كلا الفريقين مؤمن لقوله أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً وهذا يقتضي أن يكون للمفضول أيضا درجة.
وقصته ما
روى عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله ﷺ فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم: فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ وذلك يوم الجمعة ولكني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله ﷺ فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله الآية.
ويروى عن الحسن والشعبي أن طلحة قال: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: وذلك بعد إسلامه أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال عليّ رضي الله عنه: ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فنزلت.
وعن ابن سيرين: قال عليّ رضي الله عنه للعباس بعد إن كان أسلم: ألا تهاجر ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ ففقال: ألست في أفضل من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية. فقال العباس: ما أراني إلا ترك سقايتنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا».
والسقاية والعمارة مصدران من سقي وعمر، ولا بد من تقدير مضاف أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كخصال من آمن؟ ثم كان لسائل أن يسأل ما بال أحد الفريقين لا يشبه بالآخر فلا جرم قال مستأنفا لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ثم صرح بالمفضول فقال وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وأي ظلم أشنع من وضع أخس الموجودات وهو الأصنام مقام أشرفها وهو الله سبحانه. وإنما لم يهدهم الله لعدم قابلية وقع في استعدادهم الفطري. وذلك لكونهم مظاهر القهر فافهم. ثم صرح بالفريق الفاضل فقال الَّذِينَ آمَنُوا الآية. ثم من قال إن الفريقين المتناظرين كافر ومؤمن أورد عليه أن قوله أَعْظَمُ دَرَجَةً وجب أن يكون للمفضول أيضا درجة ولكنه ليس للكافر درجة.
وأجيب بأن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره
444
قوله أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمنا فضلا عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لولا الكفر. وفي قوله عِنْدَ اللَّهِ تشريف عظيم لقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وكذا في قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ لدلالته على انحصار الفوز فيهم. ثم فسر الفوز بقوله يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف، قال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالتبشير بالرحمة والرضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة. وقوله لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات. ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها مُقِيمٌ وثانيها خالِدِينَ وثالثها أَبَداً وقال أهل التحقيق: الفرح بالنعمة قد يكون من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلا، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به. وقوله بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ إشارة إلى المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله جَنَّاتٍ إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: ٢٨] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ «عند» وتقديمه وتنكير «أجر» ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى.
قال الكلبي: لما أمر رسول الله ﷺ الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون: ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الآيتين.
وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع
445
عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر. ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة. ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: يريد أنه يكون مشركا مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس» «١»
وعن ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم.. فقالوا: يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك.
وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عزّ وجلّ عن موالاتهم. قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه. ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع. ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه. والاقتراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه. والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فَتَرَبَّصُوا انتظروا بما تحبون حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل: يعني القتال. وعن ابن عباس: هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد.
ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلا فقال لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ قال الواحدي: النصر المعونة على الأعداء
(١)
رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١٥. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (٣/ ٤٣٨، ٤٤٠) بلفظ «من أحب لله وأبغض لله... فقد استكمل الإيمان».
446
خاصة، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر. ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها. وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد. والمواطن الكثيرة غزوات الرسول ﷺ وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها: غزوة بدر وقريظة والنضير وأحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصطلق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي يوم حنين. واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال: معناه في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي الله عنه.
قال علي: أن الواجب أن يكون يوم حُنَيْنٍ منصوبا بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حنين لأن قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بدل من يَوْمَ حُنَيْنٍ فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيرا في جميعها، وجوّز أن يكون «إذ» منصوبا بإضمار «اذكر». قلت: ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان، وما جعل بدلا عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلا عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيدا بهما جميعا. وحنين ودا بين مكة والطائف. قال المفسرون: لما فتح رسول الله ﷺ مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله ﷺ حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفا. وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا وعشرة آلاف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وبالجملة كانوا عددا كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة. فهذه الكلمة ساءت رسول الله ﷺ وهي المراد من قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ وقيل: قالها أبو بكر. وقيل: رسول الله ﷺ وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلا على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم الكثرة شيئا يدفع حاجتكم ولم تفدكم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ «ما» مصدرية والباء بمعنى «مع» والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعا يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي انهزمتم انهزاما.
قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على
447
الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله ﷺ ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله ﷺ دبره قط، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول:
أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلا صيتا فنادى يا أصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق، وأخذ رسول الله ﷺ بيده كفا من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما زال جدهم مدبرا وحدهم كليلا ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا
وذلك قوله سبحانه ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ رحمته التي سكنوا بها وآمنوا عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله ﷺ حين وقع الهرب.
وَأَنْزَلَ الله جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة ستة عشر ألفا أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات. وعن سعيد بن المسيب قال: حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين: قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا. واختلفوا في قتال الملائكة فقيل: قاتلوا. وقيل: ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري. واحتجت الأشاعرة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله وَعَذَّبَ على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى.
ثم ختم الآية بقوله وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ واعلم أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع التغريب بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: ٢] قالوا الفاء للجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافيا يمنع أن يكون غيره مشروعا معه. وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في هذه الآية وَذلِكَ أي الأخذ والأسر جَزاءُ الْكافِرِينَ سمي العذاب العاجل جزاء مع أنه غير كاف لأن العذاب الآجل باق. أما قوله ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي يسلم ناس منهم.
روي أن ناسا منهم جاؤا تائبين فأسلموا وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى. فقال: إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه،
448
اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله ﷺ فقال: إن هؤلاء جاؤا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا. فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا فقاال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعت إليه ﷺ العرفاء أن قد رضوا.
ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن عليا عليه السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال في الكشاف: هو مصدر كالقذر ومعناه ذو ونجس. وقال الليث: إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره: رجل نجس وقوم نجس وامرأة نجس. قلت: ويجوز أن يجعل المصدر نعتا للمبالغة في الوصف. واختلف في تفسير كون المشرك نجسا فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن من صافح مشركا توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية. وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما
روي أنه ﷺ شرب من أوانيهم
وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام، وأوّلوا الآية بأن معناها أنهم لا يغتسلون عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهي السنة التاسعة من الهجرة التي وقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والدليل عليه قول علي عليه السلام في النداء: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. وقال الشافعي: المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النص. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه. وقيل: المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك. وعن عطاء أن المراد بالمسجد الحرام والحرم وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله. ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة: أنزل الله عليهم
449
المطر فكثر خيرهم. وعن الحسن: جعل الله لهم أخذ الجزية بدلا عن ذلك. وقيل:
أغناهم من الفيء. وعن مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم. واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزا. ومعنى إِنْ شاءَ تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي بأحوالكم حَكِيمٌ لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.
التأويل:
ما كان لمشركي النفوس الأمارة أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي صدرت عنهم رياء وسمعة إِنَّما يَعْمُرُ القلوب مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ صدق بأن المقصود والمعبود هو الله، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإلهية. سِقايَةَ الْحاجِّ خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ الطالبون والبطالون وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها الَّذِينَ آمَنُوا أي القلوب المؤمنة وَهاجَرُوا أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجهاد الأكبر بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ببذل الموجود والوجود جميعا يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ الآيتان. فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي.
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي حين حنت قلوبكم شوقا إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبلغونه بكثرة الطاعات، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة وَأَنْزَلَ جُنُوداً من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي علاج النفوس المتمردة ثم يتوب الله من بعد ذلك العلاج بجذبة ارْجِعِي، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى
450
فَلا يَقْرَبُوا القلب بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنعها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً حظوظا يستلذ بها عند اتباع النفس فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمستحقي فضله حَكِيمٌ فيما دبر من قتال النفوس.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٧]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
القراآت:
عُزَيْرٌ ابْنُ بالتنوين مكسورة للساكنين: عاصم وعلي وسهل ويعقوب.
الباقون: بغير تنوين. يُضاهِؤُنَ بالهمز. عاصم. الآخرون يُضاهِؤُنَ بحذف
451
الهمزة. أَنْ يُطْفِؤُا ولِيُواطِؤُا بحذف الهمزة فيهما. يزيد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة اثْنا عَشَرَ بسكون العين: يزيد والخزاز إِنَّمَا النَّسِيءُ بالتشديد: ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف. الباقون: بباء بعدها همزة. يُضَلُّ بضم الياء وفتح الضاد: علي وحمزة غير العجلي وحفص وخلف لنفسه. يضل بضم الياء وكسر الضاد: العجلي وأوقية ورويس. الباقون يضل بفتح الياء وكسر الضاد.
الوقوف:
صاغِرُونَ هـ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ط بِأَفْواهِهِمْ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف مِنْ قَبْلُ ط قاتَلَهُمُ اللَّهُ ج يُؤْفَكُونَ هـ ابْنَ مَرْيَمَ ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالا واستئنافا. واحِداً ج لأن ما بعده يصلح ابتداء ووصفا إِلَّا هُوَ ط يُشْرِكُونَ هـ الْكافِرُونَ هـ كُلِّهِ لا لتعلق «لو» بما قبله الْمُشْرِكُونَ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا لتعلق الفاء أَلِيمٍ هـ لا أي في يوم. وَظُهُورُهُمْ ط تَكْنِزُونَ هـ حُرُمٌ ط يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ط الْمُتَّقِينَ هـ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ ط أَعْمالِهِمْ ط الْكافِرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية.
واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات فالصفة الأولى أنهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فأورد عليه أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله، وأجيب بأن إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهم مشبهة وحلولية. واعترض ثانيا بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكرا لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأشعري من أهل السنة أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحق أنكره، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمرا ولا نهيا ولا خبرا ثم صار كذلك عند الإنزال، والآخرون أنكروه، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات: الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء. والمشهور أن كلام الله واحد. واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله؟. وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى هاهنا. وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على
452
أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني. وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق. نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى.
الصفة الثانية: أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني. والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها. الصفة الثالثة: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما. وقال أبو روق: أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم. الصفة الرابعة: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذ ذلك دينه ومعتقده. وقيل: الحق هو الله.
ثم ذكر غاية القتال فقال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه.
قال الواحدي: هي ما يعطى المعاهد على عهده. وقال في الكشاف: سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل. ومعنى عَنْ يَدٍ إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال: أعطى بيده إذا انقاد وأصحب، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة ولا مبعوثا على يد أحد، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله:
ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن بسببهما. أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلا عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم. قيل: إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم. أما مقدار الجزية
فعن أنس: قسم رسول الله ﷺ على كل محتلم دينارا،
وقسم عمر على فقرائهم في المدينة اثني عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي. وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر. والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب
لقوله صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
ويروى أنه ﷺ أخذ الجزية من مجوس هجر
وذلك أن لهم شبهة كتاب. ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم صلى الله عليه وسلم
453
قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها. وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجبا للطعن، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه. وأيضا فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. وأما قوله وَهُمْ صاغِرُونَ فمعناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام. وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائما والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعدا ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة. وقيل: الصغار هو نفس أخذ الجزية. والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي. وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها. ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم. قال الشافعي في أحد قوليه. العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول. ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية.
وكيفية العقد أن يقول: أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام. ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما
روي أنه ﷺ عليه وسلم قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز»
قال الشافعي: هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما.
وما روي أنه ﷺ أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب
فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعا بين الحديثين.
وقد بقي في الآية نكتة ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال: لأن قوله قاتِلُوا مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين- وهو وجوب قتلهم- مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان. ولقائل أن يقول: لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته؟.
454
ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الآية. العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر.
وقيل: منصرف لكونه عربيا وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم. أو لأن الابن وقع وصفا والخبر محذوف وهو معبودنا.
وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم إلى الخبر دون الوصف، وحينئذ يحصل تسليم كونه ابنا لله ومعلوم أن ذلك كفر. وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد.
يقال: فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك. ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحدا.
عن ابن عباس: جاء رسول الله ﷺ سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك.
وعنه أيضا أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه فقالوا:
هذا ابن الله. وقال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. وقيل: لعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق. وقال في الكشاف: الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب ذلك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له بولس.
قتل جمعا من أصحاب عيسى ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة. ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله. وعلم رجلا آخر- يقال له يعقوب- ذلك ثم دعا رجلا- يقال له ملكا- فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى. ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه. هذا هو
455
السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى. والأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال: إنك أنت الابن الوحيد كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه السلام. وقال المسيح عليه السلام للحواريين: أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجرة. ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم يحقيقة الحال. ثم قال سبحانه ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ وفائدة هذا التخصيص- وكل قول فإنما يقال بالفم- أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هو مبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره، نظيره قوله وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: ١٥] أو نقول: إن الإنسان قد يختار مذهبا ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثير. فالمراد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه البتة، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب. ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة يضاهنون من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصا أي شاكل، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن «فعيل» وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على «فعلأ» بزيادة الهمزة كما في «غرقىء» لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدودا بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده. ولا بد من تقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا لفقد الجار. والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي إنه كفر قديم فيهم غير مستحدث، أو يضاهي قول أهل الكتاب قول المشركين القائلين الملائكة بنات الله. وقيل: الضمير في يُضاهِؤُنَ للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى «المسيح ابن الله» قول اليهود «عزير ابن الله» لأن اليهود أقدم منهم. ثم قال على عادة محاورات العرب معجبا ومستفهما على سبيل الإنكار قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجبا من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم، ولمن ضل عن الطريق أين تذهب؟. ثم وصفهم
456
بضرب آخر من الإشراك فقال اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال أهل المعاني: الحبر العالم الذي يعبر عما يريد بأحسن بيان، والراهب الذي ظهرت آثار الرهبة من قلبه على وجهه ولباسه، ولكن في عرف الاستعمال اختص الأحبار بعلماء اليهود من ولد هارون، والرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصوامع. واختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أربابا بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنهم جعلوهم آلهة العالم فقال أكثر المفسرين: المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم.
نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا فانتهى إلى النبي ﷺ وهو يقرأ سورة براءة، فلما وصل إلى هذه الآية قال عدي: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس تحرّمون ما أحلّ الله وتحلون ما حرم الله؟ فقلت: بلى. فقال: فتلك عبادتهم.
قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم الله. قال العلماء: إنما لم يلزم تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه ويستخف به بخلاف أولئك الأتباع المعظمين لمتبوعهم. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف الآيات مع أن الرواية عن سلفنا. وردت بخلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا ساريا في عرف الأكثرين. وقلت: ولعلهم توقفوا لحسن ظنهم بالسلف لأنهم ربما وقفوا من تلك الآي على ما لم يقف عليه الخلف. وقيل في تفسير هذه الربوبية: إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد، وقد يساعدهم الشيخ في ذلك إذا كان مزوّرا طالبا للدنيا وقد يرضى بسجودهم له تعظيما وإجلالا مع أن السجود عبادة لا تليق إلا بالله. وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة فكيف بالأمم السالفة؟! وأما المسيح فحين جعلوه ابنا لله فقد أهلوه للعبادة والإلهية، ولعل السبب في إفراد المسيح بالذكر أن قولهم فيه أشنع من قولهم في الأحبار والرهبان، أو لأن القول بإلهية المسيح مخصوص بأحد الفريقين. فلو قيل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا لأوهم اشتراك الفريقين في اتخاذ المسيح ربا وَما أُمِرُوا الضمير للمتخذين. والذي أمرهم بذلك أدلة العقل والكتب السماوية، وفي القرآن حكاية عن المسيح إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة: ٧٢] ويجوز أن يكون الضمير للأحبار والرهبان أي وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا بأن يكونوا مربوبين. ثم نزه نفسه عن مقالة
457
الظالمين فقال سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال أهل الكتاب وهو سعيهم في إبطال أمر محمد وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة نبوّته فقال يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي دينه الثابت بالدليل المشبه بالنور لاشتراكهما في الاهتداء بهما. وذلك أن دين محمد مؤيد بالمعجزات الباهرة التي بمثلها ثبتت نبوّة موسى وعيسى ولا سيما بالقرآن، وحاصل شرعه تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به والانقياد لطاعته وصرف النفس عن الأمور الفانية والترغيب في السعادات الباقية، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة أرادوا إبطال هذه الدلائل فكانوا كمن يريد إبطال نور الشمس الذي هو أشد الأنوار المحسوسة بسبب أن ينفخ فيه. ولا ريب أن ذلك سعي باطل وكيد زاهق ولهذا قال وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي لم يرد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة على عدم الإرادة وهي المنع والامتناع قال:
وإن أرادوا ظلمنا أبينا امتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يستوي فيه القوي والضعيف. وفيه وعد بمزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة. ثم أكد ذلك المعنى بقوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي بكثرة الدلائل والمعجزات وَدِينِ الْحَقِّ لاشتماله على أمور تظهر لكل أحد كونه موصوفا بالصواب ومطابقا للحكمة ومؤديا إلى صلاح الدنيا والآخرة. ثم بيّن غاية أمره وتمام حكمه فقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليجعل الرسول أو دين الحق غالبا على أهل الأديان كلهم أو على كل دين. عن أبي هريرة أنه قال هذا وعد من الله بأن يجعل الإسلام ظاهرا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يظهر عند خروج المهدي ونزول عيسى. وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي عليه السلام لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام وأدّى الخراج. قلت: قد دخل في عصرنا من الملوك الكفرة ومن أشياعهم في الإسلام ما لا يعدّ ولا يحصى، وازدياد ذلك كل يوم دليل ظاهر على أن الكل سيدخلون في الإسلام.
وقد جاء في الحديث: «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها» «١»
وقيل: ليظهر الإسلام على غيره في جزيرة العرب.
وهذا تخصيص أوجبه ضيق العطن. وقيل: ليظهر الرسول على جميع شرائط الدين حتى لا يخفى عليه شيء من مدارك الأحكام. وقيل ليظهره بالحجة والبرهان لأن غلبة الكفار في
(١) رواه أحمد في مسنده (٥/ ٢٧٨، ٢٨٤) (٤/ ١٢٣). مسلم في كتاب الفتن حديث ١٩. أبو داود في كتاب الفتن باب ١. الترمذي في كتاب الفتن باب ١٤. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٩.
458
بعض الأقطار ظاهرة. ولقائل أن يقول: إن المسلمين في تلك البلاد وإن قلوا غالبون على الكفار وإن كثروا بدليل أنهم لا يمنعونهم من إظهار شعائر الإسلام والتزام أحكامه، قوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فيه مدح منه تعالى لنفسه من جهة أنه هو القادر على إبداء مثل هذا الأمر العظيم ومن جهة أنه هو الغالب على إيصاله إلى حيث شاء وأراد من غير معاند ولا منازع، ومن جهة أنه هو المعطي لمثل هذه النعمة التي لا يوازيها نعمة وهي نعمة الهدى والإسلام. وقوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وفي الآية الثانية وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ إما متساويا الدلالة تنبيها على أن اليهود والنصارى أيضا مشركون، وإما تخصيص بعد تعميم، ولعله رغم لأنف مشركي قريش ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ الآية. وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر تحصيل حطام الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله. ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله. وفي قوله كَثِيراً دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم، فإن العالم لا يخلو عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك في سائر الأمم. وعبر عن أخذهم أموال الناس بالأكل تسمية للشيء باسم ما هو أعظم مقاصده. وأيضا من أكل شيئا فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها. وفي تفسير الباطل وجوه: منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته. ومنها أنهم كانوا يدّعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في مرضاتهم، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا. أما قوله وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه.
459
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الكنز هو المال المدفون وقد كنزه يكنزه.
والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء اجتمع. قيل:
المراد بقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد، أراد أن يصفهم بالامتناع من إخراج الواجبات عن أموالهم. وقيل: المقصود مانعو الزكاة من المسلمين. ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة؟! عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. وقلت: نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سببا للوحشة. فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا. قلت: إني والله لا أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف قال: لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: ما عسى يصنع بي قريش. واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون: هو المال الذي لم تؤدّ زكاته. عن عمر بن الخطاب: مال أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. وقال جابر: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وعن ابن عباس: قوله وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال القاضي: ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات. وقال الأقلون: كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد.
وحجة الأولين قوله تعالى لَها ما كَسَبَتْ [البقرة: ٢٨٦] وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [محمد: ٣٦]
وقوله عليه السلام: كل امرئ أحق بكسبه» «١» «نعم المال الصالح للرجل الصالح ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا» «٢». وقد كان رسول الله ﷺ جمع من الأغنياء كعثمان بن
(١) رواه أحمد في مسنده (٤/ ١٩٧، ٢٠٢).
(٢) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٤. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٣.
460
عفان وعبد الرحمن بن عوف وكان يعدّهم من أكابر المؤمنين، وقد ندب إلى إخراج الثلث أو الأقل في المرض.
ولو كان جمع المال محرما لكان يأمر المريض أن يتصدق بالكل بل الصحيح في حال صحته. حجة الأقلين عموم الآية وما
روى سالم بن الجعد أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبا للذهب تبا للفضة قالها ثلاثا فقالوا له صلى الله عليه وسلم:
أي مال نتخذ؟ قال: «لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين أحدكم على دينه».
وقوله: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» «١» وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية. وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال:
كيتان.
وعن عليّ رضي الله عنه: كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد.
ومن المعقول أن الله تعالى خلق الأموال لدفع الحاجات فإذا حصل للمرء منه ما زاد على قدر حاجته ومنع منه الغير كان مانعا من ظهور حكمة الله ودافعا لوجوه الإحسان إلى عبيده. وقد رام طائفة من العلماء الجمع بين القولين فقالوا: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه ويؤدي عنه ما أوجب عليه ثم يعاقبه. وقال أهل التحقيق: النهي عن جمع المال محمول على التقوى لأن تزايد المال لا حد له يقف هنالك فينجز إلى تضييع العمر تارة في تحصيله وأخرى في حفظه، لأنه كلما ازداد المال ازدادت لذته بذلك فيشتد حرصه ولا ينقطع البتة، وقد يفضي إلى الطغيان والخذلان كقوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] ولو لم يكن في الفقر سوى الانكسار وقلة التعلق وفراغ البال لكفى بها منقبة وفخرا، وكل ما يلهيك عن الله ولم يكن في سبيل الله فعدمه خير من وجوده. وأما ظاهر الفتوى فهو أن صاحب المال الكثير لا عتب عليه إذا أدّى منه حقوقه.
هذا ومن حمل الآية على وعيد مانعي الزكاة في النقود قاس الزكاة في المواشي عليه.
وقد ورد أيضا في الحديث: «ما من صاحب إبل أو بقر أو غنم» «٢»
وهو مشهور. ولا ريب أن الأصل المعتبر في الأموال هو النقدان، وسائر الأمتعة إنما تحصيل بهما وتدور عليهما.
ولمن أوجب الزكاة في الحلي المباح الاستدلال بالآية لأن الذهب والفضة يشمله، ومن لم يوجب الزكاة فيه خصص عموم الآية بما
روي أنه ﷺ قال: «لا زكاة في الحلي المباح»
ولم يصححه أبو عيسى الترمذي. وبتقدير أن يصح حملوه على اللآلئ لقوله تعالى
(١) رواه أحمد في مسنده (٥/ ١٦٨).
(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٢.
461
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: ١٢] ولقائل أن يقول: لو حملنا الحلي في الحديث على اللآلئ لم تبق لقيد المباح فائدة، ثم إنه تعالى ذكر شيئين الذهب والفضة ثم قال وَلا يُنْفِقُونَها فقيل: الضمير عائد إلى المعنى وهو الكنوز أو الأموال، أو لأن كل واحد منهما جملة واحدة وافية وعدة كثيرة ودراهم ودنانير فهو كقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩] وقيل: إلى اللفظ أي ولا ينفقون الفضة. وحذف الذهب إما لأنه داخل في الفضة من حيث كونهما جوهرين ثمينين نفيسين مقصودين بالكنز فأغنى ذكر أحدهما عن الآخر كقوله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: ١١] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء: ١١٢] وإما لأن التقدير والذهب كذلك كما أن معنى قوله:
فإني وقيار بها لغريب وقيار كذلك. ثم قال فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ تهكما مثل قولهم: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم. ولو قيل: البشارة وهي الخبر الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه سواء كان من الفرح أو من الغم كان حقيقة يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها معناه أن النار تحمى عليها أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله نارٌ حامِيَةٌ [القارعة:
١١] ولو قيل يوم تحمى أي الكنوز كقولك: أحميت الحديد لم يفد هذا المعنى وإنما ذكر الفعل مع أن الإحماء للنار لأنه مسند إلى الجار والمجرور بعد حذف النار كما تقول:
رفعت القصة إلى الأمير. فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير. فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ذكر العلماء في تخصيص هذه الأعضاء بالكي وجوها منها. إن حصول الأموال يقصد به فرح القلب يظهر أثره في الوجه وشبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فعورضوا بنقيض المقصود. ومنها أن هذه الأعضاء يعظم تألمها لكونها مجوّفة ولما في داخلها من الأعضاء الشريفة. ومنها أنهم يكوون على الجهات الأربع، أما من قدام فعلى الجبهة، وأما من خلف فعلى الظهر، وأما من اليمين واليسار فعلى الجنبين. ومنها أن المراد وقوع الكي على كل الأعضاء لأنها إما في غاية النظافة ومثاله الجبهة، وإما في غاية الصلابة ومثاله الظهر، وإما متوسطة ومثاله الجنبان.
ومنها أن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة فعورض بإزالتهما. ومنها قول أبي بكر الوراق: خصت بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جنبيه، وإذا قعد بجنبه تباعد وتجافى عنه وولى ظهره. وأنا أقول:
يحتمل أن يراد بالجباه قدام الشخص حيث لم يقدم لنفسه خير، أو بالظهور جهة الخلف
462
حيث خلف ما أعقبه الحسرات وبالجنوب اليمين والشمال حيث لم يصرف المال في مرضاة الله وأنفقه في معصيته وسخطه وهذا بالتأويل أليق. ثم الذي جعل كيا هو كل ماله أو قدر الزكاة الظاهر أنه الكل لأنه لما لم يخرج منه الحق كان ذلك الجزء شائعا في كل ماله فناسب أن يعذب بكل الأجزاء ثم قال هذا ما كَنَزْتُمْ والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ وفيه توبيخ وإشعار بأنهم عورضوا بنقيض ما قصدوا وأكد ذلك بقوله فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ما مصدرية أو موصولة والمعنى اعرفوا وبال كونكم كانزين، أو ذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه.
ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين فقال إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الآيتان وذلك أنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأوقات بسبب النسيء والكبيسة كان ذلك سعيا منهم في تغيير حكم الله بحسب الهوى فكان ذلك زيادة في كفرهم. واعلم أن المعالم الشرعية كلها منوطة بالشهور القمرية الهلالية لقوله سبحانه قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: ١٨٩] والسنة القمرية عبارة عن اثني عشر شهرا قمريا بدليل قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق قوله فِي كِتابِ اللَّهِ بقوله عِدَّةَ الشُّهُورِ للفصل بالأجنبي وهو الخبر أعني اثنا عشر. فقوله فِي كِتابِ اللَّهِ ويَوْمَ خَلَقَ الثاني بدل من الأول وهو من عند. والتقدير إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. وفائدة الإبدالات تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله وثابت في عمله في أول ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون فِي كِتابِ اللَّهِ صفة اثنا عشر أي اثنا عشر شهرا مثبتة في كتاب الله وعلى هذا لا يجوز أن يراد بالكتاب كتاب من الكتب لأن يَوْمَ متعلق به ولا تتعلق الظروف بأسماء الأعيان. لا يقال: غلامك يوم الجمعة بل الكتاب يكون مصدرا بمعنى المفعول أي فيما أثبته في ذلك اليوم اللهم إلا إذا قدر الكلام هكذا. إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا مكتوبا في كتاب الله يوم خلق. قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن.
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأشهر الأربعة أَنْفُسَكُمْ بأن تجعلوا حرامها حلالا. عن عطاء قال: تالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في
463
الأشهر الحرام إلا أن يقاتلوا وما نسخت. وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بيانا لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة: ١٩٧] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثرا في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتا مخصوصة. وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعا على الظلم والفساد، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك. ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الإلفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي. ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة. وقيل: الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى اثْنا عَشَرَ والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء. قال الفراء: الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم، ولأن العرب تختار فيما بين الثلاثة إلى العشرة ضميرا الجماعة، وفيما جاوز العشرة وهو جمع الكثرة تختار ضمير الوحدة. قال حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ويقال: لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت. ثم قال عز من قائل وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة. ومعنى كَافَّةً جميعا لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضا. ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية. وقال الزجاج:
نصبه على الحال. ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك: قاموا معا وقاموا جميعا. وفي وجه التشبيه في قوله كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قولان: فعن ابن عباس:
قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم. وقيل:
قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم. فعلى الأول يكون كَافَّةً حالا من المفعول وعلى الثاني يكون حالا من الفاعل وفي قوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة. ثم فسر الظلم المنهي عنه في الآية المتقدمة وأكد النهي عنه بقوله إِنَّمَا النَّسِيءُ وهو مصدر نسأ إذا أخر كالنذير والنكير. وقال
464
قطرب: أصله الزيادة من قوله: نسأت المرأة إذا حبلت لزيادة الولد فيها. وردّ بأنه يقال لها ذلك فيؤول لتأخر حيضها. وقيل: هو معنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول. واعترض بأن المؤخر هو الشهر المعنى إلى أن الشهر زيادة في الكفر وهذا الحمل غير صحيح. ويمكن أن يجاب بأن المراد أن العمل الذي بسببه يصير الشهر الحرام مؤخرا زيادة في الكفر. احتج الجبائي هاهنا بأن الكفر يقبل الزيادة فكذا الإيمان. وأيضا أطلق الكفر على هذا العمل فتركه يكون إيمانا فلا يكون الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار. وأجيب بأن الزيادة راجعة إلى الكمال وإنما سمي هذا العمل كفرا لأنه يؤول إلى اعتقاد تحليل ما هو حرام وبالعكس. وفي قوله يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بحث مشهور بين المعتزلة وغيرهم أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى بالمجاز أو بالحقيقة وقد مر مرارا. قوله يُحِلُّونَهُ عاماً الضمير فيه عائد إلى النسيء. قال الواحدي:
أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا فيه في الشهر الحرام.
ويحرّمون التأخير عاما آخر وهو الذي يتركون فيه الشهر الحرام على تحريمه. قال المفسرون: إنهم كانوا أصحاب حروب وغارات وكان يشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متوالية من غير قتل وغارة، فإذا اتفق لهم في شهر منها أو في المحرم حرب وغارة أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر. قال الواحدي وأكثر العلماء: على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر. ويروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في قومه وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه. ثم يقوم في القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرّموه. والأكثرون على أنهم كانوا يحرمون من جملة شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوا ولم يعلموا أنهم خالفوا ترك القتال ووجوب التخصيص وذلك قوله تعالى فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي من القتال وترك الاختصاص. قال أهل اللغة: يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كأن واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين لفظهما ومعناهما واحد. قال ابن عباس: إنهم ما أحلوا شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا آخر من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا آخر من الحرام لأجل أن تكون عدة الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى فهذا هو المراد بالمواطأة. وللآية تفسيرا آخر وهو أن يكون المراد بالنسيء كبس بعض السنين القمرية بشهر حتى يلتحق بالسنة الشمسية، وذلك أن السنة القمرية أعني اثني عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس من
465
يوم على ما عرف من علم النجوم وعمل الزيجات، والسنة الشمسية وهي عبارة عن عود الشمس من أية نقطة تفرض من الفلك إليها بحركتها الخاصة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم إلا كسرا قليلا، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بعشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة تقريبا، وبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى، وكذا في الربيع والخريف، فكان يشق الأمر عليهم إذ ربما كان وقت الحج غير موافق لحضور التجار من الأطراف فكان يختل أسباب تجاراتهم ومعايشهم فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة بحيث يقع الحج دائما عند اعتدال الهواء، وإدراك الثمار والغلات وذلك بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي، فكبسوا تسع عشر سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية فزادوا في السنة الثانية شهرا ثم في الخامسة ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة ثم في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة، وذلك ترتيب بهر يحوج عند المنجمين، وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فأنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم، فالشهر الزائد هو الكبس وسمي بالنسيء لأنه المؤخر والزائد مؤخر عن مكانه، وهذا التفسير يطابق ما
روي أنه ﷺ خطب في حجة الوداع وكان في جملة ما خطب به: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «١»
والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة في نفس الأمر فكانت حجة أبي بكر قبلها وفي ذي القعدة التي سموها ذا الحجة. وإنما لزم العتب عليهم في هذا التفسير لأنهم إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهرا كان مخالفا لحكم الله بأن عدّة الشهور اثنا عشر شهرا أي لا أزيد ولا أنقص وإليه الإشارة بقوله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ على هذا التفسير. ويلزمهم أيضا ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها، فيجوز أن تكون الإشارة إلى المجموع. ومعنى قوله يُحِلُّونَهُ عاماً أي يحلون النسيء في عام الكبس ويحرمونه عاما أي في غير سنة الكبس. ومعنى قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ما روي أنه كان يقوم في الموسم منهم خطيب ويقول: أنا أنسئ لكم في هذه السنة شهرا وكذا أفعل في كل سنين أقبلت حتى يأتي حجكم وقت الإدراك فينسىء المحرم ويجعله كبيسا. ثم إنه متى انتهت النوبة إلى
(١) رواه أحمد في مسنده (٥/ ٧٣).
466
الشهر الحرام فتكرر حرم عليهم واحدا برأيه وعلى وفق مصلحتهم، وأحل الآخر. وباقي في الآية قد مر في تفسير مثله مرارا والله تعالى أعلم.
التأويل:
قاتِلُوا النفوس الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بتعبده وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي لا يعملون للآخرة وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من حب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة وحَرَّمَ رَسُولُهُ على نفسه وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يطلبون الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من النفوس الملهمة بالواردات الربانية حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهي معاملتها على خلاف طبعها عَنْ يَدٍ عن حكم صاحب قوة وهو الشارع وقالت يهود النفس أن عزير القلب ابْنُ اللَّهِ وذلك إذا انعكس عن مرآه القلب آثار أنوار الواردات إلى النفس المظلمة فتنورت، كما أن اليهود لما سمعت التوراة والعلوم التي هم عنها بمعزل من عزير قالوا إنه ابن الله وَقالَتِ النَّصارى القلوب إن مسيح الروح ابن الله، وذلك أن الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقترنا بصفة إبداع الحق وبتشريف إضافة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: ٢٩] يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ وهم النفوس الكافرة الذين اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي قلوبهم وَرُهْبانَهُمْ أي أرواحهم أَرْباباً والمسيح ابن مريم وهو الخفي وذلك أن الخفي هو أول مظهر للفيض الإلهي الذي منه التربية ثم الروح ثم القلب ثم النفس ثم القالب. فالنفس من قصر نظرها ترى التربية من القالب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى التربية من القلب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى الكل من الحق فإن رؤية ذلك من شأن القلب كقوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: ١١] يُرِيدُونَ أي النفوس أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الذي رش على الأرواح في بدء الخلق بِأَفْواهِهِمْ أي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانيات هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ وهو النور المرشش بالهداية إلى الله وطلب الحق لِيُظْهِرَهُ في طلب الحق على طلب غيره إِنَّ كَثِيراً من أحبار القلوب ورهبان الأرواح لَيَأْكُلُونَ أي يتمتعون بحظوظ النفس وهواها وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ حرصا وطمعا في الاستمتاع بحظوظ النفوس وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليقطعوا مسافة البعد عن الله بقدمي ترك الدنيا وقمع الهوى يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ الحرص فَتُكْوى بِها جباه القلوب والأرواح لأنهم امتنعوا بذلك عن التوجه إلى الحق وَجُنُوبُهُمْ حيث لا تتجافى جنوبهم عن مضاجع المكونات وَظُهُورُهُمْ حيث لم يقضوا حق التواضع والخشوع فيقال لهم هذا الذي أصابكم من ألم الحرمان وعذاب القطيعة بسبب ما كَنَزْتُمْ فَذُوقُوا الآن ألم كي نار الحرص لأنكم لم تذوقوه في الدنيا حيث كنتم في منام الغفلة مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فيه إشارة إلى أن الطالب المضطر إلى
467
تحصيل قوت نفسه وعياله يجب أن يجعل أوقات عمره أثلاثا: ثلثا لطلب المعاش وترتيب مصالح الدنيا، وثلثا للطاعات التي ينتفع بها في الآخرة، وثلثا من ذلك حرام أن يقع في خاطره غير المولى. ومن استغنى عن الموانع فيحرم عليه صرف لحظة في غير طلب الحق وإلى هذا المعنى أشار بقوله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وفيه تنبيه على أن من لم يكن هكذا كان في سلوكه اعوجاج. ثم ذكر أن من شأن النفوس المشركة أنها إن أقبلت على طاعة أخرتها عن وقتها وهو النسيء الموجب لازدياد كفرها لأنها قد خالفت الشرع من حيث تركها الطاعة باختيارها، ومن حيث إنها اعتقدت أن ذلك التأخير مما لا بأس به.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
القراآت:
وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالنصب: يعقوب. الباقون: بالرفع.
468
الوقوف:
إِلَى الْأَرْضِ ط مِنَ الْآخِرَةِ ط قَلِيلٌ هـ شَيْئاً ط قَدِيرٌ هـ مَعَنا ج لعطف فَأَنْزَلَ على نَصَرَهُ مع عوارض الظروف. السُّفْلى ط إلا لمن قرأ وَكَلِمَةُ بالنصب الْعُلْيا ط حَكِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط تَعْلَمُونَ هـ الشُّقَّةُ ط مَعَكُمْ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال. أَنْفُسَهُمْ ج لواو الابتداء والحال.
لَكاذِبُونَ هـ عَنْكَ ج لحق الاستفهام مع اتصال الكلام معنى. الْكاذِبِينَ هـ وَأَنْفُسِهِمْ ط بِالْمُتَّقِينَ هـ يَتَرَدَّدُونَ هـ الْقاعِدِينَ هـ الْفِتْنَةَ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال لَهُمْ ط بِالظَّالِمِينَ كارِهُونَ هـ وَلا تَفْتِنِّي ط سَقَطُوا ط بِالْكافِرِينَ هـ.
التفسير:
لما شرح الله معايب هؤلاء الكفار عاد إلى الترغيب في قتالهم.
عن ابن عباس أنها نزلت في غزوة تبوك سنة عشر وذلك أنه ﷺ لما رجع من الطائف أقام بالمدينة أياما فأمر بجهاد الروم فاستثقله الناس لكون الزمان زمان صيف وللقحط ولبعد المسافة ولمزيد احتياج إلى الاستعداد ولشدة الحر وللخوف من عسكر الروم ولوجود أسباب الرفاهية بالمدينة لكون الوقت وقت إدراك الثمار وحصول الغلات.
روي أن رسول الله ﷺ ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة.
وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير. وأصل اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم كما قلنا في فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: ٧٢] ومعناه تباطأتم. وإنما عدّي بإلى لتضمين معنى الميل والإخلاد كقوله أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف: ١٧٦] أي مال إلى الدنيا وشهواتها. وقيل: المراد لتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها. ومعنى الاستفهام في ما لَكُمْ الإنكار. وقرىء اثَّاقَلْتُمْ على الاستفهام للإنكار أيضا فيكون جواب «إذا» فعلا آخر مدلولا عليه باثاقلتم كنحو ملتم، وذلك أن جواب «إذا» عامل في «إذا»، والاستفهام لا يعمل فيما قبله. ويجوز على هذه أن يكون «إذا» لمجرد الظرفية والعامل فيه ما في ما لَكُمْ من معنى الفعل كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم و «من» في مِنَ الْآخِرَةِ للبدل كقوله لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ كأنه قيل: قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وبينا أنواع فضائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، ولو لم يكن فيه إلا طاعة المعبود المستلزمة لثواب الآخرة لكفى به باعثا. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي في جنبها وفي مقابلها. إِلَّا قَلِيلٌ ويجوز أن يراد بالقلة العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي. والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من جميع المخاطبين لاستحالة إطباق
469
هذه الأمة على المعصية والضلالة إلا أنه طالما أعطى للأكثر حكم الكل وأطلق لفظ الكل على الأغلب. ثم لما رغبهم في الجهاد بعرض الثواب عليهم رغبتهم فيه بعرض العقاب فقال إِلَّا تَنْفِرُوا ورتب عليه ثلاث خصال: الأولى قوله يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً قيل: هو عذاب الدنيا. عن استنفرهم رسول الله ﷺ فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن:
الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل: هو عذاب الآخرة فإن الأليم لا يليق إلا به. وقيل: إنه تهديد بالعذاب المطلق الشامل للدارين. الثانية قوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني قوما آخرين خيرا منهم وأطوع. قيل: هم أهل اليمن. عن أبي روق.
وقيل: أبناء فارس عن سعيد بن جبير. وقيل: يحتمل أن يراد بهم الملائكة. وقال الأصم:
معناه أنه يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة والأصح إبقاء الآية على الإطلاق. الثالثة قوله وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً قال الحسن: الضمير لله وفيه أنه غني عنهم في نصرة دينه بل في كل شيء. وقال آخرون: الضمير للرسول لأن الله وعده أن يعصمه ووعد الله كائن لا محالة. وفي قوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تنبيه على أنه قادر على نصرة رسوله بأي وجه أراد، وقادر على إيقاع العذاب بكل من يخالف أمره كائنا من كان. عن الحسن وعكرمة أن الآية منسوخة بقوله وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: ١٢٢] والصحيح أنها خطاب لمن استنفرهم رسول الله ﷺ فلم ينفروا فلا نسخ.
قال الجبائي: في الآية دلالة على إبطال مذهب المرجئة من أن أهل القبلة لا وعيد لهم.
وقال القاضي: فيها دلالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أولا لقوله تعالى ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ ولم ينص على أن القائل هو الرسول. ومن قال إن الضمير في قوله لا تَضُرُّوهُ عائد إلى الرسول فجوابه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها. ثم رغبهم في الجهاد بطريق آخر فقال إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وهذا كالتفسير لما تقدم.
والمعنى إن لم تشتغلوا بنصره فإن الله سينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد. وفيه أنه لما أوجب له النصرة وقتئذ فلن يخذله بعد ذلك. وقوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألجئوه إلى أن خرج ظرف لنصره، وثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال ومعناه أحد اثنين لأنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما ثان للآخر وواحد منهما. وقوله إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إذ أخرجه وإِذْ يَقُولُ بدل ثان والغار نقب عظيم في الجيل والمراد به هاهنا نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة. واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الأنفال
أن قريشا ومن بمكة تعاقدوا على قتل رسول الله ﷺ فنزل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٣٠] فأمره
470
الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر الصديق إلى الغار. فخرج وأمر عليا أن يضطجع على فراشه فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر يلتمس ما في الغار فقال له الرسول: مالك؟
فقال: بأبي أنت وأمي، الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، فخرق عمامته وسد الحجرة وبقي حجر واحد فوضع عقبه عليه كيلا يخرج منه ما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله ﷺ فقال عليه السلام: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وقيل: طلع المشركون فوق الغار فاشفق أبو بكر على رسول الله ﷺ فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما! وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعم أبصارهم. فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون له قد أخذ الله أبصارهم عنه.
استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر وغاية اتحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره وإلا لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة، وأنه كان ثاني رسول الله ﷺ في الغار وفي العلم
لقوله «ما صب في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر»
وفي الدعوة إلى الله لأنه ﷺ عرض الإيمان أولا على أبي بكر فآمن، ثم عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة أخرى من أجلة الصحابة، وكان لا يفارق الرسول ﷺ في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة، ولما توفي دفن بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره، ولو قدرنا أنه توفي رسول الله ﷺ في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره ولا يكون وصيه إلا أبو بكر. وأن لا يبلغ ما حدث في ذلك الطريق من الوحي والتنزيل إلا أبو بكر. وقوله لا تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقا والنهي يقتضي الدوام والتكرار فهو لا يحزن قبل الموت وعنده وبعده. ولا شك أن من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:
١٢٨] قال الحسين بن فضيل: من أنكر صحبة غير أبي بكر من الصحابة فإنه يكون كذابا مبتدعا، ومن أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكون كافرا لأنه خالف قول الله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أجابت الشيعة بأن كونه ثاني اثنين ليس أعظم من كون الله رابعا لكل ثلاثة في قوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: ٧] وهذا عام في حق كل كافر ومؤمن. وكون المصاحبة موجبة للتشريف معارض بقوله تعالى للكافر قالَ لَهُ صاحِبُهُ
471
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ
[الكهف: ٣٧] وكما احتمل أن يقال إنه عليه السلام استخلصه لنفسه في هذا السفر لأجل الثقة، احتمل أن يكون ذلك لأجل إنه خاف أن يدل الكفار عليه أو يوقفهم على أسراره لو تركه. ثم إن حزنه لو كان حقا لم ينه عنه فهو ذنب وخطأ. سلمنا دلالة الآية على فضل أبي بكر إلا أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراشه أعظم من ذلك فيه من خطر النفس. أجاب أهل السنة بأن كون الله رابعا لكل ثلاثة أمر مشترك، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله أبا بكر به على أن المعية هنالك بالعلم والتدبير وهاهنا بالصحبة والمرافقة، فأين إحداهما من الأخرى؟! والصحبة في قوله قالَ لَهُ صاحِبُهُ مقرونة بما تقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله ولا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا قالوا: والعجب أن الشيعة إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل. واستنكروا أن يقال: وحق اثنين الله ثالثهما. والاحتمال الذي ذكروه مدفوع بما روي أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة للرسول وأن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام مدة مكثهما في الغار وذلك ثلاثة أيام وقيل بضعة عشر يوما.
وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتتك بحيسة ففرح بذلك رسول الله ﷺ وأخبر به أبا بكر،
ولو كان أبو بكر قاصدا له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، ولقال ابنه وابنته نحن نعرف مكان محمد. وكون حزنه معصية معارض بقوله تعالى لموسى لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: ٦٨] وقول الملائكة لإبراهيم لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ [الذاريات ٢٨] ثم إنا لا ننكر أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراش الرسول طاعة وفضيلة إلا أن صحبة أبي بكر أعظم لأن الحاضر أعلى حالا من الغائب، ولأن عليا رضي الله عنه ما تحمل المحنة إلا ليلة وأبو بكر مكث في الغار أياما، وإنما أختار عليا للنوم على فراشه لأنه كان صغيرا لم يظهر عنه بعد دعوة بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان بخلاف أبي بكر فإنه قد دعا حينئذ جماعة إلى الدين وكان يذب عن الرسول بالنفس والمال، فكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على عليّ رضي الله عنه ولهذا لم يقصدوا عليا بضرب ولا ألم لما عرفوا أن المضطجع هو. ثم زعم أهل السنة أن الضمير في قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عائد إلى أبي بكر لا إلى الرسول لأنه أقرب المذكورين فإن التقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر ولأن الخوف كان حاصلا لأبي بكر والرسول كان آمنا ساكن القلب بما وعده الله من النصر، ولو كان خائفا لم يمكنه إزالة الخوف عن غيره بقوله لا تَحْزَنْ ولناسب أن يقال: فأنزل الله سكينته
472
عليه فقال لصاحبه لا تحزن. واعترض بأن قوله وَأَيَّدَهُ عطف على فَأَنْزَلَ فواجب أن يتحد الضميران في حكم العود. وأجيب بأن قوله وَأَيَّدَهُ معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ والتقدير: إلا تنصروه فقد نصره في واقعة الغار وأيده في واقعة بدر والأحزاب وحنين بالملائكة، والظاهر أن الحزن لا يبعد أن يكون شاملا للنبي ﷺ أيضا من حيث البشرية كقوله وَزُلْزِلُوا [البقرة: ٢١٤] ويكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: فأنزل الله سكينته عليه إذ يقول، أو يكون فَأَنْزَلَ معطوفا على نصره. والمراد بالسكينة ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها قلبه وعلم أنه منصور لا محالة كقوله في قصة حنين ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ [التوبة: ٢٦] وقوله وَجَعَلَ يعني يوم بدر وسائر الوقائع كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي دعوتهم إلى الكفر وعبادة الأصنام السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ وهي دعوته إلى الإسلام أو كلمة التوحيد لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا وفي توسيط كلمة الفصل- أعني هي- تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة بالعلاء دون سائر الكلم. قال الفراء: لا أحب قراءة نصب الكلمة لأن الأجود حينئذ أن يقال:
وكلمته هي العليا. ألا ترى أنك تقول: أعتق أبوك غلامه ولا تقول أعتق أبوك غلام أبيك؟
قلت: وفي الرفع أيضا الاستئناف وما في الجملة الاسمية من الثبات وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قاهر غالب لا فعل له إلا الصواب.
ثم لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصف عقبه بالأمر الجزم فقال انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال المفسرون: أي خفافا في النفور لنشاطكم وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتهم، أو خفافا من السلاح وثقالا منه، أو ركبانا ومشاة، أو شبانا وشيوخا، أو مهازيل وسمانا، أو صحاحا ومراضا، والصحيح التعميم، وأن المراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد معها أو على ضدها. قال الأكثرون: ظاهر هذا الأمر يقتضي تناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ويؤيده ما
روي عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعليّ أن أنفر؟ قال: ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: ٦١]
وقال مجاهد: إن أبا أيوب شهد بدرا مع الرسول الله ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول: قال الله انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وعن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمص فلقيت شيخا كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت:
يا عم لقد أعذر الله إليك. فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا إلا أنه
473
من يحبه الله يبتليه. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب ضرر. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن أنس قال: قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال: ما أسمع الله عذر أحدا فخرج مجاهدا إلى الشام حتى مات.
وقال السدي: جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله ﷺ وكان عظيما سمينا وشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزل فيه انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فاشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: ٩١] الآية.
وقيل: لا حاجة إلى التزام النسخ لأن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك بالاتفاق، ولا شك أنه ﷺ خلف من النساء والرجال أقواما فذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ولكنه من فروض الكفايات. فمن أمره الرسول ﷺ بأن يخرج لزمه ذلك ومن أمره أن يبقى لزمه أن يبقى. ولقائل أن يقول: لا نزاع في هذا إنما النزاع في الضعفاء والمرضى. ثم قال وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وفيه إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بالنفس إن لم يكن مال زائد على أسباب الجهاد، أو بالمال بأن يستنيب من يغزو وعنه إن لم تكن له نفس سليمة صالحة للجهاد وهذا قول كثير من العلماء. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني أنه خير في نفسه أو أنه خير من القعود لما فيه من الراحة والدعة والنعيم العاجل. وإنما قال إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأن ما يحصل من الخيرات في الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن وعد الله حق. ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قال الزجاج: أي لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه.
والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومنه قولهم: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والمراد بالقرب سهولة مأخذه وَسَفَراً قاصِداً أي وسطا بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد أي ذو قصد لأن كل أحد يقصده. والشقة المسافة الشاقة الشاطة، ووصف المسافة البعيدة بالبعد مبالغة نحو جد جدّة. وفحوى الكلام لو كانت المنافع قريبة الحصول والسفر وسطا لَاتَّبَعُوكَ طمعا في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة. ثم أخبر أنه سيجدهم إذا رجع من الجهاد يحلفون بالله إما ابتداء على طريق إقامة العذر وإما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف وقد وقع كما أخبر فكان معجزا. وبِاللَّهِ متعلق ب سَيَحْلِفُونَ أو هو من جملة كلام المتخلفين والقول مقدر في الوجهين أي سيحلفون بالله قائلين لَوِ اسْتَطَعْنا وقوله لَخَرَجْنا سادّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعا. قيل: في الآية دلالة على أن قوله انْفِرُوا خطاب
474
للمستطيعين وإلا لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذرا في التخلف. قال الجبائي: فيها دليل على أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لما كذبهم الله تعالى، فإن لم من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعا للقتال عند من يجعل الاستطاعة مع الفعل. وقال الكعبي: زائدا عليه فإن قيل: لم لا يجوز أن يراد أنهم ما كان لهم زاد ولا راحلة ولا يراد نفس القدرة؟ قلنا إن من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا قدرة له أولى. وأيضا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن وإذا أريد به المال فلأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن. وأجيب بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل إلا بوقت واحد فإن الإنسان الجالس في مكان لا يكون قادرا في هذا الزمان على أن يفعل فعلا في مكان بعيد عنه وإنما يقدر على فعله في المكان الملاصق لمكانه. فالقوم الذين تخلفوا ما كانوا قادرين على القتال عندنا وعندهم فيلزمهم ما ألزموه علينا فوجب المصير إلى تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فيسقط السؤال. ولقائل أن يقول: إنهم وإن كانوا غير قادرين على القتال إلا أنهم كانوا قادرين على الاشتغال بأسباب القتال فيعود السؤال. قال في الكشاف يُهْلِكُونَ بدل من سَيَحْلِفُونَ أو حال أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، أو حال من ضمير لَخَرَجْنا أي لخرجنا معكم وإن ألقينا أنفسنا في التهلكة. وإنما جاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. حلف بالله ليفعلن أو لأفعلن فالغيبة على الإخبار والتكلم على الحكاية.
قلت: وفي الوجه الأخير نظر للزوم بناء أول الكلام على التكلم وآخره على الغيبة، ولعل الصحيح حينئذ أن لو قيل: لخرجنا معكم نهلك أنفسنا والله تعالى أعلم.
ثم بين أن ذلك التخلف من بعضهم كان بإذن الرسول ولهذا توجه عليه العتاب بقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فإن العفو يستدعي سابقة الذنب. وبقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فإنه استفهام في معنى الإنكار وبيان لما كنى عنه بالعفو. قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما الرسول لم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى. فعاتبه الله بطريق الملاطفة كما تسمعون. والذي عليه المحققون أنه محمول على ترك الأولى. وقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ إنما جاء على عادة العرب في التعظيم والتوقير فيقدمون أمثال ذلك بين يدي الكلام يقولون: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي. وبعد حصول العفو من الله تعالى يستحيل أن يكون قوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ واردا على سبيل الذم والإنكار بل يحمل على ترك الأكمل والأولى لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا. قال كثير من العلماء:
في الآية دلالة على جواز الاجتهاد لأنه عليه السلام أذن لهم من تلقاء نفسه من غير أن
475
يكون من الله في ذلك إذن وإلا لم يعاتب أو منع وإلا كان عاصيا بل كافرا لقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٧] ولا ريب أنه لا يكون بمجرد التشهي فيكون بالاجتهاد ثم إنه لم يمنع من الاجتهاد مطلقا وإنما منع إلى غاية هي قوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ولا يمكن أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي وإلا كان ترك ذلك كبيرة فتعين أن يحمل التبين على استعلام الحال بطريق الاجتهاد ليكون الخطأ واقعا في الاجتهاد لا في النص ويدخل تحت
قوله «ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» «١»
وفي الآية دلالة على وجوب الاحتراز عن العجلة وترك الاغترار بظواهر الأمور. قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم رخص له في سورة النور في قوله فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [الآية: ٦٢]. قال أبو مسلم: يحتمل أن يريد بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الإذن في الخروج لا في القعود، فقد يكون الخروج غير صواب لكونهم عينا للمنافقين على المسلمين، وإذا كان هذا محتملا فلا تتعين الآية لرخصة الإذن في القعود. وقال القاضي: هذا بعيد لأن سياق الآية يدل على أن الكلام في القاعدين وفي بيان حالهم.
ثم ذكر أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا لأن الاستئذان من علامات النفاق فقال لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا أي في أن يجاهدوا، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي ﷺ في الجهاد وكانوا بحيث لو أمرهم بالقعود شق عليهم ذلك. ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمره الرسول ﷺ بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن
قال له الرسول ﷺ «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
وقيل: إن حرف النفي مضمر كإضمار الجار والتقدير في أن لا يجاهد والآن سياق الآية يدل على ذم من يستأذن في القعود.
وعلى هذا يمكن أن يقال: معناه كراهة أن يجاهدوا وفي قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ رمز إلى أنهم من جملة المتقين وأن لهم ثوابهم. ثم بين الذين من شأنهم الاستئذان فقال إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الآية. وفيه أن الشاك في أمر الدين وفي أصوله لا في بعض مسائله غير مؤمن بالله تعالى، وفيه أن محل الريب واليقين هو القلب وأن الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان وإلا لم يصح نفيه عن المنافقين. ومعنى قوله فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أن الشاك متردد بين النفي والإثبات غير حاكم بأحد الطرفين. وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازما
(١) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب ٢١. مسلم في كتاب الأقضية حديث ١٥. أبو داود في كتاب الأقضية باب ٢. الترمذي في كتاب القضاة باب ٣. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب ٣.
أحمد في مسنده (٢/ ١٨٧) (٤/ ١٩٨).
476
أولا، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقا فإما بضرورة أو نظر فهو العلم أولا وهو اعتقاد المقلد. وغير الجازم إن كان أحد الطرفين راجحا عنده فالراجع هو الظن والمرجوح هو الوهم، وإن تساوى الطرفان فهو الريب والشك فلهذا كانت الحيرة والتردد من شأن صاحبه كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قال المفسرون: إن المستأذنين هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلا. ثم نعى على المنافقين سوء فعالهم فقال وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً قال ابن عباس: يريد من الماء والزاد والراحلة لأن سفرهم بعيد والزمان شديد، فتركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف. قال العلماء: وفيه إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدّة. وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي انطلاقهم فَثَبَّطَهُمْ والتثبيط رد الإنسان عن الفعل الذي هم به.
ومعنى الاستدراك أن قوله وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعطي معنى نفي الخروج وكأنه قيل: ما خرجوا ولكن تنبطوا لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ. ومثل هذا يسمى في علم البديع صنعة الاستدراك. وقد يقال: تأكيد الذم بما يشبه المدح. ولو قيل مثل هذا في المنع لقيل تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهاهنا سؤال وهو أن خروجهم مع الرسول إن كان مفسدة فلم عاتب الله رسوله في إذنه لهم بالقعود، وإن كان مصلحة فلم كره الله انبعاثهم؟ والجواب أنه كان مفسدة لقوله عقيب ذلك لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وحديث العتاب ظاهر عند من لا يجوز الاجتهاد على الأنبياء لتمكنهم من استعلام الصواب بطريق الوحي، وكذا على قول أبي مسلم. ومما يوهم أنه ﷺ أذن لهم في الخروج قوله تعالى في هذه السورة فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: ٨٣] وقوله في سورة الفتح سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ إلى قوله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: ١٥] وأما عندنا فإنما لم يستحسن الله من الرسول ﷺ إذنه لهم بالقعود وإن كان قعودهم مصلحة لأنه أذن لهم قبل إتمام التفحص وإكمال التدبر ولأنه لو لم يأذن لهم فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم فكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ولا تبقى حاجة إلى إظهار نفاقهم بوجوه أخر دالة على هتك أستارهم وكشف أسرارهم. قال معتزلة البصرة: في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة. قالت الأشاعرة: معنى كره الله أنه أراد عدم ذلك الشيء، وزيف بأن العدم لا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلا للحاصل. ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن
477
على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلا للحاصل؟ وأيضا عدم الشيء المخصوص ليس عدما محضا. أما قوله وَقِيلَ اقْعُدُوا فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، أو هو قول الرسول كأنه غضب عليهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لم ذكرت هذه اللفظة التي أمكنهم أن يتوسلوا بها إلى تحصيل غرضهم. ومعنى قوله مَعَ الْقاعِدِينَ ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ
قال المفسرون: لما خرج رسول الله ﷺ ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة- أسفل من ثنية الوداع- ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله ﷺ تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا
فيكون استثناء متصلا من أعم العام، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيرا إلا خبالا ضعيف. والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه، وللمفسرين عبارات قال الكلبي: إلا شرا. وقال سلمان إلا مكرا. وقال الضحاك: إلا غدرا. وقيل: إلا خبثا. وقيل: هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتى يختلفوا وتتفرق كلمتهم. قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر. وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح.
ولقائل: أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول. واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة: الأول: قوله ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا الثاني: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال في الكشاف: زيد ألف في الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا أخرى ونحوه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [الآية: ٢١] في النمل لَآتَوْها [الآية: ١٤] في الأحزاب ولا رابع لها في القرآن. وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة فقال أكثرهم: هو متعد يقال: وضع البعير إذا عدا، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو. وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير: ولأوضعوا ركائبهم. وقال الأخفش وأبو عبيد: إنه جاء لازما ويقال: أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا. ومنه ما
روي أن
478
النبي ﷺ أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر
أي أسرع. قال الواحدي: والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد. وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي. ومعنى خِلالَكُمْ أي فيما بينكم. والخلل الفرجة فيما بين الشيئين.
ويَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يبغون لكم. قال الأصمعي: يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي. ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون. فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذلك الغرض. وأما النوع الثالث فذلك قوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد وابن زيد: أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم. وقال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأثر على أكمل الوجوه لا محالة.
واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيما بينهم.
ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديما وحديثا فقال لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل وقعة تبوك.
قال ابن جريج: هو أن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي ﷺ مع أصحابه.
ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد. ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائرا حول مصايد المكايد حَتَّى جاءَ الْحَقُّ الذي هو القرآن وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ غلب دينه وشرعه وَهُمْ كارِهُونَ رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم. ولما كان الأمر كذلك في الماضي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: ٣٢] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. احتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد. وقيل: لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن
479
خرجت معك هلك مالي وعيالي.
وقيل: قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم، ولكني أعينك بما لي فاتركني، فأعرض عنه النبي ﷺ وقال: قد أذنت لك فنزلت الآية. فقال رسول الله ﷺ لبني سلمة- وكان الجد منهم- من سيدكم يا بني سلمة؟
قالوا: جد بن قيس غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد الشعر البراء ابن معرور.
أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة النفاق والتمرد عن قبول التكليف المستتبع لشقاء الدارين ولهذا ختم الآية بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أما في الدنيا فلإحاطة أسبابها بهم من النعي عليهم بالنفاق وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وتحقير المقدار، وأما في الآخرة فلمآل حالهم إلى الدرك الأسفل من النار.
التأويل:
أيها الأرواح والقلوب المؤمنة ما مصيبتكم وبلواكم إذا قيل لكم بالإلهام الرباني اخرجوا من الدنيا وما فيها في طلب والسير إليه، أثاقلتم إلى أرض الدنيا وشهواتها. إِلَّا تَنْفِرُوا من سجن الدنيا وقيود شهواتها يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً باستيلاء ظلمات الصفات النفسانية وغلبات الأوصاف السبعية والشيطانية وبألم البعد عن الحضرة الربانية وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ من الأرواح والقلوب العاشقة الصادقة بل من العقول الكاملة المفارقة إِلَّا تَنْصُرُوهُ والرسول الوارد الرباني فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي النفوس الأمارة الكافرة من أرض القبول. ثانِيَ اثْنَيْنِ ثاني النفس الملهمة إِذْ هُما فِي غار العدم. وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا بجعل النفس المطمئنة بجذبة ارْجِعِي [الفجر: ٢٨] واصلة إلى مقام العنديه انْفِرُوا أيها الطلاب خِفافاً مجردين من علائق الأهل والأولاد والأموال وَثِقالًا متلبسين بها، أو خِفافاً مجذوبين بالعناية وَثِقالًا سالكين بالهداية وَجاهِدُوا بقدمي بذل الأموال والأنفس. وقدّم إنفاق المال لأن بذل النفس مع بقاء صفاتها الذميمة غير معتبر، ومن صفاتها الذميمة الحرص على الدنيا والبخل بها ذلكم خير لكم لأن الحاصل من المال ومن النفس الوزر والوبال. والحاصل من الطلب الوصول والوصال لَوْ كانَ مطلوبك يا محمد عَرَضاً قَرِيباً هو الدنيا ونعيمها وَسَفَراً قاصِداً هو تتبع شهوات النفس وهواها لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ لأنها الخروج من الدنيا والعقبى. وَسَيَحْلِفُونَ يعني أرباب النفوس لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يا أهل القلوب. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ قدم العفو على العتاب تحقيقا لقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ٢] فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ بين أوصافهم
480
الذميمة النفسانية والحيوانية بلا داعية لخروج إلى الأنوار الروحانية لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وهي متابعة الأنبياء فَثَبَّطَهُمْ حبسهم في سجن البشرية ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فيه إشارة إلى أن قعود أهل الطبيعة في حبس البشرية صلاح لأرباب القلوب وأصحاب السلوك لأنهم لو خرجوا لا عن نية صادقة وعزيمة صالحة ما زادوهم إلا تشويشا وتفرقة لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ يعني أن صفات النفس قبل البلوغ كانت تستخدم الروح في شهواتها حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وهو العقل القابل لأوامر الشرع وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وهو التكليف وَمِنْهُمْ أي من صفات النفس مَنْ يَقُولُ وهو الهوى ائْذَنْ لِي في القعود عن الارتقاء في مدارج المعارف والمشارع وَلا تَفْتِنِّي يا روح بتكليفي ما ليس من شأني. وذلك أن الهوى مركب المحبة تستعمله الروح في تصاعده إلى ذروة الكمال والوصال. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن فتنة الهبوط هي الفتنة بالحقيقة وَإِنَّ جَهَنَّمَ البعد والقطيعة من لوازم كفار النفس وصفاتها أعاذنا الله منها.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٩]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
القراآت:
هَلْ تَرَبَّصُونَ بإظهار اللام وتشديد التاء: البزي وابن فليح، وقرأه حمزة وعلي وهشام مدغما حتى لا يجتمع ساكنان. الباقون: بإظهار اللام وتخفيف التاء أَنْ تُقْبَلَ بالياء التحتانية: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالفوقانية. مُدَّخَلًا بضم الميم
481
وسكون الدال: سهل ويعقوب. الباقون: بالدال المشددة المفتوحة. يَلْمِزُكَ بضم الميم: سهل ويعقوب. الآخرون: بكسرها سوى عباس فإنه مخير.
الوقوف:
تَسُؤْهُمْ ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف فَرِحُونَ هـ لَنا ج للابتداء لفظا مع الاتحاد معنى هُوَ مَوْلانا ط لابتداء إخبار من الله أو الحكاية عنهم.
الْمُؤْمِنُونَ هـ الْحُسْنَيَيْنِ ط للاستئناف بعد تمام الاستفهام بِأَيْدِينا ط والوصل أصح لأن الفاء جواب نَتَرَبَّصُ مُتَرَبِّصُونَ هـ مِنْكُمْ ط. فاسِقِينَ هـ كارِهُونَ هـ وَلا أَوْلادُهُمْ ط كافِرُونَ هـ لَمِنْكُمْ ط يَفْرَقُونَ هـ يَجْمَحُونَ هـ فِي الصَّدَقاتِ ط للشرط مع الفاء يَسْخَطُونَ هـ وَرَسُولُهُ لا إلى قوله راغِبُونَ لأن الكل يتعلق ب «لو» وجواب «لو» بعد التمام محذوف أي لكان خيرا لهم.
التفسير:
هذا نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين. عن ابن عباس: الحسنة في يوم بدر والمصيبة في يوم أحد. والأولى حمله على العموم إذ معلوم من حال المنافقين أنهم كانوا في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكر الله تعالى. ومعنى أَخَذْنا أَمْرَنا أي أمرنا الذي نحن موسومون به من التيقظ والتحرر وحسن الرأي والتدبير. ومِنْ قَبْلُ أي من قبل ما وقع ويَتَوَلَّوْا أي عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم أو أعرضوا عن الرسول وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون ثم أمر نبيه ﷺ بأن يقول في جوابهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا قيل: أي في اللوح المحفوظ من خير أو شر أو خوف أو رجاء أو شدة أو رخاء. وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع- لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال- زالت عنه منازعة النفس وهانت عليه المصائب. وقيل:
أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدوّ وإظهار دين الله على كل الأديان فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم والظفر يقع في جانبهم فلا معنى لفرح المنافقين في الحال. وقال الزجاج: معناه لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به من النصرة عليكم أو الشهادة، وعلى هذا القول يقع ما في الآية الثانية كالمكرر هُوَ مَوْلانا لا يتولى أمورنا إلا هو يفعل بنا ما يريد من أسباب التهاني والتعازي، لا اعتراض لأحد عليه. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يعلق الرجاء إلا برب الأرباب فإنهم يتعلقون بالوسائط والأسباب.
ثم أمره بجواب ثان فقال قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ومنه تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره. والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الحالة أو الخصلة أو العاقبة يعني النصرة أو الشهادة. وفي
482
الأولى إحراز الغنيمة والظفر بالأعداء، وفي الثانية إبقاء الذكر والفوز بنعيم الآخرة.
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ قارعة مثل قارعة عاد وثمود وقيل:
عذاب الله يشمل عذاب الدارين أَوْ بِأَيْدِينا يعني القتل بأن يظهر نفاقكم ويأمر بقتلكم كالكافر الحربي فَتَرَبَّصُوا أمر للتهديد نحو ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:
٤٩] ثم ذكر أنهم إن أتوا بشيء من صورة البر لم يكن له قدر عند الله ولا ينتفعون به في الآخرة، والغرض أن أسباب الذل والهوان مجتمعة عليهم في الدنيا والأخرى.
عن ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال النبي ﷺ ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به.
ولا يبعد أن يكون السبب خاصا والحكم عاما. وأَنْفِقُوا لفظه أمر ومعناه خبر كقوله فيما يجيء اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: ٨٠] ومعناه أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم واستغفر لهم، أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟
ومثله قول كثير لعزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة كأنه يقول: امتحني لطف محلك عندي وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل تجدين منى تفاوتا في الحالين. وإنما يجوز إقامة الخبر والطلب أحدهما مقام الآخر إذا دل الكلام عليه فيعدل عن الأصل لإفادة المبالغة. وانتصب طَوْعاً أَوْ كَرْهاً على الحال ومعناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين من جهتهما. وسمي الإلزام كراها لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه. ويحتمل أن يراد طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو ملزمين من جهتهم، وذلك أن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملونهم على الإنفاق إذا رأوا فيه مصلحة. ومعنى لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أن الرسول لا يقبله منكم، أو أنه لا يقع مقبولا عند الله. ثم علل عدم القبول بقوله إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ قال الجبائي: فيه دليل على أن الفسق يحبط الطاعات. وأجيب بأن الفسق هاهنا بمعنى الكفر ولا يلزم منه كون الفسق المطلق كذلك. وإنما قلنا إن الفسق بمعنى الكفر لقوله سبحانه وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ الآية علل منع القبول بأمور ثلاثة: أولها: الكفر بالله وبرسوله. وثانيها وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى قال المفسرون: معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل، وفيه أنه يصلي للناس لا لله، وفيه أنه غير معتقد للصلاة ووجوبها فلهذا لزم منه الكفر.
وثالثها: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ وذلك أنهم لا ينفقون رغبة في ثواب الله وإنما ينفقون لأجل المصالح الدنيوية، فهم في حكم الكارهين وإن أنفقوا مختارين يعدون الإنفاق مغرما ومنعه مغنما خلاف
قول رسول الله ﷺ «أدوا زكاة أموالكم
483
طيبة بها نفوسكم».
قيل: الكفر بالله سبب مستقل في منع القبول فكيف ضم إليه الأمرين الآخرين؟ والجواب أنها أمارات ويجوز توارد الأمارات المتعددة على شيء واحد. بوجه آخر أطلق كفرهم أولا ثم قيده بعدم اعتقادهم وجوب الصلاة والزكاة، وبعبارة أخرى حكم عليهم بالكفر مطلقا ثم خص من أنواع كفرهم هذين تفظيعا لشأن تارك الصلاة والزكاة.
قال في الكشاف: وقرأت في بعض الأخبار أن رسول الله ﷺ كره للمؤمن أن يقول كسلت كأنه ذهب إلى هذه الآية، وأن الكسل من صفات المنافقين.
قال بعض العلماء: وجه الجمع بين قوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧] وبين مضمون هذه الآية وهو أن شيئا من أعمال البر لا يكون مقبولا عند الله مع الكفر، هو أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب. ولقائل أن يقول: لو لم يكن مقبولا بوجه لم يكن له في التخفيف أيضا أثر. وقيل: في الآية دلالة على أن الصلاة لازمة للكفار وإلا لم يكن الإتيان بها على وجه الكسل مانعا من تقبل طاعاتهم كما أن قيامهم وقعودهم وسائر تصرفاتهم على وجه الكسل ليس مانعا من التقبل بالإنفاق. ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبيّن أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو أيضا في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال مخاطبا للرسول ﷺ أو لكل أحد فَلا تُعْجِبْكَ الآية. ونظيره وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: ١٣١] وإنما قال فَلا تُعْجِبْكَ بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه، وهذ بخلاف ما سيجيء في الآية الأخرى من هذه السورة. والإعجاب سرور المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: ٣٥] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله، ولهذا
قال ﷺ «ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متيع وإعجاب المرء بنفسه»
والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى. وقوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إعرابه كما مر في قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: ٢٦] قال مجاهد والسدي وقتادة:
في الآية تقديم وتأخير والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذابا بل هما من نعم الله تعالى على عباده، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذابا في الآخرة أيضا. فإن
484
تكلفوا وقالوا: أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سببا للعذاب في الدنيا أيضا. وبوجه أخر، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان. في الدنيا لا محالة، فأي فائدة في ذكرها؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سببا للتعذيب في الدنيا والآخرة، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم. فصاحب المال أبدا إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما في تعب حفظه وتثميره. ثم إن الدنيا حلوة خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة. ثم إنه إن بقي عليه ذلك إلى آخر عمره فعند الموت يعظم أسفه على مفارقته وكان كمن ينتقل من بستان ونعيم إلى سجن وجحيم وعند الحشر يكون حلاله حسابا وحرامه عذابا فثبت أن حصول المال سبب لعذاب الدارين. إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادرا، وكذا الكلام في الولد. وهذا المعنى وإن كان عاما للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب. وذلك أن الرجل إذا كان مؤمنا بالله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة. وأيضا إن النبي ﷺ كان يكفلهم إنفاق الأموال وبعث الأولاد إلى الغزو والجهاد، وكانوا لا يعتقدون في ذلك فائدة أخروية، وكانوا في أشق تكليف، وكانوا مبغضين للنبي ﷺ مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته، وكانوا خائفين من افتضاحهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وكعبد الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدرا وكان عند الله بمكان، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسبه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير: يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم. أما قوله وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي تخرج وَهُمْ كافِرُونَ فقد قالت الأشاعرة: فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر. وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريدا لمرض نفسه، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب، وكون الدخول واقعا في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضا وهو طبيبه. وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مرادا بالضرورة. وقال في الكشاف: المراد الاستدراج
485
بالنعم كقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: ١٧٨] كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة. ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي على دينكم. ثم قال وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا على دينكم. وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية.
ثم أكد نفاقهم بقوله لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً مفرا فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب. والمغارات جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر. والمدخل بالتشديد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما. والتدخل «تفعل» من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد: نفق كنفق اليربوع. والمراد أنهم لو وجدوا مكانا على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة لَوَلَّوْا إِلَيْهِ يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوهم شيء. ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام. والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة. قال بعض العلماء: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة، فالملجأ الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم. ومن جملة قبائحهم قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ الآية. قال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته. وفرق الليث فقال: اللمز العيب في الحضور، والهمز الغيب في الغيبة، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوها:
الأول: في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء أغناهم. الثاني: أن يقال: هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. الثالث: هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قسمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه.
عن أبي سعيد الخدري بينا رسول الله ﷺ يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج: أعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فنزلت.
وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أبا لك أما كان موسى راعيا. أما كان داود راعيا فلما ذهب قال
486
رسول الله صلى الله عليه وسلم: احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون.
وقيل: هم المؤلفة قلوبهم. ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وذلك أن رسول الله ﷺ استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون. ومعنى إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ فهم يسخطون. وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجىء للجزاء ومتهجم عليه. ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا الآية ورتبه على أربع مراتب: الأولى: الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور، فكل ما كان حكما له وقضاء منه كان حقا وصوابا ولا اعتراض عليه. الثانية: أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم حَسْبُنَا اللَّهُ كفانا فضله وصنعه، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب.
الثالثة: أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقا بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى. الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال.
يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال:
ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقال: ما الذي حملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره. فقال: أنتم المحقون.
التأويل:
إِنْ تُصِبْكَ يا روح حَسَنَةٌ من عواطف الحق تحزن النفس وصفاتها فبها تظفر الروح عليها وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ من الموانع والقواطع أخذنا نصيبنا من المراتع الحيوانية لما خالفناه في السير إلى العالم الروحاني. قُلْ يا روح لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا لا علينا فإن الفترات والوقفات للتربية لا للرد. وانظر وقل هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أيتها النفس وصفاتها إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ الإحسان والعواطف الربانية والوقفة والفترة الموجبة لحسن التربية. بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ هو الابتلاء بالمصائب من الخوف والجوع وغيرهما أَوْ بِأَيْدِينا بالمنع من المخالفات وبكثرة الرياضات والمجاهدات طَوْعاً أو رياء أَوْ كَرْهاً أي نفاقا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ لأن أعمال اللسان وغيره من الجوارح من غير عمل القلب ليست بمقبولة وإن كان عمل القلب بدون الجوارح مقبولا
لقوله ﷺ «نية المؤمن أبلغ من عمله»
وباقي الآيات إشارات إلى أن من أمارات النفاق عدم الرضا بقسمة الخلاق وحال المخلص بالعكس.
487

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٠ الى ٦٩]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)
القراآت:
أُذُنُ خَيْرٍ كلاهما بالرفع والتنوين: الأعشى والمفضل. الباقون:
بالإضافة. وَرَحْمَةٌ بالجر: حمزة الآخرون: بالرفع الم تعلموا بتاء الخطاب: جبلة عن المفضل الباقون: بياء الغيبة إِنْ نَعْفُ نُعَذِّبْ كلاهما بالنون ونصب طائِفَةٍ عاصم غير المفضل. الباقون: على البناء للمفعول بياء الغيبة في الأول، وبتاء التأنيث في التالي.
الوقوف:
وَابْنِ السَّبِيلِ ط أي فرض الله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ هُوَ أُذُنٌ ط آمَنُوا مِنْكُمْ ط أَلِيمٌ هـ لِيُرْضُوكُمْ ط لاحتمال الواو الحال أو الاستئناف.
مُؤْمِنِينَ هـ خالِداً فِيها ط الْعَظِيمُ هـ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ط اسْتَهْزِؤُا ط لاحتمال الهمزة في «إن» للتعليل تَحْذَرُونَ هـ وَنَلْعَبُ ط تَسْتَهْزِؤُنَ هـ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ط مُجْرِمِينَ هـ مِنْ بَعْضٍ ط كيلا تصير الجملة صفة لبعض المنافقين وهي صفة لكلهم
488
أَيْدِيَهُمْ ط فَنَسِيَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ فِيها ط حَسْبُهُمْ ط لاختلاف النظم مع اتحاد المقصود في إتمام الجزاء وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ج لذلك مُقِيمٌ هـ لا بناء على تعلق الكاف وَأَوْلاداً ط خاضُوا ط وَالْآخِرَةِ ج الْخاسِرُونَ هـ.
التفسير:
إن المنافقين لما لمزوا الرسول ﷺ في قسمة الصدقات بيّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقا لحكم الله فقال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ الآية. وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء، ويؤيده ما
روي أنه ﷺ قال لرجل: إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق. وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن.
ولنتكلم في تعريف هؤلاء الأصناف. فالأول والثاني: الفقراء والمساكين.
ولا شك أن كلا من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساويا الدلالة أو أحدهما أسوأ حالا. فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث. قال الجبائي: إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات. والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم. وعند الشافعي الفقير أسوأ حالا لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة:
٢٥] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي.
وروي أنه ﷺ كان يتعوذ من الفقر، وقد سأل المسكنة في قوله «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين»
فكأنه سأل توسط الحال، ولهذا لما توفي رسول الله ﷺ ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهرا فأماته مسكينا. وتقييده تعالى المسكين بقوله ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: ١٦] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك.
وقال تعالى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: ٧٩] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا كأهل الصفة، والمسكين بأنه الطوّاف الذي يسأل الناس. والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكينا لأنه الدائم السكون إلى الناس. ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: ١٩] هو الفقير صاحب الحرمان. واتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فلعل الترفع هو ضد التمسكن. وقال أبو حنيفة: المسكين أسوأ حالا لقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: ١٦] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم
489
من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له، وقال يونس: قلت لأعرابي، أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين.
وقيل: سمي مسكينا لأنه يسكن حيث يحضر لأجل أنه لا بيت له ولا منزل. وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم. الصنف الثالث: العاملون على الصدقات وهم السعاة الجباة للصدقة. قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي: يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل. وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملا على الصدقات لأن رسول الله ﷺ أبى أن يبعث أبا رافع عاملا على الصدقات وقال: أما علمت أن مولى القوم منهم. وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية. يقال: فلان على بلدة كذا إذا كان واليا عليها. واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف؟ والجمهور على أن العامل يأخذ نصيبه وإن كان غنيا لأن ذلك أجرة عمله. وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة. الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم.
عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله ﷺ يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلا منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل.
قال العلماء: لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات. ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة. والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام: ضعيف النية في الإسلام، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده، هذا كله إذا كانوا مسلمين، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئا من الزكاة، وكان النبي ﷺ يعطيهم من خمس الخمس والآن لا يعطون أصلا لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب. قال الزجاج: تقديره وفي فك الرقاب، وللأئمة في تفسيره أقوال فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال: إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم
490
بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم بإذنهم ما يعينهم على العتق. وقال مالك وأحمد وإسحق: المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون. وعن أبي حنيفة وأصحابه. وهو قول سعيد بن جبير والنخعي، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله وَفِي الرِّقابِ يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاما فيه. وقال الزهري: سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون. قال المفسرون: إنما عدل عن اللام إلى «في» لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة. ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلى ما يبلغه المقصد. وقال في الكشاف: إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصديق عليهم ممن سبق لأن «في» للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصبا للصدقات. وتكرير «في» في قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج: أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراما لكونه أمرا شاقا لازما. وفلان مغرم بالنساء، وسمي الدين غرما لأنه شاق لازم. فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الاية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أو لإصلاح ذات البين. وإن كان متمولا أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية.
روى الأصم في تفسيره أنه ﷺ لم قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة: لا نملك الغرة يا رسول الله، فقال لحمد ابن مالك: أعنهم بغرة من صدقاتهم، وكان حمد على الصدقة يومئذ. وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن قدر على بعض أعطى الباقي.
الصنف السابع قوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الغزاة. قال الشافعي: يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنيا وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزاة فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله. الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية، يعطى ما يبلغه
491
المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال. قال الشافعي: ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيما به منشئا للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم.
ولنذكر طرفا من أحكام هذه الأصناف:
الحكم الأول: اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لقوله في موضع آخر خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «١»
واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية والصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ.
الحكم الثاني: في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهما منها. والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: ١٩] وإذا كان حقا لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء، وإذا كان الإمام جائرا فالتفريق بنفسه أفضل.
الحكم الثالث: مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلا موزعا على كل واحد منهم، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين دينارا فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل
(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٤، ٣٢، ٤٢. مسلم في كتاب الزكاة حديث ١، ٣، ٤. أبو داود في كتاب الزكاة باب ٢. الترمذي في كتاب الزكاة باب ٧. النسائي في كتاب الزكاة باب ٥.
ابن ماجه في كتاب باب ٦. الدارمي في كتاب الزكاة باب ١١. الموطأ في كتاب الزكاة حديث ١، ٢. أحمد في مسنده (٢/ ٩٢) (٣/ ٣٠).
492
صنف صار كل قسم حقيرا صغيرا غير منتفع به في مهم معتبر. وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي. وقال الشافعي: لا بد من صرفها، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم، وهذا كالزجر عن مخالفة الآية.
وعن النبي ﷺ «إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه».
ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بتقدير الأنصباء والمصالح حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة، ومن هاهنا قال الشافعي: لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهم محصورون فتسهل التسوية بينهم.
الحكم الرابع: العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعا والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئة عند سائر الأئمة. أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب. لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسرا للنفس ومنعا من انصبابها بالكلية إليه. فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ أي عن دنس الاستغراق في حب المال. وأيضا إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعا وآخرا وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب.
وأيضا النفس الناطقة لها قوتان: نظرية وكمالها في التعظيم لأمر الله، وعملية وكمالها في
493
الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسنا إلى الخلق، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة. وأيضا المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله. وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى.
وأيضا للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الروح في الاستغراق في بحار معرفة الله، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته؟! وأيضا إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان. ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقا بين الأمرين وجمعا بين المصلحتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود.
وأيضا الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفوا صفوا. وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصرفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبيدي. وأيضا إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الالتحاق بأعداء المسلمين.
وقال ﷺ «الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر»
وكأن الله تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيبا منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين. وأيضا أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعما على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعما على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار.
ثم حكى نوعا من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله ﷺ على وجه الطعن والذم هُوَ أُذُنٌ
عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم
494
ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له. فقال الجلاس بن سويد، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية.
وقال محمد بن إسحق بن يسار وغيره: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلا أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي ﷺ «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فليننظر إلى نبتل بن الحرث» وكان ينم حديث النبي ﷺ إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا.
وقال السدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا إن يقعوا في النبي ﷺ وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقا لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير، ثم أتى النبي ﷺ فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم كذبة. وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان.
قال علماء اللغة: الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين. وفسر إيذاءهم النبي ﷺ بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع. ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بالإضافة كقولهم: رجل صدق يريدون الجودة والصلاح. ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل:
نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن في غير ذلك ويؤيده قراءة حمزة رَحْمَةٌ بالجر عطفا عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما. ثم بين كونه أذن خير بأنه يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله وَهو رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولى السرائر ولهذا ختم الآية بقوله وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وأما من قرأ أُذُنُ خَيْرٍ بالرفع فيهما فعلى أن الإذن
495
خبر مبتدأ محذوف وخَيْرٍ كذلك أي هو أذن هو خير. والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم. وقيل: التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد. ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إلى آخره. ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله أُذُنٌ وإن كان رافعا في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله: قل هو أذنا خير لكم.
ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الإيمان الكاذبة فقال يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه. وإنما لم يقل يرضوهما تعظيما لله بالإفراد بالذكر، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعني إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ أي بزعمهم. ثم وبخهم بقوله أَلَمْ يَعْلَمُوا وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد، وكان النبي ﷺ طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة. والضمير في قوله أَنَّهُ للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل. والمحادة المخالفة لأن كلا منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلا منهما في شق آخر. وقال أبو مسلم: هي من الحديد حديد السلاح. ثم ذكر في الجزاء قوله فَأَنَّ لَهُ بالفتح أي فحق أن له نارَ جَهَنَّمَ وقيل «أن» مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم. وقيل «فإن» معطوف على «أنه» وجواب من محذوف وهو يهلك. قال الزجاج: يجوز كسر «أن» على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح.
ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرىء بالكسر.
قال السدي: قال بعض المنافقين: والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ وقال مجاهد: كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا فنزلت. والضمير في عَلَيْهِمْ وتُنَبِّئُهُمْ للمؤمنين وفي قُلُوبِهِمْ للمنافقين، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم. قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون. عن أبي
496
مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله اسْتَهْزِؤُا وهو أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود. قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية.
عن ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك. ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب بطونا أي أوسع ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله وأصحابه. فقال واحد من المؤمنين: كذبت وأنت منافق. ثم ذهب ليخبر رسول الله ﷺ فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله ﷺ وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله ﷺ إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله ﷺ والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي ﷺ يقول: أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه.
وقال الحسن وقتادة: بينا رسول الله ﷺ يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال: احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب.
قال الواحدي: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق. ثم أمر نبيه بأن يقول في جوابهم أَبِاللَّهِ أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي ﷺ وأصحابه على فتح قصور الشام وَآياتِهِ يعني القرآن وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن أولى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل «أتستهزؤن بالله». ثم قال: لا تَعْتَذِرُوا نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم: اعتذر المنزل إذا درس.
واعتذرت المياه إذا انقطعت، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع. والعذر سبب لقطع اللوم، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر. ثم بين ذلك بقوله قَدْ كَفَرْتُمْ أي صريحا بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه. وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه. إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك الثالث، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق
497
القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه. وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل. قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشيء، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: ٢] وأقله الواحد. وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه. ووجه بأن من اختار مذهبا فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة. وقال ابن الأنباري: العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: ١٧٣] يعني نعيم بن مسعود. ثم علل كونه معذبا للطائفة الثانية بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي مصرين مستمرّين على الجرم، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، ويجوز أن يراد بالعذاب العذاب العاجل. ومن قرأ أن يعف على البناء للمفعول والتذكير فلأنه مستند إلى الظرف كما تقول: سير بالدابة دون سيرت.
وقرىء بالتأنيث ذهابا إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة.
ثم ذكر جملة أحوال المنافقين وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير قوله وَما هُمْ مِنْكُمْ ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وهو كل قبيح عقلا أو شرعا وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وهو كل حسن عقلا أو شرعا وأعظم ذلك الإخلاص في الإيمان وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن كل خير أو عن كل واجب كصدقة أو زكاة أو اتفاق في سبيل الله، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه. وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء نَسُوا اللَّهَ أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم فَنَسِيَهُمْ جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق. وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئا لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم. ثم قال إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يحترز عما يكسبه هذا الاسم. ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال وَعَدَ اللَّهُ الآية ومعنى خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود هِيَ حَسْبُهُمْ كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقرونا
498
بالإهانة والطرد وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ نوع آخر من العذاب الدائم سوى عذاب النار، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم. ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب. ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ قيل: ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثا؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة. قال جار الله: نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله. وأما قوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة. ومعنى «كالذي» كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا. وقيل: أصله كالذين فحذف النون. ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوا وبادوا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين. فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال والفضائح مع ضعف بنيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين.
التأويل:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ وهي صدقات مواهب الله كما
قال ﷺ «ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة على من يشاء من عبادة الفقراء وهم الأغنياء بالله الذين فنوا عنهم وبقوا به»
وَالْمَساكِينِ الذين لهم بقية أوصاف الوجود ألقوا سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:
٧٣] وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أرباب الأحوال وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ الذين تتألف قلوبهم بذكر الله وَفِي الرِّقابِ الذين يريدون أن يتخلصوا عن رق الموجودات تحر لعبودية موجدها. والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
وَالْغارِمِينَ الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم
499
محبوسون في سجن الوجود فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص عن حبس الوجود وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ المجاهدين الجهاد الأكبر مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا وَابْنِ السَّبِيلِ المسافرون عن أوصاف الطبيعة وعالم البشرية، السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أوجبها على ذمة كرمه كما قال «ألا من طلبني وجدني» وَاللَّهُ عَلِيمٌ بطالبيه حَكِيمٌ في معاونتهم بعد الطلب كقوله «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا» وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ رأوا محامده بنظر المذمة والعيب قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي سامعيته خير لكم لأن له مقام السامعية يسمع ما يوحى إليه يُؤْمِنُ بِاللَّهِ عيانا وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ لأن فوائد إيمانه تعود إليهم كما تعود إلى نفسه وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأنهم يهتدون بهداه وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ والحذر لا يغني عن القدر إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ إظهارا للفضل والرأفة نُعَذِّبْ طائِفَةً إظهار للقهر والعزة ولكن إظهار اللطف بلا سبب. وإظهار القهر لا يكون إلا بسبب أنهم كانوا مجرمين وبَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لأن أرواحهم كانت في صف واحد في الأزل فمعاملاتهم من نتائج خصوصيات أرواحهم نَسُوا اللَّهَ ولو ذكروه قبل الإتيان بالمعاصي لم يفعلوا ما فعلوا، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروا فغفر لهم هِيَ حَسْبُهُمْ لأنها نصيبهم في الأزل كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً بالاستعداد الفطري وضيعوها في الاستمتاع العاجل فخسروا رأس المال ولم يربحوا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٠ الى ٧٩]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
500
القراآت:
وَالْمُؤْتَفِكاتِ وبابه بغير همز: أبو عمرو غير شجاع وورش ويزيد والحلواني عن قالون والأعشى وحمزة في الوقف.
الوقوف:
وَالْمُؤْتَفِكاتِ ط بِالْبَيِّناتِ ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب.
يَظْلِمُونَ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ م لما مر. وَرَسُولَهُ ط سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ط حَكِيمٌ هـ عَدْنٍ ط أَكْبَرُ ط الْعَظِيمُ هـ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ط جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ ما قالُوا ط لَمْ يَنالُوا ج مِنْ فَضْلِهِ ط خَيْراً لَهُمْ ج وَالْآخِرَةِ ج وَلا نَصِيرٍ هـ مِنَ الصَّالِحِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ يَكْذِبُونَ هـ عَلَّامُ الْغُيُوبِ هـ ج لاحتمال النصب أو الرفع على الذم. وكونه بدلا من الضمير في نَجْواهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ط.
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ط لإتمام الجزء مع اختلاف النظم. أَلِيمٌ هـ.
التفسير:
لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في تكذيب الأنبياء والاشتغال بالنعيم الزائل بين أن أولئك الكفار من هم فذكر ست طوائف سمع العرب أخبارهم لأن بلادهم- وهي الشام- قريبة من بلادهم وقد بقيت آثارهم مشاهدة، ولهذا صدر الكلام بحرف الاستفهام للتقرير. فأوّلهم قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق، وثانيهم: قوم عاد وأهلكوا بالريح العقيم، وثالثهم: ثمود وأخمدوا بالصيحة، ورابعهم: قوم إبراهيم سلط الله عليهم البعوض وكفى شر ملكهم وهو نمرود ببعوضة واحدة سلطها على دماغه، وخامسهم:
أصحاب مدين قوم شعيب أخذتهم الرجفة، وسادسهم: أصحاب المؤتفكات قوم لوط أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن جعل مدائنهم عاليها سافلها. والائتفاك الانقلاب سميت مدائنهم بذلك لأن الله تعالى قلبها عليهم. ويمكن أن يراد بالمؤتفكات الناس لانقلاب أحوالهم من الخير إلى الشر. ثم قال أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات ولا بد بعد هذا من إضمار والتقدير فكذبوهم فأهلكهم الله. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ قالت المعتزلة:
أي ما صح منه الظلم ولكنهم استحقوا ذلك بسبب كفرهم، وقد مر الكلام في أمثال ذلك.
ثم بين أن شأن المؤمنين في الدنيا والآخرة بخلاف المنافقين فقال وَالْمُؤْمِنُونَ الآية قال بعض العلماء: إنما قال هاهنا أَوْلِياءُ بَعْضٍ وهناك مِنْ بَعْضٍ [الآية: ٦٦] لأن نفاق
501
أتباع المنافقين حصل بسبب التقليد لأكابرهم بمقتضى الطبع والعادة بخلاف الموافقة بين المؤمنين فإنها بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية. وأقول: كون بعض المنافقين من بعض يوجب اشتراكهم في أمر من الأمور بالجملة كالدار أو حكم من الأحكام الشرعية أو سيرة وطريقة وهذا هو المقصود، ولكنه يحتمل أن يكون تكلفا أو بطريق النفاق لأن سببه انعقاد غرض من الأغراض الدنيوية العاجلة فذكر الله تعالى اشتراكهم في ذلك بلفظ «من» لمكان الاحتمال المذكور. وأما تشارك المؤمنين في السيرة فلما كان سببه الإخلاص والعصبية للدين والاجتماع على ما يفضي إلى سعادة الدارين كانت الموالاة بينهم محققة فصرح الله تعالى بذلك. ثم وصفهم بأضداد صفات المنافقين فقال يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهاتان الصفتان بالنسبة إلى غيرهم. ثم قال وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهاتان لهم في أنفسهم وهما بإزاء قوله في صفة المنافقين وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ [التوبة: ٥٤].
ثم وصفهم بالطاعة على الإطلاق فقال وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما يأتون ويذرون. ثم ذكر ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل الإجمال فقال أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ والسين تفيد المبالغة في إنجاز الوعد بالرحمة كما يؤكد الوعيد به إذا قلت سأنتقم منك يوما يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفيه ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين لأن العزيز هو من لا يمنع من مرادة في عباده من رحمة أو عقوبة. والحكيم هو الذي يدبر عباده على وفق ما يقتضيه العدل والصلاح. ثم فصل ما أجمل من الرحمة بقوله وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لآية. وقد كثر كلام أصحاب الآثار في معنى جنات عدن
فقال الحسن: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن ذلك فقالا:
على الخبير سقطت سألنا رسول الله ﷺ فقال: «هو قصر في الجنة من اللؤلؤ وفيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك أجمع».
وعن ابن عباس أنها دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. وقال ابن مسعود: جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها قاله الأزهري. وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها السيل واحدها بطن. وقال عطاء عن ابن عباس: هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى. وسائر الجنات حولها. وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب. فتهب الريح من تحت العرش فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض.
502
وقال عبد الله بن عمر: وإن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. وفي هذه الأخبار دلالة على أن عدنا علم ويؤيده قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم: ٦١] ولو لم يكن علما لم يوصف بالمعرفة. ولا ريب أن أصله صفة من قولك عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن للمكان الذي تخلق فيه الجواهر. وعلى هذا فالجنات كلها جنات عدن. إلا أن يغلب الاسم على بعضها. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ شيء يسير من رضاه أَكْبَرُ من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وكرامة وكل خطب مع رضا المولى هين، وكل نعيم مع سخطه منغص. وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى حالا وأشرف مآلا من السعادات الجسمانية بل لانسبة لتلك اللذة والابتهاج إلى هذه على أن الاعتراف بالسعادات الجسمانية واجب من حيث الشرع ذلِكَ الموعود والرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعده الناس فوزا.
في الحديث «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «١»
ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال المنافقين فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال الضحاك: أي جاهد الكفار واغلظ على المنافقين لأن المنافق لا تجوز محاربته في ظاهر الشرع. وضعف بأن النسق يأباه. وقيل: المراد بهؤلاء المنافقين هم الذين عرفه الله حالهم فصاروا كسائر الكفرة فجاز قتالهم، وزيف بأنه وإن علم حالهم بالوحي إلا أنه مأمور بأن يحكم بالظاهر والقوم كانوا يظهرون الإسلام فكيف يجوز قتالهم؟ والصحيح أن الجهاد بذل المجهود في حصول المقصود وهو شامل للسيف واللسان، فالمراد جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهادين جميعا عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه بأن يكرهه ويبغضه ويتبرأ منه. وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. واعترض عليه بأن إقامة الحدود واجبة على كل فاسق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق. واعتذر عنه بأنه قال ذلك لأن عنده أن كل فاسق منافق أو
(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٥١. كتاب التوحيد باب ٣٨. مسلم في كتاب الجنة حديث ٩. الترمذي في كتاب الجنة باب ١٨. [.....]
503
لأن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن رسول الله ﷺ كونه منافقا.
قال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله ﷺ إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله ﷺ وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله ﷺ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وعن قتادة أن رجلين اقتتلا رجل من جهينة ورجل من غفار فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبيّ يا بني الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك وقال لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: ٨] فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله ﷺ فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية.
ومعنى قوله وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أنهم أظهروا الكفر بعد ما كانوا يظهرون الإسلام. أما قوله وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فهو الفتك برسول الله ﷺ عند مرجعه من تبوك، وذلك أنه توافق خمسة عشر رجلا منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، وكان عمار بن ياسر أخذ بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلام فالتفت فإذا هم قوم متلثمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا. وقيل: همّ المنافقون بقتل عامر بن قيس لرده على الجلاس بن سويد وقد مر في تفسير قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التوبة: ٦٢] وقيل: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَما نَقَمُوا وما أنكروا وما عابوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ كقول القائل.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله ﷺ المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فظفروا بالغنائم وجمعوا الأموال.
وروي أنه قتل للجلاس مولى فأمر رسول الله ﷺ بديته اثني عشر ألفا فاستغنى،
ثم استعطف قلوبهم بعد صدور هذه الجنايات العظيمة عنهم فقال فَإِنْ يَتُوبُوا بك يعني ذلك الرجوع خَيْراً لَهُمْ وكان الجلاس ممن تاب فحست توبته وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي واغتنام الأموال. وقيل: بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل: في القبر وأما عذاب الآخرة فمعلوم وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ يحتمل أرض الدنيا وأرض القيامة.
ثم بين أن هؤلاء كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه
504
عليه فقال وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ
يروى عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم قال مرة أخرى فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال فضة وذهبا لسارت. فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة، فسأل عنه رسول الله ﷺ فأخبر خبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثا وأنزل الله عز وجل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣] فبعث رسول الله ﷺ رجلين على الصدقة رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة وقال لهما. مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودان إليّ. فانطلقا وأخبرا السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها فلما رأوها قالوا: ما يجب هذا عليك وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى خذوه فإن نفسي بها طيبة. فأخذوها منه ثم رجعا على ثعلبة فقال: أروني كتابكما ثم قال:
ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي ﷺ فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة ثم نزلت الآية وعند رسول الله ﷺ رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إليه وقال: يا ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا.
فخرج ثعلبة حتى أتى النبي ﷺ فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني. فلما أبى أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله وقبض رسول الله ﷺ ولم يقبل منه شيئا، ثم أتى أبا بكر حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله ﷺ وموضعي من الأنصاري فاقبل صدقتي. فقال: لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر وأبى أن يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها في خلافة عثمان ولم يقبل صدقته واحد من الخلفاء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول وما ذاك إلا بشؤم اللجاج أولا وآخرا. قال بعض العلماء: المعاهدة أعم من أن تكون باللسان أو بالقلب. وقال المحققون: إنه لا بد من التلفظ بها لما
روي أنه ﷺ قال: «إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسهم ولم
505
يتلفظوا به» «١»
ولأن قوله عز من قائل وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ظاهره مشعر بالقول اللساني. والمراد بالفضل إيتاء المال بطريق التجارة أو الاستغنام ونحوهما. وأصل لَنَصَّدَّقَنَّ لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد. والمصدق المعطي لا السائل كقوله تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف: ٨٨] ومعنى قوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ عن ابن عباس أنه أراد الحج. ولعل المراد إخراج كل ما يجب إخراجه إذ لا دليل على التقييد. ثم وصفهم بصفات ثلاث فقال فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فالبخل عبارة عن منع الحق الشرعي، والتولي نقض العهد، والإعراض أراد به الإحجام عن تكاليف الله وأن ذلك منهم عادة معتادة، ولترتب هذا الذم عل أمنع الصدقة ولإطلاق لفظة البخل عليه وهو في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب. ذكر العلماء أن الصدقة الملتزمة في قوله لَنَصَّدَّقَنَّ هي الصدقة الواجبة. وأن الرجل قد عاهد ربه أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة. إن وسع الله عليه دون ما يلتزمه الإنسان بالنذر من المندوبات إذ لا دليل في الآية على ذلك مع أن سبب النزول يأباه. فإن قيل: الزكاة لا تلزم بسبب الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحلول الحول. قلنا إن قوله لَنَصَّدَّقَنَّ لا دليل فيه على الفور بل المراد لنصدقن في وقته الذي يليق به. وفي الآية دلالة على أن الرجل حين عاهد بهذا العهد كان مسلما ثم إنه لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقا ويؤكده قوله سبحانه فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً عن الحسن وقتادة أن أعقب مسند إلى ضمير البخل أي أورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم لأنه كان سببا فيه وباعثا عليه، وكذا التأويل إن جعل عائدا إلى التولي أو الإعراض. وضعت بأن حاصل هذه الأمور كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثرا في حصول النفاق فى القلب لأن ترك الواجب عدم والنفاق جهل وكفر وهو أمر وجودي والعدم لا يؤثر في الوجود، ولأن هذا الترك قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق، ولأنه لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان الترك جائزا شرعا أو محرما فسبب اختلافات الأحكام الشرعية لا يخرج السبب عن كونه مؤثرا، ولأن البخل أو التولي أو الإعراض هو بعينه خلاف ما وعدوا الله به فيصير تقدير الآية إن التولي أوجب النفاق بسبب التولي وهذا كلام كما ترى فلم يبق إلا أن يسند الفعل إلى الله تعالى فيكون فيه دليل
(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ١٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٠١، ٢٠٢. أبو داود في كتاب الطلاق باب ١٥. الترمذي في كتاب الطلاق باب ٨. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ١٤. أحمد في مسنده (٢/ ٢٥٥، ٢٩٣).
506
على أن خالق الكفر في القلوب هو الله، ومن هنا قال الزجاج: معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فالله تعالى يضلهم عن الدين في المستقبل ومما يؤكد القول بأن الضمير في فَأَعْقَبَهُمْ لله أن الضمير في قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله. وللمعتزلة أن يقولوا:
النفاق وإن سلم أنه وجودي لكنه أمر شرعي ولا يبعد جعل شيء عدمي أمارة عليه. وأيضا الترك المقرون بالتولي والإعراض لا نسلم أنه لا يحصل معه النفاق، ولا يلزم من كون الترك المحرم موجبا للكفر بجعل الشارع كون الترك الجائز كذلك، ولا نسلم أن البخل هو بعينه إخلاف الوعد والكذب بل قد يقع البخل من غير سبق وعد. سلمنا عود الضمير إلى الله لكن من أين يلزم كونه خالقا للكفر والنفاق، ولم لا يجوز أن يراد فأعقبهم الله العقوبة على النفاق بإحداث الغم في قلوبهم وضيق الصدور ما ينالهم من الذل والخوف، أو يراد فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا؟ ولأهل السنة أن يقولوا هذا عدول عن الظاهر مع أن الدلائل الدالة على وجوب انتهاء الكل إلى مشيئة الله وتقديره تعضد ما قلناه. قال العلماء: ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق، فعلى المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه. ومذهب الحسن البصري أن نقض العهد يوجب النفاق لا محالة تمسكا بهذه الآية
وبقوله ﷺ «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» «١»
وقال عطاء بن أبي رباح: حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ إنما ذكر قوله «ثلاث من كن فيه فهو منافق» في المنافقين خاصة الذين حدثوا رسول الله ﷺ فكذبوه واؤتمنوا على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه.
ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال: إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله، وإذا وعد أخلف كما ذكره الله فيمن عاهده، وإذا اؤتمن على دين الله خان في السر وكان قلبه على خلاف لسانه. ونقل أن واصل بن عطاء أرسل إلى الحسن رجلا فقال: إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: ١٧] فكذبوا، ووعدوه في قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: ١٢] فأخلفوا وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه، فهل تحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسن في مذهبه. قال أهل التفسير: قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ دل على أن ذلك المعاهد يموت على ذلك وكان كما أخبر فيكون إخبارا بالغيب ومعجزا. قال الجبائي: هذا اللقاء لا شك أنه ليس بمعنى الرؤية لأن الكفار لا يرونه بالاتفاق فدل على
(١) رواه أحمد في كتاب الإيمان باب ٢٤. مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٠٧- ١٠٩. الترمذي في كتاب الإيمان باب ١٤.
507
أن اللقاء في القرآن ليس بمعنى الرؤية، وضعف بأنه لا يلزم من عدم كون هذا اللقاء بمعنى الرؤية كون كل لقاء ورد في القرآن كذلك كقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: ٤٦].
ثم وبخهم على التجاهل أو عدم العلم بعلم الله وإحاطته بضمائرهم وتناجيهم فقال أَلَمْ يَعْلَمُوا الآية. والسر ما ينطوي عليه الصدر، والنجوى ما يكون بين اثنين وأكثر مع الإخفاء عن غيرهم. والترتيب يدل على التخليص كما مر في الإنجاء كان المتناجيين تخلصا عن غيرهما ومنه خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: ٨٠] ومعنى الآية كيف تتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع أنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ويعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر لأنه العالم بجميع المعلومات على أي وجه يفرض؟!
عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خطبهم ذات يوم وحثهم على أن يجمعوا الصدقات، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله ﷺ مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله وأمسكت نصفها لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم. وقيل صولحت إحداهما على ثمانين ألفا. وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال: أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر، أمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر لربي، فأمر رسول الله ﷺ بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلّا رياء وسمعة، وأما أبو عقيل فإنه جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله سبحانه الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ
أي المتطوعين فأدغمت. والتطوع التنفل وهو الطاعة لله بما ليس بواجب.
والجهد بالضم والفتح شيء قليل يعيش به المقل، قاله الليث. وقال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم. وفرق ابن السكيت بينهما فقال: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. وقال الشعبي: الأول في العمل والثاني في القوة سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ خير لا دعاء كقوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥] وقد عرفت أن هذا من قبيل المشاكلة، أو المراد منه لازم السخرية وهو إيقاع الذل والهوان بهم. وقال الأصم: المراد أنه تعالى يكلفهم إنفاق المال مع أنه لا يثيبهم عليه، وإنما توجه الذم على المنافقين في هذا اللمز لأن الحكم بالرياء لمن يعطي الكثير كعبد الرحمن بن عوف
508
وعاصم حكم على بواطن الأمور وذلك أمر استأثر الله به ورسوله. وأيضا لمز الفقير على جهد المقل سفه لأنه لما لم يقدر إلا عليه فقد بذلك كل ما له فعلم منه غالبا أنه إن قدر على أكثر من ذلك لم يكن منه منع، وسعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة، ولو لم تكن فيه إلا الثقة بالله والدخول في زمرة من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لكفى به منقبة وفضلا.
التأويل بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لأن التعارف في عالم الأرواح يوجب التآلف في عالم الأشباح يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الحقيقي أي بطلبه والمطلوب هو الله لقوله «فأحببت أن أعرف» وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو ما يقطع العبد عن الله وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الحقيقية وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني ما فضل عن كفافهم الضروري وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بخلاف المنافقين فإنهم يطيعون النفس والهوى وَمَساكِنَ طَيِّبَةً على مراتب النفوس الطيبة فإن الطيبات للطيبين يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يعني القلب الذي له نبأ من مقام الانباء جاهِدِ النفوس الكافرة بسيف الصدق والمخالفات، وجاهد نفوس المريدين الذين يدعون الإرادة في الظاهر دون الباطن وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في المأخذات بأحكام الشريعة والطريقة حتى تتمرن نفوسهم وإلا وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ القطيعة وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وهي التي توجب الإنكار والاعتراض على الشيخ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أي أثبتوا لأنفسهم مرتبة الشيخوخة قبل أوانها وَما نَقَمُوا إلا أن الشيخ رباهم بلبان فضل الله عن حلمة الولاية فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة، ومربد الطريقة أعظم من مربد الشريعة فلهذا يكون عذابه أليما في الدنيا والآخرة كما قال الجنيد: لو أقبل صديق إلى الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ باستعداده الفطري لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ جعلنا متمكنين من اكتساب الكمال لَنَصَّدَّقَنَّ لنصرفن كل ما أعطانا فيما أعطى لأجله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاء النفاق وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو غيب عن الخلق ويعلم ما يستكن في قلوبهم وهو غيب في نفوسهم ولهذا قال الْغُيُوبِ. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذكره بلفظ الماضي ليعلم ان سخرية المنافقين نتيجة سخرية الله بهم في الأزل.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٠ الى ٨٩]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
509
القراءات:
مَعِيَ أَبَداً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل مَعِيَ عَدُوًّا بالفتح: حفص فقط.
الوقوف:
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ط فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ط وَرَسُولِهِ ط الْفاسِقِينَ هـ فِي الْحَرِّ ط حَرًّا م لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر. ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حرا إذا لم يفقهوا ذلك يَفْقَهُونَ هـ كَثِيراً ج لأن جَزاءً يصلح أن يكون مفعولا له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء يَكْسِبُونَ هـ مَعِيَ عَدُوًّا ط الْخالِفِينَ هـ عَلى قَبْرِهِ ط فاسِقُونَ هـ وَأَوْلادُهُمْ ط كافِرُونَ هـ الْقاعِدِينَ هـ لا يَفْقَهُونَ هـ وَأَنْفُسِهِمْ ط الْخَيْراتُ ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار أُولئِكَ مع اتفاق الجملتين.
الْمُفْلِحُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْعَظِيمُ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس ان عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا: يا رسول الله استغفر لنا واشتغل بالاستغفار لهم فنزل اسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، ومن المفسرين من قال: إنهم طلبوا من الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم وإن الله نهاه عنه. والنهي عن الشيء لا يدل على أن المنهي أقدم على ذلك الفعل. ثم إن الدليل قد يدل على أنه ما اشتغل بالاستغفار لأن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه ان الاستغفار للكافر غير جائز، ولأن الاستغفار للمنافق يجري مجرى إغرائه على مزيد النفاق ولأنه يلزم أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلم غير مجاب الدعوة وإن أكثر في الدعاء. ومن الفقهاء من قال: التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال
510
فيما وراء ذلك العدد بخلافه لما
روي أنه لما نزلت الآية قال صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين فنزل سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: ٦] فكف عنه.
فلولا أنه فهم بدليل الخطاب أن الأمر فيما وراء السبعين بالخلاف لم يقل لأزيدنّ على ذلك. وأجيب بأنه أراد إظهار الرحمة والرأفة بأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم لبعض لا أنه فهم منه ذلك، كيف وقد قال تعالى فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وأردفه بقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فليس المقصود بهذا العدد تحديد المنع وإنما هو كقول القائل لمن يسأله حاجة: لو سألتني سبعين مرة لم أقضها. ولهذا بين العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وهي كفرهم وفسقهم، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين.
وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجها هو أن السبعة عدد شريف لأنه عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع، فضرب السبعة في عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقيل: خص بالذكر لأنه ﷺ كبّر على حمزة سبعين تكبيرة وكأنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة. هذا وقد مر في تفسير قوله قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: ٥٣] أن هذا أمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا، وانتصاب سبعين على المصدر كقولك: ضربته عشرين ضربة. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعالهم فقال فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ قيل: إنهم احتالوا أن يتخلفوا وكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون. وأجيب بأنهم استأذنوا رسول الله ﷺ فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو أريد خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان، أو المجاهدون لما لم يوافقوهم في القعود فكأنهم خلفوهم، أو أطلق عليهم المخلفون باعتبار أنهم سيصيرون ممنوعين من الخروج في الآية الآتية فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلى قوله وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ومعنى بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم قاله مقاتل. أو بموضع قعودهم وهو المدينة قاله ابن عباس. ومعنى خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مخالفة رسول الله ﷺ حين سار وأقاموا قاله قطرب والزجاج فانتصابه على أنه مفعول له أي قعد والأجل خلافه أو على الحال مثل «فأرسلها العراك» أي مخالفين له. وقال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله ﷺ وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان يخالفها جهة الخلف وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا كيف لا يكرهون وليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإخلاص ومعهم صارف الكفر والنفاق؟ وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين أموالهم وأرواحهم في الله المؤثرين ذلك على الدعة والخفض. واعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب إلا أنه صريح بذلك للتوكيد، ولعل المراد أنه مال طبعهم إلى الإقامة لإلفهم بالبلد واستئناسهم بالأهل والولد، وكرهوا الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس
511
والمال للقتل والإهدار. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن بعد هذه الدار دار أخرى وبعد هذه الحياة حياة أخرى. وهذه المشقة منقضية سهلة وتلك باقية صعبة ولبعضهم وكأنه صاحب الكشاف:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب
وفي هذا استجهال عظيم لهم. ثم قال فَلْيَضْحَكُوا وهو خبر إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره ومعناه فسيضحكون قليلا أي ضحكا قليلا أو زمانا قليلا وسيبكون كثيرا.
يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
ثم عرف نبيه وجه الصلاح في سائر الغزوات فقال فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي إن ردّك إلى المدينة. الرجع متعد مثل الرد، والرجوع لازم.
وإنما قال طائفه لأن منهم من تاب عن النفاق وندم أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين فأراد بالطائفة المخلفين من المنافقين. فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً عاقبهم بإسقاط عن ديوان الغزاة جزاء على تخلفهم لما فيه من الذم والطرد وصلاحا لأمر الجهاد لما في استصحابهم من المفاسد المذكورة في قوله لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التوبة: ٤٧] ويعني بأول مرة غزوة تبوك. وإنما لم يقل أول المرات معرفا مجموعا لأن المعنى إن فصلت المرات مرة مرة كانت هذه أولها نظيره «هو أفضل رجل» يعني إن عدّ الرجال رجلا رجلا كان هو أفضلهم. وإنما لم يقل «أولى مرة» لأن أكثر اللغتين «هند أكبر النساء» ولا يكاد يقال «هي كبرى امرأة» فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ كقوله وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [التوبة: ٤٦] والخالف من يخلف الرجل في قومه. وعن الأصمعي أنه الفاسد من خلف اللبن والنبيذ إذا فسد. وعن الفراء معناه المخالف. قال قتادة: ذكر لنا أن الخالفين الذين أمروا بالقعود كانوا اثني عشر رجلا.
عن ابن عباس أنه لما اشتكى عبد الله ابن أبيّ ابن سلول عاده رسول الله ﷺ فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ويعطيه قميصه الذي يلي جلده ليكفن فيه ففعل كل ذلك.
وعنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي رسول الله ﷺ للصلاة عليه فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله أعلى عدوّ الله عبد الله ابن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد أيامه ورسول الله ﷺ يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت، قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن
512
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت. قال: ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله ﷺ والله ورسوله أعلم. قال: فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزل وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية. فما صلى رسول الله ﷺ بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله.
قال المفسرون: وكلم رسول الله ﷺ فيما فعل بعبد الله بن أبيّ قال: وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إن كنت لأرجو أن يسلم به ألف من قومه وكان كما قال.
وقيل: لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول أنه انتقل إلى الإيمان لأنه وقت يتوب فيه الكافرة فرغب أن يصلي عليه. وذكر من أسباب دفع القميص أن العباس عم رسول الله ﷺ أخذ أسيرا ببدر ولم يجدوا له قميصا طويلا فكساه عبد الله قميصه، ومنها أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك. فقال: إن لي في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، فشكر رسول الله ﷺ صنيعه. ومنها أنه كان لا يرد السائل لقوله تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: ١٠] ومنها أن ابنه عبد الله كان من الصالحين فالرسول أكرمه لمكان ابنه. ومنها إظهار الرأفة والرحمة كما مر.
قوله ماتَ صفة لأحد وأَبَداً ظرف لقوله لا تُصَلِّ وإنه يحتمل تأبيد النفي ونفي التأبيد والظاهر الأول، لأن القرائن تدل على منعه من أن يصلي عل أحد منهم منعا كليا دائما.
قال الزجاج: معنى قوله وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أن رسول الله ﷺ كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه.
وقال الكلبي: معناه لا تقم بإصلاح مهمات قبره وإِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهي ويرد عليه أن الكفر حادث وحكم الله قديم والحادث لا يكون علة للقديم. وأجيب بأن العلة هاهنا بمعنى الإمارة المعرفة للحكم. قال في الكشاف: وإنما قيل مات وماتوا بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير لكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة. وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان. أما قوله وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ فقد سبق مثله في هذه السورة بتفاوت ألفاظ فوجب علينا أن نذكر سبب التفاوت، ثم فائدة التكرار فنقول والله تعالى أعلم بمراده: إنما ذكر النهي هاهنا بالواو وهناك بالفاء لأنه لا تعلق له هاهنا بما قبله وهو موتهم على حالة الفسق خلاف ما هنالك. وإنما قال هاهنا وَأَوْلادُهُمْ بدون «لا» لأن المراد هنالك الترقي من الأدون إلى الأعلى وهو أن إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم
513
كقولك: لا يعجبني أمر النائب ولا أمر المنوب. وهاهنا أراد المعية فقط إما اكتفاء بما سبق هناك، وإما لأن هؤلاء أقوام آخرون لم يكن عندهم تفاوت بين الأمرين. وقيل: إنه هناك لما علق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط أكد معنى النهي بتكرار «لا»، وإنما قال هاهنا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ لأنه إخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتعلق الإرادة بما هم فيه وهو العذاب. وأما في الآية المتقدمة فالمفعول محذوف وقد مر. وقيل: الفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه «أن»، وإنما حذف الحياة هاهنا اكتفاء بما ذكر هنالك وقيل تنبيها على أن الحياة الدنيا لا تستحق أن تسمى حياة لخستها. وأما فائدة التكرير فهي المبالغة في التحذير من الأموال والأولاد لأنها جذابة للقلوب فتحتاج إلى صارف قوي، ويحتمل أن تكون الأولى في قوم والثانية في آخرين. وقيل: الثانية في اليهود والأولى في المنافقين. ثم عاد إلى توبيخ المنافقين فقال وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أي تمامها ويجوز أن يزاد عليها كما يقع القرآن والكتاب على بعضه. وقيل: هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد أَنْ آمِنُوا «أن» هي المفسرة لأن إنزال السورة في معنى القول. وقال الواحدي: تقديره بأن آمنوا وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان أُولُوا الطَّوْلِ ذو الفضل والسمعة من طال عليه طولا قاله ابن عباس والحسن. وقال الأصم: الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصوا بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود مَعَ الْقاعِدِينَ مع أصحاب الأعذار من الضعفة والزمنى. والخوالف النساء اللواتي تخلفن في البيت، وجوز بعضهم أن يكون الخوالف جمع خالف وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف. ثم قال وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ كقوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ٧] وقد مر البحث فيه، وقال الحسن:
الطبع بلوغ القلب في الكفر إلى حد كأنه مات عن الإيمان. وقالت الأشاعرة: هو حصول داعية الكفر المانعة من الإيمان. والطبع في اللغة الختم وهو التأثير في الطين ونحوه، ومنه الطبع للسجية التي جبل عليها الإنسان فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أسرار حكمة الله في الجهاد أو في الذهاب من السعادة وما في التخلف من الشقاء. وفي قوله لكِنِ الرَّسُولُ نكتة هي أنه إن تخلف هؤلاء فقد أنهض إلى الغزو من هو خير منهم وأصدق نية كقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: ٨٩] ثم ذكر منافع الجهاد على الإجمال فقال وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وهي شاملة لمنافع الدارين. وقيل: هي الحور لقوله فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: ٧٠] وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ المراد منه الخلاص من المكاره. ثم فصل ما أجمل فقال أَعَدَّ اللَّهُ الآية وقيل: الخيرات
514
الفلاح في الدنيا وهذه في الآخرة. والْفَوْزُ الْعَظِيمُ عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية.
التأويل:
إنما لم يؤثر استغفار الرسول في حقهم لقصور في القائل لا لتقصير في الفاعل، والأثر يتوقف على الأمرين جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة الصفات الحيوانية. وَهُمْ كافِرُونَ مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد. لهم الخيرات لما سعوا سعي العبودية نالوا خيرات الربوبية، هُمُ الْمُفْلِحُونَ المتخلصون عن حجب صفات النفس ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إذ لا حجاب أعظم من حجاب النفس والله أعلم.
تم الجزء العاشر من تفسير النيسابوري ويليه الجزء الحادي عشر وأوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ.........
515
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن الكريم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٠ الى ٩٩]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
القراآت:
الْمُعَذِّرُونَ من الأعذار: قتيبة ويعقوب. الباقون: بالتشديد دائِرَةُ السَّوْءِ بضم السين وكذلك في الفتح: أبو عمرو وابن كثير. الآخرون بفتحها قُرْبَةٌ بضم الراء: نافع غير قالون. الباقون بإسكانها وكلاهما بمعنى.
الوقوف:
وَرَسُولَهُ ط أَلِيمٌ هـ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ط مِنْ سَبِيلٍ ط رَحِيمٌ هـ لا للعطف، ما يُنْفِقُونَ هـ أَغْنِياءُ ج لاحتمال أن يكون رَضُوا مستأنفا أو وصفا.
مَعَ الْخَوالِفِ لا لأن الواو إما للعطف أو للحال. لا يَعْلَمُونَ هـ إِلَيْهِمْ ط مِنْ
516
أَخْبارِكُمْ
ط تَعْمَلُونَ هـ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ط عَنْهُمْ ط رِجْسٌ ز لاختلاف الجملتين مع شدة اتصال المعنى في إتمام الوعيد. جَهَنَّمُ ج لأن جزاء يصلح أن يكون مفعولا له أو مفعولا مطلقا لمحذوف أي يجزون جزاء يَكْسِبُونَ هـ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. الْفاسِقِينَ هـ عَلى رَسُولِهِ ط حَكِيمٌ هـ الدَّوائِرَ ط دائِرَةُ السَّوْءِ ط عَلِيمٌ هـ الرَّسُولِ ط لَهُمْ ط فِي رَحْمَتِهِ ط رَحِيمٌ هـ.
التفسير:
لما شرح أحوال منافقي المدينة شرع في أحوال المنافقين من أهل البدو فقال وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ. من قرأ بالتخفيف فهو من أعذر إذا اجتهد في العذر وبالغ فيه ومنه قولهم: من أنذر فقد أعذر. فكأنه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكافرين فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر وهم أسد وغطفان قالوا: إن لنا أتباعا وعيالا وإن بنا جهدا فأذن لنا في التخلف.
وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وآله: سيغنيني الله عنكم.
وعن مجاهد: نفر من غفار. ومن قرأ بالتشديد ففيه وجهان: الأوّل أن يكون من التعذير وهو التقصير في الأمر والتواني فيه وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له. الثاني وقد ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري أنه من الاعتذار والأصل فيه المعتذرون أدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين. والاعتذار قد يكون بالكذب كقوله تعالى:
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا وقد يكون صحيحا كقول القائل:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر أي ما جاء بعذر صحيح. فإذا أخذنا بقراءة التخفيف كان المعذرون صادقين، وإذا أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فاحتمل الأمران. ومن المفسرين من رجح جانب صدقهم لأنه تعالى ميزهم من الكاذبين بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ومنهم من مال إلى أنهم كاذبون. روى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه قال: إن أقواما تكلفوا عذرا بباطل وهم الذين عناهم الله بقوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وتخلف آخرون لا بعذر ولا بشبهة عذر جراءة على الله وهم الذين أرادهم الله بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي من الأعراب عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل وفي العقبى بالنار. وإنما قال: مِنْهُمْ لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب. ثم ذكر أن تكليف الجهاد ساقط عن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال لَيْسَ عَلَى
517
الضُّعَفاءِ
وهم الذين في أبدانهم ضعف في أصل الخلقة أو لهرم وَلا عَلَى الْمَرْضى ويدخل فيه أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ في الغزو على أنفسهم حَرَجٌ قيل:
هم مزينة وجهينة وبنو عذرة، وفيه دليل على أنه لا يحرم عليه الخروج إذا أمكنه الإعانة بمقدار القدرة كحفظ متاع المجاهدين وتكثير سوادهم وإنما يكون ذلك طاعة مقبولة منه إذا لم يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم. ثم إنه شرط في جواز القعود النصح لله ورسوله ليحترزوا بعدهم عن إلقاء الإرجاف وإثارة الفتن ويقوموا على إصلاح مهمات بيوتهم.
وبالجملة على كل ما له مدخل في طاعة الله ورسوله وموافقة السر العلن كما يفعل المولى الناصح بصاحبه. ثم قال: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي المعذورين الناصحين مِنْ سَبِيلٍ للعتاب والمؤاخذة. قال بعض أهل الظاهر كداود الأصفهاني وغيره: إن المحسن هو الآتي بالإحسان ورأس الإحسان وسنامه هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهذا يدل على أن المكلف إذا تكلم بهذه الكلمة برئت ذمته عن مطالبة نفسه وماله إلا بدليل منفصل كما أن السلطان لو قال لأهل مملكته تكليفي عليكم كذا وكذا وبعد ذلك لا سبيل لأحد على أحد كان ذلك دليلا على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء ذلك لأن باب النفي لا نهاية له فلا ينضبط إلا بهذا الطريق. وعلى هذا لو ورد في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصا على أن التكاليف محصورة فيها وفيما وراءها ليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ويكون القرآن وافيا ببيان التكاليف والأحكام، ولا حاجة إلى التمسك بالقياس لأن هذا النص دل على أن الأصل براءة الذمة. فإن كان القياس مفيدا للبراءة أيضا فضائع، وإن كان يفيد شغل الذمة صار مخصصا لعموم النص، وإنه لا يجوز لأن النص أقوى من القياس. ولما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بيّن قسما رابعا وهم الذين لا يجدون الراحلة وإن قدروا على الزاد فقال: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ أي على المركوب. قلت: قال في الكشاف: هو حال من الكاف في أَتَوْكَ بإضمار «قد» أي إذا ما أتوك قائلا لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وجوز أن يكون واسطة بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت: ويحتمل أن يكون بدلا من أَتَوْكَ. قال مجاهد: هم أبناء مقرن معقل وسويد والنعمان،
وقيل: أبو موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله يستحملونه ووافق منه غضبا فقال: والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم مدبرون يبكون فدعاهم وأعطاهم ذو داغر الذري. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله فقال: أما إني إن شاء الله لا أحلف
518
بيمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني.
وقيل: هم البكاءون سبعة نفر من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وعلبة بن زيد وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وهم يبكون.
وقوله تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كلها فائضة. و «من» للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز.
حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا أي على أن لا يجدوا. إِنَّمَا السَّبِيلُ أي سبيل الخطاب والعتاب في أمر الغزو والجهاد عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وهم أغنياء. ثم قال على سبيل الاستئناف رَضُوا كأنه قيل ما لهم استأذنوا وهم قادرون على الاستعداد؟ فقيل:
رضوا بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف ومن جملة أسباب الاستئذان أن طبع الله تعالى على قلوبهم. قال أهل العلم: لما قال في الآية الأولى وإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ [التوبة: ٨٦] قال هناك وَطُبِعَ [التوبة: ٨٧] ليكون المجهول مبنيا على المجهول بخلافه في هذه الآية. ثم إن العلم فوق الفقه فكان أنسب بالمقام الذي جرى فيه ذكر الله. أما قوله قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ فإنه علة المنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولا فإذا علم بأن القوم يكذبونه وجب عليه تركه. وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ علة لانتفاء التصديق. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ يعني رؤية وقوع أي سيقع أنكم هل تبقون على الحالة التي تظهرونها أم لا. وفي قوله ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ تخويف شديد وفيه أنه مطلع على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من النفاق والكذب. وإنما لم يقل في هذه الآية و «المؤمنون» كما في الآية التي تجيء، لأن هذه في المنافقين ولا يطلع على ما في باطنهم إلا الله ثم رسوله باطلاع الله إياه أو بنور نبوته كما قال قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ والآية الأخرى في المؤمنين وعباداتهم ظاهرة للكل. وختم آية المنافقين بقوله ثُمَّ تُرَدُّونَ لأنه وعيد فقطعه عن الأول بخلاف آية المؤمنين حيث وصلها بالواو لأنه وعد من الله. ثم ذكر أن منافقي الأعراب سيؤكدون أعذارهم بالأيمان الكاذبة مثل ما حكى تعالى عن منافقي المدينة فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ أي لأجلكم إِذَا انْقَلَبْتُمْ أي رجعتم إِلَيْهِمْ ولم يذكر المحلوف عليه. والظاهر أنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ولكن بين غرضهم من الحلف فقال لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أرادوا الصفح والعفو فأمر الله المؤمنين بإعطاء طلبتهم ولكن على سبيل المقت لا الصفح ولهذا قال ابن عباس: أراد ترك الكلام
519
والسلام.
وقال مقاتل: قال رسول الله ﷺ حين قدم المدينة: لا تجالسوهم ولا تكلموهم وكانوا ثمانين رجلا منهم جد بن قيس ومعتب بن قشير. ثم بين علة الاجتناب عنهم فقال:
إِنَّهُمْ رِجْسٌ
فكأنهم نجس العين فلا سبيل إلى تطهيرهم بالعتاب والتوبيخ وفي أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة. المعاتبة المعاودة وبشرة الأديم ظاهره الذي عليه الشعر أي إنما يعاد إلى الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته، يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب وإذا لم تكن المعاتبة نافعة فيهم فتركها هو الصواب وَمَأْواهُمْ جهنم منقلبهم النار عتابا توبيخا.
ثم بين أنهم طلبوا إعراض الصفح بقوله يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ نهاهم عن الرضا بقوله فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ الآية، ذلك أن إرادة المؤمن يجب أن تكون موافقة لإرادة الله، وأي فائدة في رضا المؤمنين إذا كان الله تعالى ساخطا عليهم؟. ثم عدد مثالب الأعراب وأراد بهم جمعا معينين كانوا يوالون منافقي المدينة. قال أهل اللغة: رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتا، ورجل أعرابي إذا كان بدويا سواء كان من العرب أو من مواليهم وجمعه أعراب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود. فالأعرابي إذا قيل له يا أعرابي فرح، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تؤمنّ امرأة رجلا ولا فاسق مؤمنا ولا أعرابي مهاجرا» «١»
قيل: إنما سمى العرب عربا لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤا بالعربة وهي من تهامة ونسبوا إلى بلدهم، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم. وقيل: لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم لما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة، يحكى عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم. وإنما حكم على الأعراب بأنهم أشد كفرا ونفاقا لأنهم يشبهون الوحوش. سئل بعض الحكماء ما بال أهل البادية لا يحتاجون إلى الطبيب؟ فقال: كما لا يحتاج حمر الوحش الى البياطرة ولاستيلاء الهواء الحار عليهم الموجب لكثرة الطيش والخروج عن الاعتدال، وإن من أصبح وأمسى مشرفا عليه أنوار النبوة ومشرفا باستماع مواعظه وآدابه كيف يكون مساويا
(١) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٣١، ٧٨.
520
لمن نشأ كما يشاء من غير سياسة سائس ولا تأديب مؤدب؟! وإن شئت فقس الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الجفاء والقسوة في الفدّادين» «١»
أي الأكارين لأنهم يفدّون أي يصيحون. وقوله: وَأَجْدَرُ أي أولى وأحق ب أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي مقادير تكاليفه وأحكامه وما تنتهي إليه الأدلة العقلية والسمعية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب أهل البدو والحضر وأصحاب الوبر والمدر حَكِيمٌ في كل ما قدر من الشرائع وما يتبعها من الجزاء. ثم نوع جنس الأعراب فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً هو مفعول ثان ليتخذ لأنه بمعنى الجعل والاعتقاد والزعم أي يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران. وقد عرفت أن أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه لزمه لأمر من خارج كتقية أو رياء ليس مما ينبعث من النفس، والمغرم إما مصدر أو موضع.
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ نوب الزمان وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه تشبيها بالدائرة التي تحيط بما في ضمنها بحيث لا يوجد منها مخلص. ثم خيّب الله ظنونهم بالإسلام وذويه بأن دعا عليهم بقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وإنها جملة معترضة كقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: ٦٤] والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك «رجل صدق». قال في الكشاف: وهو ذم للدائرة لأن من دارت عليه ذامّ لها وبالضم اسم بمعنى البلاء. والعذاب، والمراد أنهم لا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بنياتهم. قيل: هم أعراب أسد وغطفان وتميم. ثم ختم الكلام بذكر الصالحين منهم فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ الآية.
والمعنى أنهم يعتقدون ما ينفقونه سببا لحصول القربات عند الله وسببا لصلوات الرسول عليهم لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله: اللهم صل على آل أبي أوفى. ثم إنه تعالى شهد لهم ولأمثالهم بصحة ما اعتقدوه فقال على طريق الاستئناف مؤكدا بحرفي التنبيه والتحقيق أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ ثم فسر القربة بقوله: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ والسين لتحقيق الوعد. قيل: هم عبد الله ذو البجاد بن ورهطه، أخذت أمه بجادا وهو كساء مخطط فشقته نصفين فردّته بأحدهما وأزرته بالثاني وبعثته إلى رسول الله ﷺ فكان قائده والله أعلم.
التأويل:
الناس ثلاثة: المتضررون المعذرون المعترفون بتقصيرهم، والقاعدون الكذابون، والناصحون المخلصون في الطلب ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والفقراء فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمال بالظواهر مع اشتغال البواطن في الطلب بقدر
(١) رواه البخاري في كتاب المغازي باب ٧٤. أحمد في مسنده (٢/ ٢٥٨) (٣٣/ ٣٢٢).
521
الاستعداد. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ بطريق المتابعة لِتَحْمِلَهُمْ على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ترفعا ودلالا واستيراء لزناد أشواقهم كما قيل لموسى لن تراني زيادة لشوقه وهم أغنياء لهم الاستعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال كسلا وميلا إلى اللذات العاجلة. الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً إن في عالم الإنسانية بدوا هو نفسه وحضرا هو قلبه، والكفر والنفاق للنفس مقتضى الذات كما أن الإيمان للقلب لذاته بالفطرة، وقد يصير القلب كافرا بسراية النفس وقد تصير النفس مؤمنه بسراية القلب، ولكن النفس تكون أشد كفرا من القلب الكافر كما أن القلب يكون أشد إيمانا من النفس المؤمنة. حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ يعني الواردات النازلة على الروح فإن القلب حضر الروح كما أن المدينة حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن النفوس من يعتقد أن ما يصرف من أوقاته في طلب الكمال ضائع وخسار وينتظر بالقلب اشتغالا وفترة. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ باستيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها وَاللَّهُ سَمِيعٌ يجيب هذا الدعاء عَلِيمٌ بمن ينبغي أن يسمع في حقه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٠ الى ١١٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
522
القراآت:
من تحتها بزيادة من: ابن كثير. والباقون بحذفها وبالنصب على الظرف. والْأَنْهارُ بالرفع: يعقوب. الآخرون بالجر. إِنَّ صَلاتَكَ على التوحيد:
حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون على الجمع بكسر التاء علامة للنصب مُرْجَوْنَ بواو ساكنة بعد الجيم: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى أبي بكر وحماد. الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. الَّذِينَ اتَّخَذُوا بغير واو:
أبو جعفر ونافع وابن عامر أَسَّسَ بُنْيانَهُ مجهولا في الحرفين: ابن عامر ونافع حرف بسكون الراء: ابن عامر وحمزة وخلف ويحيى وحماد. الباقون بالضم هارٍ بالإمالة:
أبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو وعلي غير ليث، وابن حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وابن ذكوان غير ابن مجاهد والنقاش ويحيى وحماد إلى أن قرأها يعقوب. الباقون إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ فعلا ماضيا أو مضارعا بحذف التاء من التفعل: ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل وسهل ورويس. تقطع مضارعا مجهولا من التقطع: روح. الباقون تقطع مضارعا مجهولا من التقطيع.
الوقوف:
بِإِحْسانٍ لا لأن قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خبر وَالسَّابِقُونَ أَبَداً ط هـ الْعَظِيمُ هـ مُنافِقُونَ ط لمن قدر ومن أهل المدينة قوم مردوا، ومن وصل وقف على أَهْلِ الْمَدِينَةِ تقديره هم مردوا عَلَى النِّفاقِ ط ومن قدر ومن أهل المدينة قوم احتمل أن يجعل لا تَعْلَمُهُمْ صفة للقوم فلم يقف لا تَعْلَمُهُمْ ط نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ط عَظِيمٍ هـ ج لاحتمال أن يكون التقدير ومنهم آخرون وأن يكون معطوفا على مُنافِقُونَ أو على قوم المقدر سَيِّئاً ط عَلَيْهِمْ ط رَحِيمٌ هـ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ط لَهُمْ ط عَلِيمٌ هـ الرَّحِيمُ هـ وَالْمُؤْمِنُونَ ط تَعْمَلُونَ هـ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ط حَكِيمٌ هـ مِنْ قَبْلُ ط الْحُسْنى ط لَكاذِبُونَ هـ أَبَداً ط أَنْ تَقُومَ فِيهِ ط أَنْ يَتَطَهَّرُوا ط الْمُطَّهِّرِينَ هـ فِي نارِ جَهَنَّمَ ط الظَّالِمِينَ ط قُلُوبِهِمْ ط حَكِيمٌ هـ.
التفسير:
لما ذكر الأعراب المخلصين بين أن فوق منازلهم منازل أعلى وأجل وهي منازل السابقين الأوّلين والتابعين لهم بإحسان قال ابن عباس: السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا. وعن الشعبي: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر، وأهل بيعة
523
العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. والظاهر أن الآية عامة في كل من سبق في الهجرة والنصرة. قال أهل السنة: لا شك أن أبا بكر أسبق في الهجرة أو هو من السابقين فيها وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنه رضي عنهم. ولا شك أن الرضا معلل بالسبق إلى الهجرة فيدوم بدوامه، فدل ذلك على صحة إمامته وإلا استحق اللعن والمقت. قال أكثر العلماء: كلمة «من» في قوله مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ للتبعيض، وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وفيهم ضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم. وقد قيل: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. وقيل: للتبيين ليتناول المدح جميع الصحابة.
وروي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله ﷺ وما كان بينهم؟
فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إلى آخر الآية؟
أوجب لجميعهم الرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشترط عليهم وهو الاتباع بالإحسان وذلك أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة لا السيئة، أو بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا ويحفظوا لسانهم عن الاغتياب والطعن في حقهم. قال العلماء: معنى رضا الله عنهم قبول طاعاتهم. ثم عاد إلى شرح أحوال المنافقين فقال: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ هو خبر ومِنَ الْأَعْرابِ بيان أو حال ومُنافِقُونَ مبتدأ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على الخبر أو خبر لمبتدأ آخر بناء على أن التقدير ومن أهل المدينة قوم مَرَدُوا التركيب يدل على الملابسة والبقاء على هيئة واحدة من ذلك «صرح ممرد» و «غلام أمرد» و «أرض مرداء» لا نبات فيها وتمرد إذا عتا فإن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على هيئته الأصلية من غير تغير. فمعنى مردوا على النفاق تمهروا وتمرنوا وبقوا عليه حذاقا معوّدين إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع وفور حدسك وقوة ذكائك. ثم قال سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قال ابن عباس: هما العذاب في الدنيا بالفضيحة والعذاب في القبر.
روى السدي عن أبي مالك أنه ﷺ قام خطيبا يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان إنك منافق، اخرج يا فلان إنك منافق، حتى أخرج ناسا وفضحهم.
وقال مجاهد: هما القتل والسبي وعذاب القبر. وقال قتادة: بالدبيلة وعذاب القبر. وقال محمد بن إسحق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام والمسلمين ثم عذابهم في القبور. وقال الحسن: بأخذ الزكاة من أموالهم وبعذاب القبر. وقيل: أحد العذابين
524
ضرب الملائكة الوجوه والإدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق من نار. ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو الدرك الأسفل من النار. قال الكلبي: وممن حولكم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار، ومن أهل المدينة عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأبو عامر الراهب وأضرابهم. ثم قال وَآخَرُونَ وهو معطوف على مُنافِقُونَ أو مبتدأ.
واعْتَرَفُوا صفته وخَلَطُوا خبره عَسَى اللَّهُ جملة مستأنفة. وقيل: خَلَطُوا حال بإضمار «قد» عَسَى اللَّهُ خبر. وللمفسرين خلاف في أنهم قوم من المنافقين تابوا عن نفاقهم أو قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق ولكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا. عن ابن عباس في رواية الوالبي نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا ثم ندموا وقالوا نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله ﷺ وأصحابه في الجهاد. روي أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام.
وقيل: كانوا عشرة فسبعة منهم حين بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد وقالوا: والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يطلقنا ويعذرنا. فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلى ركعتين- وكانت هذه عادته كلما قدم من سفر- فرآهم موثقين فسأل عنهم فقالوا: هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم. فقال رسول الله: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا:
يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً. الآية.
والاعتراف هو الإقرار بالشيء عن معرفة والمراد أنهم أقروا بذنوبهم وهذه كالمقدمة للتوبة لأن الاعتراف بالذنب لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال وفي الاستقبال. خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً أي خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك:
خلطت الماء واللبن. وهذا أبلغ من قولك: خلطت الماء باللبن. لأنك جعلت في الأول كلا منهما مخلوطا ومخلوطا به كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء من قولك: بعت شاة ودرهما أي شاة بدرهم. وذلك أن الواو للجمع والباء للإلصاق فهما متقاربان. ويجوز أن يقال: الخلط هاهنا بمعنى الجمع. قال أهل السنة: فيه دليل على نفي القول بالمحابطة لأنه لو لم يبق العملان لم يتصور اختلاطهما.
وفي قوله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ دليل على وقوع التوبة التي أخبر بحصول مقدمتها وهي الاعتراف منهم، وفيه دليل على قبول توبتهم لأن عَسَى من الكريم إطماع
525
واجب. وفائدته أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق فلا يتكل ولا يهمل، وفيه أن التوبة بخلق الله. وقالت المعتزلة: معنى أن يتوب أن يقبل التوبة. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن الدليل العام وهو وجوب انتهاء الكل إلى مشيئته وتكوينه يعضد ما قلناه.
ثم قال سبحانه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً عن الحسن: كانوا يقولون ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر عنهم وبهذا يحصل النظم بينها وبين ما قبلها كما مر. وقال أكثر الفقهاء: المراد بها الزكاة ووجه النظم أنهم لما أظهروا التوبة والندامة أمروا بإخراج الزكاة الواجبة تصحيحا لدعواهم. ومما يدل على ذلك أن الأمر ظاهره الوجوب وأيضا التطهير والتزكية يناسب الواجب لا التطوع. وفي قوله مِنْ أَمْوالِهِمْ دلالة على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال، وتعيين ذلك البعض إنما عرف من السنة. وفي إضافة المال إليهم دليل على أن المال مالهم ولا شركة للفقير فيه فتكون الزكاة متعلقة بذمته حتى لو تلف النصاب بعد الوجوب بقي الحق في ذمة المالك وهو قول الشافعي. وقوله تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ التاء فيهما للخطاب أي تطهرهم أيها الآخذ وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة. وقيل: التاء في تُطَهِّرُهُمْ للتأنيث والضمير للصدقة وفيه نوع انقطاع للمعطوفين. قال العلماء: المعطوفان متغايران لا محالة فالتزكية مبالغة في التطهير أو هي بمعنى الإنماء كأنه تعالى جعل النقصان سببا للإنماء والزيادة والبركة، أو المراد بالتزكية تعظيم شأنهم والإثناء عليهم. قال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الزكاة طهرة للآثام فلا تجب إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعلم إلا في حق البالغ العاقل دون الصبي والمجنون. وقال الشافعي: تجب الزكاة في مالهما لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: معناه ادع لهم. فمن هنا قال الشافعي: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول:
أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. وقال آخرون بظاهر اللفظ لما
روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي ﷺ إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى.
وأكثر الأئمة الآن على أنه لا تحسن الصلاة لغير النبي على غيره إلا تبعا. وأطلق بعضهم- كالغزالي وإمام الحرمين- لفظ الكراهة وقالوا: السلام أيضا في معنى الصلاة.
وأما الشيعة فإنهم يذكرون الصلاة والسلام في حق آل الرسول أيضا كعلي وأولاده عليه السلام وهم على العموم من القرشيين بنو هاشم والمطلب دون بني أمية وبني نوفل وغيرهم. قالوا: لأنها كانت جائزة في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمتنع ذكره أو لا يحسن
526
في أهل بيت الرسول؟ ولأن الكل أجمعوا على جوازها بالتبعية فما الفرق؟ وأما السلام فلا كلام عليه لأنه جائز في حق جمهور المسلمين فكيف لا يجوز في آل الرسول؟ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ والسكن ما يسكن إليه المرء وتطمئن به نفسه، وذلك لأن دعاءه يستجاب البتة فيتطهرون بها، وكيف لا يفيض إشراق نفسه عليهم بتوجهه إليهم والترحم لهم؟ احتج مانعو الزكاة بها في زمان أبي بكر قالوا: الوجوب مشروط بحصول السكن والآن لا سكن. وردّ عليهم بسائر الآيات.
روي أن رسول الله ﷺ لما حكم بصحة توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت أَلَمْ يَعْلَمُوا يعني غير التائبين.
وقيل: معناه ألم يعلم التائبون قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية. وفائدة توسط هو أن يعلم أن الإلهية هي الموجبة لقبول التوبة لاستغنائه عن طاعة المطيعين ومعصية المذنبين فإذا انتقل العبد من حالة المعصية إلى حالة الطاعة وجب على كرمه قبول توبته. وفيه أيضا أن قبول التوبة ليس إلى الرسول. وفي قوله عَنْ عِبادِهِ دون «من» إشارة إلى البعد الذي يحصل للعبد عن الله بسبب العصيان أو إلى تبعيده نفسه عن الله هضما وانكسارا. وفي إضافة أخذ الصدقات إلى الله بعد أن أمر الرسول بالأخذ تشريف عظيم لهذه الطاعة، وأنها من الله بمكان، وأنه يربيها كما يربي أحد نافلوه حتى إن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد وقد جاء هذا المعنى في الحديث. ثم أمر نبيه بأن يقول للتائبين أو لغير التائبين ترغيبا لهم في التوبة اعْمَلُوا فيه نوع تهديد وتخويف فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وقد مر تفسير مثله عن قريب. والحاصل أنه كأنه قيل لهم اجتهدوا في العمل فإن له في الدنيا حكما وهو أن يراه الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآخرة حكما وهو الجزاء. وبوجه آخر كأنه قيل: إن كنت من المحققين فاعمل لله، وإن كنت من الظاهريين فاعمل لتفوز بثناء شهداء الخلق وهم الرسول والمؤمنون فإنهم شهداء الله يوم القيامة، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية. ولا شك أن رؤية الله تعالى شاملة لأفعال القلوب والجوارح جميعا. أما رؤية الرسول والمؤمنين فلا تشمل أفعال القلوب إلا بإرادة الله واطلاعه وإفشائه. واعلم أنه تعالى قسم المخلفين إلى ثلاثة أقسام: منهم المنافقون الذين مردوا على النفاق، والثاني التائبون المتعرفون بذنوبهم، والثالث الذين بقوا مرقوفا أمرهم وذلك قوله وَآخَرُونَ وإعرابه كإعراب قوله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا ومعنى مُرْجَوْنَ أي مؤخرون من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه قوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الأعراف: ١١١] كما مرّ، وبه سميت المرجئة لأنهم جازمون بغفران ذنب التائب ولكن
527
يؤخرونها إلى مشيئة الله ويقولون: إنهم مرجون لأمر الله. وقال الأوزاعي: لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان. وقال ابن عباس: نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، أمر رسول الله أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أن أخذا لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم فقبلت توبتهم ونزل فيهم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا كما سيجيء. وقال الحسن: إنهم قوم من المنافقين حذرهم الله بهذه الآية إن لم يتوبوا. وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ التشكيك فيه راجع إلى العباد أي ليكن أمرهم على الخوف والرجاء وكان يقول أناس هلكوا إن لم ينزل الله لهم عذرا، ويقول آخرون:
عسى الله أن يغفر لهم. قال الجبائي: جعل أمرهم دائرا بين التعذيب والتوبة فدل ذلك على انتفاء القسم الثالث وهو العفو من غير التوبة، وأجيب بأنه يجوز أن تكون المنفصلة مانعة الجمع فقط. ولما ذكر أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا كأنه قال: ومنهم الذين اتخذوا. في الكشاف: أن محله النصب على الاختصاص، أو الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن وصفوا هؤلاء الأقوام. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: كانوا اثني عشر رجلا بنوا مسجدا يضارّون به مسجد قباء.
وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله ﷺ أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا كذلك.
واعلم أنه سبحانه حكى أن الباعث لهم على هذا العمل كان أمورا أربعة: الأول الضرار وهو المضارة والثاني الكفر بالنبي ﷺ وبالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق، والثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعتهم ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة، والرابع قوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله مِنْ قَبْلُ يتعلق ب حارَبَ أي من قبل بناء مسجد الضرار. وقال في الكشاف: إنه متعلق ب اتَّخَذُوا والمراد من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الانتظار مع العداوة.
وقال الأكثرون: إنه الإعداد. والمراد بمن حارب أبو عامر الراهب والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة، وسماه رسول الله الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما ظهر رسول الله ﷺ عاداه لأنه زالت رياسته وقال لرسول الله ﷺ يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم
528
حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجدا وانتظروا أبا عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد. ثم أخبر الله تعالى عن نفاقهم بقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا
أي ما أردنا ببناء هذا المسجد إِلَّا الخصلة الْحُسْنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المسلمين.
قال المفسرون. إنهم لما بنوا مسجدهم وافق ذلك غزوة تبوك فأتوا رسول الله وقالوا: بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال صلى الله عليه وسلم:
إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه. فلما قفل من الغزوة سألوه إتيان المسجد فنزل لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً الآية فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي- قاتل حمزة- فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين.
وقال الحسن: همّ رسول الله أن يذهب إلى ذلك المسجد فناداه جبرائيل لا تقم فيه.
ولا ريب أن النهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. ثم بيّن علة النهي فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي من ابتداء وجوده أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ والمعنى لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى لاشتماله على الخيرات الكثيرة فكيف إذا كان غيره مشتملا على المفاسد الكثيرة من الضرار وغيره؟ قالت الشيعة في هذا المقام: إن المسجد إذا كان مبنيا على التقوى من أول يوم كان أولى بالصلاة فيه فالإمام أولى بأن يكون متقيا من أول عمره وما ذاك إلا عليّ عليه السلام لأنه لم يكفر بالله طرفة عين. واختلفوا في هذا المسجد فقيل: مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة،
عن أبي سعيد الخدري سألت رسول الله ﷺ عن المسجد الذي أسس على التقوى. فأخذ الحصباء وضرب بها الأرض وقال: هو مسجدكم هذا مسجد المدينة. وقيل: هو مسجد قباء أسسه رسول الله ﷺ وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة،
قال في الكشاف: وهذا أولى لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقال القاضي: كل مسجد بني على التقوى فإنه يدخل فيه كما لو قال قائل لرجل صالح أحق أن تجالسه لم يكن ذلك مقصورا على واحد. وأيضا كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار. ثم ذكر لمسجد التقوى وصفا آخر وذلك قوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فقيل: إنه التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والإخلاص كما أن أهل مسجد الضرار
529
وصفوا بأضداد هذه الأمور من الضرار والكفر والتفريق، ولأن طهارة الباطن أشد تأثيرا من طهارة الظاهر في القرب من الله. وقيل: إنه التطهر بالماء وذلك أنهم كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء أثر البول.
وروي أنها لما نزلت مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال: أمؤمنون أنتم؟
فسكت القوم. ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال عليه السلام: أترضون بالقضاء؟ قالوا: نعم قال: أتصبرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال:
أتشكرون في الرخاء؟ قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: مؤمنون ورب الكعبة. فجلس ثم قال: يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا بأجمعهم. ومحبة التطهر إيثاره والحرص عليه ومحبة الله الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. ثم بين أنه لا نسبة بين الفريقين وأن بينهما بونا بعيدا فقال مستفهما على سبيل التقرير أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ وهو مصدر كالعمران وأريد به المبني والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ دينه على ضد ذلك. والشفا هو الشفير أي الشفة، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحسر الوادي ويبقى على طرف المسيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الموضع الذي هو بصدد السقوط جرف، والهار الهائر وهو أيضا المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. قال الليث: الهاء مصدرها الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه، فإذا سقط فقد انهار. وقال في الكشاف: إنه صفة قصرت عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليست بألف فاعل إنما هي عينه وأصله «هور» على «فعل» ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل، فلكونه على شفا جرف هار كان مشرفا على السقوط، ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما يسقط في قعر جهنم،
يروى أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه.
ثم ذكر أن بنيانهم ذلك سبب لازدياد ريبهم فقال: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً في كونه سببا للريبة فِي قُلُوبِهِمْ وجوه منها: أن هدمه صار سببا لازدياد شكهم في نبوته، ومنها أنهم ظنوا أن تخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم فلا تزول تلك الريبة إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أجزاء متفرقة إما بالموت وإما بالسيف وإما بالبلاء فحينئذ يضمحل أثرها عنها. والمقصود أن هذا
530
الشك يبقى في قلوبهم أبدا ويموتون على النفاق. قال في الكشاف: يجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم.
التأويل:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الذين سبقت لهم العناية الأزلية، أو السابقون الأوّلون عند الخروج من العدم وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة، أو السابقون في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
[الأعراف: ١٧٢] الأولون في استماع هذا الخطاب، أو السابقون في استحقاق المحبة عند اختصاصهم بتشريف يحبهم في الأزل، الأولون بأداء حق المحبة في سر يحبونه، أو السابقون عند تخمير طينة آدم في مماسة ذراتهم يد القدرة، الأولون باستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين صباحا، أو السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى مقام الوصال، الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال، وهذا السبق مخصوص بالنبي ﷺ وبأمته كما
قال: «نحن الآخرون السابقون» «١».
مِنَ الْمُهاجِرِينَ عن الأوطان البشرية وَالْأَنْصارِ لهم في طلب الحق وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ بذلوا جهدهم في متابعتهم بقدر الإمكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بإعطاء الاستعدادات الكاملة وَرَضُوا عَنْهُ بإيفاء حقوقها. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ من أعراب صفات النفس مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ مدينة القلب فمن صفات النفس بعضها منافق كالقوة الشهوية للوقاع فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهرا لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بل تميل إلى الشهوة إذا خليت وطباعها ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أخوف ما أخاف على أمتي النساء»
ومنها كافرة كالقوة الشهوية في طلب الغذاء فإنها باقية على طلبها ما دام البدن باقيا لاحتياجه إلى بدل ما يتحلل، ومنها مسلمة كالقوة الغضبية والشيطانية من الكبر والحسد والكذب والخيانة فإنها يحتمل أن تتبدل بأضدادها من التواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإيمان والذكر. فهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما
قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق
(١) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ٦٨. مسلم في كتاب الجمعة حديث ١٩، ٢١. النسائي في كتاب الجمعة باب ١. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١.
531
حتى يدعها» «١»
لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ يعني أن هذه الأفعال لا يعرفها أرباب العلوم الظاهرة وإنما يعرفها أصحاب الكشوف الباطنة. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة بأحكام الشريعة ومرة بآداب الطريقة ثُمَّ يُرَدُّونَ بجذبات اللطف إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو الفطام عن الكونين والفناء في الله أو بجذبات القهر إلى إسبال حجب البعد والبقاء في عالم الطبيعة وَآخَرُونَ يعني القلب وصفاته اعْتَرَفُوا بذنوب ثبوت صفات النفس والتلوث بها خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً هو صدق التوجه وَآخَرَ سَيِّئاً هو مطاوعة النفس والهوى في بعض الأوقات. عَسَى اللَّهُ أن يوفقهم للرجوع إلى طريق الحق بالكلية والإعراض عما سواه. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها عن دنس حب الدنيا وَتُزَكِّيهِمْ بالأخلاق الفاضلة فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ فيه أن المعطي يجب أن لا ينظر إلا إلى الله ولا يمنّ على الفقير أصلا وَسَتُرَدُّونَ بأقدام أعمالكم إلى الله الذي يعلم ما غاب عنكم من نتائج أعمالكم وما غبتم عنه من التقدير الأزلي وما تشاهدون بالعيون والقلوب في عالمي الملك والملكوت. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أخرت توبتهم ليتردّدوا بين الخوف والرجاء فيطيروا بجناحي القبض والبسط إلى أن يصلوا إلى سرادقات الهيبة والأنس. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بتربية عباده حَكِيمٌ فيما يفعل من القبول والرد. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا في عالم الطبيعة مزبلة النفس مَسْجِداً ضِراراً لأرباب الحقيقة وَكُفْراً بأحوالهم لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ هم أهل الإباحة من مدعي الفقر لا تَقُمْ يا رسول الروح.
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى هو مسجد القلب جبل على العبودية والطاعة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من الميثاق رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا هم الأوصاف الحميدة والملكات المزكاة عن دنس الطبيعة ولوث الحدوث. ثم ميز بين أهل السعادة والشقاوة فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ أي جبل على الخير وما فيه رضا الله لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً لأنهم جبلوا على الشقاء إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ غيروا عن طباعهم وذلك محال أو لا يزال يسري من مزبلة النفس وسخ وظلمة إلى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم غيروا عن طباعهم وذلك بسكين الرياضة فتزول عنها تلك الملكات.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٩]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٠٦. البخاري في كتاب الإيمان باب ٢٤. أبو داود في كتاب السنة باب ١٥.
532
القراآت:
فَيَقْتُلُونَ مبنيا للمفعول وَيُقْتَلُونَ مبنيا للفاعل: حمزة وعلي وخلف.
الآخرون على العكس. وَيُقْتَلُونَ بالتشديد: أبو عون عن قنبل. إبراهام وكذلك ما بعده: هشام يَزِيغُ بياء الغيبة: حمزة وحفص والمفضل. والباقون بتاء التأنيث خُلِّفُوا بالتخفيف وفتح اللام روى ابن رومي عن عباس. الباقون بالتشديد مجهولا.
الوقوف:
الْجَنَّةَ ط وَيُقْتَلُونَ ط وَالْقُرْآنِ ط بايَعْتُمْ بِهِ ط الْعَظِيمُ هـ لِحُدُودِ اللَّهِ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ إِيَّاهُ ط مِنْهُ ط ج حَلِيمٌ هـ ط ما يَتَّقُونَ ط عَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط وَيُمِيتُ ط نَصِيرٍ هـ تابَ عَلَيْهِمْ ط رَحِيمٌ هـ ط للعطف على النبي خُلِّفُوا ط إِلَّا إِلَيْهِ ط لِيَتُوبُوا ط الرَّحِيمُ هـ الصَّادِقِينَ هـ.
التفسير:
لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقا به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه فقال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى الآية.
قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله ﷺ ليلة العقبة- وهم سبعون نفسا- قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة،
533
قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى الآية.
قال مجاهد والحسن ومقاتل: ثامنهم فأغلى ثمنهم.
وقال جعفر الصادق عليه السلام: والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازا عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه. ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع. وهاهنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات. وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج اليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة الى الدرجات العاليات فالبائع هو جوهر الروح القدسي، والمشتري هو الله، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وفي قوله يُقاتِلُونَ معنى الأمر كقوله وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: ١١] وهو كالتفسير لتلك المبايعة فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين. ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان. ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله:
يُقاتِلُونَ. والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثرا من القتال ولهذا
قال ﷺ لعلي عليه السلام: «لأن يهدي الله على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس» «١»
ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعا به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه
فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» «٢»
قوله
(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ١٠٢. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٣٥. أحمد في مسنده (٥/ ٢٣٨).
(٢) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث ١٠٠، ١٠٢. أبو داود في كتاب اللباس باب ٣٨. النسائي في كتاب الفرع باب ٥. أحمد في مسنده (٤/ ٣٢٩، ٣٣٤).
534
وَعْداً عَلَيْهِ قال الزجاج: إنه منصوب بمعنى قوله: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ كأنه قيل: وعدهم الجنة وعدا فهو مصدر مؤكد، وكذا قوله حَقًّا أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ قيل: وعد المجاهدين على الإطلاق، وقيل: ذكر هذا البيع لأمة محمد، وقيل: الأمر بالقتال وَمَنْ أَوْفى استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد مِنَ اللَّهِ لأنه الغني عن كل الحاجات القادر على كل المقدورات.
وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقا مؤكدا. ومنها أنه قال بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة. ومنها قوله وَعْداً وإنه لا يخلف الميعاد. ومنها قوله عَلَيْهِ وكلمة «على» للوجوب ظاهرا. ومنها قوله:
حَقًّا وهو تأكيد التحقيق. ومنها قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة. ومنها قوله:
وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف البتة. ومنها قوله:
فَاسْتَبْشِرُوا والبشارة الخبر الصدق الأول. ومنها قوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ ثم وصف الفوز ب الْعَظِيمُ واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه: أحدها ذلك الفوز بغير «هو» وإنه في ستة مواضع: في «براءة» موضعان، وفي «النساء والمائدة والصف والتغابن» وما في «النساء» بزيادة واو. والآخر وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ بزيادة «هو» وذلك في ستة مواضع أخرى في «براءة» موضعان و «يونس» و «المؤمن» و «الدخان» و «الحديد» وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية، وكذلك ما في «المؤمن». وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها، وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة. وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد. وكذلك في «المؤمن» وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية فَاغْفِرْ وَقِهِمْ وَأَدْخِلْهُمْ قال أبو القاسم البلخي: لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياسا على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة.
ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال: التَّائِبُونَ قال الزجاج: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: ٩٥] وقيل: التائبون رفع على البدل من الضمير في
535
يُقاتِلُونَ وقيل: مبتدأ خبره الْعابِدُونَ وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن:
التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق. ومال آخرون الى التعميم ليشمل المعاصي أيضا إذ لا دليل على التخصيص والْعابِدُونَ قال ابن عباس: هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع. وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. والْحامِدُونَ هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: ٣٠] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] والسَّائِحُونَ قال عامة المفسرين: هم الصائمون لقوله: «سياحة أمتي الصيام». ثم قيل: هذا صوم الفرض. وقيل: الذين يديمون الصيام. قال الأزهري: إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه فيكون ممسكا عن الأكل والشرب كالصائم. وقيل: أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع. وقال أهل المعنى: الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول. وقيل: السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه، وكانت السياحة في بني إسرائيل.
قال عكرمة عن وهب بن منبه: لا ريب أن للسياحة أثرا عظيما في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعا من الضر والبؤس فيصبر عليها، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكة له، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين قال بعض العلماء: إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود. وقيل: أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع. ثم قال: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ومعناهما مذكور فيما مر إلا أن هاهنا بحثا آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله: وَالنَّاهُونَ وَالْحافِظُونَ دون سائر الأوصاف؟ وأجيب بأن النسق يجيء
536
بالواو وبغيرها كقوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: ٢] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الأغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيها على هذه المخالفة والمباينة. ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في «الكهف» في قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية: ٢٢] وما في «الزمر» في قوله في ذكر الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية:
٧٣] وما في «التحريم» في قوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [الآية: ٥] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار.
فالثمانية تجري مجرى استئناف كلام فلهذا فصل بالواو. وأما قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فكإجمال بعد تفصيل وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات. وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية. فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها. والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام. ومنها ما يكره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد. والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة، وكالبيع بين العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئا في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة، أو من جهة الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس. وأما دفع المضار
537
والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان، وإما في العقل كباب تحريم الخمر، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق، أو على سبيل الخفية وهو السرقة. وهاهنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولا إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات. فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى. ولكن قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ يشمل ذلك أيضا بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر.
ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه. ولما بين من أول السورة إلى هاهنا وجوب إظهار البراءة من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضا وإن كانوا أقارب فقال: ما كانَ لِلنَّبِيِّ ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك. ثم علل المنع بقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ١١٦] فطلب غفرانهم جار مجرى طلب إخلاف وعد الله ووعيده، وفيه حط لمرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له. وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى
روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية- فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآيتان.
وقيل عن ابن عباس: لما افتتح ﷺ مكة سأل أي أبويه أحدث به ﷺ عهدا أي آخرهما موتا؟ فقيل: أمك آمنة. فزار ﷺ قبرها ثم قام باكيا فقال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن
538
لي فيه ونزل عليّ ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية.
فقال بعضهم كصاحب الكشاف والحسين بن أبي الفضل: هذا أصح لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، وكانت وفاة أبي طالب بمكة في أول الإسلام. ويمكن أن يوجه الأول بأنه ﷺ لعله بقي مستغفرا إلى حين نزول الآية. ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه صدر عن موعدة وعدها إياه، وذلك أن أباه كان وعد إبراهيم أن يؤمن فكان يستغفر له بناء على ذلك الوعد. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لإبراهيم أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ إما بإصراره على الكفر أو بموته على ذلك أو بطريق الوحي تَبَرَّأَ مِنْهُ وترك الاستغفار. ويجوز أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام ويوافقه قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة وذلك في قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: ٤] وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه. وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام الموجب للغفران، وكان يتضرع إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان. وقيل: المقصود النهي عن صلاة الجنازة فكان قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التوبة: ٨٤] في حق المنافقين خاصة وهذه في حق الكافرين عامة. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ قال أهل اللغة:
أوّاه «فعال» مأخوذ من حروف «أوه» كلمة يقولها المتوجع، وذلك أن الروح القلبي يختنق عند الحزن في داخل القلب ويشتد حرارته فإذا تكلم صاحبه بها خرج ذلك النفس المختنق فخفف بعض ما به،
وعن النبي ﷺ أنه قال: «الأوّاه الخاشع المتضرع»
والحلم ضد السفه، وصفه تعالى بشدّة الرأفة والشفقة والخوف والوجل فبين أن إبراهيم مع هذه العادة تبرأ من أبيه حين انقطع رجاؤه منه فأنتم بهذا المعنى أولى. ثم إن المسلمين خافوا أن يؤاخذوا بما سلف منهم من الاستغفار للمشركين فأنزل الله ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي عن طريق الجنة أو يحكم عليهم بالضلال أو يخذلهم أو يوقع الضلالة في قلوبهم حين يكون منهم الأمر الذي يستحق به العقاب بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ما يجب عليهم أن يحتزروا عنه. والحاصل أن الله لا يسمي قوما ضلالا بعد إذ سماهم مهديين ما لم يقدموا على شيء مبين خطره، وأما قبل العلم والبيان فلا يؤاخذهم كما لم يؤاخذ بشرب الخمر والربا قبل تحريمهما. وفي الآية تشديد عظيم حيث جعل المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض المحظورات داخلا في حكم الضلال. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ والمراد أن من كان عالما قادرا هكذا لم يحتج إلى أن يفعل العقاب قبل البيان وإزاحة العذر. قالت المعتزلة: وفيه دليل على أنه يقبح من الله الابتداء بالعقاب. وأجيب بأن له ذلك بحكم المالكية غاية ما في الباب أنه لا يعاقب إلا بعد إزاحة العذر عادة، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
539
وَالْأَرْضِ
فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهارا للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال:
وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتم عبيدي.
ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الآية. ولنبن تفسير الآيتين على أسئلة مع جواباتها. فالسؤال الأول: أن قبول التوبة دليل سبق الذنب، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم. والجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأولى. والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي ﷺ بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذلك السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص. ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تعظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب. السؤال الثاني: ما المراد بساعة العسرة؟
فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته.
والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جدا في ذلك السفر، كانوا في عسرة من الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة المنتنة، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:
٨١] وقال أبو مسلم: يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسرة التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠] الثالث: ما معنى كادَ يَزِيغُ وكيف إعرابه؟ والجواب هما استعمالان: كاد زيد يخرج، وكاد يخرج زيد. ومعنى الأول كاد زيد خارجا أي قارب الخروج، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر. وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده، والزيغ الميل عن الجادة قيل:
قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان. وقيل: هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم
540
حبسوا أنفسهم وصبروا وثبتوا وندموا. وقيل: ما كان إلا حديث نفس بلا عزيمة ومع ذلك خافوا أن يكون معصية. الرابع: ذكر التوبة في أول الآية فلم كررها في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ؟ الجواب إن عاد الضمير في عَلَيْهِمْ الى الفريق فلا تكرار، وإن عاد إلى النبي ﷺ والمهاجرين والأنصار جميعا فالتكرير للتوكيد مع رعاية دقيقة هي أن التوبة اكتنفت الذنب من جانبيه، وذلك أنه بدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييبا لقلوبهم ثم ذكر الذنب، ثم أردفه بذكر التوبة ليدل على أن العفو عفو متأكد كما يقول السلطان عند كمال الرضا: عفوت عنك ثم عفوت عنك. وإليه الإشارة
بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة».
وقال ابن عباس في تفسير قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يريد ازداد عنهم رضا. ثم أكد هذه المعاني بقوله إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فيشبه أن يراد بالرأفة إزالة الضرر، وبالرحمة إيصال المنفعة. أو الأوّل رحمة سابقة، والثاني لاحقة. الخامس:
الثلاثة الذين خلفوا من هم؟ الجواب هم المرجون لأمر الله كما مرّ، سمّوا مخلفين كما سموا مرجئين أي مؤخرين عن أبي لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعد أولئك. وقيل:
لأنهم خلفوا عن الغزو ومثله قراءة من قرأ بالتخفيف أي خلفوا الغازين. وقيل: المخلف من خلوف الفم أي فسدوا،
وقرأ جعفر الصادق عليه السلام: خالفوا.
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ مع سعتها وهو مثل للحيرة في الأمر، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور وَظَنُّوا أي علموا وتيقنوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ سخط اللَّهِ إِلَّا إلى استغفاره
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك منك».
وقيل: الظن بمعناه الأصلي وهو الرجحان وذلك أنهم ما كانوا قاطعين بأن ينزل الله في شأنهم قرآنا، وإن سلم أنهم قطعوا بذلك إلا أنهم جوزوا أن تكون المدة قصيرة وجواب «إذا» محذوف والتقدير حتى إذا كان كذا وكذا تاب عليهم، وحسن حذفه لتقدم ذكره.
عن كعب بن مالك قال: لما قفل رسول الله ﷺ سلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما كان ذكرني في الطريق وقال: ليت شعري ما خلف كعبا فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال: معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ونهى عن كلامنا- أيها الثلاثة- فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع- وهو جبل بالمدينة- أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وكنت كما وصفني ربي ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة:
٢٥] وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت الى رسول الله ﷺ فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقال إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي حتى صافحني وقال: لتهنك توبة
541
الله عليك فلن أنساها لطلحة. وقال رسول الله ﷺ وهو يستنير استنارة القمر: أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية.
سئل أبو بكر الورّاق عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. السادس: قد عرفنا فائدة قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ فما فائدة قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا؟ الجواب معناه رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم، أو تاب عليهم في الماضي ليتوبوا في المستقبل إذا فرطت منهم خطيئة علما منهم بأن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة، أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، أو تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة وثوابها لأن الانتفاع بها لا يحصل إلا بعد توبة الله عليهم. وقالت الأشاعرة: المقصود بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى حتى إنه لو لم يتب عليهم لم يتوبوا. وأيضا قالوا: في الآية دلالة على أن قبول التوبة غير واجب عقلا لأن توبة هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر، ثم إنه ﷺ لم يلتفت إليهم وتركهم خمسين يوما. ويمكن أن يجاب بأن شرائط التوبة من الإخلاص والنصح وغير ذلك لعلها لم تكن حاصلة من أوّل الأمر فلهذا تأخر القبول دليله قوله تعالى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ الآية.
ثم حث سبحانه المؤمنين على ملازمة سيرة التقوى والانضمام في زمرة أهل الصدق لا النفاق فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال بعض العلماء: ظاهر الأمر للوجوب فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين لا بمعنى أن يكونوا على طريقهم وسيرتهم، لأن ذلك عدول عن الظاهر بل بمعنى المصاحبة. والكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فلا بد من وجود الصادقين. ثم إنه ثبت بالتواتر من دين محمد ﷺ أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى يوم القيامة فلا يكون هذا الأمر مختصا بالكون مع الرسول وأصحابه في الغزوات بل أعم من ذلك. ثم إن الصادق لا يجوز أن يكون منحصرا في الإمام المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما يقوله الشيعة، لأن كون كل واحد من المؤمنين مع ذلك الصادق بعد تسليم وجوده تكليف بما لا يطاق، فالمراد بالصادقين أهل الحل والعقد في كل حين، والمراد أنهم إذا أجمعوا على شيء كانوا صادقين فيه محقين ويجب على الباقين أن يكونوا معهم ظاهرا وباطنا. وقال أكثر المفسرين: الصادقون هم الذين صدقوا في دين الله وفيما عاهدوا عليه من الطاعة نية وقولا وعملا. وقيل: أي كونوا مع الثلاثة المذكورين في الصدق والثبات. وعن ابن عباس:
الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي وافقوا المهاجرين والأنصار في الصدق، وقيل:
542
الخطاب للذين شدوا أنفسهم على السواري. وفي الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته. ومن خصائص الصدق ما
روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ﷺ وقال: إني أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء كلها ولا طاقة لي بتركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك، فقبل ذلك وشرط له الصدق ثم أسلم. فلما خرج من عند رسول الله ﷺ عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني رسول الله ﷺ عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها، ثم عرض عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله ﷺ وقال: ما أحسن ما فعلت، لما منعتني عن الكذب انسد أبواب المعاصي علي وتبت عن الكل.
ومن فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب، ومن مثالب الكذب أن إبليس مع تمرّده وكفره استنكف منه حتى استثنى في قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: ٨٢]. ثم المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذبا عند المعتزلة وكونه مفضيا إلى المفاسد عند الأشاعرة والله أعلم.
التأويل:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر، وإنه كما اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة. التَّائِبُونَ عما سوى الله الْعابِدُونَ المتوجهون إليه على قدم العبودية الْحامِدُونَ له على ما وفقهم لنعمة طلبه السَّائِحُونَ السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي الرَّاكِعُونَ أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم السَّاجِدُونَ الساقطون على عتبة الوحدة بلاهم الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الحقيقي النَّاهُونَ عما سواه وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره. ما كانَ لِلنَّبِيِّ فيه أن الاجتهاد ليس سببا لنيل المراد، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ الأواه هو المتبرئ من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق. حَلِيمٌ عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا
قال ﷺ لجبرائيل حين سأله ألك حاجة: أما إليك فلا
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ليردّهم بالمكر إلى الاثنينية والبعد بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ من آفات
543
البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول: إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ سموات القلوب وَالْأَرْضِ أرض النفوس يُحْيِي بنور ربوبيته من يشاء وَيُمِيتُ عن صفات بشريته من يشاء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك فإن طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعا لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ التوبة فضل من الله ورحمة، فقدم ذكر النبي ﷺ على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقا لقوله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ عسرة الدنيا وترك شهواتها. أو نقول لَقَدْ تابَ اللَّهُ أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة- عالم الروح- إلى مدينة الجسد وَالْأَنْصارِ من القلب والنفس وصفاتهما الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ أرض البشرية شوقا إلى تلك الحضرة وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ تحننا إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذاب البعد عن الله إلا الفرار إليه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بجذبة العناية، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبدا مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق والله أعلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٩]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
544
القراآت:
مَوْطِئاً ونحوه بالياء: يزيد والشموني وحمزة في الوقف غلظة بفتح الغين: المفضل. الباقون بكسرها. أولا ترون بتاء الخطاب للمؤمنين: حمزة ويعقوب.
الباقون على الغيبة.
الوقوف:
عَنْ نَفْسِهِ ط صالِحٌ ط الْمُحْسِنِينَ هـ لا للعطف يَعْمَلُونَ هـ كَافَّةً ط يَحْذَرُونَ هـ غِلْظَةً ط الْمُتَّقِينَ هـ إِيماناً ط يَسْتَبْشِرُونَ هـ كافِرُونَ هـ يَذَّكَّرُونَ هـ إِلى بَعْضٍ ط لحق المحذوف أي يقولون هل يراكم ثُمَّ انْصَرَفُوا ط لا يَفْقَهُونَ هـ عَزِيزٌ ط، على تأويل عليه شفاعة ما عنتم والصحيح الوصل لأن المعنى شديد عليه ما أثمتم ولا وقف في الآية إلى قوله رحيم حَسْبِيَ اللَّهُ ط والأصح الوصل على جعل الجملة حالا أي يكفي الله غير مشارك في الألوهية إِلَّا هُوَ ط الْعَظِيمِ هـ.
التفسير:
لما أمر بموافقة النبي وأصحابه في جميع الغزوات والمشاهد بقوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [الآية: ١١٩] أكد ذلك المعنى بالنهي عن التخلف عنه فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أي لا يستقيم ولا يجوز لهم. والأعراب الذين كانوا حول المدينة قد ذكرنا- عن ابن عباس- أنهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، وكأنه أراد المعروفين منهم وإلا فاللفظ عام. ومعنى وَلا يَرْغَبُوا ولا أن يرغبوا. يقال: غبت بنفسي عن هذا الأمر أي أبخل بها عليه ولا أتركها له، والمراد أنه لا يصح لهم أن يرغبوا عن صحبة رسول الله ﷺ بسبب صلاح أنفسهم وبقائها بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ويرضوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه لأن نفسه أعز نفس عند الله، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وجب على سائر الأنفس أن لا يضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وفي هذا النهي مع التهييج توبيخ عظيم، ولا يخفى أن الجهاد لا يجب على كل فرد
545
بعينه للإجماع وأن أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى ونحوهم مخصوصون بالعقل وبالنقل فيبقى ما وراء هاتين الصورتين داخلا تحت عموم الآية. ثم ذكر ترغيبا يجري مجرى علة المنع من التخلف فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي الوجوب الدال عليه بقوله: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد بل على جميع الحركات والسكنات مدة الذهاب والإياب. والظمأ شدة العطش، والنصب الإعياء والتعب، والمخمصة المجاعة الشديدة التي تظهر ضمور البطن، والموطئ إما مصدر كالمورد أو مكان وعلى التقديرين الضمير في يَغِيظُ عائد إلى الوطء الصريح أو المقدر. ثم الوطء يجوز أن يكون حقيقة فيراد به الدوس بالأقدام وبحوافر الخيول وبأخفاف الإبل، ويجوز أن يكون مجازا فيراد به الإيقاع والإهلاك. قال ابن الأعرابي:
غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى. ويقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم ويلحق بهم ضررا من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة، والمراد أنهم لا يتصرفون في أرض الكفار تصرفا يغيظهم ويرزؤهم شيئا إلا كتب لهم به عمل صالح. وفيه دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله، وكذا القول في طرف المعصية ولكن بالضد فما أعظم بركة الطاعة وما أشد شؤم المعصية.
وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم. وقال الشافعي: لا يشاركون الغانمين في الغنيمة وإن شاركوهم في الثواب لأن الغنيمة من خواص المحاربين ومن قد تعاطى خطرا.
قال قتادة: هذا الحكم من خواص رسول الله ﷺ إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر.
وقال ابن زيد: هذا حين كان في المسلمين قلة فلما كثروا نسخه الله بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وقال عطية: ما كان لهم التخلف إذا دعاهم الرسول وأمرهم. قال العلماء: وكذلك غيره من الأئمة والولاة إذا عينوا طائفة لأنا لو جوزنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي الى تعطيل الجهاد.
قوله: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً. قال المفسرون: يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سيف أو سوط وما أربى عليها مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم وهذا شائع في استعمال العرب يقولون: لا تصل في وادي غيرك. وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال. والوادي كل منعطف بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل. إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك الإنفاق والقطع أو ذلك العمل الصالح المعهود في الآية المتقدمة. ثم ذكر غاية الكتب فقال: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أي أثبت في صحائفهم
546
لأجل الجزاء جزاء أحسن من أعمالهم وأجل. وقيل: الأحسن من صفة الفعل أي يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح. واعلم أنه سبحانه عدد أشياء بعضها ليس من أعمال المجاهدين وهو الظمأ والنصب والمخمصة، وباقيها من أعمالهم وهي الوطء والنيل والإنفاق وقطع الأرض، وقسم هذا الباقي قسمين فضم شطرا منه إلى ما ليس من أعمالهم تنبيها على أنه في الثواب جار مجرى عملهم ولهذا صرح بذلك فقال: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أي جزاء عمل صالح وأكد ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. ثم أورد الشطر الباقي لغرض آخر وهو الوعد بأحسن الجزاء، واقتصر هاهنا على قوله إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لأن هذا القسم من عملهم فلم يحتج إلى تصريح بذلك، أو اكتفاء بما تقدم، أو لأن الضمير عائد إلى المصدر الدال عليه الفعل والله تعالى أعلم بمراده. ثم قال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ وفيه قولان: أحدهما أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في عيوب المنافقين كان المسلمون إذا بعث رسول الله ﷺ سرية إلى الكفار ينفرون جميعا ويتركونه بالمدينة وحده فنزلت الآية. قاله ابن عباس. والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بأسرهم إلى الجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين إحداهما لملازمة خدمة الرسول والأخرى للنفر إلى الغزو. ثم هاهنا احتمالان لأنه قال محرضا فَلَوْلا نَفَرَ أي هلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فذهب الأكثر إلى أن الضمير في لِيَتَفَقَّهُوا عائد إلى الفرقة الباقية في حضرة الرسول ﷺ لأنهم إذا بقوا في خدمته شاهدوا الوحي والتنزيل وضبطوا ما حدث من الشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقام طائفة ليتفقه المقيمون في الدين وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ النافرين إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ معاصي الله عند ذلك وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين وإلا ضاع أحد الشقين، والاحتمال الآخر ما روي عن الحسن أن الضمير يعود إلى الطائفة النافرة. وتفقههم هو أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم من غير زاد ولا سلاح كيف يغلبون الجم الغفير من الكفار فينتبهون لدقائق صنع الله في إعلاء كلمته. فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بما شاهدوا من دلائل الحق فيحذروا أي يتركوا الكفر والشرك والنفاق. القول الثاني أنه ليس من بقية أحكام الجهاد وإنما هو حكم مستقل بنفسه، ووجه النظم أن الجهاد أمر يتعلق بالسفر وكذلك التفقه، أما في زمن الرسول ﷺ فوجوبه ظاهر لمن ليس بحضرته حتى يصل إليه ويستفيد من خدمته لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كانت تتجدد كل يوم شيئا فشيئا، وأما في زماننا فلا ريب أنه متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب
547
عليه، وإن أمكنه في الحضر فلا شك أن للسفر بركة أخرى يعرفها كل من زاول الأسفار وحاول الأخطار. ومعنى لِيَتَفَقَّهُوا ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا المتاعب في دلائلها التفصيلية. والظاهر أن المراد في الآية أعم من ذلك بحيث يشمل علوم الشرع كلها من التفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه ومقدمات كل من ذلك وغاياتها بحسب الإمكان النوعي أو الشخصي. وفي قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إشارة إلى أن الغرض الأصلي من التعلم هو الإنذار والإرشاد لا ما يقصده علماء السوء من الأغراض الفاسدة كالمطاعم والملابس والمناصب والمفاخر، أعاذنا الله تعالى بفضله من قبح النية وفساد الطوية، وجعلنا ممن لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. القائلون بأن خبر الواحد حجة قالوا:
أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة اثنين أو واحدا. ثم إنه أوجب العمل بأخبارهم بقوله: وَلِيُنْذِرُوا وأجيب بأن إيجاب الإنذار لا يدل على وجوب العمل لأن الشاهد الواحد يلزمه أداء الشهادة وإن لم يلزم القبول ورد بأن قوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إيجاب للعمل بأخبارهم. ثم أرشد سبحانه إلى ترتيب القتال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ أي يقربون منكم مبتدأ من الأقرب ومنتقلا إلى الأبعد.
والقتال واجب مع كافة الكفر بآية القتال، ولكن هذه الآية أخص لأن الغرض منها الترتيب ما لم يدع إلى قتال الأبعد قبل دفع الأقرب ضرورة فلا تكون هذه منسوخة بآية القتال على ما نقل عن الحسن، وإنما وجب الابتداء بالغزو من المواضع القريبة لأن قتال الكل دفعة متعذر وللأقرب ترجيح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات مثلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يبتدأ بالجمع الحاضرين ثم ينتقل الى الغائبين. وأيضا المئونة في قتال الأقربين من النفقة والدواب تكون أقل والقتال معهم يكون أسهل للوقوف على أحوالهم وعدد عسكرهم، والفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة. وقد حارب رسول الله ﷺ قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام.
ويروى أن أعرابيا جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة فقال صلى الله عليه وسلم: كل مما يليك.
فثبت بهذه الوجوه أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب ما لم يضطر الى العدول ضرورة. وقوله وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة نظير قوله:
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: ٩] ومن قرأ بفتح الغين فهو المصدر أيضا كالسخطة وهي لفظة جامعة للجراءة والصبر على القتال ولشدة العداوة والعنف في القتل والأسر، كل ذلك فيما يتصل بالدعوة إلى الدين إما بإقامة الحجة وإما بالسيف، أما فيما يتصل بالبيع
548
والشراء والمجالسة فلا وليكن تقوى الله سبحانه على ذكر منه في موارده ومصادره، ولهذا ختم الآية بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فإن قلته قتله لله وان تركه على الجزية تركه لله وإن كسر عدوه وآل الأمر إلى أخذ الغنيمة راعى فيه حدود الله. ثم حكى بقية فضائح أعمال المنافقين فقال: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أي يقول بعض المنافقين لبعض إنكارا واستهزاء بالمؤمنين المعتقدين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به، أو يقولونه لقوم من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان والمقول أَيُّكُمْ مرفوع بالابتداء وخبره زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. ثم إنه تعالى حكى أنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران: أحدهما ازدياد الإيمان وقد مر معناه في أول سورة الأنفال، والثاني الاستبشار وهو استدعاء البشارة إما بثواب الآخرة وإما بالعزة والنصرة في الدنيا والمراد أنهم يفرحون بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل بها إلى مزيد الثواب. وحصل للمنافقين الذين لهم عقائد فاسدة وأخلاق ذميمة أمران:
أولهما زيادة الرجس لأن تكذيب سورة بعد تكذيب مثلها انضمام كفر إلى كفر أو لأن حصول حسد وغل ونفاق عقيب أمثالها ازدياد ملكة ذميمة غب أخرى، وثانيهما بقاؤهم على تلك العقائد والأعمال إلى أن ماتوا لأن الملكة الراسخة لا تزول إلا إن مات صاحبها، وإسناد زيادة الرجس إلى السورة إسناد حقيقي عند الأشاعرة لأنهم يقولون إنه سبحانه يخلق الكفر والإيمان في العبد فلا يبعد إحداث السورة فيهم الرجس، وإسناد مجازي عند المعتزلة لأنهم يقولون إنهم أحدثوا الرجس من عند أنفسهم حين نزول السورة بدليل أن الآخرين سمعوا السورة وازدادوا إيمانا. والتحقيق فيه أن النفس الطاهرة النقية عن درن الدنيا باستيلاء حب الله والآخرة إذا سمعتها صار سماعها موجبا لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا. وأما النفس الحريصة المتهالكة على لذات الدنيا وطيباتها الغافلة عن حب الآخرة وعشق المولى إذا سمعتها مشتملة على تعريض النفس للقتل والمال للنهب بسبب الجهاد زادت نفرته عنها وإنكاره عليها وكل بقدر. ثم عجب من حال المنافقين فقال: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال ابن عباس: أي يمتحنون بالمرض ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ المؤمن فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي ربه فيزيده ذلك إيمانا وخوفا. وقال مجاهد:
بالقحط والجوع. وقال قتادة: بالغزو أو الجهاد فإن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي، وإن ذهبوا وهم على حالة النفاق عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. وقال مقاتل: كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فيخبره جبرائيل فيوبخهم
549
بذلك ويعظهم فما كانوا يتعظون. ثم ذكر نوعا آخر من مخازيهم فقال وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي سورة مشتملة على ذكرهم أو أعم من ذلك. والنظر نظر الطعن والاستهزاء والازدراء بالوحي قائلين هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم لأن نظر التغامز دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد، أو أرادوا إن كان من ورائكم أحد فلا تخرجوا وإلا فاخرجوا لنتخلص من هذا الإيذاء وسماع الباطل. ثُمَّ انْصَرَفُوا أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن الى الطعن فيه. ومعنى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: منعهم عن كل رشد وخير. وقال الحسن: طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج:
أضلهم الله. قالت الأشاعرة: هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه.
وقالت المعتزلة: هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد. قالوا: ومعنى قوله: لا يَفْقَهُونَ لا يتدبرون حتى يفقهوا. وعند الأشاعرة:
هم قوم جبلوا على ذلك. يحكى عن محمد بن إسحق أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا صرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠]. ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آلف وآنس، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم: كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل: هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف، وتعرفون كونه حريصا على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم. فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرىء مِنْ أَنْفُسِكُمْ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. وتنسب هذه القراءة الى النبي والوصي وأهل البيت عليهم السلام. ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ العزة
550
الغلبة والشدة والعنت المشقة والوقوع في المكروه والإثم. و «ما» مصدرية أي شديد شاق عليه- لكونه بعضا منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدارين فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسعادات فلا تكرار. وقال الفراء: الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار. ثم بين أنه رحمة للعالمين فقال بِالْمُؤْمِنِينَ أي منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال ابن عباس: لم يجمع الله بين اسمين من أسمائه إلا له، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما إحسان وإحمال، وإن كان صعبا مؤلما فاقبلوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين، ثم قال لرسوله فإن لم يقبلوا بل أعرضوا وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وارجع في جميع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فلا يخرج عن قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرش وبما يحويه العرش والله أعلم.
التأويل:
ما كانَ لِأَهْلِ مدينة القالب وهو النفس والهوى والقلب وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الصفات النفسانية والقلبية أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الروح السائر إليه ولا يبذلوا وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ من ماء الشهوات وَلا نَصَبٌ من أنواع المجاهدات وَلا مَخْمَصَةٌ بترك اللذات وحطام الدنيا في طلب الله لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً من مقامات الفناء يَغِيظُ كفار النفس والهوى وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ الشيطان والنفس والدنيا بلاء ومحنة وفقرا وحزنا وغير ذلك من أسباب الفناء إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ من البقاء بالله بقدر الفناء في الله وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً هي بذل الصفات وَلا كَبِيرَةً هي بذل الذات في صفات الله وفي ذاته وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح. أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأن عملهم بقدر معرفتهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق فهمهم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: ١٧] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا في السير إلى الله وبالله وفي الله، فهلا نفر من كل قوم وقبيلة فرقة طائفة هم خواصهم وأهل الاستعداد الكاملون ليتعلموا السلوك ويخبروا بذلك قومهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ من غير الله. قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من كفار النفس والهوى وصفاتها
551
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً عزيمة صادقة في ترك شهواتها وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ أي لموت قلبهم لتزايد ظلمة النفاق كل حين، ثم أخبر عن موت القلب بقوله: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ والفتنة موجبة لانتباه القلب الحي إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:
٣٧] أي قلب حي هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ في مقام الإنكار والنفاق أي هل يرى محمد إنكارنا على رسالته والقرآن، فإن كان رسولا يرانا بنور رسالته ثُمَّ انْصَرَفُوا على هذا الحسبان لأن قلوبهم مصروفة وليس لهم فقه القلب لأن ذلك من أمارات حياة القلب.
مِنْ أَنْفُسِكُمْ تسكين للعوام لئلا يتنفروا عنه وإشارة للخواص إلى أن البشر لهم استعداد الوصول والوصال، فإن لم يكن بالاستقلال فبالمتابعة فاتبعوني يحببكم الله. ومن قرأ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي أشرفكم فلأنه أوّل جوهر خلقه الله تعالى
«أول ما خلق الله تعالى روحي»
ولاختصاصه بالخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين أو أدنى وتحليه بحلية فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: ١٠] ولعلو همته، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] ولرؤيته سر القدر ولَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: ١٨] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فمن رأفته أمر بالرفق كما
قال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق» «١»
ومن رحمته قيل له فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: ١٥٩] وهاهنا نكتة وهي أن رأفته ورحمته لما كانت مخلوقة اختصت بالمؤمنين فقط، وكانت رحمته تعالى ورأفته للناس عامة إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ونكتة أخرى هي أن رحمته ﷺ عامة للعالمين بقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] وأما رحمته المضمومة الى الرأفة فخاصة بالمؤمنين وكأن الرأفة إشارة إلى ظهور أثر الدعوة في حقهم، فالمؤمنون أمة الدعوة والإجابة جميعا وغيرهم أمة الدعوة فقط فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لأن المقصود من التبليغ قد حصل لك وهو وصولك إلى الله أعرضوا عن دعوتك أو أقبلوا والله المستعان.
(١) رواه أحمد في مسنده (٣/ ١٩٩).
552
Icon