ﰡ
المسألة السابعة والأربعون : في القول بأن هاروت وماروت ملكان نزلا من السماء بأمر الله تعالى وكانا يعلمان الناس السحر ابتلاء.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن من الباطل القول بأن الله سبحانه أنزل ملكين هما : هاروت وماروت، يعلمان الناس السحر بأمر الله على وجه الابتلاء ؛ لأن الملائكة لا تنزل إلا بالحق، وتعليم السحر ليس من الحق، بل هو من الباطل.
قال ابن حزم : إن قوما نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به، وإنما هو كذب مفترى، من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما : هاروت وماروت، وأنهما عصيا الله تعالى، وشربا الخمر، وحكما بالزور، وقتلا النفس المحرمة، وزنيا، وعلما زانية اسم الله الأعظم، فطارت به إلى السماء، فمسخت كوكبا وهي الزهرة، وأنهما عذبا في غار بابل، وأنهما يعلمان الناس السحر.. ١
ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد :﴿ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ﴾٢ فقطع الله عز وجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق، وليس شرب الخمر، ولا الزنا، ولا قتل النفس المحرمة، ولا تعليم العواهر أسماءه عز وجل التي يرتفع بها إلى السماء، ولا السحر من الحق، بل كل ذلك من الباطل.
ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل، وإذا لم تنزل به فقط بطل أن تفعله ؛ لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به، وهذا باطل.
وشهد عز وجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما أنظرنا، فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا لنبي بالوحي فقط، وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك قوله تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ﴾٣ فأبطل عز وجل أن يمكن ظهور ملك إلى الناس.
وقال تعالى :﴿ ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ﴾٤ فكذب الله عز وجل كل من قال : إن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق من عند الله عز وجل فقط.
وقال عز وجل :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ﴾٥ الآية.
فرفع الله تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسألة، وقرن عز وجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز وجل فيهما، فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز. وأن من قال ذلك فقد قال حجرا محجورا، أي ممتنعا، وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر، وقد استعظم الله عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس، وسمى هذا الفعل استكبارا وعتوا، وأخبر عز وجل أننا لا نرى الملائكة أبدا إلى يوم القيامة فقط، وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين، فإذ لا شك في هذا كله، فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين، وأن ( ما ) في قوله :﴿ وما أنزل على الملكين ﴾٦ نفي لأن ينزل عليهما، ويكون هاروت وماروت حينئذ بدلا من الشياطين، كأنه قال : ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، ويكون هاروت وماروت قبيلتين من قبائل الجن كانتا تعلمان الناس السحر.
وإما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق، وبعلم ما على أنبياء، فعلماهم الدين، وقالا لهم : لا تكفروا، نهيا عن الكفر بحق، وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما، وبما أتيا به من كفر به، ويهدي بهما من آمن بما أتيا به. قال تعالى عن موسى أنه قال له :﴿ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾٧ وكما قال تعالى :﴿ ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ﴾٨ ثم نسخ ذلك الذي أنزل على الملكين فصار كفرا بعد أن كان إيمانا، كما نسخ تعالى التوراة والإنجيل، فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ.
وبالجملة، فما في الآية نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر، وإنما هو إقحام أقحم في الآية بالكذب والإفك، بل فيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى :﴿ ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل ﴾٩
فصح أن السحر شيء غير الذي أنزل على الملكين، ولا يجوز أن يجعل المعطوف والمعطوف عليه شيئا واحدا إلا ببرهان من نص أو إجماع أو ضرورة، وإلا فلا أصلا.
وأيضا فإن بابل هي الكوفة، وهي بلد معروف بقربها، محدودة معلومة، ليس فيها غار فيه ملك، فصح أنه خرافة موضوعة، إذ لو كان ذلك لما خفي مكانهما على أهل الكوفة١٠. اه
وقد ذهب طائفة من أهل التأويل إلى إنكار هذه القصة، وأنها من الإسرائيليات، منهم: ابن العربي في أحكام القرآن ١/٤٦، وابن عطية في المحرر الوجيز ١/١٨٧، والفخر الرازي في التفسير الكبير ١/٦٣١، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ٢/٥٢، وأبو حيان في البحر المحيط ١/٣٢٩، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم ١/٣٦٠، والبيضاوي في أنوار التنزيل ١/٩٨، والألوسي في روح المعاني ١/٣٤١، والقاسمي في محاسن التأويل ١/٢١٠، وغيرهم..
٢ الحجر (٨)..
٣ الأنعام (٩)..
٤ الأنعام (٨)..
٥ الفرقان (٢١-٢٢)..
٦ البقرة (١٠٢)..
٧ الأعراف ١٥٥..
٨ العنكبوت (١-٢)..
٩ البقرة (١٠٢)..
١٠ الفصل (٤/٦١-٦٤) باختصار..
فيه مسألتان :
المسألة الثامنة والأربعون : في أن السنة محفوظة من الضياع والتحريف والتبديل مثل القرآن الكريم.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة بحفظ الله تعالى من أن يضيع منها شيء، أو يختلط بها ما ليس منها اختلاطا لا يتميز عند أحد من الناس بيقين ؛ ذلك أن كلا من القرآن والسنة وحي، والوحي ذكر، وقد تكفل الله تعالى بحفظ الذكر، فشمل ذلك السنة المطهرة.
قال ابن حزم : والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهما حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما.
قال تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ وقال تعالى :﴿ قل إنما أنذركم بالوحي ﴾١ فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي، والوحي بلا خلاف ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن.
فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء، إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدا...
قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلى وحي يوحى ﴾٢ وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول :{ إن أتبع
إلا ما يوحى إلي }٣ وقال تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾٤ وقال تعالى :﴿ لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾٥
فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا، وضمانه خائسا، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل.
فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا، قال تعالى :﴿ لأنذركم به ومن بلغ ﴾٦
فإن قال قائل : إنما عنى بذلك القرآن وحده، فهو الذي ضمن تعالى حفظه لسائر الوحي الذي ليس قرآنا.
قلنا له – وبالله تعالى التوفيق - : هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان فهو باطل ؛ لقوله تعالى :﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾٧
فصح أن لا برهان له على دعواه، فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن. ٨ اه
المسألة التاسعة والأربعون : في حكم خبر الواحد.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معا ؛ لأن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي، وكل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر، والذكر محفوظ بحفظ الله تعالى من الضياع، أو تحريف شيء منه تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه.
قال ابن حزم : قال أبو سليمان، والحسين بن علي الكرابيسي٩، والحارث بن أسد المحاسبي١٠، وغيرهم : إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معا. وبهذا نقول.
وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خُويزمنداد١١ عن مالك بن أنس وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج : إن خبر الواحد لا يوجب العلم.
ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه، واتفقوا كلهم في هذا، وسوى بعضهم بين المسند والمرسل.
وهذا حين نأخذ – إن شاء الله تعالى – في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم، ولا يجوز فيه ألبتة الكذب ولا الوهم، فنقول – وبالله تعالى التوفيق : قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾١٢ وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾١٣ وقال تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾١٤ وقال تعالى :﴿ لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾١٥
فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه، وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه ؛ إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا، وضمانا خائسا، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا.
قال تعالى :﴿ لأنذركم به ومن بلغ ﴾١٦ فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل ألبتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين ؛ إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ كذبا، ووعدا مخلفا، وهذا لا يقوله مسلم١٧. اه
٢ النجم (٣-٤)..
٣ الأحقاف (٩)..
٤ الحجر (٩)..
٥ النحل ٤٤..
٦ الأنعام (١٩)..
٧ البقرة (١١١)..
٨ الإحكام في أصول الأحكام (المجلد ١/٩٤-٩٥، ١١٤ – ١١٥) باختصار..
٩ أبو علي، كان إماما جليلا، تفقه أولا على مذهب أهل الرأي، ثم تفقه للشافعي، وسمع منه الحديث ومن غيره، تكلم فيه الإمام أحمد لقوله: لفظي بالقرآن مخلوق. وتكلم هو أيضا في الإمام أحمد، فتجنب الناس الأخذ عنه. توفي سنة (٢٤٥ ٩ هـ) انظر: طبقات الشافية الكبرى ٢/١١٧..
١٠ أبو عبد الله، كان عالما بالأصول والمعاملات، ومن أكابر الصوفية، واعظا مبكيا، هجره الإمام أحمد لتكلمه في الكلام، له تصانيف في الزهد، توفي سنة (٢٤٣ هـ). انظر: تاريخ بغداد ٨/٢١١، والأعلام، للزركلي ٢/١٥٣،.
١١ الصحيح: أنه محمد بن أحمد بن عبد الله البصري، المالكي، المعروف بابن خويزمنداد، تفقه بأبي بكر الأبهري، صنف في الخلاف، وأصول الفقه، وأحكام القرآن، وله اختيارات شاذة، توفي سنة (٣٩٠ هـ) انظر: الديباج المذهب ص (٣٦٣)، وشجرة النور الزكية ص (١٠٣)..
١٢ النجم (٣-٤)..
١٣ الأحقاف (٩).
١٤ الحجر (٩)..
١٥ النحل (٤٤)..
١٦ الأنعام (١٩)..
١٧ الإحكام في أصول الأحكام (المجلد ١/١١٢-١١٤) باختصار..
المسألة الخمسون : في الإيمان بوجود الجن.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إلى الإيمان بوجود الجن، وأنهم خلق من خلق الله عز وجل.
قال ابن حزم : وأن الجن حق، وهم خلق من خلق الله عز وجل، فيهم الكافر والمؤمن، يروننا ولا نراهم، يأكلون وينسلون ويموتون.
قال الله تعالى :﴿ يا معشر الجن والإنس ﴾١ وقال تعالى :﴿ والجان خلقناه من قبل من نار السموم ﴾٢
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، وعبد الله بن ربيع، قال أحمد : أخبرنا وهب بن مسرة، نا محمد بن وضاح، نا أبو بكر بن أبي شيبة، وقال عبد الله : نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، نا هناد بن السري، ثم اتفق ابن أبي شيبة وهناد، قالا : نا حفص بن غياث، عن داود الطائي، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تستنجوا بالعظام، ولا بالروث، فإنهما زاد إخوانكم من الجن " ٣ ٤ اه
٢ الحجر (٢٧)..
٣ المحلى (١/٩٦) باختصار..
٤ رجال الإسناد:
أحمد بن محمد بن أحمد، أبو عمر، يعرف بابن الجسور، الأموي، مولى لهم، محدث مكثر، سمع ابن أبي دليم وطائفة، وعنه أبو محمد ابن حزم، مات سنة (٤٠١ هـ) انظر: جذوة المقتبس ص (١٠٧) والصلة ١/٢٩-٣٠، وبغية الملتمس ص (١٥٤).
عبد الله بن ربيع بن عبد الله التميمي، أبو محمد، سكن قرطبة، سمع أبا بكر محمد بن معاوية القرشي، وروى عنه ابن حزم، توفي سنة (٤١٥ هـ) انظر: جذوة المقتبس ص (٢٦١)..
المسألة الحادية والخمسون : في مصير من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ.
ذهب ابن حزم – رحمه الله تعالى – إن أن من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ فهو إلى الجنة ؛ لكونه مات على الفطرة، فاستحق الجنة بإيمانه.
قال ابن حزم : اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم.
فقالت الأزارقة١ من الخوارج : أما أطفال المشركين ففي النار.
وذهبت طائفة إلى أنه يوقد لهم يوم القيامة نار، ويؤمرون باقتحامها، فمن دخلها منهم دخل الجنة، ومن لم يدخلها منهم أدخل النار.
وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم.
وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة، وبه نقول.
قال الله تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ﴾٢ وقال عز وجل :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾ إلى قوله ﴿ لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾ إلى قوله :﴿ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ﴾٣
فنص عز وجل على أنه فطر الناس على الإيمان، وأن الإيمان هو صبغة الله تعالى.
وقال عز وجل :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ﴾٤
فصح أن كل نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم، عقلاء مميزون، فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم، حاشا من بدل هذا العهد، وهذه الفطرة، وهذه الصبغة، وخرج عنها إلى غيرها، ومات على التبديل، وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيروا شيئا من ذلك، فهم أهل الجنة.
وأيضا فإن الله عز وجل أخبر بقول إبليس له تعالى أنه يغوي الناس، فقال تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ﴾٥
فصح أن الغواية داخلة على الإيمان، وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان، وكل مؤمن ففي الجنة. ٦
٢ الروم (٣٠).
٣ البقرة (١٣٦-١٣٨)..
٤ الأعراف (١٧٢)..
٥ الحجر (٤٢)..
٦ الفصل (٤/١٢٧-١٣٥) باختصار..