تفسير سورة البقرة

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة البقرة١
مدنية وآياتها مائتان وست أو سبع وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ٢ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (٥) ﴾ َ
(١) ﴿الم﴾
شرح الكلمات:
﴿الم﴾ : هذه من الحروف المقطعة تكتب الم. وتقرأ هكذا:
ألف لام ميم. والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه، وآخرها القلم ﴿ن﴾ ومنها الأحادية مثل: ﴿ص﴾، و ﴿ق﴾، و ﴿ن﴾، ومنها الثنائية مثل: ﴿طه﴾، و ﴿يس﴾، و ﴿حم﴾، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية، ولم يثبت في تفسيرها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء كونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب، ولذا يقال
١ ورد وصح في فضل سورة البقرة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة" أي: السحرة. وروى الترمذي، وصححه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بعثاً وهم ذوو عدد، وقدَّم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة، وقال له: "اذهب فأنت أميرهم". وروى أيضاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة".
٢ قرأ نافع يؤمنون بتخفيف الهمز ة جمعاً وإفراداً في كامل القرآن، وقرأها حفص مهموزة في كل القرآن.
18
فيها: ألمْ: الله أعلم١ بمراده ذلك.
وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى: أنه لما كان المشركون يمنعون سماع٢ القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حم. طس. ق. كهيعص. وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن، فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة. والثانية: لما أنكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت هذه الحروف بمثابة المتحدي لهم كأنها: أن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾، ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾، كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزوا فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (٢)
شرح الكلمات:
﴿ذَلِكَ﴾ : هذا، وإنما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك. لما تفيده الإشارة بلام البعد٣ من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن.
﴿الْكِتَابُ٤﴾ : القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الناس.
﴿لا رَيْبَ٥﴾ : لاشك أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله.
١ روى عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وعن عامر الشعبي وسفيان الثوري إنهم قالوا: الحروف المقطعة هي سر الله في القرآن ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابهة الذي انفرد الله بعلمه فلا ينبغي أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها.
٢ دليله قوله تعالى من سورة فصلت: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾.
٣ اسم الإشارة هو: (ذا) وهو للقريب ويقال (ذاك) للمتوسط البعد (وذلك) للبعيد.
٤ يطلق لفظ الكتاب على الفرض نحو: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام﴾. أي فرض، وعلى العقد بين العبد وسيده نحو: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾. وعلى القدر، نحو: ﴿كِتَابَ اللهِ﴾، أي قدره وقضاؤه، ويصح في إعراب الكتاب أن يكون بدلاً من اسم الإشارة، ويصح أن يكون خبراً له.
٥ وريب الدهر: صروفه وخطوبه، وأصل الريب: قلق النفس لحديث الصحيح: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريب وإن الصدق طمأنينة".
19
﴿فِيهِ هُدىً١﴾ : دلالة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين.
﴿لِلْمُتَّقِينَ٢﴾ : المتقين أي: عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه
معنى الآية:
يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك، ولا يتطرق إليه احتمال، كونه غير وحي الله وكتابه بحال، وذلك لإعجازه، وما يحمله من هدى ونور لأهل الإيمان والتقوى يهتدون بهما إلى سبيل السلام والسعادة والكمال.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم.
٢- بيان فضيلة التقوى وأهلها.
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون﴾ َ.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.
أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}.
شرح الجمل:
﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ : يصدقون تصديقا جازماً بكل ما هو غيب٣ لا يدرك بالحواس كالرب تبارك وتعالى ذاتاً وصفاتٍ، والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
﴿وَيُقِيمُونَ ٤ الصَّلاةَ ٥﴾ : يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها.
١ الهدي: مصدر هدى، يهدي. وهو مذكر، نحو: هذا هدى هدىً، وهو من أسماء النهار. وهو على وزن السُرى والبكى واللقى، من لقي الشيء، يلقاه لقياً.
٢ المتقي: اسم فاعل من اتقى، الذي أصله وقى إذا حفظ. واتقى بزيادة تاء الافتعال لاتخاذه وقاية تقيه وابدلت واو وقي في اتقى تاء وزيدت فيها همزة وصل وتاء الافتعال فصارت اتقى، أي: طلب الوقاية والحفظ مما يخاف ويكره.
٣ الغيب: مصدر غاب، يغيب، غيباً، إذا لم يظهر فلم يرى للعيان، ومعناه: محصل في الصدور. والإيمان. بالغيب مفتاح كل التقوى وكل خير.
٤ إقام الصلاة جعلها قائمة أي: مؤداه لا تسقط ولا تهمل. نحو: ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ أي: أظهروه بالعمل به والدعوى إليه، والصلاة عمود الدين فمن أقامها أقام الدين ومن أقعدها فلم يقمها فقد ترك الدين وأهمله.
٥ الصلاة اسم جامد وزنها فعلة، ولذا يجمع على صوات بفتح الفاء والعين واللام بمعنى الدعاء، يقال: صلى إذا دعا وهي =
20
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ١ يُنْفِقُونَ﴾ : من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء والمساكين.
﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾
: يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة.
﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ : ويصدقون بما انزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك؛ كالتوراة والإنجيل والزبور.
﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ٢﴾ : وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب هم عالمون متيقنون لا يشكون في شيء من ذلك ولا يرتابون لكامل إيمانهم وعظم اتقائهم.
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ﴾ : الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون٣ من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ : الإشارة إلى أصحاب الهداية٤ الكاملة والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون٥ الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار.
= في الشرع عبادة ذات ركوع وسجود وتلاوة وتسبيح تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم.
١ الرزق هو: كل ما أوجده الله تعالى في الدنيا للإنسان من صنوف الأموال وضروب المأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن، والمراد بالرزق في الآية: المال صامتاً كان أو ناطقاً.
٢ اليقين: اسم فاعل من يقن الأمر وضح وثبت، والمراد به: العلم الحاصل عن نظر وتفكر موجب لعدم الشك واضطراب النفس.
٣ دل على التمكن من الاستقامة حرف: (على) في قولهم: على هدى من ربهم فإن الاستعلاء، إذ الراكب على الفرس متمكن منها يصرفها كيف يشاء لعلوه عليها.
٤ وهم المتقون أصحاب الصفات الخمس التي هي: الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، وإنفاق مما رزقهم الله، والإيمان بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما أنزل على من قبله، والإيمان بالآخرة.
٥ الفلاح: مشتق من فلح الأرض إذا شقها، إذ الفلح الشق والقطع كما قال الشاعر:
إن الحديد بالحديد يفلح. أي يشق ويقطع. ومنه الفلاح، وهو الرجل يشق الأرض بالمحراث، وعليه فالمفلح: من شق طريقه بين صفوف أهل الموقف ودخل الجنة، ويطلق الفلاح على الفوز وهو السلامة من المرهوب، والظفر بالمرغوب، قال الشاعر:
لو كان حي مدرك الفلاح...
أدركه ملاعب الرماح...
أي فاز به.
21
معنى الآيات:
ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث صفات المتقين من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب والإيمان بالدار الآخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية من ربهم، وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
دعوة المؤمنين وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح، ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا في دنياهم وأخراهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كَفَرُوا﴾ : الكفر: لغة التغطية والجحود، وشرعاً: التكذيب١ بالله وبما جاءت به رسله عنه كلاً أو بعضاً.
﴿سَوَاءٌ ٢﴾ : بمعنى مُسْتَوٍ انذارهم وعدمه، إذ لا فائدة منه لحكم الله بعدم هدايتهم.
﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ : الإنذار التخويف بعاقبة الكفر والظلم والفساد.
١وقد يطلق الكفر على جحود النعمة والإحسان، ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يكفرن العشير والإحسان"، لما قال: "رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء". فقيل له: بم يا رسول الله؟. قال: يكفرن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير –أي الزوج- ويكفر الإحسان.
٢ سواء عليهم: هذا خبر إن الذين كفروا. وسواء: اسم مصدر، إذ فعله استوى، والمصدر الاستواء، واسم المصدر سواء، ولذا فهو بمعنى مستو، أي: استوى إنذارهم وعدمه في إنهم لا يؤمنون، وهذا من العام الخاص، إذ ما كل الكافرين لا يؤمنون وإنما من كتبت عليهم الشقوة إذلالاً؛ كأبي لهب وأبي جهل وعقبة والعاصي والنضر وغيرهم.
22
﴿ختم١ الله﴾ : طبع، إذ الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على الظرف حتى لا يعلم ما فيه، ولا يتوصل إليه فيبدل أو يغير.
الغشاوة: الغطاء يغشى به ما يراد منع وصول شيء إليه.
العذاب: الألم يزيل عذوبة الحياة ولذتها. مناسبة الآيتين لما قبلهما ومعناهما:
لما ذكر أهل الإيمان والتقوى والهداية والفلاح ذكر بعدهم أهل الكفر والضلال والخسران، فقال: [إن الذين كفروا] ٢ إلخ. فأخبر بعدم استعدادهم للإيمان حتى استوى إنذارهم٣ وعدمه وذلك لمضي سنة الله فيهم بالطبع على قلوبهم حتى لا تفقه، وعلى آذانهم٤ حتى لا تسمع، ويجعل الغشاوة على أعينهم حتى لا تبصر، وذلك نتيجة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على الكفر. وبذلك استوجبوا العذاب العظيم فحكم به عليهم. وهذا حكم الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار في كل زمان ومكان.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- بيان سنة الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار بأن يحرمهم الله تعالى الهداية، وذلك بتعطيل حواسهم حتى لا ينتفعوا بها فلا يؤمنوا ولا يهتدوا.
٢- التحذير من الإصرار على الكفر والظلم والفساد الموجب للعذاب العظيم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
١ الختم: حقيقته السد على الإناء، والغلق على الكتاب بطين ونحوه، والخاتم: هو ما سد وأغلق به.
٢ قطعت جملة: إن الذين كفروا ولم تعطف على السابق لكمال الانقطاع بينهما وهو التضاد، إذ الأولى في ذكر الهداية والمهتدين، وهذه في ذكر الكفر والكافرين.
٣ قد يقال: ما دام قد علم الله تعالى أن بعضاً لا يؤمنون فلِمَ ينذرون، إذا إنذارهم مع العلم بأنه لا ينفعهم، تكليف بالمحال. والجواب: أن دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكل أحد، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم من كتب الله تعالى عليه الشقاء ممن كتب له السعادة، فلذا هو يدعو وينذر، ومن كان من أهل السعادة أجاب الدعوة، ومن لم يكن من أهلها رفضها ولم يجب.
٤ تقديم السمع على البصر في عدة آيات من القرآن يفيد أن حاسة السمع أنفع من حاسة البصر، وهو كذلك والعقل أعظم.
23
يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) }
شرح الكلمات:
﴿وَمِنَ النَّاسِ١﴾ : من بعض الناس٢.
﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ٣﴾ : صدقنا بالله ربا وإلها لا إله غيره ولا رب سواه.
﴿وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ : صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة.
﴿يُخَادِعُونَ٤ الله﴾ : بإظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر.
﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ٥﴾ : إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم لا على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ : لا يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ : في قلوبهم شك ونفاق وألم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب على أيديهم.
﴿فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً﴾ : شكاً ونفاقاً وألماً وخوفاً حسب سنة الله في أن السيئة لا تعقب إلا سيئة.
﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ : موجع شديد الوقع على النفس. مناسبة الآية لما قبلها وبيان معناها:
لما ذكر تعالى المؤمنين الكاملين في إيمانهم وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر
١ لفظ الناس مشتق من الناس، ينوس إذا تحرك كذا قيل: وهل هو من النسيان، أو الإنس الكل محتمل لأن آدم نسي ولأنه حصل له الأنس بحواء.
٢ ومن الناس: خبر، والمبتدأ من يقول، والسر في تقديم الخبر هنا: هو إخفاء المخبر عنه، لأنه ذو صفات ذميمة، وأفعال شنيعة نحو، قول: ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا بما هو مؤذن بالتعجب من حالهم أيضاً.
٣ أي اعتقدنا على علم إن الله لا إله إلا هو ولا رب سواه، إذ الإيمان: التصديق الجازم بوجود الله تعالى رباً وإلها موصوفاً بالكمال منزهاً عن كل نقصان، والتصديق بكل ما أمر الله تعالى بالإيمان به من الملائكة والكتب، والرسل والبعث والقدر.
٤ وإن قيل: ما وجه مخادعتهم لله تعالى والمؤمنين بإظهارهم الإيمان والإسلام تمويهاً في نظرهم على الله، إذ لم يعرفوا جلاله وكماله، وعلى المؤمنين ظناً منهم إنهم لا يعلمون ما يخفون في نفوسهم من الكفر والعداء. وأما مخادعة الله لهم فهي علمه تعالى بما يبطنون من الكفر والشر وعدم فضيحتهم بذلك، فلم يكشف أسرارهم ولم يذكرهم في وحيه بأسمائهم، ومخادعة المؤمنين لهم هي: علمهم بنفاقهم وعدم مؤاخذتهم ونسبتهم إليه. هذا ولو قلنا: إن صيغة المفاعلة هنا ليست على بابها فهي بمعنى خدع يخدع، وذلك نحو: عاقبت اللص وعالجت المريض فلم نحتج إلى ما ذكرنا. والله أعلم.
٥ قرأ نافع والجمهور: وما يخادعون، بألف بعد الخاء، وقرأ حفص: يخدعون، بسكون الخاء.
منتهاه ذكر المنافقين وهم: المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن، وهم شر من الكافرين البالغين في الكفر أشده.
أخبر تعالى أن فريقاً من الناس وهم المنافقون١ يدَّعون الإيمان بألسنتهم ويضمرون الكفر في قلوبهم يخادعون٢ الله والمؤمنين بهذا النفاق. ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة عليهم. كانوا بذلك خادعين أنفسهم لا غيرهم ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يدرون به.
كما أخبر تعالى أن في قلوبهم مرضا وهو الشك والنفاق والخوف، وأنه زادهم مرضاً عقوبة لهم في الدنيا وتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة بسبب كذبهم وكفرهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
التحذير من الكذب والنفاق والخداع، وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة لا يتولد عنها إلا سيئة مثلها.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) ﴾
شرح الكلمات:
الفساد في الأرض: الكفر وارتكاب المعاصي فيها.
الإصلاح في الأرض: يكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وترك الشرك والمعاصي.
﴿لا يشعرون﴾ : لا يدرون ولا يعلمون.
﴿السفهاء﴾ : جمع سفيه: خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير.
١ المنافق: كل من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، والمذكرون كانوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، إنهم كانوا ثلاث مائة رجل، ومائة وسبعون امرأة، بعضهم من الأوس والخزرج وبعضهم من اليهود ورأس منافقي المشركين عبد الله بن أبي بن سلول، ولم يقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أسلم من أسلم وهلك من هلك إلا ما كان من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أوقد نار الفتنة بالتعاون مع المجوس.
٢ الخدع: أصله الإخفاء والفساد، ومنه مخدع البيت الذي تخفى فيه الأشياء، والخادع والخادع بمعنى واحد: وهو أن يظهر بقوله أو فعله إنه يريد النفع وهو يريد الضر، وهو حرام إلا في الحرب فإنه جائز.
25
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا١ قال لهم أحد المؤمنين لا تفسدوا٢ في الأرض بالنفاق وموالاة اليهود والكافرين ردوا عليه قائلين: إنما نحن٣ مصلحون في زعمهم، فأبطل الله تعالى هذا الزعم وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرضوا بهم من المؤمنين، إلا أنهم لا يعلمون ذلك لاستيلاء الكفر على قلوبهم. كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين صدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل: عبد الله بن سلام. ردوا قائلين: أنؤمن٤ إيمان السفهاء الذين لا رشد لهم ولا بصيرة٥ فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم ونفاه عن المؤمنين الصادقين ووصفهم بالجهل وعدم العلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- ذم الادعاء الكاذب وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين.
٢- الإصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائماً إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد.
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) ﴾
١ أصل الإفساد: جعل منفعة الشيء مضرة؛ كإفساد الطعام ونحو بما يلقى فيه.
٢ إذا: هنا ليست شرطية بل لمطلق الظرفية.
٣ قولهم: إنما نحن مصلحون: لا ذم فيه، وإنما جاءه الذم من كونهم مفسدين وادعوا إنه مصلحون.
٤ الاستفهام هنا: إنكاري، أي: إذا دعوا إلى الإيمان أنكروا دعوة من دعاهم طاعنين في إيمان المؤمنين، إذ نسبوهم إلى السفه، وهو خفة العقل، وقلة إدراك الأمور مبادئ وعواقب.
٥ أي: بقوله: ألا إنهم هم السفهاء، فبرأ المؤمنين من هذا العيب ووصم به المنافقين، وهم أهله حقاً، فإنه لا سفه أكبر من الكفر بالحق والإيمان بالباطل.
26
شرح الكلمات:
﴿لَقُوا ١﴾ : اللقاء: والملاقاة: المواجهة وجهاً لوجه.
﴿آمَنُوا﴾ : الإيمان الشرعي: التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول الله عن الله، وأهله هم المؤمنون بحق.
﴿خَلَوْا﴾ : الخلو بالشيء٢: الانفراد به.
﴿شَيَاطِينِهِمْ٣﴾ : الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ولا يصلح من إنسان أو جان، والمراد بهم هنا رؤساؤهم في الشر والفساد.
﴿مُسْتَهْزِئُونَ٤﴾ : الاستهزاء: الاستخفاف والاستسخار بالمرء.
الطغيان: مجاوزة الحد في الأمر والإسراف فيه.
العَمَه٥: للقلب؛ كالعمى للبصر: عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة والضلال.
﴿اشْتَرَوُا٦﴾ : استبدلوا بالهدى الضلالة، أي: تركوا الإيمان وأخذوا الكفر.
﴿تِجَارَتُهُمْ﴾ : التجارة: دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه، والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنى في الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذُلوا وعُذبوا وافتقروا بكفرهم.
المهتدي: السالك سبيلاً قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء، والضال خلاف المهتدي: وهو السالك سبيلاً غير قاصدة فلا تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول.
١ أصل لقوا: لقيوا نقلت الضمة إلى القاف، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، إذ فعله لقي كرضي.
٢ عدي فعل خلوا ب إلى ولم يعد بالباء، إذ يقال خلا بكذا؛ لأن خلو هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا.
٣ فسر بعضهم الشياطين بالكهان وبشياطين الجن، والصحيح إنهم رؤساؤهم في الكفر والشر والفساد من منافقي اليهود وغيرهم.
٤ أي: مكذبون بما ندعي إليه ساخرون من أهله.
٥ العمه: انطماس البصيرة والتحير في الرأي وفعله، عمه فهو عامه وأعمه.
٦ الاشتراء: افتعال من شرى يشتري بمعنى: باع. إذ فعل شرى يكون بمعنى باع وبمعنى اشترى، فاشترى كابتاع كلاهما مطاوع فعله شرى أو باع، إذ كل من البائع والمشتري أخذ شيئاً وأعطى آخر.
27
معنى الآيات:
ما زالت الآيات تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى (١٤) أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما جاء به من الدين، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم عما ادّعوه من الإيمان، قالوا لهم: إنا معكم على دينكم وما آمنا أبداً. وإنما أظهرنا الإيمان استهزاء وسخرية بمحمد وأصحابه.
كما أخبر في الآية الثانية (١٥) أنه تعالى يستهزئ بهم معاملة لهم بالمثل جزاء وفاقاً ويزيدهم١ حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم لتزداد حيرتهم واضطراب نفوسهم وضلال عقولهم. كما أخبر في الآية (١٦) أن أولئك البعداء في الضلال قد استبدلوا الإيمان بالكفر والإخلاص بالنفاق، فلذلك لا تربح تجارتهم٢ ولا يهتدون إلى سبيل ربح أو نُجح محال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملاقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه آخر وفي الحديث: "شراركم ذو الوجهين"٣.
٢- إن من الناس٤ شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي٥، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
٣- بيان نقم الله، وإنزالها بأعدائه عز وجل.
١ تفسير لقوله تعالى: ويمدهم، إذ المد بالزيادة، يقال: مده بكذا، إذا زاده، وقيل: يستعمل أمد في الخير، نحو: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ ويستعمل مد في الشر، كما في هذه الآية: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
٢ إسناد الربح إلى التجارة لكونها سبباً للربح، وإلا فالربح للتاجر لا للتجارة، وهذا الاستعمال في اللغة نحو قول الشاعر:
نهارك هائم وليلك نائم كذلك في الدنيا تعيش البهائم
إذ أسند الهيام إلى النهار، والنوم إلى الليل.
٣ روى البخاري ومسلم، والشاهد في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
٤ شياطين الإنس كشياطين الجن، إذ كل من بعد في الشر وتوغل فيه وأصبح لا يروم الخير ولا يحبه فهو شطان يستعاذ بالله منه.
٥ المعاصي: جمع معصية، وهو ترك ما أوجب الله ورسوله القيام أو فعل ما حرم الله ورسوله فعله، سواء في ذلك الاعتقاد، والقول، والعمل إذا الواجبات والمنهيات تكون في الاعتقاد والقول والعمل.
28
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿مَثَلُهُمْ ١﴾ : صفتهم٢ وحالهم.
﴿اسْتَوْقَدَ﴾ : أوقد ناراً.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ : لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون.
الصيب: المطر.
الظلمات: ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر.
الرعد: الصوت القاصف يُسمع٣ حال تراكم السحاب ونزول المطر.
البرق: ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر.
﴿الصَّوَاعِقِ﴾ : جمع صاعقة: نار هائلة تنزل أثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء.
١ القول السائر: مثل: أحشفا وسوء كيله؟ والصيف ضيعت اللبن
ويعرف المثل بأنه قول شبه مضر به بمورده ومضر به في الحال المشبه ومورده هو الحال المشبه بها.
٢ قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ﴾ الآيات: تضمن مثلين: نارياً: وهو المثل الأول. ومائياً: هو المثل الثاني، والمثلان وقعان من السياق الأول موقع البيان والتقرير، والفذلكة، ولذا لم تعطف جملة مثلهم لكمال الاتصال بينها وبين الجمل السابقة.
٣ ظاهرة الرعد والبرق يفسرها علماء الطبيعة؛ بأنه نتيجة اتحاد كهرباء السحاب الموجبة بالسالبة.
29
﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ : توقيا للموت.
﴿مُحِيطٌ﴾ : المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته.
﴿يَكَادُ﴾ : يقرب.
﴿يَخْطَفُ﴾ : يأخذه بسرعة.
﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾ : جمع بصر وهو العين المبصرة. معنى الآيات:
مثل١ هؤلاء المنافقين فيما يظهرون من الإيمان مع ما هم مبطنون من الكفر كمثل٢ من أوقد ناراً للاستضاءة بها فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم٣ وتركهم في ظلمات لا يبصرون. لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي، وبما يضمرون من الكفر إذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شيء حتى أنفسهم. هذا المثل تضمنته الآية الأولى (١٧)، وأما الآية الثاني (١٨) فهي إخبار عن أولئك٤ المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به، ولا أعينهم تبصر آثاره، وذلك لتوغلهم في الفساد. فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان بحال من الأحوال. وأما الآية الثالثة والرابعة (١٩) (٢٠) فهما تتضمنان مثلاً آخر لهؤلاء المنافقين. وصورة المثل العجيبة والمنطقية على حالهم هي مطر٥
١ المثل: متحرك الوسط، الأصل فيه أنه النظير والمشابه وفيه لغات وهي: المثل بكسر الميم، والمثيل بفتح الميم وكسر المثلثة وإشباعها. ونظير المثل الشبه والبديل، ففي كل واحد ثلاث لغات ولانظير لها في اللغة، يقال: شبه وشبه وشبيه وبَدَل وبدْل وبديل.
٢ قوله: ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾. مفرد وقوله: ﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ﴾. جمع، فهل الذي هنا بمعنى: الذين على حد قول القائل:
وإن الذي حانت دمائهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
من الجائز أن يكون الذي بمعنى الذين لوروده في فصيح اللغة، وهو من باب الالتفات لا غير.
٣ عدل عن لفظ. ذهب الله بنارهم. إلى قوله: نورهم. إشارة إلى أن الإسلام نور يهدي لا نار تحرق.
٤ يرى ابن كثير أن هؤلاء المنافقين كانوا قد آمنوا ثم بعد إيمانهم كفروا في الباطن مظهرين الإيمان في الظاهر، ويرى ابن جرير خلاف ذلك، وهو: ما آمنوا ثم كفروا، وإنما آمنوا في الظاهر لا غير، واحتج عليه ابن كثير بقول الله تعالى في سورة المنافقين: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ الآيات.
٥ هو الصيب في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾، وأصل صيب: صيوب قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء، نظيره: سيد وميت؛ لأن الفعل ساد يسود، ومات يموت، فسيد أصلها يسود، وميت أصلها ميوت وقلبت الواو ياء وأدغمت واو في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ هي بمعنى الواو.
30
غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف، وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا، ولم يحذروا مفراً ولا مهرباً لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه، وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. هذه حال أولئك المنافقين، والقرآن ينزل بذكر الكفر، وهو: ظلمات، وبذكر الوعيد، وهو: كالصواعق والرعد، وبالحجج والبينات، وهي: كالبرق في قوة الإضاءة، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وإزاحة الستار عنهم فيؤخذوا، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر. وإذا نزل بآية فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل؛ لأنهم لذلك أهل وهو على كل شيء قدير١.
هداية الآيات
من هداية الآيات ما يلي:
١- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٢- خيبة سعي أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم.
٣- القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر.
٤- شر الكفار المنافقون.
{يَا أَيُّهَا٢ النَّاسُ اعْبُدُوا٣ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
١ القدير، والقادر، والمقتدر، بمعنى: واحد، إلا أن القدير أبلغ لأنه من أمثلة المبالغة، وقدرة الله تتعلق بالممكنات القابلة بالوجود والعدم، فلا يقولن قائل: هل يقدر الله على خلق ذات كذاته سبحانه وتعالى؟.
٢ ياء: حرف نداء للبعيد وينادى بها القريب تعظيماً له نحو: يا الله، يا رب، وهو تعالى أقرب من حبل الوريد. أي: صلة للتوصل بها لنداء ما فيه أل نحو: أيها الناس. ها: حرف تنبيه أقحمت بين (أي) والمنادى.
٣ أصل العبادة: الخضوع والتذلل، مشتق من قولهم: طريق معبد إذا كان موطوءا بالأقدام، وهي في الشرع طاعة الله ورسوله بالإيمان وفعل الأمر واجتناب النهي مع غاية الحب والتعظيم لهما والتذلل وحده.
31
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ١ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ٢ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً٣ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) }
شرح الكلمات:
﴿النَّاسُ﴾ : لفظ جمع لا مفرد له من لفظه، واحده إنسان.
﴿اعْبُدُوا﴾ : أطيعوا بالإيمان والامتثال للأمر والنهي مع غاية الحب لله والتعظيم.
﴿رَبَّكُمُ﴾ : خالقكم ومالك أمركم وإلهكم الحق.
﴿خَلَقَكُمْ﴾ : أوجدكم من العدم بتقدير عظيم
﴿تَتَّقُونَ﴾ : تتخذون وقاية تحفظكم من عذاب الله، وذلك بالإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصي.
﴿فِرَاشاً﴾ : وطاء للجلوس عليها والنوم فوقها.
﴿بِنَاءً﴾ : مبنية؛ كقبة فوقكم.
﴿الثَّمَرَاتِ﴾ : جمع ثمرة٤ وهو ما تخرجه الأرض من حبوب وخضر وتخرجه الأشجار من فواكه.
﴿رِزْقاً لَكُمْ﴾ : قوتاً لكم تقتاتون به فتحفظ حياتكم إلى أجلها.
١ لعل: هنا على بابها، وهو الترجي والتوقع ولكن بالنظر إلى الناس لا إلى الله تعالى، فالناس هم الذين يرجون حصول النجاة لهم؟ ويتوقعون بعبادتهم لربهم تعالى، وقد تكون لعل، بمعنى: كي، التعليلة أي: اعبدوا ربكم كي تدفعوا عذابه، ويشهد له قول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
إذ المعنى: كفوا. لنكف.
٢ جعل هنا: بمعنى: صير؛ لأنه ناصب لمفعولين الأرض فراشاً، ويكون فعل جعل بمعنى: خلق، نحو: ما جعل الله من بحيرة.
٣ وتجمع الثمرة على ثمر كشجر، وثمر كخشب.
٤ أنداداً: جمع ند بكسر النون، بمعنى الكفء والمثيل، والمراد به هنا: الشريك لله في عبادته، وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح وقد سأله ابن مسعود عن أعظم الذنب: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للذي قال: ما شاء الله وشئت. "أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده". رواه النسائي وغيره. والند بفتح النون عود يتطيب به، وند البعير إذا هرب وفر، وندت بفلان شهره وسمع به.
32
أنداداً: جمع ندّ: النظير والمثيل تعبدونه دون الله أو مع الله تضادون به الرب تبارك وتعالى.
المناسبة ومعنى الآيتين:
وجه المناسبة: أنه تعالى لما ذكر المؤمنين المفلحين والكافرين الخاسرين ذكر المنافقين وهم بين المؤمنين الصادقين والكافرين الخاسرين، ثم على طريقة الالتفات نادى الجميع بعنوان الناس ليكون نداء عاماً للبشرية جمعاء في كل مكان وزمان وأمرهم بعبادته ليقوا أنفسهم من الخسران. معرفاً لهم نفسه ليعرفوه بصفات الجلال والكمال فيكون ذلك أدعى لاستجابتهم له فيعبدونه عبادة تنجيهم من عذابه وتكسبهم رضاه وجنته، وختم نداءه لهم بتنبيههم عن اتخاذ شركاء له يعبدونهم معه مع علمهم١ أنهم لا يستحقون العبادة لعجزهم عن نفعهم أو ضرهم.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- وجوب عبادة الله تعالى، إذ هي٢ علة الحياة كلها.
٢- وجوب معرفة٣ الله تعالى بأسمائه وصفاته.
٣- تحريم الشرك صغيره وكبيره ظاهره وخفيه.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا٤ شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
١ أثبت لهم العلم الخاص بهم، وهو علمهم بأن الله هو الخالق الرازق المحي المميت. إذا كانوا يعلمون ذلك ويعترفون به كما أنه لما عرفهم بنفسه في السياق إذ قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ إلخ. فلما عرفوا نهاهم عن اتخاذهم أنداداً له يعبدونهم معه، والحال إنهم يعلمون أنه وحده المستحق للعبادة.
٢ لما روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "يقول الله تعالى: "يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي"، أي لعبادته تعالى، وفي القرآن الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾.
٣ إذ معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته يتوقف عليها خشيته ومحبته لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب عقلا وشرعاً.
٤ أي ادعوهم لأمرين: الأول: ليعينوكم على الإتيان بالمطلوب. والثاني: ليحضروا إتيانكم ويشاهدوه فيشهدون لكم بذلك.
33
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) }
شرح الكلمات:
الريب: الشك مع اضطراب النفس وقلقها.
﴿عَبْدِنَا ١﴾ : محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿مِّنْ مِثْلِهِ﴾ : مثل القرآن ومثل محمد في أميته.
﴿شُهَدَاءَكُمْ﴾ : أنصاركم. وآلهتكم التي تدعون أنها تشهد لكم عند الله وتشفع.
﴿وَقُودُهَا﴾ : ما تتقد به وتشتعل وهو: الكفار والأصنام المعبودة مع الله عز وجل.
﴿أُعِدَّتْ﴾ : هيئت وأحضرت.
﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ : الجاحدين لحق الله تعالى في العبادة له وحده المكذبين برسوله وشرعه.
مناسبة الآية ومعناها:
لما قرر تعالى في الآية السابقة أصل الدين وهو: التوحيد الذي هو عبادة الله تعالى وحده قرر في هذه الآية أصل الدين الثاني وهو: نبوة رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك من طريق برهاني وهو: إن كنتم في شك من القرآن الذي أنزلناه على عبدنا رسولنا محمد فأتوا بسورة من مثل سوره أو من رجل أمي مثل عبدنا في أميته، فإن لم تأتوا لعجزكم فقوا أنفسكم من النار بالإيمان بالوحي الإلهي وعبادة الله تعالى بما شرع فيه.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- تقرير نبوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإثبات نزول القرآن عليه.
٢- تأكد عجز البشر عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن الكريم لمرور ألف سنة وأربعمائة
١ اسم العبد مأخوذ من التعبد والتذلل: لأن المملوك يذلله مالكه بالخدمة ويعبده بكثرة استخدامه. ولما كانت عبادة الله أشرف الخصال كان التسمية بها أشرف الأسماء، فلذا سمى الله تعالى رسوله محمداً عبداً كما في هذه الآية وآية الإسراء وأنشدوا لهذا قول الشاعر:
يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها...
لأنه أشرف أسمائي
وست سنين والتحدي قائم ولم يأتوا بسورة مثل سور القرآن، لقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾.
٣- النار تتقى بالإيمان والعمل الصالح، وفي الحديث الصحيح: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" ١.
﴿وَبَشِّرِ٢ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَبَشِّرِ ٣﴾ : التبشير: الإخبار السار، وذلك يكون بالمحبوب للنفس.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ : تجري الأنهار من خلال أشجارها وقصورها والأنهار هي: أنهار الماء وأنهار اللبن وأنهار الخمر وأنهار العسل٤.
﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ : أعطوا الثمار وقُدم لهم يشبه بعضه بعضاً في اللون مختلف في الطعم.
﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ : من دم الحيض٥ والنفاس وسائر المعائب والنقائص.
﴿خَالِدُونَ﴾ : باقون فيها لا يخرجون منها أبداً.
المناسبة والمعنى:
لما ذكر تعالى النار وأهلها ناسب أن يذكر الجنة وأهلها ليتم الترهيب والترغيب وهما أداة الهداية والإصلاح.
في هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى رسوله أن يبشر المؤمنين المستقيمين بما رزقهم من جنات تجري من تحتها الأنهار٦ لهم فيها أزواج مطهرات نقيات من كل أذى وقذر وهم فيها
١ رواه البخاري.
٢ هذا من باب ذكر الترغيب بعد الترهيب وعطفه عليه، فقد أنذر الكافرين وواعد المؤمنين ليكون ذلك مثبطاً عن الأعمال الفاسدة منشطاً على الأعمال الصالحة.
٣ ويطلق لفظ التبشير على الخبر المحزن غير السار تهكماً بصاحبه نحو قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
٤ المذكورة في آية سورة القتال.
٥ وكذا البول والغائط.
٦ أي من تحت أشجارها، وإن لم يجر للأشجار ذكر؛ لأن الجنات دالة عليها.
خالدون. كما أخبر عنهم بأنهم إذا قُدم لهم أنواع الثمار المختلفة قالوا هذا الذي رزقنا مثله في الدنيا. كما أخبر تعالى أنهم أوتوه متشابهاً في اللون غير متشابه في الطعم زيادة في حسنه وكماله. وعظيم الالتذاذ به.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- فضل الإيمان والعمل الصالح إذ بهما١ كان النعيم المذكور في الآية لأصحابهما.
٢- تشويق المؤمنين إلى دار السلام٢، وما فيها من نعيم مقيم ليزدادوا رغبة فيها وعملاً لها. بفعل الخيرات وترك المنكرات.
﴿إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لا يستحيي٣﴾ : لا يمنعه الحياء٤ من ضرب الأمثال، وإن صغرت؛ كالبعوضة، أو أصغر منها؛ كجناحها.
١ بعد فضل الله تعالى ورحمته.
٢ سميت دار السلام: لسلامتها من وجود المنغصات فيها، إذ لا مرض ولا هرم ولا ألم ولا تعب بها أبداً.
٣ لا يستحيي: بياءين، ويتسحي: بياء واحدة، هما قراءتان سبعيتان، والآخيرة على لغة تميم، واسم الفاعل من الأولى مستحي، ومن الثانية، مستح.
٤ الحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان عند الخوف مما يعاب به أو يذمه، والله يوصف بالحياء على الوجه اللائق به، فصفة الحياء عنده تعالى لا تشبه صفات المحدثين كسائر صفاته سبحانه وتعالى، والاستحياء والحياء بمعنى واحد، وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي، يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله حيي كريم يستحي أن يرفع العبد إليه العبد يديه فيردهما صفرا"، فقد أثبت صفة الحياء لله عز وجل، وهو قطعاً حياء واستحياء لا يشبه حياء، واستحياء البشر بحال من الأحوال.
36
﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ : أن يجعل شيئاً مثلاً لآخر يكشف عن صفته وحاله في القبح أو الحسن.
﴿مَا بَعُوضَةً﴾ : ما: نكرة بمعنى: شيء. أي شيء كان يجعله مثلاً، أو زائدة. وبعوضة المفعول الثاني. والبعوضة: واحدة البعوض، وهو صغار البق.
﴿الْحَقُّ﴾ : الواجب الثبوت الذي يحيل العقل عدم وجوده.
﴿الْفَاسِقِينَ﴾ : الفسق الخروج عن الطاعة، والفاسقون: هم التاركون لأمر الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح، وبترك الشرك والمعاصي.
﴿يَنْقُضُونَ﴾ : النقض: الحل بعد الإبرام.
﴿عَهْدَ اللهِ﴾ : ما عهد به إلى الناس من الإيمان والطاعة له ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ : من بعد إبرامه وتوثيقه بالحلف أو الإشهاد عليه.
﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ : من إدامة الإيمان والتوحيد والطاعة وصلة الأرحام.
﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ : الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي.
﴿الْخَاسِرُونَ﴾ : الكاملون في الخسران بحيث يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
سبب النزول والمعاني:
لما ضرب الله تعالى المثلين السابقين الناري والمائي١ قال المنافقون: الله أعلى وأجل أن يضرب هذا المثل. فأنزل الله تعالى رداً عليهم قوله ﴿إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي﴾ الآية.
فأخبر تعالى أنه لا يمنعه الاستحياء أن يجعل مثلاً بعوضة٢ فما دونها٣ فضلاً عما هو أكبر٤. وإن الناس حيال ما يضرب الله من أمثال، قسمان: مؤمنون: فيعلمون أنه الحق من ربهم. وكافرون: فينكرونها، ويقولون؛ كالمعترضين: ماذا أراد الله بهذا مثلاً!؟.
كما أخبر تعالى أن ما يضرب من مثل يهدي به كثيراً من الناس ويضل به كثيراً، وأنه لا يضل به إلا الفاسقين الذين وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
١ أورده ابن جرير وارتضاه.
٢ في قوله: ما بعوضة إعرابات كثيرة لا طائل تحتها فنصب بعوضة على إنها بدل من ما النكرة التي هي في محل نصب فعل يضرب بمعنى يجعل. ورفع بعوضة على إنها خبر، والمبتدأ هو: ما على إنها موصولة والتقدير: الذي هو بعوضة.
٣ كالذرة.
٤ كالفراشة والجرادة.
37
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}. وحكم عليهم بالخسران التام يوم القيامة فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين ما يلي:
١- أن الحياء لا ينبغي أن يمنع فعل المعروف وقوله والأمر به.
٢- يستحسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٣- إذا أنزل الله خبراً من هدى وغيره، يزداد به المؤمنون هدى وخيراً، ويزداد به الكافرون ضلالاً وشراً، وذلك لاستعداد الفريقين النفسي المختلف١.
٤- التحذير من الفسق٢ وما يستتبعه من نقض العهد، وقطع الخير، ومنع المعروف.
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كَيْفَ ٣ تَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾ : الاستفهام هنا للتعجب مع التقريع والتوبيخ، لعدم وجود مقتض للكفر.
﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ : هذا برهان على بطلان كفرهم، إذ كيف يكفر العبد ربه وهو الذي خلقه بعد أن لم يك شيئاً.
١ إذا المؤمنين مستعدون للخير والكافرون مستعدون للشر.
٢ الفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله، فإن كان الخروج على الطاعة في أصول الدين فصاحبه كافر، وإن كان في الفروع فلا يكفر صاحبه، ولا يقال: الفاسق إلا للذي أكثر من الفسق فأصبح الفسق لازماً له لا ينفك عنه لكثرته منه وتوغله فيه.
٣ اسم استفهام مبني على الفتح يسأل به عن الحال ويضمن معنى التعجب كما هنا، إذ كيف يصح من العاقل أن ينكر خالقه وهو يعرف أنه مخلوق إذ كان عدماً فأوجده.
38
﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ : إن إماتة الحي وإحياء الميت كلاهما دال على وجود الرب تعالى وقدرته.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ : يريد بعد الحياة الثانية وهو البعث الآخر.
﴿خَلَقَ لَكُمْ ١ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ : أي أوجد ما أوجده من خيرات الأرض كل ذلك لأجلكم كي تنتفعوا به في حياتكم.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى ٢ إِلَى السَّمَاءِ﴾ : علا وارتفع قهراً لها فكونها سبع سماوات.
﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ أتم خلقهن سبع سماوات تامات.
﴿وَهُوَ ٣ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ : إخبار بإحاطة علمه تعالى بكل شيء، وتدليل على قدرته وعلمه ووجوب عبادته.
معنى الآيتين:
ما زال الخطاب مع الكافرين الذين سبق وصفهم بأخس الصفات وأسوأ الأحوال، حيث قال لهم على طريقة الالتفات موبخاً مقرعاً: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ الآية.
وذكر من أدلة وجوده وكرمه. ما يصبح الكفر به من أقبح الأمور وصاحبه من أحط الخلائق وأسوأهم حالاً ومآلاً. فمن أدلة وجوده الإحياء بعد الموت والإماتة بعد الإحياء. ومن أدلة كرمه وقدرته أن خلق الناس في الأرض جميعاً لتوقف حياتهم عليه وخلق السموات السبع، وهو مع ذلك كله محيط بكل شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- إنكار الكفر بالله تعالى.
٢- إقامة البرهان على وجود الله وقدرته ورحمته.
١ لحديث: " يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي: أي: من أجل أن تذكرني وتشكرني" فعلة الحياة ذكر الله تعالى وشكره.
٢ ذهب ابن كثير إلى أن استوى هنا مضمن معنى قصد لتعديته بإلى: إذ يقال استوى على كذا، إذا كان بمعنى العلو والارتفاع، واستوى إلى كذا، إذا قصده، ويكون المعنى: ثم قصد إلى السماء، أي السموات فخلقهن سبع سموات، ولفظ: السماء اسم جنس تحته أفراد لذا قال: فسواهن بالجمع.
٣ قرئ في السبع بفتح الهاء: من فهو، وقرئ بإسكانها وهذا عام في كل لفظ، إذا تقدمه واو أو فاء عطف. أدخلت عليه اللام نحو: وهو كذا وهذا التسكين للتخفيف.
39
٣- حلّية كل١ ما في الأرض من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب إلا ما حرمه الدليل الخاص من الكتاب أو السنة لقوله: ﴿خَلَقَ٢ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾.
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا٣ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ : جمع ملاك ويخفف فيقال ملك، وهم خلق من عالم الغيب أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تعالى خلقهم من نور٤.
﴿الخليفة٥﴾ : من يخلف غيره، والمراد به هنا آدم عليه السلام.
﴿يُفْسِدُ فِيهَا﴾ : الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي.
﴿وَيَسْفِكُ ٦﴾ : يسيل الدماء بالقتل والجرح.
﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ : نقول سبحان الله وبحمده. والتسبيح: التنزيه عما لا يليق بالله تعالى.
﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ : فننزهك عما لا يليق بك. والتقديس: التطهير والبعد عما لا ينبغي. واللام في لك زائدة لتقوية المعنى إذ فعل قدس يتعدى بنفسه يقال قدّسَه.
١ ذهب بعضهم إلى أن الأصل في الأشياء الحظر حتى يأتي دليل الإباحة؛ لأن المملوكات لا تحل إلا بإذن مالكها، فهذا مذهب ثان، حسن ذكره.
٢ أي خلق لكم ما في الأرض جميعاً من أجل تتقوا به على طاعته لا على معصيته.
٣ المفروض أن يقترن: (قالوا) بالفاء ولكن نظراً إلى أسلوب الحوار لم يقترن بها كما في قوله: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾.
٤ خلق الملائكة من النور، صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم.
٥ استدل بهذه الآية على وجوب نصب خليفة للمسلمين يحكمهم بشريعة ربهم عز وجل.
٦ السفك: الصب: يقال: سفك الدم إذا صبه، كما يقال: سفحه. والسفاك والسفاح بمعنى إلا أن السفاح قد يراد به كثير الكلام، وسفك الدمع كذلك، والدم المسفوح، المصبوب.
40
معنى الآية:
يأمر تعالى رسوله أن يذكر قوله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة يخلفه في إجراء أحكامه في الأرض، وإن الملائكة تساءلت١ متخوفة من أن يكون هذا الخليفة ممن يسفك الدماء ويفسد في الأرض بالكفر والمعاصي قياساً على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه. فأعلمهم ربهم أنه يعلم من الحكم والمصالح ما لا يعلمون.
والمراد من هذا التذكير: المزيد من ذكر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة للإيمان به تعالى ولعبادته دون غيره.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- سؤال من لا يعلم غيره ممن يعلم.
٢- عدم انتهار السائل وإجابته أو صرفه بلطف.
٣- معرفة بدء الخلق.
٤- شرف آدم وفضله.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) ﴾
١ إذ هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، وليس هو من باب الاعتراض على الله أبداً.
41
شرح الكلمات:
﴿آدَمَ ١﴾ : نبي الله أبو البشر عليه السلام.
﴿الأَسْمَاءَ﴾ أسماء الأجناس كلها؛ كالماء والنبات والحيوان والإنسان.
﴿عَرَضَهُمْ﴾ : عرض المسميات أمامهم، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم، وإلا لقال عرضها.
﴿أَنْبِئُونِي﴾ : أخبروني.
﴿هَؤُلاءِ﴾ : المعرضين عليهم من سائر المخلوقات.
﴿سُبْحَانَكَ٢﴾ : تنزيهاً لك وتقديساً.
﴿غَيْبَ السَّمَاوَاتِ﴾ : ما غاب عن الأنظار في السموات والأرض.
﴿تُبْدُونَ﴾ تظهرون من قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ الآية.
﴿تَكْتُمُونَ﴾ : تبطنون وتخفون، يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى وعدم طاعته.
﴿الْحَكِيمُ ٣﴾ : الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، ولا يفعل ولا يترك إلا لحكمة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى في معرض مظاهر قدرته وعلمه وحكمته الموجبة لعبادته دون سواه أنه علم آدم أسماء الموجودات٤ كلها، ثم عرض الموجودات على الملائكة وقال أنبوئني بأسماء هؤلاء إن
١ هل آدم مشتق من الآدمة التي هي حمرة تضرب إلى بياض، أو هو اسم جامد أعجمي؛ كآزر، وعابر، ذهب إلى كل وجه قوم.
٢ سبحان: اسم مصدر فعله سبح مضعفاً. اختص بتنزيه الله تعالى فكان بذلك اسم تسبيح؛ كالعلم عليه.
٣ الحكيم: ذو الحكمة، وهو الذي لا يصدر عنه قول ولا فعل خال من حكمة اقتضته. والحكيم مشتق من أحكم الشيء إذا أتقنه وخلصه من الخلل والفساد، ومنه حكمة الدابة: وهي حديدة تجعل في فمها تمنعها من اختلاف سيرها، ويقال: أحكم فلاناً: أي أمنعه من فعل كذا، ومنه قول الشاعر:
أبني حنيفة احكموا سفهائكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
٤ ليس في المسألة ما يدعو إلى الاستغراب أو الإنكار إذ كتاب المقادير في أسماء الموجودات كلها، وكذا سائر صفاتها وأحوالها، والعرض التلفازي اليوم يسهل على المرء إدراك كيفية عرض الله تعالى الموجودات أمام الملائكة. وذكر آدم لأسمائها كما علمها بتعليم الله تعالى له.
كنتم صادقين في دعوى أنكم أكرم المخلوقات وأعلمهم فعجزوا وأعلنوا اعترافهم بذلك، وقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا﴾، ثم قال تعالى لأدم: أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة فأنبأهم بأسمائهم واحداً واحداً حتى القصعة، والقُصَيْعة.. وهنا ظهر شرف آدم عليهم، وعتب عليهم ربهم بقوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان قدرة الله تعالى حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها.
٢- شرف العلم وفضل العالم١ على الجاهل.
٣- فضيلة الاعتراف٢ بالعجز والقصور.
٤- جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ٣ (٣٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿اسْجُدُوا﴾ : السجود٤: هو وضع الجبهة والأنف على الأرض، وقد يكون بانحناء الرأس دون وضعه على الأرض لكن مع تذلل وخضوع.
﴿إِبْلِيسَ﴾ : قيل كان اسمه الحارث، ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله أي: أيأسه من كل خير ومسخه شيطاناً.
﴿أَبَى﴾ : امتنع ورفض السجود لآدم.
١ يشهد لهذا حديث أبي داود إذ فيه: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم".
٢ دل على هذا قولهم: لا علم لنا إلا ما علمتنا، ولذا قال العلماء: الواجب على من سأل على ما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، وروي عن علي رضي الله عنه، قال: "ما أبردها على الكبد"!! فقل له: وما ذاك؟ فقال: "أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم.
٣ ذكر القرطبي في تفسيره: أن السجود الذي أمرت به الملائكة هو أن يسجدوا لله تعالى مستقبلين وجه آدم وعليه فهو كصلاتنا خلف المقام، الصلاة لله والاستقبال للمقام.
٤ أجمع أهل الإسلام قاطبة أن السجود لا يكون إلا لله تعالى. وفي الحديث: "لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين".
43
﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ : تعاظم في نفسه فمنعه الاستكبار١ والحسد من الطاعة بالسجود لآدم.
﴿الْكَافِرِينَ﴾ : جمع كافر. من كذب بالله تعالى أو كذب بشيء من آياته أو بواحد من رسله أو أنكر طاعته.
معنى الآية:
يذكر تعالى عباده بعلمه وحكمته وإفضاله عليهم بقوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ... ﴾ سجود تحية وإكرام فسجدوا إلا إبليس تعاظم في نفسه وامتنع عن السجود الذي هو طاعة الله، وتحية آدم. تكبراً وحسداً لآدم في شرفه فكان بامتناعه عن طاعة الله من الكافرين الفاسقين عن أمر الله. الأمر الذي استوجب ابلاسه٢ وطرده.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- التذكير بإفضال الله الأمر الذي يوجب الشكر ويرغب فيه.
٢- التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب إبلاس الشيطان، وامتناع اليهود من قبول الإسلام.
٣- تقرير عداوة إبليس، والتنبيه إلى أنه عدو تجب عداوته أبداً.
٤- التنبيه إلى أن من المعاصي ما يكون٣ كفراً أو يقود إلى الكفر.
﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ٤ أَنْتَ وَزَوْجُكَ٥ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً
١ الاستكبار: طلب الكبر في النفس وتصوره فيها، وفي صحيح مسلم: "أن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
٢ الإبلاس: الإيأس من كل خير، وإبلاس إبليس كان عقوبة له على كفره وكبره وحسده، وكان قبل إبلاسه يقال له: عزازيل، وبالعربية: الحارث.
٣ كترك الصلاة وقتل المؤمن لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ترك الصلاة فقد كفر"، وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". وقوله: "لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". والكفر كفران: كفر مخرج من الملة، وكفر نعمة لا يخرج منها، ولكن صاحبه إن لم يتب منه وتقبل توبته يدخل النار به.
٤ قال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ بعد طرد إبليس منها، والمراد من السكن الإسكان، وهو الإقامة الطويلة لا السكون النفسي، وهدوء البال، وإن كان لازماً للإقامة الطيبة، ولفظ السكن مشعر بعدم الإقامة الدائمة، لأن من سكن دار لابد وأن يرحل منها يوماً من الأيام.
٥ لفظ الزوج يطلق على كل من الرجل وامرأته، لأن كل واحد منهما صير الثاني زوجاً له، ويقال للمرأة زوجة بالتاء كما في قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا فلان هذه زوجتي فلانة". وذلك أمناً من اللبس، وغلط الفرزدق في قوله:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي... كساعي إلى أسد الشرى يستبلها
ولا معنى لتغليطه وقد صح الحديث بلفظ زوجة.
44
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا١ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ٢ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) }
شرح الكلمات:
﴿رَغَداً﴾ : العيش الهني الواسع يقال له: الرغد.
﴿الشَّجَرَةَ﴾ : شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرماً أو نبيذاً أو غيرهما وما دام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغي السؤال عنها.
﴿الظَّالِمِينَ﴾ : لأنفسهما بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه.
﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ : أوقعهما في الزلل، وهو مخالفتهما لنهي الله تعالى لهما عن الأكل من الشجرة.
﴿مُسْتَقَرٌّ﴾ : المستقر: مكان الاستقرار والإقامة.
﴿إِلَى حِينٍ﴾ : الحين: الوقت مطلقاً قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة.
﴿فَتَلَقَّى ٣ آدَمُ﴾ : أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة.
﴿كَلِمَاتٍ﴾ : هي قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ : وفقه للتوبة فتاب٤ وقبل توبته، لأنه تعالى تواب رحيم.
١ عن، هنا: هي كما في قوله تعالى: ﴿إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ﴾ بمعنى بسببها، أي أوقعهما في الزلل بسبب الأكل من الشجرة التي زينها لهما فضمير عنها عائد إلى الشجرة.
٢ جملة: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ﴾ تصح أن تكون حالاً من ضمير ﴿اهْبِطُوا﴾ ويصح أن تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً.
٣ لفظ: "فتلقى" مشعر بالإكرام، والمسرة، كقوله تعالى: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾.
٤ يتساءل البعض: هل آدم ارتكب بأكله من الشجرة كبيرة، وهل يجوز في حق الأنبياء ارتكاب الكبائر؟؟
والجواب: أن آدم ما نبئ إلا بعد أن هبط إلى الأرض، إذ هي دار التكليف. أما وهو في السماء فما كان قد نبئ بعد وأكله من الشجرة لم يترتب عليه عقاب أكثر من الخروج من الجنة؛ لأنها ليست دار إقامة لمن يخالف فيها أمر الله تعالى، أما الأنبياء فلا يجوز في حقهم ارتكاب الكبائر ولا الصغائر لعصمة الله تعالى لهم؛ لأنهم محل أسوة لغيرهم.
45
معنى الآيات:
في الأية الأولى (٣٥) يخبر تعالى عن إكرامه لآدم وزوجه حواء حيث أباح لهما جنته يسكنانها ويأكلان من نعيمها ما شاءا إلا شجرة واحدة فقد نهاهما عن قربها١ والأكل من ثمرها حتى لا يكونا من الظالمين.
وفي الآية الثانية (٣٦) أخبر تعالى أن الشيطان أوقع آدم وزوجه في الخطيئة حيث زين لهما الأكل من الشجرة فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما فلم يصبحا أهلاً للبقاء في الجنة فأهبطا إلى الأرض مع عدوهما إبليس ليعيشوا بها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة.
وفي الآية الثالثة (٣٧) يخبر تعالى أن آدم تلقى كلمات التوبة من ربه تعالى وهو: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فقالاها توبة فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- كرامة آدم وذريته على ربهم تعالى.
٢- شؤم المعصية وآثارها في تحويل النعمة إلى نقمة.
٣- عداوة الشيطان للإنسان ووجوب معرفة ذلك لاتقاء وسوسوته.
٤- وجوب التوبة٢ من الذنب وهي الاستغفار بعد الاعتراف بالذنب وتركه والندم على فعله.
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩) ﴾
١ إذا كان الفعل قرب يقرب بالفتح فمعناه التلبس بالفعل، وإذا كان قرب بضم الراء فمعناه الدنو من الشيء. هكذا يرى بعضهم.
٢ التوبة: هي الرجوع من المخالفة إلى المتابعة، أي من المعصية إلى الطاعة، هذا حدها لغة. إما شرعاً: فهي كما نص في الفائدة الرابعة من هذا التفسير.
46
شرح الكلمات:
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً﴾ : انزلوا من الجنة١ إلى الأرض لتعيشوا فيها متعادين٢.
﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ٣ مِنِّي هُدىً﴾ : إن يجيئكم من ربكم هدى: شرع ضمنه كتاب وبينه رسول.
﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ : أخذ٤ بشرعي فلم يخالفه ولم يحد عنه.
﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ : جواب شرط فمن اتبع هداي، ومعناه إتباع الهدى يفضي بالعبد إلى أن لا يخاف ولا يحزن لا في الدنيا ولا في الآخرة.
﴿كَفَرُوا وَكَذَّبُوا﴾ : كفروا: جحدوا شرع الله، وكذبوا رسوله.
﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ : أهلها الذين لا يفارقونها بحث لا يخرجون منها.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أنه أمر آدم وحواء٥ وإبليس بالهبوط إلى الأرض بعد أن وسوس الشيطان لهما فأكلا من الشجرة، وأعلمهم أنه إن أتاهم منه هدى فاتبعوه ولم يحيدوا عنه يأمنوا ويسعدوا فلن يخافوا ولن يحزنوا، وتوعد من كفر به وكذب رسوله فلم يؤمن ولم يعمل صالحاً بالخلود٦ في النار.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- المعصية تسبب الشقاء والحرمان.
١ ذهب المعتزلة –أذهب الله ريحهم- إلى أن الجنة التي هبطا منها آدم وحواء كانت بستاناً في الأرض في مرتفع منها، وهو قول باطل لا يسمع له ولا يلتفت إليه، إذ كل سياق القرآن دال على إنها الجنة دار النعيم لأولياء الله في الآخرة.
٢ أي: إبليس وذريته، وآدم وذريته، وكان هذا قبل أن يوجد لكل منهما ذرية، ثم أوجدت كما أخبر تعالى، وكانت العداوة على أشدها.
٣ فإما: أصلها فإن ما، فإن شرطية وأدخلت عليها ما الزائدة لتقوية الكلام وأدغمت فيها نون إن فصارت إما.
٤ هذا عام في كل أجيال بني آدم فمن جاءه هدى الله بواسطة نبي وكتاب الله فأخذ به واتبعه نجا مما يصيب غيره من الخوف والحزن في الدنيا والآخرة معاً.
٥ حواء: لم تذكر باسمها في القرآن وإنما ذكرت بعنوان الزوج، ولكن ذكرت في السنة الصحيحة، إنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والسر في عدم ذكرها باسمها: إن المروءة تأبى على صاحبها ذكر المرأة باسمها فلذا تذكر النساء تابعات لخطاب الرجال.
٦ روى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأصابتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذنت الشفاعة"، ومعناه يخرجون من النار بالشفاعة لهم.
٢- العمل بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسبب الأمن والإسعاد والإعراض عنهما يسبب الخوف والحزن والشقاء والحرمان.
٣- الكفر والتكذيب جزاء صاحبهما الخلود في النار.
﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون (٤٠) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُون (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ﴾
شرح الكلمات:
بنو١ إسرائيل: إسرائيل: هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام وبنوه هم: اليهود؛ لأنهم يعودون في أصولهم إلى أولاد يعقوب الأثنى عشر٢
النعمة: النعمة هنا اسم جنس بمعنى النعم، ونعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة٣ ستمر أفرادها في الآيات القرآنية الآتية.
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ : الوفاء بالعهد: إتمامه، وعهد الله عليهم أن يبينوا أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويؤمنوا به.
﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ : أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم في الدنيا وعزكم فيها.
﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ : اخشوني ولا تخشوا غيري.
﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ﴾ : القرآن الكريم.
﴿وَلا تَشْتَرُوا ٤ بِآيَاتِي﴾ : لا تعتاضوا على بيان الحق في أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
١ هم يوسف عليه السلام وأخوته يهوذا، وبنيامين، وغيرهما.
٢ بنو: حمع ابن، وقيل عن الولد: الابن من البناء، لأنه مسند إليه موضوع عليه. واسرا: عبد وئيل: الله وقرئ: إسرائين. وهي لغة مشهورة.
٣ منها: إنجائهم من فرعون، وتحررهم من سلطانه، ومنهم إهلاك عدوهم، وإنزال المن والسلوى عليهم.
٤ الاشتراء هنا: بمعنى الاستبدال، ولذا جاز دخول الباء على غير المشتري به، وهو الثمن، إذ الأصل أن تدخل الباء على المشترى به. فتقول، اشتريت الثوب بدرهم.
48
﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ : متاع الحياة الدنيا.
﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ : واتقوني وحدي في كتمانكم الحق وجحدكم نبوة نبيي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنزل بكم نقمتي.
﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ : أي لا تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به، وذلك قولهم: محمد نبي ولكن مبعوث إلى العرب لا إلى بني إسرائيل.
﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ : الركوع الشرعي: انحناء الظهر في امتداد واعتدال مع وضع الكفين على الركبتين والمراد به هنا: الخضوع١ لله والإسلام له عز وجل.
مناسبة الآيات ومعناها:
لما كان السياق في الآيات السابقة في شأن آدم وتكريمه، وسجود الملائكة له وامتناع إبليس لكبره وحسده، وكان هذا معلوماً لليهود؛ لأنهم أهل كتاب، ناسب أن يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكراً إياهم بما يجب عليهم من الإيمان والإستقامة. فناداهم بعنوان بنوتهم لإسرائيل عليه السلام، فأمرهم ونهاهم، أمرهم بذكر نعمته عليهم ليشكروه تعالى بطاعته فيؤمنوا برسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الهدى وأمرهم بالوفاء بما أخذ عليهم من عهد لينجز لهم ما وعدهم، وأمرهم أن يرهبوه٢ ولا يرهبوا غيره من خلقه وأمرهم أن يؤمنوا بالقرآن الكريم، وأن لا يكونوا أول من يكفر٣ به. ونهاهم عن الاعتياض عن بيان الحق في أمر الإيمان برسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمناً قليلاً من متاع الحياة الدنيا وأمرهم بتقواه في ذلك وحذرهم أن هم كتموا الحق أن ينزل بهم عذابه. ونهاهم عن خلط الحق بالباطل دفعاً للحق وبعداً عنه حتى لا يؤمنوا برسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرهم بإقام٤ الصلاة وإيتاء الزكاة والإذعان لله تعالى بقبول الإسلام والدخول فيه كسائر المسلمين.
١ وجائز أن يراد به الصلاة مع المصلين وهم: الرسول وأصحابه. إذ الخطاب ليهود المدينة بصورة خاصة، ولا منافاة بين ما شرحت به الآية، وبين ما ذكر هنا تعليقاً، إذ الإسلام لله يستلزم الصلاة وفي الآية دليل تأكيد صلاة الجماعة.
٢ الرهب، والرهبة، الخوف، ويجوز في الرهب إسكان الهاء وفتحها.
٣ هذه الجملة تأكيد لجملة: وأمنوا بما أنزلت.. أي: أمنوا بما أنزلت أي، من القرآن بمعنى لا تكونوا أولمن يكفر به منكم يا بني إسرائيل، إذ العرب سبق أن كفروا بالقرآن قبلهم فأول كافر به، أي منهم وهو اليهود.
٤ أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بعد الإيمان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة..". الحديث. ومعنى الخطاب أنه أمرهم بالدخول في الإسلام والخروج من اليهودية الباطلة.
49
هداية الايات:
من هداية الآيات:
١- وجوب ذكر النعم لشكر الله تعالى عليها.
٢- وجوب الوفاء بالعهد لا سيما ما عاهد عليه العبد ربه تعالى.
٣- وجوب بيان الحق وحُرمة كتمانه.
٤- حرمة خلط١ الحق بالباطل تضليلاً للناس وصرفهم عنه كقول اليهود: محمد نبي ولكن للعرب خاصة حتى لا يؤمن به يهود.
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦) ﴾
شرح الكلمات:
البر: البر: لفظ جامع لكل خير. والمراد هنا: الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدخول في الإسلام مقابل الذكر، وهو هنا الترك.
النسيان: مقابل الذكر، وهو هنا الترك.
تلاوة الكتاب: قراءته، والكتاب هنا: التوراة التي بأيدي اليهود.
العقل: قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار، والصالح والفاسد.
الاستعانة: طلب العون للقدرة على القول والعمل.
الصبر٢: حبس النفس على ما تكره.
الخشوع: حضور القلب وسكون الجوارح، والمراد هنا: الخضوع لله والطاعة لأمره ونهيه.
١ مأخوذ من قوله: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ إذ اللبس الخلط بين المتشابهات في الصفات، يقال في الأمر لبسه: أي اشتباه، فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق ليقبل ويضل به الناس.
٢ مواطن الصبر ثلاثة: صبر على الطاعة فلا تفارق، وصبر عن المعصية فلا ترتكب، وصبر على المصائب فلا يجزع منها ولا يتسخط، ولكن يصبر، ويسترجع أي: يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
50
﴿يَظُنُّونَ﴾ : يوقنون١.
﴿مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ : بالموت، راجعون إليه يوم القيامة.
معنى الآيتين:
ينعي الحق تبارك وتعالى في الآية الأولى (٤٤) على علماء بني إسرائيل أمرهم بعض العرب بالإيمان بالإسلام ونبيه، ويتركون أنفسهم فلا يأمرونها بذلك والحال أنهم يقرأون التوراة، وفيها بعث النبي محمد والأمر بالإيمان به واتباعه ويقرعهم موبخاً لهم بقوله: أفلا تعقلون، إذ العاقل يسبق إلى الخير ثم يدعو إليه.
وفي الآيتين الثانية والثالثة (٤٥-٤٦) يرشد الله تعالى بني إسرائيل إلى الاستعانة بالصبر والصلاة حتى يقدروا على مواجهة الحقيقة والتصريح بها، وهي الإيمان بمحمد والدخول في دينه، ثم يعلمهم أن هذه المواجهة صعبة شاقة٢ على النفس لا يقدر عليها إلا المخبتون لربهم الموقنون بلقاء الله، والرجوع إليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- قبح٣ سلوك من يأمر غيره بالخير ولا يفعله.
٢- السيئة قبيحة وكونها من٤ عالم أشد قبحاً.
٣- مشروعية الاستعانة على صعاب الأمور وشاقها بالصبر والصلاة، إذ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ حزبه أمر فزع٥ إلى الصلاة.
١ يطلق الظن ويراد به اليقين، لا الظن المقابل للشك، أفاد ابن جرير في تفسيره: وأورد أن الظن من أسماء الاضطاد فيطلق على الشك واليقين، فإطلاق الصدفة على الضياء والظلمة معاً.
٢ الجمهور على تفسير الضمير في: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة﴾ بالصلاة وخالفتهم في ذلك لوجود من قال: إنها ما أمروا به ونهوا عنه، وهو أعم من الصلاة.
٣ ورد الوعيد الشديد فيمن يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويرتكبه من ذلك قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مررت ليلة أسرى بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، قلت من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم". رواه أحمد. ومثله كثير في السنن والصححاح، إلا أن أهل العلم ممن السلف قالوا: لا يمنع العالم من أن يؤمر بالمعروف، وإن كان لا يأتيه ومن أن ينهي عن منكر وإن كان يأتيه، وهو حق، إذ لا يسلم من الذنب إلا المعصوم.
٤ لأن من يعلم ليس كمن لا يعلم.
٥ رواه أحمد وأبو داود.
51
٤- فضلية الخشوع لله والتطامن له، وذكر الموت، والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ﴾ : تقدم شرح هذه الجملة.
﴿فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ١﴾ : آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس وذلك على عهد موسى عليه السلام وفي آزمنة صلاحهم واستقامتهم.
﴿وَاتَّقُوا يَوْماً﴾ : المراد باليوم: يوم القيامة بدليل ما وصف به. واتقاؤه: هو اتقاء ما يقع فيه من الأهوال والعذاب. وذلك الإيمان والعمل٢ الصالح.
﴿لا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ : لا تغني نفس عن نفس أخرى أي غنى. ما دامت كافرة٣.
﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ٤﴾ : هذه النفس الكافرة إذ هي التي لا تنفعها شفاعة الشافعين.
﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ : على فرض أنها تقدمت بعدل، وهو الفداء فإنه لا يؤخذ منها.
﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ : يدفع العذاب عنهم.
معنى الآيتين:
ينادي الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل مطالباً إياهم بذكر نعمه عليهم ليشكروها بالإيمان برسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبول ما جاء به من الدين الحق، وهو الإسلام، محذراً إياهم من عذاب يوم القيامة، آمراً لهم باتقائه بالإيمان وصالح الأعمال. لأنه يوم عظيم لا تقبل فيه شفاعة.
١ المراد بالعالمين: عالمو زمانهم.
٢ وترك الشرك، والمعاصي.
٣ لأن أهل الإيمان والتوحيد وإن دخلوا النار يخرجون منها بشفاعة شافع أو بإيمانهم. بخلاف من مات كافراً أو مشركاً.
٤ الشفاعة: ضم جاه إلى جاه ليحصل النفع للمشفوع له. والشفعة: ضم ملك إلى ملك، والشفع: الزوج مقابل الوتر، ولا تقبل شفاعة أحد يوم القيامة إلا بشرطين اثنين. الأول: أن يكون الشافع قد أذن الله تعالى له. في الشفاعة. والثاني: أن يكون المشفوع له ممن رضي الله قوله وعمله وهو المؤمن الموحد.
لكافرٍ، ولا يؤخذ منه عدل أي فداء، ولا ينصره بدفع العذاب عنه أحد.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- وجوب ذكر النعم لتشكر١ بحمد الله وطاعته.
٢- وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصي
٣- تقرير أن الشفاعة لا تكون لنفس كافرة. وأن الفداء يوم القيامة لا يقبل٢ أبداً.
﴿وَإِذْ٣ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) ﴾
شرح الكلمات:
النجاة: الخلاص من الهلكة؛ كالخلاص من الغرق، والخلاص من العذاب.
﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ : اتباع٤ فرعون. وفرعون٥ ملك مصر على عهد موسى عليه السلام.
﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ : يبغونكم سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه.
١ شكر الله على نعمة يكون بالاعتراف بالنعمة وحمداً لله تعالى عليها، وصرفها فيما فيه رضاه سبحانه وتعالى.
٢ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾.
٣ إذ ظرفية ويقدر لها العامل وهو: اذكروا إن نجيناكم. اذكروا إذ فرقنا بكم البحر.. إلخ.
٤ ممن هم على دين الباطل، من الأقباط المصريين وسواء كانوا أقارب له، أم أباعد ويشهد له حديث: "آل محمد كل تقي".
٥ قيل أن فرعون مصر اسمه الوليد بن مصعب بن الريان.
53
وَيَسْتَحْيُونَ١ نِسَاءَكُمْ: يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة، ويذبحون الأولاد خوفاً منهم إذا كبروا.
بلاء٢ عظيم: ابتلاء وامتحان شديد لا يطاق.
﴿فَرَقْنَا٣ بِكُمُ الْبَحْرَ٤﴾ : صيرناه فرقتين، وما بينهما يبس لا ماء فيه لتسلكوه فتنجوا، والبحر هو: بحر القلزم (الأحمر).
﴿اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ : عجل من ذهب صاغه لهم السامري ودعاهم إلى عبادته فعبده أكثرهم، وذلك في غيبة موسى عنهم.
الشكر: إظهار النعمة بالاعتراف بها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته.
﴿الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ٥﴾ : الكتاب: التوراة، والفرقان: المعجزات التي فرق الله تعالى بها بين الحق والباطل.
﴿تَهْتَدُونَ﴾ : إلى معرفة الحق في كل شئونكم من أمور الدين والدنيا.
معنى الآيات:
تضمنت هذه الآيات الخمس أربع نعم عظمى أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، وهي التي أمرهم بذكرها ليشكروه عليها بالإيمان برسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه الإسلام.
فالنعمة الأولى: انجاؤهم من فرعون وآله بتخليصهم من حكمهم الظالم وما كانوا يصبونه عليهم من ألوان العذاب. من ذلك: ذبح الذكور من أولادهم وترك البنات لاستخدامهن في المنازل كرقيقات.
١ وقيل يكشفون عن حياء المرأة: أي: فرجها لينظروا هل هي حبلى أو لا؟ ليتمكنوا من قتل الذكور وإبقاء الإناث.
٢ البلاء يكون بالخير والشر، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ الآية. وهو هنا كذلك فقد ابتلى بنو إسرائيل بالشر من قتل واستبعاد وبالخير من إنجائهم وإهلاك أعدائهم.
٣ الفرق: الفصل بين الأشياء؛ كالفصل بين الحق والباطل، والفصل بين المجتمعين من كل شيء، والباء في فرقنا بكم البحر: للملابسة.
٤ البحر: الماء المالح، والبلدة أيضاً، ومن الخيل الواسع الجري، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فرس أبي طلحة: "وإن وجدناه لبحراً". يعني واسع الجري.
٥ الفرقان: لفظ عام يطلق على كل ما يفرق به بين الحق والباطل؛ كالمعجزات والآيات والعلوم الصحيحة.
54
والثانية: فلق البحر لهم وإغراق عدوهم بعد نجاتهم وهم ينظرون١.
والثالثة: عفوه تعالى عن أكبر زلة زلوها وجريمة اقترفوها، وهي اتخاذهم عجلا٢ صناعياً إلهاً وعبادتهم له. فعفا تعالى عنهم ولم يؤاخذهم بالعذاب لعلة أن يشكروه تعالى بعبادته وحده دون سواه.
والرابعة: ما أكرم به نبيهم موسى عليه السلام من التوراة التي فيها الهدى والنور والمعجزات التي أبطلت باطل فرعون، وأحقت دعوة الحق التي جاء بها موسى عليه السلام.
هذه النعم هي محتوى الآيات الخمس، ومعرفتها معرفة لمعاني الآيات في الجملة اللهم إلا جملة ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ في الآية الأولى فإنها: إخبار بأن الذي حصل لبني إسرائيل من عذاب على أيدي فرعون وملئه إنما كان امتحاناً من الله واختباراً عظيماً لهم. كما أن الآية الثالثة فيها ذكر مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة٣ بني إسرائيل أربعين ليلة، وهي: القعدة وعشر الحجة ليعطيه التوراة يحكم٤ بها بني إسرائيل فحدث في غيابه أن جمع السامري حُلي نساء بني إسرائيل وصنع منه عجلاً ودعاهم إلى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إلا أن الله منّ عليهم بالعفو ليشكروه.
هداية الآيات:
من هداية هذه الآيات:
١- ذكر النعم يحمل٥ على شكرها، والشكر هو الغاية من ذكر النعمة.
٢- أن الله تعالى يبتلي عباده لحكم عالية فلا يجوز الاعتراض على الله تعالى فيما يبتلي به عباده.
٣- الشرك ظلم٦، لأنه وضع العبادة في غير موضعها.
١ جملة: ﴿َوَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ في الآيات حالية، وإن قيل الذين تم لهم هذا الإنعام هم من كانوا مع موسى عليه السلام، فكيف يخاطب به يهود اليوم. فالجواب: أن النعم على السلف نعم على الخلف.
٢ القوم الذين مروا بهم فوجدوهم عاكفين على أصنام لهم هم قوم من الكنعانيين، وهم الفينيقيون سكان سواحل بلاد الشام إذ كانوا يعبدون عجلاً مقدساً لهم.
٣ كان يوم نجاة بني إسرائيل يوم عاشوراء المحرم، لما في البخاري وغيره من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة مهاجراً وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا: يوم صالح أنجى الله تعالى فيه بني إسرائيل. فصامه. رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر بصيامه وقال: "نحن أحق بموسى منهم" أو كما قال.
٤ ومما يؤسف ويحزن أن المسلمين لما ابتلاهم الله باستعمار النصارى لهم كانوا كلما استقل شعب أو إقليم طلب قانون الكافرين فحكم به المسلمين، وبنو إسرائيل لما استقلوا على يد موسى ذهب يأتيهم بقانون الرب ليحكمهم به.
٥ ولذا كان مبدأ الشكر: الاعتراف بالنعمة أولاً، وهو ذكرها بالقلب، واللسان.
٦ قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
55
٤- إرسال الرسل وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا في الحياتين.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ١ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) ﴾
شرح الكلمات:
ظلم النفس٢: تدسيتها بسيئة الجريمة.
﴿بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ : بجعلكم العجل الذي صاغه السامري من حلي نسائكم إلهاً عبدتموه.
البارئ: الخالق عز وجل.
﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ٣﴾ : أمرهم أن يقتل من لم يعبد العجل من٤ عبدَه منهم وجعل ذلك توبتهم ففعلوا فتاب عليهم بقبول توبتهم.
﴿نَرَى اللهَ جَهْرَةً ٥﴾ : نراه عياناً.
١ لفظ القوم يراد به الرجال دون النساء كما في قوله تعالى: ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ... وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾ كقول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وقد يطلق على الرجال والنساء نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ﴾ الآية.
٢ أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومرتكب الذنب بدل أن يزكي نفسه بعمل صالح دساها بعمل سيء فكان بذلك واضعاً شيئاً في غير موضعه، إذ المطلوب من العبد تزكية نفسه لتتأهل للكمال والإسعاد، لا تدسيتها لتخيب وتخسر.
٣ قتل بعضهم بعضا: كان عقوبة لمن عبدوا العجل، ولمن لم يعبدوه؛ لأنهم ما غيروا المنكر وقد رأوه.
٤ قال بعضهم: قتل النفس هنا تذليلها بالطاعات وكفها عن الشهوات وليس بصحيح.
٥ أصل الجهر: الظهور ومنه: قرأ جهراً أي أي أظهر القراءة، وجهر مصدر جهر، وقرأ بفتح الهاء وإسكانها نحو زهرة، وزهرة ومعناه: علانية أو عياناً.
56
﴿الصَّاعِقَةُ﴾ : نار محرقة التي تكون مع السحب والأمطار والرعود.
﴿بَعَثْنَاكُمْ﴾ : أحييناكم١ بعد موتكم.
﴿الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ : المن: مادة لزجة حلوة كالعسل٢، والسلوى: طائر يقال له السماني.
الطيبات: الحلال.
المناسبة ومعنى الآيات:
لما ذكر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالباً إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله. ذكرهم هنا ببعض ذنوب أسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا، فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلهاً وعبادتهم له. وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى، وتركه هارون خليفة له فيهم، فصنع السامري لهم عجلاً من ذهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه، فأطاعوه أكثرهم وعبدوا العجل، فكانوا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم أن يقتل من لم يعبد العجل من عبدَه فقتلوا منهم سبعين ألفاً، فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم، كما ذكرهم بحادثة أخرى وهي: إنه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بأمر الله تعالى منهم سبعين رجلاً من خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة عبادة العجل، وذهب بهم إلى جبل الطور ليعتذروا إلى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يسمعنا كلامه، فأسمعهم قوله: ﴿إِنِّي أَنَا اللهُ﴾ لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيدٍ شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري. ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم وقتلهم أنفسهم، قالوا: لن نؤمن لك، أي لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله جهرة، وكان هذا منهم ذنباً عظيماً لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا واحداً واحداً وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى، وهي إكرامه لهم وإنعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن
١ إحيائهم بعد موتهم دليل على البعث الآخر، إذ كان موتهم بإخراج أرواحهم ولم يكن مجرد همود كما قيل.
٢ وفي الحديث الذي رواه مسلم: الكمأه من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين.
57
والسلوى١ أيام حادثة التيه في صحراء سيناء وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ إشارة إلى أن محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيهم إذ قالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾. وما ظلمهم٢ في محنة التيه، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- عبادة المؤمن غير الله وهو يعلم أنها عبادة لغير الله تعالى تعتبر ردة منه٣، وشركاً.
٢- مشروعية قتال المرتدين، وفي الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولكن بعد استتابته.
٣- علة الحياة كلها شكر الله تعالى٤ بعبادته وحده.
٤- الحلال، من المطاعم والمشارب وغيرها، ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله عز وجل.
﴿وَإِذْ٥ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً
١ السلوى: اسم جنس جمعي واحده: سلواه، وقيل: لا واحد له، وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد، تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء، ويسمى أيضا: السماني كالحباري.
٢ وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ تقديم المفعول وهو أنفسهم على الفاعل وهو الضمير في يظلمون لإفادة القصر، وهو قصر ظلمهم على أنفسهم حيث لم يتجاوز إلى غيرهم لا موسى ولا ربه تعالى.
٣ بدليل أمر الله بني إسرائيل بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده لأنه في حكم المرتد، والمرتد يقتل لحديث الصحيح: "من بدل دينه فاقتلوه".
٤ دل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ﴾ أي أحييناكم بعد موتكم لعلكم تشكرون، وأصرح قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ والعبادة هي الشكر.
٥ ذهب الشيخ محمد طاهر ابن عاشور، صاحب تفسير "التحرير والتنوير" إلى أن القائل لبني إسرائيل: ﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ..﴾ الآية. هو موسى عليه السلام وأن هذا الأمر كان في بداية أمرهم لما خرجوا من مصر، وأن الذين ظلموا منهم هم: عشرة رجال من اثنا عشر بعث بهم موسى عليه السلام جواسيس يكتشفون أمر العدو ويقدرون قوته قبل إعلان الحرب عليهم، فرجعوا وهم يهولون من شأن العدو وقوته، وينشرون الفزع والرعب في بني إسرائيل ما عدا اثنين منهم، وهما: يوشع ابن نون قريب موسى، وطالب بن بقتة، الذين ذكرا في سورة المائدة: ﴿قَالَ رَجُلانِ..﴾ الآية، وخالف في هذا جمهور المفسرين، وادعى الغلط لهم، وما حمله على ذلك سوى أن السياق ما زال مع موسى وقومه مع أن الله تعالى لم يذكر موسى بل قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث البخاري قال: قيل لبني إسرائيل ولم يقل قال موسى لبني إسرائيل، ونص الحديث: "قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً قولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا وقالوا: حطة حبة في شعرة". والأمر لهم حقيقة. هو الله تعالى على لسان يوشع، إذ هو الذي قاد الحملة ونصره الله، ودخل بيت المقدس، وأحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاهدة.
58
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) }
شرح الكلمات:
﴿الْقَرْيَةَ ١﴾ : مدينة القدس.
﴿رَغَداً﴾ : عيشاً واسعاً هنيئاً.
﴿سُجَّداً﴾ : ركعاً٢ متطامنين لله، خاضعين شكراً لله على نجاتهم من التيه.
﴿حِطَّةٌ﴾ : حطة٣: فعلة مثل ردة، وحدة من ردت وحددت، أمرهم أن يقولوا حطة بمعنى أحطط عنا خطايانا ورفع (حطة) ٤ على إنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: دخولنا الباب سجداً حطة لذنوبنا
﴿نَغْفِرْ﴾ : نمحو ونستر.
﴿خَطَايَاكُمْ﴾ : الخطايا: جمعة خطيئة٥: الذنب يقترفه العبد.
﴿فَبَدَّلَ﴾ غيروا٦ القول الذي قيل لهم قولوه وهو حطة فقالوا: حبة في شعره٧.
﴿رِجْزاً ٨﴾ : وباء الطاعون.
﴿يَفْسُقُونَ﴾ : يخرجون عن طاعة الله ورسوله إليهم، وهو يوشع عليه السلام.
معنى الآيتين:
تضمنت الآية الأولى (٥٨) تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها
١ سميت المدينة قرية: من التقري الذي هو التجمع مأخوذ من قريت الماء في الحوض، إذ جمعته، ومنه قرى الضيف، وهو ما يجمع له من طعام وشراب، وفراش.
٢ لأن السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض متعذر المشي معه، فلذا فسر السجود بانحناء الركوع في تطامن وخضوع.
٣ يوجد باب حطة اليوم في المسجد الأقصى.
٤ وقرأ حطة بالنصب على تقدير أحطط عنا ذنوبنا حطة.
٥ المفروض أن تجمع خطيئة على خطائئي، نحو حميلة وحمائل، ولكنهم استثقلوا الجمع بين همزتين فقلبوا الهمزة الأولى ياء والثانية ألفاً فصارت خطايا.
٦ من هذا أخذ حرمة تبديل لفظ تعبدنا الله به بلفظ أخر ولو أتى معناه مثل: الله أكبر في افتتاح الصلاة، والسلام عليكم في الخروج منها. وما لم يتعبدن الله بلفظ يجوز للعالم تبديله وذلك كرواية الحديث بالمعنى للعالم دون الجاهل وعليه جمهور الأمة.
٧ و (في شعرة) كنوا بهذا عن كون فتحهم البلاد، ودخولهم إياها من المحال كالذي يحاول ربط حبة في شعرة.
٨ والرجس: بالسين عذاب فيه نتن وعفونة وقذر.
59
نعمة الله على بني إسرائيل وهي: حال تستوجب الشكر، وذلك إنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من: موسى وهارون، وخلفهم في بني إسرائيل فتى موسى يوشع بن نون، وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليهم بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمر إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا. واشكروا لي هذه الأنعام بأن تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين. دخولنا الباب سجداً حطة لذنوبنا التي اقترفناها بنقولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون. نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثواباً كما تضمنت الآية الثانية (٥٩) حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذي أمروا به والقول الذي قيل لهم فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين: حبة في شعيرة!! ومن ثم انتقم الله منهم فانزل على الظالمين منهم طاعوناً أفنى منهم خلقاً كثيراً جزاء فسقهم عن أمر الله عز وجل. وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- تذكير الأبناء بأيام١ الآباء للعظة والاعتبار.
٢- ترك الجهاد إذا وجب يسبب٢ للأمة الذل والخسران.
٣- التحذير عن عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشارع.
٤- حرمة٣ تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها.
٥- فضيلة الإحسان٤ في القول والعمل.
١ المراد بالأيام: ما وقع فيها من خير وغيره، ثمرة كسبهم ونتاج أعمالهم بالطاعة لله تعالى، أو المعصية لله عز وجل.
٢ يشهد له حديث أبي داود وأحمد إذ فيه وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم.
٣ كتأويل الروافض، لفظ: بقرة بعائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ وكتأويل بعض المعاصرين إن ربا البنوك ليس هو ربا الجاهلية الحرام.
٤ المحسن: من صح عقد توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء فرضه، وكفى المسلمين شره. هكذا عرفه بعضهم، وأقرب من هذا، المحسن: من راقب الله تعالى في نياته، ومعتقداته، وأقواله، وأفعاله فأحسن في ذلك كله ولم يسيء فيه وبذل المعروف للناس، ولم يسيء إليهم، وحسب الإحسان فضيلة أن الله يحب المحسنين، ومن أحبه الله أسعده وما أشقاه.
60
﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) ﴾
شرح الكلمات:
اسْتَسْقَى: طلب لهم من الله تعالى السقيا أي: الماء للشرب وغيره.
بِعَصَاكَ الْحَجَرَ: عصا موسى التي كانت معه منذ خرج من بلاد مدين. وهل هي من شجر الجنة هبط بها آدم، كذا قيل والله أعلم. والحجر هو حجر مربع الشكل من نوع الكذان رخو كالمدر. وهل هو الذي فر بثوب موسى في حادثة١ معروفة، كذا قيل، أو هو حجر من سائر الأحجار٢؟ الله أعلم.
١ هذه الحادثة كما هي في الصحيح: أن موسى عليه السلام اتهمه قوم: بالأدرة: (انتفاخ في إحدى الخصيتين). فأراد الله تعالى أن يبرئه منها، فدخل موسى البحر يغتسل، ووضع ثوبه على حجر ففر الحجر بالثوب فلحقه موسى فمر به بني إسرائيل حتى أن علموا أن تهمته باطلة.
٢ كون ال في الحجر لبيان الجنس وأن أي: حجر يضربه موسى يتفجر منه الماء أظهر في المعجزة وأدل على قدرة الله تعالى.
61
﴿فَانْفَجَرَتْ﴾ : الانفجار: الانفلاق فانفجرت: انفلقت من العصا العيون.
﴿مَشْرَبَهُمْ﴾ : موضع شربهم.
﴿رِزْقِ اللهِ﴾ : ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية.
﴿وَلا تَعْثَوْا﴾ : العَثَيّ والعِثِيّ: أكبر الفساد وفعله عثي كرضي، يعثي كيرضي، وعثا يعثو، كعدا يعدو.
﴿مُفْسِدِينَ﴾ : الإفساد: العمل بغير طاعة الله ورسوله في كل مجالات الحياة.
البقل: وجمعه البقول: سائر أنواع الخضر؛ كالجزر والخردل والبطاطس، ونحوها.
القثاء: الخيار والقتة، ونحوهما.
الفوم: الفوم: الحنطة، وقيل: الثوم لذكر البصل١ بعده.
﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾ : الإستبدال: ترك شيء وأخذ آخر بدلاً عنه.
﴿أَدْنَى﴾ : أقل صلاحاً وخيرية ومنافع؛ كاستبدال المن والسلوى بالفوم والبقل.
﴿مِصْراً﴾ : مدينة من٢ المدن، قيل لهم هذا وهم في التيه؛ كالتعجيز لهم والتحدي لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين فأصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين.
﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ : أحاطت بهم ولازمتهم الذلة وهي الصغار والاحتقار.
﴿وَالْمَسْكَنَةُ﴾ : والمسكنة: وهي الفقر والمهانة.
﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ : رجعوا من طول عملهم وكثرة كسبهم بغضب الله وسخطه عليهم وبئس ما رجعوا به.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ : ذلك إشارة إلى ما أصابهم٣. من الذلة والمسكنة والغضب وبأنهم أي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وعصيانهم، فالباء سببية.
الاعتداء: مجاوزة الحق إلى الباطل، والمعروف إلى المنكر والعدل إلى الظلم.
١ لأن إبدال التاء فاء شائع.
٢ هذا بناءاً على صرف مصر إذ هو منون منصوب، ولو أريد به مصر التي خرجوا منها لقرئ مصر ممنوعاً من الصرف للعلمية والتأنيث.
٣ هذا عام في اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية، ومن قبلهم، ومن يأتي بعدهم، لأن التعليل كان بكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، والكل موافق راب بهذه الجرائم، وعصيانهم واعتدائهم ملازم لهم ما فارقهم إلى اليوم.
62
معنى الآيتين:
يُذكر الله تعالى اليهود المعاصرين لنزول القرآن بالمدينة النبوية بأياديه في أسلافهم وأيامه عز وجل فيهم وفي الآية الأولى رقم (٦٠) ذكرهم بأنهم لما عطشوا في التيه، استسقى١ موسى ربه فسقاهم بأمر خارق للعادة، ليكون لهم ذلك آية ليلزموا الإيمان والطاعة وهو أن يضرب موسى عليه السلام بعصاه الحجر٢ فيتفجر الماء منه من اثنا عشر موضعاً كل موضع يمثل عيناً يشرب منها سبط٣ من أسباطهم الإثنى عشر حتى لا يتزاحموا فيتضرروا، أكرمهم الله بهذه النعمة، ونهاهم عن الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي.
وفي الآية الثانية (٦١) ذكرهم بسوء أخلاق كانت في سلفهم، منها: عدم الصبر، والتعنت، وسوء التدبير، والجهالة بالخير، والرعونة، وغيرها. وهذا ظاهر في قولهم يا موسى بدل يا نبي الله أو رسول الله لن نصبر على طعام واحد. وقولهم: إدع لنا ربك بدل ادع الله تعالى لنا، أو ادع لنا ربنا عز وجل. وفي مللهم اللحم والعسل وطلبهم الفوم والبصل بدلاً عنهما وفي قول موسى عليه السلام: تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير٤ ما يقرر ذلك كما ذكرهم بالعاقبة المرة التي كانت لهم نتيجة كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، واعتدائهم وعصيانهم، وهي: أن ضرب٥ الله تعالى عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم.
كل هذا وغيره مما ذكَّر الله تعالى اليهود به في كتابه من أجل أن يذكروا فيتعظوا ويشكروا، فيؤمنوا بنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويدخلوا في دينه، فيكملوا ويسعدوا بعد أن ينجوا مما حاق بهم من الذلة والمسكنة والغضب في الدنيا، ومن عذاب النار يوم القيامة.
هداية الآتيتين:
من هداية الآيتين:
١- استحسان الوعظ والتذكير بنعم الله تعالى ونقمه في الناس.
١ في الآية مشروعية الاستسقاء وهو سنة مؤكدة في الإسلام، فقد استسقى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسقى الله الأمة بدعائه غير مرة.
٢ انفجار الماء من الحجر معجزة عظيمة، وانفجار الماء من بين أصابع النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجزة أعظم، لأن انفجار الماء من الأحجار معهود معروف ولكن من أصابع هي لحم ودم غير معهود قط.
٣ السبط: في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب.
٤ في قوله: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾ إلخ. إنكار عليهم وتوبيخ لهم.
٥ إحاطة الزل والمسكنة بهم ذكر في آية آل عمران مقيداً بما لم يكن لهم حبل من الله: وهو الدخول في الإسلام، وحبل من الناس: وهو حماية دولة قوية لهم؛ كبريطانيا أولاً، وأمريكا ثانياً.
63
٢- مطالبة ذي النعمة بشكرها١، وذلك بطاعة الله تعالى بفعل أوامره. وترك نواهيه.
٣- ذم الأخلاق السيئة والتنديد بأهلها للعظة والاعتبار.
٤- التنديد بكبائر الذنوب؛ كالكفر، وقتل النفس بغير الحق لا سيما قتل الأنبياء أو خلفائهم وهم العلماء الآمرون بالعدل في الآمة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا ٢﴾ : هم المسلمون آمنوا بالله ووحده وآمنوا برسوله واتبعوه.
﴿وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ : هم اليهود سموا٣ يهوداً لقولهم: إنا هدنا إليك، أي: تبنا ورجعنا.
﴿وَالنَّصَارَى﴾ : الصليبيون سموا نصارى: إما لأنهم يتناصرون أو لنزول مريم بولدها عيسى قرية الناصرة، والواحد: نصران٤ أو نصراني وهو الشائع على الألسنة.
﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ : أمة كانت بالموصل يقولون لا إله إلا الله. ويقرأون الزبور. ليسوا يهودا ولا نصارى، واحدهم صابئ٥، ولذا كانت قريش تقول لمن قال لا إله إلا الله: صابئ، أي مائل عن دين آبائه إلى دين جديد وحّدَ فيه الله تعالى.
١ كما قيل: من لم يشكر النعم تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
٢ يرى بعض المفسرين أن المراد (بالذين آمنوا) : المنافقون، والصحيح ما ذكرناه وهم المسلمون، وسموا بالمؤمنين لصحة إيمانهم، والفائدة من ذكره هي: ليعلم اليهود وغيرهم أن النسب والانتساب إلى الدين لا يؤهل للسعادة في الدار الآخرة، وإنما يؤهل الإيمان الصحيح والعمل الصالح، إذ بهما تزكوا النفس وتطهر فتتأهل لجوار الله تعالى في الملكوت الأعلى.
٣ أو نسبة إلى يهوداً وهو أكبر أولاد يعقوب عليه السلام.
٤ نصرن على وزن سكران، والجمع: نصارى؛ كسكارى.
٥ قرئ بالتخفيف: الصابين، وهي قراءة وارش عن نافع.
64
مناسبة الآية ومعناها:
لما كانت الآية في سياق دعوة اليهود إلى الإسلام ناسب أن يعلموا أن النسب لا قيمة لها وإنما العبرة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح المزكي للروح البشرية والمطهر لها، فلذا المسلمون واليهود والنصارى والصابئون١ وغيرهم؛ كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله واليوم الآخر حق الإيمان وعمل صالحاً مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم بعد توبتهم، ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما تركوا من الدنيا، إذ الآخرة خير وأبقى.
والإيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالإيمان بالنبي الخاتم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبي الخاتم في كتابه وما أوحى إليه، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهي لا تزكي النفس ولا تطهرها. والسعادة الآخروية متوقفة على زكاة النفس٢ وطهارتها.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، فالمنافق إذا قال هو مؤمن أو مسلم، ولم يؤمن بقلبه ولم يسلم بجوارحه لا تغني النسبة عنه شيئاً، واليهودي والنصراني والصابئ، وكل ذي دين نسبته إلى دين قد نسخ وبطل العمل بما فيه فأصبح لا يزكي النفس، هذه النسبة لا تنفعه، وإنما الذي ينفع الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
٢- أهل الإيمان الصحيح والإستقامة على شرع الله الحق مبشرون بنفي الخوف عنهم والحزن وإذا انتفى الخوف حصل الأمن، وإذا انتفى الحزن حصل السرور والفرح وتلك السعادة.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ٣ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
١ عامة أهل العلم على أن الصابئة ليسوا أهل كتاب فلا تنكح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم وثنيون ولا كتاب لهم على الصحيح.
٢ لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾.
٣ مأخوذ من وثق الشيء بالحبل إذا شده به تقوية له.
65
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا١ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ٢ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا٣ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْنَاهَا٤ نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) }
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
﴿الطُّورَ﴾ : جبل. أو هو الجبل الذي ناجى الله تعالى عليه موسى عليه السلام
﴿بِقُوَّةٍ﴾ : بجد وحزم وعزم.
﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ : رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما في التوراة.
﴿اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ : تجاوزوا الحد فيه حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا.
﴿قِرَدَةً﴾ : القردة: جمع قرد، حيوان معروف مسخ الله تعالى المعتدين في السبت على نحوه
١ أي اذكروا ما تضمنه الكتاب الذي هو التوراة، اذكروا حفظاً لشرائعه وأحكامه وعملاً به، واذكروا وعد الله تعالى فيه ووعيده رجاء أن تحصل لكم التقوى فتنجوا من الخسران.
٢ من فضل الله تعالى عليهم إنه لم يعاجلهم بالعقوبة جزاء توليهم عن الطاعة، وإعراضهم عنها بعد أخذ الميثاق عليهم، ومن رحمته أنه في أرسل فيهم الرسل فلم تنقطع سلسلتهم إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
٣ الأمر هنا: كوني لا شرعي إذ لا طاقة لهم على التحول إلى قردة، وإنما تحولوا بأمره الإيرادي الكوني الذي لا يتخلف فيه مراده عز وجل.
٤ الضمير في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ يعود إلى العقوبة التي هي مسخهم قردة.
66
﴿خَاسِئِينَ﴾ : مبعدين عن الخير ذليلين مهانين.
﴿نَكَالاً﴾ : عقوبة شديدة تمنع من رآها أو علمها من فعل ما كانت سبباً فيه
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ : لما بين يدي العقوبة من الناس، ولمن يأتي بعدهم.
﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ١﴾ : يتعظون٢ بها فلا يقدمون على معاصي الله عز وجل.
معنى الآيات:
يذكر الحق عز وجل اليهود بما كان لأسلافهم من أحداث لعلهم يعتبرون فيذكرهم بحادثة امتناعهم من تحمل العمل بالتوراة، وإصرارهم على ذلك حتى رفع الله تعالى فوقهم جبلاً فأصبح كالظلة فوق رؤسهم، حينئذ أذعنوا غير أنهم تراجعوا بعد ذلك ولم يفوا بما التزموا به فاستوجبوا الخسران لولا رحمة الله بهم.
كما يذكرهم بجريمة كانت لبعض أسلافهم وهي أنه تعالى حرم عليهم الصيد يوم السبت فاحتالت طائفة منهم على الشرع واصطادوا فنكل الله تعالى بهم فمسخهم٣ قردة، وجعلهم عظة وعبرة للمعتبرين٤.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق.
٢- يجب أخذ أحكام الشرع بحزم، وذكرها وعدم نسيانها أو تناسيها.
٣- لا تتم التقوى لعبد إلا إذا أخذ أحكام الشرع بحزم وعزم.
٤- حرمة٥ الاحتيال لإباحة المحرم وسوء عاقبة المحتالين المعتدين.
١ يمتنعون من فعل الذنب الذي كان سبباً في العقوبة.
٢ خص المتقين بالموعظة؛ لأنهم أحياء القلوب وذووا بصائر نيرة، فيشاهدون آثار المعاصي في أصحابها فيتقونها ويبتعدون عنها.
٣ جرت سنة الله فيمن يسمخهم إنهم لا يعيشون ثلاثاً حتى يهلكوا ولم يبقى منهم أحد، كذا صح عن ابن عباس رضي الله عنه.
٤ هم أهل البصائر من أهل الإيمان والتقوى، إذ هم أرباب العقول، والعاقل من اعتبر بغيره.
٥ روى أحمد بسند جيد عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
67
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ١ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) ﴾
شرح الكلمات:
البقرة: واحدة البقر، والذكر ثور، والأنثى بقرة.
الذبح: قطع الودجين والمارن.
الهزؤ: السخرية واللعب.
الجاهل٢: الذي يقول أو يفعل ما لا ينبغي قوله أو فعله.
١ استعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين، إذ الهزوء والسخرية، من أفعال أهل الجهل فكان قول موسى هذا وصماً لهم بالجهل وفساد العقل. وسوء الأخلاق.
٢ الجاهل الذي جهل الأمر فقال أو عمل فيه بدون علم فأفسد وأساء.
68
الفارض١: المسنة. والبكر الصغيرة التي لم تلد بعد. والعوان: النصف وسط بين المسنة والصغيرة.
فاقع: يقال: أصفر فاقع شديدة الصفرة؛ كأحمر قاني، وأبيض ناصع٢
الذلول: الريضة التي زالت صعوبتها فأصبحت سهلة منقادة.
﴿تُثِيرُ الأَرْضَ﴾ : تقلبها بالمحراث فيثور غبارها بمعنى: أنها لم تستعمل في الحرث ولا في سقاية الزرع أي لم يُسن عليها، وذلك لصغرها.
﴿مسلَّمة﴾ : سليمة من العيوب؛ كالعور والعرج٣.
﴿لا شِيَةَ فِيهَا﴾ : الشية: العلامة أي لا توجد فيها لون غير لونها٤ من سواد أو بياض.
معنى الآيات:
واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود عيباً آخر من عيوب أسلافهم الذين يعتزون بهم وهو سوء سلوكهم مع أنبيائهم فيكون توبيخاً لهم لعلهم يرجعون عن غيهم فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى ودين الحق. اذكر لهم قصة الرجل الذي قتله ابن أخيه استعجالاً لإرثه ثم ألقاه تعمية في حي غير الحي الذي هو منه، ولما اختلفوا في القاتل، قالوا نذهب إلى موسى يدعو لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل فجاءوه، فقال لهم: إن الله تعالى يأمركم أن تذبحوا بقرة من أجل أن يضربوا القتيل بجزء منها فينطق مبيناً من قتله فلما قال لهم ذلك، قالوا: أتتخذنا هزواً، فوصفوا نبي الله بالسخرية واللعب، وهذا ذنب قبيح وما زالوا يسألونه عن البقرة ويتشددون، حتى شدد الله تعالى عليهم الأمر الذي كادوا معه لا يذبحون مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم٥. ولكن شددوا فشدد الله عليهم فعثروا على البقرة المطلوبة بعد جهد جهيد وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء جلدها ذهباً.
١ الفارض: المسنة التي فرضت سنها فقطعته، لأن الفرض لغة القطع.
٢ هذه الألفاظ يؤتي بها لتأكيد الوصف، فيقال: أخضر مدهام، وأورق خطباني "الخطباني، نبت".
٣ استدل الجمهور بهذه الصفات المذكورة للبقرة على جواز بيع السلم في الحيوان، كما استدلوا بقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها"، وخالف أبو حنيفة بعدم صحة السلم في الحيوان.
٤ لأن الشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين، ولذا قيل النمام واش؛ لأنه لون الكلام بألوان من كذبه وباطله.
٥ نقل ابن كثير عن ابن جرير الرواية التالية: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا، شدد الله عليهم، وأيم الله لو أنهم لم يتثنوا لما بينت لهم آخر الدهر.
69
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق، ليتجنب مثلها المسلمون.
٢- حرمة الاعتراض على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وعلتها.
٣- الندب إلى الأخذ بالمتيسر وكراهة١ التشدد في الأمور.
٤- بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله، إذ لو لم يقل اليهود: إن شاء٢ الله لمهتدون ما كانوا ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة.
٥- ينبغي تحاشي الكلمات التي قد يفهم منها انتقاص الأنبياء مثل قولهم: الآن جئت بالحق، إذ مفهومه أنه ما جاءهم بالحق إلا في هذه المرة من عدة مرات سبقت!!.
﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي٣ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ٤ أَشَدُّ قَسْوَةً٥ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنّ
١ وشاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين: "يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا"، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". رواه الترمذي.
٢ يشهد لصحة هذا أن نبي الله سليمان لما لم يتثن لم تلد له امرأة من المائة إلا واحدة، وجاءت به نصف ولد، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو استثنى لكان دركاً لحاجته "، كما في البخاري.
٣ لما كانت عقيدة البعث والجزاء ذات تأثير كبير في إصلاح الإنسان خلقاً وسلوكاً ذكرها تعالى في أثناء سياق القصة مع أن اليهود مؤمنون بالبعث الآخر.
٤ أو: بمعنى الواو وليست لشك، وقد تكون بمعنى بل، وشاهد الأول: قول الشاعر:
أتى الخلافة أو كانت له قدراً
بمعنى وكانت وشاهد الثاني: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾. الآية: أي: بل يزيدون لاستحالة الشك على الله تعالى.
٥ القسوة في عرف اللغة: اليبس والصلابة، ووصفت قلوب اليهود بذلك؛ لأنها خالية من اللطف والرحمة.
70
مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) }
شرح الكلمات:
﴿نَفْساً﴾ : نفس الرجل الذي قتله وارثه استعجالاً للإرث.
﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ : تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول قتلها القبيل الآخر.
﴿مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ : من أمر القاتل ستراً عليه دفعاً للعقوبة والفضيحة.
﴿بِبَعْضِهَا﴾ : ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلاً.
معنى الآيات:
يقول تعالى لليهود موبخاً لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلافكم قريبه ليرثه، فاختصم في شأن القتل كل جماعة تنفي أن يكون القاتل منها، والحال أن الله تعالى مظهر ما تكتمونه لا محالة إحقاقاً للحق وفضيحة للقاتلين، فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة، فيحيا ويخبر عن قاتله ففعلتم وأحيا الله القتيل وأخبر بقاتله١ فقتل به، فأراكم الله تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة على حلمه وعلمه وقدرته، وكان المفروض أن تعقلوا عن الله آياته فتكملوا في إيمانكم وأخلاقكم وطاعتكم، ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة فهي لا ترق ولا تلين ولا تخشع على عكس الحجارة، إذ منها ما تتفجر منه العيون، ومنها ما يلين فيهبط من خشية الله؛ كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى، وكما أضطرب أحد تحت قدمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون من الذنوب والآثام، وسيجزيكم به جزاء عادلاً إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- صدق نبوة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريرها أمام اليهود، إذ يخبرهم بأمور جرت لأسلافهم لم
١ في هذه الآية شاهد لمالك في أن الجريح إذا أخبر عن جرحه. ومات آن إخباره يعد لوثاً وتجري في الحادث القسامة، وخالفه الجمهور وقالوا: إخبار القتيل لا يكفي في وجود اللوث المقتضي للقسامة، ولرأي مالك شاهد من السنة، وهي الجارية التي رض رأسها كما في البخاري.
يكن يعلمها، غيرهم وذلك إقامة الحجة عليهم.
٢- الكشف عن نفسيات اليهود وإنهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع.
٣- اليهود من أقسى البشر قلوباً إلى اليوم، إذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون.
٤- من علامات الشقاء: قساوة القلوب، وفي الحديث: "من لا يرحم لا يرحم" ١.
﴿أَفَتَطْمَعُونَ٢ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ٣ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (٧٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ : الهمزة للإنكار الاستبعادي، والطمع: تعلق النفس بالشيء رغبة فيه.
﴿يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ : يتابعونكم على دينكم (الإسلام).
﴿كَلامَ اللهِ٤﴾ : في كتبه؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن.
﴿يُحَرِّفُونَهُ ٥﴾ : التحريف: الميل بالكلام على وجه لا يدل على معناه كما قالوا في نعت
١ متفق عليه.
٢ الطمع والرجاء، وهو ترقب شيء محبوب وضدها اليأس.
٣ أي: فهموه فهماً جلياً واضحاً ومع هذا يجافونه على بصيرة.
٤ ويدخل في الجملة: الذين سمعوا كلام الله مع موسى عليه السلام في جبل الطور وهم السبعون الذين اختارهم موسى وخرج بهم إلى الطور طلباً لتوبتهم.
٥ التحريف: مصدر حرف الشيء إذا مال به إلى الحرف الذي هو الطرف والبعد عن وسط الجادة.
72
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة: أكحل العينين ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، قالوا: طويل أزرق العينين، سبط الشعر.
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ : إذا لقي منافقوا اليهود المؤمنين قالوا: آمنا بنبيكم ودينكم.
﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾ : الهمزة: للإستفهام الانكاري، وتحديثهم إخبار المؤمنين بنعوت النبي في التوراة.
﴿بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ : إذا خلا منافقوا اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم إخبارهم المؤمنين بنعوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة، وهو مما فتح١ الله به عليهم ولم يعلمه غيرهم.
﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ﴾ : يقولون لهم لا تخبروا المؤمنين بما خصكم الله به من العلم حتى لا يحتجوا عليكم به، فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم الله٢.
﴿أُمِّيُّونَ﴾ : الأمي: المنسوب إلى أمة كأنه ما زال في حجر أمه لم يفارقه، فلذا هو لم يتعلم الكتابة والقراءة٣.
﴿أَمَانِيَّ﴾ : الأماني: جمع أمنية وهي إما ما يتمناه المرء في نفسه من شيء يريد الحصول عليه، وإما القراءة من تمنى الكتاب إذا قرأه٤.
معنى الآيات:
ينكر تعالى على المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم، ويذكر وجه استبعاده بما عرف به اليهود سلفاً وخلفاً من الغش والاحتيال بتحريف الكلام وتبديله، تعمية وتضليلاً حتى لا يُهتدى إلى وجه الحق فيه، ومن كان هذا حاله يبعد جداً تخلصه من النفاق والكذب وكتمان الحق ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ وهم كاذبون وإذا خلا بعضهم ببعض أنكروا
١ من الجائز أن يكون معنى بما فتح الله به عليهم، أي: قضى وحكم من إنزال المصائب بهم والكوارث باسلافهم وهي كثيرة؛ لأن فتح تكون بمعنى حكم ومنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَق﴾ أي: أحكم.
٢ هذا الكلام جارٍ على عقيدة اليهود في تشبيههم الرب تعالى بحكام البشر في رواج الحيل عليه، وإمكان مغالطته وإنه تعالى يوجد الشيء ثم يندم ويأسف كما هو صريح في التوراة فلذا أنكروا على بعضهم إخبار المؤمنين بصدق النبوة المحمدية مخافة أن يحتجوا عليهم يوم القيامة بذلك.
٣ وجائز أن يكون منسوباً إلى الأمة فيكون بمعنى العامي المنسوب إلى العامة.
٤ وشاهده قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر
أي: قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل فيه رضي الله عنه.
73
على أنفسهم ما فاه به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه، متعللين بأن مثل هذا الاعتراف يؤدي إلى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة، وسبحان الله كيف فسد ذوق القوم وساء فهمهم حتى ظنوا أن ما يخفونه يمكن إخفاؤه على الله، قال تعالى في التنديد بهذا الموقف الشائن: ﴿أَوَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ؟.
ومن جهل بعضهم بما في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ﴾ إلا مجرد قراءة فقط، أما إدراك المعاني الموجبة لمعرفة الحق والإيمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب، وما يقولونه ويتفوهون به لم يَعْدُ الحرص والظن الكاذب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- أن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له اليهود.
٢- قبح إنكار الحق بعد معرفته.
٣- قبح الجهل بالله وبصفاته العلا وأسمائه الحسنى.
٤- ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه فضلاً عن معرفة حكمه وأسراره وواقع أكثر المسلمين اليوم شاهد على هذا فإن حفظة القرآن منهم من لا يعرفون معانيه فضلاً عن غير الحافظين له.
﴿فَوَيْلٌ١ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ٢ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ
١ في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾ إلخ. بيان سبب عذابهم وهو كذبهم على الله بكتابة شيء، ونسبته إلى الله تعالى كما هو أكلهم الحرام الذي كسبوه بالكتابة الباطلة.
٢ قوله: بأيديهم. هو نحو نظرته بعيني، وقلته بلساني، تأكيد لا غير.
74
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) }
شرح الكلمات:
ويل: الويل١: كلمة تقال لمن وقع في هلكة أو عذاب.
﴿الْكِتَابَ﴾ : ما يكتبه علماء اليهود من أباطيل وينسبونه إلى الله تعالى ليتوصلوا به إلى أغراض دنية من متاع الدنيا القليل.
﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ : ينسبون ما كتبوه بأيديهم إلى التوراة بوصفها٢ كتاب الله ووحيه إلى موسى عليه السلام.
﴿يَكْسِبُونَ﴾ : الكسب يكون في الخير، وهو هنا في الشر فيكون من باب التهكم بهم.
﴿أَيَّاماً مَعْدُودَةً﴾ : أربعين٣ يوماً وهذا من كذبهم وتضليلهم للعوام منهم ليصرفوهم عن الإسلام.
﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً﴾ : الهمزة للإستفهام الانكاري، والعهد: الوعد المؤكد.
﴿سَيِّئَةً﴾ : هذه سيئة الكفر والكذب على الله تعالى.
﴿وَأَحَاطَتْ ٤ بِهِ﴾ : الإحاطة بالشيء: الالتفاف به والدوران عليه.
١ الويل: مصدر أمات، العرب فعله، ومؤنثه: الويلة، والجمع: الويلات، وإعرابه: إن أفرد ولم يضف الرفع بالابتداء وخبره المجرور بحرف الجر، وإن أضيف إلى ضمير نصب نحو: ويلك لا تفعل كذا، وإن أضيف إلى ظاهر رفع الابتداء، نحو: ويل أمه. مسعر حرب الحديث.
٢ من المعلوم إن التوراة قد أخذت من اليهود في حملة بختنصر، وفي حملة القائد الروماني، ولذا ضاع أكثرها وزيد فيها ونقص بحيث ما أصبحت صالحة لهداية البشرية، ومن هنا أصبح علماؤهم يكتبون الكلمات وينسبونها إلى التوراة التي هي كتاب الله في الأصل، ويزعمون أن ما كتبوه هو من كتاب الله.
٣ ذكر ابن كثير في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً﴾ أن عكرمة قال: "خاصمت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها آخرون، يعنون محمداً وأصحابه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده على رؤسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفنكم فيها أحد" فأنزل الله عز وجل: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ... ﴾ الآية.
٤ بين هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: في رواية أحمد، فقال: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل".
75
﴿خَطِيئَتُهُ﴾ : الخطيئة: واحدة الخطايا وهي الذنوب عامة.
الخلود: البقاء الدائم الذي لا تحول معه ولا ارتحال.
معنى الآيات:
يتوعد الرب تبارك وتعالى بالعذاب الأليم أولئك المضللين من اليهود الذين يحرفون كلام الله، ويكتبون أموراً من الباطل وينسبونها إلى الله تعالى ليتوصلوا بها إلى أغراض دنيوية سافلة.
وينكر عليهم تبجحهم الفارغ بأنهم لا يعذبون بالنار مهما كانت ذنوبهم ما داموا على ملة اليهود إلا أربعين يوماً ثم يخرجون، وجائز أن يتم هذا لو كان هناك عهد من الله تعالى قطعه لهم به ولكن أين العهد؟ إنما هو الإدعاء الكاذب فقط ثم يقرر العليم الحكيم سبحانه وتعالى حكمه في مصير الإنسان بدخول النار أو الجنة ذلك الحكم القائم على العدل والرحمة البعيد عن التأثير بالأنساب والأحساب، فيقول: ﴿بلى﴾، ليس الأمر كما تدعون، وإنما هي الخطايا والحسنات فمن كسب سيئة وأحاطت١به خطيئته٢ فخبثت نفسه ولوثتها فهذا لا يلائم خبث نفسه إلا النار، ومن آمن وعمل صالحاً فزكى بالإيمان والعمل الصالح نفسه وطهرها فإنه لا يلائم طهارة روحه وزكاة نفسه إلا الجنة دار النعيم. أما الحسب والنسب والادعاءات الكاذبة فلا تأثير لها البتة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- التحذير الشديد من الفتاوى الباطلة التي تحرم ما أحل الله أو تحلل ما حرم ليتوصل بها صاحبها إلى غرض دنيوي كمال، أو حظوة لدى ذي سلطان.
٢- إبطال الانتفاع بالنسب والانتساب، وتقرير أن سعادة الإنسان؛ كشقائه مردهما في السعادة إلى الإيمان والعمل الصالح. وفي الشقاوة إلى الشرك والمعاصي.
٣- التنبيه على خطر الذنوب صغيرها وكبيرها، وإلى العمل على تكفيرها بالتوبة والعمل الصالح قبل أن تحوط بالنفس فتحجبها عن التوبة. والعياذ بالله.
١ دل على هذا على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، وهو في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" حديث حسن ذكره النووي في الأربعين.
٢ قرأ نافع: خطيئاته، بالجمع. وقرأ حفص: خطيئته بالإفراد.
76
﴿وَالَّذِينَ١ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ٢ إِلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْن٣ ِ إِحْسَاناً وَذِي٤ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً٥ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ٦ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ
١ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا... ﴾ إلخ. بعد ذكر النار وأهلها من باب ذكر الترغيب بعد الترهيب كما في سنة القرآن الكريم.
٢ قوله: ﴿لا تَعْبُدُونَ..﴾ إلخ. تفسير لمضمون الميثاق. والجملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى، إذ هي في معنى اعبدوا الله وحده، وأحسنوا بالوالدين. وقولوا للناس حسناً. إلخ.
٣ الوالدان: الأم، والأب. يقال: للأم، والد، ووالدة. فلذا ثنى على الوالدين، أو هو من باب التغليب؛ كالعمرين في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
٤ ذي: بمعنى صاحب.
٥ فيه إنصاف واحتراز حيث استثنى من لم يتل عما التزم به من بنود العهد، وإن كان قليلاً.
٦ أعرب: (أنتم) خبر مقدم، وهؤلاء مبتدأ مؤخر، وتقتلون: حال. وأعرب أيضاً: (أنتم) مبتدأ، وهؤلاء منادى، والخبر، تقتلون: أي: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون. وفيه معنى التعجب من حالهم والإنكار عليهم.
77
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا١ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُون (٨٦) }
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد٢ المؤكد باليمين.
حسناً: حسن القول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاطبة باللين، والكلم الطيب الخالي من البذاءة والفحش.
توليتم: رجعتم عما التزمتم به مصممين على أن لا تتوبوا.
سفك الدماء٣: إراقتها وصبها بالقتل والجراحات.
تظاهرون: قرئ تظّاهرون، وتظاهرون بتاء واحدة ومعناه تتعاونون.
بالإثم والعدوان: الإثم: الضار الموجب للعقوبة، والعدوان الظلم.
أسارى: جمع أسير: من أخذ في الحرب.
الخزي: الذل والمهانة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تذكير اليهود٤ بما كان لأسلافهم من خير وغيره والمراد هدايتهم لو كانوا يهتدون، فقد ذكرهم في الآية (٨٣) بما أخذ الله تعالى عليهم في التوراة من عهود ومواثيق على أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا في عبادته سواه. وأن يحسنوا للوالدين ولذي
١ أي: باعوا آخرتهم بدنياهم فخسروا خسراناً عظيماً بحقارة الدنيا، وعظم الآخرة، والاشتراء في الآية بمعنى: الاستبدال، استبدلوا الآخرة فلم يعملوا لها بالدنيا حيث قصروا أعمالهم على تحصيلها.
٢ هذا الميثاق تضمنه الوصايا العشر المنزلة على موسى عليه السلام، أو على الأقل بعضه والبعض الآخر تضمنه ما أخذ عليهم عند رفع الطور عليهم لما رفضوا الالتزام بما في التوراة.
٣ قوله تعالى في الآية: ﴿تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾، وقوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ليس معناه أن أحدهم يقتل نفسه ويسفك: أي يسيل دمه، وإنما لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنكم أمة واحدة.
٤ هم يهود المدينة، وهم ثلاث طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة.
78
القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس الحسن من القول ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وندد بصنيعهم حيث نقض هذا العهد والميثاق أكثرهم ولم يفوا به وفي الآية الثانية (٨٤) ذكرهم بميثاق خاص أخذه عليهم في التوراة أيضاً وهو الإسرائيلي لا يقتل الإسرائيلي ولا يخرجه من داره بغياً وعدواناً عليه، وإذا وقع في الأسر وجب فكاكه بكل وسيلة ولا يجوز تركه أسيراً بحال، أخذ عليهم بهذا ميثاقاً غليظاً وأقروا به وشهدوا عليه وفي الآية الثالثة (٨٥) وبخهم على عدم وفائهم بما التزموا به حيث صار اليهودي يقتل١ اليهودي ويخرجه من داره بغياً وعدواناً عليه. وفي نفس الوقت إن أتاهم يهودي أسيراً٢ فَدوه بالغالي والرخيص، فندد الله تعالى بصنيعهم هذا الذي هو إهمال واجب وقيام بآخر تبعاً لأهوائهم فكانوا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ومن هنا توعدهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة. وفي الآية الرابعة (٨٦) أخبر أنهم بصنيعهم ذلك اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة فكان جزاؤهم عذاب الآخرة حيث لا يخفف عنهم ولا ينصرون فيه بدفعه عنهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- مشروعية تذكير الناس ووعظهم بما يكون سبباً لهدايتهم.
٢- وجوب عبادة الله وتوحيده فيها.
٣- وجوب الإحسان إلى الوالدين ولذوي القربى واليتامى٣ والمساكين.
٤- وجوب معاملة الناس بحسن٤ الأدب.
١ حصل لهم هذا بالمدينة النبوية وذلك أن سكان المدينة كانوا يتألفون من قبيلتين: الأوس، والخزرج، وقبائل اليهود الثلاث، وكانت تندلع الحروب بينهم لأتفه الأسباب، وكانوا بنو قينقاع وبنو النضير حلفاً للخزرج، وبنو قريظة حلفاً للأوس، فإذا اندلعت الحرب بين الأوس والخزرج قاتل اليهود مع حلفاؤهم، وبذلك يقتل اليهودي أخاه ويسفك دمه وإذا انتهت الحرب فادوا أسراهم طاعة لله تعالى إذا أوجب ذلك عليهم.
٢ الأسر: مأخوذ من الإسار وهو: القد الذي يشد به المحمل فيسمى أخيذ الحرب: أسيراً، لأنه يشد وثاقه، وجمع: أسرى، وأسارى؛ كسكرى، وسكارى، ثم سمي كل أخيه في الحرب: أسيراً.
٣ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كافل التيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار الراوي بالسبابة والوسطى. أي: من أصابعه كما روي أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله".
٤ بأن يكون اللفظ طيباً والوجه منبسطًا.
79
٥- تعرض أمة الإسلام لخزي الدنيا وعذاب الآخرة بتطبيقها بعض أحكام الشريعة وإهمالها البعض الآخر.
٦- كفر من يتخير أحكام الشرع فيعمل ما يوافق مصالحه وهواه، ويعمل ما لا يوافق.
٧- كفر من لا يقيم دين الله إعراضاً عنه ودعم مبالاة به.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى١ ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا٢ جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى٣ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) ﴾
١ عيسى: معرب يسوع، أو يشوع؛ لأن عيسى أخف منهما.
٢ قوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ﴾. إلخ. إيحاء باللوم والعتاب بل هو تقريع وتوبيخ لليهود على تمردهم على رسلهم بتكذيب البعض وقتل البعض اتباعاً لأهوائهم وأغراضهم الدنية.
٣ تهوى: مضارع هوى بكسر الواو، إذا أحب، ومنه حديث البخاري: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك أي حبك والقائلة عائشة رضي الله عنه. ويجمع الهوى على أهواء.
80
شرح الكلمات:
﴿مُوسَى﴾ : موسى بن عمران نبي مرسل إلى بني إسرائيل.
﴿الْكِتَابَ﴾ : التوراة.
﴿وَقَفَّيْنَا﴾ : أرسلناهم يقْفُو بعضهم بعضاً أي واحداً بعد واحد.
﴿بِالرُّسُلِ﴾ : جمع رسول: ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
﴿الْبَيِّنَاتِ﴾ : المعجزات وآيات الله في الإنجيل.
﴿بِرُوحِ١ الْقُدُسِ﴾ : جبريل عليه السلام.
﴿غُلْفٌ﴾ : عليها غلاف يمنعها من الفهم لما تدعونا إليه، أو هي أوعية للعلم فلا نحتاج معها إلى أن نتعلم عنك.
﴿كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ : القرآن الكريم.
﴿يَسْتَفْتِحُونَ ٢﴾ : يطلبون الفتح أي النصر.
﴿بِئْسَمَا﴾ : بئس كلمة ذم، ضدها نِعمَ فإنها للمدح.
﴿بغياً٣﴾ : حسداً وظلماً.
﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ ٤﴾ : رجعوا والغضب ضد الرضا، ومن غضب الله عليه أبعده ومن رضي الله عنه قربه وأدناه.
﴿مُهِينٌ﴾ : عذاب فيه إهانة وصغار وذل للمعذب به.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى على بني إسرائيل، وذكر معايبهم وبيان مثالبهم، لعل ذكر الإنعام يحملهم على الشكر فيؤمنوا، وذكر المعايب يحملهم على الإصلاح والتوبة فيتوبوا ويصلحوا، ففي الآية (٨٧) يذكر تعالى منته بإعطاء موسى التوراة وإرسال
١ الروح: جوهر نوراني لطيف لا يدرك بالحواس فيطلق على نفس الإنسان دون أنفس الحيوانات، ويطلق على جبريل عليه السلام وعلى ملك عظيم من الملائكة، والقدس مصدر أو اسم مصدر بمعنى: النزاهة، والطهارة، والمقدس: معناه المطهر المنزه عما لا يليق به.
٢ وذلك بإيمانهم واتباعهم للنبي المنتظر. ألا إنهم لما جاءهم كفروا به، وهذه طبيعتهم كما قيل: شنشنه أعرفها من أخزم.
٣ مفعول لأجله علة لكفرهم.
٤ هل تعدد الغضب لتعدد كفرهم بما أمروا بالإيمان به، إذ كفروا بعيسى فباؤا بغضب وكفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فباؤا بغضب آخر، أو هو شدة الحال عليهم لكثرة كفرهم وفسقهم؟.
81
الرسل بعده بعضهم على أثر بعض، وبإعطاء عيسى البينات وتأييده بروح القدس جبريل عليه السلام ومع هذا فإنهم لم يستقيموا بل كانوا يقتلون الأنبياء ويكذبونهم، فوبخهم الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ١ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾. وفي الآية الثانية (٨٨) يذكر تعالى تبجحهم بالعلم واستغناءهم به، ويبطل دعواهم وثبت علة ذلك وهي: أن الله لعنهم بكفرهم، فلذا هم لا يؤمنون، وفي الآية الثالثة (٨٩) يذكر تعالى كفرهم بالقرآن ونبيه بعد أن كانوا قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون للعرب إن نبياً قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونقاتلكم معه وننتصر٢ عليكم، فما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله٣ عليهم؛ لأنهم كافرون. وفي الآية الرابعة (٨٩) يقبح الله تعالى سلوكهم حيث باعوا أنفسهم رخيصة، باعوها بالكفر فلم يؤمنوا بالقرآن ونبيه حسدا٤ أن يكون في العرب نبي يوحى إليه، ورسول يطاع ويتبع، فرجعوا من طول رحلتهم في الضلال بغضب عظيم سببه كفرهم بعيسى، وبغضب عظيم سببه كفرهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع الغضب العذاب المهين في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- واجب النعمة الشكر، وواجب الذنب التوبة.
٢- قبح رد الحق لعدم موافقته لهوى النفس
٣- فظاعة جريمة القتل والتكذيب بالحق.
٤- سوء عاقبة التبجح بالعلم وإدعاء عدم الحاجة إلى المزيد منه.
٥- ذم الحسد وأنه أخو البغي وعاقبتهما الحرمان والخراب.
٦- شر ما يخاف منه سوء الخاتمة والعياذ بالله.
١ الجمهور من النحاة: على أن همزة الاستفهام في: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ﴾ ونحوها مقدمة من تأخير إذ موقعها بعد الفاء العاطفة، ولما كان حرف الاستفهام وخاصة الهمزة له الصدارة، قدمت الهمزة على الفاء العاطفة فقال: ﴿أَفَكُلَّمَا﴾ وخلاف الجمهور يرى أن الهمزة داخلة على محذوف يقدر بحسب المقام.
٢ هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه﴾.
٣ لم يقل الله تعالى: فلعنة الله عليهم، وإنما قال: ﴿فلعنة الله على الكافرين﴾ إشارة إلى سبب اللعنة، وهو الكفر لا الجنس، أو العرق، وليعم كل كافر أيضاً.
٤ سمي الحسد: بغياً وظلماً؛ لأن البغي والظلم بمعنى، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والحاسد متمني زوال النعمة عن المحسود وهو في هذا الحال ظالم متعد؛ لأنه لا يناله من زوالها نفع ولا من بقاءها ضرر.
82
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ١ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً٢ لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ٣ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ٤ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا٥ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ : من القرآن.
﴿بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ : التوراة.
﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً﴾ : القرآن الكريم مقرر لأصول الأديان الإلهية؛ كالتوحيد والنبوات والبعث والجزاء في الدار الآخرة.
البينات: المعجزات.
١ أي: بما سواه وهو القرآن الكريم دل عليه السياق.
٢ جملة: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ حالية،: ﴿مُصَدِّقاً﴾ حال مؤكدة، ويصح أن تكون حال مؤسسة.
٣ الإتيان بالمضارع في: ﴿تَقْتُلُونَ﴾ مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة كما في إشارة إلى استعدادهم لفعل تلك الفعلة الشنيعة وهي قتل الأنبياء والعلماء.
٤ فإن قيل لقد سبق مثل هذا القصص، فما الفائدة من إعادته هنا؟ الجواب: إنه ذكر فيه ما لم يذكر هناك، وهو قوله: ﴿وَاسْمَعُوا... ﴾. إلخ.
٥ قوله: ﴿وَاسْمَعُوا... ﴾ ليس المراد بالسماع بالحاسة، وإنما المراد الطاعة والامتثال؛ كقول المرء: فلان لا يسمع كلامي، فإن معناه لا يمتثل أمري ولا يطيعني كما أن قوله: ﴿وَعَصَيْنَا﴾ ليس معناه بلفظ عصينا وإنما معناه إنهم لم يمتثلوا الأمر الصادر إليهم.
83
﴿اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ : يريد إلهاً عبدتموه في غيبة موسى عليه السلام.
﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ : أي حب العجل الذي عبدوه بدعوة السامري لهم بذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بني إسرائيل وتقريعهم على سوء أفعالهم، ففي الآية الأولى (٩١) يخبر تعالى أن اليهود إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن يدّعون أنهم في غير حاجة إلى إيمان جديد بحجة أنهم مؤمنون من قبل بما أنزل الله تعالى في التوراة وبهذا يكفرون بغير التوراة وهو القرآن، مع أن القرآن حق، والدليل أنه مصدق لما معهم من حق في التوراة، ثم أمر الله رسوله أن يبطل دعواهم موبخاً إياهم بقوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إذ قتل الأنبياء يتنافى مع الإيمان تمام المنافاة.
وفي الآية الثالثة (٩٣) يذكر تعالى اليهود بما أخذه على أسلافهم من عهد وميثاق بالعمل بما جاء في التوراة عندما رفع الطور فوق رؤوسهم تهديداً لهم غير أنهم لم يفوا بما عاهدوا عليه، كأنهم قالوا سمعنا وعصينا، فعبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم بسبب كفرهم ثم أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقبح ما ادعوه من أن إيمانهم هو الذي أمرهم بقتل الأنبياء وعبادة العجل، والتمرد والعصيان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- مشروعية توبيخ أهل الجرائم على جرائمهم إذا أظهروها.
٢- جرأة اليهود على قتل الأنبياء والمصلحين من الناس.
٣- وجوب أخذ أمور الشرع بالحزم والعزم والقوة.
٤- الإيمان بالحق لا يأمر صاحبه إلا بالمعروف، والإيمان بالباطل المزيف يأمر صاحبه بالمنكر.
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ١ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ
١ هذه الآية تحمل الرد على مزاعم أخرى لليهود وهي دعواهم إنهم أولياء الله وإن الجنة لهم دون غيرهم، ولذا فهم في غير حاجة إلى دين جديد كالإسلام الذي جاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر الله رسوله أن يباهلهم فطلب منهم أن يتمنوا الموت وسألوه فنكلوا ولم يباهلوا وظهر بذلك كذبهم وتمت فضيحتهم.
84
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كَانَ١ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ٢ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨) }
شرح الكلمات:
﴿الدَّارُ الآخِرَةُ﴾ : المراد منها نعيمها وما أعد الله تعالى فيها لأوليائه.
﴿خَالِصَةً﴾ : خاصة لا يدخلها أحد سواكم.
﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ : تمنوه في نفوسكم واطلبوه بألسنتكم، فإن من كانت له الدار الآخرة لا خير له في بقائه في الدنيا.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ : أي في دعوى أن نعيم الآخرة خاص بكم لا يشارككم فيه غيركم.
﴿حَيَاةٍ﴾ : التنكير فيها لتعم كل حياة ولو كانت ذميمة.
﴿يَوَدُّ﴾ : يحب.
١ روى الترمذي في سبب نزول: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ... ﴾ إلخ. أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال جبريل: "قالوا: ذلك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذلك عدونا لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾.
٢ ذكر جبريل وميكائيل بعد ذكرهم في عموم الملائكة دليل على شرفهما وعلو مقامهما.
85
﴿الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ : هم غير أهل الكتاب من سائر الكفار.
﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ : بمبعده من العذاب.
﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ : تعميره ألف سنة.
جبريل: روح القدس الموكل بالوحي يتنزل به على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ : نزل جبريل القرآن على قلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ : القرآن مصدق لما في الكتب السابقة من نعت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والبشارة به ومن التوحيد ووجوب الإسلام لله تعالى.
ميكال١: ميكال وميكائيل: ملك من أعاظم الملائكة، وقيل: معناه عبيد الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على اليهود وإبطال حججهم الواهية، ففي الآية الأولى (٩٤) أمر الله تعالى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم مباهلاً إياهم: إن كانت الدار الآخرة خالصة لكم لا يدخل الجنة معكم أحد فتمنوا الموت لتدخلوا الجنة وتستريحوا من عناء الدنيا ومكابدة العيش فيها، فإن لم تتمنوا ظهر كذبكم وثبت كفركم وأنكم أصحاب النار، وفعلاً ما تمنوا الموت ولو تمنوه لماتوا عن آخرهم.
وفي الآية الثانية (٩٥) أخبر تعالى أن اليهود لن يتمنوا الموت أبداً، وذلك بسبب ما قدموه من الذنوب والخطايا العظام الموجبة لهم عذاب النار بأنهم مجرمون ظلمة والله عليم بالظالمين، وسيجزيهم بظلمهم إنه حكيم عليم.
وفي الآية الثالثة (٩٦) يخبر الله تعالى أن اليهود أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين الذين يود الواحد منهم أن يعيش ألف سنة، فكيف يتمنون الموت إذاً وهم على هذا الحال من الحرص على الحياة، وذلك لعلمهم بسوء مصيرهم إن هم ماتوا. كما يخبر تعالى أن الكافر لا ينجيه من العذاب طول العمر ولو عاش أكثر من ألف سنة، ثم هدد الله تعالى اليهود وتوعدهم بقوله: ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ من الشر والفساد وسيجزيهم به.
١ في جبريل وميكائيل لغات عدة، أشهرها: جبريل وجبرائيل وجبرين –بالنون- وميكائيل، وميكال، ميكائيل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: عبد الله، وميكائيل، عبيد الله.
86
وفي الآية الرابعة (٩٧) يأمر تعالى رسوله أن يرد على اليهود قولهم: لو كان الملك الذي يأتيك بالوحي ميكائيل لأمنا بك، ولكن لما كان جبريل، فجبريل عدونا؛ لأنه ينزل بالعذاب، بقوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ﴾ فليمت غيظاً وحنقاً، فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن بإذن ربه على قلب رسوله مصدقاً –القرآن- لما سبقه من الكتب وهدى يهتدى به وبشرى يبشر به المؤمنون الصالحون.
وفي الآية الخامسة (٩٨) يخبر تعالى أن من يعاديه عز وجل ويعادي أولياءه١ من الملائكة والرسل وبخاصة جبريل فإنه كافر، والله عدو له ولسائر الكافرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- صحة الإسلام، وبطلان اليهودية، وذلك لفشل اليهود في المباهلة بتمني الموت.
٢- المؤمن الصالح يفضل الموت على الحياة لما يرجوه من الراحة والسعادة بعد الموت.
٣- صدق القرآن فيما أخبر به عن اليهود من حرصهم على الحياة ولو كانت رخيصة ذميمة، إذ هذا أمر مشاهد منهم إلى اليوم.
٤- عداوة الله تعالى للكافرين. ولذا وجب على المؤمن معاداة أهل الكفر لمعاداتهم لله، ومعاداة الله تعالى لهم.
﴿وَلَقَدْ٢ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ٣ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
١ في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب".
٢ ذكر الطبري أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ... ﴾ إلى قوله: ﴿الْفَاسِقُون﴾ نزل رداً على ابن صوريا اليهودي، حيث قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها.
٣ كابن صوريا، وأضرابه ممن تعمدوا الخروج عن منهج الحق وهم يعلمون.
87
لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ١ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) }
شرح الكلمات:
﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ : هي آيات القرآن الكريم الواضحة فيما تدل عليه من معان.
﴿يَكْفُرُ بِهَا﴾ : يجحد بكونها كتاب الله ووحيه إلى رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿الْفَاسِقُونَ﴾ : الخارجون عما يجب أن يكونوا عليه من الإيمان بالله والإسلام له ظاهراً وباطناً.
﴿أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا﴾ : الهمزة للإستفهام الإنكاري، والواو عاطفة على تقديره أكفروا بالقرآن ونبيه، وكلما عاهدوا إلخ...
العهد: الوعد الملزم.
﴿نَبَذَه﴾ : طرحه وألقاه غير آبه به ولا ملتفت إليه.
﴿رَسُولٌ﴾ : التنكير للتعظيم، والرسول هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قبله عيسى عليه السلام
﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ : من نعت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقرير نبوته، وسائر أصول الدين في التوراة.
﴿كِتَابَ اللهِ﴾ : التوراة٢ لدلالتها على نبوة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة دينه الإسلام.
﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ : أي أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه لمنافاته لما هم معروفون عليه من الكفر بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كأنهم لا يعلمون مع أنهم يعلمون حق العلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير نبوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعموم رسالته والرد على اليهود وإظهار
١ النبذ: الطرح والإلقاء، ولذا سمي اللقيط منبوذاً، وسمي النبيذ: نبيذاً؛ لأنه طرح التمر والزبيب في الماء وعليه قول الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً من نعالك
يكون القرآن الكريم، فقد نبذوه أيضاً بعد علمهم؛ بأنه الحق مصدقاً لما معهم.
88
ما هم عليه من الفسق والظلم في الآية الأولى (٩٩) يرد تعالى على قول ابن صوريا اليهودي للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جئتنا بشيء، بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ﴾ ؛ كالأعور بن صوريا اليهودي. وفي الآية الثانية (١٠٠) ينكر الحق سبحانه وتعالى على اليهود كفرهم ونبذهم للعهود والمواثيق وليسجل عليهم عدم إيمان أكثرهم بقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾. وفي الآية الثالثة (١٠١) ينعي البارئ عز وجل على علماء اليهود نبذهم للتوراة لما رأوا فيها من تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإثباتها فقال: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ١ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ٢ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- الفسق العام ينتج الكفر، إن العبد إذا فسق٣ وواصل الفسق عن أوامر الله ورسوله سيؤدي به ذلك إلى أن ينكر ما حرم الله وما أوجب فيكفر لذلك والعياذ بالله.
٢- اليهود لا يلتزمون بوعد ولا يفون بعهد، فيجب أن لا يوثق في عهودهم أبداً.
٣- التوراة أحد كتب الله عز وجل المنزلة أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام.
٤- قبح جريمة من تنكر للحق بعد معرفته، ويصبح وكأنه جاهل به.
﴿وَاتَّبَعُوا٤ مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
١ قال السدي في تفسير هذه الآية: لما جاءهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن. فهذا معنى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ... ﴾.
٢ الظهور: جمع ظهر ويجمع على ظهران يقال لمن أعرض عن شيء: رماه وراء ظهره.
٣ الفسق: مشتق من فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، وبه سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على أهل الدار.
٤ اشتهر بين علماء السلف أن ما تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان كان سببه: أن مردة من الشياطين كتبوا كتاباً ضمنوه الكثير من ضروب السحر والشعوذة والأباطيل ونسبوه إلى كاتب سليمان، وهو: أصف ودفنوه تحت كرسي سليمان حين ابتلي بنزع ملكه، ولما مات سليمان أخرج الكتاب شياطين الجن بالتعاون مع شياطين الإنس، وأعلنوا في الناس أن سليمان كان ساحراً، وما غلب الجن والإنس إلا بالسحر، فصدقهم أناس وكذب آخرون، ولما بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكفر به اليهود وتنكروا للتوراة لاتفاقها مع القرآن أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ﴾ فبرأ سليمان وكفر اليهود.
89
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ١ وَمَا أُنْزِلَ٢ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) }
شرح الكلمات:
﴿مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ﴾ : الذي تتبعه وتقول به الشياطين من كلمات السحر.
﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ : على عهد سليمان ووقت حكمه.
﴿الشَّيَاطِينَ﴾ : جمع شيطان وهو من خبث وتمرد ولم يبق فيه قابلية للخير.
١ قيل: السحر مشتق من قولهم: سحرت الصبي، إذا خدعته أو عللته بشيء ومنه قول الشاعر:
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام والشراب
يريد أن الناس مسرعون إلى الموت وهم مخدعون بالطعام وبالشراب.
٢ لم يكن إنزالاً بمعنى الوحي الإلهي ولكن إلهاماً لهما فبرع فيه وتفوق على غيرهما.
90
﴿السِّحْرَ ١﴾ : هو كل ما لطف مأخذه وخفي سببه مما له تأثير على أعين الناس أو نفوسهم أو أبدانهم.
﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ : ملكان وجدا للفتنة.
﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ : لا تتعلم منا السحر لتضر به فتكفر بذلك.
﴿بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ : بين الرجل وامرأته.
﴿اشْتَرَاهُ﴾ : اشترى السحر بتعلمه والعمل به.
الخلاق: النصيب٢ والحظ.
﴿مَا شَرَوْا﴾ : ما باعوا به أنفسهم.
﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ : ثواب وجزاء.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان ما عليه اليهود من الشر والفساد، ففي الآية الأولى (١٠٢) يخبر تعالى: أن اليهود لما نبذوا التوراة لتقريرها بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأكيدها لصحة دينه اتبعوا الأباطيل والترهات التي جمعها شياطين الإنس والجن في صورة رُقى وعزائم وكانوا يحدثون بها، ويدّعون أنها من عهد سليمان بن داود عليهما السلام، وأنها هي التي كان سليمان يحكم بها الإنس والجن، ولازم هذا أن سليمان لم يكن رسولاً ولا نبياً وإنما كان ساحراً كافراً، فلذا نفى الله تعالى عنه ذلك بقوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ وأثبته للشياطين فقال: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾. كما يعلمونهم ما ألهمه الملكان هاروت وماروت٣ ببابل العراق من ضروب السحر وفنونه، وهنا أخبرنا تعالى عن ملكي الفتنة أنهما يقولان لمن جاءهما يريد تعلم السحر: إنما نحن فتنة فلا تكفر بتعلمك السحر وهذا القول منهما يفهم منه
١ حصر بعضهم أصول السحر في ثلاثة هي: ١- زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما اعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفس المسحور الضعيف روحاً المستعد لقبول التأثير ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾. ٢- استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من حيوان ومعادن؛ كالرئبق وسائر العقاقير المؤثرة ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ ٣- الشعوذة باستخدام خفايا الحركة والسرعة حين يخيل أن الجماد يتحرك. ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ الآية.
٢ الحظ والنصيب من الخير خاصة لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما يلبس هذا من لاخلاق له".
٣ الملكان وهما: هاروت وماروت ذكرا قصتهما علماء السلف ورواها مثل: أحمد وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن جرير، وخلق كثير ولم يصح فيها حديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنها مروية عن ابن عمر، وابن عباس وعلي رضي الله عنهم، ولعلهم مروية عن كعب الأحبار، وفي الآيات عبارة وإشارة ولا مانعاً شرعاً ولا عقلاً من هذه القصة، ومفادها أن الملائكة أنكروا على بني آدم =
91
بوضوح أن أقوال الساحر وأعماله التي يؤثر بها على الناس منها ما هو كفر في حكم الله وشرعه قطعاً.
كما أخبر تعالى في هذه الآية أن ما يتعلمه الناس من الملكين إنما يتعلمونه ليفرقوا بين الرجل وامرأته، وأن ما يحدث به من ضرر هو حاصل بإذن الله تعالى حسب سنته في الأسباب والمسببات، ولو شاء الله أن يوجد مانعاً يمنع من حصول الأمر بالضرر لفعل وهو على كل شيء قدير. فبهذا متعلموا السحر بسائر أنواعه إنما هم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. وفي آخر الآية يقرر تعالى علم اليهود بكفر الساحر ومتعلم السحر ومتعاطيه حيث أخبر تعالى أنهم لا نصيب لهم في الآخرة من النعيم المقيم فيها. فلذا هم كفار قطعاً.
وأخيراً يقبح تعالى ما باع به اليهود أنفسهم، ويسجل عليهم الجهل بنفي العلم إذ قال تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
وفي الآية الثانية (١٠٣) يفتح تعالى على اليهود باب التوبة فيعرض عليهم الإيمان والتقوى فيقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- الإعراض عن الكتاب والسنة لتحريمهما الشر والفساد والظلم يفتح أمام المعرضين أبواب الباطل من القوانين الوضعية، والبدع الدينية، والضلالات العقلية، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [سبيل السعادة والكمال] وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
٢- كفر١ الساحر وحرمة تعلم السحر، وحرمة استعماله.
= ما يرتكبون من الذنوب والمعاصي ويعجبون من ذلك، فأمرهم تعالى أن يختاروا ملكين منهم ويركب فيهم غرائز بني آدم ويكلفهم وينزلهم إلى الأرض يعبدون الله كبنى آدم ثم ينظرون هل يعصون الله أو لا يعصونه، فلما نزل إلى الأرض ارتكب كبائر الذنوب، فخير بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختار عذاب الدنيا فجعلا في بابل يعلمان الناس السحر فإذا آتاهما من يريد ذلك نصحاً له بأن تعلم السحر كفر، فإذا أصر وجهاه إلى شيطان فأتاه فعلمه كيفية السحر وما يصل إليها إلا بعد أن يكفر أفظع أنواع الكفر.
١ اختلف هل للسحر حقيقة أو هو مجرد خداع لا أصل له. أهل السنة والجماعة: أن له حقيقة وهو أنواع عديدة، وحكمه أن من تعاطاه إذا أضر به فأفسد عقلاً أو عضواً أو قتل فإنه يقتل بذلك وإلا فإنه يعذر حتى يتوب منه، ويشهد لمذهب الجمهور أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحره لبيد بن الأعصم، وأنزل الله تعالى سورة الفلق فرقاه بها جبريل فشفي، وقال: "إن الله شفاني". والحديث في البخاري وغيره.
92
٣- الله تعالى خالق الخير والضير، ولا ضرر ولا نفع إلا بإذنه١ فيجب الرجوع إليه في جلب النفع، ودفع الضر بدعائه والضراعة إليه.
٤- العلم المهم؛ كالظن الذي لا يقين معه لا يغير من نفسية صاحبه شيئاً فلا يحمله على فعل خير ولا على ترك شر بخلاف الرسوخ في العلم فإن صاحبه يكون لديه من صادق الرغبة وعظيم الرهبة ما يدفعه إلى الإيمان والتقوى ويجنبه الشرك والمعاصي. وهذا ظاهر في نفي الله تعالى العلم عن اليهود في هاتين الآيتين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿رَاعِنَا﴾ : أمهلنا وانظرنا حتى نعي ما تقول.
﴿انْظُرْنَا﴾ : أمهلنا حتى نفهم ما تقول ونحفظ.
﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ : الجاحدين المكذبين لله ورسوله المستهزئين بهما أو بأحدهما.
﴿أَلِيمٌ﴾ : كثير الألم شديد الإيجاع.
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ﴾ : اليهود والنصارى والوثنين من العرب وغيرهم.
﴿مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ : من الوحي الإلهي المشتمل على التشريع المتضمن لكل أنواع الهداية وطرق الإسعاد والإكمال في الدارين.
١ ذكر القرطبي: أن ابن بطال قال: في كتاب وهب بن منبه أن يأخذ المسحور سبع ورقات من سدر أخضر فيدقها بين حجرين ثم يخلطلها بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ثم يحثو منها ثلاث حثيات ويغتسل به فإنه يذهب عن كل ما ألم إن شاء الله تعالى.
93
﴿الْفَضْلِ﴾ : ما كان من الخير غير محتاج إليه صاحبه. والله عز وجل هو صاحب الفضل إذ كل ما يمن به ويعطيه عباده من الخير هو في غنى عنه ولا حاجة به إليه أبداً.
معنى الآيتين:
أما الآية الأولى (١٠٤) فقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يراعوا١ الأدب في مخاطبة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجنباً للكلمات المشبوهة؛ ككلمة: راعنا، إذ قد تكون من الرعونة، ولما تدل عليه صيغة المفاعلة؛ إذ كأنهم يقولون: راعنا نُراعك، وهذا لا يليق أن يخاطب به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأرشدهم تعالى إلى كلمة سليمة من كل شبهة تنافي الأدب وهي انظرنا٢، وأمرهم أن يسمعوا لنبيهم إذا خاطبهم حتى لا يضطروا إلى مراجعته، إذ الاستهزاء بالرسول والسخرية منه ومخاطبته بما يفهم الاستخفاف بحقه وعلو شأنه وعظيم منزلته كفر بواح.
وفي الآية الثانية (١٠٥) أخبر تعالى عباده المؤمنين بأن الكافرين من أهل الكتاب ومن غيرهم من المشركين الوثنيين لا يحبون أن يُنزل عليكم من خير من ربكم وسواء كان قرآناً يحمل أسمى الآداب وأعظم الشرائع وأهدى سبل السعادة والكمال، أو كان غير ذلك من سائر أنواع الخيرات، وذلك حسداً منهم للمؤمنين كما أخبرهم أنه تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده فحسد الكافرين لكم لا يمنع فضل الله عليكم ورحمته بكم متى أرادكم بذلك.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- وجوب التأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مخاطبته بعدم استعمال أي لفظة قد تفهم غير الإجلال والإكبار له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- وجوب السماع لرسول الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، وعند مخاطبته لمن أكرمهم الله تعالى بمعايشته والوجود معه.
١ سبب نزول هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ... ﴾ إلخ. أن اليهود استغلوا كلمة: راعنا، وصاروا يقولونها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم ينوون بها سب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجود كلمة في العبرية مثلها ومعناه: السب والشتم؛ كالرعونة. فأنزل الله هذه الآية، أرشد فيها المسلمين إلى ترك كلمة: راعنا، وإبدالها: بانظرنا، فانقطع الطريق عن اليهود لعنهم الله.
٢ معنى انظرنا: هو معنى راعنا، ولكن لما استعملها اليهود وصاروا ينوون بها سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنها عندهم من الرعونة لذلك أرشد الله المسلمين إلى كلمة: انظر.
94
التحذير١ من الكافرين كتابيين أو مشركين؛ لأنهم أعداء حسدة للمؤمنين فلا يحل الركون إليهم والإطمئنان إلى أقوالهم وأفعالهم، إذ الريبة لا تفارقهم.
﴿مَا نَنْسَخْ٢ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ٣ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ٤ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿نَنْسَخْ﴾ : نبدل أو نزيل.
﴿مِنْ آيَةٍ﴾ : من آيات القرآن: جملة كلمات تحمل معنى صحيحاً؛ كالتحريم أو التحليل، أو الإباحة.
﴿نُنْسِهَا﴾ : نمسحها من قلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ : الاستفهام للتقرير.
﴿وَلِيٍّ﴾ : حافظ يحفظكم بتولي أموركم.
١ في هذه الآية إرشاد المسلمين إلى عدم مشابهة الكافرين في القول والعمل وحتى في الزي واللباس، ويشهد لهذه رواية أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم".
٢ معرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للعالم. روى أن علياً رضي الله عنه أرسل إلى رجل كان يخوف الناس في المسجد فجاءه فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وعن ابن عباس مثله، وقال له: هلكت وأهلكت.
٣ من: ابتداء الغاية والثانية وهي: ﴿مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ صلة.
٤ أم، هنا: هي المنقطعة بمعنى: بل الإضرابية.
95
﴿نَصِيرٍ﴾ : ناصر يدفع عنكم المكروه.
﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ : بل أتريدون، إذ (أم) هنا للإضراب الانتقالي فهي بمعنى: بل، والهمزة، وما سئله موسى هو، قول بني إسرائيل له: (أرنا الله جهرة).
﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ : وسط الطريق الآمن من الخروج عن الطريق. معنى الآيات:
يخبر تعالى راداً على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا: إن محمداً يأمر أصحابه١ اليوم بأمر وينهى عنه غداً، أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكماً شاقاً على المسلمين إلى حكم أخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى الثبوت إلى اثنين. أو حكماً خفيفاً إلى شاق زيادة في الأجر؛ كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان، أو حكماً خفيفاً إلى حكم خفيف مثله؛ كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو حكماً غير حكم آخر؛ كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلاً عنه، أو نسخ الآية بإزالتها من التلاوة، ويبقى حكمها؛ كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم. أو ينسخ الآية وحكمها. وهذا معنى قوله: ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾، وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآناً نزل وقرأه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظاً، ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال عليه قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهو أيضاً مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فهو تعال يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم: ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
أما قوله تعالى في آية (١٠٨) :﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ٢﴾، فهو توبيخ لمن طالب
١ في الكلام إشارة إلى سبب نزول هذه الآيات، والمراد بالذين قالوا أن محمداً.. إلخ: هم اليهود، واليهود ينفون وجود النسخ في الشرائع وهم مخطئون في ذلك خطأ كبيراً، إذ قد أباح الله تعالى أن لآدم أن ينكح بناته بنيه فترة من الزمن، ثم نسخ ذلك، وأباح لنوح أكل سائر الحيوان بعد نزوله من السفينة، ثم نسخ ذلك. كما أوحى الله إلى إبراهيم أن يذبح ولده، ثم نسخ ذلك إذ فداه بذبح عظيم قبل الذبح، وهذا نسخ للأمر قبل فعله.
٢ قوله تعالى: ﴿كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ..﴾. معنى سؤال بني إسرائيل موسى بأن يريهم الله جهرة، أي: مواجهة بعد أن سمعوا كلامه، كما سألوه غير هذا تعنتاً وجهلاً بمقام الرسول موسى عليه السلام، ولذا حذر الله المؤمنين من مثل هذه المواقف القبيحة.
96
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور ليس في مكنته، وإعلام من يجري على أسلوب التعنت وسوء الأدب مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يصاب بزيغ القلب فيكفر، دلّ على هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- ثبوت النسخ في القرآن الكريم، كما هو ثابت في السنة، وهما أصل التشريع ولا نسخ في قياس ولا إجماع.
٢- رأفة الله تعالى بالمؤمنين في نسخ الأحكام وتبديلها بما هو نافع لهم في دنياهم وآخرتهم.
٣- وجوب التسليم لله والرضا بأحكامه، وعدم الاعتراض عليه تعالى.
٤- ذم التنطع في الدين وطرح الأسئلة المحرجة١ والتحذير منم ذلك.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ٢ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً٣ مِنْ٤ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا٥ وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ
١ روى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "هلك المتنطعون" وفسر بالمتعين في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها.
٢ مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما ظاهرة، وهي أنه لما حذر تعالى المؤمنين من مسلك اليهود مع أنبياءهم في الأسئلة المحرجة المتعنتة، أعلمهم أن أعدائهم من اليهود يودون لهم الكفر بعد إيمانهم حسداً لهم وعلى رأس هؤلاء كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر وغيرهم، كما أن ابن أبي، وجماعة من سكان المدينة كانوا يعملون جاهدين على صرف من آمن عن إيمانه، ولما لم يحن الوقت للقتال، أمرهم تعالى بالصفح والعفو والإعداد حتى يأتي الأمر بالقتال.
٣ الحسد ثلاثة أنواع: وهي: تمني زوال نعمة عمن هي به، وتمني زوالها ولو لم تحصل لمتمنيها، وهذا شر وأقبح من الأول، وهما محرمان لها لما فيهما من تسفيه المنعم عز وجل، إذ الحاسد معترض على قسمة الله وعطاؤه عباده ما شاء. وتمني حصول نعمة كالتي حصلت لغيره، وهذا مباح وليس حراماً ويشهد له الحديث الصحيح: "لا حسد إلا في اثنتين" الحديث ويسمى غبضا.
٤ جملة: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ تأكيد لمضمون التي قبلها. ومنه قوله تعالى: ﴿َ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾، ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾.
٥ فاعفوا: أصلها: فاعفووا، حذفت الضمة للثقل، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فصارت: فاعفوا.
97
مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) }.
شرح الكلمات:
﴿وَدَّ﴾ : أحب.
﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ : اليهود والنصارى.
﴿حَسَداً﴾ : الحسد تمني زوال النعمة على من هي به.
﴿تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ : عرفوا أن محمداً رسول الله وأن دينه هو الدين الحق.
﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ : لا تؤاخذهم ولا تلوموهم، إذ العفو ترك العقاب، والصفح الإعراض عن الذنب.
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ : أي الإذن بقتالهم والمراد بهم يهود المدينة، وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ : إقامة الصلاة: أداؤها في أقواتها مستوفاة الشروط والأركان والسنن.
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ : أعطوا زكاة أموالكم وافعلوا كل ما من شأنه يزكي أنفسكم من الطاعات.
معنى الآيات:
في الآية الأولى (١٠٩) يخبر تعالى المؤمنين بنفسية كثير من أهل الكتاب وهي الرغبة الملحة في أن يتخلى المسلمون عن دينهم الحق ليصبحوا كافرين، ومنشأ هذه الرغبة الحسد الناجم عن نفسية لا ترغب أن ترى المسلمين يعيشون في نور الإيمان بدل ظلمات الكفر، وبعد أن أعلم عباده المؤمنين بما يضمر لهم أعداؤهم، أمرهم بالعفو١ والصفح؛ لأن الوقت لم يحن بعد لقتالهم فإذا حان الوقت قاتلوهم وشفوا منهم صدورهم.
وفي الآية الثانية (١١٠) أمر الله تعالى المؤمنين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل٢ الخيرات
١ هذا العفو والصفح نسخ بالإذن بقتال اليهود وإجلائهم، وبقي العفو عن المسلم والصفح عنه إذا أساء إلى أخيه المسلم لجهالة به، فإنه محمود، قال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾، وقال رسوله: "من غفر غفر له".
٢ فعل الخيرات هنا مستفاد من قوله تعالى في الآية: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله﴾.
98
تهذيباً لأخلاقهم وتزكية لنفوسهم وواعدهم بحسن العاقبة بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ١ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
هداية الآيتين:
من هداية الآيات:
١- اليهود والنصارى يعلمون أن الإسلام حق وأن المسلمين على حق فحملهم ذلك على حسدهم ثم عداوتهم، والعمل على تكفيرهم... وهذه النفسية ما زالت طابع أهل الكتاب إزاء المسلمين إلى اليوم.
٢- في الظرف الذي لم يكن مواتياً للجهاد على المسلمين أن يشتغلوا فيه بالإعداد للجهاد، وذلك بتهذيب الأخلاق والأرواح وتزكية النفوس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات إبقاء على طاقاتهم الروحية والبدنية إلى حين يؤذن لهم بالجهاد.
٣- تقوية الشعور٢ بمراقبة الله تعالى ليحسن العبد نيته وعمله.
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا٣ بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون (١١٣) ﴾
١ مثل هذه الجملة المذيل بها الكلام تكون للترغيب كما هنا، وتكون للترهيب، أي: تصلح للوعد والوعيد.
٢ هذا مستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
٣ في الآية دليل على بطلان التقليد، وهو قبول قول الغير بلا دليل، وفي الآية أن من ادعى شيئاً نفياً أو إثباتاً يطالب بالدليل بطلت دعواه.
99
شرح الكلمات:
﴿الْجَنَّةَ﴾ : دار النعيم وتسمى دار السلام وهي فوق السماء السابعة.
﴿هُوداً ١﴾ : يهوداً.
﴿نَصَارَى﴾ : صليبيين مسيحيين.
﴿أَمَانِيُّهُمْ ٢﴾ : جمع أمنية ما يتمناه المرء بدون ما يعمل للفوز به، فيكون غروراً.
البرهان: الحجة الواضحة.
﴿بَلَى﴾ : حرف إجابة يأتي بعد نفي مقرون باستفهام٣ غالباً نحو قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ ؟ بلى، أي: هو أحكم الحاكمين، ولما ادعى اليهود والنصارى أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً أو نصرانياً قال تعالى: (بلى) أي ليس الأمر كما تزعمون فلا يدخل الجنة يهودي ولا نصراني ولكن يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن أي: عبد آمن فصدق وعمل صالحاً فأحسن.
ليست على شيء: أي: من الدين الحق.
﴿يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ : أي: التوراة والإنجيل.
الذين من قبلهم: هذا اللفظ صادق على مشركي العرب، وعلى غيرهم من أمم جاهلة سبقت.
سبب نزول الآيتين ومعناهما:
لما جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة التقى باليهود في مجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعدائهم السابق تماروا فادعت اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً، وادعت النصارى أن الجنة لا يدخلها إلا من كان نصرانياً فرد الله تعالى عليهم وأبطل دعواهم حيث طالبهم بالبرهان عليها فلم يقدروا وأثبت تعالى دخول الجنة لمن زكى نفسه بالإيمان الصحيح والعمل الصالح.
١ هود: جمع هائد، أي: متبع اليهودية، ومثله: عوذ، جمع عائد، وهي: الحديثة النتاج من الظباء، والإبل، والخيل.
٢ ما تمناه اليهود وأشير إليه هنا بقوله: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ هو أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن يردوهم كفاراً، وأن يدخلون الجنة وحدهم دون غيرهم.
٣ ومن غير الغالب قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بلى﴾ فقد أجيب بها ولم يتقدمها نفي مقرون باستفهام، ومنه هذه الآية: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾.
100
فقال: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ يريد قلبه وجوارحه١ فآمن ووحد وعمل صالحاً فأحسن فهذا الذي يدخل الجنة وهي أجره على إيمانه وصالح أعماله، فلا هو يخاف ولا يحزن.
هذا معنى الآيتين الأولى (١١١) والثانية (١١٢) والثالثة (١١٣) فقد سجلت كفر كل من اليهود والنصارى، بشهادتهم على بعضهم بعضاً فقد كفر اليهود والنصارى بقولهم: إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق الذي يعتد به ويؤبه له، وكفّر النصارى اليهود بقولهم: ليست اليهود على شيء مع أنهم يقرأون التوراة والإنجيل، فلذا كان تكفيرهم لبعضهم لبعض حقاً وصدقاً. ثم أخبر تعالى أن ما وقع فيه اليهود والنصارى وهم أهل كتاب من الكفر والضلال قد وقع فيه أمم قبلهم دون علم منهم وذلك لجهلهم، وأخبر تعالى أنه سيحكم بينهم يوم القيامة ويجزيهم بكفرهم وضلالهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- إبطال تأثير النسب٢ في السعادة والشقاء، وتقرير أن السعادة بدخول الجنة مردها إلى تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، وإن الشقاوة بدخول النار مردها إلى الشرك، وارتكاب الذنوب فلا نسبة إلى يهودية أو نصرانية أو غيرهما تُغني عن صاحبها، وإنما المغني بعد فضل الله ورحمته الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.
٢- كفر اليهود والنصارى وهو شر كفر؛ لأنه كان على علم.
٣- الإسلام الصحيح القائم على أسسه الثلاثة الإيمان والإسلام والإحسان هو سبيل٣ النجاة من النار والفوز بالجنة.
١ أي: ذاته، إذ طاعة الله تعالى تكون بها قلباً وجوارح، ومن إطلاق الوجه على الذات، قول الشنفري:
إذا قطع رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري
قوله وفي الرأس أكثري: فيه تفصيل الرأس الذي هو بمعنى الوجه على سائر الجسد لأفضليته، فكذلك إطلاق الوجه في الآية وإرادة الذات، لأن الوجه أشرف الذات.
٢ ويشهد لهذا قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم: "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" الحديث.
٣ هذا مستفاد من قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ الآية.
101
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ : الاستفهام للإنكار والنفي، والظلم وضع الشيء في غير محله مطلقاً.
﴿وَسَعَى١ فِي خَرَابِهَا﴾ : عمل في هدمها وتخريبها حقيقة أو يمنع الصلاة فيها وصرف الناس عن التعبد فيها إذ هذا من خرابها أيضاً.
الخزي: الذل والهوان٢.
﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ : هناك الله تعالى إذ الله عز وجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقاً أو غرباً شمالاً أو جنوباً وجد الله تعالى، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، فليس هناك جهة تخلو من علم الله تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها. ويقرر هذا قوله: ﴿إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، إنه واسع الذات والعلم والفضل والجود والكرم عليم بكل شيء لأنه محيط بكل شيء.
شرح الآيتين:
ففي الآية الأولى (١١٤) ينفي تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلماً ممن منع مساجد٣ الله تعالى أن يعبد الله تعالى فيها، لأن العبادة هي علة الحياة فمن منعها كان كمن أفسد
١ أصل السعي: المشي، ومنه السعي بين الصفا والمروة، وهو المشي بينهما ثم أطلق على التسبب مطلقاً يقال: سعى فلان في مصلحتك وسعى فلان في الإفساد بين فلان وفلان.
٢ وقد نال صناديد قريش حيث أزلهم وأخزاهم يوم الفتح على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضوان الله عليهم.
٣ المساجد: جمع مسجد بكسر الجيم على غير قياس إذ فعل بالفتح، يفعل بالضم، الاسم منه كالمصدر مفعل بالفتح، ونظير المسجد المطلع والمشرق والمسكن والمرفق. والمسجد بالفتح: جبهة المرء وأعضاء سجوده السبعة.
102
الحياة كلها وعطلها، وفي نفس الوقت ينكر تعالى هذا الظلم على فاعليه وسواء كانوا قريشاً بصدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام، أو فلطيوس ملك الروم الذي خرّب المسجد الأقصى١، أو غيرهم ممن فعلوا هذا الفعل أو من سيفعلونه مستقبلاً، ولذا ضمن تعالى قوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ﴾، أمر المسلمين بجهاد الكافرين وقتالهم حتى يسلموا أو تكسر شوكتهم فيذلوا ويهونوا.
وفي الآية الثانية (١١٥) يخبر تعالى راداً على اليهود الذين انتقدوا أمر تحويل القبلة من بين المقدس إلى الكعبة، مؤذناً بجواز صلاة من جهل القبلة أو خفيت عليه إلى أي جهة كانت، فأخبر تعالى أن له المشرق والمغرب٢ خلفاً وملكاً وتصرفاً، يوجه عباده إلى الوجهة التي يشاؤها شرقاً أو غرباً، جنوباً أو شمالاً، فلا اعتراض ولا إنكار وأن الله تعالى محيط بالكائنات، فحيثما توجه العبد في صلاته فهو متوجه إلى الله تعالى، إلا أنه تعالى أمر بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة بمن عرف جهتها لا يجوز له أن يتجه إلا إليها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- عظم جريمة من يتعرض للمساجد بأي أذى٣ أو إفساد.
٢- وجوب حماية المساجد من دخول الكافرين إلا أن يدخلوها بإذن المسلمين وهم أذلاء صاغرون.
٣- صحة صلاة٤ النافلة على المركوب في السفر إلى القبلة وإلى غيرها.
٤- وجوب استقبال القبلة إلا عند العجز٥ فيسقط هذا الواجب.
٥- العلم بإحاطة الله تعالى بالعوالم كلها قدرة وعلماً فلا يخفى عليه من أمر العوالم شيء ولا يعجزه آخر.
١ وقد خرب بيت المقدس أيضاً بختنصر اليهودي البابلي قبل النصارى.
٢ بناء على كروية الأرض، فإن الأرض كلها مشرق ومغرب، إذ كل مكان تشرق فيه هو مكان تغرب فيه.
٣ من عظم ذنب من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أخذ المالكية أن المرأة الصرورة التي لم تحج الفرض لا تمنع من الحج وإن لم يكن معها محرم، وعدو منعها من أداء الفريضة من الصد عن المسجد عن الحرام.
٤ إذ صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي النافلة على راحتله حيثما اتجهت به القبلة وإلى غيرها.
٥ للعجز صور منها: أن يكون مريضاً لا يقدر على التحول، ومنها: أن يكون خائفاً، ومنها: أن يكون مقاتلاً أو هارباً، ومنها: أن يكون جاهلاً بها فطلبها ولم يعرف فصلى حيث ترجح القبلة وإن لم يصبها.
103
﴿وَقَالُوا١ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا٢ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) ﴾
شرح الكلمات:
سبحانه: تنزه وتقدس عن كل نقص ومنه أن يكون له ولد.
قانتون: خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه.
بديع السموات: مبدعها أي موجدها على غير مثال سابق.
قضى أمراً: حكم بإيجاده.
أو تأتيه آية: كآيات موسى وعيسى في العصا وإحياء الموتى.
ولا تسأل: قرئ بالتاء للمجهول، ولا نافية والفعل مرفوع، وقرئ بالبناء للمعلوم ولا ناهية والفعل مجزوم.
الجحيم: دركة من دركات النار وهي أشدها عذاباً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أباطيل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين والرد عليها بما يظهر زيفها ويبطلها نهائياً ففي الآيتين الأولى (١١٦) والثانية (١١٧) يذكر تعالى قول
١ الضمير المرفوع في ﴿قالوا﴾ عائد إلى الفرق الثلاث، وهم: أهل الكتاب، ومشركوا العرب.
٢ لولا: بمعنى لعل التحضيضية.
104
أهل الكتاب والمشركين في أن الله اتخذ ولداً، إذ قالت اليهود: العزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعض مشركي العرب: الملائكة بنات الله، ذكر تعالى قولهم اتخذ الله ولداً ثم نزه١ نفسه عن هذا القول الباطل والفرية٢ الممقوتة، وذكر الأدلة العقلية على بطلان الدعوى.
فأولاً: مِلْكيةُ الله تعالى لما في السموات والأرض، وخضوع٣ كل من فيهما لحكمه وتصريفه وتدبيره يتنافى عقلاً مع اتخاذ ولد منهم.
ثانياً: قدرة الله تعالى المتجلية في إبداعه السموات والأرض وفي قوله للشيء كن فيكون يتنافى معها احتياجه إلى الولد٤، وهو مالك كل شيء ورب كل شيء، وفي الآية الثالثة (١١٨) يرد تعالى على قولة المشركين الجاهلين: ﴿لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾ حيث اقترحوا ذلك ليؤمنوا ويوحدوا، فأخبر تعالى أن مثل هذا الطلب طلبه من قبلهم فتشابهت قلوبهم في الظلمة والانتكاس، فقد قال اليهود لموسى أرنا الله جهرة، أما رؤية الله وتكليمه إياهم فغير ممكن في هذه الحياة حياة الامتحان والتكليف، لذا لم يجب إليه أحداً من قبلهم ولا من بعدهم، وأما الآيات فما أنزل الله تعالى وبينه في كتابه من الآيات الدالة على الإيمان بالله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، وعلى صدق نبيه في رسالته ووجوب الإيمان به واتباعه كاف ومغن عن أية آية مادية يريدونها، ولكن القوم لكفرهم وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم وذلك لعدم إيقانهم، والآيات يراها وينتفع بها الموقنون لا الشاكون المكذبون.
وفي الآية الرابعة (١١٩) يخفف تعالى على نبيه همَّ مطالبة المشركين بالآيات بأنه غير مكلف بهداية أحد ولا ملزم بإيمان آخر، ولا هو مسئول٥ يوم القيامة عمن يدخل النار من الناس، إذ مهمته محصورة في التبشير٦ والإنذار تبشير من آمن وعمل صالحاً بالفوز بالجنة
١ وذلك بقوله: ﴿سبحانه﴾ مصدر معناه: التبرئة والتنزيه والمحاشاة.
٢ أحرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمي إياي فقوله لي: ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً".
٣ الخضوع هنا تفسير القنوت، والقنوت يكون بمعنى الطاعة في ذلة وانكسار وخشوع، كما هو في هذا السياق ويكون بمعنى السكوت كما في الصلاة، كقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ أي: لا تتكلموا في صلاتكم، ويكون بمعنى الدعاء في الصلاة.
٤ من الأدلة العقلية على إبطال فرية اتخاذ الله تعالى الولد: أن الولدية تقضي التجانس، والله تعالى ليس كمثله شيء، وهو لا يجانسه شيء، ثم الولد يتنافى مع الرق والملك والله له ملك السموات والأرض، فكيف يكون الرقيق ولداً؟!.
٥ قرأ نافع وحده ﴿ولا تَسأل﴾ بفتح التاء وسكون اللام في قوله: ﴿وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يا ليت شعري ما فعل أبواي" فأنزل الله تعالى هذه الآية.
٦ البشير كالنذير فعلهما بشر، وأنذر. واسم الفاعل: مبشر ومنذر، ونقل إلى بشير ونذير للمبالغة في الفعل.
105
والنجاة من النار، وإنذار من كفر وعمل سوءاً بدخول النار والعذاب الدائم فيها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- حرمة نسبة أي شيء إلى الله تعالى بدون دليل من الوحي الإلهي، إذ أنكر تعالى نسبة الولد إليه أنكره على أهل الكتاب والمشركين معاً.
٢- تشابه قلوب أهل الباطل في كل زمان ومكان لاستجابتهم للشيطان وطاعتهم له.
٣- لا ينتفع بالآيات إلا أهل اليقين لصحة عقولهم وسلامة قلوبهم.
٤- على المؤمن أن يدعو إلى الله تعالى، وليس عليه أن يهدي، إذ الهداية بيد الله، وأما الدعوة فهي في قدرة الإنسان، وهو مكلف بها.
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ١ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ٢ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) ﴾
شرح الكلمات:
ملتهم: دينهم الذي هم عليه من يهودية ونصرانية.
قل إن الهدى هدى الله: الهدى: ما أنزل به كتابه وبعث به رسوله وهو الإسلام، لا ما ابتدعه اليهود والنصارى من بدعة اليهودية والنصرانية.
١ ملتهم: بمعنى مللهم، إذ لكل كافر ملة، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أن الكفر ملة واحدة، وذهب أحمد في رواية له ومالك إلى أن الكفر ملل، ولذا فلا يرث اليهودي النصراني، ولا النصراني اليهودي، ولا المجوسي. إذ لكل ملة، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يتوارث أهل ملتين" ويبقى معنى الكفر ملة واحدة، أي: إنه ليس فيه فاضل، ومفضول.
٢ روي أن أحمد استدل على كفر من قال بخلق القرآن بهذه الآية: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ وهو القرآن. فمن قال بخلق القرآن، قال بخلق علم الله تعالى. وهو كفر صريح.
106
من ولي ولا نصير: الولي من يتولاك ويكفيك أمرك، والنصير من ينصرك ويدفع عنك الأذي.
يتلونه حق١ تلاوته: لا يحرفون كلمه عن مواضعه ولا يكتمون الحق الذي جاء فيه من نعت الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره.
أولئك هم الخاسرون: المشار إليهم كفار أهل الكتاب والخسران خسران الدنيا والآخرة.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب يكشف عوارهم ويدعوهم إلى الهدى لو كانوا يهتدون، ففي الآية الأولى (١٢٠) يخبر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم الباطلة، وهي اليهودية أو النصرانية، وفي هذا نهي عن اتباعهم ثم أمره أن يخبرهم أن الهدى هدى٢ الله الذي هو الإسلام وليس اليهودية ولا النصرانية، إذ هما بدعتان من وضع أرباب الأهواء والأطماع المادية.
ثم يحذر الله رسوله وأمته من اتباع اليهود والنصارى بعد الذي جاءهم والنعمة التي أتمها عليهم وهي الإسلام فيقول: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير﴾.
وفي الآية الثانية (١١٢) يخبر تعالى أن الذين آتاهم الله الكتاب التوراة والإنجيل فكانوا يتلونه حق تلاوته فلا يحرفون ولا يكتمون هؤلاء يؤمنون بالكتاب حق الإيمان، أما الذين يحرفون كلام الله ويكتمون ما جاء فيه من نعوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهؤلاء لا يؤمنون به وهم الخاسرون دون غيرهم، ومن آمن٣ من أهل الكتاب بكتابه وتلاه حق تلاوته سوف يؤمن بالنبي الأمي ويدخل في دينه قطعاً.
هداية الآيات:
من هداية الآيتين:
١- لا يحصل المسلم على رضا اليهود والنصارى إلا بالكفر بالإسلام واتباع دينهم الباطل
١ هم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتابعوهم بإحسان كان أحدهم إذا مر بآية رحمة سألها الله تعال، ى وإذ تعالى مر بآية عذاب تعوذ بالله من العذاب.
٢ أن ما يهدي إليه الرب تعالى عباده المؤمنين بمعنى ما يوفقهم إليه من الإسلام ظاهراً وباطناً، فيعملون بطاعته وطاعة رسوله في المنشط والمكره، ذلك هو هدى الله المبعد عن الضلال والموصل إلى دار السلام.
٣ كعبد الله بن سلام، ومن آمن على عهد رسول الله من أحبار أهل الكتاب.
107
وهذا ما لا يكون للمسلم أبداً، فلذا طلب رضا اليهود والنصارى محرم لا يحل أبداً.
٢- لا دين١ حق إلا الإسلام فلا ينبغي أن يُلتفت إلى غيره بالمرة.
٣- من يوالي اليهود والنصارى باتباعهم على باطلهم يفقد ولاية الله تعالى ويحرم نصرته.
٤- طريق الهداية في تلاوة كتاب الله حق تلاوته بأن يجوده قراءة ويتدبره هداية ويؤمن بحكمه ومتشابهه، ويحلل حلاله ويحرم حرامه، ويقيم حدوده كما يقيم حروفه.
﴿يَا بَنِي٢ إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ٣ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) ﴾
شرح الكلمات:
إسرائيل: لقب يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
وبنو إسرائيل: هم اليهود.
العالمين: البشر الذين كانوا في زمانهم مطلقاً.
لا تجزي: لا تقضي ولا تغني.
العدل: الفداء.
شفاعة: وساطة أحد.
١ يشهد لهذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "والذي نفسي بيده ما يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".
٢ هذا النداء الثالث الذي نادى الله تعالى به بني إسرائيل يأمرهم بذكر نعمه ليشكروها بالإيمان برسوله، والدخول في دين الإسلام، لكن حالهم كما قال القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
٣ يلاحظ تقديم الشفاعة في النداء الثاني على أخذ العدل وتأخير الشفاعة في هذا النداء وتقديم العدل وما هو إلا تفنن في الأسلوب إذهاباً للسآمة. وهذا شأن الكلام البليغ.
108
معنى الآيتين:
يعظ الرحمن عز وجل اليهود فيناديهم١ بأشرف ألقابهم ويأمرهم نعمه تعالى عليهم وهي كثيرة، ويأمرهم أن يذكروا تفضيله تعالى لهم على عالمي زمانهم، والمراد من ذكر النعم شكرها، فهو تعالى في الحقيقة يأمرهم بشكر نعمه، وذلك بالإيمان به وبرسوله والدخول في دينه الحق (الإسلام).
كما يأمرهم باتقاء عذاب يوم القيامة حيث لا تغني نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها فداء ولا تنفعها شفاعة، وهذه هي نفس الكافر المشرك، حيث لا شفاعة تنال الكافر أو المشرك، ولا يوجد لهم ناصر ينصرهم فيدفع عنهم العذاب، إذ اتقاء عذاب يوم القيامة يكون بالإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح، بعد التخلي عن الكفر والمعاصي.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- وجوب ذكر نعم الله على العبد ليجد بذلك دافعاً نفسياً لشكوها، إذ غاية الذكر هي الشكر.
٢- وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والعصيان.
٣- استحالة الفداء يوم القيامة، وتعذر وجود شافع يشفع لمن مات على الشرك لا بإخراجه من النار، ولا بتخفيف العذاب عنه.
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ٢ رَبُّهُ٣ بِكَلِمَات٤ٍ
١ بهذا النداء ختم الحجاج مع اليهود في هذه السورة، فلم يجري لهم ذكر بعد فكان من براعة المقطع. ذكر هذا صاحب التحرير والتنوير، وليس صحيحاً، بل الصحيح: أن ختم الحجاج مع اليهود انتهى عند قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ الآية ١٤٩.
٢ أبرهم بالسريانية والعبرية أيضاً معناه: أب رحيم، ولرحمته جعلها الله تعالى كافلاً للأطفال المؤمنين في الجنة إلى يوم القيامة إن صح الحديث بذلك.
٣ ذكر الربوبية هنا تشريف لإبراهيم عليه السلام وإيذان بأن ابتلاؤه كان تربية له وإعداداً له لأمر خطير.
٤ الكلمات: جمع كلمة، وهي اللفظ المفرد، وتطلق على الكلام أيضاً، والمراد بها هنا كلمات تحمل الأوامر التكليفية، ومن أبرزها ما يلي: كسر الأصنام، والهجرة، وذبح إسماعيل، وبناء البيت العتيق، والختان، والصلاة، والزكاة، وخصال الفطرة، والصدق، والصبر، وبالجملة: فقد نهض إبراهيم بكل ما عاهد إليه ربه بالقيام به من الشرائع، فلذا أكرمه بالإمامة وشرفه بها.
109
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) }
شرح الكلمات:
ابتلى: اختبره بتكليفه بأمور شاقة عليه.
بكلمات: متضمنة أوامر ونواهي.
أتمهن: قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتمها.
إماماً: قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال.
الظالمين: الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس.
معنى الآية الكريمة:
بعد ذلك الحجاج الطويل الذي عاشه رسول الله مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكذا المشركين في الآيات السابقة لهذه الآية، أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلاءه تعالى لنبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بما كلفه من أوامر ونواهي، فقام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام، وهو أنه جعله إماماً للناس، ومن أبرز تلك التكاليف وقوفه في وجه الوثنيين، وتحطيم أوثانهم، والهجرة من ديارهم والهم بذبح ولده إسماعيل قرباناً لله، وبناء البيت، وحجة الدعوة إليه مما استحق به الإمامة للناس كافة، وفي هذا تبكيت للفرق الثلاثة: العرب المشركين، واليهود، والنصارى. إذ كلهم يدعي انتماءه لإبراهيم والعيش على ملته فها هو ذا إبراهيم موحد وهم مشركون، عادل وهم ظالمون، مُتبع للوحي الإلهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون، وفي الآية بيان رغبة إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها الله تعالى في ذريته١ ٢ كما رغب واستثنى تعالى الظالمين فإنهم لا يستحقونها فهي لا تكون إلا في أهل الخير والعدل والرحمة لا تكون في الجبابرة القساة ولا الظالمين العتاة.
١ الذرية: مأخوذ من ذرأ الله الخلق درأً، أي: خلقهم والجمع: ذراري.
٢ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب﴾ الآية من سورة العنكبوت.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- الإمامة لا تنال إلا بصحة اليقين١ والصبر على سلوك سبيل المهتدين.
٢- مشروعية ولاية العهد، بشرط أن لا يعهد إلا إلى من كان على غاية من الإيمان والعلم والعمل والعدل والصبر.
٣- القيام بالتكاليف الشرعية قولاً وعملاً٢ يؤهل لأن يكون صاحبه قدوة صالحة للناس.
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً٣ لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) ﴾
شرح الكلمات:
البيت: الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة.
مثابة: مرجعاً يثوب إليه العمار والحجاج.
أمناً: مكاناً آمناً يأمن فيه كل من دخله
مقام إبراهيم: الحجر الذي كان قد قام عليه إبراهيم أيام كان يبني البيت وذلك أنه لما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء الجدران، فجيء بهذا الحجر فقام عليه فسمي مقام إبراهيم.
١ شاهد هذا في كتاب الله تعالى إذ قال عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ السجدة. فلذا قيل: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
٢ هذا مستفاد من قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾.
٣ مثابة: أصله: ثاب مصدر ثاب يثوب مثاباً، وزيدت فيه التاء للمبالغة كما زيدت في علامة ونسابة، ويشهد لهذا قول الشاعر:
جعل البيت مثابة لهم...
ليس منه الدهر يقضون الوطر
111
مصلى: مكاناً يصلى فيه أو عنده أو إليه.
عهدنا: وصينا وأمرنا.
تطهير البيت: تنزيه عن الأقذار الحسية؛ كالدماء والأبوال. ومعنوية؛ كالشرك والبدع والمفاسد.
اضطره: ألجأه مكرهاً إلى العذاب.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في تذكير المشركين وأهل الكتاب معاً بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام، ومآثره الطيبة الحميدة، ومواقفه الإيمانية العظيمة ليتجلى بذلك بطلان دعوى كل من أهل الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذباً وزوراً، إذ هو موحد وهم مشركون، وهو مؤمن وهم كافرون، فقال تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس١ يثوبون إليه في كل زمان حجاجاً وعماراً، وأمناً دائماً من دخله، أمن على نفسه وماله وعرض. وقلنا لمن حجوا البيت أو اعتمروا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فكان من سنة من طاف بالبيت أن يصلي خلف المقام ركعتين، كما أوصينا٢ من قبل إبراهيم وولده إسماعيل بتطهير البيت من كل رجز معنوياً؛ كالأصنام وعبادة غير الله تعالى، أو حسياً؛ كالأقذار والأوساخ من دم أو بول حتى يتمكن الطائفون والعاكفون٣ والمصلون من آداء هذه العبادات بلا أي أذى يلحقهم أو يضايقهم.
هذه ما تضمنته الآية الأولى (١٢٥)، أما الآية الثانية (١٢٦) فقد تضمنت أمر الله تعالى لرسوله أن يذكر دعوة إبراهيم ربه بأن يجعل بلداً آمنا٤ من دخله يأمن فيه٥ على نفسه وماله وعرضه، وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من الثمرات وأن الله قد استجاب لإبراهيم دعوته إلا إن الكافرين لا يحرمون الرزق في الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الآخرة حيث
١ فقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن موسى عليه السلام حج البيت وإن هوداً حجه من قبل، وكذا سائر الأنبياء والمرسلين.
٢ الآية وعهدنا: إلا إن الوعد المؤكد وقوعه يصير عهداً، فإن عدي بإلى صار وصية، فلذا فسرنا: العهد، هنا بالوصية.
٣ العكوف: ملازمة المسجد للصلاة والعبادة، والعاكفون الملازمون للمسجد الحرام من ساكن مكة وغريب.
٤ الجمهور على أن الحدود تقام على أصحابها في الحرم، وخالف أبو حنيفة في هذا، وقول الجمهور أصح وعليه العمل. فقد روى البخاري أن عمر بن سعيد قال: "إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بخربة".
٥ هل كانت مكة حراماً قبل دعوة إبراهيم أو بعد دعوته خلاف، ويشهد لقولها ما كانت حراماً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها.." الحديث في مسلم.
112
يلجئهم تعالى مضطراً لهم إلى عذاب النار الغليظ وبئس هذا المصير الذي يصيرون إليه –وهو النار- من مصير.
هداية الآيات:
من هداية الآيتين:
١- منة الله تعالى بجعل البيت مثابة للناس وأمناً توجب حمد الله على كل مؤمن.
٢- سنة صلاة ركعتين خلف المقام لمن١ طاف البيت.
٣- وجوب حماية البيت والمسجد الحرام من أي ضرر يلحق من يوجد فيه من طائف وعاكف وقائم وراكع وساجد.
٤- بركة دعوة إبراهيم لأهل مكة، واستجابة الله تعالى له دعوته فلله الحمد والمنة.
٥- الكافر لا يحرم الرزق لكفره٢ بل له الحق في الحياة إلا أن يحارب فيقتل أو يسلم.
٦- مصير من مات كافراً إلى النار، لا محالة، والموت في الحرم لا يغني عن الكافر شيئاً.
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ٣ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ٤ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ٥ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
١ روى البخاري عن عمر رضي الله عنه إنه قال: "وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً﴾ الآية.
٢ هذا مستفاد من قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً..﴾ إلخ، إذ إبراهيم عليه السلام سأل الرزق للمؤمنين لاغير نظراً إلى أن الله تعالى رد طلبه في سؤاله الإمامة لكافة ذريته، إذ قال: ﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فمن هنا استثنى إبراهيم غير المؤمنين فأعلمه الله أن الغذاء حق الحي مؤمناً كان أو كافراً.
٣ الإتيان بالمضارع هنا مع أن السياق في أمور مضت من أجل استحضار الحالة كأنها مشاهدة وذلك إبرازاً لمواقف إمام الموحدين إبراهيم المشرفة ترغيباً في الاقتداء به.
٤ إسماعيل: هو الولد البكر لإبراهيم، وأمه: هاجر الجارية المصرية، ومعنى إسماعيل: سمع الله.
٥ هذا كسؤال المسلم في صلاته: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: أدم هدايتنا واحفظ سيرنا عليه حتى نفوز برضاك والجنة، فكذلك سؤال إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، أي: أدم لنا إسلامنا واحفظها علينا حتى لا نتركه؛ لأنه علة وجودنا وغاية أملنا في الحياة.
113
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) }
شرح الكلمات:
وإذ: ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره: أذكر وقت كذا وكذا.
القواعد: جمع قاعدة ما يبنى عليه الجدار من أساس ونحوه.
البيت: الكعبة حماها الله وطهرها.
إنك أنت السميع العليم: هذه الجملة وسيلة توسل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهم.
مسلمين: منقادين لك خاضعين لأمرك ونهيك، راضين بحكمك، عابدين لك.
أرنا مناسكنا: علمنا كيف نحج بيتك، تمسكاً وتعبداً لك.
تب علينا: وفقنا للتوبة إذا زللنا وأقبلها منا.
وابعث فيهم رسولاً: هذا الدعاء استجابه الله تعالى، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو ما طلباه.
الكتاب: القرآن.
الحكمة: السنة وأسرار الشرع والإصابة في الأمور كلها.
يزكيهم: يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم، ويهذب أخلاقهم بما يعلمهم من الكتاب والحكمة، وما بينه لهم من ضروب الطاعات.
العزيز الحكيم: العزيز الغالب الذي لا يغلب. الحكيم في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في موضعه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مآثر إبراهيم عليه السلام المنبئة عن مكانته السامية في كمال الإيمان والطاعة، وعظيم الرغبة في الخير والرحمة، فقد تضمنت الآيات الثلاث ذكر إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت برفع قواعده وهما يدعوان الله تعالى بأن يتقبل١ منهما عملهما متوسلين إليه بأسمائه وصفاته: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
١ هذه من كمال الحال إذ هو في حال البناء، والتعب، والعرق، ويسأل أن يتقبل منه عمله. هذا شأن الكمال من الرجال. قال تعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ الآية.
114
كما يسألانه عز وجل أن يجعلها مسلمين له، وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة١ له مؤمنة به موحدة له ومنقادة لأمره ونهيه مطيعة، وأن يعلمهما مناسك٢ حج بيته العتيق ليحجاه على علم، ويتوب عليهما، كما سألاه عز وجل أن يبعث في ذريتهم رسولاً منهم يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم الإيمان وصالح الأعمال، وجميل الخلال وطيب الخصال.
وقد استجاب الله تعالى دعاؤهما فبعث في ذريتهما من أولاد إسماعيل إمام المسلمين وقائد الغر المحجلين نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قرر هذا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:
"أنا دعوة٣ أبي إبراهيم وبشارة عيسى " عليهم جميعاً السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- فضل الإسهام بالنفس في بناء المساجد٤.
٢- المؤمن البصير في دينه يفعل الخير وهو خائف ألا يقبل منه فيسأل الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته أن يتقبله منه.
٣- مشروعية سؤال الله للنفس وللذرية الثبات على الإسلام حتى الموت عليه.
٤- وجوب تعلم مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر.
٥- وجوب طلب تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، وتهذيب الأخلاق بالعلم والحكمة.
٦- مشروعية التوسل إلى الله تعالى في قبول الدعاء، وذلك بأسمائه تعالى وصفاته لا بحق فلان وجاه فلان، كما هو شأن المبتدعة والضلال. ففي هذه الآيات الثلاث توسل إبراهيم وإسماعيل بالجمل التالية:
١- ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
١ هي أمة الإسلام التي أنشأها بعون الله تعالى محمد الذي بعثه الله رسولاً في ذرية إسماعيل للعالمين.
٢ النسك في اللغة: الغسل بالماء، يقال: نسك ثوبه إذا غسله، وهو في الشرع: اسم للعبادة، لأن العبادة تطهر النفس وتزكيها، يقال: رجل ناسك ومتنسك إذا لازم العبادة يغسل بها نفسه لتطهر وتزكو فيفلح بذلك ويفوز. ومناسك الحج: هي العبادات المشروعة فيه من إحرام وطواف وذبح الهدي وغير ذلك.
٣ رواه أحمد بلفظ: "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته وسأنبئكم بأول ذك. دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين".
٤ وفي الحديث الصحيح: "من بنى لله مسجداً بنى الله له قصراً في الجنة".
115
٢- ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
٣- ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ١ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ٢ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى٣ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ٤ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) ﴾
شرح الكلمات:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم: الرغبة عن الشيء عدم حبه وترك طلبه، وملة إبراهيم هي عبادة الله وحده بما شرع لعباده.
١ الاستفهام للنفي والإنكار، وملة إبراهيم هي عبادة الله وحده لا شريك له بما شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ الاصطفاء: مأخوذ من الصفوة، وهو تخير الأصفى: أي الأكثر صفاء، واصطفى: قلبت فيه التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق، إذ الأصل: اصطفى، أي: طلب الصفوة.
٣ وصى وأوصى، بمعنى: عهد إليه بكذا، والموصى به هنا هو كلمة: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وذلك بعبادته وحده بما شرع بعد خلع الأنداد. وذي: هي ملة إبراهيم.
٤ أم: بمعنى: بل. والهمزة هي التي للاستفهام الإنكاري وتقدير الكلام: بل أكنتم شهداء حين حضر يعقوب الموت فوصى بنيه. يوبخهم على كذبهم وينكر عليهم.
116
إلا من سفه١ نفسه: لا يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين الإسلام إلا عبد جهل قدر نفسه فأزلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها، وهي: الإسلام.
اصطفيناه: اخترناه لرسالتنا والبلاغ عنا، ومن ثم رفعنا شأنه وأعلينا مقامه.
أسلم: أنقد لأمرنا ونهينا، فاعبدنا وحدنا ولا تلتفت إلى غيرنا.
اصطفى لكم الدين: اختار لكم الدين الإسلامي ورضيه لكم، فلا تموتن٢ إلا وأنتم مسلمون.
يعقوب: هو إسرائيل ابن إسحق بن إبراهيم، وبنوه هم: يوسف وأخوته.
أمة خلت: جماعة أمرها واحد. خلت: مضت إلى الدار الآخرة.
لها ما كسبت: أجر ما كسبته من الخير.
ولكم ما كسبتم: من خير٣ أو غيره.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة مواقف إبراهيم السليمة الصحيحة عقيدة وإخلاصاً وعملاً صالحاً وصدقاً ووفاءاً فوضح بذلك ما كان عليه إبراهيم من الدين الصحيح، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ تلك الملة الحنيفية الواضحة السهلة. اللهم لا أحد يرغب عنها إلا عبد جهل قدر نفسه، ولم يعرف لها حقها في الطهارة والصفاء والإكمال والإسعاد، وضمن هذا الخبر ذكر تعالى إنعامه على إبراهيم وما تفضل به عليه من الاصطفاء في الدنيا والإسعاد في الآخرة في جملة الصالحين.
وفي الآية الثانية (١٣١) يذكر تعالى إن ذاك إلا اصطفاء تم لإبراهيم عند استجابته لأمر ربه بالإسلام، حيث أسلم ولم يتردد. وفي الآية الثالثة (١٣٢) يذكر تعالى إقامة الحجة على
١ سفه نفسه: استخف بقدرها جهلاً به. ولذا نصب نفسه لتضمن سفه معنى جهل.
٢ في قوله: ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ إيجاز بليغ، إذ معناه: الزموا الإسلام ودموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا. وجملة: ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ في محل نصب على الحال، والمعنى: مطيعون خاضعون.
٣ فيه معنى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ومعنى ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْهَا﴾.
117
المشركين وأهل الكتاب معاً، إذ ملة الإسلام القائمة على التوحيد وصى بها إبراهيم بنيه، كما وصى بها يعقوب بنيه وقال لهم: لا تموتن إلا على الإسلام، فأين الوثنية العربية واليهودية والنصرانية من ملة إبراهيم، إلا فليثب العقلاء إلى رشدهم.
وفي الآية الرابعة (١٣٣) يوبخ تعالى اليهود القائلين كذباً وزوراً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، فقال تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي: كنتم حاضرين لما حضر يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهماً إياهم: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ ؟ فأجابوه بلسان واحد: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ١ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً٢ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا، وإن قالوا لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، وثبت أنه وصاهم بالإسلام لا باليهودية.
وفي الآية الأخيرة (١٣٤) ينهى تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ –يعني إبراهيم وأولاده- لها ما كسبت من الإيمان وصالح الأعمال، ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من الكفر والمعاصي وسوف لا تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن أعمالكم وتجزون بها، فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في أخرتكم وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، ولا يتم لكم هذا إلا بالإسلام، فاسلموا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- لا يرغب عن الإسلام بتركه أو طلب غيره من الأديان إلا سفيه لا يعرف قدر نفسه.
٢- الإسلام دين البشرية٣ جمعاء، وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة.
٣- استحباب الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالإسلام حتى الموت عليه.
٤- كذب اليهود وبهتانهم وصدق من قال: اليهود قوم بهت.
١ فيه إطلاق لفظ الأب على العم؛ لأن إسماعيل عم ليعقوب وليس بأب له، وفيه إطلاق الأب على الجد أيضاً، ومن هنا ذهب من ذهب إلى أن الجد كالأب يحجب الأخوة عن الإرث؛ لأن الأب يحجب الأخوة حجب إسقاط.
٢ أن نوحده بالألوهية، أي: العبادة ولا نشرك به في عبادته سواه.
٣ الإسلام هو ملة سائر الأنبياء، وأن تنوعت أنواع التكليف عندهم، واختلفت مناهج العمل بينهم، إذ الإسلام هو انقياد لله وخضوع، ولذا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد".
118
٥- يحسن بالمرء ترك الاعتزاز بشرف وصلاح١ الماضين٢، والإقبال على نفسه بتزكيتها وتطهيرها.
٦- سنة الله في الخلق أن المرء يجزى بعمله، ولا يسأل عن عمل غيره.
٧- يطلق لفظ الأب على العم تغليباً وتعظيماً.
﴿وَقَالُوا٣ كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا٤ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ٥ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) ﴾
شرح الكلمات:
تهتدوا: تصيبوا طريق الحق.
١ وفي الحديث الصحيح: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، وفي هذا المعنى قال الشاعر الحكيم:
لا تقل أصلي وفصلي يا فتى
إنما أصل الفتى ما قد حصل٢ ذكر ابن كثير عن ابن إسحاق ابن عبد الله بن صوريا الأعور اليهودي قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقال النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ الآية.
٣ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل علينا، وما أنزل إليكم..".
٤ الأسباط: أولاد يعقوب عليهم السلام وهم: اثنا عشر ولداً: يوسف وبنيامين وبوذا ولكل واحد منهم أمة من الناس. الواحد: سبط والجمع: أسباط، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيبلة، وفي ولد إسماعيل عليه السلام، وسموا الأسباط من السبط، وهو: التتابع لأنهم متتابعون.
٥ أي: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كصنيع اليهود والنصارى.
119
ملة إبراهيم: دين إبراهيم الذي كان عليه.
حنيفاً١: مستقيماً على دين الله موحداً فيه لا يشرك بالله شيئاً.
ما أوتي موسى: التوراة.
وما أوتي عيسى: الإنجيل.
في شقاق: خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك.
صبغة الله: دينه الذي طهرنا به ظاهراً وباطناً فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام فقد قال اليهود للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. كونوا يهوداً تهتدوا إلى الحق، وقالت النصارى من وفد نجران، كذلك كونوا نصارى تهتدوا. فحكى الله تعالى قولهم، وعلم رسوله أن يقول لهم لا تتبع يهودية ولا نصرانية بل تتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال.
وفي الآية الثانية (١٣٦) أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين أن يعلنوا في وضوح عن عقيدتهم الحقة، وهي الإيمان بالله وما أنزل من القرآن، وما أنزل على الأنبياء كافة، وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل خاصة، مع عدم التفرقة بين رسول ورسول والإسلام الظاهر والباطن لله رب العالمين.
وفي الآية الثالثة (١٣٧) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين إن آمن اليهود والنصارى إيماناً صحيحاً كإيمانكم٢ فقد اهتدوا، وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم لا يعدو شقاقاً وحرباً لله ورسوله، والله تعالى سيكفيكهم بما شاء وهو السميع لأقوالهم الباطلة العليم بأعمالهم الفاسدة، وقد أنجز٣ تعالى وعده لرسوله فأخرج اليهود من المدينة بل ومن الحجاز مع ما
١ أصل الحنف: الميل ومنه قولهم: رجل أحنف أي: مائل القدمين إلى بعضهما بعضاً، قالت أم الأحنف: والله لولا الحنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله. ولما مال إبراهيم عن أديان الشرك إلى دين التوحيد قيل فيه: حنيف، وصار بمعنى مستقيم، إذ هو على منهج الحق، وغيره على الباطل.
٢ الآية: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ..﴾، وكان ابن عباس يقرأها: "فإن آمنوا بالذي أمنتم به" وهو تفسير لا قراءة، وعليه فمثل: زائدة نظيرها، ليس كمثله شيء، أي ليس كهو شيء.
٣ نعم: أنجز الله تعالى وعده لرسوله فكفاه اليهود الذين وطنوا العزم على قتله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحاولوا وخابوا ولم يقدروا إذ كفاه الله تعالى إياهم.
120
جللهم به من الخزي والعار.
وفي الآية الرابعة (١٣٨ يقول تعالى لرسوله رداً على اليهود والنصارى قولوا لهم: نتبع١ صبغة الله بها وفطرته عليها وهي الإسلام، ونحن له تعالى عابدون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- لا هداية إلا في الإسلام ولا سعادة ولا كمال إلا بالإسلام.
٢- الكفر برسول، كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى، وكفر النصاري بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصبحوا بذلك كافرين، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصبحوا بذلك مؤمنين.
٣- لا يزال اليهود والنصارى في عداء للإسلام وحرب على المسلمين، والمسلمون يكفيهم الله تعالى شرهم إذا هم استقاموا على الإسلام عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وحكماً.
٤- الواجب على من دخل الإسلام أن يغتسل غسلاً كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة٢ الله تعالى، لا المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود يوم السابع من ولادته في ماء يقال له المعمودي وإدعاء أنه طهر بذلك ولا يحتاج إلى الختان.
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
١ الصبغ: الشيء يصبغ به، فالصبح بدون تاء كالقشر، فزيدت فيه التاء، فقيل: صبغة؛ كقشرة، وهي في الآية منصوبة "صبغة" إما إنها بدل من ملة المنصوبة بتقدير: نتبع ملة، وإما إنها على المفعولية المطلقة، أي: صبغنا صبغة الله، نحو: وعد الله حقا، وفي هذا رد على اليهود والنصارى، إذ اليهود نشأت فيهم الصبغة، إذ كان الكاهن يغتسل كل عام ليكفر خطايا بني إسرائيل في يوم عيد معلوم لهم، والنصارى ما زالوا يعمدون أطفالهم يوم السابع، فيغمسونهم في الماء. هذه صبغة اليهود والنصارى، أما صبغة المسلمين، فهي اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وشتان ما بينهما.
٢ تعميد النصارى لأطفالهم، وهو صبغهم بالماء؛ كالثوب يصبغ باللون من الألوان، فهم يرون أن الولد لما يصبغ بالماء أصبح نصرانياً لا يفارقه. أي هذا الإثم الذي هو النصراني.
121
وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ١ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً٢ عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون (١٤١) }
شرح الكلمات:
أتحاجوننا٣ في الله: أتجادلوننا في دينه والإيمان به وبرسوله، والاستفهام للإنكار.
له مخلصون٤: مخلصون العبادة له، لا نشرك غيره فيها، وأنتم مشركون.
شهادة عنده من الله: المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ظهوره.
الغافل: من لا يتفطن للأمور لعدم مبالاته بها. معنى الآيات:
يأمر تعالى رسوله أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في الله تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بالله من الرسول والمؤمنين، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، فعلّم الله رسوله كيف يرد عليهم منكراً عليهم دعواهم الباطلة. كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والأنبياء بعده كانوا هوداً أو نصارى٥، إذ قال له: قل لهم: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ؟﴾ فإن قالوا نحن أعلم، كفروا، وإن قالوا الله أعلم انقطعوا؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبداً يهوداً ولا نصارى، ولكن كانوا مسلمين، ثم هددهم تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم
١ الاستفهام.
٢ قال ابن كثير، عن الحسن البصري: إن أهل الكتاب كانوا يقراءون في كتاب الله الذي آتاهم: إن الدين الإسلام وإن محمداً رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
٣ والاستفهام أيضاً للتعجب من حالهم وللتوبيخ لهم على سوء سلوكهم، ومعنى في الله، أي: في دينه وولايته ونسخ شرائعه السابقة بالإسلام وكفر من لم يؤمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه الذي هو الإسلام.
٤ الإخلاص: تخليص العبادة من الالتفات إلى غير الله تعالى. وعرفه الجنيد فقال: الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده، ولا هو فيميله.
122
نعوت الرسول والأمر بالإيمان به عند ظهوره فقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
ثم أعاد لهم ما أدبهم به في الآيات السابقة مبالغة في تأديبهم وإصلاحهم لو كانوا أهلاً لذلك، فأعلمهم أن التمسح بأعتاب الماضين والتشبث بالنسب الفارغة إلى الأولين غير مجد لهم ولا نافع، فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر بالإيمان والإسلام والإحسان، أما من مضوا فهم أمة قد أفضوا إلى ما كسبوا وسيجزون به، وأنتم لكم ما كسبتم وستجزون به، ولا تجزون بعمل غيركم ولا تسألون عنه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- فضيلة الإخلاص وهو عدم الالتفات إلى غير الله تعالى عند القيام بالعبادات.
٢- كل امرئ يجزى بعمله، وغير مسئول عن عمل غيره، إلا إذا كان سبباً فيه.
٣- اليهودية والنصرانية١ بدعة ابتدعها اليهود والنصارى.
٤- تفاوت الظلم بحسب الآثار المترتبة عليه.
٥- حرمة٢ كتمان الشهادة لا سيما شهادة من الله تعالى.
٦- عدم الاتكال على حسب الآباء والأجداد ووجوب الإقبال على النفس لتزكيتها وتطهيرها بالإيمان الصحيح والعمل الصالح.
١ قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً﴾ آل عمران.
٢ إذ قال تعالى: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ البقرة.
123
الجزء الثاني
﴿سَيَقُولُ١ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ٢ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ٣ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) ﴾
شرح الكلمات:
السفهاء: جمع سفيه، وهو من به ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر نجم عنه فساد خُلق وسوء سلوك.
ما ولاهم: ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة.
القبلة: الجهة التي يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلاته.
أمة وسطاً: وسط كل شيء خياره، والمراد منه أن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأمم وأعدلها.
ينقلب على عقبيه: يرجع إلى الكفر بعد الإيمان.
لكبيرة: شاقة على النفس صعبة لا تطاق إلا بجهاد كبير، وهي التحويلة من قبلة مألوفة إلى قبلة حديثة.
١ هذا إخبار بما سيقوله السفهاء من المنافقين واليهود والمشركين قبل أن يقوله، وفائدته، أولاً: تقرير النبوة المحمدية، إذ هذا إخبار بالغيب فكان كما أخبر، وثانياً: توطين نفس الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين به حتى لا يضرهم عند سماعه من السفهاء، لأن مفاجأة المكروه أليمة شديدة، فإن ذهبت المفاجأة هان الأمر، وخف الألم، وهذا من باب "قبل الرمي يراش السهم". ومناسبة الآيات لما قبلها استمرار الحجاج إلى أنه كان في الأصول وأصبح في الفروع.
٢ ﴿من الناس﴾ في محل نصب على الحال، وال فيه للجنس ليدخل في اللفظ كل سفيه.
٣ هي بيت المقدس، ومن جملة ما قالوه سفهاً واستهزاء التبس عليه أمره وتحير: قد اشتاق محمد إلى مولده.
124
إيمانكم: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة.
رؤوف رحيم: يدفع الضرر عنكم ويفيض الإحسان عليكم.
معنى الآيتين:
يخبر الله تعالى بأمر يعلمه قبل وقوعه، وحكمة الإخبار به قبل وقوعه تخفيف أثره على نفوس المؤمنين، إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه فلا تضطرب له نفوس المؤمنين.
فقال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ﴾ ؟ وحصل هذا لما حول الله تعالى رسوله والمؤمنين من استقبال بيت المقدس١ في الصلاة إلى الكعبة تحقيقاً لرغبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك ولعلة الاختبار٢ التي تضمنتها الآية التالية فأخبر تعالى بما سيقوله السفهاء من اليهود والمنافقين والمشركين وعلَّم المؤمنين كيف يردون على السفهاء، فقال: ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فلا اعتراض عليه يوجه عباده حيث يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي الآية الثانية (١٤٣) يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ خياراً عدولاً٣ أي: كما هديناكم إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام جعلناكم خير أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم ولكن يشهد عليكم رسولكم، وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به٤ عليم. ثم ذكر تعالى العلة في تحويل القبلة فقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُول﴾ فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده لله ولرسوله ممن يؤثر فيه نقد السفهاء فتضطرب نفسه ويجازي السفهاء فيهلك بالردة معهم. ثم أخبر تعالى أن هذه التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة على النفس إلا على الذين هداهم الله
١ إذ صلى المؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس من قبل تحويل الله تعالى القبلة بهذه الآيات التي نزلت في شانها. وروى مالك أن تحويل القبلة كان قبل غزوة بدر بشهرين.
٢ الاختبار في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾.
٣ في هذه الآية دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به لعدالة الأمة بشهادة ربها، فإذا أجمعت على أمر وجب الحكم به، وفي أي عصر من العصور إلى قيام الساعة.
٤ ومن هذا التكريم أنهم إذا شهدوا على أحدهم بالخير وجبت له الجنة لحديث الصحيح: "مرت جنازة فأثنى عليها خير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وجبت وجبت وجبت" الحديث فسأل فقال: "من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
125
إلى معرفته ومعرفة محابه ومكارهه فهم لذلك لا يجدون أي صعوبة في الانتقال من طاعة إلى طاعة ومن قبلة إلى قبلة، ما دام ربهم قد أحب ذلك وأمر به.
وأخيراً طمأنهم تعالى على أجور صلاتهم التي صلوها إلى بيت١ المقدس وهي صلاة قرابة سبعة عشر شهراً لا يُضيعها لهم بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس أو من حي حتى صلى إلى الكعبة، وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- جواز النسخ في الإسلام فهذا نسخ إلى بدل من الصلاة إلى بيت المقدس إلى الصلاة إلى الكعبة في مكة المكرمة.
٢- الأراجيف وافتعال الأزمات وتهويل الأمور شأن الكفار إزاء المسلمين طوال الحياة، فعلى المؤمنين أن يثبتوا ولا يتزعزوا حتى يظهر الباطل وينكشف والزيف وتنتهي الفتنة.
٣- أفضلية أمة الإسلام على سائر الأمم لكونها أمة الوسط والوسطية شعارها.
٤- جواز امتحان المؤمن وجريانه عليه.
٥- صحة صلاة من صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه إعادتها ولو صلى شهوراً إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد في معرفة القبلة ثم صلى إلى حيث أداه اجتهاده.
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ٢ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ٣ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
١ ورد في الحديث عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه.
٢ روى البخارى في سبب نزول هذه الآية أن البراء قال: صلينا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قدومه المدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ثم علم الله هوى نبيه، أي: حبه، فنزلت: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ الآية.
٣ تحويل وجهك: أي: تحويل وجهك ونظرك بعينك إلى السماء تطلعاً إلى نزول الوحي بذلك، لاسيما وقد نزلت الآيات الأولى: ﴿سيقول﴾ الآية، إذ هي موحية بذلك.
126
الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ١ شَطْرَهُ٢ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ٣ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) }
شرح الكلمات:
تقلب وجهك في السماء: تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظاراً لنزول الوحي.
فلنولينك قبلة ترضاها: فلنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة.
فول وجهك شطر المسجد: حول وجهك جهة المسجد الحرام بمكة.
الحرام: بمعنى: المحرم لا يسفك فيه دم ولا يقتل فيه أحد.
الشطر: هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام، لأن الشطر لغة: النصف أو الجزء مطلقاً.
أنه الحق من ربهم: أي تحول القبلة جاء منصوصاً عليه في الكتب السابقة.
١ اختلف في أول صلاة صلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون إلى الكعبة، فقيل: الظهر، وقيل: العصر، ولم يرجح أحد القولين، وقيل: كانت صلاة الظهر في مسجد بني سلمة، المعروف بمسجد القبلتين حتى صلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس وبعضها إلى الكعبة، فسمي لذلك مسجد القبلتين.
٢ اختلف في: هل الغائب عن البيت الحرام يصلى إلى عين الكعبة أو إلى جهتها. الصواب أنه يصلي إلى جهة الكعبة ناوياً استقبال البيت، لأن استقبال عين الكعبة معتذر على غير الموجود في المسجد الحرام، أما في المسجد الحرام فلا تصح صلاته إن لم يستقبل عين الكعبة.
127
آية: حجة وبرهان.
يعرفونه: الضمير عائد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: يعلمون أنه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية.
من الممترين: الشاكين والامتراء: الشك وعدم التصديق.
معنى الآيات:
يعلم الله تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلب وجهه في السماء انتظاراً لوحي يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود لقبلة أبيه إبراهيم، إذ هي أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ١الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، وبهذا المر الإلهي تحولت القبلة، وروي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، وكيلا تكون القبلة خاصة بمن كان بالمدينة، قال تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ أي: في نواحي البلاد وأقطار الأرض ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي شطر المسجد الحرام، كما أخبر تعالى في هذه الآية أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن تحول القبلة حق وأنه بأمر الله تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة، فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغاف عما يعملونه.
وفي الآية الثانية (١٤٥) يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أتى٢ اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه أو حقيقة القبلة إلى الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك وصلوا إلى قبلته، كما إن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى، كما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين لم يكونوا أبداً ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم.
وأخيراً يحذر الله رسوله أن يتبع أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضلالاتهم بعد الذي أعطاه من العلم وهداه إليه من الحق، وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل، ولو فعل لكان من الظالمين.
١ الشطر: لغة: النصف ومنه الحديث: "الطهور شطر الإيمان"، والشاطر من الناس: من أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثاً، وهو من بعُد عن طاعة الله ورسوله أيضاً.
٢ قلت في التفسير: لو أتى اليهود إلخ: لأن لئن في الآية بمعنى لو، لأنها أجيبت بجواب لو، وهو المضي والوقوع، إذ قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، فقوله: ﴿مَا تَبِعُوا﴾ جواب لئن، والمفروض فيها أن يجاب بالمضارع.
128
وفي الآية الثالثة (١٤٦) يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما حاء به هو الحق معرفة تامة كمعرفتهم لأبنائهم، ولكن فريقاً كبيراً يكتمون الحق وهم يعلمون إنه الحق، وفي الآية الرابعة (١٤٧) يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو الحق الوارد إليه من ربه فلا ينبغي أن يكون من الشاكين١ بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه٢ إلى جهة مكة.
٢- كفر كثير من أهل الكتاب كان على علم إيثاراً للدنيا على الآخرة.
٣- حرمة موافقة المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت.
٤- علماء أهل الكتاب المعاصرون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفون أنه النبي المبشر به وأنه النبي الخاتم وأعرضوا عن الإيمان به وعن متابعته إيثاراً للدنيا على الآخرة.
﴿وَلِكُلٍّ٣ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ٤ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
١ هذا تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ يقال: امترى. فلان في كذا إذا اعتراه اليقين مرة والشك مرة أخرى فلدافع أحدهما بالآخر، ومنه الإمتراء، لأن كل واحد يشك في قول صاحبه، والإمتراء: الشك.
٢ روي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي".
٣ الوجهة: من المواجهة وهي الجهة والوجه كلها بمعنى واحد، ومفعول موليها محذوف أي وجهة، أو يكون موليها بمعنى متوليها وحينئذ فلا حذف ولا تقدير.
٤ اختلف في الجهة التي كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستقبلها في مكة قبل الهجرة، والراجح أنه كان يجعل الكعبة أمامه وهو متجه إلى الشام، بمعنى أنه يصلي بين الركنين اليمانيين، ولما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس حتى حول إلى الكعبة، وهل كان استقباله بيت المقدس باجتهاد منه أو بوحي، الظاهر أنه باجتهاد منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
129
اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ١ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَمَا أَرْسَلْنَا٢ فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي٣ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) }
شرح الكلمات:
ولكلٍ وجهة هو موليها: التنوين في (كل) دال على محذوف، هو لكل أهل ملة؛ كالإسلام، واليهودية، والنصرانية قبلة يولون وجوههم لها في صلاتهم.
الخيرات: البر والطاعة لله ورسوله.
الحجة: الدليل القوي الذي يظهر صاحبه على من يخاصمه.
نعمتي: نعم الله كثيرة وأعظمها نعمة الإسلام وإتمامها بمواصلة التشريع والعمل به إلى نهاية الكمال، وكان ذلك في حجة الوداع بعرفات حيث نزلت آية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً﴾.
١ قال ابن كثير والقرطبي: قبلة: استدل مالك بقول الله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما هو مذهب الجمهور، أبي حنيفة والشافعي وأحمد والذي أراه يحقق المطلوب من الآية هو أن ينظر المصلي أولاً أمامه امتثالاً لأمر الله تعالى، ثم بعد ذلك ينظر إلى موضع سجوده.
٢ الكاف: في محل نصب على النعت لمصدر محذوف تقديره ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا وهو التشبيه نعمة استقلالكم في القبلة باستقلالكم في الرسالة.
٣ أصل الذكر يكون بالقلب، ولما كان القلب باطناً جعل اللفظ باللسان دليلاً عليه، فأصبح الذكر يطلق على ذكر اللسان وإن كان المطلوب هما معاً أي ذكر القلب واللسان، والجملة أمر وجواب: فاذكروني أمر، وأذكركم جواب وجزاء، وذكر الله للعبد أعظم، وقد ورد في فضل الذكر الكثير من الأحاديث منها: حديث ابن ماجة ونصه: "أن رجلاً قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله".
130
رسولاً: هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتنكير فيه للتعظيم.
يزكيكم: يطهركم من الذنوب والأخلاق السيئة والملكات الرديئة.
الحكمة: السنة وهي كل قول صالح لا ينتهي صلاحه ونفعه بمرور الزمن.
الشكر: إظهار النعمة١ بصرفها فيما من أجله وهبها الله تعالى لعباده.
والكفر: جحد النعمة وإخفائها وصرفها في غير ما يحبه الله تعالى.
معنى الآيات:
بعد تقرير تلك الحقيقة التي تضمنتها آية: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾... إلخ. وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أتى أهل الكتاب بكل آية تدل على صدقه في أمر القبلة ما اتبعوا قبلته، وما هو بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، فلا اليهود يستقبلون مطلع الشمس، ولا النصارى يستقبلون بيت المقدس. أخبر تعالى أن لكل أمة قبلة مولية وجهها إليها في صلاتها، فاتركوا أيها المسلمون أهل تلك الملل الضالة وسابقوا في الخيرات ونافسوا في الصالحات شكراً لربكم على نعمة هدايته لكم لقبلة أبيكم إبراهيم فإنه تعالى جامعكم ليوم القيامة وسائلكم ومجازيكم بأعمالكم إنه على كل شيء قدير، هذا ثم أمر الله رسوله أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام حيثما كان في الحضر كان أو في السفر وأعلمه أن تحوله إلى الكعبة حق ثابت من ربه تعالى فلا يتردد فيه.
هذا ما تضمنته الآيتان (١٤٨-١٤٩) وأما الآية (١٥٠) فإنه تعالى أمر رسوله والمؤمنين بأن يولوا وجههم شطر المسجد٢ الحرام حيثما كانوا وأينما وجدوا ويثبتوا على ذلك حتى لا يكون لأعدائهم من اليهود والمشركين حجة، إذ يقول اليهود: ينكرون ديننا ويستقبلون قبلتنا، ويقول المشركون: يدعون إنهم على ملة إبراهيم ويخالفون قبلته. هذا بالنسبة للمعتدلين منهم، أما الظالمون والمكابرون فإنه لا سبيل إلى إقناعهم إذ قالوا بالفعل: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إليه، فمثل هؤلاء ولا يبالي بهم ولا يلتفت إليهم كما قال تعالى: ﴿إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ٣ وَاخْشَوْنِي﴾. فاثبتوا على قبلتكم الحق
١ ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه".
٢ قد ورد في الآيات الأمر بتولية الرسول والمؤمنين وجوههم شطر المسجد الحرام، وهو تكرار تطلبه المقام فكان من مقتضيات الحال التي يوجبها الكلام البليغ الرفيع، ومن مقتضيات الحال إسكات السفهاء وقطع الطريق عليهم ورفع معنويات المؤمنين حيت تأثر بعضهم بما أثاره اليهود والمنافقون والمشركون حول تحويل القبلة.
٣ الخشية: مرادفة للخوف، والخوف هو فزع في القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفاً.
131
لأتم نعمتي عليم بهدايتكم إلى أحسن الشرائع وأقومها، ولأهيئكم لكل خير وكمال مثل ما أنعمت عليكم بإرسال رسولي، يزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه من أمور الدين والدنيا معاً، وفي الآية الأخيرة (١٥٢) أمر تعالى المؤمنين بذكره وشكره، ونهاهم عن نسيانه وكفره، فقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ ١ لما في ذكره بأسمائه وصفاته ووعده ووعيده من موجبات محبته ورضاه ولما في شكره بإقامة الصلاة وأداء سائر العبادات من مقتضيات رحمته وفضله، ولما في نسيانه وكفرانه من التعرض لغضبه وشديد عقابه وأليم عذابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- الإعراض عن جدل المعاندين، والإقبال على الطاعات تنافساً فيها وتسابقاً إليها إذ هو أنفع وأجدى من الجدل والخصومات مع من لا يرجى رجوعه إلى الحق.
٢- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وسواء كان في السفر أو في الحضر إلا أن المسافر يجوز أن يصلي النافلة حيث توجهت دابته أو طيارته أو سيارته إلى القبلة وإلى غيرها.
٣- حرمة خشية الناس٢ ووجوب خشية الله تعالى.
٤- وجوب شكر الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة.
٥- وجوب٣ تعلم العلم الضروري ليتمكن العبد من عبادة الله عبادة تزكي نفسه.
٦- وجوب٤ ذكر الله بالتهليل والتكبير والتسبيح ووجوب شكره بطاعته.
٧- حرمة نسيان ذكر الله، وكفران نعمه بترك شكرها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) ﴾
١ ورد في الصحيح أن الله تعالى يقول: " من ذكرني في نفسي ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" والمراد من الملأ: الخير، الملائكة، وورد: "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه". وقال معاذ بن جبل: "ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر عز وجل".
٢ في هذا إبطال للتقية التي جعلها الروافض من أصول دينهم.
٣ شاهده من السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وهو حديث صحيح الإسناد.
٤ شاهده من القرآنك ﴿يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا﴾ الأحزاب
132
﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ١ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ٢ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧) ﴾
شرح الكلمات:
الاستعانة: طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل.
الصبر: حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.
الشعور: الإحساس بالشيء المفضي إلى العلم به.
الابتلاء: الاختبار والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.
الأموال: جمع مال وقد يكون ناطقاً وهو المواشي، ويكون صامتاً وهو النقدان وغيرها.
المصيبة: ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.
الصلوات: جمع صلاة وهي من الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.
ورحمة: الرحمة: الإنعام وهو جلب ما يسر، ودفع ما يضر، وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة من النار.
المهتدون: إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى لهم وصبرهم على ذلك.
معنى الآيات:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين وهم أهل ملة الإسلام المسلمون ليرشدهم إلى
١ لفظ شيء يدل على تهويل الفاجعة الدال عليها الخوف والجوع وما بعدهما كما يدل أيضاً على أن ما يبتليهم به من ذلك هو هين فلا يقاس بما يصيب به أهل عداوته من أهل الشرك والكفر والفسق إذا أخذهم بذنوبهم.
٢ أسند التبشير إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه متأهل له بالرسالة فغيره لا يملكه، وقد لا يصدق فيه، كما أن اللفظ دال على سمو مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
133
ما يكون عوناً لهم على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم، وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم نسيانه وكفره فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا﴾ أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر والشكر، وترك النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر الله تعالى به وبإقام الصلاة، وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة، فإذا صبروا نالهم عون الله تعالى وتقويته وهذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٣). أما الآية الثانية (١٥٤) فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين أن من قتل في سبيل الله إذ هو حي في البرزخ وليس بميت، بل هو حي يرزق في الجنة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش". (رواه مسلم). فلذا لا يقال لمن قتل في سبيل الله: مات١ ولكن استشهد وهو شهيد وحي عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر بها بمفارقتها للحياة في هذه الدار. وأما الآية الثالثة (١٥٥) فإنه يقسم٢ تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف٣ بواسطة أعداءه وأعدائهم وهم الكفار عندما يشنون الحروب عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب، وبنقص الأموال الماشية للحرب والقحط، وبالأنفس؛ كموت الرجال، وبفساد الثمار بالجوائح، كل ذلك لإظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله وأجره، ثم أمره رسوله بأن يبشر الصابرين، وبين في الآية الرابعة (١٥٦) حال الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله، فله أن يصيبنا بما شاء لأن ملكه وعبيده، وإن إليه راجعون بالموت، فلا جزع إذاً ولكن تسليم لحكمه٤ ورضاً بقضاءه وقدره، وفي الآية الخامسة (١٥٧) أخبر تعالى مبشراً أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.
١ لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات، بمعنى انقطعت عنه الحياة والشهيد لم يمت وإنما انتقل من حياة ناقصة إلى حياة كاملة دائمة، كما أن لفظ الموت مفزع للإنسان فإذا دارت المعركة وسقط الشهداء، وقيل: مات فلان وفلان يؤثر ذلك في نفس من سمع كلمة: الموت، ولذا لا يقال: مات، ولكن: استشهد.
٢ دل على القسم: اللام في قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ إذ هي موطئة للقسم كأنما قال: وعزتي وجلالي لنبلونكم.. إلخ.
٣ من فسر الخوف بالخوف من الله، والجوع: بالصيام، ونقص من الأموال: بالزكاة لم يخطأ، ولكن ما فسرت به الآية هو الصواب الحق الذي عليه أئمة التفسير.
٤ روى أحمد والترمذي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب".
134
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- فضيلة الصبر والأمر به والاستعانة بالصبر والصلاة على المصائب والتكاليف في الحديث كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
٢- فضل الشهداء على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة.
٣- قد يبتلى المؤمن بالمصائب في النفس والأهل والمال فيصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند ربه.
٤- فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ وفي الصحيح يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها" (رواه مسلم).
﴿إِنَّ الصَّفَا١ وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) ﴾
شرح الكلمات:
الصفا والمروة٢: جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية، والمروة: جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (٧٦٠) ذراعاً.
شعائر الله: أعلام دينية جمع شعيرة، وهي العلامة على عبادة الله تعالى، فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة لأنه دال على طاعة الله تعالى.
الحج٣: زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكاً.
١ أخرج البخاري عن عاصم ابن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.
٢ الصفا: لغة: جمع صفاه، وتجمع على: صفي وأصفاء، مثل: أرجاء: الحجارة الملساء الصلبة البيضاء. والمروة: واحدة المرور وهي الحجارة الصغار التي فيها لين.
٣ الحج: لغة: القصد، والعمرة: الزيارة، وشاهد الحج القصد قول الشاعر:
فاشهد من عوف حلولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المعصفرة
الحلول: الجماعة الكثيرة، ويحجون بمعنى: يقصدون.
135
العمرة: زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
الجناح: الإثم وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه.
يطوف: يسعى بينهما ذاهباً جائياً.
خيراً: الخير: اسم لكل ما يجلب المسرة، ويدفع المضرة، والمراد به هنا العمل الصالح.
معنى الآية الكريمة:
يخبر الله تعالى مقرراً فريضة١ السعي بين الصفا والمروة، ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وآخر على المروة يقال له: نائلة، يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ يعني السعي بينهما من شعائر الله: أي عبادة من عبادته إذ تعبد بالسعي بينهما نبينه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما. فمن حج البيت لأداء فريضة الحج أو اعتمر لأداء واجب العمرة فليسعى بينهما أداءً لركن الحج والعمرة ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين: إساف ونائلة.
ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزه به ويثبه عليه، لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها لعلمه بتلك الأعمال ونيات أصحابها، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾.
هداية الآية الكريمة:
من هداية هذه الآية:
١- وجوب السعي بين الصفا٢ والمروة لكل من طاف بالبيت حاجاً أو معتمراً، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ٣. (رواه الدارقطني، ولم يعل) وسعى
١ السعي: ركن الحج عند مالك، وأحمد والشافعي ولم يره ركناً أبو حنيفة، وما ذهب إليه الجمهور هو الذي يؤخذ به لحديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"، وكتب بمعنى: فرض لغة، وشرعاً.
٢ من ترك السعي وسافر، يعود إليه محرماً فيطوف بالبيت ويسعى بحكم أنه فرض وركن، ومن قال بوجوبه دون ركنيته يجزئه ذبح شاة.
٣ وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من باب الصفا بعد أن طاف بالبيت وهو يقول: "إن الصفا والمرة من شعائر الله" ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به " فدل هذا على وجوب البدء في السعي بالصفا قبل المروة، ودل فعلة صلى الله علية وسلم على أن السعى سبعة اشواط لاينقص ولايزيد.
136
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمرته كلها وفي حجه كذلك.
٢- لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجداً، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار.
٣- الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات، وذلك من سائر النوافل؛ كالطواف والصلاة والصيام والصدقات والرباط والجهاد.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (١٥٩) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا١ وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) ﴾
شرح الكلمات:
يكتمون٢: يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشيء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ به.
البينات: جمع بينة وهي ما يثبت به شيء المراد إثباته، والمراد به هنا ما يثبت نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب.
الهدى: ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه والمراد به هنا ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدين الصحيح المفضي بالأخذ به إلى الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.
١ تابوا: أي رجعوا إلى الإيمان والدخول في الإسلام، وأصلحوا: أي ما أفسدوه من عقائد الناس، وأخلاقهم وأرواحهم، وبينوا: أي ما كتموهم من العمل الواجب بيانه والمحرم كتمانه.
٢ الكتمان يكون بإلغاء الحفظ المقرر، وإلغاء التدريس والتعليم للواجب بيانه وتعليمه والدعوة إليه.
137
في الكتاب: التوراة والإنجيل.
اللعنة: الطرد والبعد من كل خير ورحمة.
اللاعنون: من يصدر عنهم اللعن؛ كالملائكة والمؤمنين.
أصلحوا: ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه والإيمان بما كذبوا به وأنكروه.
ولا هم ينظرون: أي بأن يمهلوا ليعتذروا، كقوله تعالى: ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾.
معنى الآيات:
عاد الساق بعد الإجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب، ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والإيمان به فأخبره تعالى أن الذين يكتمون ما أنزله١ من البينات والهدى في التوراة والإنجيل من صفات الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر بالإيمان به وبما جاء به من الدين، هؤلاء البعداء يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة والمؤمنون٢. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٩) وفي الآية الثانية (١٦٠) استثنى تعالى من المبعدين من رحمته من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعد ما عرفوه فينوا وأصلحوا فهؤلاء يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم.
وفي الآية الثالثة (١٦١) والرابعة (١٦٢) أخبر تعالى أن الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه ودينه ولم يتوبوا فماتوا على كفرهم أن عليهم٣ لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ولذا فهم مطردون مبعدون من الرحمة الإلهية وهي الجنة خالدون في جهنم لا يخفف عنهم عذابها، ولا يمهلون فيعتذرون.
١ الآية عامة في كل من كتم علماً واجب البيان ويعم العلم المنصوص والمستنبط وما لم يكن واجب البيان فلا يدخل صاحبه في هذا الوعيد، إذ من العلم ما لا يجوز بيانه لحديث: "حدث الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" وحديث الصحيح: "أفلا أخبر الناس؟ قال: لا إذا فيتكلوا".
٢ أخرج ابن ماجة بسند حسن أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في اللاعنون: "دواب الأرض"، ولذا فاللفظ عام يشمل كل من يتأتى منه اللعن، ويدخل الملائكة والمؤمنون دخولاً أولياً.
٣ هل يجوز لعن المؤمن العاصي المعين؟ لا يجوز لعن المؤمن العاصي المعين وذلك للحديث الصحيح: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم"، إذ لعنوا مؤمناً حال إقامة الحد عليه؛ حد شرب الخمر.
138
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- حرمة كتمان العلم وفي الحديث الصحيح: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار". وقال أبو هريرة رضي الله عنه في ظروف معينة: "لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً" وتلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ إلخ...
٢- يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغيره، وإظهار ما كتم، وأداء ما أخذه بغير الحق.
٣- من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالداً في العذاب مخلداً لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.
٤- جواز لعن١ المجاهرين بالمعاصي؛ كشراب الخمر، والمرابين٢، والمتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال.
﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) ﴾
شرح الكلمات:
الإله: المعبود بحق٣ أو باطل، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق المعبود بحق.
١ فإن قيل: ما كل الناس يلعنونهم. فالجواب: إما أن يكون من باب تغليب الأكثر على الأقل، وإما أن يكون يوم القيامة لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾.
٢ لكن لا على سبيل التعيين، وإنما على العموم؛ كلعن الله آكل الربا مثلاً.
٣ لم يرد في القرآن لفظ الإله إلا الله سبحانه وتعالى، وأما إله بالتنكير فكثير.
139
وإلهكم إله واحد: في ذاته وصفاته، وفي ربوبيته فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو وفي ألوهيته أي في عبادته فلا معبود بحق سواه.
اختلاف الليل والنهار: بوجود أحدهما وغياب الثاني لمنافع العباد بحيث لا يكون النهار دائماً ولا الليل دائماً.
وبث فيها من كل دابة: وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب.
تصريف الرياح: باختلاف مهابها مرة صبا، ومرة دبور، ومرة شمالية، ومرة غربية، أو مرة ملقحة، ومرة عقيم.
معنى الآيتين:
لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم، وأن هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعبادته، وأسمائه وصفاته، ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة: وإلهكك إله واحد، قالوا: هل من دليل –يريدون على أنه لا إله إلا الله١- فانزل الله تعالى هذه الآية: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿يَعْقِلُونَ﴾ مشتملة على ست آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته، وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه.
الأولى: خلق السموات٢ الأرض وهو خلق عظيم لا يتأتى إلا للقادر الذي لا يعجزه شيء.
الثانية: اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما وطول هذا وقصر ذاك.
الثالثة: جريان٣ الفلك –السفن- في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل مئات الأطنان من الأرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم.
الرابعة: إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها.
١ جملة لا إله إلا الله أولها كفر وآخرها إيمان، لأن أولها نفي لكل إله، وآخرها إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى وحده دون سواه.
٢ جمع لفظ: السموات؛ لأنها أجسام متباينة، وأفرد لفظ الأرض؛ لأنها نوع واحد من تراب طبقة فوق أخرى.
٣ في الآية دليل على جواز ركوب البحر للجهاد والحج والتجارة إلا في حالة غلبت الهلاك الطارئ، فإنه لا يجوز، وحديث أم حرام في الموطأ وغيره دليل على الجواز للنساء كالرجال.
140
الخامسة: تصريف الرياح١ حارة وباردة ملقحة وغير ملقحة، شرقية وغربية وشمالية وجنوبية بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم.
السادسة: السحاب٢ المسخر بين السماء والأرض تكوينه وسوقه من بلد إلى آخر ليمطر هنا ولا يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم.
ففي هذه الآيات الست أكبر برهان وأقوى دليل على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته، وهو لذلك رب العالمين وإله الأولين والآخرين ولا رب غيره، ولا إله سواه.
إلا أن الذي يجد هذه الأدلة ويراها ماثلة في الآيات المذكورة هو العاقل، أما من لا عقل له؛ لأنه عطل عقله فلم يستعمله في التفكير والفهم والإدراك، واستعمل بدل العقل الهوى فإنه أعمى لا يبصر شيئاَ وأصم لا يسمع شيئاً، وأحمق لا يعقل شيئاً، والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله تعالى، لأنه لا إله حق٣ إلا هو.
٢- الآيات الكونية في السموات والأرض تثبت وجود الله تعالى رباً وإلهاً موصوفاً بكل كمال منزهاً عن كل نقصان.
٣- الآيات التنزيلية القرآنية٤ تثبت وجود الله رباً وإليهاً وتثبت النبوة المحمدية وتقرر رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤- الانتفاع بالآيات مطلقاً –آيات الكتاب أو آيات الكون- خاص بمن يستعملون عقولهم دون أوهوائهم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ
١ نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سب الريح، فقد روى ابن ماجة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تسبوا الريح فإنها من روح الله، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها".
٢ سمي السحاب: سحاباً لأنه يسحب من موضع إلى آخر، أي من بلد إلى بلد آخر.
٣ في بعض تلبية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لبيك إله الحق لبيك".
٤ الآيات الكونية: هي المنسوبة إلى الكون الذي هو الخلق الذي كونه الله تعالى فكان وذلك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات والآيات التنزيلية هي المنسوبة إلى القرآن المنزل من الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
141
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) }
شرح الكلمات:
أنداداً: جمع ند، وهو المثل والنظير، والمراد بالأنداد هنا: الشركاء يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات؛ كالدعاء والنذر لها والحلف بها.
التبرؤ: التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه.
الذين اتبعوا: المعبودون والرؤساء المضلون.
الذين اتبعوا: المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلال.
الأسباب: جمع سبب وهي لغة الحبل ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد وغرض خاص.
كرة: رجعة وعودة إلى الحياة الدنيا.
الحسرات: جمع حسرة وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل.
معنى الآيات:
لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس أي ربهم ومعبودهم واحد وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه أخبر تعالى أنه مع هذا البيان والوضوح
142
يوجد ناس يتخذون من دون١ الله آلهة أصناماً ورؤساء يحبونهم٢ كحبهم٣ لله تعالى، أي يسوون٤ بين حبهم وحب الله تعالى، والمؤمنون أشد منهم حباً لله تعالى، كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمراً فظيعاً يعجز الوصف عنه، ولعلموا أن القوة لله وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضلالة من متبوعيهم الجهلة المقلدين وعاينوا٥ العذاب أمامهم وتقطعت لك الروابط التي كانت تربط بينهم، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة فيتبرءوا منهم في الدنيا كما تبرءوا منهم في الآخرة، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه، يريهم أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها النار فلا يخرجونهم منها أبداً.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب حب٦ الله وحب كل ما يُحب الله عز وجل بحبه تعالى.
٢- من الشرك الحب٧ مع الله تعالى، ومن التوحيد الحب بحب الله عز وجل.
٣- يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه.
٤- تبرؤ٨ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد، وليس بنافعهم ذلك شيئاً.
﴿يَا أَيُّهَا٩ النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا
١ دون: تكون بمعنى غير وسوى، ولا يطرد، إذ أصلها إنها ظرف مكان، نحو: جلست دونك، وتكون بمعنى: الرديء، تقول: هذا التمر: دون.
٢ فالآية الكريمة تعني: المشركين عبدة الأوثان ورؤساء أهل الكتاب، لقوله: يحبونهم، وهي عامة في كل من يحب غير الله تعالى من مخلوقاته وحب الله تعالى، إذ الحب إما أن يكون لله وإلا فهو شرك في حب الله تعالى.
٣ وذلك لأنهم كانوا يدعون الله في الشدة، ويعظمون حرمات الحرم، والأشهر الحرم، فلذا هم يحبون الله تعالى ولكن يحبون آلهتهم ورؤسائهم أكثر من حب الله تعالى لجهلهم به سبحانه وتعالى.
٤ لحديث ابن مسعود في الصحيح: "قلت أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك".
٥ معاينة العذاب تكون عند الموت وعند العرض والمسائلة يوم القيامة.
٦ الحديث الصحيح: "أحب الله لما يغذوكم من النعم، وأحبوني بحب الله".
٧ الحب: حبان: حب عبادة، وهذا لا يكون إلا لله تعالى. وحب غريزة؛ كحب الطعام والشراب، وسائر الملاذ، فهذا يجب القصد فيه وعدم الإفراط فقط، وخير الحب ما كان لأجل الله تعالى.
٨ وشواهد هذا في غير آية من القرآن كقوله تعالى: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾.
٩ قيل: هذه الآية نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني مدلح، إذ حرموا من الأنعام ماحرموا، وعلى كل فهي عامة في كل من حرم غير ما حرم الله تعالى.
143
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ١ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) }
شرح الكلمات:
الحلال: ما انحلت عقدة الحظر عنه وهو ما أذن الله تعالى فيه.
الطيب: ما كان طاهراً غير نجس، ولا مستقذر تعافه النفوس.
خطوات الشيطان: الخطوات: جمع خطوة وهي المسافة بين قدمي الماشي، والمراد بها هنا: مسالك الشيطان، وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.
عدو مبين: عداوته بينة وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة وأكثر الشرور والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وإغوائه.
السوء٢: كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب.
الفحشاء٣: كل خصلة قبيحة؛ كالزنا، واللواط، والبخل، وسائر المعاصي ذات القبح الشديد.
ألفينا: وجدنا.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها، وهي الخلود في عذاب النار نادى الرب ذو الرحمة الواسعة البشرية٤ جمعاء ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
١ لفظ الفحشاء: لم يطلق في القرآن إلا على فاحشة واللواط، اللهم إلا في آية واحدة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾، فإن الفحشاء هنا بمعنى: البخل، بمنع الزكاة.
٢ قيل: السوء ما لا حد فيه من الذنوب، والفحشاء ما فيه حد.
٣ أصل الفحشاء: قبح المنظر وعليه قول الشاعر: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش. ثم توسع فيه فأصبح يطلق على ما قبح من المعاني.
٤ أنه وإن كان سبب نزول الآية خاصاً فإن معناها عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
144
الأَرْض}، وهوِ عطاؤه وإفضاله، حلالاً طيباً١ حيث أذن لهم فيه، وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه لا خير لهم في أكله لما فيه من الأذي لأبدانهم وأرواحهم معاً، ثم نهاهم عن اتباع آثار عدوه وعدوهم فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلاكهم، وأعلمهم وهو ربهم أن الشيطان لا يأمرهم إلا بما يضر أبدانهم وأرواحهم والسوء وهو كل ما يسوء النفس والفحشاء وهي أقبح الأفعال وأردى الأخلاق وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا على الله فيقولوا عليه ما لا يعلمون فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم الله، والله في ذلك بريء، وهذه قاصمة الظهر والعياذ بالله تعالى، حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا الفواحش وحللوا وشرعوا ما لم يأذن به الله ربهم، وقال لهم رسول الله اتبعوا ما أنزل الله قالوا لا، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، يا سبحان الله يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان باطلاً، أيقلدون٢ آباءهم ولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً من أمور الشرع والدين، ولا يهتدون إلى ما فيه الصلاح والخير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب طلب الحلال والاقتصار على العيش منه ولو كان ضيقاً قليلاً.
٢- الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يستقل العقل بشيء من ذلك.
٣- حرمة اتباع مسالك الشيطان وهي كل معتقد أو قول أو عمل نهى الله تعالى عنه.
٤- وجوب الابتعاد عن كل سوء وفحش لأنهما مما يأمر بهما الشيطان.
٥- حرمة تقليد من لا علم له ولا بصيرة في الدين.
٦- جواز اتباع أهل العلم والأخذ بأقوالهم وآرائهم المستقاة من الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
١ يصح إعراب: ﴿حَلالاً طَيِّباً﴾ على إنهما حالان من ﴿مِمَّا فِي الأَرْضِ﴾ ويصح أيكون طيباً: صفة لحلال، كما يصح أن يكون حلالاً مفعول لكلوا.
٢ استدل بهذه الآية على حرمة التقليد في العقائد مطلقاً، أما في الفروع فهو أهون، والتقليد هو قبول الحكم بلا دليل ولا حجة.
145
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) ﴾
شرح الكلمات:
مثل: المثل: الصفة والحال.
ينعق: يصيح: والاسم النعيق١ وهو الصياح ورفع الصوت.
الدعاء: طلب القريب؛ كدعاء المؤمن ربه: يارب. يارب.
النداء٢: طلب البعيد؛ كأذان الصلاة.
الصم: جمع أصم فاقد حاسة السمع فهو لا يسمع.
البكم: جمع أبكم فاقد حاسة النطق فهو لا ينطق.
لا يعقلون: لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإدراك عندهم، وهي العقل.
معنى الآية الكريمة:
لما نددت الآية قبل هذه (١٧٠) بالتقليد والمقلدين الذي يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول لهم رؤساؤهم ويطيقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا جاءت هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا؛ كالشياه من الغنم يسوقها راعيها، حيث شاء فإذا نعق بها داعياً لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها، وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم نوديت، إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد٣ الطويل والاتباع بدون دليل.
١ النعيق: دعاء الراعي، وتصويته للغنم، وعليه قول الشاعر:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالاً
٢ وفي الحديث: "أن بلالاً أندى صوتا".
٣ وهناك معنى آخر للآية قاله الطبري: وهو أن المراد مثل الكافرين في دعاؤهم آلهتهم؛ كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه وما فسرناه به أصح وأمثل.
146
فقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في جمودهم وتقليد آبائهم في الشرك والضلال كمثل غنم١ ينعق بها راعيها فهو إذا صاح فيها داعياً لها أو منادياً لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت لفقدها العق. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي نعق إلخ....
هداية الآية:
من هداية الآية الكريمة:
١- تسلية الدعاة إلى الله تعالى عندما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال.
٢- حرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع.
٣- وجوب طلب العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل وبما ترك.
٤- لا يتابع إلا أهل العلم والبصيرة في الدين؛ لأن اتباع الجهال يعتبر تقليداً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا٢ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ٣ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) ﴾
١ يقال: نعق الغراب، ونغق بالغين، ونعق، نعق إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بمعناه، فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح، قيل فيه نعب.
٢ أخرج مسلم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا آيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ..﴾ الآية. ثم ذكر الرجل يطيل الرجل، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟! ".
٣ الميت والميتة بتسكين الياء: هو مات قطعاً وانتهت حياته، والميت، والميتة بتشديد الياء: وهو ما لم يمت بعد ولكنه آيل أمره إلى الموت، هكذا يرى أرباب اللغة واستشهدوا بقول الله تعالى لرسوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ الآية، وهذا دليل إطلاق ميت بالتشديد على من لم يمت بعد كما استشدوا بقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت...
إنما الميت ميت الأحياء
147
شرح الكلمات:
الطيبات: جمع طيب وهو الحلال.
واشكروا لله: اعترفوا بنعم الله عليكم واحمدوه عليها واصرفوها في مرضاته
إن كنتم إياه تعبدون: إن كنتم مطيعين لله منقادين لأمره ونهيه.
حرم: حظر ومنع.
الميتة: ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية.
الدم: المسفوح السائل، لا المختلط باللحم.
الخنزير: حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ولا يغار على أنثاه.
وما أهل به لغير الله: الإهلال: رفع الصوت باسم من تذبح له من الآلهة.
اضطر: ألجئ وأكره بحكم الضرر الذي لحقه من الجوع أو الضرب.
غير باغ ولا عاد: الباغي الظالم الطالب لما لا يحل له والعادي المعتدي المجاوز لما له إلى ما ليس له.
الإثم: أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية.
معنى الآيتين الكريمتين:
بعد أن بينت الآية السابقة (١٧١) حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام حيث سيبوا للآلهة السوائب، وحموا لها الحامات، وبحروا لها البحائر، نادى الجبار عز وجل عباده المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا بالله رباً وإلهاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ربكم ما أنعم به عليكم من حلال اللحوم، ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين، فإنه تعالى لم يحرم عليكم١ إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره تعالى. ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه على شرط أن لا يكون في سفره باغياً على المسلمين ولا عادياً بقطع الطريق عليهم وذلك؛ لأن الله غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج.
١ لما أباح تعالى لعباده المؤمنين الحلال الطيب وهو كثير لم يعدده لكثرته، وعدد الحرام لقلته، فذكر الميتة والدم إلخ.. كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عما يلبس المحرم فعدل عن بيان المباح لكثرته وذكره المحرم لقلته، فقال: "لا يبلس القميص ولا السراويل... " إلخ. وهذا من الإيجاز البليغ.
148
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- الندب إلى أكل الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف.
٢- وجوب شكر الله تعالى بالاعتراف بالنعمة له وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه.
٣- حرمة أكل الميتة١، والدم المسفوح، ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى.
٤- جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة٢ وهي خوف الهلاك مع مراعاة الاستثناء في الآية وهو ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾.
٥- أذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكل السمك٣ والجراد وهما من الميتة، وحرم أكل كل ذي ناب٤ من السباع وذي مخلب من الطيور.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذَلِكَ٥ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) ﴾
١ هذه أصول المحرمات الأربعة، وأما المختنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فهي متفرعة عن تلك الأصول وهي مذكورة في أول المائدة.
٢ من وجد طعام لا تقطع فيه يد يأكله ولا يأكل من الميتة بإذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمحتاج أن يأكل من الثمر المعلق، فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة بغية غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"، وقوله من: أي من الثمر المعلق، إذ سئل عنه فقال.. إلخ.
٣ للحديث الصحيح: "أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال".
٤ لحديث صحيح: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور".
٥ إشارة إلى الحكم عليهم بأنهم من الخلود في النار، كما هو صالح أن يكون إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، والمعنى متقارب.
149
شرح الكلمات:
يكتمون: يجحدون ويخفون.
ما أنزل الله من الكتاب: الكتاب: التوراة وما أنزل الله فيه صفة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر بالإيمان به.
لا يكلمهم الله١: لسخطه عليهم ولعنه لهم.
ولا يزكيهم: لا يطهرهم من ذنوبهم لعدم رضاه عليهم.
الضلالة: العماية المانعة من الهداية إلى المطلوب.
الشقاق: التنازع والعداء حتى يكون صاحبه في شق، ومنازعة في آخر.
بعيد: يصعب إنهاؤه والوفاق بعده.
معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاث نزلت قطعاً في أحبار٢ أهل الكتاب تندد بصنيعهم وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه بعرض خسيس٣ من الدنيا يجحدون أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه إرضاء للعوام حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعدتهم المالية، وحتى يبقى لهم السلطان الروحي عليهم، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾، وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار إذ هو مسببها ومع النار غضب الجبار فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
كما أخبر تعالى عنهم في الآية (١٧٥) أنهم وهم البعداء اشتروا الضلالة بالهدى أي الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة أي النار بالجنة، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله، وعلى التقحم في النار، فلذا قال تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ٤ عَلَى النَّارِ﴾. وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء
١ لا يكلمهم كلام تشريف وتكريم كما يكلم أولياؤه الصالحين. أما ما كان من كلام وتحقير نحو: ﴿اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾، فلا يدخل في هذا النفي. والله أعلم.
٢ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم، غيروا صفته وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان حتى لا يتبع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣ هو الرشوة التي يأخذها القاضي والمفتي والعياذ بالله.
٤ هذا تعجب للمؤمنين من حالهم.
150
الكفرة؛ لأن الله نزل الكتاب بالحق مبيناً فيه سبيل الهداية وما يحقق لسالكيه من النعيم المقيم ومبيناً سبيل الغواية وما يفضي بسالكيه إلى غضب الله وأليم عذابه.
وفي الآية الآخيرة (١٧٦) أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى١ لفي عداء واختلاف بينهم بعيد، وصدق الله فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم، ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به فتركوه وأخذوا بالباطل فأثمر لهم الشقاق البعيد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- حرمة كتمان الحق٢، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالاً أو رياسة.
٢- تحذير علماء الإسلام من سلوك مسالك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء٣ الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة.
٣- التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين.
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا
١ ويدخل في هذا مشركو العرب فقد اختلفوا في القرآن فقالوا: شعر، وقالوا: سحر، وقالوا: أساطير.
٢ يدخل في كتمان الشهادة التي حرمها الله تعالى بقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾.
٣ يشهد له حديث: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".
151
وَالصَّابِرِينَ١ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) }
شرح الكلمات:
البر: اسمُ جامع لكل خير وطاعة لله ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولكن البر من آمن بالله: البر: الحق برُ من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الصفات.
وأتى المال على حبه: أعطى المال٢ حيث تعين اعطاؤه مع شدة حبه٣ له فآثر ما يحب الله على ما يحب.
ذوي القربى: أصحاب القرابات، الأقرب فالأقرب.
اليتامى: جمع يتيم وهو من مات والده وهو لم يبلغ الحنث.
﴿المساكين﴾ : جمع مسكين، فقير معدم أسكنته الحاجة فلم يقدر على التصرف.
ابن السبيل: المسافر البعيد الدار المنقطع عن أهله وماله.
السائلين: جمع سائل: الفقير المحتاج الذي أذن له في السؤال لدفع غائلة الحاجة عن نفسه.
في الرقاب: الرقاب: جمع رقبة والإنفاق منها معناه في عتقها.
الباساء والضراء: البأساء: شدة البؤس من الفقر، والضراء: شدة الضر أو المرض.
وحين البأس: عند القتال واشتداده في سبيل الله تعالى.
أولئك الذين صدقوا٤: أي في دعواهم الإيمان والبر والبرور.
معنى الآية الكريمة:
في الآيات الثلاث السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن
١ نصب: ﴿والصابرين﴾ على المدح إذ هو معطوف على: ﴿والموفون﴾ وهو مرفوع، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ والنصب على المدح شائع في كلام العرب، وهو إشارة وتنبيه على فضيلة الصبر وميزته، وقرئ: ﴿والصابرون﴾ بالرفع على الأصل.
٢ فيه دليل على أن في المال حقاً غير الزكاة وشاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن في المال حقاً سوى الزكاة" رواه ابن ماجة والترمذي.
٣ ويصح أن يكون على حب الله لا على شيء آخر، أي أعطى المال من أعطاهم لأجل حب الله عز وجل.
٤ ورد في فضل الصدق قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الجنة يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ". في الصحيح.
152
يكتموا العلم على الناس طلباً لحظوظ الدنيا الفانية، وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب أيضاً تبجحهم بالقبلة وادعاءهم الإيمان والكمال فيه لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بين المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق، إذ الأولى قبلة اليهود، والثانية قبلة النصارى، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ١ الْبِرَّ﴾ كل البر ﴿أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات، بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الإيمان والإسلام والإحسان فقال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ ٢ أي: ذا البر أو البار حق هو ﴿مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها "القضاء والقدر"، ﴿الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ وهما من أعظم أركان الإسلام، وأنفق المال في سبيل الله مع حبه له وضنه به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فهو ينفق ماله على من لا يرجو منه جزاء ولا مدحاً ولا ثناء؛ كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسر وأقام الصلاة أدامها وعلى الوجه الأكمل في أدائها وأتى الزكاة المستحقين لها، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد الإسلام، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الأحوال، فقال تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه وهو يزاول عبادته، ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان والإسلام، وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه، جعلنا الله منهم، فقال تعالى مشيراً لهم بلام البعد وكاف الخطاب ليعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ ٣.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
١- الاكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه٤ مؤمناً ولا ناجياً.
١ قرأ حفص: ﴿البر﴾ بالنصب على إنه خبر ليس مقدماً والاسم أن وما دخلت عليه، والتقدير: تولية وجوهكم، وقرأ غيره: ﴿البر﴾ مرفوعاً على أنه اسم والخبر أن وما دخلت عليه.
٢ وقيل هو على حذف مضاف، أي: ولكن البر بر من آمن على حد ﴿واسأل القرية﴾ أي: أهل القرية، وما أولناه به أقرب وأيسر.
٣ هذه الآية: ﴿ليَسَ اَلْبِر﴾... إلخ. آية عظيمة تضمنت قواعد الشرع وأمهات الأحكام لم تضمن آية غيرها ما تضمنته هي، إذ تضمنت أركان الإيمان وقاعدتي الإسلام؛ الصلاة والزكاة، والجهاد والصبر، والوفاء، والتقوى والإنفاق العام والخاص.
٤ شاهدوه من القرآن في قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ..﴾ الآية.
153
٢- أركان١ الإيمان هي المذكورة في هذه الآية، والمراد بالكتاب٢ في الآية الكتب.
٣- بيان وجوه الانفاق المرجو ثوابه يوم القيامة وهو ذوي القربى إلخ....
٤- بيان عظم شأن الصلا والزكاة.
٥- وجوب الوفاء بالعهود.
٦- وجوب الصبر وخاصة عند القتال.
٧- التقوى هي ملاك الأمر، والغاية التي ما بعدها للعاملين غاية.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) ﴾
شرح الكلمات:
كتب٣ عليكم القصاص٤
: كتب: فرض، والقصاص: إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف.
في القتلى
: الفاء سببية، أي بسبب القتل، والقتلى: جمع قتيل وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة.
١ أركان الإيمان: ستة: جاءت في حديث جبريل الذي رواه مسلم وهي: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر تؤمن والقدر خيره وشره"، ولم يذكر القدر في الآية؛ لأن الكتاب دال عليه.
٢ إن أل: التي في الكتاب للجنس، والجنس تحته أفراد كالإنسان، أفراده كثيرون، والكتب المطلوب الإيمان بها هي: كل ما أنزل من كناب وأعظمها: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم عليه السلام.
٣ قيل: كتب هنا: هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ولا منافاة بين ما شرع وفرض علينا في القرآن والسنة، وما كتب في كتاب المقادير إذا الكل سبق به علم الله وأراده فكان كما أراد.
٤ القصاص: مأخوذ من قص الأثر إذا تتبعه، ومنهم: قاص؛ لأنه يتتبع الأخبار والآثار والقاتل؛ كأنه سلك طريقاً فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك.
154
الحر: الحر خلاف العبد١ والعبد، هو: الرقيق المملوك.
فمن عفي له من أخيه شيء: فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو.
فاتباع بمعروف: فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف بالرفق واللين.
وأداء إليه بإحسان: وأن يكون أداء الدية بإحسان خالياً من المماطلة والنقص.
ذلك تخفيف من ربكم: أي ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلاً من القصاص تخفيف عنكم من ربكم إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط، وأنتم مخبرون بين العفو والدية والقصاص.
فمن اعتدى بعد ذلك: يريد من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله٢ لا غير.
القصاص: المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضاً.
حياة: إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل، يذكر أنه سيقتل فيترك القتل فيحيا، ويحيا من أراد قتله، ويحيا بحياتهما خلق كثير وعدد كبير.
أولي الألباب: أصحاب العقول الراجحة، واحد الألباب: لبٌ: وهو في الإنسان العقل.
لعلكم تتقون: ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في الدنيا والآخرة.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية نزلت في حين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر، فلذا يقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة تطاولاً وكبرياء، فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام، فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هذه الآية تبطل ذحل٣ الجاهلية وتقرر مبدأ العدل
١ ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد مخالفاً للجمهور لعموم آية المائدة: ﴿النَفْس بِالنَفسْ﴾.
٢ اختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال مالك والشافعي، وكثير من العلماء هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة، وقال آخرون عذابه أن يقتل ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام.
٣ ذحل الجاهلية: ثأر الجاهلية وعاداتها، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة، رجل قتل غير فاتلة، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية".
155
والمساواة١ في الإسلام فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى٢ بِالأُنْثَى﴾، فلا يقتل بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان ولا بالعبد حر ولا عبدان.
فمن تنازل له أخوه٣ وهو ولي الدم عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقاً فليتبع ذلك ولا يقل: لا أقبل إلا القصاص، بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو، وليطلب ولي الدم الدية بالرفق والأدب، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص منه شيئاً.
ثم ذكر تعالى منته على المسلمين حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيراً بين ثلاثة: العفو، أو الدية، أو القود "القصاص" في حين أن اليهود كان مفروضاً عليهم القصاص فقط، والنصارى الدية فقط، وأخبر تعالى بحكم أخير في هذه القصة، وهو أن من أخذ الدية وعفا عن القتل ثم تراجع وقتل فقال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا، أو هو عذاب الآخرة، ومن هنا قال مالك والشافعي: حكم هذا المعتدي كحكم القاتل ابتداء إن عفي عنه قبل، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى، وقال آخرون: ترد منه الدية ويترك لأمر الله، وقال عمر بن العزيز –رحمه الله-: يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه يحقق المصلحة العامة. ثم أخبر تعالى: أن في القصاص الذي شرع لنا، وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة لما فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء، فقال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
١- حكم القصاص في الإسلام وهو المساواة والمماثلة فيقتل٤ الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة
١ الجمهور على أن الجماعة تقتل بالواحد، وذلك إذا باشروا القتل فقتلوا لقول عمر رضي الله عنه في قتل غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم ولم يخالفه أحد فكان إجماعاً.
٢ ذهب بعض إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة وحالفهم الجمهور لآية المائددة: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الآية.
٣ أخوة: أي في الإسلام إذ لا يقتل المسلم بالذمي، لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقتل مسلم بكافر"، وهو مذهب الجمهور، وذلك لعدم تكافؤا الدمين".
٤ اختلف في هل يقتل الرجل بولده فذهب الجمهور إلى عدم قتله به، وذهب مالك إلى أنه إذا أضجعه يقتل به، فإذا رماه بحجر أو بعصا أو بأي سبب فيه شبهة إنه لم يرد قتله فلا يقتل به لحديث: " إدرأوا الحدود بالشبهات".
156
والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة، ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة لحديث: "المرء مقتول بما قتل به".
ولما كان العبد مقوماً بالمال فإنه لا يقتل به الحر، بل يدفع إلى سيده مال. وبهذا حكم الصحابة والتابعون وعليه الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وخالف أبو حنيفة فرأى القود فيقتل الحر بالعبد أخذاً بظاهر هذه الآية.
٢- محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو١ والدية بدل القصاص.
٣- بلاغة القرآن الكريم، إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل، فقال القرآن: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾. فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظاً وواقعاً.
﴿كُتِبَ٢ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ٣ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) ﴾
شرح الكلمات:
كتب: فرض وأثبت.
خيراً: مالاً نقداً، أو عرضاً، أو عقاراً.
الوصية: الوصية ما يوصى به من مال وغيره.
١ اختلف في أخذ الدية من قاتل العمد فقال الجمهور: ولي الدم يخير بين أخذ الدية والقصاص، ولا خيار للقاتل، فلو قال: اقتصوا مني ليس له ذلك بل هو لولي الدم لأنه مخير بين ثلاثة.
٢ هذه الآية: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ إلخ. تسمى آية الوصية وذكر الفعل والوصية مؤنثة لأحد أمرين: الأول: الفصل بين الفعل والفاعل، والثاني: ما لا فرج له يذكر ويؤنث.
٣ المراد من الموت هنا: أسبابه، إذا العرب إذا أحضر السبب كنت به عن المسبب، قال جرير في مهاجاته الفرزدق:
أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاة
فكنى بنفسه عن الموت، إذ هو سبب مجيئه في نظره وزعمه.
157
المعروف: ما تعارف عليه الناس كثيراً أو قليلاً بحيث لا يزيد على الثلث.
التبديل: التغيير للشيء بآخر.
جنفاً أو إثماً: الجنف: الميل عن الحق خطأ، والإثم: تعمد الخروج عن الحق والعدل.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر آية القصاص وفيها أن القاتل عرضة للقتل، والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله، ذكر تعالى آية الوصية هنا فقال تعالى: كتب عليكم أيها المسلمون إذا حضر أحدكم الموت إن ترك مالاً الوصية١، أي: الإيصاء للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث٢، ويقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلا وصية لوارث" ٣، ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين إلا أن يجيز ذلك الورثة وأن تكون الوصية ثلثاً فأقل، فإن زادت وأجازها الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدارقطني لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة، ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديوناً لازمة، وحقوقاً واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن عمر في الصحيح: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"، هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٨٠)، وأما الآية الثانية٤ (١٨١) فيقول تعالى لعباده المؤمنين فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص أو غيره أو بدل نوعاً بآخر فلا إثم على الموصي ولكن الإثم على من بدل وغير، وختم هذا الحكم بقوله: أن الله سميع عليم، تهديداً ووعيداً لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيء، وفي الآية الأخيرة (١٨٢) أخر تعالى أن من خاف٥ من موص جنفاً أو ميلاً عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون تعمد الجور ولكن خطأ أو خاف إيماً على الموصى حيث جار
١ ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾ : هذا شرط وجوبه الوصية إلا أن الشائع أن جواب الشرط يكون مقروناً بالفاء وسقطت هنا جوازاً كما في قول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان
أي: فالله يشكره.
٢ آية المواريث في النساء وهي:
﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ﴾ إلى آخر الآيات إلى ﴿حَلِيمٌ﴾.
٣ نص الحديث: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". رواه أصحاب السنن وغيرهم، وهو صحيح الإسناد.
٤ هي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ إلخ.. والخطاب لسائر المسلمين، والإجماع على أن الموصي أن يغير في وصيته ويرجع فيما شاء منها إلا ما كان من تدبير العبد فإنه لا يرجع فيه.
٥ الخوف هنا: بمعنى الظن والتوقع، وقرئ: ﴿موصٍ﴾، من وصى المضاعف، أما ﴿موصٍ﴾ فهو من أوصى فهو موصٍ.
158
وتعدى على علم في وصيته فأصلح١ بينهم، أي: بين الموصي والموصى لهم فلا إثم عليه في إصلاح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط، وختم هذا الحكم بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وعداً بالمغفرة والرحمة لمن أخطأ غير عامد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- نسخ الوصية للوارثين مطلقاً بإجازة٢ الورثة.
٢- استحباب٣ الوصية بالمال لمن ترك مالاً كثيراً يوصي به في وجوه البر والخير.
٣- تأكد الوصية حضر٤ الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم بإضاعتها.
٤- حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير٥ الصالح.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) ﴾
شرح الكلمات:
كتب
: فرض وأثبت.
١ من أوصى بما لا يجوز الانتفاع به أو تناوله واستعماله كمن أوصى أو بناء قبة على ميت أو إحياء بدعة مولد ونحوه فإنه يجوز تبديله بما هو جائر ولا يصح إمضاؤه.
٢ الحديث الصحيح: "فلا وصية لوارث".
٣ لحديث سعد في الصحيح.
٤ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح.
٥ يجوز تبديل الوصية إذا كان فيها جور أو محرم لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾.
159
الصيام: لغة الإمساك، والمراد به هنا: الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس١.
أياماً معدودات: تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً بحسب شهر رمضان.
فعدة من أيام أخر: فعل من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر بعدد الأيام التي أفطر فيها.
يطيقونه: أي: يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجأ برؤه.
فدية طعام مسكين: فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه.
فمن تطوع خيراً: أي: زاد على المُدّين٢ أو أطعم أكثر من مسكين فهو خير له.
وأن تصوموا خيراً: الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الإفطار مع الطعام.
معنى الآيتين:
لما هاجر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبحت دار إسلام أخذ التشريع ينزل ويتوالى، ففي الآيات السابقة كان حكم القصاص والوصية ومراقبة الله في ذلك، وكان من أعظم ما يكون في المؤمن من ملكة التقوى الصيام، فأنزل الله تعالى فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، فناداهم بعنوان الإيمان: يا أيها الذين آمنوا. وأعلمهم أنه كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم السابقة، فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... ﴾ علل ذلك بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: ليعدكم به للتقوى التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى، وقوله: ﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾ ذكره ليهون به عليهم كلفة الصوم ومشقته، إذ لم يجعله شهوراً ولا أعواماً. وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر ويقضي بعد الصحة أو العودة من السفر فقال لهم: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى٣ سَفَرٍ٤ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ كما أن غير المريض والمسافر إذا
١ أي بنية امتثال أمر الله تعالى به، أو بنية التقرب إليه عز وجل.
٢ هل الواجب مد أو مدان خلاف، فمن الفقهاء من يرى مدين، ومنهم من يرى مداً واحداً، والمد: الحفنة بحفنة الرجل المعتدل بين القصر والطول.
٣ أي في حالة سفر فلذا لا ينبغي لمن عزم على السفر أن يفطر حتى يغادر بلده المقيم به شأن الصيام كشأن الصلاة فلا يقصر حتى يغادر مباني البلد.
٤ أي فالواجب صيام عدة من أيام أخر.
160
كان يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم على كل يوم مسكيناً، وأعلمهم أن الصيام في هذه الحال خير. ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله في الآية الآتية: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يريد: تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والآخروية، وهي كثيرة أجلها مغفرة الذنوب وذهاب الأمراض.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فرضية الصيام وهو شهر رمضان.
٢- الصيام يربي ملكة التقوى في المؤمن.
٣- الصيام يكفر الذنوب لحديث: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
٤- رخصة الإفطار للمريض١ والمسافر.
٥- المرأة الحامل أو المرضع دل قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أنه يجوز لهما الإفطار مع القضاء، وكذا الشيخ الكبير فإنه يفطر ولا يقضي، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه كذلك. إلا أن عليهما أن يطعما عن كل يوم مسكيناً بإعطائه حفنتي طعام كما أن المرأة الحامل والمرضع٢ إذا خافت على حملها أو طفلها أو على نفسها أن عليها أن تطعم مع كل صوم تصومه قضاء مسكيناً.
٦- في الصيام فوائد دينية واجتماعية عظيمة أشير إليها بلفظ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
من هذه الفوائد:
١- يعود الصائم الخشية من الله تعالى في السر والعلن.
٢- كسر حدة الشهوة، ولذا أرشد العازب٣ إلى الصوم.
٣- يربي الشفقة والرحمة في النفس.
٤- فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء والأشراف٤ والأوضاع.
١ المريض له حالتان. الأولى: أن يكون مرضه شديداً فهذا يجب عليه أن يفطر. والثانية: أن يكون مرضه غير شديد فيستحب له الفطر.
٢ في الكلام إجمال وهذا تفصيله: الحامل والمرضع إذا خافتا على طفليهما فعليهما القضاء والإطعام، وإن خافتا على نفسيهما فعليهما الصيام دون الإطعام.
٣ لحديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه فإنه له وجاء" أي خصاء.
٤ الأشراف: جمع شريف، والأوضاع: جمع وضيع، وهو الدنيء.
161
٥- تعويد الأمة النظام والوحدة والوئام.
٦- يذهب المواد المترسبة في البدن، وبذلك تتحسن١ صحة الصائم.
﴿شَهْرُ٢ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ٣ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ : هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم إذا جر جوفه من العطش٤.
﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ : هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور حيث أنزل فيه القرآن، وذلك في ليلة القدر منه لآية: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل نجماً بعد نجم، وابتدئ نزوله على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان أيضاً.
١ لحديث: "صوموا تصحوا وسافروا تغنموا ".
٢ قرئ: ﴿شَهْر﴾ بالنصب فيكون بدلاً من قوله: ﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾، وقرئ بالرفع فيكون مبتدأ والخبر، ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾. وقد يكون المبتدأ محذوفاً تقديره هي: أي الأيام المعدودات.
٣ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً"، أوضح طريق للصوم والإفطار وبه العمل والحمد لله.
٤ والرمضاء: شدة الحر، ويشهد لذلك حديث مسلم: " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال"، أي اشتد الحر في الأرض فلم يقوى الفصيل على الوقوف على الأرض بأخفافه فيبرك.
162
﴿هُدىً لِلنَّاسِ﴾ : هادياً للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين.
﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ : البينات: جمع بينة، والهدى: الإرشاد، والمراد أن القرآن نزل هادياً للناس ومبيناً لهم سبيل الهدى موضحاً طريق الفوز والنجاة فارقاً لهم بين الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
شهد الشهر١: حضر الإعلان٢ عن رؤيته.
﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ : فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضاً أو مسافراً.
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة﴾ : وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرون يوماً.
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ : وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من صلاة العيد والتكبير مشروع وفيه أجر كبير، وصفته المشهورة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ : فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير لتكونوا بذلك من الشاكرين لله تعالى على نعمه؛ لأن الشكر٣ هو الطاعة.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة وأنه أيام معدودات بين في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هادياً موضحاً طرق الهداية، وفارقاً به بين الحق والباطل، فقال تعالى: ﴿شَهْرُ٤ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ يريد شهر رمضان، ومعنى: شهد، كان حاضراً غير مسافر لما أعلن عن رؤية هلال رمضان، فليصمه على سبيل الوجوب إن كان مكلفاً. ثم ذكر عذر المرض والسفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما
١ اختلف في قبول شهادة الواحد في هلال رمضان، والذي عليه الأكثر وهو الأحوط للدين أن الواحد إذا كان عدلاً تقبل شهادته، هذا في الصام، أما في الإفطار وهو رؤية هلال شوال فلا بد من شاهدين اثنين.
٢ إذا أسلم الكافر ليلاً وبلغ الصبي وجب عليهما الصيام من الغد، أما إذا أسلم الكافر وبلغ الغلام في نهار رمضان فإنه يستحب لهما الإمساك ولا يجب.
٣ يشهد له قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً﴾، والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح وهو العمل، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
٤ يجمع رمضان على رمضانات، وأرمضاء ويجوز أن يقال شهر رمضان. ورمضان بدون شهر لحديث: "إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة".
163
أفطر بعدده، وأخبر تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر ليس بالأمة، ولا يريد بها العسر فله الحمد وله المنة، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.
ثم علل تعالى للقضاء بقوله ولتكملوا العدة، أي: عدة أيام رمضان، هذا أولاً، وثانياً: لتكبروا الله على ما هداكم عندما تكملون الصيام برؤية هلال شوال وأخيراً ليعدكم بالصيام والذكر للشكر، وقال عز وجل: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- فضل١ شهر رمضان وفضل القرآن.
٢- وجوب صيام رمضان على المكلفين، والمكلف هو: المسلم العاقل مع سلامة المرأة من دمي الحيض والنفاس.
٣- الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه، والمسافر مسافة٢ قصر.
٤- وجوب القضاء على من أفطر لعذر٣.
٥- يسر الشريعة الإسلامية وخلوها من العسر٤ والحرج.
٦- مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه، وهذا التكبير جزء لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام.
٧- الطاعات: هي الشكر، فمن لم يطع الله ورسوله لم يكن شاكراً فيعد مع الشاكرين.
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) ﴾
١ يكفي في بيان فضل رمضان قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". رواه مسلم، قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " في الصحيح.
٢ أوسط ما قيل في مسافة القصر إنها أربعة بُرُد، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، والميل: ألفا ذراع عند أهل الأندلس وهو يعادل الكيلو المتر المعروف الآن.
٣ لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي فعليه قضاء أيام أخر بعدد ما أفطر.
٤ لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دين الله يسر"، وقوله لأصحابه: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". في الصحيح.
164
شرح الكلمات:
الداعي: السائل ربه حاجته
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ : أي: يجيبوا ندائي إذا دعوتهم لطاعتي وطاعة رسولي بفعل المأمور وترك المنهي والتقرب إليّ بفعل القرب وترك ما يوجب السخط.
﴿يَرْشُدُونَ﴾ : بكمال القوتين العلمية والعملية، إذ الرشد: هو العلم بمحاب الله ومساخطه، وفعل المحاب وترك المساخط، ومن لا علم له ولا عمل فهو السفيه الغاوي والضال الهالك.
معنى الآية الكريمة:
ورد أن جماعة من الصحابة سألوا النبي قائلين: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ١ الدَّاعِ﴾ الآية، ومعنى المناجاة: المكالمة بخفض الصوت، والمناداة برفع الصوت، وإجابة الله دعوة عبده قبول طلبه وإعطاؤه مطلوبه٢. وما على العباد إلا أن يستجيبوا لربهم بالإيمان به وبطاعته في أمره ونهيه، وبذلك يتم رشدهم ويتأهلون للكمال والإسعاد في الدارين الدنيا والآخرة.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- قرب الله تعالى من عباده إذ العوالم كلها في قبضته وتحت سلطانه ولا يبعد عن الله شيء من خلقه إذ ما من كائن إلا والله يراه ويسمعه ويقدر عليه، وهذه حقيقة القرب.
٢- كراهية رفع٣ الصوت بالعبادات إلا ما كان في التلبية والأذان٤ والإقامة.
٣- وجوب الاستجابة لله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
٤- الرشد في طاعة الله والغي والسفه في معصيته تعالى.
١ دل على فضل الدعاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلق عليه لفظ العبادة، فقال: "الدعاء هو العبادة" رواه أبو داود، ومما يحرم الإجابة: أكل الحرام، والاستعجال. وأن يقول دعوت فلم يستجب لي، ذلك لحديث مسلم.
٢ على الداعي أن يعزم في دعوته ولا يقل: اللهم أعطني كذا إن شئت، فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث البخاري: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن اللهم إن شئت فاعطني فإنه لا مستكره له".
٣ يستحب الإسرار بالدعاء لقوله تعالى: ﴿زكريَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾.
٤ من الأوقات التي يرجى فيه استجابة الدعاء: ما بين الأذان والإقامة، والسحر، ووقت الفطر، وحال السفر، والمرض، وفي السجود، ودبر الصلوات، وعند اشتداد الكرب من ظلم وغيره، فقد ورد من الأحاديث والآثار ما يصدق هذا ويؤكده.
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ١﴾ : الليلة التي يصبح العبد بعدها صائماً.
﴿الرَّفَثُ﴾ : الجماع.
﴿لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ : كناية عن اختلاط بعضكم ببعض؛ كاختلاط الثوب بالبدن.
﴿تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ : بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن يحل الله لكم ذلك.
﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ : جامعوهن، أباح لهم ذلك ليلاً.
﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾ : اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم٢، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة.
﴿الْخَيْطُ الأَبْيَضُ﴾ : الفجر الكاذب وهو بياض٣ يلوح في الأفق؛ كذنب السرحان٤.
١ روي في سبب نزول هذه الآية: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ الآية أن عمر رضي الله عنه بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشكى إليه ما حدث له من وقاع أهله ليلاً، فأنزل الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ الآية.
٢ ويحتمل اللفظ معاني أخرى مثل: ما أبيح لكم، وليلة القدر، والرخصة، والتوسعة.
٣ لحديث مسلم: "لا يغرنكم من سحوركم آذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وأشار بيديه يعني معترضاً.
٤ السرحان: الذئب.
166
﴿الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ : سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تماماً.
﴿الْفَجْرِ﴾ : انتشار الضوء أفقياً ينسخ سواد الخيط الأسود ويعم الضياء الأفق كله.
﴿عَاكِفُونَ١ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ : منقطعون إلى العبادة في المسجد تقرباً إلى الله تعالى.
﴿حُدُودُ اللهِ﴾ : جمع حد وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلاً أو تركاً.
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ﴾ : أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة.
معنى الآية الكريمة:
كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية. كأن الصيام يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناساً أتوا نسائهم وأخبروا ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، فقال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ أي: الاختلاط بهن، إذ لا غنى للرجل عن امرأته ولا المرأة عن زوجها ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾. يسترها وتستره؛ كالثوب يستر الجسم، وأعلمهم أنه تعالى علم منهم ما فعلوه من إتيان نسائهم ليلاً بعد النوم قبل أن ينزل حكم الله فيه بالإباحة أو المنع، فكان ذلك منهم خيانة لأنفسهم فقال تعالى: ﴿عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾. وأعلن لهم عن الإباحة بقوله: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾. يريد من الولد٢، لأن الجماع لا يكون لمجرد قضاء الشهوة بل للإنجاب والولد. وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه وهو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ٣ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم فلا يحل للرجل وهو
١ الاعتكاف: ملازمة المسجد للعبادة وهو من سنن الإسلام فقد اعتكف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستحب أن يكون في العشر الأواخر من رمضان، وأقله يوم وليلة. ولا يصح إلا في المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة، ويفسده الجماع ويجب قضاؤه على من أفسده بجماع أهله.
٢ تقدم ما يحتمله اللفظ من غير الولد في رقم (٢) من هذا التعليق.
٣ فلذا قيل الفجر: فجران، كاذب وصادق، وقد بينها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث مسلم: الأنف الذكر تحت رقم ٣.
167
معتكف أن يخرج من المسجد ويغشى امرأته وإن فعل أثم وفسد اعتكافه وجب عليه قضاؤه. قال تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ١ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ وأخبرهم أن ما بينه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى فلا يحل القرب منها ولا تعديها فقال عز وجل: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾ ثم قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ فامتن تعالى على المسلمين بهذه النعمة وهي بيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة ليعد بذلك المؤمنين للتقوى، إذ لا يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم. وقد فعل فله الحمد وله المنة.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- إباحة الأكل والشرب والجماع في ليال الصيام من غروب الشمس٢ إلى طلوع الفجر.
٢- بيان ظرف الصيام وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
٣- بيان ما يسمك عنه الصائم وهو الأكل الشرب والجماع.
٤- مشروعية الاعتكاف وخاصة في رمضان، وأن المعتكف لا يحل له مخالطة امرأته وهو معتكف حتى تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها.
٥- استعمال الكتابة بدل التصريح فيما يتسحي من ذكره، حيث كنى بالمباشرة عن الوطء.
٦- حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده.
٧- بيان الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود وهي تقوى الله عز وجل.
٨- ثبت بالسنة: سنة٣ السحور واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، واستحباب تعجيل الفطر٤.
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ
١ المباشرة: كناية عن الجماع: إذ البشرة تمس البشرة فيه.
٢ يحرم الوصال: وهو صيام يومين فأكثر بلا إفطار لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إياكم والوصال، إياكم الوصال، يحذر منه ". أخرجه البخاري.
٣ لحديث مسلم: "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور".
٤ لحديث: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" رواه أحمد.
168
أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) }
شرح الكلمات:
الْبَاطِلَ: خلاف الحق١.
َتُدْلُوا: الإدلاء بالشيء، إلقاؤه٢، والمراد هنا: إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم.
﴿فَرِيقاً﴾ : أي: طائفة وقطعة من المال.
﴿بِالأِثْمِ﴾ : المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة أي الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق.
معنى الآية الكريمة:
لما أخر تعالى في الآية السباقة أنه يبين للناس٣ أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي بين في هذه الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل، وأنه حرام فلا يحل لمسلم أن يأكل مال أخيه بغير طيب نفس منه. وذكر نوعاً هو شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أمال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة وهي التي يحلف فيها المرء كاذباً.
وقال تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: وأنتم تعلمون حرمة ذلك.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- حرمة أكل مال المسلم بغير حق سواء كان بسرقة أو بغصب أو غش أو احتيال ومغالطة.
١ الباطل: لغة: الذاهب الزائل.
٢ يقال: أدلى دلوه في البئر إذا ألقاها فيها ليخرج الماء، والحبل الذي يلقى بالدلو يقال له: الرشاء، ومنه أخذ اسم الرشوة، فالراشي يعطي الرشوة ليستخلص الحكم له.
٣ إن هذه الآية وإن نزلت في سبب خاص: وهو تخاصم عبدان ابن أشوع الحضرمي مع أمرؤ القيس الكندي، إذ ادعى الأول مالاً على الثاني، فأنكر وأراد أن يحلف، فنزلت فإنها عامة في أمة الإسلام قاطبة، فلا يحل أكل مال أمرء مسلم بغير حق، فيدخل فيه القمار والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق وكذا ما حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، وذلك كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان بيع الخمر وغيرها.
٢- حرمة الرشوة تدفع للحاكم ليحكم١ بغير الحق.
٣- مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة إلا أن مال المسلم أشد حرمة لحديث: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله "٢. ولقوله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ وهو يخاطب المسلمين.
﴿يَسْأَلونَكَ٣ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ٤ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ٥ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الأَهِلَّةِ﴾ : جمع هلال: وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام الأولى من الشهر؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلال الهلال.
المواقيت: جمع ميقات: الوقت المحدد المعلوم للناس.
إتيان البيوت من ظهورها: أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشياً أن يدخل من الباب.
﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ : البر الموصل إلى رضوان الله. بر عبد: اتقى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه ليس البر دخول البيوت من ظهورها.
الفلاح: الفوز: وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
١ حكم الحاكم لا يحل الحرام سواء أموالاً أو فروجاً لهذه الآية ولقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين عن أم سلمة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فيلحملها أو ليذرها ".
٢ رواه مسلم.
٣ حقيقة السؤال هي: طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخباراً عن شيء فإن كان طلب شيء تعدى الفعل بنفسه نحو: سأله مالاً، وإن كان إخباراً عن شيء تعدى بعن نحو: سأله عن كذا.
٤ الوقت والميقات: بمعنى واحد، إلا أن الميقات أخص من الوقت فإنه عام.
٥ ذكر الحج خصوصاً لأنه يفوت بفوات وقته إذا تقدم أو تأخر، إذ الحج يوم واحد وهو تاسع الحجة، ومكان واحد وهو عرفة لحديث: "الحج عرفة".
170
معنى الآية الكريمة:
روى أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلين: ما بال الهلال يبدوا دقيقاً، ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدراً، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ﴾ وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لهم: هي مواقيت للناس، وعلة بدءها صغيرة ثم تتكامل ثم تنقص حتى المحاق: هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم١ فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء وتعرف الشهور، فنعرف رمضان٢ ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك. وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وبراً، فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾. بر أهل التقوى والصلاح. وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة. فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
١- أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال٣ عما لا يعنيه.
٢- فائدة الشهور القمرية عظيمة إذ بها تعرف كثير من العبادات.
٣- حرمة الابتداع في الدين٤ ولو كان برغبة في طاعة الله تعالى وحصول الأجر.
٤- الأمر بالتقوى المفضية إلى فلاح العبد ونجاته في الدارين.
١ من ذلك بيوع الآجال وبيع السلم فلا بد من تحديد الوقت بعام معين أو شهر معين.
٢ لحديث عبد الرازق والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" فإن غم في أول رمضان عددنا شعبان ثلاثين يوماً وإن غم في آخر رمضان عددنا رمضان ثلاثين يوماً.
٣ وشاهده في السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
٤ قال القرطبي في تفسير هذه الآية: بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة يتقرب بها إلى الله تعالى واستشهد بحديث أبي إسرائيل إذ نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد ولتم صومه". فأبطل ما لم يكن قربة وصحح ما هو قربة.
171
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ١ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ : الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإسلام، والمراد إعلاء كلمة٢ الله.
﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ : المشركون الذين يبدؤونكم بالقتال.
﴿وَلا تَعْتَدُوا﴾ ٣: لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال ومن اعتزل القتال.
﴿ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ : تمكنتم من قتالهم.
﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ : الشرك٤.
﴿الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ : المراد به مكة والحرم من حولها.
﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ : بأن لم يبق من يعبد غير الله تعالى.
﴿فَلا عُدْوَانَ﴾ : أي: لا اعتداء بالقتل والمحاربة إلا على الظالمين. أما من أسلم فلا يقاتل.
معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاث: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من أوائل ما نزل في شأن قتال المشركين
١ يقال رجل ثقف لقف، إذا كان محكماً لما يتناوله والمراد: اقتلوهم حيث تمكنتم من ذلك غالبين لهم قاهرين.
٢ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". في الصحيح.
٣ يدخل في هذا النهي كل محرم؛ كالميتة وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لحديث في الصحيح: " اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع".
٤ يصح تفسير الآية: بأن الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجعوكم بها إلى الكفر أشد من القتل أي: من قتل المؤمن.
172
وهي متضمنة الأذن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بقتال من يقاتلهم والكف عمن يكف عنهم، وقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي: في سبيل إعلاء كلمة الله ليعبد وحده. ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، واقتلوهم حيث تمكنتم منه، وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها المهاجرون من دياركم، ولا تتحرجوا من القتل، فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على الكفر بالاضطهاد والتعذيب أشد من القتل: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ١ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ فلا تكونوا البادئين فإن قاتلوكم فاقتلوهم. كذلك القتل والإخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم. فإن انتهوا عن الشرك والكفر وأسلموا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم.
أما الآية الرابعة (١٩٣) وهي قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ فهي مقررة لحكم سابقاتها، إذ فيها الأمر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالاً يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه ويكون الدين كله لله فلا يعبد غيره، وقوله فإن انتهوا من الشرك بأن اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم، إذ لا عدوان٢ إلا على الظالمين وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم، وهذا قبل نسخ هذه الآية.
٢- حرمة الاعتداء في القتال بقتل الأطفال والشيوخ والنساء إلا أن يقاتلن.
٣- حرمة القتال عند المسجد الحرام، أي مكة والحرم إلا أن يبدأ العدو بالقتال فيه فيقاتل.
٤- الإسلام يجب ما قبله لقوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
٥- وجوب الجهاد وهو فرض كفاية ما وجد مؤمن يضطهد لإسلامه أو يفتن في دينه.
١ القول بأن هذه الآية محكمة أصح لأن دلالتها على ذلك واضحة وهو أن لا يقاتل في الحرم المكي وأن لا يبدأ به فإذا بدأ المشركون بقتال المؤمنين قاتلهم المؤمنون فيه، ويشهد لهذا حديث ابن عباس في الصحيح: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام لحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة". الحديث.
٢ قتال من قاتل المسلمين لا يسمى عدواناً إلا من باب المشاكلة نحو: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، إذ الأولى حقاً سيئة، أما الثانية فإنها قصاص عادل وسميت سيئة مشاكلة في اللفظ.
173
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ١ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ٢ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ﴾ : الشهر المحرم القتال فيه والأشهر الحرم أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد. فالثلاثة هي القعدة والحجة ومحرم، والرابع الفرد: رجب.
الحرمات: جمع حرمة؛ كالشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام.
﴿أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ : المتقون: هم المؤمنون الذين يتقون معاصي الله تعالى ومخالفة سنته في الحياة وكونه تعالى معهم: يسددهم ويعينهم وينصرهم.
﴿التَّهْلُكَةِ﴾ : الهلكة والهلاك مثلها.
الإحسان: اتقان الطاعة وتخليصها من شوائب الشرك، وفعل الخير٣ أيضاً.
معنى الآيتين:
الآية الأولى (١٩٤) في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم وتعلمهم أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم، وهكذا الحرمات قصاص
١ الحرمات: جمع حرمة، كالظلمات: جمع ظلمة، والحرمة: ما منع العبد من انتهاكه، والقصاص يمعنى المساواة هذه الآية لا خلاف بين العلماء في أنها أصل المماثلة في القصاص، فمن جرح جرح بمثل ما جرح، ومن قتل يقتل بمثل ما قتل به، اللهم إلا من قتل بزنا أو لواط فهذا قطعاً لا مماثلة فيه ولكن يقتل بالسيف.
٢ لهذا الآية نظيرها وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وهي بالنسبة إلى الأمة قد نسخت بآيات الجهاد، أما بالنسبة للأفراد فالجمهور على أن الفرد لا يعاقب بنفسه ولكن بواسطة الحاكم، ولكن يرى بعضهم كالإمام الشافعي: أن الفرد إذا لم يتوصل إلى أخذ حقه إلا بالمعاقبة فلينظر إذا كان يمكنه أن يأخذ بقدر ما أخذ منه مساواة بلا زيادة فلا بأس أن يأخذ بشرط أن يأمن من نسبته إلى السرقة حتى لا يتعرض إلى إقامة الحد عليه.
٣ فعل الخير يشمل مواساة الفقراء والمساكين وصلة ذو الأرحام كما يشمل عدم الإساءة إلى المسيء بالعفو والصفح عنه فهو باب واسع.
174
بينهم ومساواة. ومن اعتدى عليهم فليعتدوا عليه مثل اعتدائه عليهم، وأمرهم بتقواه عز وجل وأعلمهم أنه معهم ما اتقوه بالتسديد والعون والنصر.
وأما الآية١ (١٩٥) فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا ولمقاتلين ونهاهم أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن ألقى بيده في الهلاك، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا. كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة وإحسان الأعمال إتقانها وتجويدها، وتنقيتها من الخلل والفساد، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم، فقال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- احترام الشهر الحرام وسائر الحرمات.
٢- جواز المقاصة والمجازاة لمن اعتدى بحيث يعامل بما عامل به سواء بسواء.
٣- رد الاعتداء والنيل من المعتدي الظالم البادي٢ بالظلم والاعتداء.
٤- معية الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى والإحسان.
٥- فضيلة الإحسان لحب الله تعالى للمحسنين.
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ٣ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
١روي أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: هذه الآية نزلت فينا معاشر الأنصار، وذلك أنه لما نصر الله رسوله وأظهر دينه قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ الآية، والإلقاء باليد في التهلكة: أن نقيم في أموالنا.
٢ هذا ليس على بابه وإنما هو في المعتدي الكافر، أما المسلم فإن العفو عنه محمود ومطلوب أيضاً، قال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ وقال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أدي الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك".
٣ الآية دليل على مشروعية العمرة وهي كذلك سنة واجبة، أما الحج فقد فرض بالكتاب في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ وبالنسبة في حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس" إذ فيه حج البيت والإجماع أيضاً.
175
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦) }
شرح الكلمات:
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ : فإتمامهما١ أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ : الحصر والإحصار٢ أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدو يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة٣.
﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ : أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو بعير.
﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ﴾ : لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدي فإن ذبح تحلل بحلق رأسه.
﴿فَفِدْيَةٌ﴾ : فالواجب هو فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ : فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل وبقي في مكة ينتظر الحج وحج فعلاً فالواجب ما استيسر من الهدي.
١ ومن إتمامها أن يخرج لهما لا لتجارة ولا غيرها فيخرج لهما لا غيرهما كما قال علي رضي الله عنه: "أن تحرم بهما من دويرة أهلك، والحج تمامه عرفة، والعمرة والسعي بعد الطواف والحلق أو التقصير".
٢ ذهب مالك والشافعي إلى أن المحصر بمرض لا يحل له أن يتحلل بل عليه أن يبقى على إحرامه حتى يطوف ولو بعد عام، وذهب غيرهما إلى أن المريض الشديد المرض حكمه حكم المحصر بالعدو ينحر ويتحلل، وإن كان الحج فرضاً عليه القضاء، وإن كان نفلاً فلا قضاء عليه.
٣ هذا إذا لم يشترط عند إحرامه، أما إذا اشترط بقوله عند إحرامه: "محلي حيث حبستني" فإنه يتحلل ولا شيء عليه إلا ما كان من مالك فإنه لا يرى الإشتراط وهو محجوج بحديث ضباعة: "حجي واشترطي".
176
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ﴾ : فمن تمتع بالعمرة ولم يجد هدياً لعجزه عنه، فالواجب صيام عشرة أيام ثلاثة في مكة وسبعة في بلده.
﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ : أي ما وجب من الهدي أو الصيام عند العجز وهو لغير أهل الحرم أما سكان مكة والحرم١ حولها وهم أهل الحرم فلا يجب عليهم شيء إن تمتعوا.
معنى الآية الكريمة:
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه المطلوب وأن يريدوا بهما الله تعالى، ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامها، فالواجب عليهم أن يذبحوا ما تيسر لهم، فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من إحرامهم، وذلك بحلق شعر رؤوسهم أو تقصيره، كما أعلمهم أن من كان منهم مريضاً أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس، فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين حفنتان٢ من طعام، أو ذبح شاة. كما أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة أو بقرة أو بعير فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده. وأمرهم بتقواه عز وجل وهي امتثال أوامره والأخذ بتشريعه وحذرهم من إهمال أمره والاستخفاف بشرعه فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- وجوب إتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما بالإحرام من الميقات، وإن كان الحج٣ تطوعاً والعمرة غير واجبة.
١ المكي وساكن الحرم إن حصرا بمرض لا يحل لهما التحلل بذبح الهدي بل عليهما أن يحملا على نعش ويوقف بهما بعرفة ويطاف بهما وهما على النعش.
٢ ويجزئ اليوم كيلو رز أو بر أو تمر لكل مسكين ولا يجوز إلقاء ذلك لحمام الحرم كما يفعل الجهال.
٣ لقول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ فمن شرع في عبادة يجب أن يتمها.
177
٢- بيان حكم الإحصار١، وهو ذبح شاة من مكان الإحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير، ثم القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية.
٣- بيان فدية الأذى: وهي أن من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام بأن حلق أو لبس مخيطاً أو غطى رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة.
٤- بيان حكم التمتع٢، وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل منها وبقي في مكة وحج من عامه أن عليه ذبح٣ شاة فإن عجز صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة في بلاده.
٥- الأمر بالتقوى وهي طاعة الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، والتحذير من "تركها لما يترتب عليه من العقاب الشديد"
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ٤ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
١ الواجب على المحصر أن يذبح هدي في الحرم وإن عجز ذبحه في مكان الإحصار، وإن عجز ذبحه حيث أمكنه وإن لم يجده لفقر صام عشرة أيام بدله، والواجب أن لا يتحلل إلا بعد نحر الهدي إن كان ذلك في مقدوره، هذا أوسط المذاهب في هذه المسألة الشائكة الكثيرة الآراء.
٢ لا خلاف في جواز الإحرام بأي نسك من أنواع النسك الثلاثة إلا أن الإفراد لمن يعتمر في غير أشهر الحج ويحج من عامه أفضلها.
٣ شاه الإحصار أولاً لا بد وأن تكون سليمة؛ كشاة الأضحية في سنها وسلامتها من العور والعرج والهزال والمرض.
٤ روى البخاري عن ابن عباس قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: {وتزودوا....﴾ " الآية، والزاد: التمر، والسويق يومئذ وهو ما يتحاجه الحاج من سائر أنواع الزاد.
178
لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) }
شرح الكلمات:
﴿أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ : هي شوال والقعدة وعشر١ ليال من الحجة هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج.
﴿فَرَضَ﴾ : نوى الحج وأحرم٢ به.
﴿فَلا رَفَثَ﴾ : الرفث: الجماع ومقدماته.
﴿وَلا فُسُوقَ﴾ : الفسق والفسوق: الخروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.
الجدال: المخاصمة والمنازعة.
الجناح: الإثم.
﴿تَبْتَغُوا فَضْلاً﴾ : تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج.
﴿أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ : الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة.
﴿الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ : مزدلفة وذكر الله تعالى عندها: هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها وصلاة الصبح.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر٣ معلومة وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة فلا يحرم بالحج إلا فيها. وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسق٤ والجدال٥ حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره، وانتدب الجاج
١ لو أحرم ليلة العاشر وهي ليلة العيد ووصل إلى عرفة ووقف بها قبل طلوع الفجر صح حجه.
٢ يكره أن يحرم المسلم بالحج قبل أشهره، ولو أحرم صح إحرامه وعليه المضي فيه والأفضل له أن يتحلل بعمرة وإن بقى على إفراده كره له ذلك، وصح منه، هذا أرجح المذاهب في هذه المسألة.
٣ لم يذكر أشهر الحج في الآية بالتعيين وذلك للعلم بها ولبيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها، وقال أشهر وهي شهران وعشر ليال من باب التغليب.
٤ أنه بتجنب هذه الثلاثة يكون حجه مبرور لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". قالت العلماء: الحج المبرور: الذي لم يعص الله تعالى فيه وحف بفعل الخيرات.
٥ الجدال: مأخوذ من الجدال الذي هو الفتل للحبل ونحوه، فالمجادل يريد أن يفتل رأي من يجادله أي يثنيه عنه ويرده عليه.
179
إلى فعل الخير من صدقة وغيرها فقال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به. وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال فقال: وتزودوا، وأرشد إلى خير الزاد، وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج وأمرهم بتقواه عز وجل، أي بالخوف منه حتى لا يعصوه في أمره ونهيه فقال: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾، والله أحق أن يتقى؛ لأنه الواحد القهار، ثم أباح لهم الاتجار أثناء وجودهم في مكة ومنى فقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يريد رزقاً حلالاً بطريق التجارة المباحة، ثم أمرهم بذكر الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح فيها وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس فقال عز من قائل: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ١ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه وانتدبهم إلى شكره وذلك بالإكثار من ذكره فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف بعرفة والإفاضة منها فليقفوا كلهم بعرفات، وليفيضوا جميعاً منها فقال عز وجل: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، وذلك أن الحمس٢ كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا الحطمة. وأخيراً أمرهم باستغفار الله أي: طلب المغفرة منه ووعدهم بالمغفرة بقوله: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- حرمة الرفث والفسوق والجدال في الإحرام.
٢- استحباب فعل الخيرات للحاج أثناء حجه ليعظم أجره ويبر حجه.
٣- إباحة الاتجار والعمل للحاج طلباً للرزق على أن لا يحج لأجل ذلك.
٤- وجوب٣ المبيت بمزدلفة لذكر الله تعالى.
١ الإجماع على أن من وقف بعرفة قبل الزوال وخرج منها قبل الزوال إنه ما حج، أما من وقف بعد الزوال وخرج قبل غروب الشمس فالجمهور على صحة حجه، وعليه ذبح شاه وقال مالك: يبطل حجه. والله أعلم.
٢ الحمس: جمع أحمس، من هو أشد تحمساً وحماسة لحماية الحرم وهم قريش ومن يمت إليهم بنسب وكانوا يقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقبطان بيته.
٣ القول بركنية المبيت بمزدلفة قول شاذ لا يلتفت إليه، وأما الوجوب فمتأكد بالآية والحديث، والخروج منها بعد النزول بها بعد نصف الليل للعجزة والضعفة جائر بإذن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو ثابت في السنن.
180
٥- وجوب شكر الله تعالى بذكره وطاعته على هدايته وإنعامه.
٦- وجوب المساواة في أداء مناسك الحج بين سائر الحجاج فلا يتميز بعضهم عن بعض في أي شعيرة من شعائر الحج.
٧- الترغيب في الاستغفار١ والإكثار منه.
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ٢ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً٣ وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (٢٠١) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿قَضَيْتُمْ﴾ : أديتم وفرغتم منها.
المناسك: جمع منسك وهي عبادات الحج المختلفة.
الخلاق: الحظ والنصيب.
١ يسن الاستغفار ثلاثاً بعد كل صلاة فريضة لما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا سلم من صلاته قال: "استغفر الله ثلاثاً " وسيد الاستغفار هو: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبو لك بنعمتك علي وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".
٢ الكاف: في محل نصب، أي ذكرا كذكركم فهي بمعنى مثل، وأو هنا للإضراب الانتقالي، أي بل اذكروه ذكراً أشد من ذكركم آبائكم.
٣ روي عن علي رضي الله عنه إنه كان يقول: "حسنة الدنيا: المرأة الصالحة، وحسنة الآخرة: الحور العين، وقد لا يصح هذا عن علي، وما فسرنا به أعم وأشمل وأعظم.
181
﴿حَسَنَةً﴾ : حسنة الدنيا: كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال وحسنة الآخرة النجاة من النار ودخول الجنان.
﴿وَقِنَا﴾ : احفظنا ونجنا من عذاب النار.
﴿نَصِيبٌ﴾ : حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.
الأيام المعدودات١: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
﴿تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ : رمى يوم الأول والثاني وسافر.
﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ : رمى الأيام الثلاثة كلها.
﴿فَلا إِثْمَ﴾ : أي لا ذنب في التعجل ولا في التأخر.
﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ : للذي اتقى ربه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه.
﴿تُحْشَرُونَ﴾ : تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة.
معنى الآيات:
بهذا الآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج، ففي الآية الأولى (٢٠٠) يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة، واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات، وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم٢ وأحساب أجدادهم. وبين تعالى حالهم وهي أن منهم من همه الدنيا فهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة، وهم المؤمنون الموحدون فيقولون: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي٣ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح النافع فلله الحمد والمنة، وفي الآية (٢٠٢) يخبر تعالى أن لأهل الدعاء الصالح وهم المؤمنون الموحدون نصيباً من الأجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا،
١ روى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: أيام العشر من أول الحجة.
٢ قال أهل العلم: إن عادة العرب في الجاهلية إنهم إذا قضوا حجهم وقفوا عند الجمرات يفاخرون بآبائهم حتى أن الرجل ليقول اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه.
٣ هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة وفي الصحيحين أن أنس بن مالك: قال كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾.
182
وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة، وفي الآية (٢٠٣) يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ألله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق١ ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ٢ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فالأمر على التخيير وقيد نفي الإثم بتقواه عز وجل فمن ترك واجباً أو فعل محرماً فإن عليه إثم معصيته ولا يطهره منها إلا التوبة ففي الإثم مقيد بالتعجل ودعمه فقط. فكان قوله تعالى لمن اتقى قيدا ً جميلاً، ولذا أمرهم بتقواه عز وجل، ونبههم إلى مصيرهم الحتمي، وهو الوقوف بين يديه سبحانه وتعالى، فليستعدوا لذلك بذكره وشكره والحرص على طاعته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الذكر بمنى عند رمس الجمرات إذ يكبر مع كل حصاة قائلاً: الله أكبر.
٢- فضيلة الذكر٣ والرغبة فيه؛ لأنه من محاب الله تعالى.
٣- فضيلة سؤال الله تعالى الخيرين وعدم الاقتصار على أحدهما، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحطامها.
٤- فضيلة دعاء: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. فهي جامعة للخيرين معاً، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط.
٥- وجوب المبيت ثلاث ليال بمنى ووجوب الحمرات إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات، وهي أيام التشريق.
٦- الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني.
٧- الأمر بتقوى الله وذكر الحشر والحساب والجزاء، إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عز وجل.
١ لقد رخص لمن لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق بلا خلاف.
٢ قيل أن هذا التخيير ونفي الإثم على المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي لأنه حذر متحرز من كل ما يريبه فرفع الإثم حتى لا يبقى في نفسه ما يؤلمه من التقديم والتأخير وهو وجه حسن للآية.
٣ روى أحمد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله". وروى مسلم أيضاً عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله".
183
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يُعْجِبُكَ﴾ ١: يروق لك وتستحسنه.
في الدنيا: إذا تحدث في أمور الدنيا.
﴿أَلَدُّ٢ الْخِصَامِ﴾ : فوي الخصومة شديدها، لذلاقة لسانه.
﴿تَوَلَّى﴾ : رجع وانصرف، أو كانت له ولاية.
﴿الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ : الحرث: الزرع، والنسل: الحيوان.
﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ٣ بِالأِثْمِ﴾ : أخذته الحمية والأنف بذنوبه فهو لا يتقي الله.
﴿يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ : يبيع نفسه لله تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله.
معنى الآيات:
يخر تعالى رسوله والمؤمنين عن حال المنافقين، والمؤمنين الصادقين، فقال تعالى مخاطباً الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ومن الناس رجل منافق يحسن القول، وإذا قال يعجبك قوله لما عليه من طلاء
١ الإعجاب: إيجاد العجب في النفس، والعجب انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي السبب.
٢ الألد: لغة الأعوج والمنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق، ولا يستقيم وفي الحديث: "إذ خاصم فجر".
٣ الأخذ: أخذ الشيء باليد، ويطلق ويراد به الاستيلاء على الشيء نحو: ﴿خذوهم واحصروهم﴾، وأخذته الحمى والعزة: حال نفسية يرى صاحبها أنه لا يمانع فيما يفعل ويريد، وبالإثم: الباء للمصاحبة، أي: أخذته العزة مصاحبة للإثم كائنة معه، وهو احتراز من العزة المصاحبة لما هو محمود من الفعال؛ كالغضب لله تعالى.
184
ورونق، وذلك إذا تكلم في أمور الحياة الدنيا بخلاف أمور الآخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول فيها؛ لأنه كافر، وعندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول، فيقول للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الله أني مؤمن وأني أحبك، ويشهد الله أني كذا... وإذا قام من مجلسك وانصرف عنك: ﴿سَعَى١ فِي الأَرْضِ﴾ أي: مشى فيها بالفساد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم فيمنع المطر وتيبس المحاصيل الزراعية، وتمحل الأرض وتموت البهائم وينقطع النسل وعمله هذا مبغوض لله تعالى فلا يحبه ولا يحب فاعله. كما أخبر تعالى أن هذا المنافق إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر فقيل له اتق الله لا تفعل كذا أو اترك كذا تأخذه الأنفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس بها فلا يتقي الله ولا يتوب إليه فيكفيه جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشاً لا يبرح منها أبداً، ولبئس المهاد جهنم.
كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق فيقول من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلباً لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام فقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ رحيم بهم.
قيل: أن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاثة الأولى: هو الأخنس٢ بن شريق، وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة (٢٠٧) هو: صهيب بن سنان الرومي أبو يحي، إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه قالوا: لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد، فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله، فأعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة، ورآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: ربح البيع أبا يحي ربح البيع. والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصيب مثل الخير والكمال لكل من يتصف بصفاته.
١ السعي: المشي الحثيث، ويطلق على الكسب والعمل، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾.
٢ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد روى ابن كثير عن نوف البكالي قوله: إن لا أجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل، قوم يحتالون على الدنيا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس نسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: "عليَّ يجترئون وبي يغترون حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. وذكر: ﴿ومن الناس... ﴾ الآية.
185
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- التحذير من الاغترار بفصاحة١ وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص.
٢- شر الناس من يفسد في الأرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فساداً وهلاكاً للناس والمواشي.
٣- قول الرجل يعلم الله، ويشهد الله يعتبر يميناً فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه أنه كاذب.
٤- إذا قيل للمؤمن اتق الله يجب عليه أن لا يغضب أو يكره من أمره بالتقوى بل عليه أن يعترف بذنبه ويستغفر الله تعالى ويقلع عن المعصية فوراً.
٥- الترغيب في الجهاد بالنفس٢ والمال وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل الله تعالى ولا بعد ذلك إسرافاً ولا تبذيراً إذ الإسراف والتبذير في الإنفاق في المعاصي والذنوب.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (٢١٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿السِّلْم﴾ : الإسلام٣.
١ يشهد له حديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن من الشعر لحكمة وأن من البيان لسحراً".
٢ تأول عمر وعلي وابن عباس هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ فيمن يأمر أحداً بمعروف وينهاه عن منكر فتأخذه العزة بالإثم فيقاتل الواعظ له، فيبيع لله الواعظ نفسه ويقاتله.
٣ روي أن حذيفة بن اليمان قال في هذه الآية: "الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر. وقد خاب من لا سهم له في الإسلام".
186
﴿كَافَّةً﴾ ١: جميعاً لا يتخلف عن الدخول في الإسلام٢ أحد، ولا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء.
﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ : مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبح.
﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ : وقعتم في الزلل٣ وهو الفسق والمعاصي.
﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ : الحجج والبراهين.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ : ما ينظرون: الاستفهام للنفي.
الظلل: جمع ظلة: ما يظلل من سحاب أو شجر ونحوهما.
﴿الْغَمَامِ﴾ : السحاب الرقيق الأبيض.
معنى الآيتبن:
ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين آمراً إياهم الدخول في الإسلام دخولاً شمولياً، بحيث لا يتخيرون بين شرائعه وأحكامه ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع الإسلام وأحكامه كافة، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل الإبل بحجة أن هذا من دين الله الذي كان عليه صلحاء بني إسرائيل فنزلت هذه الآية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين بقبول كافة شرائع الإسلام وأحكامه، وتحذرهم من عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلاك التام وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للإنسان. هذا ما تضمنته الآية (٢٠٨)، أما الآية الثانية (٢٠٩) فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق، وشرائعه أحق فقال تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يحملها كتاب الله القرآن ويبينها رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله سينتقم
١ كآفة: اسم يفيد الإحاطة بأجزاء ما وصف به، فقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، أي: حتى لا يبقى مشروع ما يعمل به أو لا يبقى فرد لا يدخل فيه.
٢ اختلف في تحديد معنى السلم في الآية، والراجح أنها بمعنى الإسلام ويكون الخطاب معنياً به بعض من آمن من أهل الكتاب وبقى متمسكاً ببعض شرائع التوراة؛ كتحريم يوم السبت، وتحريم شرب لبن الإبل، أمروا بالدخول في الإسلام كافة، أي: بقبول شرائعه كلها وترك شرائع غيره وتكون بمعنى الصلح وترك الحرب والتهارج ويكون الخطاب للمسلمين عامة بترك التهارج بينهم والتقاتل.
٣ أصل الزلل: الزلق، وهو اضطراب القدم وتحركها في الموضع المراد إثباتها فيه، والمراد هنا عدم الثبات على طاعة الله ورسوله بفعل الأمر وترك النهي بتزيين الشيطان ذلك للعبد حتى يقع في الضرر.
187
منكم؛ لأنه تعالى غالب على أمره حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيد، وأما الآية الثالثة (٢١٠) فقد تضمنت حث المتباطئين على الدخول في الإسلام، إذ لا عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة وظهرت ولاحت الحجة، فقال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ما ينظرون١ ﴿إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَة﴾ ُ وعند ذلك يؤمنون، ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث يكون العذاب لزاماً. بقضاء الله العادل، قال تعالى: ﴿وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وانتهى الأمر إليه فحكم وانتهى كل شيء، فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في الإسلام المعبر عنه بالسلم؛ لأن الدخول فيه حقاً سلم، والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقاً حرب عليهم أن يدخلوا في الإسلام ألا إلى الإسلام يا عباد الله! فإن السلم خير من الحرب!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب٢ قبول شرائع الإسلام كافة وحرمة التخير فيها.
٢- ما من مستحل حراماً، أو تارك واجباً إلا وهو متبع للشيطان في ذلك.
٣- وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام لئلا يكون أمن من مكر٣ الله.
٤- إثبات صفة المجيء للرب تعالى: لفصل القضاء يوم القيامة.
٥- حرمة التسويق والمماطلة في التوبة.
﴿سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢١٢) ﴾
١ الكلام صالح لأن يعود إلى من يعجب قوله ويقبح عمله في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ... ﴾ الآية، وصالح لأن يعود إلى المترددين من أهل الكتاب لعدم خلوصهم في الإسلام كله، وصالح لأن يكون عائداً إلى كل متردد في الإسلام غير صادق في الدخول فيه إلى يوم القيامة، وهذا من إعجاز القرآن، وكونه كتاب هداية للناس كافة وفي كل زمان ومكان.
٢ شاهده قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض﴾ الآية.
٣ إذ حصول الأمن لازمه الاستمرار على المعاصي وعدم التوبة، والله يقول: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
188
شرح الكلمات:
﴿سَلْ﴾ : إسأل: سقطت منه الهمزتان للتخفيف.
﴿بَنِي إِسْرائيلَ﴾ : ذرية يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وإسرائيل لقب يعقوب.
﴿آيَةٍ﴾ : خارقة للعادة؛ كعصا موسى تدل على أن من أعطاه الله تلك الآيات هو رسول الله حقاً. وآيات بني إسرائيل التي آتاهم الله تعالى منها فلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم.
﴿نِعْمَةَ١ اللهِ﴾ : ما يهبه لعباده من خير يجلب له المسرة ويدفع عنه المضرة ونعم الله كثيرة.
﴿َيَسْخَرُونَ﴾ : يحتقرون ويستهزئون.
معنى الآيتين:
يأمر الله تعالى رسوله أن يسأل بني إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتاهم الله، وكيف كفروا بها فلم تنفعهم شيئاً، والمراد تسليته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الألم النفسي الذي يحصل له من عدم إيمان أهل الكتاب والمشركين به وبما جاء به من الهدى وضمن ذلك تقريع اليهود وتأنيبهم على كفرهم بآيات الله وإصرارهم على عدم الدخول في الإسلام. ثم أخبر تعالى أن من يبدل نعمة الله التي هي الإسلام بالكفر به ونبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن عقوبة الله تعالى تنزل به لا محالة في الدنيا أو في الآخرة لأن الله شديد العقاب٢.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢١١)، وأما الآية الثانية (٢١٢) فقد أخبر تعالى أن الشيطان زين للذين كفروا بالله ورسوله وشرائعه الحياة الدنيا فرغبوا فيها وعملوا لها وأصبحوا لم يروا غيرها، ولذلك سخروا من المؤمنين الزاهدين فيها لعلمهم بزوالها وقلة نفعها فلم يكرسوا كل جهدهم لجمعها والحصول عليها بل أقبلوا على طاعة ربهم وأنفقوا ما في أيدهم في سبيل الله طلباً لرضاه. كما أخبر أن المؤمنين المتقين سيجازيهم يوم القيامة خير الجزاء وأوفره فيسكنهم دار السلام في عليين، ويخزي أعدائهم الساخرين منهم ويهينهم فيسكنهم الدرك الأسفل من النار.
١ فسرت نعمة الله هنا: بالإسلام، وهو كذلك فإن الإسلام أكبر نعمة لما يجلبه من السعادة والكمال وما يدفعه من العقاب في الدارين.
٢ جملة: ﴿أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ خبرية متضمنة للوعيد ذيل بها الكلام، والعقاب من العقب كأن المعاقب يمشي بالمجازاة في أثار عقبه ليجزيه به.
189
وهو تعالى المتفضل ذو الإحسان إذا رزق يرزق بغير١ حساب وذلك لواسع فضله وعظيم ما عنده.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- التحذير من كفر النعم لما يترتب على ذلك من أليم العذاب وشديد العقاب ومن أجَلَّ النعم؛ نعمة الإسلام، فمن كفر به وأعرض عنه فقد تعرض لأشد العقوبات وأقساها وما حل ببني إسرائيل من ألوان الهون والدون دهراً طويلاً شاهد قوي وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا عن الإسلام واستبدلوا به الخرافات ثم القوانين الوضعية شاهد أكبر أيضاً.
٢- التحذير من زينة الحياة الدنيا والرغبة فيها والجمع لها نسيان الدار الآخرة وترك العمل لها. فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الآخرة، ولكن أبناء الآخرة أهل الإيمان والتقوى يكونون يوم القيامة فوقهم درجات إذ هم في أعالي الجنان والآخرون في أسافل النيران.
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) ﴾
١ الآية: ترغيب في طلب فضل الله تعالى وفي الحديث الصحيح: " يا ابن آدم أنفق أنفق عليك"، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾، وفي الصحيح أيضاً: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
190
شرح الكلمات:
﴿كَانَ النَّاسُ١ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ : كانوا قبل وجود الشرك فيهم أمة٢ واحدة على الإسلام والتوحيد وذلك قبل قوم نوح.
﴿النَّبِيِّينَ﴾ : جمع نبي والمراد بهم الرسل إذ كل نبي٣ رسول بدليل رسالتهم القائمة على البشارة والنذارة والمستمدة من كتب الله تعالى المنزلة عليهم.
﴿الْكِتَابَ﴾ : اسم جنس يدخل فيه كل الكتب الإلهية.
﴿أُوتُوهُ﴾ : أعطوه.
﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ : الحجج والبراهين تحملها الرسل إليهم وتورثها فيهم شرائع وأحكاماً وهدايات عامة.
﴿بَغْياً﴾ ٤: البغي: الظلم والحسد.
الصراط المستقيم: الإسلام المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال في الحياتين.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى أن الناس٥ كانوا ما بين آدم ونوح عليهما السلام في فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام لم يعبد بينهم إلا الله تعالى حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير الله تعالى فكان الشرك والضلال فبعث الله تعالى لهدايتهم نوحاً عليه السلام فاختلفوا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك، وتوالت الرسل تحمل كتب الله تعالى المتضمنة الحكم الفصل في كل ما يختلفون فيه. ثم أخبر تعالى عن سننه في الناس وهي أن الذين يختلفون في الكتاب، أي فيما
١ أي الذين كانوا على الدين الحق وهم عشرة قرون من آدم إلى أن حدث فيهم الشرك، فبعث الله تعالى فيهم عبده الشكور نوحاً عليه السلام.
٢ لفظ: الأمة: مأخوذ من أممت كذا إذا قصدته، فسميت الجماعة مقدصهم واحد أمة، وقد يطلق على الواحد أمة، إذ كان مقصده واحداً على خلاف غيره، ومنه قول الرسول صلى الله عيه وسلم في قس بن ساعدة: "يحشر يوم القيامة أمة وحده".
٣ عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والرسل منهم: ثلاثمائة وثلاثة عشر، هذا قول جمهور أهل السنة والجماعة، والرسل المذكورون بالاسم العلم في القرآن: خمسة وعشرون رسولاً، وأول الأنبياء: آدم، وأول الرسل: نوح، وخاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
٤ منصوب على المفعول لأجله، أي: لم يختلفوا إلا للبغي الذي هو الظلم الذي صار طبعاً لهم لكثرة ممارستهم له والحسد الذي ملأ قلوبهم فأكلها أو كاد والعياذ بالله.
٥ لفظ: الناس: اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، وإنما واحده من غير لفظه، وهو انسان، وآل فيه للاستغراق، أي: جميع أفراده، أي: البشر كلهم.
191
يحويه من الشرائع والأحكام هم الذين سبق أن أوتوه وجاءتهم البينات فهؤلاء يحملهم الحسد وحب الرئاسة، والإبقاء على مصالحهم على عدم قبول ما جاء به الكتاب، واليهود هم المثل لهذه السنة، فإنهم أوتوا التوراة فيها حكم الله تعالى وجاءتهم البينات على أيدي العابدين من أنبيائهم ورسلهم واختلفوا في كثير من الشرائع والأحكام، وكان الحامل لهم على ذلك البغي والحسد. والعياذ بالله.
وهدى الله تعالى أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اختلف فيه أهل الكتابين اليهود والنصارى، فقال تعالى: ﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا١﴾ لما اختلف فيه أولئك المختلفون من الحق هداهم ﴿بإذنه٢﴾ ولطفه وتوفيقه، فله الحمد وله المنة. ومن ذلك الحق الذي اختلف فيه أهل الكتاب من قبلنا وهدانا الله تعالى إليه:
١- الإيمان بعيسى عبد الله ورسوله حيث كفر بن اليهود وكذبوه واتهموه بالسحر وحاولوا قتله؟ وألَّهه النصارى، وجعلوه إلهاً مع الله، وقالوا فيه: إنه ابن الله. تعالى الله عن الصاحبة والولد.
٢- يوم الجمعة وهو أفضل الأيام. أخذ اليهود السبت، والنصارى الأحد، وهدى الله تعالى إليه أمة الإسلام.
٣- القبلة قبلة أبي الأنبياء إبراهيم استقبل اليهود بيت المقدس، واستقبل النصارى مطلع الشمس، وهدى الله أمة الإسلام إلى استقبال البيت العتيق؛ قبلة إبراهيم عليه السلام. والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- الأصل هو التوحيد، والشرك طارئ على البشرية.
١ أي من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم المسلمون هداهم للإيمان بكل الكتب وسائر الرسل ونجاهم مما اختلف فيه من قبلهم، والحمد لله.
٢ الإذن: الخطاب بإباحة الشيء، وهو مشتق من فعل أذن إذا أصغى إذنه يستمع إلى كلام من يكلمه ثم أطلق على الخطاب بالإباحة مطلقاً.
192
٢- الأصل في مهمة الرسل البشارة١ لمن آمن واتقى؟ والنذارة لمن كفر وفجر، وقد يشرع لهم قتال من يقاتلهم فيقاتلونه كما شرع ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣- من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كتابها ودينها، فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلباً للرئاسة وجرياً وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعاني منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل.
٤- أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ٢ بِإِذْنِهِ﴾.
٥- الهداية بيد الله فليطلب العبد دائماً الهداية من الله تعالى بسؤاله المتكرر أن يهديه دائماً إلى الحق٣.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ٤ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ : أظننتم – أم هي المنقطعة فتفسر ببل والهمزة، والاستفهام إنكاري ينكر عليهم ظنهم هذا لأنه غير واقع موقعه.
﴿وَلَمَّا﴾ : بمعنى لم النافية.
﴿مَثَلُ﴾ : صفة وحال الذين من قبلكم.
١ البشارة: الإعلام بخير حصل أو سيحصل للمبشر به، والنذارة: إعلام بشر أو ضر حصل أو سيحصل لمن أنذر به، والبشارة: وعد، والنذارة: وعيد.
٢ في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". والتوسل بهذا الدعاء نافع للخروج من ظلمة الاختلاف.
٣ ومن الدعاء المأثور في ذلك: اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما.
٤ في الآية إشارة إلى مثل قول القائل: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم، ومن طلب العلا سهر الليالي، ومن يخطب الحسناء فلا يغله المهر".
193
﴿الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ : البأساء: الشدة، من الحاجة وغيرها والضراء: المرض والجراحات والقتل.
﴿مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾ : الاستفهام للإستبطاء.
معنى الآية الكريمة:
ينكر تعالى على المؤمنين١، وهم في أيام شدة ولأواء ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون امتحان وابتلاء في النفس والمال بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من البأساء٢ والضراء والزلزال وهو الاضطراب والقلق من الأهوال حتى يقول الرسول والمؤمنون معه – استبطاءاً للنصر الذي وُعدوا به: متى نصر الله؟ فيجيبهم ربهم تعالى بقوله: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ٣ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
١- الابتلاء بالتكاليف الشرعية، ومنها الجهاد بالنفس والمال ضروري لدخول الجنة.
٢- الترغيب في الإتساء بالصالحين والاقتداء بهم في العمل والصبر.
٣- جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظاراً له.
٤- بيان ما أصاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من شدة وبلاء أيام الجهاد وحصار المشركين لهم.
﴿يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) ﴾
١ ما من شك في أن المؤمنين وعلى رأسهم وقائدهم وإمامهم ورسولهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مستهم البأساء والضراء في ظروف مختلفة منها: هجرتهم وحروبهم في بدر وأحد والخندق وغيرها، والآية تعنى كل ذلك وهو من مقتضيات النزول لهذه الآية.
٢ وعن السلف تفسير البأساء بالفقر، والضراء بالنقم، والزلازل بالخوف من الأعداء، إذ الخوف يحدث اضطراب النفس وحركة الأعضاء.
٣ وفي هذا المعنى حديث أبي رزين: "عجب ربك من قنوت عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قانطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب" وحديث صحيح: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون".
194
شرح الكلمات:
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ : من مال إذ المال يطلق عليه لفظ الخير.
الأقربين: كالأخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم والأخوال والخالات وأولادهم.
﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ١﴾ : ما شرطية، ومن: نيابية والخير هنا لسائر أنواع البر والإحسان.
﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ : الجملة علة لجواب الشرط المحذوف والمقدر يثبكم عليه.
معنى الآية الكريمة:
سال عمر وبن الجموح وكان ذا مال. سأل٢ رسول الله صلى الله علية وسلم، مادا ينفق وعلى من ينفق؟. فنزلت الآية جواباً لسؤاله، فبينت أن ما ينفق هو المال وسائر الخيرات وأن الأحق بالإنفاق عليهم هم الوالدان٣، والأقربون، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وأعلمهم تعالى أن ما يفعله العبد من خير يعلمه الله تعالى ويجزي به فرغب بذلك في فعل الخير مطلقاً.
هداية ألآية الكريمة:
من هداية الآية:
١- سؤال من لا يعلم حتى يعلم، وهذا طريق العلم، ولذا قالوا: "السؤال نصف العلم".
٢- أفضلية الإنفاق على المذكورين٤ في الآية إن كان المنفق غنياً وهم فقراء محتاجون.
٣- الترغيب في فعل الخير والوعد من الله تعالى بالجزاء الأوفى عليه.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
١ الآية في نفقة التطوع وقوله: {من خير﴾ إشارة إلى أن ما ينفق يجب أن يكون طيباً لا خبيثاً، إذ لفظ الخير يدل على ذلك ويرمز له: ﴿من خير﴾.
٢ وقيل الآية نزلت فيمن سألوا من المسلمين عن الوجوه التي ينفقون فيها فأجابهم الله تعالى مبيناً لهم ذلك، وما ذهبنا إليه أن السائل عمرو بن الجموح وسؤاله عما ينفق من أنواع المال، وفيما ينفق أولى وألصق.
٣ لحديث صحيح في بيان من أحق بالإنفاق عليه: "أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك" أي: الأقرب إليك فالأقرب.
٤ روى أن ميمون بن مهران تلا هذه الآية: ﴿يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ... ﴾ الآية، وقال: هذا مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلاً ولا مزماراً ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان.
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) }
شرح الكلمات:
﴿كُتِب﴾ َ: فرض فرضاً مؤكداً حتى لكأنه مكتوب كتابة.
﴿الْقِتَالُ﴾ : قال الكافرون بجهادهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
﴿كُرْهٌ﴾ : مكروه في نفوسكم طبعاً.
َعَسَى: هذا الفعل معناه الترجي والتوقع أعني أن ما دخلت عليه مرجو الحصول متوقع لا على سبيل الجزم، إلا أنها إن كانت من الله تعالى تفيد اليقين.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال١ المشركين والكافرين وهم يعلم أنه مكروه لهم بطبعهم لما فيه من الآلام والأتعاب وإضاعة المال والنفس، وأخبرهم أن ما يكرهونه قد يكون خيراً، وأن ما يحبونه قد يكون شراً٢، ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما فيه من عزتهم ونصرتهم ونصره دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الآخرة، كما أن ترك الجهاد محبوب لهم وهو شر لهم؛ لأنه يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم، وانتهاك حرمات دينهم مع سوء الجزاء في الدار الآخرة. وهذا الذي أخبرهم تعالى به من حبهم لأشياء وهي شر لهم وكراهيتهم لأشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم الله به قبل خلقه، والله يعلم وهم لا يعلمون فيجب التسليم لله تعالى في أمره وشرعه مع حب ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه خير لا شر فيه.
١ قرئت الآية: ﴿وكتب عليكم القتل﴾ وقراءة القتال أشهر وأظهر، والفرق بين القتل والقتال ظاهر، وجاء كلا اللفظين في قول عمرو بن ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا... وعلى الغانيات جر الذيول
٢ قال القرطبي: كما اتفق في بلاد الأندلس تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار فاستولى العدو على البلاد وأسر وقتل وسب واسترق فإن لله وإنا إليه راجعون. ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته، وأنشد لأبي سعيد الضرير قوله شاهداً لمعنى الآية الكريمة:
رب امرء تتقيه... جر أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه...
وبدا المكروه فيه
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
١- وجوب الجهاد على أمة الإسلام ما بقيت فتنة في الأرض وشرك فيها.
٢- جهل الإنسان بالعواقب يجعله يحب المكروه، ويكره المحبوب.
٣- أوامر الله كلها خير، ونواهيه١ كلها شر. فلذا يجب فعل أوامره واجتناب نواهيه.
﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ : أي المحرم: قتال بدل اشتمال من الحرام، إذ السؤال عن القتال في الشهر الحرام (رجب).
﴿كَبِيرٌ﴾ : أي ذنب عظيم.
﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ : صرف عن دين الله.
١ المراد بالأوامر: ما أمر الله تعالى به في كتابه وعلى لسان رسوله من المعتقدات والعبادات والأحكام، ومن النواهي ما نهى الله عنه في كتابه وعلى لسانه رسوله من المعتقدات الباطلة والعبادات المبتدعة والأحكام الفاسدة.
197
﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ : كفر بالله تعالى.
﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ : مكة والمسجد الحرام فيها.
﴿أَهْلِهِ﴾ : النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرون.
﴿أَكْبَرُ﴾ : أعظم وزراً.
﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ : الشرك واضطهاد المؤمنين ليكفروا.
﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ١﴾ : بطل أجرها فلا يثابون عليها لردتهم.
﴿هَاجَرُوا﴾ : تركوا ديارهم خوف الفتنة والاضطهاد في ذات الله.
معنى الآيتين:
لما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال أرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال الكفار. فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيراً لقريش فقاتلوهم فقتلوا منهم رجلاً يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين وأخذوا العير وقفلوا راجعين وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية، وهي أول ليلة من رجب. فثارت ثائرة قريش وقالت: محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه، وردد صوتها اليهود، والمنافقون بالمدينة حتى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف العير والأسيرين ولم يقض فيهما بشيء، وتعرض عبد الله بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس، وما زال الأمر كذلك حتى أنزل الله تعالى هاتين الآيتين ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ٢ قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي: عن القتال فيه، أجبهم يا رسولنا وقل لهم القتال فيه وزر كبير بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى، وكذا الصد عن المسجد الحرام، وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزراً في حكم الله تعالى، كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لإرجاعهم عنه دينهم الحق إلى الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام. مضافاً إلى كل هذا عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. ثم أخبر تعالى المؤمنين محذراً إياهم من الارتداد مهما كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافراً فإن
١ إن وفاهم الموت على ذلك أما إن تابوا وماتوا على الإسلام ففي إثباتهم على أعمالهم قبل الردة خلاف انظره على الصفحة التالية تحت رقم ١.
٢ هذا كان قبيل نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام.
198
أعماله الصالحة كلها١ تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية (٢١٨) ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا٢﴾ فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه طمأنهم الله تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس بذلك، وأنه يرجون رحمة الله أي الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم، وذلك لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله، وقال تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ٣ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام.
٢- نسخ القتال في الشهر الحرام بدليل قتال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هوازن وثقيف في شوال وأول القعدة وهما في الأشهر الحرم.
٣- الكشف عن نفسية الكافرين وهي عزمهم الدائم على قتال المسلمين إلى أن يردوهم عن الإسلام ويخرجوهم منه.
٤- الردة٤ محبطة للعمل فإن تاب المرتد٥ يستأنف العمل من جديد، وإن مات قبل التوبة فهو من أهل النار الخالدين فيها أبداً.
٥- بيان فضل الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله.
١ على هذا مالك وأبو حنيفة خلافاً للشافعي إذ يرى رحمه الله تعالى أن من ارتدد ثم تاب يعود إليه كل عمل صالح عمله قبل الردة فلا يعيد الحج إذا حج، والراجح ما قررناه في التفسير إذ أقل ما يقال عليه إعادة الحج طمعاً في مغفرة ذنوبه وعدم مؤاخذاته، أما من مات كافراً فالإجماع على خلوده في النار، ودليل الجمهور قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ الآية، وحمله الشافعي على أنه مطلق مقيد بآية الموت على الكفر فما دام لم يمت كافراً فإن أعماله قبل الردة لا تبطل، والله أعلم.
٢ نقل فعل هجر الشيء إذا تركه إلى هاجر، وهي صيغة المفاعلة إما أنه للمبالغة في الترك كما قيل عافاك الله، والمعافي واحد وهو الله تعالى، وأما لأنه ترك شيئاً عن عداوة ولا تكون إلا بين اثنين، فقيل: هاجر، والمكان المهاجر منه يقال له: مهاجر.
٣ الرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله.
٤ اختلف في المرتد هل يستتاب أو يقتل بالردة فوراً والجمهور على أنه يستتاب أولاً فإن أصر قتل ومالك يرى أن من سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستتاب ويقتل واستشهد بالمرأة التي قتلت خادمها بسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينكر عليها، وكذلك الزنديق يقتل ولا يستتاب.
٥ الأصل في قتل المرتد حديث صحيح: "من بدل دينه فاقتلوه" واختلف في قتل المرأة إذا ارتددت الجمهور إنها لا تقتل لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والأطفال في الحرب.
199
﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْخَمْرِ١﴾ : كل ما خامر العقل وغطاه فأصبح شاربه لا يميز ولا يعقل، ويطلق لفظ الخمر على عصير العنب أو التمر أو الشعير وغيرها.
الميسر٢: القمار، وسمي ميسراً؛ لأن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة.
الإثم٣: كل ضار فاسد يضر بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو العرض.
المنافع٤: جمع منفعة، وهي ما يسر ولا يضر من سائر الأقوال والأفعال والمواد.
﴿الْعَفْوَ﴾ : العفو هنا: ما فضل وزاد عن حاجة الإنسان من المال.
﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾ : فتعرفون ما ينفع في كل منهما فتعلمون لدنياكم ما يصلحها، وتعملون لآخرتكم ما يسعدكم فيها، وينجيكم من عذابها.
﴿تُخَالِطُوهُمْ﴾ : تخلطون مالهم مع مالكم ليكون سواء.
﴿لاعْنَتَكُمْ﴾ : العنت: المشقة الشديدة، يقال: أعنته إذا كلفه مشقة شديدة.
١ الخمر: مأخوذ من خمر الشيء إذا ستره وغطاه، ومنه خمار المرأة التي يغطي رأسها، وفي الحديث: "خمروا الإناء" أي: غطوه، والخمر تطلق أساساً على ماء العنب إذا على أو طبخ ثم أطلقت على كل ما خمر العقل وغطاه من سائر المسكرات.
٢ الميسر: مأخوذ من اليسر، وهو: وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا، إذا وجب شرط – والمضارع: ييسر يسراً وميسراً، وهو القمار، وسواء كان بالإزلام، أو النرد، أو الكعاب، أو الجوز، أو الكيرم.
٣ والخمر كلها إثم، إذ ما فيها كله ضرر، وقد سماها العرب: الإثم، قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذلك الإثم يذهب بالعقول
٤ والنفع الذي هو الربح إذ كانوا يشترونها من الشام بالرخص ويبيعونها بالغلاء في ديارهم كان في الجاهلية، إما بعد ما حرمها الله تعالى وحرم بيعها فلم يبقى فيها نفع البنة.
200
معنى الآيتين:
كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر، إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة، ولما هاجر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعاً إسلامياً وأخذت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً فحدث يوماً أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان فخلط في القراءة فنزلت آية النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة، وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ فترك الكثير١ كلاً من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية. وبقي آخرون فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ فقال عمر: "انتهينا ربنا" وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريماً قطعياً كاملاً، ووضع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال: "مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه" في ثلاثة نفر وهم: العاق لوالديه، ومسبل إزاره، ومدمن الخمر.
وقوله تعالى: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ٢ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فهو كما قال تعالى فقد بين في سورة المائدة منشأ الإثم، وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين، والإعراض عن ذكر الله، وتضييع الصلاة حقاً إن فيهما لإثماً كبيراً، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة ومنها: الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب وانتفاع بعض الفقراء به، إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.
١ يرى كثير من المفسرين أن أية البقرة هذه نزلت قبل آية النساء وما رجحته في التفسير أولى، لأن آية البقرة تعتبر محرمة للخمر والميسر بخلاف آية النساء.
٢ لما كان تحريم الخمر تدريجياً كان من الحكمة ذكر ما كانوا يرونه من المنافع في الاتجار بها وشربها وكذا منافع الميسر إذ كانوا يعطون ما يربحونه للفقراء، وحسبهم وهم المؤمنون صرفاً لهم عن الخمر والميسر قوله: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، وإذا زادت المضرة على المنفعة بطل العمل عقلاً وشرعاً.
201
أما قوله تعالى في الآية: ﴿وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله. فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ أي: ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم. ومن هنا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه البخاري. وقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ أي: مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك.
وهذا ما تضمنته الآية الأولى (٢١٩)، أما الآية الثانية (٢٢٠) :﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ الآية، فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد، وفصل من كان في بيته يتيم يكفله، فصل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة وتساءلوا عن المخرج، فنزلت هذه الآية، وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ... ﴾ مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح، ودفع الحرج في الخلط فقال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ١ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، والأخ يخالط أخاه في ماله، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائماً على حذر، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده. ثم زاد الله في منته عليهم برفع الحرج في المخالطة فقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لاعْنَتَكُمْ٢﴾ أي: أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم، وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به.
١ ﴿فإخوانكم﴾ : الفاء واقعة في جواب إن الشرطية، وإخوانكم: خبر، والمبتدأ محذوف تقديره: فهم إخوانكم.
٢ مفعول المشيئة محذوف كما هو الغالب فيه، والتقدير: ولو شاء الله عنتكم لأعنتكم، أي: كلفكم ما فيه العنت والمشقة، ولكنه لم يفعل رحمة بكم ولطفاً بحالكم.
202
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- حرمة١ الخمر والميسر حيث نسخت هذه الآية بآية المائدة، لقوله تعالى فيها: ﴿فاجتنبوه﴾ وقوله ﴿فهل أنتم منتهون﴾.
٢- بيان أفضل صدقة التطوع وهي ما كانت عن ظهر غنى وهو٢ العفو في هذه الآية.
٣- استحباب التفكر في أمر الدنيا والآخرة لإعطاء الأولى بقدر فنائها والآخرة بحسب بقائها.
٤- جواز خلط مال اليتيم بما كافله إذا كان أربح له وأوفر، وهو معنى الإصلاح في الآية.
٥- حرمة مال اليتيم، والتحذير من المساس به وخلطه إذا كان يسبب نقصاً فيه أو إفساداً.
﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَلا تَنْكِحُوا﴾ : لا تتزوجوا.
الأمة: خلاف الحرة.
﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ : أي أعجبكم حسنها وجمالها.
﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ : بحالهم ومقالهم وأفعالهم.
﴿آيَاتِهِ﴾ : أحكام دينه ومسائل شرعه.
١ أن كل مسكر داخل في إثم الخمر، وقليله ككثيره في الحرمة سواء بإجماع الأمة، وكل أنواع الميسر ولو اختلفت المسميات؛ كاليانصيب وغيرها محرمة.
٢ شاهده حديث مسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" أي: تصدق به على الفقراء والمساكين.
203
معنى الآية الكريمة:
ينهى الله تعالى المؤمنين أن يتزوجوا المشركات إلا أن يؤمن بالله ورسوله، فإن آمن جاز نكاحهن، وأعلمهم منفراً من نكاح المشركات مرغباً في نكاح المؤمنات: ولأمة مؤمنة فضلاً عن حرة خير من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة لحسنها وجمالها، كما نهاهم محرماً عليهم أن يزوجوا المؤمنات بالمشركين حتى يؤمنوا، فإن آمنوا جاز لهم أن ينكحوهم بناتهم ونساءهم فقال تعالى: ﴿وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ وقال منفراً مرغباً ولعبد مؤمن خير من حرٍ مشرك ولو أعجبهم المشرك لشرفه أو ماله أو سلطانه، وعلل لذلك بقوله: ﴿أولئك﴾ أي المشركات والمشركون يدعون إلى النار فمخالطتهم مضرة ومفسدة لا سيما بالتزوج منهم، والله عز وجل يدعو إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، وإلى المغفرة بالتوبة الصادقة. فاستجيبوا له وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه. كما أنه تعالى يبين آياته للناس ليعدهم للتذكر والاتعاظ فيقبلون على طاعته الموصلة إلى رضاه والجنة، ويبعدون عن معصيته المؤدية إلى سخطه والنار.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
١- حرمة نكاح المشركات، أما الكتابيات فقد أباحهن الله تعالى بآية المائدة، إذ قال: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ١ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.
٢- حرمة نكاح المؤمنة الكافر مطلقاً٢ مشركاً كان أو كتابياً.
٣- شرط الولاية في نكاح المرأة لقوله تعالى: ﴿وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ فهو هنا يخاطب أولياء النساء المؤمنات، ولذا لا يصح نكاح إلا بولي٣.
٤- التنفير من مخالطة المشركين والترغيب في البعد عنهم؛ لأنهم يدعون إلى الكفر بحالهم ومقالهم وأعمالهم، وبذلك هم يدعون إلى النار.
١ الخلاف في حرمة نكاح الكتابيات ضئيل ولا وزن له، وإن كان عدم التزوج بهن أفضل وأسلم، وهذا في الذميات، أما الحربيات فلا يجوز نكاحهن، وعلى هذا مالك، وقد سئل ابن عباس عن نكاح الحربية الكتابية، فقال: لا تحل.
٢ شاهده من القرآن قوله تعالى: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ﴾ الممتحنة.
٣ لحديث: "لا نكاح إلا بولي" وحديث أبي داود: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" وهو حديث صحيح. والولي: عصبة المرأة الأقرب فالأقرب فإن لم يكونوا فالسلطان ولي من لا ولي لها. ومن أركان النكاح الإشهاد عليه بشاهدين فأكثر وعليه الجمهور.
204
٥- وجوب موالاة أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر والضلال؛ لأن الأولين يدعون إلى الجنة، والآخرين يدعون إلى النار.
﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْمَحِيضِ١﴾ : مكان الحيض وزمنه، والحيض: دم يخرج من رحم المرأة إذا خلا من الجنين.
﴿أَذىً﴾ : ضرر يضر المجامع في أيامه.
﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ : اتركوا جماعهن٢ أيام الحيض.
﴿وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ : أي: لا تجامعوهن حتى ينقطع دم٣ حيضهن.
﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ : إي: إذا انقطع دم حيضهن واغتسلن منه.
١ يطلق على الحيض أيضاً لأنه مصدر حاضت المرأة حيضة ومحاضاً ومحيضاً، فهي حائض، وقد يقال: حائضة، وعليه قول الشاعر:
كحائضة يزني بها غير طاهر
والحيضة: المرأة الواحدة، والحيضة بكسر الحاء: الإثم، والحيضة أيضاً: الخرقة تستثفر بها الحائض. قالت عائشة: يا ليتني كنت حيضة ملقاة، واشتقاق الكلمة من السيلان ومنعه الحوض لأن الماء يسيل إليه.
٢ الجمهور على أن من وطأ امرأته في الحيض لا كفارة عليه، وإنما عليه التوبة والاستغفار، وضعفوا حديث: "الكفارة بنصف دينار أو دينار" لاضطرابه، وبه قال أحمد وعمل به.
٣ أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم السائل من فرجها: فإن كان أسود غائراً تعلوه حمرة فذلك الحيض، ويحرم عليها الصوم والصلاة ويحرم وطئها، وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة للأحاديث الصحيحة في ذلك، وأكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وأقله لا حد له على الصحيح، وأقل الطهر أيضاً خمسة عشر يوماً ليكمل الشهر حيضاً وطهراً، وإن كان الدم زائداً على مدة الحيض فهو الاستحاضة وتصلي معه وتصوم وتوطأ أيضاً. والحكم الثالث: دم النفاس وأكثره أربعين يوماً، وأقله يوم وليلة وحكمه حكم الحيض.
205
﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ : أي: جامعهن في قبلهن، وهن طاهرات متطهرات١.
﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ : يريد مكان إنجاب الأولاد، فشبه النساء بالحرث؛ لأن الأرض إذا حرثت أنبت الزرع، والمرأة إذا وطئت أنبتت الولد بإذن الله تعالى.
﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ : إذن بجماع المرأة مقبلة أو مدبرة إذا كان في القبل الذي هو منبت الزرع، وهي طاهرة من الحيض والنفاس.
﴿وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ﴾ : يريد الأعمال الصالحة، ومنها إرادة تحصين النفس والزوجة بالجماع وإرادة انجاب الأولاد الصالحين الذين يوحدون الله ويدعون لوالديهم طوال حياتهم.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى رسوله بأن بعض المؤمنين٢ عن المحيض هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب أو تهجر بالكلية حتى تطهر إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية، وأمره أن يقول لهم: الحيض أذى يضر بالرجل المواقع فيه، وعليه فليعتزلوا النساء الحيض في الجماع فقط لا في المعاشرة والمأكلة والمشاربة، وإنما في الجماع فقط أيام سيلان الدم بل لا بأس بمباشرة الحائض في غير ما بين السرة والركبة، للحديث الصحيح في هذا كما أكد هذا المنع بقوله لهم: ﴿وَلا تَقْرَبُوهُن﴾ َّ ٣ أي: لا تجامعوهن حتى يطهرن بإنقطاع دمهن والاغتسال بعده لقوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ أي: اغتسلن، ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ بإتياهن وهو القبل لا الدبر فإنه محرم وأعلمهم تعالى أنه يحب التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات والأقذار، فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولاهم عز وجل هذا معنى الآية الأولى (٢٢٢) أما الآية الثانية (٢٢٣) وهي قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ فهي تضمنت جواب سؤال هو هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن يأتيها الرجل من ورائها إذ حصل هذا السؤال من بعضهم فعلاً، فأخبر تعالى
١ هل الزوجة الكتابية يحبرها زوجها أن تغتسل من الحيض والنفاس؟ أرى أن يأمرها مرغباً لها في ذلك وليس عليه إجبارها لأنه لا إكراه في الدين. وهي غير متعبدة به.
٢ روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيض﴾ الآية.
٣ إذا قيل لا تقرب بفتح الراء معناها لا تتلبث بالشيء، وإن قيل: لا تقرب فمعناها: لا تدنوا، ولذا جاز للزوج أن يقرب من زوجته الحائض أو النفساء ويباشرها من غير الفرج.
206
أنه لا مانع من ذلك إذا كان في القبل، وكانت المرأة طاهرة من دمي الحيض والنفاس، وسمى المرأة حرثاً؛ لأن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الأرض الطيبة وما دام الأمر كذلك فيأت الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة إذ المقصود حاصل وهو الإحصان وطلب الولد.
فقوله تعالى: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يريد على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل لا في الدبر١. ثم وعظ تعالى عباده بقوله: ﴿وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ﴾ من الخير ما ينفعكم في آخرتكم واعلموا أنكم ملاقوا الله تعالى فلا تغفلوا عن ذكره وطاعته، إذ هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم تقفون بين يدي ربكم. وأخيراً أمر رسوله أن يبشر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وسعادتهما من كان إيمانه صحيحاً مثمراً التقوى والعمل الصالح.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- حرمة الجماع أثناء الحيض والنفاس لما فيه من الضرر، ولقوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾.
٢- حرمة وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾.
٣- حرمة٢ نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ وهو القبل.
٤- وجوب التطهير من الذنوب بالتوبة، والتطهير من الأقذار والنجاسات بالماء.
٥- وجوب تقديم ما أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الآخرة لقوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ﴾.
٦- وجوب تقوى الله تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر.
٧- بشرى الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكل مؤمن٣ ومؤمنة.
١ وذلك لتحريم وطء المرأة في دبرها للآية الكريمة وللأحاديث الصحاح وما أكثرها ومنها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن"، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة" وور: تلك اللوطية الصغرى.
٢ تقدمت الأحاديث المحرمة لنكاح المرأة في دبرها ذات رقم ١ في هذه الصفحة.
٣ أي: صادق الإيمان كما تقدم وعلامة صدقه أن يحركه للعمل الصالح ويحمله على ترك الشرك والمعاصي.
207
﴿وَلا تَجْعَلُوا١ اللهَ عُرْضَةً٢ لأَيْمَانِكُمْ أَنْ٣ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) ﴾
شرح الكلمات:
العرضة: ما يوضع مانعاً من شيء، واليمين يحلفها المؤمن أن لا يفعل خيراً.
الأيمان: جمع يمين، نحو: والله لا أفعل كذا أو والله لأفعلن كذا.
البرور: الطاعة وفعل البر.
اللغو: الباطل، وما لا خير فيه. ولغو اليمين أن يحلف العبد على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه، أو ما يجري على لسانه من أيمان من غير أرادة الحلف.
﴿كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾ ْ: ما تعمد القلب وقصد اليمين لأجله لفعله حتماً أو منعه.
﴿يُؤْلُونَ﴾ : الإيلاء٤: الحلف على عدم وطء الزوجة.
التربص: الانتظار والتمهل.
﴿فَاءُوا﴾ : رجعوا إلى وطء نسائهم بعد الامتناع عنه باليمين.
﴿الطَّلاقَ﴾ : فك رابطة الزوجية وحلها بقوله: هي طالق أو مطلقة أو طلقتك.
١ قيل نزلت الآية في أبي بكر الصديق لما حلف أن لا ينفق على ابن خالته مسطح، لأنه خاض في الإفك، وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان.
٢ العرضة: ما ينصب في الطريق مانعاً، فيعترض طريق السائرين وأصبح يطلق على كل ما يوضع أمام الناس، يقال: فلان أصبح عرضة للناس. أي: يقعون فيه، ويقال: المرأة عرضة للنكاح، أي: إذا بلغت فهي أمام أنظار الرجال.
٣ ﴿أن تبروا﴾ أصلها: أن لا تبروا فحذفت لا كما حذفت في ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي: أن لا تضلوا، وحذفها للتخفيف ولظهور المعنى المراد.
٤ يقال: ألى يؤلي إيلاء، وائتلى وائتلي يأتلي ائتلاء، وتألى تألياً إذا حلف على كذا، والإيلاء جائز لتأديب الأزواج ولكن لا يصل أربعة أشهر فقد ألى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نسائه شهراً تأديباً لهن.
208
معنى الآيات:
ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الحلف به مانعاً من فعل الخير، وذلك كأن يحلف العبد أن لا يتصدق على فلان أو أن لا يكلم فلاناً أو أن لا يصلح بين اثنين فقال تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللهَ﴾ يريد الحلف به عرضة لأيمانكم١، أي: مانعاً لكم من فعل خير أو ترك إثم أو إصلاح بين الناس. وأخبرهم أنه سميع لأقوالهم عليهم بنياتهم وأفعالهم فليتقوه عز وجل.
ثم أخبرهم أنه تعالى لا يؤاخذهم باللغو٢ في أيمانهم وهو أن يحلف الرجل على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن، أو أن يجري على لسانه ما لا يقصده من الحلف كقوله: لا، والله، بل والله، فهذا مما عفا عنه لعباده فلا إثم فيه ولا كفارة تجب فيه. لكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الإثم، وذلك كأن يحلف المرء كاذباً ليأخذ حق أخيه المسلم بيمينه الكاذبة فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار وهذه لا تنفع فيها الكفارة الموضوعة لمن حلف على أن لا يفعل ثم حنث، وإنما على صاحب اليمين الغموس التوبة بتكذيب نفسه والاعتراف بذنبه ورد الحق الذي أخذه بيمينه الفاجرة إلى صاحبه وبذلك يغفر الله تعالى له ويرحمه، والله غفور رحيم.
وبمناسبة ذكر اليمين ذكر تعالى حكم من يولي من امرأته أي يحلف أن لا يطأها فأخبر تعالى أن على المولي تربص أربعة أشهر، فإن فاء إلى امرأته أي رجع إلى وطئها فبها ونعمت، وعليه أن يكفر عن يمينه، وإن لم يفيء إلى وطئها وأصر على ذلك فإن على القاضي أن يوفقه أمامه ويطالبه بالفيء فإن أبى طلقها عليه.
قال الله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم﴾ يغفر لهم ما ارتكبوه من الذنب في حق نسائهم ويرحمهم لتوبتهم.
وإن عزموا٣ الطلاق بأن أبوا أن يفيئوا طلقوا، والله سميع لأقوالهم عليهم بما في قلوبهم. فليحذروه بعدم فعل ما يكره، وترك فعل ما يجب.
١ الإيمان جمع يمين وهو الحلف، وسمي الحلف يميناً أخذا من اليمين؛ لأن عادة العرب إذا حلف أحدهم للآخر وضع يده اليمنى على يده اليمنى، ويقال أعطاه يميناً إذا حلف له مؤكداً حلفه بوضع يده اليمنى على يد صاحبه اليمنى.
٢ اللغو: مصدر لغى يلغو لغواً. إذا قال كلاماً خطأ وباطلاً، ولذا المؤمنون إذا سمعوا اللغو أعرضوا ولم يلتفتوا إليه ولم يأبهوا له ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾.
٣ عزم الطلاق: هو التصميم عليه فإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق وعليه فالمولى بين خير النظرين، وهما الفيء أو الطلاق.
209
هداية الآيات:
١- كراهية منع الخير بسبب اليمين، وعليه فمن حلف أن لا يفعل خيراً فليكفر عن يمينه وليفعل الخير لحديث الصحيح: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير".
٢- لغو اليمين معفو عنها ولها صورتان: الأولى: أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو لا يريد أن يحلف نحو لا والله، وبلى والله، والثانية: أن يحلف على شيء يظنه كذا فيتبين خلافه، مثل أن يقول: والله ما في جيبي درهم ولا دينار وهو ظان أو جازم أنه ليس في جيبه شيء من ذلك ثم يجده فهذه صورة لغو اليمين.
٣- اليمين المؤاخذ عليها العبد هي: أن يحلف متعمداً الكذب قاصداً له من أجل الحصول على منفعة دنيوية وهي المقصودة بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وتسمى باليمين الغموس، واليمين الفاجرة.
٤- اليمين التي تجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا ويعجز فلا يفعل، أو يحلف أن لا يفعل كذا ثم يضطر ويفعل، ولم يقل أثناء حلفه إن شاء الله، والكفارة مبينة في آية المائدة وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.
٥- بيان حكم الإيلاء، وهو أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته مدة فإن كانت أقل من١ أربعة أشهر فله أن لا يحنث نفسه ويستمر ممتنعاً عن الوطء، إلى أن تنتهي مدة الحلف إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن٢ يمينه، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفئ إلى زوجته أو تطلق عليه وإن كان ساخطاً غير راض.
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ٣ يَتَرَبَّصْنَ
١ ما السر في الأربعة أشهر؟ يبدو أنه ثلث السنة، والثلث كثير كما في حديث سعد في الوصية، ويؤيد هذا ما أجراه عمر رضي الله عنه من سؤال النساء عن مدى صبر المرأة على زوجها. فقلن شهران، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر وينفد في أربعة أشهر. فأمر قواد الأجناد أن لا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر.
٢ لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير".
٣ {والمطلقات﴾ الجملة خبرية ومعناها الإنشاء وهو الأمر بالتربص ثلاثة قروء، وهذا خاص بالحرائر، أما الإماء فيتربص قرأين لا غير، ثبت هذا بالسنة الصحيحة، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طلاق الأمة تطليقتان وقرءها حيضتان".
210
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) }
شرح الكلمات:
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ : جمع مطلقة وهي المرأة تسوء عشرتها فيطلقها زوجها أو القاضي.
﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ : ينتظرن.
﴿قُرُوءٍ﴾ : القرء: إما مدة الطهر، أو مدة الحيض.
﴿مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ : من الأجنة فلا يحل للمطلقة أن تكتم ذلك.
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ : أزواجهن واحد البعولة: بعل؛ كفحل ونخل.
﴿بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ : أي: في مدة التربص والانتظار.
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ : يريد على الزوجة حقوق لزوجها، ولها حقوق على زوجها.
﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ : هي درجة القوامة١ أن الرجل شرعاً هو القيم على المرأة.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة طلاق المؤلي إن أصر على عدم الفيئة ذكر تعالى في هذه الآية: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ٢﴾ إلخ. أن على المطلقة التي تحيض أن تنتظر، فلا تتعرض للزواج٣ مدة ثلاثة أقراء فإن انتهت المدة ولم يراجعها
زوجها فلها أن تتزوج، وهذا الانتظار يسمى عدة، وهي واجبة مفروضة عليها لحق زوجها، إذ له الحق أن يراجعها٤ فيها، وهذا معنى قوله تعالى في الآية: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
١ لفظ الدرجة دال على علو المنزلة وهو كذلك، وهو ظاهر في أنه يحميها، ويصونها وينفق عليها وتجب طاعته عليها، كما أن هناك فضلاً الخلق والكسب والعمل؛ كالجهاد وشهود الجمعة والجماعات.
٢ المطلقات: جنس يشتمل كل مطلقة ويخرج من لا تحيض لصغر سن أو كبر بدليل الكتاب من سورة الطلاق.
٣ القرء: لفظ مشترك بين الحيض والطهر، ولذا ذهب مالك إلى أن القرء: الطهر، فجعل العدة ثلاثة أطهار، ورجحه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ وهو أول الطهر، وذهب غيره إلى أن القرء: الحيض، والكل جائز وواسع والحمد لله، إلى أن الاعتداد بالإطهار أرفق بالمطلقة إذ تكون المدة أقصر لأنها تطلق في طهر لم يجامعها فيه الزوج فيبقى عليها طهران فقط.
٤ جعل الله تعالى مدة العدة رحمة بالزوجين، إذ قد تحدث لهما ندامة فيتراجعان بلا كلفة، قال تعالى من سورة الطلاق: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾، أي: المراجعة، وللرجعية النفقة على الزوج، لأنها محبوسة من أجله ولا يجوز له أن يستمتع بها لا بالنظر ولا غيره، ولو وطئها بدون نية مراجعة إثم ولا حد عليه للشبهة.
211
بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}.
كما أن على المطلقة أن لا تكتم الحيض بأن تقول: ما حضت إلا حيضة أو حيضتين وهي حاضت ثلاثاً تريد بذلك الرجعة لزوجها، ولا تقول حضت ثلاثاً وهي لم تحض من أجل أن لا ترجع إلى زوجها، ولا تكتم الحمل كذلك حتى إذا تزوجت من آخر تنسب إليه الولد وهو ليس بولده، وهذا من كبائر الذنوب. ولذا قال تعالى: ﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، يريد من حيض وحمل إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يريد الزوج أحق بزوجته المطلقة ما دامت في عدتها وعلى شرط أن لا يريد بإرجاعها المضارة بها بل لا بد وأن يريد برجعتها الإصلاح وطيب العشرة بينهما وهذا ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحا﴾، وعلى المطلقة أن تنوي برجوعها إلى زوجها الإصلاح أيضاً.
ثم أخبر تعالى أن للزوجة من الحقوق على زوجها، مثل ما للزوج عليها من حقوق فقال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وأخبر أن للرجل على المرأة درجة لم ترقها المرأة ولم تكن لها وهي القيومية المفهومة من قوله تعالى من سورة النساء: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ وختمت الآية بجملة: ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ إشعاراً بوجوب تنفيذ هذه التعاليم لعزة الله تعالى وحكمته فإن الغالب يجب أن يطاع والحكيم يجب أن يسلم له في شرعه؛ لأنه صالح نافع غير ضار.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- بيان عدة المطلقة إذا كانت تحيض وهو التربص ثلاثة حيض أو أطهار.
٢- حرمة كتمان المطلقة حيضاً أو حملاً خلقه الله تعالى في رحمها، ولأي غرض كان.
٣- أحقية١ الزوج بالرجعة من مطلقته إذا لم تنقض عدتها، حتى قبل الرجيعة زوجة بدليل أنها لو ماتت يرثها زوجها ولو مات ترثه. وأنه لا يحل أن تخطب أو تتزوج ما دامت في عدتها.
٤- إثبات حقوق كل من٢ الزوجين على صاحبه.
١ معنى أحق في قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أن المطلقة لها حق أن لا ترجع والزوج له حق أن يراجعها متى شاء فكان هناك حقان أقواهما حق الزوج. أو يقال: اسم التفضيل هنا ليس على بابه، والأول أظهر لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأيم أحق بنفسها".
٢ من الحقوق المتبادلة بين الزوجين أن يتزين كل منهما لصاحبه بما يكون زينة عرفية لهما مما هو مباح.
212
٥- تقرير سيادة الرجل على المرأة لما وهبه الله من ميزات١ الرجولة المفقودة في المرأة.
﴿الطَّلاقُ٢ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الطَّلاقُ٣﴾ : الاسم من طلق وهو أن يقول لزوجته: أنت طالق أو طلقتك.
﴿مَرَّتَانِ٤﴾ : يطلقها، ثم يردها، ثم يطلقها ثم يردها. أي يملك الزوج الإرجاع في طلقتين أما إن طلق الثالثة فلا يملك ذلك ولا ترجع حتى تنكح زوجاً غيره.
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ : حسن العشرة فإن خافت المرأة أو خاف الزوج أن لا يؤدي حقوق الزوجية جاز الفداء وهو دفع مال للزوج ليخلي سبيل المرأة تذهب حيث شاءت، ويسمى هذا خلعاً.
﴿حُدُودَ اللهِ﴾ : ما يجب أن ينتهي إليه العبد من طاعة الله ولا يتجاوزه.
١ تقدم ذكر بعضها في الصفحة قبل ذي تحت رقم ٤.
٢ كان الطلاق في الجاهلية وبرهة من الزمن في الإسلام ليس له حد فقد يطلق الرجل امرأته عشرات المرات حتى إن رجلاً قال لامرأته لا آويك ولا أدعك تحلين. قالت وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿الطلاق مرتان﴾ إلخ.
٣ الطلاق شرعاً: هو حل العصمة المنعقدة بين الزوجين بألفاظ مخصوصة منها: أنت طالق. والطلاق مباح لرفع الضرر عن أحد الزوجين أو عن كليهما.
٤ روى الدارقطني، عن أنس: أن رجلاً قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله تعالى: ﴿الطلاق مرتان﴾ فلما صار ثلاثاً؟. قال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هي الثالثة.
213
الظالم: المتجاوز لما حد الله تعالى، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق فيقرر تعالى في هذه الآية أن الطلاق الذي يملك الزوج الرجعة فيه هو طلقتان: أولى، وثانية فقط، ومن هنا فمن طلق الثانية فهو بين خيارين؛ إما أن يمسك زوجته بمعروف، أو يطلقها بإحسان فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، هذا معنى قوله تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ لأي يحسن العشرة وهو أداء ما للزوج من حقوق، أو تسريح أي تطليق بإحسان بأن يعطيها باقي صداقها إن كان، ويمتعها بشيء من المال ولا يذكرها بسوء.
وقوله تعالى: ﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ١ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ : حرم تعالى على الزوج أن يأخذ من مهر زوجته شيئاً بدون رضاها، إلا في حال واحدة وهي إذا كرهت المرأة الزوج ولم تطق البقاء معه، وهو غير ظالم لها في هذه الحال يجوز أن تعطي الزوج مالاً ويطلقها ويسمى هذا خلعاً، وهو٢ حلال على الزوج غير الظالم، وهذا معنى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ وهي هنا المعاشرة الحسنة فلا جناح أي لا إثم فميا فدت٣ به نفسها فلها أن تعطي المال للزوج وله أن يأخذه منها مقابل تركها وحل عصمة الزوجية بينهما.
وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ٤﴾ يريد أحكام شرعه فلا يحل تجاوز الحلال إلى الحرام، ولا تجاوز الإحسان إلى الإساءة ولا المعروف إلى المنكر ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، عرضها للعذاب، وما ينبغي له ذلك.
١ الخطاب هنا للأزواج وفي قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ للحكام وولاة الأمور.
٢ لا خلاف في أن المخالع منها بائنة لا يملك الزوج رجعتها في العدة، وهل يعتبر الخلع طلاقاً أو فسخاً. الراجح أنه طلاق فتعتد المخالع منها عدة الطلاق ثلاثة قروء.
٣ أما ما كان من الفدية مثل المهر أو أقل فلا خلاف فيه، أي: في جوازه، وأما ما كان أكثر من المهر ففيه خلاف. والراجح على أنه جائز ولكنه مناف لمكارم الأخلاق.
٤ القصر في جملة: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، قصر حقيقي. إذ كل ظالم متعد لحدود الله.
214
هداية الآية
من هداية الآية:
١- حرمة الطلاق الثلاث١ بلفظ واحد؛ لأن الله تعالى قال: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾.
٢- المطلقة ثلاث طلقات لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره٢ ويطلقها أو يموت عنها.
٣- مشروعية الخلع وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها فتخلع نفسها منه بمال تعطيه إياه عوضاً عما أنفق عليها في الزواج بها.
٤- وجوب الوقوف عند حدود الله وحرمة تعديها.
٥- تحريم الظلم وهو ثلاثة أنواع: ظلم الشرك وهذا لا يغفر للعبد إلا بالتوبة منه، وظلم العبد لأخيه الإنسان وهذا لابد من التحلل منه، وظلم العبد لنفسه بتعدي حد من حدود الله وهذا أمره إلى الله إن شاء غفره وإن شاء واخذ به.
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ﴾ : الطلقة الثالثة فلا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره.
﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ : أي لا إثم ولا حرج عليهما في الزواج من جديد.
﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ : أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بعقد جديد وبشرط أن يظنا إقامة حدود الله فيهما، وإلا فلا يجوز نكاحهما.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى مبيناً حكم من طلق امرأته الطلقة الثالثة: فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ويكون النكاح صحيحاً ويبني بها الزوج الثاني لحديث: "حتى تذوقي عسيلته
١ وهو الطلاق البدعي، والجمهور على أنه يقع ثلاثة وخلاف الجمهور يقولون: طلاق بدعي ويقع واحدة، ودليلهم الآية: ﴿الطلاق مرتان﴾، ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ والطلاق بلفظ الثلاث ليس فيه مرتان ولا إقراء، فلذا هو بدعي ولا تبين المطلقة به، بل هي مطلقة واحدة لا غير.
٢ لا يحل لامرء أن يتزوج مطلقة ثلاثاً ليحلها لزوجها للعن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يفعل ذلك في قوله: "لعن الله المحلل والمحلل له". وسماه: بالتيس المستعار.
215
ويذوق عسيلتك"، فإن طلقها الثاني بعد البناء والخلوة والوطء أو مات عنها جاز لها أن تعود إلى الأول إن رغب هو في ذلك وعلما من أنفسهما أنهما يقيمان حدود الله فيهما بإعطاء كل واحد حقوق صاحبه١ مع حسن العشرة وإلا فلا مراجعة تحل لهما. ولذا قال تعالى: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ ثم نوه الله تعالى بشأن تلك الحدود فقال: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ وهي شرائعه، بينهما سبحانه وتعالى لقوم يعلمون٢، إذ العالمون بها هم الذين يقفون عندها ولا يتعدونها فيسلمون من وصمه الظلم وعقوبة الظالمين.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- المطلقة ثلاثاً لا تحل لمطلقها٣ إلا بشرطين: الأول: أن تنكح زوجا ًغيره نكاحاً صحيحاً، ويبنى بها ويطأها. والثاني: أن يغلب على ظن كل منهما أن العشرة بينهما تطيب وأن لا يتكرر ذلك الاعتداء الذي أدى إلى الطلاق ثلاث مرات.
٢- موت الزوج الثاني كطلاقه تصح معه الرجعة إلى الزوج الأول بشرطه.
٣- إن تزوجت المطلقة ثلاثاً بنية التمرد على الزوج حتى يطلقها لتعود إلى الأول فلا يحلها هذا النكاح لأجل التحليل، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبطله وقال: "لعن الله المحلل والمحلل له" ويسمى بالتيس المستعار، ذاك الذي يتزوج المطلقة ثلاثاً بقصد أن يحلها للأول.
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) ﴾
١ ذهب بعض الفقهاء إلى أن ليس على الزوجة عمل لزوجها ولا حق له عليها إلا في الاستمتاع بها، وهو قول واهٍ يرده ما كان عليه بنات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأزواجه وأزواج أصحابه، إذ كن يطحن ويغسلن ويطبخن ويقمن بعمل المنزل ويأمرن بذلك بل ويضربن إن قصرن فيه.
٢ أي الذين يفهمون الأحكام فهماً يهيئهم للعمل بها وبإدراك مصالحها فلا يتحيلون في فهمها ليتركوا العمل بها.
٣ اختلف فيمن طلقت طلقة أو طلقتين ثم تزوجت ومات زوجها وطلقها ورجعت إلى زوجها الأول، فهل النكاح الجديد يهدم السابق أو تبقى على ما كانت عليه؟. الجمهور على أنها تبقى على ما كانت عليه من طلقة أو طلقتين.
216
شرح الكلمات:
﴿أَجَلَهُنَّ﴾ : أجل المطلقة مقاربة١ انتهاء أيام عدتها.
﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾ : تسريح المطلقة تركها بلا مراجعة لها حتى تنقضي عدتها وتبين من زوجها.
﴿ضِرَاراً﴾ : مضارة لها وإضراراً بها.
﴿لِتَعْتَدُوا﴾ : لتتجاوزوا حد الإحسان إلى الإساءة.
﴿هُزُواً٢﴾ : لعباً بها بعدم التزامكم بتطبيق أحكامها.
﴿نِعْمَتَ اللهِ﴾ : هنا هي الإسلام.
﴿وَالْحِكْمَةِ٣﴾ : السنة النبوية.
﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ : بالذي أنزله من أحكام الحلال والحرام لتشكروه تعالى بطاعته.
معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والخلع والرجعة ففي هذه الآية يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا طلق أحدهم امرأته وقاربت نهاية عدتها أن يراجعها فيمسكها٤ بمعروف، والمعروف هو حسن عشرتها أو يتركها حتى تنقضي عدتها ويسرحها بمعروف فعيطيها كامل حقوقها ولا يذكرها إلا بخير ويتركها تذهب حيث شاءت. وحرم على أحدهم أن يراجع امراته من أجل أن يضر بها فلا هو يحسن إليها ولا يطلقها فتستريح منه، فقال تعالى: ﴿وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا﴾ يريد عليهن حتى تضطر المرأة المظلومة إلى المخالعة فتفدي نفسها منه بمال وأخبر تعالى: أن من يفعل هذا الإضرار فقد عرض نفسه للعذاب الأخروي.
كما نهى تعالى المؤمنين عن التلاعب بالأحكام الشرعية، وذلك بإهمالها وعدم تنفيذها فقد قال تعالى: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ٥ اللهِ هُزُواً﴾ وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم حيث من
١ بالإجماع أن المراد من بلوغ الأجل هنا: مقاربة بلوغه لأنه إذا بلغ الأجل لا خيار له في الإمساك.
٢ لا خلاف بين أهل العلم أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه لحديث أبي داود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة ".
٣ الحكمة: هي السنة المبينة على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراد الله فيما لا نص عليه من الكتاب.
٤ قال أهل العلم: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على زوجته يطلقها، فإن لم يطلقها خرج من حد المعروف.
٥ روي عن أبي الدرداء أنه قال: كان الرجل في الجاهلية يطلق ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب. وينكح ويعتق ويقول: كنت لاعباً. فنزلت هذه الآية: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُواً﴾.
عليهم بالإسلام دين الرحمة والعدالة والإحسان، وذلك ليشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
كما عليهم أن يذكروا نعمة الله عليهم زيادة على الإسلام وهي نعمة إنزال الكتاب. والحكمة ليعظهم بذلك فيأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم، وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم: ثم أمرهم بتقواه عز وجل: فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ وأعلمهم أنه أحق أن يُتقى؛ لأنه بكل شيء عليم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فليحذروا أن يراهم على معصيته مجانبين لطاعته.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- لا يحل للمطلق أن يراجع امرأته من أجل أن يضر بها ويظلمها حتى تخالعه بمال.
٢- حرمة التلاعب بالأحكام الشرعية بعدم مراعتها وتنفيذها.
٣- وجوب ذكر نعمة الله على العبد وذلك بذكرها باللسان، والاعتراف١ بها في الجنان.
٤- وجوب تقوى الله تعالى في السر والعلن.
٥- مراقبة الله تعالى في سائر شؤون الحياة؛ لأنه بكل شيء عليم.
﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ٢ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ : أي انتهت عدتهن٣.
١ وصرفها فيما يرضي المنعم عز وجل وذلك باستعمال القوى الفعلية والبدنية في طاعة الله وإنفاق المال فيما يجب أن ينفق فيه.
٢ ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ الإشارة فيه إلى حكم العضل المحرم والمخاطب به سائر المسلمين ولم يقل: ذلكم، إذ الأصل هو الإشارة إلى المذكور وهو مفرد ولو قال: ذلكم، جاز.
٣ بلوغ الأجل في هذه الآية هو نهايته وليس كالآية السابقة، إذ بلوغ الأجل فيها المراد: قرب نهايته، إذ لو بلغ الأجل نهايته ما كان صحت مراجعتها.
218
﴿فَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ : أي لا تمنعوهن من التزوج مرة أخرى بالعودة إلى الرجل الذي طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها.
﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ : إذا رضي الزوج المطلق أن يردها إليه ورضيت هي بذلك.
﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ : أي النهي عن العضل يُكلف به أهل الإيمان إذ هم القادرون على الطاعة.
﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ﴾ : أي ترك العضل خير لكم من العضل وأطهر لقلوبكم؛ إذ العضل قد يسبب ارتكاب الفاحشة.
معنى الآية الكريمة:
ينهى الله تعالى أولياء أمور النساء أن يمنعوا المطلقة طلقة أو طلقتين فقط من أن تعود إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء عدتها، إذا رضيت هي بالزواج منه مرة أخرى ورضي هو به وعزما على المعاشرة الحسنة بالمعروف وكانت هذه الآية استجابة لأخت معقل بن يسار رضي الله عنه حيث أرادت أن ترجع إلى زوجها١ الذي طلقها وبانت منه بانقضاء العدة فمنعها أخوها معقل.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ أي هذا النهي عن العضل يوجه إلى أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فهم الأحياء الذي يستجيبون لله ورسوله إذا أمروا أو نهوا.
وأخيراً أخبرهم تعالى أن عدم منع المطلقة من العودة إلى زوجها خير لهم، حالاً ومآلاً، وأطهر لقلوبهم ومجتمعهم. وأعلمهم أنه يعلم عواقب الأمور وهم لا يعلمون فيجب التسليم بقبول شرعه، والانصياع لأمره ونهيه. فقال تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- حرمة العضل أي منع المطلقة أن ترجع إلى من طلقها.
٢- وجوب٢ الولاية على المرأة؛ لأن الخطاب في الآية كان للأولياء ﴿فَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾.
١ اسم هذا الزوج: (أبو البداح) وكان قد طلق أخت معقل بن يسار، ورغب في العودة إليها بنكاح جديد بعد انقضاء عدتها، فأبى معقل وقال لها: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت هذه الآية: ﴿وإذا طلقتم... ﴾ إلخ.
٢ دليله: أن أخت معقل كانت ثيبة ومعنها أخوها من الزواج بمن طلقها وراجعها ثم طلقها مرة ثانية وانقضت عدتها ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعقل: " إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح "، فقال آمنت بالله وردها إلى أبي البداح، فهذا دليل على شرطية الولي في النكاح البكر والثيب سواء.
219
٣- المواعظ تنفع أهل الإيمان لحياة قلوبهم.
٤- في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه الخير كله، والطهر جميعه.
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ١ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿حَوْلَيْنِ﴾ : عامين.
﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ : أي على الأب.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ : بحسب حاله يساراً أو إعساراً.
﴿وُسْعَهَا﴾ : طاقتها وما تقدر عليه.
﴿لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا٢﴾ : أي لا يحل أن تؤذي أم الولد بمنعها من إرضاع ولدها، أو بمنعها الأجرة على إرضاعه هذا في حال طلاقها، أو موت زوجها.
١ قوله تعالى: ﴿كسوتهن﴾، إما أن يكون المراد به المرضع غير المطلقة، فهي التي يجب لها الكسوة، أما المرضع بأجرة فلا كسوة لها وإنما لها ثمن الإرضاع، أو يكون ذكر الكسوة من باب مكارم الأخلاق، إذ ذو الخلق الكريم يكرم مرضعة ولده بالكسوة وغيرها.
٢ في الآية دليل على أن الأم أحق بالحضانة إذا طلقت أو مات الوالد ولا خلاف في ذلك ما لم تتزوج فإن حضانتها تسقط بذلك لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن شكت إليه: "إنت أحق به ما لم تنكحي". واختلف في مدة الحضانة، فمالك يرى: أنها إلى بلوغ الغلام وتزوج الجارية، ورأى الشافعي: أنها إلى ثمان سنوات ثم يخبر الولد بين أبيه وأمه، فأيهما اختار له ذلك، والبنت كذلك. فقد صح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الولد بين أبيه وأمه.
220
﴿وَلا مَوْلُودٌ لَهُ﴾ : أي ولا يضار١ الوالد كذلك بأن يجبر على إرضاع الولد من أمه المطلقة أو يطالب بأجرة لا يطيقها.
﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ : الوارث هو الرضيع٢ نفسه إن كان له مال وإلا فعلى من يكفله من عصبته.
﴿فِصَالاً﴾ : فطاماً للولد قبل نهاية العامين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة بيان أحكام الطلاق وقد تطلق المرأة أحياناً وهي حامل ذكر تعالى أحكام الرضاع، وقال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ٣ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ أي: على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إن أرادت هي وأب الرضيع إتمام الرضاعة، وأن على المولود له وهو الأب إن كان موجوداً نفقة المرضعة طعاماً وشراباً وكسوة بالمعروف بحسب حال الوالد من الغنى والفقر، إذ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها من قدرة.
ثم نبه تعالى على أنه لا يجوز أن تؤذى الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من إرضاع ولدها أو تكره على إرضاعه وهي لا تريد ذلك، أو تحرم النفقة مقابل الإرضاع أو يضيق عليها فيها كما لا يجوز أن يضار أي يؤذي المولود له وهو الأب: بأن يجبر على إرضاع ولده من أمه وقد طلقها ولا يأن يطالب بنفقة باهظة لا يقدر عليها. وعلى الوارث وهو الرضيع نفسه إن كان له مال. فإن لم يكن له مال فعلى عصبته الذكور الأقرب فالأقرب أي عليهم أجرة الإرضاع فإن لم يكن للولد مال وليس له عصبة وجب على الأم أن ترضعه مجاناً؛ لأنها أقرب الناس إليه، ثم ذكر تعالى رخصتين في الإرضاع: الأولى: فطام قبل عامين، فإن لهما ذلك بعد التشاور في ذلك وتقدير مصلحة الولد من هذا الفطام المبكر. فقال تعالى: ﴿فَإِنْ
١ وفي الحديث الصحيح: "لا ضرر ولا ضرار"، ومن هنا رؤى في الحضانة جانب الولد فينظر فيمن يقدر على حفظه وتربيته، ولما كانت الأم أرحم به وأحن عليه أعطيته ما لم تتزوج وتشغل عنه فإن تزوجت فأمها وهي جدته، وإما أم أبيه فخالته أحق به منها، والعبرة بمن يكون أرحم وأحفظ بالولد.
٢ الجمهور على أن المراد بالوارث، ورثة الرضيع إذا هلك من نساء ورجال، ذكره القرطبي في تفسيره، وقال غيره: إن الوارث هو الرضيع إذا مات والده وترك مالاً. أجرة المرضع من ماله، فإن كان لا مال له فمن مال ورثته هو ولا تضار هي في واجب نفقتها ولا الوالد أو وارثه في أدائها. وما فسرنا به الآية واضح ومستقيم والحمد لله رب العالمين.
٣ {والوالدات﴾ مبتدأ، وجملة: يرضعن، خبر. فالجملة خبرية، ومعناها الإنشاء. إذ ما تضمنته الجملة هو إرشاد من الله تعالى للمؤمنين في طريقة إرضاع أولادهن.
221
أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي لا تضييق ولا حرج. والثانية إن أراد المولود له أن يسترضع لولده من مرضعاً غير أمه فله ذلك إن طابت به نفسه الأم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ بشرط أن يسلم الأجرة١ المتفق عليها بالمعروف بلا إجحاف ولا مماطلة، وأخيرا وعظ الله كلاً من المرضِع والمرضَع له بتقواه في هذه الحدود التي وضعها لهما، وأعلمهم أنه بما يعملون بصير فليحذروا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه. فسبحانه من إلهٍ عظيم برٍ رحيم.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- وجوب إرضاع الأم ولدها الرضعة الأولى "اللَّبا" إن كانت مطلقة وسائر الرضاع إن كانت غير مطلقة.
٢- بيان الحد الأعلى للرضاع وهو عامان٢ تامان. ولذا فالزيادة عليهما غير معتبرة شرعاً.
٣- جواز أخذ الأجرة على الإرضاع.
٤- وجوب نفقة الأقارب على بعضهم في حال الفقر.
٥- جواز إرضاع الوالد ولده من٣ مرضع غير والدته.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ
١ المراد من الأجرة هي تلك التي وجبت للمطلقة بإرضاعها ولدها قبل أخذ الوالد له ليرضعه عند غيرها إن لم يكن قد سلمها لها أيام إرضاعها للولد.
٢ لحديث: "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام" رواه أبو دواد الطيالسي. عن جابر ذكره ابن كثير. وحديث ابن عباس عند البخاري: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين". ولذا فما كان من رضاع بعد الحولين فلا يحرم بدلالة هذا الحديث الصحيح.
٣ إذا كان في ذلك مصلحة للرضيع أو لعجز الوالدة عنه.
222
وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) }
شرح الكلمات:
﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ : يوفيهم الله تعالى ما كتب لهم من العمر فيموتون.
﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً﴾ : يتركون زوجات لهم.
﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ : ينتظرن حتى انقضاء عدتهن، وهي أربعة أشهر وعشر ليال.
﴿بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ : بلغن انتهاء العدة.
﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ : لا حرج عليكم أيها الأولياء فيما فعلن في أنفسهن من مس الطيب والتجمل والتعرض للخطاب.
﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ : لا إثم عليكم في التعريض دون التصريح بالخطبة، كما لا إثم في إضمار الرغبة في النفس.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ : أي حتى تنتهي العدة.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والعدد والنفقات، ففي هذه الآية (٢٣٤) أن على من مات١ عليها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشر ليال إن كانت حرة، أو نصف المدة إن كانت أمة فلا تتجمل ولا تمس طيباً، ولا تتعرض للخطاب بحال حتى تنقضي عدتها المذكورة في الآية إلا أن تكون حاملاً فإن عدتها تنقضي٢ بوضع حملها لقوله تعالى من سورة الطلاق: ﴿وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ فإذا بلغت أجلها، أي: انتهت المدة التي هي
١ من مات زوجها أو طلقها في غيبته عنها: هل تعتد من يوم الطلاق أو الوفاة أو من يوم يأتيها الخبر بذلك؟. الجمهور وهو الراجح أنها تعتد من يوم الوفاة أو الطلاق، وعليه فلو مات ز وجها أو طلقها ولم يلقها حتى انتهت مدة العدة فلا عدة عليها بعد.
٢ يرى بعض السلف أن تعتد المتوفى عنها زوجها بأقصى الأجلين، أي: بأطولهما، فإن كانت مدة الحمل أكثر من أربعة أشهر وعشر اعتدت به، وإلا اعتدت بوضع الحمل، وما عليه الجمهور أولى، وهو: وضع الحمل.
223
محدة فيها فلا جناح على ذوي زوجها المتوفي ولا على ذويها هي فيما تفعل بنفسها من ترك الإحداد١ والتعرض للخطاب للتزوج هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: بما هو مباح لهن ووعظهم في ختام الآية بقوله: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فاحذروه فلا تعملون إلا ما أذن فيه لكم.
أما الآية الثانية (٢٣٥) فقد تضمنت تحريم خطبة المرأة المعتدة من طلاق أو وفاة فلا يحل خطبتها لما في ذلك من الضرر؟ إذ قد تحمل هذه الخطبة من رجل مرغوب فيه لماله أو دينه أو نسبه أن تدعي المرأة انقضاء عدتها وهي لم تنقض، وقد تفوت على زوجها المطلق لها فرصة المراجعة، وهذا كله ضرر محرم. كما تضمنت الآية في صدرها رفع الحرج، أي: الإثم في التعريض بالخطبة دون اللفظ الصريح المحرم فقال تعالى: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المسلمون فيما عرضتم من خطبة النساء المعتدات نحو قوله: إني راغب في الزواج، أو إذا انقضت عدتك تشاورينني إن أردت الزواج. كما تضمنت الكشف عن نفسية الرجل إذ قال تعالى: ﴿عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ مبدين رغبتكم منهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح، ولكن لا تواعدوهن سراً هذا اللفظ هو الدال على تحريم خطبة المعتدة من وفاة أو من طلاق بائن، أما الطلاق الرجعي فلا يصح الخطبة فيه تعريضاً ولا تصريحاً؛ لأنها في حكم الزوجة، وقوله: ﴿إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ هو الإذن بالتعريض.
كما تضمنت هذه الآية حرمة عقد النكاح على المعتدة حتى تنتهي عدتها إذ قال تعالى: ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ٢ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، والمراد من الكتاب المدة التي كتب الله على المعتدة أن تتربص فيها. وختمت الآية بوعظ الله تعالى المؤمنين حيث أمرهم أن يعلموا أن الله يعلم ما في أنفسهم ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم وتصرفاتهم فليحذروه غاية الحذر، فلا يخالفوه في أمره ولا نهيه. كما أعلمهم أنه تعالى غفور لمن تاب منهم بعد الذنب حليم عليهم لا يعاجلهم بالعقوبة ليتمكنوا من التوبة.
١ الإحداد واجب على المتوفى عنها زوجها فقط لحديث الصحيح: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". والإحداد: هو ترك أنواع الزنية حتى الكحل والخضاب، وعليها لزوم البيت وعدم التعرض للخطاب.
٢ أي: لا تعقدوا على المعتدة حتى تنقضي عدتها. يقال: عزم كذا، وعزم على كذا بمعنى واحد.
224
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان عدة الوفاة وهي أربعة أشهر١ وعشر ليال، وبينت السنة أن عدة الأمة على النصف.
٢- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها وهو عدم التزين ومس الطيب وعدم التعرض للخطاب وملازمة المنزل الذي توفى عنها زوجها وهي فيه فلا تخرج منه إلا لضرورة قصوى.
٣- حرمة خطبة المعتدة، وجواز التعريض لها بلفظ غير صريح.
٤- حرمة عقد النكاح على معتدة قبل انقضاء عدتها، وهذا من باب أولى ما دام الخطبة محرمة ومن عقد على امرأة قبل انقضاء عدتها يفرق بينهما ولا تحل له بعد عقوبة لهما٢.
٥- وجوب مراقبة الله تعالى في السر والعلن واتقاء الأسباب المفضية بالعبد إلى فعل محرم.
﴿لا جُنَاحَ٣ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ٤ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ٥ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ٦ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ
١ قيل: الحكمة في العشر ليال بعد الأربعة أشهر، أنها التي ينفخ فيها الروح في الجنين لحديث: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة". الحديث. فثلاثة أربعينات بأربعة أشهر، وفي العشر بعد ينفخ فيه الروح. والحديث هو حديث ابن مسعود في مسلم.
٢ هذا مذهب مالك، أما الجمهور فإنه يفارقها فإذا انتهت عدتها له أن يخطبها ويتزوجها، ولا فرق في هذا بين عدة الوفاة أو الطلاق غير الرجعي.
٣ هذا استئناف بياني كأن سائلاً سأل عن جواز الطلاق قبل البناء وعدمه، فأجاب تعالى بقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ الآية. مبيناً الجواز وحكم المهر للمطلقة قبل البناء.
٤ المطلقات أربع: مطلقة قبل البناء، ولم يسم لها مهر فلها المتعة ولا عدة عليها. المطلقة قبل البناء وسمي لها مهر فلها نصفه إلا أن يعفو، ومطلقة بعد البناء لها ما سمي من المهر، وعليها العدة، ومطلقة بعد البناء ولم يسم لها مهر فلها مهر مثيلتها.
٥ أو هنا بمعنى الواو، أي: ولم تفرضوا.
٦ النصف: فيه لغات، كسر النون، وضمها، ونصيف بفتح النون وإشباع الصاد، والنصيف أيضاً: قناع المرأة.
225
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) }
شرح الكلمات:
الجناح: الإثم المترتب على المعصية.
﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ : ما لم تجامعوهن.
﴿أَوْ تَفْرِضُوا﴾ : تقدروا لهن١ مهراً.
﴿الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ : ذو الوسع في المال، وقدره: ما يقدر عليه ويستطيعه.
﴿الْمُقْتِرِ﴾ : الضيق العيش.
﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ : هو الزوج.
﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ : أي المودة والإحسان.
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ : بأدائها في أوقاتها في جماعة مع استيفاء شروطها وأركانها وسننها.
﴿وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾ : صلاة العصر، أو الصبح فتجب المحافظة على كل الصلوات وخاصة العصر والصبح لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من صلى البردين –العصر والصبح- دخل الجنة".
﴿قَانِتِينَ﴾ : خاشعين ساكنين٢.
﴿فَرِجَالاً﴾ : مشاة على أرجلكم أو ركباناً على الدواب وغيرها مما يركب.
١ اختلف في من مات زوجها قبل البناء بها ولم يسم لها صداق هل لها مثل صداق مثيلاتها، أو لا صداق لها؟ ولكن لها الميراث وعليها العدة. فمن قال: بالقياس، لا صداق لها، ومن أخذ بحديث بروع الذي رواه الترمذي وصححه قال: لها مهر المثل وترث وتعتد. وبروع: امرأة مات زوجها قبل البناء بها ولم يسم لها مهراً فقضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها بمهر المثل والميراث والعدة.
٢ الخشوع في الصلاة مستلزم لترك الكلام فيها وكيف وقد سلم ابن مسعود على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في صلاته فلم يرد عليه، ثم اعتذر له بقوله: "إن في الصلاة لشغلا" أي: عن الكلام.
226
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق وما يتعلق به، ففي هذه الآية (٢٣٦) : يخبر تعالى عباده المؤمنين أنه لا إثم ولا حرج عليهم إن هم طلقوا أزواجهم قبل البناء بهن، وقبل أن يسموا لهن مهوراً أيضاً، وفي هذين الحالين يجب عليهم أن يمتعوهن١ بأن يعطوا المطلقة قبل البناء ولم تكن قد أعطيت مهراً ولا سمى لها فيعرف مقداره في هذه الحال، وقد تكون نادرة يجب على الزوج المطلق جبراً لخاطرها أن يعطيها مالاً على قدر غناه وفقره تتمتع به أياماً عوضاً عما فاتها من التمتع بالزواج، فقال تعالى: ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾.
وأما الآية الثانية (٢٣٧) فإنه تعالى يخبر أن من طلق امرأته قبل البناء بها وقد سمى لها صداقاً قل أو كثر فإن عليه أن يعطيها وجوباً نصفه إلا أن تعفو عنه المطلقة فلا تأخذه تكرماً، أو يعفو المطلق تكرماً فلا يأخذ منه شيئاً فيعطيها إياه كاملاً فقال عز وجل: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ -أي: فالواجب نصف ما فرضتم- إلا أن يعفون –المطلقات- أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج. ثم بعد تقرير هذا الحكم العادل الرحيم دعا الطرفين٢ إلى العفو، وأن من عفا منهما كان أقرب إلى التقوى فقال عز وجل: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ ونهاهم مع هذا عن عدم نسيان المودة والإحسان بينهما فقال: ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
وأما الآية الثانية (٢٣٨) فإنه تعالى يرشد عباده المؤمنين إلى ما يساعدهم على الالتزام بهذه الواجبات الشرعية والآداب الإسلامية الرفيعة وهو المحافظة على إقامة الصلوات الخمس عامة والصلاة الوسطى خاصة فقال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى﴾، وكانوا قبلها يتكلمون في الصلاة فمنعهم من ذلك بقوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ أي ساكنين خاشعين. وإن حصل خوف لا يتمكنون معه من أداء الصلاة على الوجه
١ المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء ولم يكن سمي لها مهراً، ومستحبة لغيرها. هذا أشهر المذاهب وأقربها من الحق، ومقدار المتعة موكول إلى المطلق، فليمتع بحسب حاله غنياً وفقراً، هذا في غير المطلقة قبل البناء ولم يسم لها مهراً؛ لأن متعتها واجبة، إذ ليس لها غيرها فقد يتولى القاضي بيان مقدارها.
٢ وإن كان الخطاب صالحاً لكل من الزوج والزوجة إلا إن العفو من الزوجة أولى؛ لأن الطلاق كان منه، ولو كانت هي سببه لكان عفوها هي أولى، ولعل هذا سر قوله: ﴿أقرب للتقوى﴾.
227
المطلوب من السكون والخشوع فليؤدوها وهم مشاة على أرجلهم أو راكبون على خيولهم، حتى إذا زال الخوف وحصل الأمن فليصلوا على الهيئة التي كانوا يصلون عليها من سكون وسكوت وخشوع، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ١ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ يريد الله تعالى بالذكر هنا إقام الصلاة أولاً، ثم الذكر العام مذكراً إياهم بنعمة العلم مطالباً إياهم بشكرها وهو أن يؤدوا الصلاة على أكمل وجوهها وأتمها؛ لأنها المساعد على سائر الطاعات وحسبها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. هذا ما تضمنته الآية الرابعة (٢٣٩).
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان حكم المطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر، وأن لها المتعة فقط بحسب حال المطلق من غنى وفقر.
٢- بيان حكم المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداق فإن لها نصفه وجوباً إلا أن تتنازل عنه برضاها فلها ذلك كما أن الزوج المطلق إذا تنازل عن النصف وأعطاها المسمى كاملاً فله ذلك.
٣- الدعوة إلى إبقاء المودة والفضل والإحسان بين الأسرتين: أسرة المرأة المطلقة، وأسرة الزوج المطلق، حتى لا يكون الطلاق سبباً في العداوات والتقاطع.
٤- وجوب المحافظة على الصلوات الخمس وخاصة صلاة العصر٢ وصلاة الصبح "الصلاة الوسطى"٣.
٥- منع الكلام في الصلاة لغير إصلاحها.
٦- وجوب الخشوع في الصلاة
١ ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ﴾ أي: أتموا الصلاة كما أمركم فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وجلوسها كما تفعلون ذلك في حال الأمن وعدم الخوف.
٢ اختلف في بيان الصلاة الوسطى بلغ الخلاف عشرة أقوال حتى عدت كل صلاة الصلاة الوسطى حتى يتم المحافظة على الصلوات الخمس كلها، وأقوى الأقوال إنها الصبح أو العصر، ورجح مالك: الصبح، ورجح غيره: العصر، والسنة الصحيحة شاهدة لمن قال أنها العصر، وذلك لحديث الصحيح: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر".
٣ الوسطى مؤنث الأوسط، ووسط الشيء خيره وأعدله، وفي هذا المعنى قال الشاعر، يمدح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يا أوسط الناس طراً في مفاخرهم وأكرم الناس أماً برةً وأبا
وأفردت الصلاة الوسطى بالذكر تشريفاً لها.
228
٧- بيان صلاة الخائف من عدو وغيره وأنه يجوز له أن يصلي وهو ماش أو راكب.
٨- الأمر بملازمة ذكر الله، والشكر على نعمه وبخاصة نعمة العلم بالإسلام.
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً١ إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ٢حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْحَوْلِ﴾ : العام.
﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ : من بيت الزوج المتوفي قبل نهاية السنة.
﴿مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ : أي متعة لا مبالغة فيها، ولا تقصير.
﴿حَقّاً﴾ : متعيناً على المطلقين الأتقياء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حقوق النساء المطلقات والمتوفى عنهن ففي هذه الآية (٢٤٠) يخبر تعالى أن الذين يتوفون من المؤمنين ويتركون أزواجاً فإن لهن من الله تعالى وصية على ورثة الزوج المتوفى أن ينفذوها وهي أن يسمحوا لزوجة المتوفى عنها أن تبقى معهم في البيت تأكل وتشرب إلى نهاية السنة بما فيها مدة العدة وهي أربعة أشهر وعشر ليال إلا إذا رغبت في الخروج بعد انقضاء العدة فلها ذلك، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ٣ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
١ المراد بالمتاع هنا: هو السكنى في بيت زوجها المتوفى عنها إن كان له سكنى يملكها.
٢ في قوله تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ إشارة إلى وجوب تنفيذ وصية الله تعالى؛ لأنه غالب على أمره قاهر لعباده فكيف يخرجون عن طاعته، والحكيم لا يعترض عليه بل يسلم الأمر إليه رزقنا الله طاعته بالإسلام إليه ظاهراً وباطناً.
٣ اختلف في توجيه هذه الآية فمن قائل: بنسخها وأن الناسخ لها الآية التي قبلها: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾، ومن قائل: بنسختها آية المواريث، إذ المتوفى عنها إن لم يكن للزوج ولد الربع من التركة، ومن قائل: وهو مجاهد ورجحه ابن جرير الطبري بعدم النسخ وأنه رحمة بالمؤمنة المتوفى عنها زوجها إذا أتمت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً يسمح لها بالبقاء في بيت زوجها الهالك إلى نهاية السنة، وهذا حسب اختيارها ورغبتها فكانت هذه الوصية وصية رحمة مندوباً إليها، وهذا الذي رجحته في تفسير الآية فليتأمل.
229
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقوله فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن تقدم معناه، وهو أن للمعتدة إذا انقضت عدتها أن تتزين وتمس الطيب وتتعرض للخطاب لتتزوج. وما ختمت به الآية: ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ إشارة إلى أن هذه الوصية قد شرعها عزيز حكيم فهي متعينة التحقيق والتنفيذ.
وأما الآية الثانية (٢٤١) ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ ففيها حكم آخر وهو أن المطلقة المبني بها على مطلقها أن يمتعها بشيء من المال كثياب أو دابة أو خادمة، وعليه فالمطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر لها المتعة واجبة لها إذ ليس لها سواها، والمطلقة قبل البناء وقد سمى لها المهر فإن لها نصف المهر لا غير، والمطلقة بعد البناء وهي هذه المقصودة في هذه الآية لها متعة بالمعروف سواء قيل بالوجوب أو الاستحباب١؛ لأنها لها المهر كاملاً.
وقوله تعالى في الآية الثالثة (٢٤٢) ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ معناه كهذا التبيين لأحكام الطلاق والخلع والرضاع والعدد والمنع يبين تعالى لنا آياته المتضمنة أحكام شرعه لنعقلها ونعمل بها فنكمل عليها ونسعد في الحياتين الدنيا والآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الإبقاء على المعتدة عدة وفاة في بيت الهالك سنة إن طابت نفسها بذلك وذلك بعد انقضاء العدة الواجبة، فالزائد وهو سبعة أشهر وعشرون يوماً في هذه الوصية إلا أن جمهور أهل العلم يقولون بنسخ هذه الوصية، وعدم القول بالنسخ أولى، لاختلافهم في الناسخ لها٢.
٢- حق٣ المطلقة المدخول بها في المتعة بالمعروف
٣- منة الله على هذه الأمة ببيان الأحكام لها لتسعد بها وتكمل عليها، فلله الحمد والشكر.
١ تقدم مثل هذا البيان في الآيات السابقة تحت رقم صفحة ٢٢٧ من نهر الخير.
٢ رجح هذا القول شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، ومال إليه تلميذه: ابن القيم، ولم يفصح عنه.
٣ أي: تقرير حق المتعة للمدخول بها على سبيل السنية والاستحباب كما تقدمت في النهر.
230
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا١ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ : ألم ينته إلى علمك... فالرؤية قلبية والاستفهام للتعجب.
﴿أُلُوفٌ﴾ : جمع ألف، وهي صيغة كثرة فهم إذا عشرات الألوف.
﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ : الطريق الموصل إلى مرضاته وهو طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ومن ذلك جهاد الكفار والظالمين حتى لا تكون فتنة.
﴿يُقْرِضُ اللهَ﴾ : يقتطع شيئاً من ماله وينفقه في الجهاد لشراء السلاح وتسيير المجاهدين.
﴿يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ : يضيق ويبسط يوسع، يقبض ابتلاء، ويبسط امتحاناً.
معنى الآيات:
يخاطب الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: ألم ينته إلى علمك قصة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت وهم ألوف، وهم أهل مدينة من مدن٢ بني إسرائيل أصابها الله تعالى بمرض٣ الطاعون ففروا هاربين من الموت فأماتهم الله عن آخرهم ثم أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل عليه السلام، فهل أنجاهم فرارهم من الموت، فكذلك من يفر من القتال هل ينجيه فراره من
١ هذا الأمر أمر تكويني لا شرعي تعبدي.
٢ ذكر القرطبي أن اسم هذه القرية: "داوردان" وهي من نواحي شرق واسط بينهما فرسخ (معجم ياقوت).
٣ روى الترمذي وصححه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر الطاعون فقال: "بقيت رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها". قلت: هذا ما يعرف الآن بالحجر الصحي.
231
الموت؟ والجواب: لا، وإذاً فلم الفرار من الجهاد إذا تعين؟ وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم بإحيائها فضل من الله عليها عظيم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. وإذاً فقاتلوا أيها المسلمون في سبيل١ الله ولا تتأخروا متى دعيتم إلى الجهاد بالنفس والمال، واعلموا أن الله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وأعمالكم فاحذروه، ثم فتح تعالى باب الاكتتاب المالي للجهاد فقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي٢ يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ لا شائبة شرك فيه لأحد والنفس طيبة به فإن الله تعالى يضاعفه له أضعافاً كثيرة الدرهم بسبعمائة درهم فأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل إعلاء كلمة الله، ولا تخافوا الفقر فإن ربكم يقبض ويبسط: يضيق على العبد ابتلاء ويوسع امتحاناً، فمنعكم الإنفاق في سبيل الله لا يغير من تدبير الله شيئاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إذا نزل الوباء ببلد لا يجوز الخروج فراراً منه، بهذا ثبتت السنة.
٢- وجوب ذكر النعم وشكرها.
٣- وجوب القتال في سبيل الله إذا تعين.
٤- فضل الإنفاق في سبيل الله.
٥- بيان الحكمة في تضييق الله على العبد رزقه، وتوسيعه، وهو الابتلاء لأجل الصبر والامتحان لأجل الشكر، فيالخيبة من لم يصبر، عند التضييق عليه، ولم يشكر عند التوسعة له.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا
١ القتال في سبيل الله: هو ما كان لإعلاء كلمة الله تعالى.
٢ الاستفهام هنا للتخصيص والتهييج على الإنفاق في سبيل الله.
232
مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) }
شرح الكلمات:
﴿الْمَلأِ﴾ : أشراف الناس من أهل الحل والعقد بينهم إذا نظر المرء إليهم ملأوا عينه رواء وقلبه هيبة.
عسى: كلمة توقع وترج.
﴿كُتِبَ﴾ : فرض ولزم.
﴿مَلِكاً﴾ : يسوسهم في السلم والحرب.
﴿أَنَّى يَكُونُ﴾ : الاستفهام للإنكار بمعنى كيف يكون له الملك.
﴿اصْطَفَاهُ﴾ : فضله عليكم واختاره لكم.
بسطة في الجسم: أي طولاً زائداً يعلو به من عداه.
معنى الآيات:
لقد فرض الله تعالى على المؤمنين القتال، ودارت رحى المعارك بداية من معركة بدر وكان لابد من المال والرجال الأبطال الشجعان، فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر لتقوى الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معاً، ومن هنا لمطاردة الجبن والبخل وهما من شر الصفات في الرجال ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت
233
التاركين ديارهم لغيرهم كيف أماتهم الله ولم ينجيهم فرارهم، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم، فالفرار من الموت لا يجدي الصبر والصمود حتى النصر، ثم أمر تعالى المؤمنين بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتاباً مالياً وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به، ثم قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى تمنل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين الذين يحاربهم الأبيض والأحمر وبلا هوادة وعلى طول الزمن فقال تعالى وهو يخاطبهم في شخص نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ١ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يريد ألم ينته إلى علمك بإخبارنا إياك قول أشراف بني إسرائيل –بعد وفادة موسى- لنبي لهم ابعث لنا٢ ملكاً نقاتل في سبيل الله فنطرد أعداءنا من بلادنا ونسترد سيادتنا ونحكم شريعة ربنا. ونظراً إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف النبي أن لا يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال: ﴿هَلْ٣ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ بتعيين الملك القائد أن لا تقاتلوا!؟ فدفعتهم الحمية فقالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الحال أنا قد أخرجنا من ديارنا٤ وأبنائنا، وذلك أن العدو وهم البابليون لما غزوا فلسطين بعد أن فسق بنو إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنى والربا وعطلوا الكتاب وأعرضوا عن هدى أنبيائهم فسلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لاجئين. وما كان من نبي الله شمويل إلا أن بعث من تلك الجماعات الميتة موتاً معنوياً رجلاً منهم هو طالوت وقادهم فلما دنوا من المعركة جبنوا وتولى أكثرهم٥ منهزمين قبل القتال، وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا﴾.
١ هو شمويل بن بال بن علقمة، هكذا ذكره القرطبي في تفسيره، ويقال فيه: شمعون أيضاً ويعرف بابن العجوز؛ لأن أمه كانت عجوزاً فسألت الله الولد فوهبها إياه بعد عقم وكبر سن.
٢ ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ..﴾ فيه دليل على أن الجهاد لإعلاء كلمة الله لابد له من إمام تجتمع عليه كلمة الأمة وأيما جهاد يخلو من إمامة شرعية يقاتل تحت رايتها فعاقبتها خسر، وشاهد هذا حال المسلمين اليوم فقد قاتلوا الاستعمار تحت شعار الأحزاب فلما انتصروا خسروا كل شيء حتى دينهم.
٣ عسيتم: بكسر السين، وعسيتم بفتح السين، وهما قراءتان سبعيتان. الأولى لنافع، والثانية لحفص.
٤ أن الخروج من الوطن صعب على النفوس البشرية، وهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند خروجه من مكة قال: "إني أعلم أنك أحب البلاد إلى الله ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت"، ويقول: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أكثر".
٥ ولذا نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته عن تمني لقاء العدو فقال: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا".
234
هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٤٦) من هذا القصص أما الآية الثانية (٢٤٧) فقد تضمنت اعتراض ملأ بني إسرائيل على تعيين طالوت ملكاً عليهم بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة، وأنهم أحق بهذا المنصب منه، ورد عليهم حجتهم الباطلة بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ١ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. كان هذا رد شمويل على قول الملأ: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ٢وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾. وكأنهم لما دمغتهم الحجة وهي أن الله تعالى قد اختار طالوت وفضله عليهم بهذا الاختيار وأهله للولاية بما أعطاه وزاده من العلم وقوة الجسم، والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلامة الحواس وشجاعة العقل والقلب أقول كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بطالوت على عادة بني إسرائيل في التعنت طالبوا بآية تدل على أن الله حقاً اختاره لقيادتهم فقال لهم إلخ وهي الآية (٢٤٨) الآتية.
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿نَبِيُّهُمْ﴾ : شمويل.
﴿آيَةَ مُلْكِهِ﴾ : علامة أن الله تعالى ملكه عليكم.
﴿التَّابُوتُ﴾ : صندوق خشبي فيه بقية من آثار آل موسى وآل هارون.
﴿سَكِينَةٌ﴾ : طمأنينة القلب وهدوء نفسي.
١ في تقديم العلم على الجسم إشارة إلى أن إمامة الجاهل وقيادته لا خير فيها، والمراد من العلم علم الشرائع وهي تتناول السلم والحرب فلذا هو كامل الأهلية وحسبه اصطفاء الله تعالى واختياره له.
٢ لأن الملك في سبط يهوذا والنبوة في بني لاوي، وطالوت من سبط بنيامين فما هو من سبط الملك ولا في بني لاوي أهل النبوة.
235
﴿وَبَقِيَّةٌ﴾ : بقية الشيء ما تبقى منه بعد ذهاب أكثره وهي هنا رضاض من الألواح التي تكسرت، وعصا موسى وشيء من آثار أنبيائهم.
﴿تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ﴾ : من أرض العمالقة فتضعه بين يدي بني إسرائيل في مخيماتهم.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ﴾ : أي في إتيان التابوت الذي أخذه العدو بالقوة منكم في رده إليكم علامة قوية على اختيار الله تعالى لطالوت ملكاً عليكم.
معنى الآية الكريمة:
قد أصبح بشرح الكلمات معنى الآية واضحاً وخلاصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك الله تعالى لطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المخصوب منهم وهو رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر استمداد قوة معنوياتهم لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون؛ كرضاض الألواح، وعصا موسى ونعله وعمامة هارون وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه، فكان هذا التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها فإنهم إذا خرجوا للقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم، ومن هنا وهم يتحفزون للقتال جعل الله تعالى لهم إتيان١ التابوت آية على تمليك طالوت عليهم وفي نفس الوقت يحملونه معهم في قتالهم فتسكن٢ به قلوبهم وتهدأ نفوسهم فيقاتلون وينتصرون بإذن الله تعالى، "أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذا ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لنبي إسرائيل وساق الله أقداراً لأقدار، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل فمشت العربة فساقتها٣ الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني
١ نسبة الإتيان إلى التابوت أسلوب عربي، نحو: "عزم الأمر". و"جدار يريد أن ينقض" وال في التابوت للعهد فهو معروف لهم معهود عندهم، وقيل: طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعان، وهو من خشب تعمل منه الأمشاط يقال له الشمشار وعليه صفائح الذهب.
٢ السكينة: قال فيها مجاهد إنها حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينه شعاع إلى آخر ما قال، والصحيح ما في التفسير ويؤيده قول ابن عطية، إذ قال: "والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وأثارهم فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى إلى أنه صح عن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن السكينة تكون ملكاً كما في حديث مسلم: إذ كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط فغشيته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل الفرس منها فلما أصبح أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فلما قال: "تلك السكينة نزلت للقرآن". وتكون السكينة بمعناها: وهو السكون كما في حديث مسلم: "إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة". الحديث.
٣ هكذا تقول الروايات على أن حمل الملائكة كان يدفع العربة والسير بها إلى ديار بني إسرائيل ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها وهو أن الملائكة أخذت التابوت وحملته إلى بني إسرائيل وهو الظاهر.
236
إسرائيل" فكانت آية وأعظم آية، وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت، وباسم الله تعالى قادهم في الآية التالية (٢٤٩) بيان السير إلى ساحات القتال.
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي١ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ٢ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿فَصَلَ طَالُوتُ﴾ ٣: انفصل من الديار وخرج يريد العدو.
﴿بِالْجُنُودِ﴾ ٤: العسكر وتعداده –كما قيل: سبعون ألف مقاتل.
﴿مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ : مختبركم بنهر جار لعل هو نهر الأردن الآن.
﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ : لم يشرب منه.
﴿غُرْفَةً﴾ ٥: الغرفة بالفتح المرة، وبالضم الاسم من الاغتراف.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ : هم الذين لم يشربوا من النهر، أما من شرب فقد كفر وأشرك.
١ أي: ليس من أصحابي في هذه الحرب ولا من جندي الذين أقاتل بهم ولم يرد خروجه من الإيمان وهو كقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من غش فليس منا"، "ومن رغب عن سنتي فليس مني"، فإنه لا يعني كفره.
٢ الظن هنا: بمعنى اليقين، أو يكون الظن على بابه وليس هو في لقاء الله تعالى وإنما هو في الموت في هذه الحرب هل يقتلون فيلاقون الله أو لم يقتلوا.
٣ هل كان طالوت نبياً؟ يستدل على نبوته بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ وبقوله: ﴿إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ والله أعلم وعلى كل فهو عبد صالح.
٤ لفظ الجند وجمعه: جنود وأجناد، مشتق من الجند الذي هو غليظ الأرض، إذ الجنود يعتصم بعضهم ببعض فيقوون ويغلظون على عدوهم.
٥ الغرفة بالضمة: اسم لا يعرف كالأكلة، اسم لما يؤكل، والغرفة أيضاً: البناء العالي، والجمع: غرف.
237
﴿أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ﴾ : أي: يوم القيامة فهم يؤمنون بالبعث الآخر.
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ : كم للتكثير، والفئة: الجماعة يفيء بعضها إلى بعض.
﴿وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ : يسددهم ويعينهم وينصرهم.
معنى الآية:
إنه لما خرج طالوت بالجيش أخبرهم أن الله تعالى مختبرهم في سيرهم هذا إلى قتال عدوهم بنهر ينتهون إليه وهم في حر شديد وعطش شديد، ولم يأذن لهم في الشرب منه إلا ما كان من غرفة واحدة، فمن أطاع ولم يشرب فهو المؤمن، ومن عصى وشرب بغير المأذون به فهو الكافر ولما وصلوا إلى النهر شربوا منه يكرعون؛ كالبهائم إلا قليلاً منهم. وواصل طالوت السير فجاوز النهر وهو ومن معه، ولما كانوا على مقربة من جيش العدو وكان قرابة مائة ألف قال الكافرون والمنافقون: ﴿لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ فأعلنوا انهزامهم، وانصرفوا فارين، وقال المؤمنون الصادقون وهم الذين قال الله فيهم: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ كانت هذه الآية في بيان سير طالوت إلى العدو، وفي الآيتين التاليتين (٢٥٠و٢٥١) بيان المعركة وما انتهت إليه من نصر حاسم للمؤمنين الصادقين قال تعالى:
{وَلَمَّا بَرَزُوا١ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا٢ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ٣ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
١ البراز: المكان الفسيح في الأرض والمتسع منها والمتبرز الذاهب في البراز وكانوا يخرجون لقضاء الحاجة في البراز فأطلق لفظ: البراز على ما يحل فيه، وهو: العذرة.
٢ فيه مشروعية الدعاء في مثل هذا الموقف، وقد دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بدر حتى سقط ردائه، وكان إذا لاقى العدو قال: "اللهم بك أصول وبك أجول" ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم". وعلم أصحابه ذلك.
٣ الهزم: الكسر، ومنه قولهم: سقاء متهزم، إذا أثنى بعضه على بعض مع الجفاف، وقيل في زمزم: هزمه جبريل، أي: هزمها جبريل برجله، فتكسرت الأرض وخرج الماء.
238
بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) }
شرح الكلمات:
﴿بَرَزُوا لِجَالُوتَ﴾ : ظهروا في ميدان المعركة وجالوت قائد قوات العمالقة.
﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾ : أصبب الصبر في قلوبنا صباً حتى تمتلئ فلم يبقى للخوف والجزع موضع.
﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ : في أرض المعركة حتى لا ننهزم وذلك بتقوية قلوبنا والشد من عزائمنا.
﴿دَاوُدُ﴾ : هو نبي الله ورسوله داود، وكان يومئذ غير نبي١ ولا رسول في جيش طالوت.
﴿وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ : كان ذلك بعد موت شمويل النبي وموت طالوت الملك.
﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ : فعلمه صنعة الدروع، وفهم منطق الطير هو وولده سليمان عليهما السلام.
﴿لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ : وذلك بغلبة أهل الشرك على أهل التوحيد، وأهل الكفر على أهل الإيمان.
معنى الآيات:
لما التقى الجيشان جيش الإيمان وجيش الكفر طالب جالوت بالمبارزة فخرج٢ له داود من جيش طالوت فقتله والتحم الجيشان فنصر الله جيش طالوت وكان عدد أفراده ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً لا غير لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل بدر: "إنكم على عدة أصحاب طالوت" وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً فهزم الله جيش الباطل على كثرته ونصر جيش الحق على قلته. وهنا ظهر كوكب داود في الأفق بقتله رأس الشر جالوت فمن الله عليه بالنبوة والملك بعد موت
١ أي: لم ينبأ بعد ولم يرسل، إذ الرسل ينبئون ويرسلون غالباً في سن الأربعين.
٢ لم يقص الله تعالى علينا شيئاً عن كيفية قتل داود لجالوت لعدم الفائدة الكبيرة منها، وخلاصتها كما يلي: كان والد داود في جيش طالوت وله ستة أبناء معه، واسمه: إيشا، وكان داود أصغرهم وكان يرعى الغنم، وكان لنبيهم درع وأوحى الله أن من استوت عليه درعه هو الذي يقاتل جالوت فاستوت على داود وقبل البراز، قال طالوت: من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه ابنتي وكان داود قد مر بحجر فناداه أن خذني يا داود وقاتل بي فجعله في مخلاته واحتفظ به، فلما برز لجالوت جعل الحجر في مقلاعه وكان رامياً فرمى جالوت فقتله. وهذه بداية أمره عليه السلام.
239
كل من النبي شمويل والملك طالوت قال تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ١ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾.
وختم الله القصة ذات العبر والعظات العظيمة بقوله: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ بالجهاد٢ والقتال، لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي، ولكن الله تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضاً على بعض، ويدفع بعضاً ببعض منة منه وفضلاً. كما قال عز وجل: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
ثم التفت إلى رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له تقريراً لنبوته وعلو مكانته: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ﴾ التي تقدمت في هذا السياق ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الجهاد الشرعي يشترط له الإمام المبايع بيعة شرعية.
٢- يشترط للولاية الكفاءة وأهم خصائصها العلم، وسلامة العقل والبدن.
٣- جواز التبرك بآثار الأنبياء كعمامة النبي أو ثوبه أو نعله مثلاً.
٤- جواز اختبار أفراد الجيش لمعرفة مدى استعدادهم للقتال والصبر عليه.
٥- فضيلة الإيمان بلقاء الله، وفضيلة الصبر على طاعة الله خاصة في معارك الجهاد في سبيل الله.
٦- بيان الحكمة في مشروعية الجهاد، وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل الإيمان والعدل، لتنتظم الحياة ويعمر الكون.
١ فسر ابن كثير الحكمة بالنبوة لقرينة الملك، إذ جعله الله تعالى ملكاً نبياً؛ كولده سليمان عليهما السلام.
٢ وفي صحيح الحديث: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" وفيه معنى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض﴾، وأورد ابن كثير أحاديث في هذا المعنى وضعفها.
* في قول طالوت في رقم ١ من قتل جالوت: أشركه في ملكي وأزوجه ابنتي موجود نظيره في الإسلام. إذ للإمام أن يقول: من جاءني برأس فلان فله كذا، ومن دخل حصن كذا فله كذا وكذا.
240
الجزء الثالث
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ١ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ : أولئك الرسل الذين قص الله تعالى على رسوله بعضاً منهم وأخبره أنه منهم في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. في الآية قبل هذه.
﴿مَنْ كَلَّمَ اللهُ﴾ : كموسى عليه السلام.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ : وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث فضله٢ تفضيلاً على سائر الرسل.
﴿الْبَيِّنَاتِ﴾ : المعجزات الدالة على صدق عيسى في نبوته ورسالته.
﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ : جبريل عليه السلام كان يقف دائماً إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه الله تعالى إليه.
﴿اقْتَتَلُوا﴾ : قتل بعضهم بعضاً.
﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ : النفقة الواجبة وهي الزكاة، ونفقة التطوع المستحبة.
١ روى أحمد عن أبي ذر أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: أي الأنبياء كان أول؟ قال: "آدم" قلت: رسول ونبي كان؟ قال: "نعم نبي مكلم"، قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: "ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً".
٢ شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر". ومع هذا زيادة في كماله قال: "لا تفضلوني على موسى"، وقال على يونس بن متى: "فصلى الله عليّه ما أرفع مقامه".
241
﴿لا بَيْعٌ فِيهِ﴾ ١: لا يشتري أحد نفسه بمال يدفعه فداء لنفسه من العذاب.
﴿وَلا خُلَّةٌ﴾ : أي: صداقة تنفع صاحبها.
﴿وَلا شَفَاعَةٌ﴾ : تقبل إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ : بمنع الزكاة والحقوق الواجبة لله تعالى ولعباده هم الظالمون.
معنى الآيتين:
بعد أن قص الله تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم ملكاً يقودهم إلى الجهاد، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثاً من غير الممكن أن يعلمها أمي مثل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدون ما يتلقاها وحياً يوحيه الله تعالى إليه وختم القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، أخبر الله تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض، منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه السلام، ومنهم من فضله بالخلة كإبراهيم عليه السلام، ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم من آتاه الملك٢ والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه السلام، ومنهم من آتاه الملك والحكمة وسخر له الجن وعلمه منطق الطير كسليمان عليه السلام، ومنهم من آتاه البينات وأيده بروح القدس وهو عيسى عليه السلام. فقال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ٣ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ كنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ فضله بعموم رسالته وبختم النبوات بنبوته، وبتفضيل أمته، وبإدخاله الجنة في حياته قبل مماته، وبتكليمه ومناجاته مع ما خصه من الشفاعة يوم القيامة. ثم أخبر تعالى أنه لو يشاء هداية الناس لهداهم فلم يختلفوا بعد رسلهم ولم يقتتلوا من بعد ما جائتهم البينات وذلك لعظيم قدرته، وحرية إرادته فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. هذا بعض ما أفادته الآية الأولى (٢٥٣) أما الآية الثانية (٢٥٤) فقد نادى الله تعالى عباده المؤمنين وأمرهم بالإنفاق في سبيل الله تقرباً إليه وتزوداً للقائه قبل يوم القيامة حيث لا
١ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: ﴿لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ﴾ بالنصب من غير تنوين. وأنشد حسان، وهو شاهد هذه القراءة:
ألا طعان ولا فرسان عادية ألا تجشؤكم عند التنانير
يهجو ناساً فيصفهم بالقعود عن القتال وملازمة التنور للطعام.
٢ الحكمة هنا: هي النبوة كما تقدم عن ابن كثير في: "نهر الخير".
٣ هل يجوز للمسلم أن يقول مثل موسى أفضل من هارون، أو إبراهيم أفضل من عيسى مثلاً؟. الجواب: لا. لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله"، أي: لا تقولون فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. إذ نحن لا نقدر على التفضيل، وإنما يقدر عليه الله وحده، إذ هو يهب ما يشاء لمن يشاء.
242
فداء ببيع وشراء، ولا صداقة تجدي ولا شفاعة تنفع، والكافرون بنعم الله وشرائعه هم الظالمون المستوجبون١ للعذاب والحرمان والخسران.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تفاضل الرسل فيما بينهم بحسب جهادهم وصبرهم وما أهلهم الله تعالى له من الكمال.
٢- صفة الكلام لله تعالى حيث كلم موسى في الطور، وكلم محمداً في الملكوت الأعلى.
٣- الكفر والإيمان والهداية والضلال، والحرب والسلم كل ذلك تبع لمشيئته تعالى وحكمته.
٤- ذم الاختلاف في الدين وأنه مصدر شقاء وعذاب.
٥- وجوب الإنفاق في سبيل الله مما رزق الله تعالى عبده.
٦- التحذير من الغفلة والأخذ بأسباب النجاة يوم القيامة حيث لا فداء ولا خلة تنفع ولا شفاعة ومن أقوى الأسباب الإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال تقرباً إلى الله تعالى في الجهاد وغيره.
﴿اللهُ لا ٢إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) ﴾
١ قال القرطبي عند هذه الآية: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق المال، قال: وقال عطاء ابن دينار: الحمد لله الذي قال: الكافرون هم الظالمون، ولم يقل الظالمون هم الكافرون.
٢ صح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يا أبا المنذر –أبي بن كعب- أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قال: قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر". وروى أحمد: "أن آية الكرسي تعدل ربع القرآن وأن الزلزلة والكافرون والنصر كل واحدة تعدل ربع القرآن، وأن الصمد تعدل ثلث القرآن".
243
شرح الكلمات:
﴿اللهُ﴾ : علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ : الإله المعبود، ولا معبود بحق إلا الله، إذ هو الخالق الرازق المدبر بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، وما عداه من الآلهة فعبادتها بدون حق فهي باطلة.
﴿الْحَيُّ﴾ ١: ذو الحياة العظيمة التي لا تكون لغيره تعالى وهي مستلزمة للقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام.
﴿الْقَيُّومُ﴾ ٢: القائم بتدبير الملكوت كله علويه وسفليه، القائم على كل نفس بما كسبت.
السِّنة: النعاس يسبق النوم.
﴿كُرْسِيُّهُ﴾ : الكرسي: موضع القدمين، ولا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
﴿يَؤُودُهُ﴾ : يثقله ويشق عليه.
معنى الآية الكريمة:
لما أخبر تعالى عن يوم القيامة وأنه يوم لا بيع فيه ولا شفاعة وأن الكافرين هم الظالمون، أخبر عن جلاله وكماله وعظيم سلطانه وأنه هو المعبود بحق وأن عبادته هي التي تنجي من أهوال يوم القيامة فقال: ﴿اللهُ لا ٣إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ : أي: أنه الله المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ الدائم الحياة التي لم تسبق بموت ولم يطرأ عليها موت. القيوم: العظيم القيومية على كل شيء، لولا قيوميته على الخلائق ما استقام من أمر العوالم شيء ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ٤﴾ : إذ النعاس والنوم من صفات النقص وهو تعالى ذو الكمال المطلق. وهذه الجملة برهان على الجملة قبلها، إذ من ينعس وينام لا يتأتى له القيومية على
١ الحي: أصلها الحيي؛ كالحذر فحذفت كسرة الياء الأولى فسكنت وأدغمت في الثانية فصارت الحي، والقيوم أصلها القيووم، فقلبت الواو الأولى ياء وأدغمت في الياء فصارت القيوم.
٢ روى الترمذي وقال حديث حسن صحيح: "إن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " في هاتين الآيتين: ﴿اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، و ﴿الم اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، إن فيهما اسم الله الأعظم " ورواه أبو داود، أيضاً.
٣ هذه آية الكرسي قال فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" رواه النسائي وغيره.
٤ ورد في الصحيح عن أبي موسى قال: "قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
244
الخلائق ولا يسعها حفظاً ورزقاً وتدبيراً. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ : خلقاً وملكاً وتصرفاً، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ : ينفي تعالى وهو الذي له ما في السموات وما في الأرض ينفي أن يشفع عنده في الدنيا أو في الآخرة أحد كائن من كان بدون أن يأذن له في الشفاعة. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ١﴾ : لكمال عجزهم. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ٢ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ : لكمال ذاته. ﴿وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ : ولا يثقله أو يشق عليه حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ : العلي الذي ليس فوقه شيء والقاهر الذي لا يغلبه شيء، العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
١- أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى اشتملت على ثمانية عشر إسماً لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر، وكلماتها خمسون كلمة وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.
٢- تستحب قراءتها بعد الصلاة المكتوبة، وعند النوم، وفي البيوت لطرد الشيطان.
﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧) ﴾
١ هذا كناية عن إحاطة علم الله بكل شيء، إذ لا يعزب على علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وهو بكل شيء عليم، وأما الخلق فإنهم لا يعلمون إلا ما شاء أن يعلمهم إياه.
٢ أورد ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره" رواه الحاكم موقوفاً وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
245
شرح الكلمات:
﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ : لا يكره المرء على الدخول في الدين١، وإنما يعتنقه بإرادته واختياره.
﴿الرُّشْدُ﴾ ٢: الهدى الموصل إلى الإسعاد والإكمال.
﴿الْغَيِّ﴾ : الضلال المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران.
﴿بِالطَّاغُوتِ﴾ ٣: كل ما صرف عن عبادة الله تعالى من إنسان أو شيطان أو غيرهما.
﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ ٤: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
﴿لا انْفِصَامَ لَهَا﴾ : لا تنفك ولا تنحل بحال من الأحوال.
﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ : مُتوليهم بحفظه ونصره وتوفيقه.
﴿الظُّلُمَاتِ﴾ : ظلمات الجهل والكفر.
﴿النُّورِ﴾ : نور الإيمان والعلم.
﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ : المتولون لهم الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الأوثان فأخرجوهم من الإيمان إلى الكفر ومن العلم إلى الجهل.
معنى الآيتين:
يخبر الله تعالى بعد ذكر صفات جلاله وكماله في آية الكرسي أنه لا إكراه في دينه، وذلك حين أراد بعض الأنصار إكراه من تهود أو تنصر من أولادهم على الدخول في دين الإسلام، ولذا فإن أهل الكتابين ومن شابههم تؤخذ منهم الجزية ويقرون على دينهم فلا يخرجون منه إلا باختيارهم وإرادتهم الحرة، أما الوثنيون والذين لا دين لهم سوى الشرك والكفر فيقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام إنقاذاً لهم من الجهل والكفر وما لازمهم من الضلال والشقاء.
ثم أخبر تعالى أنه بإنزال كتابه وبعثه رسوله ونصر أولياءه قد تبين الهدى من الضلال والحق من الباطل، وعليه فمن يكفر بالطاغوت وهو الشيطان الذي زين عبادة الأصنام ويؤمن بالله فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد استمسك٥ من الدين بأمتن عروة وأوثقها، ومن يصر على الكفر بالله والإيمان بالطاغوت فقد تمسك بأوهى من خيط العنكبوت. والله
١ الإكراه: الحمل على فعل المكروه، والدين هنا: الإسلام، وجملة "لا إكراه" خبر بمعنى الإنشاء.
٢ يقال: رشد يرشد رشداً، ورشد يرشد رشداً، إذا اهتدى واستقام، وغوى ضده، وألغي مصدر من غوي يغوي، إذ ضل في معتقد أو رأي.
٣ كان العرب في الجاهلية يسمون الصنم المعبود: الطاغية، وفي الحديث: "كان يهلون لمناة الطاغية".
٤ الوثقى: مؤنث الأوثق، وجمع الوثقى: الوثائق، مثل: الفضلى، والفضل.
٥ السين والتاء في استمسك للتأكيد كما في استجاب بمعنى: أجاب.
246
سميع لأقوال عباده عليم بنياتهم وخفيات أعمالهم وسيجزي كلاً بكسبه. ثم أخبر تعالى أنه ولي عباده المؤمنين فهو يخرجهم من ظلمات١ الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان فيكملون ويسعدون، وأن الكافرين أوليائهم الطاغون من شياطين الجن والإنس الذين حسنوا لهم الباطل والشرور، وزينوا لهم الكفر والفسوق والعصيان، فأخرجوهم بذلك من النور إلى الظلمات فأهلوهم لدخول النار فكانوا أصحابها الخالدين فيها.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- لا يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول٢ في الإسلام إلا باختيارهم وتقبل منهم الجزية فيقرون على دينهم.
٢- الإسلام٣ كله رشد، وما عداه ضلال وباطل.
٣- التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل.
٤- معنى لا إله إلا الله، وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغون.
٥- ولاية الله تعالى تنال بالإيمان والتقوى.
٦- نصرة الله تعالى ورعايته لأولياءه دون أعداءه.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) ﴾
١ وحد تعالى لفظ النور، وجمع لفظ الظلمة، لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة.
٢ هل هذه الآية: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ منسوخة بآية السيف؟ الراجح أنها محكمة غير منسوخة هل تؤخذ الجزية من غير أهل الكتاب ومن لهم شبهة كتاب؟ أما كفار قريش، الإجماع على أن لا تؤخذ منهم الجزية، ومن عداهم مذهب مالك يرى أخذ الجزية منهم، والإبقاء عليهم، ولعل هذا إن دعت الضرورة إلى ذلك، وما ذكرته في التفسير أصح المذاهب وأعدلها.
٣ جاء في صحيح البخاري ما ملخصه: أن عبد الله بن سلام رأى رؤيا كأنه في دوحة خضراء وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة.." الحديث وفسر له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الروضة بالإسلام، والعمود عمود الإسلام، والعروة هي العروة الوثقى". أي أنت على الإسلام حتى تموت. فكان مبشراً بالجنة رضي الله عنه.
247
شرح الكلمات:
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ : ألم ينته إلى علمك يا رسولنا، والاستفهام يفيد التعجب من الطاغية المحاج لإبراهيم.
﴿حَاجَّ﴾ : جادل ومارى وخاصم.
﴿فِي رَبِّهِ﴾ : في شأن ربه من وجوده تعالى وربوبيته وألوهيته للخلق كلهم.
﴿آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ١﴾ : أعطاه الحكم والسيادة على أهل بلاده وديار قومهم.
﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ : هو أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان هذا الحجاج قبل هجرة إبراهيم إلى أرض الشام.
﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ : انقطع عن الحجة متحيراً مدهوشاً ذاك الطاغية الكافر وهو النمرود البابلي.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر الله تعالى ولايته لأولياءه وأنه مؤيدهم وناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ذكر مثالاً لذلك وهو محاجة النمرود٢ البابلي لإبراهيم عليه السلام فقال تعالى مخاطباً رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ أي: لم ينته إلى علمك حجاج ذاك الطاغية الذي بطرته نعمة الملك الذي آتيناه امتحاناً له فكفر وادعى الربوبية وحاج خليلنا فبين إنه لأمر عجب. إذ قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت، وأنت لا تحيي ولا تميت، فقال أنا أحيي٣ وأميت، فرد عليه إبراهيم حجته قائلاً: ربي يأتي بالشمس من المشرق فآت بها أنت من المغرب، فاندهش وتحير وانقطع وأيد الله وليه إبراهيم فانتصر٤، فهذا مثال لإخراج الله تعالى أولياؤه من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
١ إذ هو ملك بابل وقيل أنه أحد الأربعة الذين ملكوا المعمورة وهم مسلمان، وكافران، فالمسلمان: سليمان، وذو القرنين عليهما السلام. والكافران: النمرود، وبختنصر عليهما لعائن الرحمن.
٢ يقال له النمرود بن كؤتن بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام، وفي الآية دليل على جواز إطلاق اسم الملك على الحاكم الكافر ولما حارب الله تعالى أهلكه مع جيشه بالبعوض إذ فتح عليهم باباً من البعوض فأكلت الجيش فلم تتركه إلا عظاماً، وأما النمرود فقد دخلت بعوضة في دماغه فصار يضرب على دماغه حتى هلك بذلك.
٣ يريد أنه يحيي من أراد حياته، ويميت من أراد موته، وهذا مجرد تمويه وسفسطة فلذا عدل إبراهيم عنها وألزمه الحجة إن كان صادقاً في دعواه بالإتيان بالشمس من المغرب كما يأتي بها الله من المشرق.
٤ يذكر أهل التفسير هنا أن إبراهيم ذهب يمتار من عند الملك كغيره فجادله الملك ومنعه الميرة فعاد بلا شيء وفي أثناء طريقه وجد رملاً أحمر فملأ منه غرارتين حتى لا يفاجئ أهله بالخيبة ولما وصل ونام قامت زوجته سارة ففتحت الغرارة فوجدتها دقيقاً من أجود الدقيق الحواري.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- النعم تبطر صاحبها إذا حرم ولاية الله تعالى.
٢- نصرة الله لأولياءه وإلهامهم الحجة لخصم أعدائهم.
٣-إذا ظلم العبد ووالى الظلم حتى أصبح وصفاً له يحرم هداية الله تعالى فلا يهتدي أبداً.
٤- جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقيدة الصحيحة السليمة.
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿قَرْيَةٍ﴾ ١: مدينة لم يذكر الله تعالى اسمها فلا يبحث عنها لعدم جدوى معرفتها.
﴿خَاوِيَةٌ﴾ : فارغة من سكانها ساقطة٢ عروشها على مبانيها وجدرانها.
﴿أَنَّى يُحْيِي﴾ : كيف يحيي٣.
١ سميت القرية قرية: لاجتماع الناس فيها، مأخوذ من قريت الماء إذا جمعته، وهي في القرآن، المدينة الكبيرة، والمراد بها هنا بيت المقدس، وقد خربها الطاغية بختنصر ثم بعد سبعين سنة أعيد بناؤها كما كانت.
٢ العريش: سقف البيت، وجمعه: عروش، وهو كل ما يهيأ ليظل أو يكن من ينزل تحته، ومنه عريش الدالية، أي شجرة العنب، إذ يعرش لها عريش تمد عليه أغصانها لتتدلى منه عناقيدها.
٣ اختلف فيمن هو المار على القرية، هل هو عزيز أو إرميا، أو الخضر، وأرجح الأقوال إنه عزيز، وما دام الله ورسوله لم يذكرا اسمه فلا داعي إلى ذكره، والتعرف إليه، ولذا لم أذكره في التفسير.
249
﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ : بعد خوائها وسقوطها على عروشها.
﴿لَبِثْتَ﴾ : مكثت وأقمت.
﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ١﴾ : لم يتغير بمر السنين عليه.
﴿آيَةً﴾ : علامة على قدرة الله على بعث الناس أحياء يوم القيامة.
﴿نُنْشِزُهَا﴾ : في قراءة ورش: ننشرها، بمعنى: نحييها بعد موتها. وننشزها: نرفعها ونجمعها لتكون حماراً كما كانت.
معنى الآية:
هذا مثل آخر معطوف على الأول الذي تجلت فيه على حقيقتها ولاية الله لإبراهيم حيث أيده بالحجة القاطعة ونصره على عدوه النمرود، قال تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ فارغة من سكانها ساقطة سقوفها على مبانيها فقال المار بها مستبعداً حياتها مرة ثانية: كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها؟ فأماته الله مائة عام ثم أحياه، وسأله: كم لبتث؟ قال: حسب عادة من نام في يوم واستيقظ فيه، فإنه يرى أنه نام يوماً أو بعض يوم، فأجابه مصوباً له فهمه: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾، ولكي تقتنع بما أخبرت به، فانظر إلى طعامك وكان سلة من تين وشرابك وكان عصيراً من عنب فإنه لم يتغير طعمه ولا لونه، وقد مر عليه قرن من الزمن، وانظر إلى حمارك فإنه هلك بمرور الزمن ولم يبقى منه إلا عظامه تلوح بيضاء فهذا دليل قاطع على موته وفناؤه لمرور مائة سنة عليه، وانظر إلى العظام كيف نجمعها ونكسوها لحماً فإذا هي حمارك الذي كنت تركبه من مائة سنة، ونمت وتركته إلى جانبك يرتع، وتجلت قدرة الله تعالى في عدم تغير الذي جرت العادة أنه يتغير في ظرف يوم واحد، وهو سلة التين وشراب العصير. وفي تغير الذي جرت العادة أنه لا يتغير إلا في عشرات الأعوام، وهو الحمار. كما هي ظاهرة في موت صاحبهما وحياته بعد لبثه على وجه الأرض ميتاً لم يعثر عليه أحد طيلة مائة عام. وقال له الرب تبارك وتعالى بعد أن وقفه على مظاهر قدرته فعلنا هذا بك لنريك٢ قدرتنا على إحياء القرية متى أردنا إحياءها ولنجعلك في قصتك هذه آية للناس،
١ مشتق من السنة لأن مر السنين يوجب التغير فتسنه تغير بمر السنين عليه، مثل تحجر الطين صار حجراً بمرور الأيام أو الساعات عليه.
٢ قوله تعالى: ﴿وَلِنَجْعَلَكَ﴾ قيل: الواو مقحمة، والأًصل: لنجعلك، وعلى أصالة الواو وعدم إقحامها يكون المعنى، أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ولنجعلك آية للناس، فالواو عاطفة إذا وهو وظيفتها أي: العطف.
250
تهديهم إلى الإيمان بنا وتوحيدنا في عبادتنا وقدرتنا على البعث الآخر الذي لا ريب فيه لتجزى كل نفس بما كسبت، وأخيراً لما لاحت أنوار ولاية الله في قلب هذا العبد المؤمن الذي أثار تعجبه خراب القرية فاستبعد حياتها قال: أعلم١ أن الله على كل شيء قدير، فهذا مصداق قوله تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ٢ إِلَى النُّورِ﴾
هداية الآية
من هداية الآية:
١- جواز طروء استبعاد ما يؤمن به العبد أنه حق وكائن، كما استبعد هذا المؤمن المار بالقرية حياة القرية مرة أخرى بعد ما شاهد من خرابها وخوائها.
٢- عظيم قدرة الله تعالى بحيث لا يعجزه تعالى شيء وهو على كل شيء قدير.
٣- ثبوت البعث الآخر وتقريره.
٤- ولاية الله تعالى للعبد المؤمن التقي تجلت في إذهاب الظلمة التي ظهرت على قلب المؤمن باستبعاده قدرة الله على إحياء القرية، فأراه الله تعالى من مظاهر قدرته ما صرح في قوله: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) ﴾
١ وقرئ: أعلم، والقائل له حينئذ الله تبارك وتعالى أو ملك من ملائكته، أو هو خاطب نفسه قائلاً لها اعلمي يا نفسي هذا العلم اليقيني الذي ما كنت تعلمينه.
٢ لما قرر تعالى ولايته للذين آمنوا وإنه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ذكر لذلك ثلاثة أحداث تجلى في كل واحد منها مصداق ما أخبر به، فالأول محاجة النمرود لإبراهيم وإعطاءه تعالى نور العلم الذي أسكت به المجادل الكافر النمرود. والثاني: استبعاد عزيز إحياء الله مدينة القدس بعد تدميرها وتخريبها فأراه الله من آياته ما أذهب عنه ما وجده في نفسه من استبعاد حياة تلك المدينة، والثالث: طلب إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وقد أراه ذلك فأذهب به ما وجده إبراهيم من التطلع إلى معرفة ذلك.
251
شرح الكلمات:
﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ : هو خليل الرحمن أبو الأنبياء عليه السلام.
﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ : يسكن ويهدأ من التطلع والتشوق إلى الكيفية.
﴿فَصُرْهُنَّ١ إِلَيْكَ﴾ : أملهن واضممهن إليك وقطعهن أجزاء.
﴿سَعْياً﴾ : مشياً سريعاً وطيراناً.
﴿عَزِيزٌ﴾ : غالب لا يمتنع عنه ولا منه شيء أراده بحال من الأحوال.
﴿حَكِيمٌ﴾ : لا يخلق عبثاً ولا يوجد لغير حكمة، ولا يضع شيئاً في غير موضعه اللائق به.
معنى الآية الكريمة:
هذا مثل ثالث يوجه إلى الرسول والمؤمنين حيث تتجلى لهم ولايته تعالى لعباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى مجرد ظلمة باستبعاد شيء عن قدرة الله تعالى، أو تطلع إلى كيفية إيجاد شيء ومعرفة صورته. فقال تعالى: اذكروا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي٢ الْمَوْتَى﴾. سأل إبراهيم ربه أن يريه طريقة الإحياء كيف تتم هل هي جارية على نواميس معينة أم هي مجرد قدرة يقول صاحبها للشيء كن فيكون، فسأله ربه وهو عليم به أتقول الذي تقول ولن تؤمن؟ قال إبراهيم: بلى أنا مؤمن بأنك على كل شيء قدير، ولكن أريد أن أرى صورة لذلك يطمئن لها قلبي ويسكن من التطلع والتشوق إلى معرفة المجهول لدي. فأمره تعالى إجابه له لأنه وليه فلم يشأ أن يتركه يتطلع إلى كيفية إحياء ربه الموتى، أمره بأخذ أربعة طيور٣ وذبحها وتقطيعها أجزاء وخلطها مع بعضها بعضاً ثم وضعها على أربعة جبال٤ على كل جبل ربع الأجزاء المخلوطة، ففعل، ثم أخذ برأس كل طير على حدة
١ فسر: ﴿صرهن﴾ بأملهن وقطعهن كما في التفسير، والكل صحيح، إذ إما إمالتهن أولاً ثم تقطيعهن وشاهد أملهن في قول العرب: رجل أصور إذا كان مائل العنق. وامرأة صوراء، وجمع صور؛ كسوداء وسود، وعليه قول الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور
وشاهد قطعهن قوله: صار الشيء يصوره إذا قطعه، ومنه قول الشاعر:
بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها
٢ هذا السؤال والله ما كان عن شك من إبراهيم أبداً، وكيف وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، أي لو شك إبراهيم لكنا نحن أحرى بذلك لضعفنا ولكن ما شك إبراهيم، وكل ما طلبه زيادة اليقين برؤية كيفية الإحياء كيف تتم، فسلام على إبراهيم الخليل وعلى محمد في العالمين
٣ يروى عن ابن عباس وبعض علماء السلف إنها كانت حمامة وديكاً وغراباً وطاووساً وليس في معرفتها كبير فائدة فلذا لم أذكرها في التفسير.
٤ الجبل: قطعة عظيمة من الأرض أرسى الله تعالى بها الأرض حتى لا تضطرب وتتحرك ومنافعها كثيرة منها: أن بعض الناس يتخذونها حصوناً مانعة من وصول العدو إليهم. قال السموأل:
لنا جبل يحتله من نجيره منيع يرد الطرف وهو كليل
وهو أحد جبال طيء شمال الحجاز.
252
ودعاه فاجتمعت أجزائه المفرقة المختلطة بأجزاء غيره وجاءه يسعى فقدم له رأسه فالتصق به وطار في السماء وإبراهيم ينظر ويشاهد مظاهر قدرة ربه العزيز الحكيم. سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
١- غريزة١ الإنسان في حب معرفة المجهول والتطلع إليه.
٢- ولاية الله تعالى لإبراهيم حيث أراه من آياته ما اطمئن به قلبه وسكنت له نفسه.
٣- ثبوت٢ عقيدة الحياة الثانية ببعث الخلائق أحياء بالحساب والجزاء.
٤- زيادة الإيمان واليقين كلما نظر العبد إلى آيات الله الكونية، أو قرأ وتدبر آيات الله القرآنية.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) ﴾
١ قالت العلماء: من غرائز الإنسان التي جبل عليها حبه معرفة المجهول والآية أكبر شاهد، إذ الخليل أحب أن يعرف كيفية إحياء الموتى.
٢ إذ رؤية إبراهيم لكيفية إحياء الله تعالى الموتى من الطير أكبر دليل على قدرة الله تعالى على إحياء العباد يوم القيامة ومن هداية هذه الآية إراءه المشركين المنكرين للبعث الآخر هذه الحادثة العجيبة كأنهم يشاهدونها فتقوم بذلك الحجة عليهم وعلى كل منكر للبعث والحياة الآخرة.
253
شرح الكلمات:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ١﴾ : صفتهم المستحسنة العجيبة.
﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ : كل ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى من الإيمان وصالح الأعمال.
﴿يُضَاعِفُ﴾ : يزيد ويكثر حتى يكون الشيء أضعاف ما كان.
﴿مَنّاً وَلا أَذىً﴾ : المن٢: ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه على الوجه التفضل عليه. والأذى: التطاول على المتصدق عليه وإذلاله بالكلمة النابية أو التي تمس كرامته وتحط من شرفه.
﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ : كلام طيب يقال للسائل المحتاج، نحو: الله يرزقنا وإياكم، الله كريم. الله يفتح علينا وعليك.
﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ : ستر على الفقير بعدم إظهار فقره، والعفو عن سوء خلقه إن كان كذلك.
﴿غَنِيٌّ﴾ : غني ذاتي لا يفتقر معه إلى شيء أبداً.
﴿حَلِيمٌ﴾ : لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويصفح.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مرغباً في الجهاد بالمال لتقدمه على الجهاد بالنفس؛ لأن العدة أولاً والرجال ثانياً، أن مثل ما ينفقه المؤمن في سبيل الله وهو هنا الجهاد، في نماءه وبركته وتضاعفه، كمثل حبة٣ بر بذرت في أرض طيبة فأنبتت سبع٤ سنابل في كل سنبلة مائة حبة فأثمرت الحبة الواحدة سبعمائة حبة، وهكذا الدرهم الواحد ينفقه المؤمن في سبيل الله يضاعف إلى سبعمائة
١ ذكر القرطبي: أنه روي أن هذه الآية: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، إذ عثمان جهز جيش العسرة في غزوة تبوك، وعبد الرحمن خرج بنصف ماله وهو أربعة آلاف، فدعا له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت".
٢ المن: من كبائر الذنوب، إذ صاحبه أحد ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "في صحيح مسلم" والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة.
٣ الحب: اسم جنس لكل ما يزرعه الإنسان ويقتاته وأكثر ما يراد بالحب: البر، ومنه قول المتلمس:
أليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس
والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: "فينبتون كما تنب الحبة في حميل السيل" وحبة القلب سويدائه، والحب معروف ضد الكره.
٤ في الآية: دليل على مشروعية الزراعة، وهي واجب كفائي وورد فيها: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض". رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها.
254
ضعف، وقد يضاعف إلى أكثر لقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٦١)، وأما الآية الثانية (٢٦٢) فهي تحمل بشرى الله تعالى للمنفقين في سبيله الذين لا يتبعون ما أنفقوه مناً به ولا أذى لمن أنفقوه عليه بأن لا خوف عليهم فيما يستقبلونه من حياتهم ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم ويخلفون. وهذه هي السعادة حيث خلت حياتهم من الخوف والحزن حل محلها الأمن والسرور. وأخيراً الآية الثالثة (٢٦٣) وهي: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ... ﴾ فإن الله تعالى يخبر بأن الكلمة الطيبة تقال للفقير ينشرح لها صدره وتطيب لها نفسه خير من مال يعطاه صدقة عليه يهان به ويذل فيشعر بمرارة الفقر أكثر، وألم الحاجة أشد، ومغفرة وستر لحالته وعدم فضيحته أو عفو عن سوء خلقه؛ كإلحاحه في المسألة، خير أيضاً من صدقة يفضح١ به ويعاتب ويشنع عليه بها، وقوله في آخر الآية: ﴿وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ أي: مستغن عن الخلق حليم لا يعاجل بالعقوبة من يخالف أمره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضل النفقة في الجهاد وإنها أفضل النفقات.
٢- فضل الصدقات وعواقبها الحميدة.
٣- حرمة المن بالصدقة وفي الحديث:
"ثلاثة لا يدخلون الجنة " وذكر من بينهم المنان.
٤- الرد الجميل على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه، وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير من الصدقة يتبعها أذى، وفي الحديث: "الكلمة الطيبة صدقة".
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ
١ وصح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "الكلمة الطيبة صدقة" وقوله: "ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"، قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه ولا منان".
255
تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤) }
شرح الكلمات:
إبطال الصدقة١: حرمان من ثوابها.
﴿بِالْمَنِّ٢ وَالأَذَى﴾ : تقدم معناهما.
﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾ : مراءاة لهم ليكسب محمدتهم، أو يدفع مذمتهم.
﴿صَفْوَانٍ﴾ ٣: حجر أملس.
﴿وَابِلٌ﴾ ٤: مطر شديد.
﴿صَلْداً﴾ : أملس ليس عليه شيء من التراب.
﴿لا يَقْدِرُونَ﴾ : يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة.
معنى الآية:
بعد أن رغب تعالى في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أحرها وهو المن والأذى نادى عباده المؤمنين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... ﴾ ناهياً عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها فقال: ﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى﴾ مشبهاً حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلانها فقال: ﴿وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ٥ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ٦ الآخِرِ﴾ وضرب مثلاً لبطلان صدقات من يتبع صدقاته مناً أو أذى أو يرائي بها الناس أو هو كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فقال: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾
١ قالت العلماء: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها إنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل، وهو كما قالوا: لأن الله تعالى قال: ﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى﴾ وإبطالها هو عدم قبولها وإذا لم تقبل فلا يعطي صاحبها ثواباً عليها وهو معنى لا تقبل.
٢ يقال طعم الآلاء أحلى من المن، وهو أمرّ من الآلاء عند المن. الآلاء الأول: النعم، والثاني: شجر من الورق. والمن الأول: شيء يشبه العسل، والثاني: تذكير المنعم عليه بالنعمة.
٣ الصفوان: واحدة صفوانه.
٤ يقال: وبلت السماء تبل والأرض مبولة، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً﴾ أي: شديداً.
٥ إن الكافر قد يعطي المال ولكن ليراه الناس فيمدحوه ويشكروه وهذا عمل أهل الجاهلية الماضية والحاضرة أيضاً.
٦ أي: إنفاقاً؛ كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس طلباً لمحمدتهم أو خوفاً من مذمتهم.
256
أي حجر أملس عليه تراب١، ﴿فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ أي: نزل عليه مطر شديد فأزال التراب عنه فتركه أملس عارياً ليس عليه شيء، فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها شيء ينتفع به يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أي: مما تصدقوا به، ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ٢ الْكَافِرِينَ﴾ إلى ما يسعدهم ويكملهم لأجل كفرانهم به تعالى.
هداية الآية:
من هداية الآية:
١- حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها.
٢- بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما.
٣- حرمة الرياء وهي من الشرك لحديث: "وإياكم والرياء فإنه الشرك الأصغر".
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) ﴾
١ التراب على الصفوان: عندما يراه الفلاح يعجبه لنعومة التربة وصفائها فيبذر فيه رجاء أن يحصد ولكن إذا نزل عليه المطر الشديد وذهب به وبالبذر معه فيصاب صاحبه بخيبة الأمل، فكذلك المنفق رئاء الناس.
٢ هذه الجملة زيل بها الكلام لتحمل تحذيراً شديداً للمؤمنين أن يسلكوا مسالك الكافرين في إنفاقهم وأعمالهم فإنها باطلة خاسرة.
257
شرح الكلمات:
المثل: الصفة المستملحة المستغربة.
﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ : طلباً لرضا الله تعالى.
﴿وَتَثْبِيتاً﴾ ١: تحقيقاً وتيقناً بمثوبة الله تعالى لهم على إنفاقهم في سبيله.
﴿جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ٢﴾ : بستان كثير الأشجار بمكان مرتفع.
﴿ضِعْفَيْنِ﴾ : مضاعفاً مرتين، أو ضعفي ما يثمر غيرها.
الوابل: المطر الغزير الشديد.
الطل: المطر الخفيف.
﴿إِعْصَارٌ﴾ : ريح عاصف فيها سموم.
معنى الآيتين:
لما ذكر الله تعالى خيبة المنفقين أموالهم رياء الناس محذراً المؤمنين من ذلك ذكر تعالى مرغباً في النفقة التي يريد بها العبد رضا الله وما عنده من الثواب الأخروي فقال ضارباً لذلك مثلاً: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ أي: طلباً لمرضاته ﴿وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: تحققاً وتيقناً منهم بأن الله تعالى سيثيبهم عليها مثلهم في الحصول ما أمّلوا من رضا الله وعظيم الأجر؛ كمثل جنة بمكان مرتفع عالٍ أصابها مطر غزير فأعطت ثمرها ضعفي ما يعطيه غيرها من البساتين، ولما كانت هذه الجنة بمكان عال مرتفع فإنها إن لم يصبها المطر الغزير فإن الندى والمطر اللين الخفيف كافٍ في سقيها وريها حتى تؤتي ثمارها مضاعفاً مرتين، وختم تعالى هذا الكلام الشريف بقوله: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ قواعد به المنفقين ابتغاء مرضاته وتثبيتاً من أنفسهم بعظم الأجر وحسن المثوبة، وأوعد به المنفقين الذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى والمنفقين رياء الناس بالخيبة والخسران.
كان هذا معنى الآية الأولى (٢٦٥) وأما الآية الثانية (٢٦٦) فإنه تعالى بسائل عباده تربية
١ لقد اختلف في معنى: ﴿وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ ورجح ما فسرناه به في التفسير وهناك معنى آخر لطيف وهو: وتثبيتاً لأنفسهم على الإيمان وأفعال البر لأن الحسنة تلد الحسنة، فهم ينفقون أموالهم طلباً لرضوان الله وترويضاً منهم لأنفسهم على فعل الخير والإحسان.
٢ الربوة: مثلثة الراء: المكان المرتفع.
258
لهم وتهذيباً لأخلاقهم وسموا بهم إلى مدارج الكمال الروحي فيقول: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ١﴾ أي: أيحب أحدكم أيها المنفقون في غير مرضاة الله تعالى أن يكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات والحال أنه قد تقدمت به السن وأصبح شيخاً كبيراً، ومع هذا العجز فإنه له ذرية صغاراً لا يقدرون على الكسب وجلب عيشهم بأنفسهم، وأصاب ذلك البستان الذي هو مصدر عيش الوالد وأولاده أصابه ريح عاتية تحمل حرارة السموم٢ فأتت على ذلك البستان فأحرقته، كيف يكون حال الرجل٣ الكبير وأولاده؟ هكذا الذي ينفق أمواله رئاء الناس يخسرها كلها في وقت هو أحوج إليها من الرجل العجوز وأطفاله الصغار، وذلك يوم٤ القيامة، وأخيراً يمتن تعالى على عباده بما يبين لهم من الآيات في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب ليتفكروا فيها فيهتدوا على ضوئها إلى كمالهم وسعادتهم فقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كذلك التبيين ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ٥﴾.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- استحسان ضرب الأمثال تقريباً للمعاني إلى الأذهان لينتفع بها.
٢- مضاعفة أجر الصدقة الخالية من المن والأذى ومراءاة الناس.
٣- بطلان صدقات المان والمؤذي والمرائي وعدم الانتفاع بشيء منها.
٤- وجوب التفكر في آيات الله لا سيما تلك التي تحمل بيان العقائد والأحكام والآداب والأخلاق.
١ الود: حب الشيء مع تمنيه.
٢ ولذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أبردوا بصلاتكم في الحر فإن شدة الحر من فيح جهنم" رواه البخاري وغيره.
٣ روى الحاكم وذكره ابن كثير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو فيقول: "اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري".
٤ روى البخاري أن عمر رضي الله عنه سأل يوماً أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ﴾ فقالوا: الله أعلم. فقال: قولوا: نعلم ولا نعلم. فقال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. فقال: ضربت مثلاً لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
٥ أي: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقاءها، وهذا لا يتنافى مع ما فسرنا به الآية. في التفسير.
259
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (٢٦٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ : من جيد أموالكم وأصلحها.
﴿وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ﴾ : من الحبوب وأنواع الثمار.
﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ﴾ : لا تقصدوا الرديء تنفقون منه.
﴿إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ١﴾ : إلا أن تغضوا أبصاركم عن النظر في رداءته فتأخذونه بتساهل منكم وتسامح.
﴿حَمِيدٌ﴾ : محمود في الأرض والسماء في الأولى والأخرى لما أفاض ويفيض من النعم على خلقه.
﴿يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ : يخوفكم من الفقر ليمنعكم من الإنفاق في سبيل الله.
﴿وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ : يدعوكم إلى ارتكاب الفواحش ومنها البخل والشح.
﴿الْحِكْمَةَ﴾ : فهم أسرار الشرع، وحفظ الكتاب والسنة.
﴿أُولُو الأَلْبَابِ﴾ : أصحاب العقول الراجحة المفكرة فيما ينفع أصحابها.
١ يقال: أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، وما في التفسير فهو مأخوذ من تغميض العين لعدم رؤية العيب والرداءة، وقراءة الجمهور تشهد للمعنيين التجاوز، وتغميض العين.
260
معنى الآيات:
بعدما رغب تعالى عباده المؤمنين في الإنفاق في سبيله في الآية السابقة ناداهم هنا بعنوان الإيمان، وأمرهم بإخراج زكاة أموالهم من جيد ما يكسبون فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ١ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ٢ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا﴾ يريد الحبوب والثمار كما أن ما يكسبونه يشمل النقدين والماشية من إبل وبقر وغنم، ونهاهم عن التصدق بالرديء من أموالهم، فقال: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا٣ الْخَبِيثَ مِنْه٤ُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ يريد لا ينبغي لكم أن تنفقوا الرديء وأنتم لو أعطيتموه في حق لكم ما كنتم لتقبلوه لولا أنكم تغمضون وتتساهلون في قبوله، وهذا منه تعالى تأديب لهم وتربية. وأعلمهم أخيراً أنه تعالى غني عن خلقه ونفقاتهم فلم يأمرهم بالزكاة والصدقات لحاجة به، وإنما أمرهم بذلك لإكمالهم وإسعادهم، وأنه تعالى حميد محمود بماله من إنعام على سائر خلقه، كان هذا معنى الآية (٢٦٧) أما الآية (٢٦٨) فإنه تعالى يحذر عباده من الشيطان ووسواسه فأخبرهم أن الشيطان يعدهم الفقر٥، أي: يخوفهم منه حتى لا يزكوا ولا يتصدقوا ويأمرهم بالفحشاء فينفقون أموالهم في الشر والفساد ويبخلون بها في الخير، والصالح العام، أما هو تعالى فإنه بأمره إياهم بالإنفاق يعدهم مغفرة ذنوبهم؛ لأن الصدقة تكفر الخطيئة، وفضلاً منه وهو الرزق الواسع الحسن، وهو الواسع الفضل العليم بالخلق. فاستجيبوا أيها المؤمنون لنداء الله تعالى، وأعرضوا عن نداء الشيطان فإنه عدوكم لا يعدكم إلا بالشر، يأمركم إلا بالسوء والباطل، كان هذا ما تضمنته الآية الثانية، أما الآية الثالثة (٢٦٩) فإن الله تعالى يرغب في تعلم العلم النافع الذي يحمل على العمل الصالح، ولا يكون ذلك إلا علم الكتاب والسنة حفظاً وفهماً وفقهاً فيهما فقال
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ... ﴾ إلخ. اثنتان من الله تعالى، واثنتان من الشيطان. ويفسره حديث الترمذي إذ فيه قول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ: ﴿الشَّيْطَانُ... ﴾ الآية.
٢ الآية في الزكاة قطعاً، والنهي عن الإنفاق من الرديء يشمل الزكاة. والتطوع معاً.
٣ روى الحاكم وصححه على شرط الشيخين في سبب نزول هذه الآية عن البراء قال: هذه الآية نزلت فينا، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل وكان أناس مما لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص فيعلقه فنزلت: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ الآية.
٤ أي: من الخبيث الذي هو الرديء.
٥ تفتح فاء الفقر، وتضم كالضعف والضُعف.
261
تعالى: ﴿يُؤْتِي﴾ أي: هو تعالى: ﴿الْحِكْمَةَ مَنْ١ يَشَاءُ﴾ من طلبها وتعرض لها راغباً فيها سائلاً الله تعالى أن يعلمه، وأخبر أخيراً أن من يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً٢ فليطلب العاقل الحكمة قبل طلب الدنيا هذه تذكرة ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل وفي الناطق من الإبل والبقر والغنم إذ الكل داخل في قوله: ﴿مَا كَسَبْتُمْ﴾ وهذا بشرط الحول٣ وبلوغ النصاب.
٢- وجوب الزكاة في الحرث: الحبوب والثمار وذلك فيما بلغ نصاباً، وكذا في المعادن إذ يشملها لفظ الخارج من الأرض.
٣- قبح الإنفاق من الرديء وترك الجيد.
٤- التحذير من الشيطان ووجوب مجاهدته بالإعراض عن وساوسه ومخالفة أوامره.
٥- إجابة نداء الله والعمل بإرشاده.
٦- فضل العلم على المال.
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا٤ هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
١ الحكمة: النبوة والقرآن والإصابة في الأمور بوضع كل شيء في موضعه، فأعلى الحكمة النبوة ثم القرآن والسنة. وفي الصحيح: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها". واللفظ يشمل القرآن والسنة.
٢ أصل الحكمة: إحكام الشيء وإتقانه، وعليه فحفظ القرآن والسنة وفهما والعمل بهما هو الحكمة، وفي الصحيح: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". وورد: رأس الحكمة مخافة الله.
٣ الحول: هو مرور سنة كاملة على زكاة النقدين والأنعام وعروض التجارة، والنصاب في الحبوب والثمار خمسة أوسق لحديث الصحيح: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" والوسق: ستون صاعاً، والصاع: أربعة أمداد. وفي النقدين: الذهب عشرون ديناراً ما يعادل سبعين غراماً، وفي الفضة: مائتا درهم: ما يعادل ٤٦٠ غراماً، وفي الغنم أربعون شاة، وفي البقر ثلاثون بقرة، وفي الإبل خمس منها.
٤ قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ﴾ ثناء على إبداء الصداقة وقوله: ﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ﴾ حكم على أن الإخفاء خير من الإبداء، قال أحد الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره. قال دعبل الخزاعي:
إذا انتقموا أعلنوا أمرهم...
وإن أنعموا أنعموا باكتتام
262
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) }
شرح الكلمات:
﴿مِنْ نَفَقَةٍ﴾ : يريد قليلة أو كثيرة من الجيد أو الرديء.
﴿مِنْ نَذْرٍ﴾ : النذر١: التزام المؤمن بما لم يلزمه به الشارع، كأن يقول: لله عليّ أن أتصدق بألف؛ أو أصوم شهراً أو أصلى كذا ركعة يقول: إن حصل٢ لي كذا من الخير أفعل كذا من الطاعات.
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ : أي تظهروها.
﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾ : فنعم تلك الصدقة التي أظهرتموها لُيفتدى بكم بها.
﴿وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ : يكفر بمعنى: يسترها ولا يطالب بها، ومن للتبعيض إذ حقوق العباد لا تكفرها الصدقة.
معنى الآية الكريمة:
بعدما دعا تعالى عباده إلى الإنفاق في الآية السابقة أخبر تعالى أنه يعلم ما ينفقه عباده فإن كان المنفق جيداً صالحاً يعلمه ويجزي به وإن كان خبيثاً رديئاً يعلمه ويجزي به، وقال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ٣﴾ فما كان مبتغي به وجه الله ومن جيد المال فسوف يكفر به السيئات ويرفع به الدرجات، وما كان رديئاً ونذراً لغير الله تعالى فإن أهله ظالمون وسيغرمون أجر نفقاتهم ونذرهم لغير الله ولا يجدون من يثيبهم على شيء منها لأنهم ظالمون فيها حيث وضعوها في غير موضعها، ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٧٠).
١ مما يجب علمه أنه شاع في العامة بين المسلمين النذر للأولياء والصالحين وهو محرم قطعاً إذ هو من شرك العبادة فبعضهم يقول يا سيدى فلان إن قضى الله حاجتي فعلت لك كذا، وآخر يقول: إن حصل لي كذا ذبحت لك أو جددت بناء قبتك أو أنرت ضريحك، فيجب أن ينهى عن هذا كله ويعلم من يفعله عن هذا كله ويعلم من يفعله أنه أشرك بعبادة ربه.
٢ النذر المشروط مكروه لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من مال البخيل". أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أم النذر المطلق فهو قربة من أفضل القرب، وفي التفسير بيان لكل من المطلق والمشروط فانظره.
٣ في الآية إبجاز بليغ إذ التقدير: وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلهما، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، فحذف من الأول لدلالة الأخير عليه تجنباً للتكرار المنافي لبلاغة الكلام.
263
أما الآية الثانية (٢٧١) فقد أعلم تعالى عباده المؤمنين أن ما ينفقونه لوجهه ومن طيب أموالهم علناً وجهراً هو مال رابح، ونفقة مقبولة يثاب عليها صاحبها، إلا أن ما يكون من تلك النفقات سراً ويوضع في أيدي الفقراء يكون خيراً لصاحبه لبعده من شائبة الرياء، ولإكرام الفقراء، وعدم تعريضهم لمذلة التصدق عليهم وإنه تعالى يكفر عن المنفقين سيئاتهم بصدقاتهم، وأخبر أنه عليم بأعمالهم فكان هذا تطميناً لهم على الحصول على أجور صدقاتهم، وسائر أعمالهم الصالحة.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- الترغيب في الصدقات ولو قلت والتحذير من الرياء فيها وإخراجها من رديء الأموال.
٢- جواز إظهار الصدقة١ عن سلامتها من الرياء.
٣- فضل صدقة السر وعظم أجرها، وفي الحديث الصحيح: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" ذكر من السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَرَاءِ٢ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
١ صدقة التطوع الإسرار بها أفضل، ففي الحديث: "صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل"، وفي الصحيح: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". والصدقة الواجبة وهي الزكاة إعلانها من أفضل إسرارها. هذا ومرد القضية إلى حال المتصدق والمتصدق عليه فإن كان المتصدق بإعلانه يتبعه غيره ويكون كمن سن سنة حسنة فالإعلان أفضل وإن كان المتصدق عليه يخجل ويستحي من الصدقة عليه فالإسرار له أفضل من غيره.
٢ من قال بوجوب صدقة الفطر: منع إعطائها لفقراء أهل الذمة، ومن قال بثنيتها دون وجوبها: قال يجوز، والصحيح إنها حق لفقراء المسلمين لانشغالهم بصلاة العيد وبالعبادة في رمضان، وأهل الذمة يعملون الليل والنهار.
264
لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ١ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) }
شرح الكلمات:
﴿هُدَاهُمْ﴾ : هدايتهم إلى الإيمان وصالح الأعمال.
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ : من مال.
﴿فَلأَنْفُسِكُمْ﴾ : ثوابه العاجل بالبركة وحسن الذكر والأجل يوم القيامة عائد على أنفسكم.
﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ : يرد أجره كاملاً لا ينقص منه شيء.
﴿أُحْصِرُوا﴾ : حبسوا ومنعوا من التصرف لأنهم هاجروا من بلادهم.
﴿ضَرْباً فِي الأَرْضِ﴾ : أي: سيراً فيها لطلب الرزق بالتجارة وغيرها لحصار العدو لهم.
﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ : علامات حاجتهم من رثاثة الثياب وصفرة الوجه.
﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ : ترك سؤال الناس والكف عنه.
﴿إِلْحَافاً﴾ ٢: إلحاحاً وهو ملازمة السائل من يسأله حتى يعطيه.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بالصدقات ورغب فيها وسألها غير المؤمنين من الكفار واليهود فتحرج الرسول
١ قيل نزلت في علي، إذ كان له أربعة دراهم فأنفقها على ما ذكر في الآية، والآية عامة في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير وفي كل حالة تتطلب الإنفاق سواء بالليل أو بالنهار سراً أو علانية.
٢ الإلحاح والإلحاف، والإحفاء مصادر ألح في السؤال، والحف وأحفى والإلحاف مشتق من اللحاف؛ لأنه يشتمل على الملتحق به، كذلك الإلحاف في السؤال؛ لأن المحلف يأتي أمام المسؤال ويأتي عن يمينه وعن شماله يسأله لا يفارقه حتى يعطيه أو يمنعه.
265
والمؤمنون من التصدق على الكافرين فأذهب الله تعالى عنهم هذا الحرج وأذن لهم بالتصدق على غير المؤمنين والمراد من الصدقة: صدقة التطوع لا الواجبة وهي الزكاة، فقال تعالى مخاطباً رسوله وأمته تابعة له: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لم يوكل إليك أمر هدايتهم لعجزك عن ذلك، وإنما الموكل إليك بيان الطريق لاغير، وقد فعلت فلا عليك أن لا يهتدوا، ولو شاء الله هدايتهم لهداهم، وما تنفقوا من مال تثابوا عليه، سواء كان على مؤمن أو كافر إذا أردتم به وجه الله وابتغاء مرضاته، وأكد تعالى هذا الوعد الكريم بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ والحال أنكم لا تظلمون بنقص ما أنفقتم ولو كان النقص قليلاً. كان هذا معنى الآية الأولى (٢٧٢)، أما الآية الثانية وهي: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ... ﴾ فقد بين تعالى فيها أفضل جهة ينفق فيها المال ويتصدق به عليها، وهي فقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأحصروا في المدينة بجوار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستطيعون ضرباً في الأرض للتجارة ولا للعمل، ووصفهم تعالى بصفات يعرفهم بها رسوله والمؤمنون ولولا تلك الصفات لحسبهم لعفتهم وشرف نفوسهم الجاهل بهم أغنياء غير محتاجين، فقال تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ لا يسألون١ مجرد٢ سؤال فضلاً عن أن يلحوا ويلحفوا. ثم في نهاية الآية أعاد تعالى وعده الكريم بالمجازاة على ما ينفق في سبيله، فقال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ولازمه أن يثيبكم عليه أحسن ثواب فابشروا واطمأنوا.
وأما الآية الثالثة (٢٧٤) في آخر آيات الدعوة إلى الإنفاق جاءت تحمل أعظم بشر للمنفقين في كل أحوالهم بالليل والنهار سراً وعلانية بأن أجر نفقاتهم مدخر لهم عند ربهم يتسلمونه يوم يلقونه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والبرزخ والآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- جواز التصدق على الكافر المحتاج بصدقة التطوع لا الزكاة فإنها حق٣ المؤمنين
١ متى تحل المسألة؟ قال أحمد: إذا لم يكن للمرء ما يغديه ويعشيه جاز له السؤال، وقال: لا يسأل الرجل لغيره، ولكن يقول لغيره تصدقوا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشفعوا تؤجروا".
٢ أي لا يسألون بإلحاح ولا بدونه فهم لا يسألون غيرهم البتة.
٣ شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرت أن آخد الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم"، وشاهده في الصحيح: "خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم".
266
٢- ثواب الصدقة عائد على المتصدق عليه فلذا لا يضر إن كان كافرا.
٣- وجوب الإخلاص في الصدقة أي: يجب أن يراد بها وجه الله تعالى لا غير.
٤- تفاضل أجر الصدقة بحسب فضل وحاجة المتصدق عليه.
٥- فضيلة التعفف وهو ترك السؤال مع الاحتياج١، وذم الإلحاح في الطلب من غير الله تعالى أما الله عز وجل فإنه يحب الملحين في دعائه.
٦- لا جواز التصدق بالليل والنهار وفي السر والعلن إذ الكل يثيب الله تعالى فعليه ما دام قد أريد به وجهه لا وجه سواه.
بشرى الله تعالى للمؤمنين المنفقين بادخار أجرهم عنده تعالى ونفي الخوف والحزن عنهم مطلقاً.
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) ﴾
١ من أعطى شيئاً من غير طلب ولا تشوف جاز له أخذه لحديث الصحيح: "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى عمر مالاً فقال عمر أعطه أفقر إليه مني. فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خذه وما جاءك من المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك".
267
شرح الكلمات:
﴿يَأْكُلُونَ الرِّبا١﴾ : يأخذونه ويتصرفون فيه بالكل في بطونهم، وبغير الأكل، والربا هنا: ربا النسيئة وحقيقته أن يكون لك على المرء دين فإذا حل أجله ولم يقدر على تسديده تقول له: أخر وزد. فتؤخره أجلاً وتزيد في رأس المال قدراً معيناً، هذا هو ربا الجاهلية والعمل به اليوم في البنوك الربوية فيسلفون المرء مبلغاً إلى أجل ويزيدون قدراً آخر نحو العشر أو أكثر أو أقل، والربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع وسواء كان ربا فضل٢ أو ربا نسيئة.
﴿لا يَقُومُونَ﴾ : من قبوهم يوم القيامة.
﴿يَتَخَبَّطُهُ٣ الشَّيْطَانُ﴾ : يضر به الشيطان ضرباً غير منتظم.
﴿مِنَ الْمَسِّ٤﴾ : المس: الجنون، يقال: بفلان مس من جنون.
﴿مَوْعِظَةٌ﴾ : أمر أو نهي بترك الربا.
﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ : ليس عليه أن يرد الأموال التي سبقت توبته.
﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا﴾ : أي: يذهبه شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منه شيء؛ كمحاق القمر آخر الشهر.
﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ : يبارك في المال الذي أخرجت منه، ويزيد فيه، ويضاعف أجرها أضعافاً كثيرة.
﴿كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ : الكفار: شديد الكفر، يكفر بكل حق وعدل وخير، أثيم: منغمس في الذنوب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكبها.
١ لغة الزيادة وشاهده الحديث: "والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها" أي: الطعام وعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ يراد للأكل غالباً، وكل حرام قد يطلق عليه الربا تجوزاً.
٢ ربا الفضل بيانه في حديث مسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر والتمر بالملح بالملح مثل بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر: "فإذا اختلفت الأجناس فيبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد".
٣ يقال: خطة وتخبطة كملكه وتملكه، وعبده وتعبده، والتخبط: الضرب في غير استواء، ومنهم قولهم: خبط عشواء.
٤ أصل المس: اللمس باليد، ومن مسه الشيطان اختلط عقله وأصبح يصيح بسبب مس الشيطان له فيقال: فلان يصرع من الجن، أي: من مس الجن له، والشيطان من الجن، فالمرابي يقوم يوم القيامة من قبره كالمجنون الذي به مس الجن يصرع صرعه.
268
معنى الآيتين:
لما حث الله على الصدقات وواعد عليها بعظيم الأجر ومضا عف الثواب ذكر المرابين الذين يضاعفون مكاسبهم المالية بالربا وهم بذلك يسدون طرق البر، ويصدون عن سبيل المعروف فبدل أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات، فذكر تعالى حالهم عند القيام من قبورهم وهم يقومون، ويقعدون ويغفون١ ويُصرعون، حالهم من حال يصرع في الدنيا بمس الجنون، علامة يعرفون بها يوم القيامة كما يعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنها خيمة مضروبة بين أيديهم. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، وذكر تعالى سبب هذه النقمة عليهم فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: أصابهم ذلك الخزي والعذاب بأنهم ردوا علينا حكمنا بتحريم الربا، وقالوا إنما البيع مثل الربا، إذ الربا الزيادة في نهاية الأجر، والبيع في أوله، ورد تعالى عليهم، فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ٢ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ فما دام قد حرم الربا فلا معنى للاعتراض، ونسوا أن الزيادة في البيع هي في قيمة سلعة تغلو وترخص، وهي جارية على قانون الإذن في التجار، وأما الزيادة في آخر البيع فهي زيادة في الوقت فقط. ثم قال تعالى مبيناً لعباده سبيل النجاة محذراً من طريق الهلاك: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ وهي تحريمه تعالى للربا ونهيه عنه فانتهى عنه فله ما سلف قبل معرفته للتحريم، أو قبل توبته منه، وأمره بعد ذلك إلى الله إن شاء ثبته على التوبة فنجاه، وإن شاء خذله لسوء عمله، وفساد نيته فأهلكه وأرداه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. أخبر تعالى أنه بعدله يمحق٣ الربا، وبفضله يربي الصدقات، وأنه لا يحب كل كفار لشرع الله وحدوده، أثيم بغشيانه الذنوب وارتكابه المعاصي. كان هذا معنى الآية الأولى (٢٧٥)، أما الآية الثانية (٢٧٦) فهي وعد رباني صادق وبشرى إلهية سارة لكل من آمن وعمل صالحاً وأقام الصلاة على الوجه الذي تقام به وآتي الزكاة بأن له أجره، وافٍ عند ربه يتسلمه يوم الحاجة إليه في عرصات القيامة وأنه لا يخاف مما يستقبله في الحياة الدنيا والآخرة ولا يحزن أيضاً في الدنيا ولا في الآخرة.
١ قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته حتى يقال: قد جن هذا، ولكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود، إذا كان يقرأ: لا يقومون يوم القيامة مع –تظافر أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل.
٢ في هذا دليل على أنه لا قياس مع، النص، فالمشركون قاسوا الربا على البيع فأبطل الله قياسهم؛ لأن الربا حرام فلا يقاس على البيع الحلال.
٣ روى ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل " أي: إلى قلة ونقصان.
269
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- بيان عقوبة آكل الربا يوم القيامة لاستباحتهم وأكلهم له، وعدم التوبة منه.
٢- تحريم الربا وكل مال حرام لما جاء في الآية من الوعيد الشديد.
٣- صفة الحب لله تعالى وأنه تعالى يحب أولياءه وهم أهل الإيمان به وطاعته ويكره أعداءه وهم أهل الكفر به ومعاصيه من أكل الربا وغيره من كبائر الذنوب.
٤- حلية البيع إن تم على شروطه المبنية في كتب الفقه.
٥- من تاب من الربا تقبل توبته، ويحل له ما أفاده منه قبل التوبة بشرط سيأتي في الآيات بعد هذه.
٦- وعيد الله تعالى بمحق الربا ووعده بإرباء١ الصدقة.
٧- بشرى الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح مع إقامتهم للصلاة وإيتائهم للزكاة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿اتَّقُوا اللهَ﴾ : خافوا عقابه بطاعته بأن تجعلوا طاعته وقاية تقيكم غضبه وعقابه.
١ شاهده من الكتاب: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ ومن السنة قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل"، وقوله: "إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، وإن الرجل يتصدق باللقمة فتربوا في يد الله -أو قال- في كف الله حتى تكون مثل أحد فتصدقوا".
270
﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا﴾ : اتركوا ما بقي عندكم من المعاملات الربوية.
﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ﴾ : اعلموا بحرب من الله ورسوله واحملوا سلاحكم ولاينفعكم١ سلاح فإنكم المهزومون الهالكون.
﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ : بعد التوبة مالكم إلا رأس المال الذي عند المدين لكم فخذوه واتركوا زيادة الربا.
العسرة: الشدة والضائقة المالية.
﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ : أي انتظار للمدين إلى أن ييسر الله عليه فيعطيكم رأس مالكم الذي أخذه منكم.
﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ : وأن تتصدقوا على المعسر بترك ما لكم عليه فذلك خير لكم.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر عقوبة آكل الربا في الآيات السابقة نادى الله تعالى عباده المؤمنين آمراً إياهم بتقواه تعالى، وذلك بطاعته وترك معصيته، وبالتخلي عما بقي عند بعضهم من المعاملات الربوية مذكراً إياهم بإيمانهم إذ من شأن المؤمن الاستجابة لنداء ربه فعل ما يأمره به وترك ما ينهاه عنه فقال تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، ثم هذه المتباطئين بقوله: فإن لم تفعلوا فاعلموا بحرب٢ قاسية ضروس من الله ورسوله، ثم بين لهم طريق التوبة وسبيل الخلاص من محنة الربا بقوله: وإن تبتم بترك الربا فلكم رؤوس٣ أموالكم لا غير لا تظلمون بأخذ زيادة، ولا تظلمون بنقص من رأس مالكم. وإن وجد مدين لكم في حالة إعسار فالواجب انتظاره إلى ميسرته٤، وشيء آخر وهو خير لكم أن تتصدقوا بالتنازل عن ديونكم كلها تطهيراً لأموالكم التي لامسها الربا وتزكية لأنفسكم من آثاره السيئة. ثم ذكر تعالى سائر عباده يوم القيامة وافيه من أهوال ومواقف
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من كان مقيماً على الربى لا ينزع فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه".
٢ حرمة الربا مجمع عليها، والأحاديث الواردة في تحريمه كثيرة جداً، أذكر منها، حديث مسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر منها أكل الربا، وحديث أبي داود: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه".
٣ استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد.
٤ ورد في فضل إنذار المعسر أحاديث منها: "من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة". وقوله: "من سره أن ينجيه من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه".
271
صعبة حيث يتم الحساب الدقيق وتجزي فيه كل نفس مؤمنة أو كافرة بارة أو فاجرة ما كسبته من خير وشر وهو لا يظلمون بنقص حسناتهم أو زيادة سيئاتهم فقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ وهذا التوجيه الذي حملته هذه الآية ذات الرقم (٢٨٠) آخر توجيه تلقته البشرية من ربها تعالى إذ هذه آخر ما نزل من السماء على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب التوبة من الربا ومن كل المعاصي.
٢- المصر على المعاملات الربوية يحب على الحاكم أن يحاربه١ بالضرب على يديه حتى يترك الربا.
٣- من تاب من الربا لا يظلم بالأخذ من رأس ماله بل يعطاه وافياً كاملاً إلا أن يتصدق بالتنازل عن ديونه الربوية فذلك خير له حالاً ومآلاً.
٤- وجوب ذكر الدار الآخرة والاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح وترك الربا والعاصي.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ٢ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ٣ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ
١ قال ابن خويز منداد: "ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً له كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً، للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾.
٢ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت هذه الآية في السلم خاصة، يعني: إن سلم أهل المدينة كان سبب نزولها وهي عامة في كل الديون بلا خلاف.
٣ رفع بلفظ: "يدين"، الاشتراك، إذ التداين معناه: دان بعضهم بعضا، إذا جازاه بعمله ومنه قولهم: "دناهم كما دنوا فلما قال بدين رفع المعنى العام وأصبح خاصاً بالتداين المالي.
272
أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) }
شرح الكلمات:
﴿تَدَايَنْتُمْ١﴾ : داين بعضكم بعضاً في شراء أو بيع أو سلم أو قرض.
﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً٢﴾ : وقت محدد بالأيام أو الشهور أو الأعوام.
﴿بِالْعَدْلِ﴾ : بلا زيادة ولا نقصان ولا غش أو احتيال بالحق والإنصاف.
﴿وَلا يَأْبَ﴾ : لا يمتنع الذي يحسن الكتابة أن يكتب.
﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ : لأن إملاءه اعتراف منه وإقرار بالذي عليه من الحق.
﴿وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ : لا ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل كفلس وليذكره كله.
١ تداين: تفاعل من الدين، يقال: داينت الرجل، عاملته بدين معطيعاً أو آخذاً كما بايعته إذا بعته أو باعك.
٢ ذكر الأجل المسمى يجعل الآية في بيع السلم لحديث الصحيح: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". والسلم والسلف واحد. ويقال له: بيع المحاويج.
273
شرح الكلمات:
﴿سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً﴾ : السفيه: الذي لا يحسن التصرفات المالية، والضعيف: العاجز عن الإملاء؛ كالأخرس، أو الشيخ الهرم.
﴿وَلِيُّهُ﴾ : من يلي أمره ويتولى شؤونه لعجزه وقصوره.
﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ : أي المسلمين الأحرار دون العبيد والكفار.
﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ : تنسى أو تخطئ لقصر إدراكها.
﴿وَلا تَسْأَمُوا﴾ : لا تضجروا أو تملوا من الكتابة ولو كان الدين صغيراً مبلغه.
﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ﴾ : أعدل في حكم الله وشرعه.
﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ : أثبت لها وأكثر تقريراً؛ لأن الكتابة لا تنسى والشهادة تنسى أو يموت الشاهد أو يغيب.
﴿وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا١﴾ : أقرب أن لا تشكوا بخلاف الشهادة بدون كتابة.
﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ : أي: تتعاطونها، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها.
﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ : إذا باع أحد أحداً داراً أو بستاناً أو حيواناً يشهد على ذلك البيع.
﴿وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ﴾ بأن يكلف مالاً يقدر عليه بأن يدعي ليشهد في مكان بعيد يشق عليه أو يطلب إليه أن يكتب زوراً أو يشهد به.
﴿فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ : أي: خروج عن طاعة ربكم لاحق بكم إثمه وعليكم تبعته يوم القيامة.
﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ : في أوامره فافعلوها، وفي نواهيه فاتركوها، وكما علمكم هذا يعلمكم كل ما تحتاجون فاحمدوه بألسنتكم واشكروه بأعمالكم، وسيجزيكم بها وهو بكل شيء عليم.
١ روى أبو داود والترمذي أن أول من جحد آدم، إذ أراه الله تعالى ذريته فرأى رجلاً أزهر ساطع النور فسأل الله تعالى فقال: إنه داود. فقال: رب كم عمره؟ قال: ستون. قال: فزده من عمري أربعين ليكمل له مائة فزاده، وكان عمر آدم ألف سنة وكتب الله ذلك في كتاب ولما عاش آدم وحضرته الوفاة قال: رب بقي من عمري أربعون سنة. فقال الله تعالى: ألم تكن قد وهبتها لولدك داود. فجحد آدم فأخرج الكتاب قد شهد عليه الملائكة إلى أن الله تعالى وفى لآدم ألف سنة ولداود مائة. "نقلناه بالمعنى".
274
معنى الآية الكريمة:
لما حث تعالى على الصدقات وحرم الربا، ودعا إلى العفو على المعسر، والتصدق عليه بإسقاط الدين الأمر الذي قد يتبادر إلى الذهن أن المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة فجاءت هذه الآية، آية الدين الكريمة لتعطي للمال حقه وترفع من شأنه فإنه قوام الحياة فقررت واجب الحفاظ عليه بكتابة الديون والإشهاد عليها بمن ترضى عدالتهم وكون الشهود رجلين مسلمين حرين، فإن انعدام رجل من الاثنين قامت امرأتان١ مقامه، واستحث٢ الله تعالى من يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان في سعة من أمره، وحرم على الشهود إذا ما دعوا لأداء الشهادة أن يتخلوا عنها، وحرم على المتداينين أن لا يكتبوا ديونهم ولو كانت صغيرة قليلة، فقال تعالى: ﴿وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ﴾، ورخص تعالى رحمة منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها السلعة في المجلس ويقبض الثمن فيه فقال: ﴿إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا... ﴾، وأمر بالإشهاد على البيع فقال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ... ﴾، ونهى عن الإضرار بالكاتب أو الشهيدين، بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله، أو الشاهد بأن يطلب منه أن يشهد وهو كذلك في شغله، أو أن يدعي إلى مسافات بعيدة تشق عليه إذ أمره تطوع وفعل خير لا غير فليطلب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لانشغالهما. وحذر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة والإضرار بالكاتب والشهيد فقال: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ... ﴾ وأكد ذلك بأمره بتقواه فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ... ﴾ بامتثال أمره ونهيه لتكملوا وتسعدوا وكما علمكم هذا العلم النافع ما زال يعلمكم وهو بكل شيء عليم. هذا معنى الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ... ﴾.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- وجوب كتابة الديون سواء كانت بيعاً، أو شراءً، أو سلفاً، أو قرضاً هذا ما قرره ابن جرير،
١ الجمهور على أن اليمين تقوم مقام شاهد، أي: أن إن عدم الشاهد الثاني قضى القاضي بالشاهد واليمين التي يحلفها المطالب بالبينة ومن هنا إن وجد من الشهود امرأتان فقط اعتبرنا شاهداً وزيدت اليمين وقضى القاضي بذلك، وهذا في الأموال خاصة.
٢ نعم إذا كان في سعة من أمره فليكتب على سبيل الندب، وإن لم يوجد غيره وجب عليه أن يكتب وفي قوله. ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أمر له أن يكتب الوثائق على طريقتها فلا يبدل ولا يغير، وفيه تذكير له بالنعمة إذ كان لا يعرف الكتابة فعلمه الله إذاً فليشكر الله هذه النعمة بالكتابة لمن طلبها منه.
275
ورد القول بالإرشاد والندب١.
٢- رعاية النعمة بشكرها لقوله تعالى للكاتب: كما علمه الله فليكتب إذ علمه الكتابة وحرم غيره منها.
٣- جواز النيابة في الإملاء لعجز عنه وعدم قدرة عليه.
٤- وجوب العدل والإنصاف في كل شيء لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة.
٥- وجوب الإشهاد على الكتابة لتأكدها به، وعدم نسيان قدر الدين وأجله.
٦- شهود٢ المال لا يقلّون عن رجلين عدلين من الأحرار٣ المسلمين لا غير، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد.
٧- الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدين صغيراً تافهاً.
٨- الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري.
٩- وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال.
١٠- حرمة الإضرار بالكاتب٤ والشهيد.
١١- تقوى الله تعالى بسبب العلم، وتُكسب المعرفة٥ بإذن الله تعالى.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
١ الأقرب إلى الصواب أن بعض الأمور تجب فيها الكتابة كبيع الدور والمزارع وغيرها وبعضها لا تجب وإنما تندب الكتابة لا غير.
٢ كون الشهود لا يقلون عن اثنين هذا عام في كل شهادة إلا شهادة الزنى فإنهم لا يقلون عن أربعة أبداً.
٣ اختلف في شهادة العبيد والصبيان والجمهور على عدم جواز شهادتهم إلا في الأمور التافهة فلا بأس بذلك.
٤ قوله تعالى: {إذا ما دُعوا﴾ دل على أن الشهود يأتون الحاكم ليشهدوا، ودل على أن من لم يدع ليس عليه أن يشهد، ولكن ورد في السنة الترغيب في أداء الشهادة ولو لم يدع إليها المسلم لا سيما إذا توقف على شهادته إثبات حق من الحقوق فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الأئمة.
٥ قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ هو وعد منه تعالى بأن يجعل للمتقي نوراً في قلبه يفهم به ما يلقى إليه ويفرق بين الحق والباطل يشهد لهذا قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾ الأنفال.
276
وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) }
شرح الكلمات:
السفر: الخروج من الدار والبلد ظاهراً أو بعيداً بمسافة أربعة برد فأكثر.
﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً﴾ : من يكتب لكم، أو لم تجدوا أدوات الكتابة من دواة وقلم.
﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ : فاعتاضوا عن الكتابة الرهن فليضع المدين رهناً لدى الدائن.
﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ : فلا حاجة إلى الرهن.
فليؤد المؤتمن أمانته: أي: فليعط الدين الذي أؤتمن عليه حيث تعذرت الكتابة ولم يأخذ دائنه منه رهناً على دينه.
﴿آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ : لأن الكتمان من عمل القلب فنسب الإثم إلى القلب.
﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾ : تظهروا.
معنى الآيتين:
لما أمر تعالى بالإشهاد والكتابة في البيوع والسلم والفروض في الآيات السابقة أمر هنا –عند تعذر الكتابة لعدم وجود كاتب أو أدوات الكتابة وذلك في السفر- أمر بالاستعاضة عن الكتابة بالرهن وذلك بأن يضع المدين رهناً لدى دائنه عوضاً عن الكتابة يستوثق به دينه هذا في حال عدم ائتمانه والخوف منه، وأما إن أمن بعضهم بعضاً فلا باس بعدم الارتهان فقال تعال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ١ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ٢... ﴾ والرهان جمع رهن٣. وقال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ فلم تأخذوا رهاناً، ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾ في ذلك. ثم
١ الرهن جائز بالكتاب وهذه الآية نص في الرهن في السفر، وأما في الحضر فهو جائز بالسنة وإجماع الأمة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى من يهودي طعاماً، فطلب اليهودي رهناً فرهنه درعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير.
٢ قوله: ﴿مَقْبُوضة﴾ دل على اشتراط القبض ولو بالوكالة ولو أن عدلاً من الناس وضع الرهن تحت يده جاز، إذ هو معنى القبض، ويجوز رهن ما في الذمة كأن يرهن المدين ديناً له ثابتاً في ذمة مالي معترف غير منكر، لأن الاستيثاق يحصل بذلك.
٣ أصل الرهن الدوام، وشرعاً: حبس عين في دين لاستيفاء الدين من العين أو من منافعها إذا عجز المدين عن التسديد، ويجمع الرهن على رهان، ورهن.
277
نهى تعالى نهياً جازماً عن كتمان شهادتهم فقال: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ... ﴾ وبين تعالى عظم هذا الذنب فقال: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ١... ﴾ وأعلم أنه عليم بما يعملونه فيجازيهم بعلمه، وهو تهديد ووعيد منه سبحانه وتعالى لكاتمي الشهادة والقائلين بالزور فيها. هذا معنى الآية الأولى (٢٨٢)، أما الآية الثانية (٢٨٣) فإنه تعالى قد أخبر بأن له جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض خلفاً وملكاً وتصرفاً، وبناء على ذلك فإن من يبدي ما في نفسه من خير أو شر أو يخفه يحاسب به، ثم هو تعالى بعد الحساب يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان والتقوى، ويعذب من يشاء من أهل الشرك والمعاصي، له كامل التصرف؛ لأن الجميع خلقه وملكه وعبيده.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- جواز أخذ الرهن في السفر والحضر توثيقاً من الدائن لدينه.
٢- جواز ترك أخذ الرهن٢ إن حصل الأمن من سداد الدين وعدم الخوف منه.
٣- حرمة كتمان الشهادة والقول بالزور فيها وأن ذلك من أكبر الكبائر كما في الصحيح.
٤- محاسبة العبد بما يخفي في نفسه من الشك والشرك والنفاق وغير ذلك من بغض أولياء الله وحب لأعدائه، ومؤاخذته بذلك، والعفو عن الهم بالخطيئة والذنب دون الشك والشرك والحب والبغض من المؤمن الصادق الإيمان للحديث الصحيح الذي أخرجه الستة: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل".
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ٣ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
١ القول محذوف، أي: يقولون: لا تفرق، وهذا الحذف للقول شائع نحو: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي: يقولون: سلام عليكم، ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً﴾ أي: يقولون: ربنا... إلخ.
٢ إذا كان الرهن دابة تركب أو شاة تحلب أو داراً تسكن أو نخلاً بتمر، فعلى المرتهن نفقة علف الدابة والشاة، مقابل الركوب واللبن، وإن سكن الدار دفع أجرتها، وإن جز التمر أخذه بثمنه لحديث: "لا تغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه".
٣ قال العلماء: "إثم القلب: سبب مسخه".
278
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦) }
شرح الكلمات:
﴿آمَنَ﴾ : صدق جازماً بصحة الخبر ولم يتردد أو يشك فيه قط.
﴿الرَّسُولُ﴾ : نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿كُلٌّ﴾ : كل من الرسول والمؤمنين.
﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ١﴾ : نؤمن بهم جميعاً ولا نكون؛ كاليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
﴿سَمِعْنَا﴾ : سماع فهم واستجابة طاعة.
﴿الْمَصِيرُ﴾ : المرجع: أي رجوعنا إليك يا ربنا فاغفر لنا.
﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً٢﴾ : التكليف: الإلزام مما فيه كلفة ومشقة تحتمل.
﴿إِلا وُسْعَهَا٣﴾ : إلا ما تتسع لها طاقتها ويكون في قدرتها.
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ : من الخير.
﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ : من الشر.
١ قرئ: ﴿ورسله﴾ بإسكان السين تخفيفاً، وهو شائع في تخفيف المتحرك للسكون نحو: عنق.
٢ روى القرطبي عن أبي هريرة أنه قال: ما وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا جعفر أبي طالب، فإني تبعته يوماً وأنا جائع فلما بلغ منزله فلم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثاره فشق بين أيدينا فجعلنا نلعق ما فيه من السمن ونربه، وهو يقول: ما كلف الله نفساً فوق طاقتها: ولا تجود يد إلا بما تجد. الرب بضم الراء: ما يطبخ من التمر.
٣ وسواس الصدر مما لا طاقة للعبد بدفعه بحال وقد سأل عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال، ما رواه مسلم عن علقمة بن عبد الله قال: سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوسوسة، قال: "تلك صريح الإيمان".
279
﴿لا تُؤَاخِذْنَا﴾ : لا تعاقبنا.
﴿إِنْ نَسِينَا﴾ : فتركنا ما أمرتنا به أو فعلنا ما نهيتنا عنه نسياناً منا غير عمد.
﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ : فعلنا غير ما أمرتنا خطأ منا بدون إرادة فعل منا له ولا عزيمة.
﴿إِصْراً﴾ ١: تكليفاً شاقاً يثقل علينا وياسرنا فيحبسنا عن العمل.
﴿مَوْلانَا﴾ : مالكنا وسيدنا ومتولي أمرنا لا مولى لنا سواك.
معنى الآيتين:
ورد أنه لما نزلت الآية (٢٨٤) ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ... ﴾ وفيها ﴿... وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ... ﴾ اضطربت لها نفوس المؤمنين، وقالوا من ينجو منا إذا كنا نؤاخذ بما يخفى في أنفسنا من الهم والوسواس وحديث النفس فأمرهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرضا بحكم الله تعالى والتسليم به فقال لهم: "قولوا سمعنا وأطعنا ولا تكونوا كاليهود: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا... ﴾ فلما قالوها صادقين أنزل الله تعالى هاتين الآيتين: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ... ﴾ فأخبر عن إيمانهم مقروناً بإيمان نبيهم تكريماً لهم وتطميناً فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ٢ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ... ﴾ وأخبر عنهم بقولهم الذي كان سبب استجابة الله تعالى لهم فقال عنهم: ﴿... وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ وأخبرهم تعالى أنه لرحمته بهم وحكمته في تصرفه في خلقه لا يكلف نفساً إلا ما تتسع له طاقتها وتقدر على فعله، وإن لها ما كسبت من الخير فتجزى به خيراً وعليها ما اكتسبت من الشر فتجزى به شراً إلا أن يعفو عنها ويعفر لها فقال: ﴿لا يُكَلِّفُ٣ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... ﴾ وعلمهم كيف يدعونه ليقول لهم قد فعلت، كما صح به الخبر فقال قولوا: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ٤﴾ وفعلاً
١ الإصر: الأمر الغليظ الصعب أو هو الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة ويطلق الإصر على العهد ومنه: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ أي: عهدي وميثاقي، لأن الإصر يطلق على الحبل الذي تربط الأحمال ونحوها.
٢ روى مسلم عن ابن عباس لما نزلت: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ... ﴾ الآية، قال: دخل قلوبهم منها شيء فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا". قال: فألقى الله في قلوبهم الإيمان فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل قوله: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا﴾ الآية.
٣ ورد في فضل خاتمة البقرة أحاديث كثيرة منها: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي".
280
قد عفا عنهم في النسيان والخطأ وخفف عنهم في التشريع فما جعل عليهم في الدين من حرج، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على الكافرين بالحجة والبيان وفي المعارك بالسيف والسنان فله الحمد والمنة وهو الكبير المتعال.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
١- تقرير أركان الإيمان وهي الإيمان وملائكته وكتبه ورسله.
٢- وجوب الإيمان بكافة الرسل وحرمه الإيمان ببعض وترك البعض وهو كفر والعياذ بالله تعالى،
٣- وجوب طاعة الله ورسوله والتسليم والرضا بما شرع الله ورسوله وحرمة رد شيء من ذلك.
٤- رفع الحرج١ عن هذه الأمة رحمة بها.
٥- عدم المؤاخذة بالنسيان٢ أو الخطأ فمن نسي وأكل أو شرب وهو صائم فلا إثم عليه أو أخطأ فقتل فلا إثم عليه.
٦- العفو عن حديث النفس٣ لنزول الآية فيه ما لم يتكلم المؤمن أو يعمل.
٧- تعليم هذا الدعاء واستحباب الدعاء به إئتساء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وقد ورد من قرأ هاتين الآيتين٤ عند النوم كفتاه ﴿آمَنَ الرَّسُولُ... ﴾ السورة.
١ شاهده قوله تعالى من سورة الحج: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾.
٢ حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". أي: رفع إثمه. أما أحكامه، ففيها تفصيل: فالغرامات لا تسقط، فمن كسر آنية خطأ أو نسياناً يغرمها لصاحبها، ومن نسى صلاة مفروضة قضاها، ومن قتل خطأ دفع الدية ويسقط القصاص بالخطأ، كما يسقط الكفر بالنطق خطأ وسهواً.
٣ شاهده حديث: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل". رواه الجماعة.
٤ لحديث مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". أي: من قام الليل لحديث: "من قرأ بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل، وكفتاه من شر الشيطان، فلا يكون له عليه سلطان".
281
سورة آل عمران١
مدنية
وآياتها مائتا آية بلا خلاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{الم (١) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
١ صدر هذه السورة إلى ثلاث وثمانين آية نزلت في وفد نجران سنة تسع من الهجرة.
281
Icon