ﰡ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ ؛ أي من شِدَّةِ الفَزَعِ والخوف من عذاب الله يتحيَّرون كأنَّهم سُكارى، ﴿ وَمَا هُم بِسُكَارَى ﴾ ؛ من الشَّاب، ﴿ وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ والمعنى : ترَى الناسَ كأنَّهم سُكارى من ذهُوْلِ عقولِهم لشدَّة ما يمر بهم فيضطَربون اضطرابَ السَّكران، وسُكَارَى جمعُ سَكْرَانٍ. وقرأ أهلُ الكوفة (سُكْرِي وسُكْرَى) بغيرِ ألف. قال الفرَّاء : هُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبيَّةِ ؛ لأنَّهُ بمَنْزِلَةِ الْهَلْكَى وَالْجَرْحَى وَالْمَرْضَى).
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قال :" يَقُولُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآدَمَ : يَا آدَمُ ؛ قُمْ فَبْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ؛ وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ : مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ. فَعِنْدَ ذلِكَ يَشِيْبُ الصَّغِيْرُ، وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بسُكَارَى ".
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ! أيُّنَا ذلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي يَبْقَى ؟ قَالَ :" أبْشِرُوا ؛ إنِّي لأَرْجُو أنْ يَكُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ألْفٌ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ " ثُمَّ قَالَ :" إنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا وَحَمَدْنَا، ثُمَّ قَالَ :" إنَّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَي أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا وَحَمَدْنَا، ثُمَّ قَالَ : إنِّي لأَرْْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَي أهْلِ الْجَنَّةِ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفّاً، ثَمَانُونَ مِنْهَا أُمَّتِي " ثُمَّ قَالَ ﷺ :" يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألَفاً بغَيْرِ حِسَابٍ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ ألْفاً " فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مَحِيْصٍ : أُدْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ :" أنْتَ مِنْهُمْ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ الله أُدْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ :" سَبَقَكَ بهَا عُكَاشَةُ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ ؛ أي ثُم جعلناكم بعد ذلكَ من النُّطفة التي تكون من الذكر والأنثى، ﴿ ثُمَّ ﴾ خلَقنا ﴿ مِنْ ﴾ تلكَ النطفةِ ؛ ﴿ عَلَقَةٍ ﴾ ؛ وهي قطعةٌ من الدمِ ﴿ ثُمَّ ﴾ ؛ جعلنا العلقةَ ﴿ مِن مُّضْغَةٍ ﴾ ؛ وهي القطعةَ من اللَّحم، تسمَّى مُضْغَةً ؛ لأنَّها مقدارُ ما يُمضَغُ من اللَّحم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ ؛ أي تامَّة الخلقِ وغيرِ تامة الخلقِ، وَقِيْلَ : مصوَّرةٍ وغيرِ مصوَّرةٍ، وهي السَّقْطُ. قال عبدُالله بنُ مسعود :" إذا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ ؛ بَعَثَ اللهُ مَلَكاً يَأْخُذُهَا بكَفِّهِ فَيَقُولُ : يَا رَب مُخَلَّقَةٌ أوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ ؟ فَإنْ قَالَ : غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ ؛ مَجَّتْهَا الأَرْحَامُ دَماً، وَإنْ قَالَ : مُخَلَّقَةٌ، قَالَ : يَا رَب أذكَرٌ أمْ أُنْثَى ؟ وَمَا رِزْقُهَا وَمَا أجَلُهَا ؟ وَشَقِيٌّ أمْ سَعِيْدٌ ؟ وَبأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ ؟
فَيُقَالُ لَهُ : اذْهَبْ إلَى أُمِّ الْكِتَاب فَإنَّكَ تَجِدُ ذلِكَ، فَاسْتَنْسِخْ مِنْهُ صِفَةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، فَيَنْطَلِقُ فَيَسْتَنْسِخُهَا. فَتُخْلَقُ فَتَعِيْشُ فِي أجَلِهَا، وَتَأْكُلُ رزْقَهَا، حَتَّى إذا جَاءَ أجَلُهَا مَاتَتْ، فَتَذْهَبُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي كُتِبَ لَهَا "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ ؛ أي لِنُبَيِّنَ لكم كمالَ قُدرَتِنا وحُكمِنا في تصريفِنا في الخلقِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ ؛ أي ونَتْرُكُ في الأرحامِ ما نشاءُ من الولدِ إلى وقتِ التَّمامِ ولا نُسْقِطْهُ. ورُوي عن عاصمٍ :(وَنُقِرَّ) بالنصب على العطف، وقراءةُ الباقينَ بالرفع على معنى : ونَحْنُ نُقِرُّ. قولهُ تعالى :﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ ؛ أي ثُم نُخرِجُكم من أُمَّهات شتَّى، كأنهُ قال : ثُم نَخرجُكم من الأرحامِ طِفْلاً صِغَاراً، وإنَّما لَم يقل أطفَالاً لأنه لَم يُخْرِجْهُمْ من أُمٍّ واحدة، ولكن يُخرجهم من أُمَّهات شتَّى، كأنهُ قال : ثُم نخرجُ كلَّ واحدٍ منكم طفلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ﴾ ؛ أي ثُم لِنُعَمِّرَكُمْ لتبلغُوا أشُدَّكم بمعنى الكمالِ والقوة، ﴿ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى ﴾ ؛ قبلَ بلُوغِ الأشُدِّ، ﴿ وَمِنكُمْ مَّن ﴾ ؛ يُعَمَّرُ حتى ﴿ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ ؛ أي هَوَانِهِ وأخَسِّهِ وهو الْهَرَمُ والْخَرَفُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾ ؛ أي لكَيْلاَ يَعْقِلَ مِن بعد عقله الأوَّلِ شيئاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً ﴾ ؛ هذه دلالة أخرى تدلهم على إحياءِ الْمَوْتَى بإحياءِ الأرضِ الميتَةِ، والَهَامِدةُ : هي اليابسةُ الجافَّةُ، كأنه قال : وتَرَى الأرضَ يابسةً جافَّةً ذاتَ تُرابٍ كالنار إذا اطفئت ورمدت، ﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ ﴾ ؛ أي على الأرضِ، ﴿ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ ؛ أي تحرَّكَت بالنباتِ، وازدادت وأضعَفت النباتَ، وذلك أن الأرضَ ترتفعُ على النباتِ، فذلك تحريكُها، وهو معنى قولهِ ﴿ وَرَبَتْ ﴾ أي ارتفعَتْ وزَادَتْ وانتفخت للنباتِ، من رَبَا يَرْبُو إذا ازدَادَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ ؛ أي وأخرجت أكَماً من كلِّ لونٍ حَسَنِ البهجةِ، ومِن كلِّ صنفٍ مؤنق العينِ، والبهيجُ الحسنُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾[النمل : ٦٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِـي الْمَوْتَى ﴾ أي ويدلُّكم على أنه يُحيي الموتى كما أحيَاكُم ابتداءً، ﴿ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، وبأنهُ على كلِّ شيء من الإيجادِ والإعدام قديرٌ، وَيدلُّكم ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ﴾ ؛ للحسنات والجزاءِ.
وقولهُ تعالى :﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ ؛ أي عقوبةٌ بالْمَذمَّةِ والقتلِ، ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ ؛ أي عذابَ النارِ، فقُيِلَ النَّضرُ بن الحارث يومَ بدرٍ أسيراً، ومَن قال : نزلت في أبي جهلٍ فهو قُتِلَ أيضاً يوم بدرٍ.
ومعنى الآيةِ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ أي على ضَعْفٍ في العبادةِ، لضَعْفِ القيامِ على الأحْرُفِ لا يدخلُ في الدِّين على ثباتٍ وتَمَكُّنٍ. وَقِيْلَ : معناهُ : على شَكٍّ كأنه قائمٌ على حَرْفِ جدارٍ وطرفِ جَبَلٍ، لا يدخلُ في الدِّين على ثباتٍ ويقين وطُمأنينة، فهو كالمضطرب على شفا جُرْفٍ، ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ﴾ ؛ رخاءً وعافية وسعة، ﴿ اطْمَأَنَّ بِهِ ﴾ على عبادةِ الله بذلك الخيرِ، ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ أي مِحْنَةُ تَضْييقِ الْعَيْشِ ونحوِ ذلك، ﴿ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ﴾ ؛ أي رَجَعَ إلى دينه الأوَّل وهو الشِّرْكُ باللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ ﴾ ؛ أي خَسِرَ في الدُّنيا العِزَّ والغنيمة، وفي الآخرة الجنَّةَ، ﴿ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ ؛ أي الظاهرُ. قرأ الأعرجُ ويعقوبُ :(انْقَلَبَ عَلَى وَجْههِ خَاسِراً الدُّنْيَا والآخِرَةِ) بالألف (وَالآخِرَةِ) بالخفض، ونَصَبَ (خَاسِرَ) على الحالِ.
واختلفُوا في اللاَّم في قوله ﴿ لَمَنْ ضَرُّهُ ﴾ : قيل معناهُ التأخير كأنه قالَ : يدعو مَن والله لَضَرُّهُ أقربُ من نفعهِ، وإنَّما قُدمَتِ اللامُ للتأكيد، ونظيرُ هذا قولُهم : عندي لَمَا غيرهُ خيرٌ منه، معناه : عندي ما لَغَيْرُهُ خيرٌ منه. وقيل ﴿ لِمَنْ ضَرُّهُ ﴾ كلامٌ مبتدأ وخبرهُ ﴿ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴾، ويكون المعنى الذي هو الضلالُ البعيد يدعوهُ، فهذا حدُّ الكلامِ وما بعده كلام مستأنفٌ. وَقِيْلَ : هذه اللامُ صلةٌ ؛ أي يدعو مَن ضَرُّهُ أقربُ من نفعهِ.
وَقِيْلَ : معناهُ : مَن كان يظنُّ أن لن يَنْصُرَ اللهُ النبيَّ ﷺ حتى يظهرَ على الدِّين، فَلْيَمُتْ غَيْظاً. وَقِيْلَ : إن الْهَاءَ راجعةٌ إلى ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ ﴾ كأنه قال : مَنْ كان يظنُّ أن لن يرزقَهُ اللهُ فليَمْدُدْ بحبلٍ إلى سقف بيتهِ وأضفَى ذلك على حَلْقهِ مُخنِقاً نفَسَهُ ليذهب غيظُ نفسهِ.
وهذا مَثَلٌ ضُرِبَ لِهذا الجاهلِ ؛ أي مِثْلُ هذا الذي يظنُّ أن لن يرزقَهُ اللهُ على سبيل السَّخَطِ مثلُ مَن فعلَ هذا الفِعْلَ بنفسهِ، هل كان ذلكَ إلا زائداً في ثلاثةٍ ؟ وهل تذهبُ حقيقة نفسه غَيْظَهُ في رزقهِ ؟ وإنَّما ذكَرَ النُّصْرَةَ بمعنى الرِّزق ؛ لأن العربَ تقولُ : مَن يَنْصُرُنِي نَصَرَهُ اللهُ ؛ أي مَن يُعطيني أعطاهُ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا يَغِيظُ ﴾ ؛ (مَا) بمعنى المصدر ؛ أي هل يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وحيلتهُ غَيْظَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ ﴾ ؛ يَسْجُدُونَ للهِ ؛ أي يَخْضَعُونَ ؛ لأنَّ سجودَ هذه الأشياءِ خضوعُها وانقيادُها لِخالِقِها فيما يريدُ منها. وقال أبو العاليةِ :(مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلاَ شَمْسٌ وَلاَ قَمَرٌ إلاَّ وَهُوَ يَسْجُدُ للهِ حِيْنَ يَغِيْبُ، ثُمَّ لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذنَ لَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ﴾ ؛ أي وكثيرٌ من الكفَّار الذين سيُؤمِنُونَ من بَعْدُ، وانقطعَ ذِكْرُ الساجدين ثُم استثناهُ فقالَ :﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾ ؛ أي مِمَّن لا يُوَحِّدُهُ وأبَى السجودَ، وقولهُ تعالى :﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ﴾ ؛ أي مَن يُهِنِ اللهُ بالشَّقاءِ، فما أحدٌ يُكْرِمُهُ بالسعادةِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ ؛ من الإهانةِ والكرامة والشَّقاوة والسعادةِ، وهو الْمَالِكُ للعقوبة والمثوبةِ.
وَقِيْلَ : أرادَ بالخصمينِ الفريقين الذين تَبَرَزُوا يومَ بَدْرٍ. والخصمُ يقع على الواحدِ والجميع، ألا ترَى أنه جَعَلَ الكفارَ خصماً، والمؤمنين خَصْماً، ولِهذا قال (اخْتَصَمُوا) ؛ لأنَّهما جَمْعَانِ وليس برَجُلين. وكان أبو ذرٍّ رضي الله عنه يُقْسِمُ أنَّ هذه الآية نَزَلَتْ في ستَّةِ نَفَرٍ مِن قُريشٍ تَبَارَزُواْ يومَ بدرٍ بثلاثةٍ من المؤمنين وهم :(حَمْزَةُ ؛ وَعَلِيٌّ ؛ وَعُبَيْدَةُ بْنِ الْحَارثِ) وثلاثةٌ مِن المشركين وهُم :(عُتْبَةُ ؛ وَشَيْبَةُ ؛ وَالْوَلِيْدُ بْنُ عُتْبَةَ)، قال : وقال عليٌّ رضي الله عنه :(إنِّي لأَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّوَجَلَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ﴾ ؛ أي نُحَاسٌ قد أُذِيْبَ في النار فيُجْعَلُ على أبدانِهم بمَنْزِلَةِ الثياب، وليس شيءٌ إذا حُمِيَ أشدُّ حَرّاً من النُّحاس، ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ ؛ وهو الماءُ الحارُّ الذي قد انتَهَى حرُّهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴾ ؛ أي يُذابُ بالحميمِ الذي يصبُّ مِن فوقِ رؤوسهم ما في بطونِهم من الشُّحوم حتى يخرجَ من أدبارهم، وتُذابُ به الجلودُ أيضاً، فإن جلودَهم تتساقطُ من حرِّ الحميم. والصَّهْرُ الإذابَةُ، يقالُ : صَهَرْتُ الإلْيَةَ بالنَّارِ أصهرها ؛ أي أذبتُها.
ثم ذكَرَ اللهُ الخصمَ الآخر فقال :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ﴾ ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ في سورةِ الكهف.
قرأ أهلُ المدينة وعاصم :(وَلُؤْلُؤاً) بالنصب على معنى (يُحَلَّوْنَ فِيْهَا لُؤْلُؤاً)، ومَن قرأ بالخفضِ كان المعنى (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ ؛ ظاهرُ المرادِ. قال أبو سعيدٍ الخدريُّ :" مَنْ لَبسَ الْحَرِيْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ، وَإنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبسَهُ أهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ ؛ معناهُ : الذي جعلناهُ للناسِ كلِّهم، لَم يخصَّ به بعضَهم دون بعضٍ سِوَى المقيمِ فيه، والذي يأتِي مِن غير أهلهِ، وليس الذين صَدُّوا عنهُ بأحقَّ به مِن غيرِهم.
قِيْلَ : المراد بالمسجدِ الحرام في هذه الآية الْحَرَمُ كلُّهُ، كما في قولهِ تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾[التوبة : ٧] وكان العهدُ بالحديبيةِ. وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قال :" إنَّ مَكَّةَ لاَ يَحِلُّ بَيْعُ ربَاعِهَا وَلاَ إجَارَةُ بُيُوتِهَا ". وَقِيْلَ : إن المرادَ بالمسجدِ الحرام نَفْسُ المسجدِ سِوَى الْمُعْتَكَفِ فيه : الْمُجَاوِرُ والبادِيُ الذي يكون مُلازماً له في حُرمتَهِ وحقُّ الله عليهما فيه سواءٌ.
قرأ حفصٌ :(سَوَاءً) بالنصب بإيقاعِ الْجَعْلِ عليه، لأن الجعلَ يتعدَّى إلى مفعُولين. وقرأ الباقون بالرفعِ على الابتداءِ، وما بعدهُ خبره. وقِيْلَ :(سَوَاءٌ) خبرُ مبتدأ متقدِّم تقديرهُ : العَاكِفُ فِيْهِ وَالْبَادِي سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ ؛ معناهُ : ومَن يُرِدْ فيه إلحاداً بظُلْمٍ، وفي هذا دليلٌ أن المرادَ بالمسجد الحرامِ كلَّ الْحَرَمِ، فإن الذنبَ في الحرمِ أعظمَ منه في غيره، فعلى هذا يكونُ قوله ﴿ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ أي سواءً في النَّزول، فليس أحدُهما أحقُّ بالمنْزِل يكون فيه. وحرَّمُوا بهذه الآية كِرَاءَ دور مكَّة وإجارتَها في أيام الموسم.
قال عبدُالله بن أسباط :(كَانَ الْحُجَّاجُ إذا قَدْمُوا مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ أحَقَّ بمَنْزِلِهِ مِنْهُم)، رُوِي :(أنَّهَا كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ، مِن احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أُسْكِنَ).
والإلحادُ هو الشِّرْكَ بالله تعالى، وَقِيْلَ : كلُّ ظالِمٍ فيه ملحدٌ. وعن رسول الله ﷺ أنه قالَ :" احْتِكَارُ الطَّعَامِ بمَكَّةَ إلْحَادٌ ". وأمَّا دخولُ الباء في قوله :(بإلْحَادٍ) فعلى معنى : ومَن إرادتهُ فيه بأنْ يُلْحِدَ بظلمٍ. وَقِيْلَ : الإلحادُ دخول مكة بغيرِ إحرامٍ، وأخذُ حَمَامِ مكَّة وأشياء كثيرة لا يجوزُ للمُحْرِمِ أن يفعَلَها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ خبرٌ لكل ما تقدَّم من الجملتين من قولهِ تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ ﴾، ومِن قولهِ تعالى ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ﴾.
قال السديُّ :(لَمَّا أمَرَ اللهُ تَعَالَى ببنَاءِ الْبَيْتِ لَمْ يَدْرِ إبْرَاهِيمُ أيْنَ يَبْنِي، فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِ ريْحاً، فَكَشَفَتْ لَهُ مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنِ الأَسَاسِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ الْبَيْتُ عَلَيْهِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ أيَّامَ الطُّوفَانِ)، وقال الكلبيُّ :(فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِ سَحَابَةً عَلَى قَدْرِ الْبَيْتِ فِيْهَا رَأسٌ يَتَكَلَّمُ فَقَامَتْ بحِيَالِ الْبَيْتِ، وَقَالَتْ : يَا إبْرَهِيْمَ إبْنِ عَلَى قَدْرِي)، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ﴾ أي قلنا له وأوحَينا إليه أن لا تَعْبُدْ معي غيري.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ أي طَهِّرْ مِن ذبائحِ المشركين، ومما كانوا حولَهُ من الدَّمِ والفَرْثِ، وَقِيْلَ : طَهِّرْهُ من عبادةِ الأوثانَ، ومن دخولِ المشركين فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِلطَّآئِفِينَ ﴾ الذين يَطُوفُونَ حَوْلَهُ، وأما القائمونَ الرُّكَّعُ السُّجُودُ فهم الْمُصَلُّونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ ؛ معناهُ : يأتوكَ مُشَاةً على أرجُلِهم وعلى كلِّ جَمَلٍ مهزولٍ أضْمَرَهُ السفرُ، ورجَالٌ جمع رَاجِلٍ، نحو صاحِبٍ وأصحابٍ. وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ :(مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي إلاَّ أنِّي لَمْ أحُجَّ رَاجِلاً)، وقد حَجَّ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا خَمساً وعشرين حَجَّةً ماشياً من المدينةِ إلى مكَّةَ، وأن النَّجَائِبَ لتقادُ معه.
وعن رسولِ الله صلى عليه وسلم أنهُ قال للحُجَّاجِ :" لِلرَّاكِب كُلُّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا رَاحِلَتُهُ سَبْعِيْنَ حَسَنَةً، وَلِلحَاجِّ الْمَاشِي بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ " قِيْلَ : وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ :" الْحَسَنَةُ بمِائَةِ ألْفٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾ ؛ أي من بُلدانٍ شتَّى، مِن كلِّ طريقٍ بعيد، يقالُ عَمِيقَة إذا كانت بعيدةَ القرارِ. وإنَّما قال (يَأْتِيْنَ) ؛ لأنه في معنى الجمعِ، وَقِيْلَ : معناهُ : وعلى نَاقَةٍ ضَامِرَةٍ.
وعن بشْرِ بن مُحَمَّدٍ قال : رأيتُ في الطَّوافِ كَهْلاً قد أجهدتْهُ العبادةُ، واصفَرَّ لونهُ، وبيدهِ عصا وهو يطوفُ معتمداً عليها، فتقدَّمتُ إليه لأسألَهُ، فقال لِي : مِن أين أنتَ ؟ فقلتُ : من خُراسان، قال : من أيِّ ناحيةٍ هي ؟ قلتُ : من نواحي المشرقِ، فقال لِي : فِي كم تقطعونَ هذا الطريقَ ؟ قلتُ : شهرين أو ثلاثة، قال : أفلاَ تَحُجُّونَ في كلِّ عام وأنتم جيرانُ البيتِ ؟ قلتُ : وأنتم كم بينَكُم وبين هذا البيتِ ؟ فقال : مسيرةُ خمسِ سنين، فقلتُ : والله إن هذا الجهدُ لَبَيِّنٌ، والطاعةُ الجميلة والمحبة الصادقةُ، فضَحِكَ في وجهي وأنشأَ يقولُ : زُرْ مَنْ هَوَيْتَ وَإنْ شاطتَ بكَ الدارُ وَحَالَ مَنْ زُرْتَهُ حُجُبٌ وَأسْتَارُلاَ يَمْنَعَنَّكَ بُعْداً مِنْ زِيَارَتِهِ إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ زَوَّارُ
وعن عمرَ بنِ عبدِالعزيز أنه كان يقول إذا وَقَفَ بعرفةَ :(اللَّهُمَّ إنَّكَ دَعَوْتَ إلَى حَجِّ بَيْتِكَ، وَذكَرْتَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى شُهُودِ مَنَاسِكِكَ، وَقْدْ جِئْتُكَ فَاجْعَلْ مَنْفَعَةَ مَا تَنْفَعُنِي بهِ أنْ تُؤْتِيَنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَأنْ تقيَني عَذابَ النَّارِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْعَشْرُ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشِرِيْقِ)، وإنَّما قال لَها معدوداتٍ ؛ لأنَّها قليلةٌ، وَقِيْلَ لتلكَ المعلوماتِ الحرصُ على علمِنا بحسابها من أجلِ وَقْفِ الحجِّ في آخرها، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفةَ.
وقال أبو يوسُفَ :(الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أيَّامُ النَّحْرِ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشْرِيْقِ وَهِيَ ثَلاَثَةٌ بَعْدَ الْيَوْمِ الأوَّلِ مْنْ أيَّامِ النَّحْرِ، فَيَكُونُ الْيَوْمُ الأَوَّلُ مِنْ أيَّامِ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ دُونَ الْمَعْدُودَاتِ، وَالْيَوْمُ الآخِرُ مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ دُونَ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَوْمَيْنِ مِنْ وَسَطِهَا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ والْمَعْدُودَاتِ جَمِيْعاً)، وكان يستدلُّ على هذا القولِ في الأيَّام بهذه الآية، فإنه تعالى قالَ :﴿ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾، فاقتضى ظاهرهُ أن المرادَ التسميةُ على ما ذُبحَ من بَهيمة بالْمُتْعَةِ والقِرَانِ.
وأما على قول أبي حنيفةَ، فالمرادُ بالذِّكْرِ إكثارُ الذِّكرِ في أيامِ العَشْرِ، كما رُوي عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" مَا مِنْ أيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أفْضَلَ فِيْهِنَّ مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ، فَأَكْثِرُواْ فِيْهَا مِنَ التَّحْمِيْدِ وَالتَّكْبيْرِ وَالتَّهْلِيْلِ "
وعلى هذا يكونُ معنى ﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ لِمَا رزقتُهم من بَهيمة الأنعامِ، كما قال﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾[البقرة : ١٨٥] أي لِما هَدَاكُمْ، وقال محمَّدُ بن كعبٍ : الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ وَاحِدٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ يعني الهدايا والضَّحايا من الإبلِ والبقرِ والغنم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(وذَلِكَ أنَّ أهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إذا ذبَحُوا لَطَّخُواْ وَجْهَ الْكَعْبَةِ، وَشَرَّحُوا اللَّحْمَ فَوَضَعُوهُ عَلَى الْحِجَارَةِ حَتَّى تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ، وَقَالُواْ : لاَ يَحِلُّ لَنَا أنْ نَأْكُلَ شَيْئاً جَعَلْنَاهُ للهِ.
فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نَضَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ألاَ نَضَعُهُ الآنَ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا ﴾ يعني الأنعامَ التي تَنْحَرون، ﴿ وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ ﴾ وهو الذي قد أصابَهُ ضررُ الجوعِ، و ﴿ الْفَقِيرَ ﴾ الذي لا شيءَ لهُ. وَقِيْلَ : البائسُ الذي بَيَّنَ عليه أثرُ البُؤْسِ بأن يَمُدَّ يده إليكَ. وَقِيْلَ : البائسُ الزَّمِنُ. وإنَّما خَصَّصَ البائسَ الفقيرَ ؛ لأنه أحوجُ من غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾ ؛ يعني نَحْرَ ما نَذَرُوا من البُدْنِ، وَقِيْلَ : يعني ما نَذَرُوا من أعمال البرِّ في أيامِ الحجِّ، وربَّما نَذَرَ الرجلُ أن يتصدَّقَ إنْ رَزَقَهُ اللهُ لقاءَ الكعبة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ ؛ يعني طوافَ الزِّيارةِ بعد التروية، أما يومُ النَّحرِ وما بعده فيسمَّى طوافَ الإفَاضَةِ. والعتيقُ القديْمُ ؛ لأنه أولُ بيتٍ وُضِعَ للناسِ. وَقِيْلَ :" أُعْتِقَ من أيدِي الْجَبَابِرَةِ، فَلاَ يَظْهَرُ عَلِيْهِ جبَّارٌ قَطْ إلاّ أذلَّهُ اللهُ " وعن ابنِ عبَّاس قال :" حَجَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا أتَى وَادِيَ عَسَفَانَ قَالَ :" لَقَدْ مَرَّ بهَذا الْوَادِي نُوحٌ وَهُودٌ وَإبْرَاهِيْمُ عَلَى بَكْرَاتٍ حُمْرٍ خَطْمُهُنَّ اللِّيْفُ، يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيْقَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ ﴾ ؛ أي رُخِّصَتْ لكم بَهيمة الأنعامِ أن تأكلوها، ﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ في كتاب الله من الْمَيْتَةِ والدمِ وغير ذلك مما بَيَّنَهُ اللهُ في سورة المائدةِ من الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيْحَةِ ومما لَم يُذْكَر اسمُ الله عليهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وأُحِلَّتْ لكم بَهيمةُ الأنعامِ في حال إحرامِكم إلاَّ ما يُتْلَى عليكم من الصَّيدِ، فإنه حرامٌ في حال الإحرامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾ ؛ أي فَاجْتَنِبُوا عبادتَها وتعظيمَها وأن تذبَحُوا لَها، كما يفعلُ المشركون، سَمَّاها رجْساً اسْتِقْذاراً لَها واستخفافاً لَها، وذلك أنَّ المشركينَ كانوا يَنْحَرُونَ هداياهم، ويَصُبُّونَ عليها الدماءَ، وكانوا مع هذه النَّجاساتِ يعظِّمونَها.
ويجوز أن يكون سَمَّاها رجْساً للُزُومِ اجتنابها كاجتناب الأنْجَاسِ. وأما حرفُ (مِنَ) في قولهِ (مِنَ الأوْثَانِ) لتخصيصِ جنسٍ من الأجناس، والمعنى : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الذي هو مِن وَثَنٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ ﴾ ؛ يعني قولَ الكذب، ومِن أعظمِ وجُوهِ الكذب الكفرُ بالله، والكذبُ على الله، ويدخلُ في ذلك شهادةُ الزُّور، كما رُوي عن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بالإشْرَاكِ باللهِ ". وقال ﷺ :" شَاهِدُ الزُّورِ لاَ تَزُولُ قَدَمَاهُ مِنْ مَكَانِهَا حَتَّى تَجِبَ لَهُ النَّارُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ ﴾ ؛ أي سَقَطَ من السَّماءِ، ﴿ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ﴾ ؛ في الْهَواءِ فَتُمَزِّقُهُ، أو تذهبُ به الريحُ في موضع بعيدٍ ؛ أي مُنْحَدَرٍ فيقعُ على رأسهِ فيهلَكُ، أي كما أنَّ الذي سَقَطَ من السماءِ لا يَملك نفعاً ولا دفعَ ضُرٍّ، وكذلك الذي تَهوي به الريحُ في مكان سَحيقٍ، وكذلك المشركُ لا ينتفعُ بشيء مِن أحْمَالِهِ ولا يقدرُ على شيءٍ منها.
قرأ أهلُ المدينة (فَتَخَطَّفُهُ الطَّيْرُ) بالتشديد أي فَتَتخْطِفُهُ، فأُدْغِمَ أحدُ التَّائَين في الأُخرى، والْخَطْفُ : الأخذُ بسرعةٍ. قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيْدُ يَخْطِفُ لَحْمَهُ)، ﴿ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ ﴾ ؛ أي تُسْقِطُهُ، ﴿ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ ؛ أي بعيدٍ. شَبَّهَ حالَ الْمُشْرِكِ بحال هذا الْهَاوِي من السَّماء في أنه لا يَمْلِكُ حيلةً حتى يسقطَ فهو هالكٌ لا محالةَ، إما بإسْلاَب الطَّيرِ، وإما بالسُّقوطِ في المكان السَّحيقِ.
وأما ركوبُها عند الشافعيِّ يجوزُ إذا لَم يُضِرَّ بها، وعندنا لا يجوزُ إلاّ اذا اضطرَّ إليه. وعن أبي هريرةَ " عن النبيِّ ﷺ أنه رَأى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ لَهُ :" وَيْحَكَ! ارْكَبْهَا " فَقَالَ لَهُ : إنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ :" وَيْحَكَ! ارْكَبْهَا " وهذا عندنا محمولٌ على أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنَّما أباحه لضرورة علمه مِن الرجُل فأَذِنَ له في ذلكَ إن لم يجد ظهراً غيرها، يدلُّ على ذلك أنه لا يجوزُ له أنْ يوجِّهَها للركوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ ؛ يعني أنَّ نحرها إلى الْحَرَمِ، وعبَّر عن الحرمِ بالبيت ؛ لأن حرمةَ الحرمِ متعلقةٌ بالبيت، كما قالَ تَعَالَى﴿ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾[المائدة : ٩٥]، ومن المعلومِ أنَّهُ لا يُذْبَحُ عند البيتِ.
قرأ أهلُ الكوفة (مَنْسِكاً) بكسرِ السِّين ؛ أي مَذْبَحاً وهو موضعُ القُرْبَانِ، وقرأ الباقون بفتحِ السِّين على المصدر مثل الْمَدْخَلِ والْمَخْرَجِ ؛ أي هِرَاقَةُ الدَّمِ أو ذبحُ القُرُبَاتِ، فمَن فتحَ السين أخذهُ من نَسَكَ يَنْسُكُ مثل دَخَلَ يَدْخُلُ، ويستوي فيه المكان والمصدرُ، ومَن كسَرَها أخذهُ من نَسِكَ يَنْسِكُ مثل جَلَسَ يَجْلِسُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ ﴾ ؛ أي أخْلِصُوا دِينَكم وأعمالكم للهِ تعالى، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ ؛ أي المتواضعين بالجنَّة، واشتقاقُ الْمُخْبتِيْنَ مِنَ الْخَبَتِ وهو المكانُ المطمئنُ، وقال مجاهدُ :(يَعْنِي الْمُخْبتِينَ : الْمُطْمَئِنِّيْنَ إلَى اللهِ)، وقال الأخفشُ :(الْخَاشِعِيْنَ)، وَقِيْلَ : الخائفينَ، وَقِيْلَ : هم الذين إذا ظلموا لا ينصرون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ ﴾ ؛ أي عند نَحرها، وصَوَافَّ جمعُ الصَّافَّةِ وهي القائمةُ على ثلاثِ قوائم قد عُقلت، وكذا السُّنة في الإبلِ، ومعنى الآية : فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ على نَحْرِهَا قِيَاماً معقولة إحدى يدَيها وهي اليُسرى. وعن يحيى بن سالِم قال :(رَأيْتُ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ، فَنَحَرَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ مَعْقُولةٌ إحْدَى يَدَيْهَا) يعني اليسرى.
وروِيَ عن ابنِ مسعود كان يقولُ :(صَوَافَّن) بالنون وهي المعقولةُ، مِن قولِهم : صَفَنَ الفرسُ إذا قامَ على ثلاثِ قوائم، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ﴾[ص : ٣١]. وقرأ الحسنُ ومجاهد :(صَوَافِي) بالياء أي صافيَةً خالصةً لله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾ ؛ أي سَقَطَتْ بعدَ النحرِ، فوضعت جنوبُها على الأرضِ وخرجت روحُها، ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا ﴾ ؛ ولا يجوزُ الأكلُ من البُدْنِ إلاّ بعد خروجِ الروح، لأن ما بينَ عن الحيِّ فهو ميتٌ. وأصلُ الوُجُوب الوُقُوعُ، ومنه وَجَبَتِ الشمسُ إذى وقعت في الْمَغِيْب، ووجبَ الحائطُ إذا وقعَ، ووجبَ القلبُ إذا وقعَ فيه الفزعُ، ووجبَ الفِعلُ إذا وجبَ ما يلزمُ به فعله. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا ﴾ أمَرْنا بإباحةٍ ورُخْصَةٍ مثلُ قوله :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ﴾[المائدة : ٢]، وقولهِ تعالى﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ ﴾[الجمعة : ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ ؛ اختلَفُوا في معناها، فرُويَ عن ابنِ عبَّاس ومجاهد :(أنَّ الْقَانِعَ هُوَ الَّذِي يَقْنَعُ وَيَرْضَى بمَا عِنْدَهُ وَلاَ يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَعْتَرِضُ لَكَ أنْ تُطْعِمَهُ مِنَ اللَّحْمِ)، يقالُ : قَنَعَ قَنَاعَةً إذا رَضِيَ قانع، وعَرَاهُ واعْتَرَاهُ إذا سألَهُ، وكذلك قال عكرمةُ وقتادة :(إنَّ الْقَانِعَ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ الَّذِي يَعْتَرِيْكَ وَيَسْأَلُكَ).
قال سعيدُ بن جبير والكلبيُّ :(الْقَانِعُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ ويُرِيكَ نَفْسَهُ وَلاَ يَسْأَلُكَ)، فعلى هذا يكون القانعُ من القُنُوعِ وهو السُّؤالُ، يقال منه : قَنَعَ الرجلُ يَقْنَعُ إذا ذهبَ يسأل، مثل ذهبَ فهو قانعٌ. قال الشمَّاخُ : كَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنَى مَفَاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ الْقَنُوعِأي من السُّؤال. وقال زيدُ بن أسلمَ :(الْقَانِعُ هَوَ الْمِسْكِيْنُ الَّذِي يَطُوفُ فَيَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ الصَّدِيْقُ الزَّائِرُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِي الْقَوْمَ لِلَحْمِهِمْ وَلَيْسَ بمِسْكِيْنٍ إلاَّ أنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ ذبيْحَةٌ، يَأْتِي الْقَوْمَ لأَجْلِ لَحْمِهِمْ).
وقرأ الحسنُ :(وَالْمُعْتَرِي) بالياء من قولِهم : اعْتَرَاهُ إذا غَشِيَهُ لحاجته. وروى عطاءٌ عن ابن عبَّاس :(أنَّ الْقَانِعَ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَأْتِيْكَ بالسَّلاَمِ، وَيُرِيْكَ وَجْهَهُ، وَلاَ يَسْأَلُ)، وعن مجاهد :(أنَّ الْقَانِعَ جَارُكَ الْغَنِيُّ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَعْتَرِيْكَ مِنَ النَّاسِ).
فعلى هذا تقتضي الآيةُ : أن المستحبَّ أنْ يتصدَّقَ بالثُّلُثِ ؛ لأن في الآيةِ أمرٌ بالأكلِ وإعطاءِ الغنيِّ وإعطاءِ الفقير السائلِ. " وعن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ في الحرمِ :" الأَضَاحِي كُلُوا وَادَّخِرُواْ " وقال تعالى :﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ﴾[الحج : ٢٨]، فإذا جَمعت بين الآية والخبر جُعِلَ الثلثُ للصدقةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ أي مِثْلَ ما وَصَفْنَا من نَحرِها وقيامها سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ ؛ أي ذلَّلْنَاهَا لكم ؛ لتتمكَّنوا من نحرِها على الوجهِ الْمَسْنُونِ ؛ لكي تَشْكُرُوا نِعَمَ اللهِ تعالى.
ويقالُ : إنَّما لاَ يَتَقَبَّلُ الله اللحومَ والدماء لأنها فعلُ الله، ولكن يتقبلُ التقوى الذي هو فِعْلُ العبدِ، فيوجبُ الثوابَ على ذلك، والمعنى : لن يتقبَّلَ اللهُ اللحومَ والدماء اذا كانت من غيرِ تقوى، وإنَّما يتقبَّلُ منكم التقوَى والطاعةَ في ما أمرَكم به، بالنيَّة والإخلاصِ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ ﴾ ؛ أي ذلَّلَهَا لكم، ﴿ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ ﴾ ؛ أي لِتُعَظِّمُوهُ، ﴿ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ ؛ لِدِيْنِهِ، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ بالجنَّة يعني الموحِّدين المخلصين. ويقالُ : معنى قوله ﴿ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ يعني ما بَيَّنَ لكم وأرشَدَكم لِمَعَالِمِ دِيْنِهِ ومناسكِ حَجِّهِ.
قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيْدُ الَّذِيْنَ خَانُواْ اللهَ بأنْ جَعَلُواْ مَعَهُ شَرِيْكاً وَكَفَرُواْ نِعَمَهُ)، قال الزجَّاجُ :(مَنْ ذكَرَ غَيْرَ اسْمِ اللهِ وَتَقرَّبَ إلَى الأَصْنَامِ بذبيْحَتِهِ فَهُوَ خَوَّانٌ كَفُورٌ)، قرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير :(يَدْفَعُ)، وقرأ الباقون :(يُدَافِعُ)، وهو بمعنى واحدٍ.
وَقِيْلَ : كان مُشرِكُو مكَّة يؤذُونَ أصحابَ رسولِ الله ﷺ فلا يزالون مَحْزُونِينَ من " بين " مَشْجُوجٍ ومضروبٍ، ويَشْكُونَ ذلك على رسول الله ﷺ فيقولُ لَهم :" اصْبرُواْ فَإنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بالْقِتَالِ " حَتَّى هَاجَرُواْ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ بالمدينة.
قرأ نافعُ وأبو عمرٍو وعاصم :(أُذِنَ) بضمِّ الألف وكسرِ الذال، وقرأ الباقون (أَذِنَ) بالفتح ؛ أي أَذِنَ اللهُ لَهم، وقوله (يُقَاتَلُونَ)، قرأ نافع وابنُ عامر وحفص : بفتح التاء ؛ أي أذِنَ للمؤمنينَ الذين يُقَاتِلُهُمُ المشركونَ، وقرأ الباقون بكسرِها، يعني أَذِنَ لَهم في الجهادِ يقانلون المشركينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ معناه : لَمْ يُخرْجُوهم إلاّ بأن كانوا يُوَحِّدُونَ اللهَ تعالى فأخرَجُوهم لتوحيدِهم، المعنى : لَمْ يُخرجوهم مِن ديارهم إلاّ لقولهم رَبُّنَا اللهُ، فيكون (أنْ) في موضع الخفضِ رداً على الباء في قولهِ ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، ويجوز أن تكون (أنْ) في موضع نصبٍ على الاستثناء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ﴾ ؛ أي لولا أنْ يدفعَ اللهُ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لَهُدِمَ في زمنٍ كلُّ شيء ما بُنِيَ للصلاةِ والعبادة نحو الصَّوامعَ، ﴿ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً ﴾.
قال مجاهدُ والضحَّاك :(يَعْنِي صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ)، وقال قتادةُ :(الصَّوَامِعُ لِلصَّابئِيْنَ ؛ وَهِيَ مُتَعَبَّدَاتُهُمْ، وَالْبَيعُ جَمْعُ بَيْعَةٍ ؛ وَهِيَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى، وَالصَّلَوَاتُ هِيَ كَنَائِسُ الْيَهُودِ، وَكَانَ الْيَهُودُ يُسَمُّونَهَا بالْعَبْرَانِيَّةِ صَلَوَاتَا، وَالْمَسَاجِدُ الَّتِي يُصَلِّي فِيْهَا الْمُسْلِمُونَ).
والمعنى : لولا كَفُّ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض بالجهادِ، وكَفُّ الظُّلم لحربٍ في كلِّ شريعةٍ، كلٌّ بَنى المكان الذي يُصَلَّى فيه، فكان لولا الدفعُ لَهُدِمَ في زمنِ موسى عليه السلام الكنائسُ، وفي زمنِ عيسى عليه السلام الصَّوامِعُ والبيَعُ، وفي زمن مُحَمَّدٍ ﷺ المساجدُ. وعن مجاهد أنه قال :(الْبيَعُ لِلْيَهُودِ يُسَمُّونَهَا صَلَوات)، وقال أبو العاليةِ :(هِيَ مَسَاجِدُ لِلصَّابئِيْنَ). فعلى هذا يكون المعنى : لَهُدِّمَتْ صوامعُ الصلواتِ. ويقال : أرادَ بالصَّلواتِ الصلوات المعهودة التي للمسلمين، وهَدْمُهَا إبطالُها وإهلاكُ مَن يفعلُها.
والأَوْلَى أنْ يستدلَّ بهذه الآية على أنَّ هذهِ المواضعَ المذكورة التي يجري فيها اسمُ الله تعالى لا يجوزُ أن تُهْدَمَ في شريعةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ على كلِّ مَن كان له ذِمَّةٌ، أو جهاد من الكفَّار، فأما في ديارِ الحرب فيجوزُ للمسلمين هدمُها إذا فُتحت دارُهم عنوةً، ولَم يُقَرُّوا عليها بالجزيةِ، كما يجوزُ هَدْمُ سائر دورِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :(لَهُدِّمَتْ) الْهَدْمُ هو نَقْضُ البناءِ. قرأ أهلُ الحجاز (لَهُدِمَتْ) بالتخفيف. فإن قِيْلَ : لِمَ قَدَّمَ مُصَلَّيَاتِ الكافرينَ على مساجدِ المؤمنين ؟ قِيْلَ : لأنَّها أقدمُ، وَقِيْلَ : لقربها من الهدمِ، وقُرب المساجد من الذِّكْرِ، كما خُرِّجَ السَّابقُ في قولهِ تعالى﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾[فاطر : ٣٢] إلى قولهِ تعالى :﴿ بِالْخَيْرَاتِ ﴾[فاطر : ٣٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ﴾ ؛ أي ليَنْصُرَنَّ اللهُ تعالى مَنْ يَنْصُرُ دِيْنَهُ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ ؛ أي لَقَوِيٌّ على أخذِ الأعداء، عَزِيْزٌ أي مُمتنعٌ بالنعمةِ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ ﴾ ؛ الهاءُ في قوله ﴿ فَإِنَّهَا ﴾ عمادٌ، وهو إضمارٌ على شريطةِ التفسير، والمعنى : فإنَّ الأبصارَ لا تَعْمَى ؛ أي يَرَوْنَ بأبصارهم، ﴿ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ ؛ قلوبُهم بذهابها عن إدراكِ الحقِّ بما يؤدِّي إليه الدليلُ.
وفي الآية دليلٌ أنَّ العقلَ في القلب بخلاف ما قالَهُ الفلاسفةُ والأطباء : أن مَحَلَّ العقلِ الرأسُ الدماغ ؛ لأن العقلَ لو لَم يكن في القلب لَم يُوصَفِ القلبُ بأن يَعْمَى، كما لا تُوصَفُ بذلك اليدُ والرِّجل، وأما وصفُ القلوب بأنَّها في الصُّدور فعلى وجهِ التأكيد، كما في قولهِ تعالى﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم ﴾[آل عمران : ١٦٧]، وقولهِ﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾[الأنعام : ٣٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّهم يستعجلونَ بالعذاب، وإنَّ يوماً من أيَّام عذابهم في الآخرةِ ألفُ سنةٍ، فكيفَ يستعجلونه؟! قال الفرَّاء في هذه الآية :(وَعِيْدٌ لَهُمْ بالْعَذاب فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ).
وَقِيْلَ : معناهُ : وإنَّ يوماً عندَ الله وألفَ سنةٍ في قدرته لواحدٌ، فليس تأخُّرُ العذاب عنهم إلاّ تفضُّلاً من اللهِ عليهم. قال الزجَّاجُ :(أعْلَمَ اللهُ أنَّهُ لاَ يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَإنَّ يَوْماً عِنْدَهُ وَألْفَ سَنَةٍ سَوَاءٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إيْقَاعِ مَا يَسْتَعْجِلُونَهُ مِنَ الْعَذاب فِي تأْخِيْرِهِ فِي الْقُدْرَةِ، إلاَّ أنَّ اللهَ تَفَضَّلَ بالإمْهَالِ، فَسَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي الإمْهَالِ يَوْمٌ وَألْفُ سَنَةٍ ؛ لأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ مَتَى شَاءَ أخَذهُمْ)، قال الكوفيُون وابنُ كثير :(مِمَّا يَعُدُّونَ) بالياء، وقرأ الباقونَ بالتاء.
وهذا حَدِيْثٌ أنْكَرَ أهْلُ الْعِلْمِ إجْرَاءَهُ على ظاهرهِ، وقالوا : كيفَ يجوزُ أن يجعلَ اللهَ للشيطانِ على رسولهِ هذا السلطانَ، أوَ يختارُ لرسالته مَن لا يُمَيِّزُ بين وحيِ الله ووساوسِ الشَّيطان؟! ومِن المعلوم أن مَن نَسَبَ النبيَّ ﷺ به إلى ما يرجعُ إلى تعظيمِ الأصنام فقد كَفَرَ، إلاّ أنه يحتملُ أن يكون الشيطانُ ألقَى في تلاوةِ النبيِّ ﷺ ما لَم يَقُلْهُ، وخُيِّلَ إلى مَن سَمع تلاوتَهُ مِن الذين كانوا بالبُعْدِ منهُ أنه جرَى على لسانهِ، وإنَّما هو من لسانِ الشيطان، وكان ذلك فتنةً للتابعين، وكان النبيُّ ﷺ مَعْصُوماً مِن أن يَجْرِيَ على لسانهِ ما لَم يُنْزِّلْهُ اللهُ. وقد يُذْكَرُ التَّمَنِّي ويرادُ به القراءةُ كما قال الشاعر : تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أوَّلَ لَيْلِهٍ وَآخِرَهُ لاَقِي حِمَامَ الْمَقَادِروقال جماعةٌ من المفسِّرين : كان رسولُ الله ﷺ حَريصاً على إيْمان قومهِ، وتَمنَّى في نفسهِ مِن الله أن يأتيه ما يقاربُ بينه وبين قومهِ، فجلسَ ذات مرَّة بهم في مجلسٍ كثيرٌ أهلهُ، وأحبَّ يومئذ أن يأتيه من اللهِ شيءٌ فقرأ عليهم سُورة النَّجْمِ، فلما بَلَغَ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ﴾[النجم : ١٩-٢٠] ألقَى الشيطانُ على لسانهِ (تلك الغرانيقُ العلى وأن شفاعتهم ترتجى) فلما سَمعت قريشُ ذلك فرِحُوا وقالوا : قد ذكرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتنا بأحسنِ الذكر، ومضَى النبيُّ ﷺ في قراءتهِ، فلما خَتَمَ السورةَ سَجَدَ في آخرِها وسجدَ معه المسلمون والمشركون إلاّ الوليدَ بن المغيرةِ وسعيدَ بن العاص فإنَّهما أخذا حفنةً من البطحاءِ ورفَعَاها إلى جبهَتِهما وسجدا عليها ؛ لأنَّهما كانا شَيخين كبيرين لَم يستطيعا أن يسجُدَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ يعني المشركينَ كذلك ازدَادُوا فتنةً وضلالة وتكذيباً، سَمَّاهم قاسيةً قلوبُهم ؛ لأنَّها لا تلينُ لتوحيدِ الله، وقولهُ تعالى :﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة، ﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ ؛ أي مشاقَّةٍ بعيدةٍ عن الحقِّ.
قال السديُّ :(التَّصْدِيْقُ أنَّهُ الْحَقُّ) أي إنَّ نَسْخَ ذلك وإبطالَهُ حقٌّ من اللهِ، ﴿ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ ﴾ ؛ وتصديقِ النَّسْخِ، ﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ أي تَرِقَّ قلوبُهم للقُرْآنِ فينقَادُوا لأحكامه، بخلافِ المشركين الذين قِيْلَ : لهم﴿ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾[الحج : ٥٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ فيه بيانُ هذا الايْمَانَ والإخْبَاتَ إنَّما هو بلُطْفِ الله وهدايته إياهم، والمعنى : وإنَّ اللهَ لَهَادِيْهِمْ إلى دينٍ يرضاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ ؛ أي حَبَسَ عنكم السَّماءَ حتى لا تقعَ عليكم فتهلَكُوا. ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ أي إلاّ بإرادتهِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ أي مُتَفَضِّلٌ على عبادهِ، مُنْعِمٌ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ ﴾ ؛ معناه : النَّهْيُ عن المنازعةِ بعد ظهورِ ما يوجبُ نَسْخَ الشرائعِ المتقدِّمة، كما يقالُ : لا يُخَاصِمُكَ فلانٌ في هذا الأمرِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا ينازعنَّكَ في أمرِ الذبح، وذلك أن كفارَ قريش خَاصَمُوا رسولَ اللهِ ﷺ وأصحابَهُ في أمرِ الذبيحة ؛ وقالوا : ما لكم تأكلونَ ما قتلتُم بأيديكم، ولا تأكلونَ ما قَتَلَهُ اللهُ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي أدْعُ إلى دينِ ربكَ وطاعته إنَّكَ على هُدًى مستقيمٍ، وَقِيْلَ : على دَلاَلَةٍ ودينٍ مستقيم. ﴿ وَإِن جَادَلُوكَ ﴾ ؛ على سبيلِ المراءِ والتَّعْنُّتِ كما يفعلهُ السفهاء، ﴿ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي إدفَعْهُم بهذا القول، ولا تُجَادِلْ إلاّ لِتَبْييْنِ الحقِّ، والمعنى : وإنْ خَاصَمُوكَ في أمرِ الذبيحةِ فَقُلِ اللهُ أعْلَمُ بمَا تَعْمَلُونَ مِن التكذيب فهو يُجازيكم به، وهذا قَبْلَ الأمرِ بالقتال. وقولهُ تعالى :﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي يَقْضِي بينَكم يومَ القيامة، ﴿ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ من الدِّين والذبيحةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ ﴾ ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ أفأُخَبرُكُمْ بشَرٍّ عليكم من غَيْظِكم على التالِي لآياتِ الله وهو ﴿ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ يصيرونَ إليها، ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ وَقِيْلَ : إنَّ الكفارَ قالوا : واللهِ ما رأينا قَوْماً أقلَّ حَظّاً منك يا أصحَابَ مُحَمَّدٍ، قالَ اللهُ تَعَالَى : قُلْ يا مُحَمَّدُ : أفأخَبرُكم بشَرٍّ مِنْ ذلِكُمْ ؛ أي بشَرٍّ مما قُلْتُمْ : النارُ مَن دخلَها فحالهُ شرٌّ مِن حالنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(كَانُوا يَطْلُونَ أصْنَامَهُمْ بالزَّعْفَرَانِ وَالْعَسَلِ، فَيَأْتِي الذُّبَابُ فَيَحْمِلُهُ فَلاَ يَقْدِرُونَ أنْ يَسْتَرِدُّوهُ مِنَ الذُّبَاب). وقال السديُّ :(كَانُوا يَجْعَلُونَ لِلأَصْنَامِ طَعَاماً، فَيَقَعُ عَلَيْهِ الذُّبَابُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ إنْقَاذهُ مِنْهُ) فـ ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ ﴾ ؛ من الأصنامِ، ﴿ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ ؛ هو الذبابُ. وقال الضحَّاكُ :(مَعْنَاهُ ضَعُفَ الْعَابدُ وَالْمَعْبُودُ). وَقِيْلَ : معناهُ : ضَعُفَ الذُّبابُ الطالبُ لِما يأخذهُ من الصَّنمِ، وضَعُفَ المطلوبُ يعني الصَّنَمَ. وَقِيْلَ : ضَعُفَ الطالبُ مِن هذا الصنمِ المتقرَّب إليه، والصنمِ المطلوب منه ذلك.
وَقِيْلَ : إن المشركينَ كانوا خَرَجُوا في عيدٍ لَهم بأصنامِهم، وقد زيَّنُوها باليوَاقِيتِ واللآلِئ وأنواعِ الجواهر، وطيِّبُوها بأنواع الطِّيْب وغَشَّوها بالْحُلِيِّ والْحُلَلِ، فجاء ذبابٌ فأخذ شَطْبَةً من تلك الزِّينة - أي قِطْعةً - فطارَ بها في الهواءِ، فأراهم اللهُ تعالى العبرةَ في ضَفْفِهم وضعفِ معبودهم، فلا أحدٌ مما لا يُمكنه الاستنقاذُ من الضعيفِ.
وقال بعضُهم : هو حقُّ الجهاد ؛ لِمَا " رُوي عن النبيَّ ﷺ قال حينَ رجعَ من بعضِ غزواته :" رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الأصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ ". وقال بعضُهم : في حقِّ الجهاد أنه " كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ". وقال الحسنُ :(هُوَ أنْ تُؤَدِّيَ جَمِيْعَ مَا أمَرَكَ اللهُ بهِ، وَتَجْتَنِبَ جَمِيْعَ مَا نَهَاكَ اللهُ عَنْهُ، وَتَتْرُكَ رَغْبَةَ الدُّنْيَا). وقال الضحَّاكُ :(مَعْنَاهُ : جَهِدُوا بالسَّيْفِ مَنْ كَفَرَ باللهِ، وَإنْ كَانُواْ الآبَاءَ وَالأَبْنَاءَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ ؛ أي اختارَكم لدِينه وجهادِ أعدائه، والاجْتِبَاءُ : هو اختيار الشَّيء بمَا فِيْهِ مِنَ الصَّلاَحِ، يقال : الحقُّ يُجْتَبَى، والباطلُ يُتَّقَى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ ؛ أي جعلَ عليكُم في شرائعِ دِينكم من ضِيْقٍ، وذلك أنه ما يتخلَّص منه بالتوبةِ، وما يتخلَّص منه برَدِّ المظلمةِ، ويتخلصُ منه بالقصاصِ، وليس في دِين الإسلام ما لا سبيلَ إلى الخلاصِ من العقاب به، بل مَن أَذنبَ ذنباً جعلَ اللهُ له مَخرجاً منه بالتوبةِ والكفَّارات، ولَم يبقَ في ضِيْقِ ذلك الذنب. وقال مجاهدُ :(يَعْنِي الرُّخَصَ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ كَالْقَصْرِ ؛ وَالتَّيَمُّمِ ؛ وَأكْلِ الْمَيْتَةِ ؛ وَالإفْطَار عِنْدَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ؛ أي إلْزَمُوا واتَّبعُوا مِلَّتَهُ، وَقِيْلَ : معناهُ : وَسَّعَ عليكم في الدِّين كَمِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ، إلاّ أنه لَمَّا حَذفَ حرفَ الجرِّ نصبَ الْمِلَّةَ، وإنَّما أمَرَ باتِّباع ملَّة إبراهيمَ ؛ لأنَّها داخلةً في مِلَّةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وإنَّما قال :(أبيْكُمْ إبْرَاهِيْمَ) وإن لَم يكن جميعُهم من نَسَبهِ ؛ لأن حرمةَ إبراهيمَ عليه السلام على المسلمين كحرمةِ الوالدِ على الولد، وحَقَّهُ كحقِّ الوالدِ، كما قال تعالى :﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾[الأحزاب : ٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ نزولِ القُرْآنِ، ﴿ وَفِي هَـاذَا ﴾ ؛ القُرْآنِ، كما رُوي أنَّ الله تعالى أوحَى إلى إبراهيمَ : يُبْعَثُ بعدَكَ نبيٌّ فيكون قومُهُ مسلمينَ. وَقِيْلَ : معناهُ : إن إبراهيمَ سَمَّاكم المسلمينَ، كما قال في دعائهِ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾[البقرة : ١٢٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي لِيَكونَ مُحَمَّدٌ ﷺ شَهيداً عليكم يومَ القيامة بطاعةِ مَن أطاعَ في تبليغه، وعِصيَانِ مَن عَصَى، ﴿ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ ؛ أنَّ الرُّسُلَ بلَّغَتهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ ﴾ ؛ أي أدُّوهُما كما وَجَبَتَا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ ﴾ ؛ أي واعتَصِمُوا بدينِ الله وتَمسَّكوا به. وَقِيْلَ : معناهُ : اتَّقُوا باللهِ وتوكَّلوا عليهِ، ﴿ هُوَ مَوْلاَكُمْ ﴾ ؛ أي هو رَبُّكم وحافِظُكم، ﴿ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ ؛ أي فَنِعْمَ الحافظُ لكم، ونِعْمَ الناصرُ.
وعن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْحَجِّ ؛ أُعْطِيَ مِنْ أجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ اعْتَمَرَهَا بعَدَدِ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَر فِيْمَا مَضَى وَفِيْمَا يَبْقَى ".