تفسير سورة سبأ

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

سورة سبأ مكيةإلا ﴿ وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ الآية. وهي أربع أو خمس وخمسون آيةبالصرف وتركه كما سيأتي، سميت بذلك لذكر قصة سبأ فيها، من باب تسمية الشيء باسم بعضه. قوله: (حمد تعالى) من باب فهم. قوله: (المراد) بالجر نعت لاسم الإشارة. قوله: (الثناء بمضمونه) أي انشاء الثناء بمضمونه، وهو الوصف بالجميل، وليس المراد انشاء المضمون، لأن اتصافه بالجميل أزلي ثابت له سبحانه وتعالى، وإنما تعبدنا الله تعالى، بتجديد حمد موافق للحمد الأزلي، وهذا يؤيد قول بعض العلماء: إن أل في الحمد عهدية، لأن الله لما علم عجز خلقه في كنهه، حمد نفسه بنفسه أزلاً، وأمرهم أن يحمدوه بحمد موافق لحمده، فتحصل أن الوصف بالجميل ثابت لله أزلاً، وإنشاء الثناء به حادث، فقول الله تعالى ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ﴾ اللفظ والتلفظ حادثان دالان على معنى قديم، وهو اتصاف الله بالجميل. إن قلت: الحمد مدح، ومدح النفس مذموم بين الخلق، فما وجه ذلك؟ أجيب: بأن أوصاف الرب لا تقاس على أوصاف العبيد، ألا ترى الاتصاف بالعظمة والكبرياء، فإنها نقص في الخلق، كمال في الخالق، وبهذا انهدم قول المعتزلة: إن كل ما حسنه العقل يوصف به الرب، وكل ما قبحه العقل ينزه عنه، وبنوا على ذلك أموراً فاسدة منها: وجوب الصلاح والأصلح، وغير ذلك. قوله: (ملكاً وخلقاً) أي إن كل ما في السماوات وما في الأرض، مملوك ومخلوق له سبحانه وتعالى. قوله: ﴿ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾ أي في نظير النعم التي تعطى لأهل الإيمان، فالحمد في الآخرة مخصوص بمن آمن، وأما الكفار فليسوا من أهله. قوله: (كالدنيا) أشار بذلك أن في الآية اكتفاء. قوله: (يحمده أولياؤه) المراد بهم المؤمنون. قوله: (إذا دخلوا الجنة) أي فيقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، الحمد لله الذي صدقنا وعده. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ ﴾ أي فلا اعتراض عليه في فعل من الأفعال. قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تفصيل لبعض معلوماته التي تعلق بها مصالح الدين والدنيا. قوله: (كماء وغيره) أي كالكنوز والأموات. قوله: (كنبات وغيره) أي كالكنوز والأموات إذا خرجت من القبور. قوله: (من رزق وغيره) أي كالبركات والملائكة والصواعق. قوله: ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ ضمن العروج معنى الاستقرار، فعداه بفي دون إلى. قوله: (من عمل وغيره) أي كالملائكة، فهو سبحانه وتعالى محيط بجميع ذلك. قوله: ﴿ ٱلْغَفُورُ ﴾ (لهم) أي إذا عصوه أو فرطوا في بعض حقوقه، وفي ذلك إشارة إلى أن رحمة الله وغفرانه، مختصان بمن يدخل الجنة، وهذا في الآخرة، وأما في الدنيا، فرحمته وسعت كل شيء. قوله: ﴿ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ ﴾ أراد الكفار بضمير التكلم جميع الخلق لا خصوص أنفسهم، وأرادوا أيضاً بنفي اتيانها، نفي وجودها لا عدم حضورها، مع كونها في نفس الأمر. قوله: ﴿ قُلْ بَلَىٰ ﴾ رد لكلامهم، لأن كلامهم نفي. فأجيب بالنفي، ونفي النفي إثبات. قوله: ﴿ وَرَبِّي ﴾ أتى بالقسم تأكيداً للرد، وقوله: ﴿ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ ﴾ تقوية للتأكيد، والحكمة في وصفه تعالى بهذا الوصف، الإهتمام بشأن المقسم عليه. قوله: (بالجر) إلخ، أي فالقراءات الثلاث سبعيات وجهان في صيغة اسم الفاعل، ووجه واحد في صيغة المبالغة. قوله: ﴿ لاَ يَعْزُبُ ﴾ بضم الزاي في قراءة الجمهور، وكسرها في قراءة الكسائي. قوله: ﴿ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ ﴾ إلخ، قرأ العامة بضم الراء في أصغر وأكبر على أنه مبتدأ، وخبره قوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ وقرئ بفتح الراء، على أن لا نافية للجنس، و ﴿ أَصْغَرُ ﴾ اسمها، وقوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ خبرها، والمعنى على كل من القراءتين واحد، وهو أن كل ما كان، وما يكون، وما هو كائن من سائر المخلوقات، ثابت في اللوح المحفوظ ومبين فيه زيادة على تعلق علم الله به وإثباتها في اللوح، لا لاحتياج تنزه الله عنه. إن قلت: أي حاجة إلى ذكر الأكبر بعد الأصغر، إذ هو مفهوم بالأولى؟ أجيب: بأنه لرفع توهم أن اثبات الأصغر خوف توهم النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى، فلا حاجة إلى إثباته، فأفاد أن كلاً مرسوم في اللوح المحفوظ لا لاحتياج. قوله: ﴿ لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ إلخ، علة لقوله: ﴿ لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ كأنه قال: لتأتينكم لأجل جزاء المؤمنين والكافرين، واللام للعاقبة والصيرورة. قوله: (حسن في الجنة) أي محمود العاقبة، وأعظمه رؤية الله تعالى.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ سَعَوْا ﴾ عطف على قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ وما بينهما اعتراض سيق لبيان جزاء المؤمنين، وهذا أحسن من جعله مبتدأ خبره ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ ﴾ إلخ. قوله: (في إبطال) ﴿ آيَاتِنَا ﴾ أي بالطعن فيها ونسبتها إلى الأكاذيب. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (مقدرين عجزنا) إلخ، لق ونشر مرتب، والمعنى مؤملين أنهم يعجزون رسولنا، بسبب سعيهم في إبطال القرآن. قوله: (أو مسابقين لنا) أي مغالبين لنا بسبب طعنهم في القرآن، ظانين أن مغالبتهم تمنع عنهم العذاب، وذلك أن القرآن يثبت البعث والعذاب، لاعتقادهم بطلانه. قوله: (لظنهم أن لا بعث) إلخ، علة لقوله: ﴿ سَعَوْا ﴾.
قوله: (بالجر والرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَيَرَى ﴾ إما بالرفع بضمة مقدرة على الاستئناف، أو بالنصب على أنه معطوف على يجزي، فقول المفسر (يعلم) يصح قراءته بالوجهين، و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ فاعل، و ﴿ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ ﴾ مفعول أول وهو ضمير فصل، و ﴿ ٱلْحَقَّ ﴾ مفعول ثان، وقوله: ﴿ وَيَهْدِيۤ ﴾ إما عطف على ﴿ ٱلْحَقَّ ﴾ من باب عطف الفعل على الاسم الخالص، كأنه قيل: ﴿ وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ الحق وهادياً، أو مستأنف، أو حال بتقدير وهو يهدي. قوله: (مؤمنو أهل الكتاب) هذا أحد أقوال، وقيل: المراد بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: جميع المسلمين. قوله: ﴿ ٱلْعَزِيزِ ﴾ أي عديم النظير والشبيه والمثيل، أو من عز بمعنى قهر وغلب. قوله: ﴿ ٱلْحَمِيدِ ﴾ فعيل بمعنى مفعول، أي محمود في ذاته وصفاته وأفعاله. قوله: (هو محمد) نكروه تجاهلاً وسخرية، كأنهم لم يعرفوا منه إلا أنه رجل، مع أنه عندهم من الشمس في رائعة النهار. قوله: ﴿ إِذَا مُزِّقْتُمْ ﴾ يتعين أن عامل الظرف محذوف تقديره وتبعثون وتحشرون إذا مزقتم إلخ، يدل عليه قوله: ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ ولا يصح أن يكون عامله ﴿ يُنَبِّئُكُمْ ﴾ لأن الإخبار لم يقع في ذلك الوقت، ولا قوله: ﴿ مُزِّقْتُمْ ﴾ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا ﴿ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها، وعبارة المفسر غير وافية بالمراد، فلو قال: يخبركم أنكم تبعثون إذا مزقتم لوفى بالمقصود. قوله: (بمعنى تمزيق) أشار بذلك إلى أن ممزق اسم مصدر، لأم كل ما زاد على الثلاث يجيء بالميم، مصدره وزمانه ومكانه، على زنة اسم مفعول. قوله: ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي تنشؤون خلقاً جديداً بعد تمزيق أجسامكم.
قوله: ﴿ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾ يحتمل أن يكون من تمام قول الكافرين ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ ﴾ إلخ، ويحتمل أن يكون من كلام السامع جواباً للقائل. قوله: (واستغنى بها) أي بهمزة الاستفهام، لأنها كافية في التوصل للنطق بالساكن. قوله: (في ذلك) أي الإخبار بالبعث. قوله: (جنون) أي خبل في عقله. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أنه هذا إنشاء كلام من الله رداً عليهم، وما تقدم وإن كان كلامه، إلا أنه حكاية عنهم. قوله: ﴿ ٱلْعَذَابِ ﴾ أي في الآخرة، وذكره إشارة إلى أنه متحتم الوقوع، فنزل المتوقع منزلة الواقع، وقدمه على ﴿ ٱلضَّلاَلِ ﴾ وإن كان الضلال حاصلاً لهم بالفعل، لأن التسلية بحصول العذاب لهم، أتم من الأخبار بكونهم في الضلال. قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، والتقدير أعموا فلم يروا، إلخ. قوله: ﴿ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ المراد به ما ينظر له من غير التفات، وقوله: ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ المراد به ما ينظر له بالتفات، فالمراد جميع الجهات. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾ بيان لما، والمعنى أفلم يتفكروا في أحوال السماء والأرض، فيستدلوا على باهر قدرته تعالى؟ وقد علمنا الله كيفية النظر بقوله:﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾[ق: ٦] الآية. قوله: ﴿ إِن نَّشَأْ ﴾ هذا تحذير للكفار كأنه قيل: لم يبق من أسباب وقوع العذاب بكم، وإلا تعلق مشيئتنا به. قوله: ﴿ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ ﴾ أي كما خسفناها بقارون. قوله: ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً ﴾ أي كما أسقطناها على أصحاب الأيكة. قوله: (بسكون السين وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وكل منهما جمع كسفة، فقول المفسر (قطعة) المناسب قطعاً. قوله: (في الأفعال الثلاثة) أي نشأ ونخسف ونسقط. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ (المرئي) أي من السماء والأرض. قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف تقديره وعزتنا وجلالنا. قوله: (وكتاباً) أي وهو الزبور. قوله: (وقلنا) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ يٰجِبَالُ ﴾ مقول لقول محذوف معطوف على قوله: ﴿ آتَيْنَا ﴾ فهو زيادة على الفضل. قوله: ﴿ أَوِّبِي ﴾ بفتح الهمزة وتشديد الواو أمر من التأويب وهو الترجيع، وهو قراءة العامة، وقرئ شذوذاً أوبي بضم الهمزة وسكون الواو، أمر من آب بمعنى رجع أي ارجعي وعودي معه في التسبيح كلما سبح، فكان داود إذا سبح اجابته الجبال وعطفت عليه ﴿ ٱلطَّيْرَ ﴾ من فوقه، وقيل: كان إذا أدركه فتور، أسمعه الله تسبيح الجبال فينشط له. قوله: (عطفاً على محل الجبال) أي لأن محله نصب، لكونه منادى مفرداً، أو مفعولاً معه، وقرئ بالرفع عطف على لفظ الجبال، تشبيهاً للحركة البنائية بالحركة الإعرابية، قال ابن مالك: وأن يكون مصحوب أل   ما نسقاففيه وجهان ورفع ينتقى   قوله: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ ﴾ سبب ذلك: أن الله تعالى أرسل ملكاً في صورة رجل، فسأله داود عن حال نفسه فقال له: ما تقول في داود؟ فقال: نعم هو لولا خصلة فيه، فقال داود: ما هي؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال، فسأل داود ربه أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال، فألان الله له الحديد، وعلمه صنعة الدروع، فهو أول من اتخذها، وكانت قبل ذلك صفائح، قيل: كان يعمل كل يوم درعاً ويبيعها بأربعة آلاف درهم، وينفق ويتصدق منها، فلذا قال صلى الله عليه وسلم:" كان داود لا يأكل إلا من عمل يده "قوله: (فكان في يده كالعجين) أي من غير نار ولا آلة. قوله: (دروعاً كوامل) أشار بذلك إلى أن ﴿ سَابِغَاتٍ ﴾ صفة لموصوف محذوف.
قوله: ﴿ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ ﴾ اختلف في معنى الآية فقيل: اجعله على سبيل الحاجة ولا تنهمك فيه، بل اشتغل بعبادة ربك، وقيل: قدر المسامير في حلق الدروع، لا غلاظاً ولا دقاقاً، ورد ذلك بأنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة إليها بنسبة إلانة الحديد، وحينئذ فالأظهر ما قاله المفسر من أن السرد الدروع، والتقدير اجعل كل حلقة مساوية لأختها ضيقة، لا ينفذ منها السهم في الغلظ، لا تقبل الكسر، ولا تثقل حاملها، والكل نسبة واحدة. قوله: (بحيث تتناسب حلقه) بفتحتين أو بكسر ففتح جمع حلقة بفتح فسكون أو بفتحتين. قوله: (أي آل داود) تفسير للواو في ﴿ وَٱعْمَلُواْ ﴾.
قوله: ﴿ صَالِحاً ﴾ أي عملاً صالحاً، ولا تتكلوا على عز أبيكم وجاهه. قوله: (فأجازيكم عليه) أي إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
قوله: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدره المفسر بقوله: (سخرنا) بدليل التصريح به في قوله تعالى:﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ ﴾[ص: ٣٦].
قوله: (بتقدير تسخير) أي فالجار والمجرور خبر مقدم، و ﴿ ٱلرِّيحَ ﴾ مبتدأ مؤخر على حذف مضاف، والأصل وتسخير الريح كائن لسليمان، فحذف المضاف إليه مقامه. قوله: ﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ﴾ مبتدأ وخبر، والمعنى سيرها من الغداة إلى الزوال، مسيرة شهر للسائر المجد، ومن الزوال للغروب مسيرة شهر، عن الحسن: كان سليمان يغدو من دمشق فيقيل في اصطخر، وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من اصطخر فيبيت ببابل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع، وتقدم أن الريح تحمل البساطة بجيوشه لأي جهة توجه إليها، فالعاصف تقلع البساط، والرخاء تسيره. قوله: ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ ﴾ أي جعلنا النحاس في معدنه جارياً كالعين النابعة من الأرض، وكانت تلك العين باليمن. قوله: (فأجريت له ثلاثة أيام) قيل: مرة واحدة، وقيل: كان يسيل في كل شهر ثلاثة أيام. قوله: (وعمل الناس) إلخ، مبتدأ خبره قوله: (مما أعطي سليمان) أي صنع الناس، وإذابته بالنار من آثار كرامة سليمان، لأنه قبل ذلك لم يكن يلين بنار ولا غيرها. قوله: ﴿ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ يصح أن يكون مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله، ويصح أن يكون مفعولاً لمحذوف تقديره: وسخرنا من الجن من يعمل، ومن على كل حال واقعة على فريق. قوله: (بطاعته) أي بطاعة سليمان. قوله: (بأن يضربه ملك) إلخ، أي فقد وكل الله ملكاً بالجن المسخرين لسليمان، وجعل في يده سوطاً من نار، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان، ضربه الله بذلك السوط ضربة أحرقته. قوله: (أبنية مرتفعة) أي مساجد وغيرها، وسميت بذلك لأن صاحبها يحارب فيها غيره لحمايتها، وقيل: المراد بالمحاريب خصوص المساجد، والأقرب ما قاله المفسر، وليس المراد بها الطاقات التي تقف فيها الأئمة في المساجد، إذ هي حادثة في المساجد بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بالمحاريب تشبيهاً لها بالأبنية المرتفعة، لأنها رفيعة القدر، ولذا خصوها بالأئمة. قوله: ﴿ وَتَمَاثِيلَ ﴾ قال بعضهم: إنها صور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والعلماء، كانت تصور في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهاداً، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصورة "أي ليذكروا عبادتهم، فيجتهدوا في العبادة. قوله: (ولم يكن اتخاذ الصور حراماً) إلخ، جواب عما يقال: إن اتخاذ الصور حرام، فكيف يليق اتخاذها من سليمان؟ واعلم أن اتخاذها على العباد. قوله: (وهي حوض كبير) أي وسمي جابية، لأن الماء يجبى فيه أي يجمع. قوله: ﴿ آلَ دَاوُودَ ﴾ المراد سليمان وأهل بيته. قوله: ﴿ شُكْراً ﴾ مفعول لأجله، أي اعملوا لأجل الشكر لله، على ما أعطاكم من تلك النعم العظيمة التي لا تضاهى، وهذا أعظم المقاصد، وهو العمل لأجل شكر الله على نعمه، فالواجب على العباد خدمة الله وطاعته لذاته وسابق نعمه عليهم حيث أوجدهم من العدم، وجعل لهم السمع والبصر والأفئدة والعافية، وغير ذلك من أنواع النعم التي لا تحصى. قوله: ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ﴾ أي لكون هذا المقصد عزيزاً، لم يوفق إلا القليل من الناس، وغالب الناس عبادتهم وطاعتهم، إما لأجل طلب الدنيا، أو خوفاً من النار وطمعاً في الجنة. فائدة - من جملة عمل الجن لسليمان بيت المقدس، وذلك أن داود ابتدأ بناءه في موضع فسطاط موسى التي كان ينزل فيها، فرفعه قدر قامة، فأوحى الله إليه لم يكن تمامه على يديك، بل على يد ابن لك اسمه سليمان، فلما قضى على داود، واستخلف سليمان وأحب إتمامه، جمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال، فأرسل بعضهم في تحصيل الرخام، وبعضهم في تحصيل البلور من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح، فلما فرغ منها، ابتدأ في بناء المسجد، فوجه الشياطين فرقاً منهم من يستخرج الجواهر واليواقيت والدر الصافي في أماكنها، ومنهم من يأتيه بالمسك والطيب والعنبر من أماكنه، فأتي من ذلك بشيء كثير، ثم أحضر الصناع لنحت تلك الأحجار، واصلاح تلك الجواهر، وثقب تلك اليواقيت واللآلئ، فبناه بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وجعل عمده من البلور الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر، وبسط أرضه بالعنبر، فلم يكن على وجه الأرض يومئذ بيت أبهى ولا أنور منه، فكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر، فلم يزل على هذا البناء حتى غزاه بختنصر، فخرب المدينة وخدمه، وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر، وحمله إلى ملكه بالعراق حين بطرت بنوا إسرائيل النعم، وقتلوا زكريا ويحيى، وكان ابتداء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملك سليمان، وكان عمره سبعاً وستين سنة، وملك وهو ابن سبع عشرة، وكان ملكه خمسين سنة، وقرب بعد فراغه منه، اثني عشر ألف ثور، ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيداً، وقام على الصخرة رافعاً يديه إلى الله تعالى بالدعاء وقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان، وقويتني على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أن أنعمت علي، وتوفني على ملتك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلا أمنته، ولا سقيم إلا شفيته، ولا فقير إلا أغنيته والخامسة أن لا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه، إلا من أراد إلحاداً، أو ظلماً يا رب العالمين، وروي أن سليمان لما بنى بيت المقدس، سأل الله تعالى خلالاً ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله حين فرغ من بنائه، أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه، إذا علمت ذلك، فبيت المقدس تم بناؤه وهو حي، وهو الصحيح.
قوله: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ ﴾ إلخ، روي أن سليمان كان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه، فلما أعمله الله بوقت موته قال: اللهم أخف على الجن موتي، حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون في الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي، واتكأ على عصاه على كرسيه فمات، فكان الجن ينظرون إليه ويحسبون أنه حي، ولا ينكرون احتباسه على الخروج إلى الناس، لتكرره منه قبل ذلك، فالحكمة في إخفاء موته، ظهور أن الجن لا يعلمون الغيب، لا تتميم بناء بيت المقدس كما قيل، فإن الصحيح أنه تم قبل موته بالزمن الطويل. قوله: (حتى أكلت الأرضة عصاه) فلما أكلتها أحبها الجن وشكروا لها، فهم يأتونها بالماء والطين في خروق الخشب وقالوا: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. قوله: (مصدر أرضت الخشبة) أي أكلت، فمعنى دابة الأرض دابة الأكل، وهذا أحد وجهين، والوجه الآخر أن المراد بالأرض المعروفة، ونسبت لها لخروجها منها. قوله: (بالهمز) أي الساكن أو المفتوح، فتكون القراءات ثلاثاً سبعيات. قوله: (الشاق لهم) اللام بمعنى على، وفي نسخة له أي لسليمان. قوله: (لظنهم حياته) علة لقوله: ﴿ مَا لَبِثُواْ ﴾.
قوله: (وعلم كونه) إلخ، إما بالبناء للمفعول، أو مصدر مبتدأ خبره قوله: (بحساب) إلخ، فتحصل أن الجن أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت في يوم وليلة مقداراً؛ فحسبوا على ذلك، فوجدوه قد مات منذ سنة.
قوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، أي والله لقد كان إلخ. و ﴿ لِسَبَإٍ ﴾ خبر ﴿ كَانَ ﴾ مقدم، و ﴿ آيَةٌ ﴾ اسمها مؤخر، و ﴿ مَسْكَنِهِمْ ﴾ حال. قوله: (بالصرف وعدمه) أي وفي عدم الصرف قراءتان، وفتح الهمز وسكونها، فالقراءات ثلاث. قوله: (سميت باسم جد لهم) أي وهو سبأ بن يشجب بجيم مضمومة ابن يعرب بن قحطان، روي أن رجلاً قال: يا رسول الله، وما سبأ، أرض أو امرأة، قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشراً من العرب، فتيامن منهم ستة، أي سكنوا اليمن، وتشاءم منهم أربعة أي سكنوا الشام، فأما الذين تشاءموا، فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، والمقصود من تلك القصة، اتعاظ هذه الأمة المحمدية، لعتبروا ويشكروا نعمة الله عليهم، وإلا يحل بهم ما حل بهم من قبلهم. قوله: ﴿ فِي مَسْكَنِهِمْ ﴾ بالجمع كمساجد، والإفراد إما بكسر الكاف أو فتحها، ففيه ثلاث قراءات سبعيات. قوله: (باليمن) أي وكان بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام. قوله: (دالة على قدرة الله) أي فإذا تأمل العاقل فيها، استدل على باهر قدرته، وأنه الخالق لجميع المخلوقات. قوله: (بدل) أي من آية التي هي اسم كان، وصح إبدال المثنى من المفرد، لأنه في قوة المتعدد، وذلك أن الجنتين لما كانتا متماثلتين، وكانت كل واحدة دالة على قدرة الله، من غير انضمام غيرها لها، صح جعلهما أي واحدة، نظير قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾[المؤمنون: ٥٠].
قوله: (عن يمين واديهم وشماله) هذا أحد قولين، وقيل: عن يمين الذاهب وشماله. قوله: (وقيل لهم) أي على لسان أنبيائهم، لأنه بعث لهم ثلاثة عشر نبياً، فدعوهم إلى الله وذكروهم بنعمه، وهذا الأمر للإذن والإباحة. قوله: ﴿ وَٱشْكُرُواْ لَهُ ﴾ أي اصرفوا نعمه في مصارفها. قوله: (أرض سبأ) إلخ، أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ خبر لمحذوف، فهو كلام مستأنف. قوله: (ليس بها سباخ) جمع سبخة وهي الأرض ذات الملح. قوله: (ولا بعوضة) البعوض البق، وقوله: ولا برغوث) بضم الباء. قوله: (فيموت) أي القمل ومثله باقي الهوام. قوله: ﴿ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ أي يستر ذنوبهم. قوله: ﴿ فَأَعْرَضُواْ ﴾ (عن شكره) أي عن أمره اتباع رسله، لما روي أنه أرسل الرسل لهم ثلاثة عشر نبياً، فدعوهم إلى الله وذكروهم بنعمة وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا له، فليحبس عنا هذه النعم إن استطاع وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكان له ولد فمات، فرفعه رأسه إلى السماء فبزق وكفر، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه للكفر، فإن أجابه وإلا قتله. قوله: (وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره) أي فكان واديهم أرضاً متسعة بين جبال شامخة، فبنت بلقيس سداً حول ذلك الوادي بالصخر والقار، وجعلت له أبواباً ثلاثة، بعضها فوق بعض، وصار ماء يتساقط من الجبال خلف السد من كل جهة، فكانوا يسقون من الأعلى، ثم من الأوسط، ثم من الأدنى؛ على حسب علو الماء وهبوطه، فالعرم هو هذا السد، وقيل: العرم اسم للفأر الذي نقب السد لما ورد أنهم كانوا يزعمون أنهم يجدون في كهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين، إلا ربطوا إلى جانبها هرة، فلما جاء ما أراده بهم، أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهررة، فثاورتها حتى استأخرت على الحجر، ثم وثبت ودخلت في الفرجة التي عندها، ونقبت السد حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون، فلما جاء السيل، دخل تلك الفرجة حتى بلغ السد، وفاض الماء على أموالهم فأغرقها ودفن بيوتهم. قوله: ﴿ جَنَّتَيْنِ ﴾ تسميتها بذلك تهكم بهم لمشاكله الأول. قوله: (مفرد في الأصل) أي لأن أصلها ذوية، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفاً فصار ذوات، ثم حذفت الواو تخفيفاً، ففي تثنيته وجهان: اعتبار الأصل، واعتبار العارض، فالأول ذواتان، والثاني ذاتان. قوله: (مر بشع) قيل: هو شجر الأراك. وقيل: كل شجر له شوك. قوله: (بإضافة أكل) أي بضم الكاف لا غير، وقوله: (وتركها) أي بضم الكاف وسكونها، فالقراءات ثلاثة سبعيات. قوله: (ويعطف عليه) أي على أكل. قوله: ﴿ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ الصحيح أن السدر وهو النبق نوعان: نوع يؤكل ثمره وينتفع بورقه، وهو له ثمر غض، لا يؤكل أصلاً، ولا ينتفع بورقه، وهو المسمى بالضال، وهو المراد هنا. قوله: ﴿ ذَٰلِكَ ﴾ مفعول ثان لجزينا مقدم عليه. قوله: (بكفرهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية. قوله: (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي ما يناقش إلا هو) أشار بذلك إلى أن الحصر منصب على المناقشة والتدقيق في الحساب والمؤاخذة بكل الذنوب، وإلا فمطلق المجازاة تكون للمؤمن والكافر، لكن المؤمن يعامل بالفضل والكافر يعامل بالعدل.
قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ عطف على ما تقدم، عطف قصة على قصة. قوله: ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ قيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية، متصلة من سبأ إلى الشام. قوله: ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ ﴾ أي جعلنا السير بين قراهم، وبين القرى المباركة، سيراً مقدراً، من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية. قوله: (ولا يحتاجون فيه إلى حمل زاد وماء) أي فكانوا يسيرون غير جائعين ولا ظامئين ولا خائفين، مسيرة أربعة أشهر في أماكن لا يحرك بعضهم بعضاً، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه. قوله: ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ﴾ أي لما بطروا وطغوا وكرهوا الراحة، تمنوا طول السفر والتعب في المعايش، نظير قول بني إسرائيل﴿ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ ﴾[البقرة: ٦١] الآية، وكتمني أهل مكة العذاب بقولهم:﴿ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾[الأنفال: ٣٢] الآية. قوله: (مفاوز) جمع مفازة وهو الموضع المهلك، مأخوذ من فوز بالتشديد إذا مات، وقيل: من فاز إذا نجا وسلم، سمي بذلك تفاؤلاً بالسلامة. قوله: ﴿ أَحَادِيثَ ﴾ أي يتحدث بأخبارهم. قوله: (فرقناهم في البلاد) أي لضيق عيشهم وخراب أماكنهم، وهي سنة باقية في كل من بطر النعمة وظلم، فقد أفادنا الله في تلك الآيات، أنه أصابهم بنعمتين، وابتلاهم بنقمتين. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ ظَنَّهُ ﴾ أي وسبب ظنه، إما رؤيته إنهاكهم في الشهوات، أو قول الملائكة﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾[البقرة: ٣٠] أو وسوسته لآدم في الجنة فأخرج منها، فظن ضعف أولاده بالنسبة له، وإن كان لم تؤثر وسوسته لآدم. قوله: (فصدق بالتخفيف في ظنه) أشار بذلك إلى أن قوله: (ظنه) على قراءة التخفيف منصوب على نزع الخافض، والمعنى صار فيما ظنه أولاً من إغوائهم على يقين، وقوله: (أو صدق) بالتشديد إلخ. أي فظنه مفعول لصدق، والمعنى حقق ظنه ووجده صادقاً. قوله: (بمعنى لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، وحمله على ذلك تفسيره الضمير بالكفار، ويصح أن يكون متصلاً، لأن بعض المؤمنين يذنب ويتبع إبليس في بعض المعاصي، ويكون قوله: ﴿ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ المراد بهم من لم يتبعه أصلاً، والأقرب الأول، لأن المعصومين استثناهم من حين طرده بقوله:﴿ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾[الحجر: ٣٩-٤٠].
قوله: (تسليطاً منا) أي فالشيطان سبب في الإغواء، لا خالق في الإغواء، فمن أراد الله حفظه، منع الشيطان عنه، ومن أراد الله إغوائه، سلط عليه الشيطان، والكل فعل الله تعالى. قوله: (علم ظهور) أي فالمعنى ليظهر متعلق علمنا، فاللام للعاقبة لا للتعليل، ومعنى الآية: ما كان له عليهم إيجاد اضلال، بل خالق الهدى والضلال هو نحن، وإنما سبقت حكمتنا بتسليكه، ليتميز بين عبادنا، من خلقنا فيه الكفر، ومن خلقنا فيه الإيمان، فاتباعه وعدمه، علامة على ما تعلق به علمه تعالى فتدبر. قوله: (رقيب) أي فهو تعالى قادر على منع إبليس منهم، عالم بما سيقع. قوله: ﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ﴾ بكسر اللام على أصل التخلص، وبالضم اتباعاً، قراءتان سبعيتان. قوله: (أي زعمتموهم آلهة) أي فالمفعولان محذوفان، الأول لطول بصلته، والثاني لقيام صفته - أعني قوله من دون الله - مقامه. قوله: (لينفعوكم) متعلق بادعوا، أي ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، ويجلبوا لكم سعة العيش. قوله: ﴿ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ أي لا يملكون أمراً من الأمور في العالم، وذكر السماوات والأرض للتعميم عرفاً. قوله: (معين) أي على خلق شيء. بل الله تعالى المنفرد بالإيجاد والإعدام.
قوله: ﴿ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ ﴾ أي إن الشفاعة لا يكون من هؤلاء المعبودين من دون الله، من الملائكة والأنبياء والأصنام، إلا أن يأذن الله للملائكة والأنبياء في الشفاعة لغير الكفار، وأما الكفار فلا شفاعة فيهم لقوله تعالى:﴿ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ ﴾[الصافات: ٢٢-٢٣].
قوله: (رداً لقولهم) إلخ، أي حيث قالوا:﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ ﴾[الزمر: ٣].
وإيضاحه أن الشفاعة لا تكون ولا تحصل إلا بالإذن والرضا، وهم قد ارتكبوا ما يقتضي للغضب وهو الكفر، فكيف يطلبون الشفاعة بالكفر المقتضي للغضب، وعدم الإذن في الشافعة؟ إن هذا الزعم باطل. قوله: ﴿ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ يصح وقوع من على الشافعين، والمعنى أن لشافع أذن له في الشفاعة، ويصح وقوعها على المشفوع لهم، والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمشفوع أذن أن يشفع له، فاللام على كل حال متعلقة بأذن، والضمير عائد على الموصول وفيه الوجهان. قوله: (بفتح الهمزة) أي والضمير عائد على الله تعالى لذكره أولاً، وقوله: (وضمها) أي بالبناء للمفعول، والآذن هو الله تعالى، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ ﴾ غاية في محذوف تقديره يتربصون ويتوقعون مدة من الزمان، فزعين حتى إذا فزع إلى آخره، والتضعيف للسلب كالهمزة، كما أشار له بقوله: (كشف عنها الفزع) والمعنى: حتى إذا أزيل الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بكلمة يتكلم بها رب العزة في الإذن بالشفاع سأل بعضهم بعضاً. قوله: (بالبناء للفاعل) أي والفاعل ضمير يعود على الله، وقوله: (والمفعول) أي والجار والمجرور نائب الفاعل، والقراءتان سبعيتان. قوله: (استبشاراً) أي لزوال الكرب والحزن عن القلوب، واختلف هل هذا الأمر في الآخرة أو الدنيا؟ فقيل في الآخرة، ويؤيده ما في سورة النبأ﴿ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً ﴾[النبأ: ٣٨] وعلى هذا فيكون في الكلام حذف، والتقدير لا تنفع الشفاعة عند يوم القيامة، إلا لمن أذن له، ففزع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى إذا أراد أن يوحي بأمر وتكلم بالوحي، أخذت السماوات والأرض منه رجفة أو رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى، فإذا سمع أهل السماوات بذلك، صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمر الله تعالى ". قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقول كلهم كما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمر الله تعالى ". وعن ابن عباس قال: كان لكل قبيلة من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي، سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، ثم يقول: يكون في هذا العام كذا ويكون كذا، فتسمعه الجن فيخبرون الكهنة، والكهنة تخير الناس، فيجدونه كذلك، هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيراً، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم يذبح كل يوم شاة، حتى أسرعوا في أموالهم، فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، أما ترون معالمكم من النجوم كما هي، والشمس والقمر والليل والنهار؟ فقال إبليس: لقد حدث في الأرض اليوم حدث، فأئتوني من كل تربة أرض فأتوه بها، فلما شم تربة مكة قال: من ههنا جاء الحدث، فانصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث، فتحصل أن الفزع على القول بأنه في الآخرة يكون من جميع الخلق، وعلى القول في الدنيا يكون من الملائكة خاصة، والآية محتملة للأمرين، والعموم أولى، لأن الكفار زعموا أن آلهتهم تنفعهم في الدنيا والآخرة، فرد الله عليهم بهذه الآية الشاملة للأمرين فتدبر. قوله: (القول) ﴿ ٱلْحَقَّ ﴾ أشار بذلك إلى أن الحق صفة لمصدر محذوف مقول القول. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ ﴾ هذا من تمام الشفعاء، اعترافاً بعظمة الله وكبريائه. قوله: ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ ﴾ إلخ، هذا السؤال تبكيت للمشركين، وإشارة إلى أن آلهتهم لا تملك لهم ضراً ضراً ولا نفعاً، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ إلى قوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ ﴾.
قوله: ﴿ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ غاير بين الحرفين، إشارة إلى أن المؤمنين مستعلون على الهدى، كراكب الجواد يسير به حيث يشاء، والكفار محبوسون في الضلال، كالمنغمس في الظلمات الذي لا يبصر شيئاً. قوله: (في الإبهام) خبر مقدم، و (تطلف) مبتدأ مؤخر، و (داع) صفة لتطلف. قوله: ﴿ لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا ﴾ إلخ، فيه تطلف بهم وتواضع، حيث أسند الإجرام لأنفسهم والعمل للمخاطبين. قوله: (يوم القيامة) أي في الموقف. قوله: (أعلموني) أشار بذلك إلى أن أرى علمية، فتتعدى إلى ثلاثة مفاعيل: أولها ياء المتكلم، وثانيها الموصول، وشركاء حال من عائد الموصول، والقصد من ذلك تبكيتهم وإظهار خطئهم بعد إقامة الحجة عليهم. قوله: ﴿ بَلْ هُوَ ﴾ الضمير إما عائد على الله، أو ضمير الشأن، وما بعده مبتدأ وخبره، والجملة خبره.
قوله: ﴿ إِلاَّ كَآفَّةً ﴾ الحصر إضافي، جيء به للرد على المشركين الذين يعتقدون أن رسالته غير عامة لجميع بني آدم. قوله: (حال من الناس) تبع فيه ابن عطية، واعترضه الزمخشري بأن تقدم الحال على صاحبها المجرور خطأ، بمنزلة تقدم المجرور على الجار، ورد بأن الصحيح جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور وما يتعلق به، وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعاملها، فتقديمها على صاحبها وحده أجوز، لتقدم عاملها وهو أرسلنا، وهذا أحد وجهين في الآية، ويصح جعل ﴿ كَآفَّةً ﴾ حالاً من الكاف في ﴿ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ والتاء للمبالغة كهي في علامة ورواية، والمعنى إلا جامعاً للناس في التبليغ، يخرج عن تبليغك أحد، فكافة اسم فاعل من كف بمعنى جمع، أو مصدر كالعاقبة، والعاقبة إما مبالغة أو على حذف مضاف، أي ذا كافة للناس، أو صفة لمصدر محذوف تقديره إلا ارساله كافة، أي محيطه بهم وشاملة لهم، فلا يخرج منها، أحد والأوجه الثلاثة على أنه حال من الكاف وهي متقاربة، فتحصل أن هذه الآيات دلت على أنه مرسل لجميع الإنس بشيراً ونذيراً، وأما ارساله لغيهم، فمأخوذ من آيات أخر منها﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[الأنبياء: ١٠٧] لكن إرساله للإنس والجن، ارسال تكليف وللملائكة: قيل: ارسال تكليف، وقيل تشريف، وللحيوانات الغير العاقلة والجمادات ارسال تشريف. قوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي ما ذكر من عموم رسالته، وكونه بشيراً ونذيراً. قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي على سبيل الاستهزاء والسخرية. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ ﴾ الخطاب للنبي والمؤمنين. قوله: ﴿ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ﴾ أي إن أردتم التأخر. قوله: ﴿ وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ أي إن أردتم التقدم والاستعجال كما هو مطلوبكم. إن قلت: إن الجواب ليس مطابقاً للسؤال، لأن السؤال عن طلب تعيين الوقت، والجواب يقتضي أنهم منكرون للوقت من أصله. وأجيب: بأن الجواب مطابق بالنظر لحالهم لا لسؤالهم، لأن سؤالهم وإن كان على صورة الاستفهام عن الوقت، إلا أن مرادهم الإنكار والتعنت، والجواب المطابق أن يكون بالتهديد على تعنتهم. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ ﴾ إلخ، سبب ذلك أن أهل الكتاب قالوا لهم: إن صفة محمد في كتبنا، فلما سألوهم ووافق ما قال أهل الكتاب، قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه. قوله: (الدالين على البعث) أي وعلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم يكفرون بها أيضاً. قوله: (قال تعالى فيهم) أي في بيان أحوالهم في الآخرة. قوله: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ ﴾ مفعول ﴿ تَرَىٰ ﴾ وجواب ﴿ لَوْ ﴾ محذوف، والتقدير: ولو ترى حال الظالمين وقت وقوفهم عند ربهم، حال كونهم يرجع بعضهم إلى بعض القول لرأيت أمراً فظيعاً. قوله: ﴿ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ ﴿ إِذِ ﴾ ظرف لترى بمعنى وقت. قوله: ﴿ مَوْقُوفُونَ ﴾ أي محبوسون في الموقف للحساب. قوله: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ العندية للمكانة والعظمة لا المكان. قوله: ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ ﴾ حال من ضمير ﴿ مَوْقُوفُونَ ﴾ والقول منصوب بيرجع. قوله: ﴿ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ ﴾ تفسير لقوله: ﴿ يَرْجِعُ ﴾ فالجملة لا محل لها من الإعراب. قوله: ﴿ لَوْلاَ أَنتُمْ ﴾ ما بعد ﴿ لَوْلاَ ﴾ مبتدأ خبره محذوف، قدره المفسر بقوله: (صددتمونا) إلخ، وقوله: ﴿ لَوْلاَ ﴾ جواب ﴿ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾.
قوله: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ أي جواباً للمستضعفين. قوله: ﴿ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ ﴾ أي منعناكم. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام انكاري. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ ﴾ ترك العاطف فيما سبق لأنه مر أولاً كلامهم، فأتى بالجواب مستأنفاً من غير عاطف، ثم أتى بكلام آخر للمستضعفين معطوفاً على كلامهم الأول. قوله: ﴿ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ ردَّ وإبطال لكلام المستكبرين، ومكر فاعل بفعل محذوف، أي صددنا مكركم بنا في الليل والنهار، فحذف المضاف إليه، وأقيم الظرف مقامه على الاتساع، والإسناد مجازي. قوله: ﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ ﴾ ظرف للمكر، أي مكركم وقت أمركم لنا، إلخ. قوله: ﴿ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ ﴾ جملة حالية، أو مستأنفة. قوله: (أي أخفاها كل عن رفيقه) أي فكل أخفى الندم على فعله في الدنيا من الكفر والمعاصي مخافة أن يعيره الآخر. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي زيادة على تعذيبهم بالنار. قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا ﴾ إلخ، هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ حال من قرية وإن كانت نكرة، لوقوعها في سياق النفي، فنعم فقد وجد المسوغ. قوله: ﴿ بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾ متعلق بكافرون، قدم للاهتمام ورعاية للفواصل. قوله: ﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً ﴾ أي فلو لم يكن راضياً بما نحن عليه، لما أعطانا الأموال والأولاد، في الدنيا، وإذا كان كذلك، فلا يعذبنا في الآخرة. قوله: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ أي لأنا لما أكرمنا في الدنيا، فلا يهيننا في الآخرة على فرض وجودها.
قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ ﴾ إلخ أي فبسط الرزق وضيقه في الدنيا، ليس دليلاً على رضا الله، فقد يبسط الرزق للكافر، ويضيقه على المؤمن الخالص، وقد يكون بالعكس، وإنما هو تابع للقسمة الأزلية، قال تعالى:﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾[الزخرف: ٣٢] قوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ (ذلك) أي فيظنون أن بسط الرزق وتضييقه، تابع لرضا الله وغضبه.
قوله: ﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ ﴾ إلخ، كلام مستأنف سبق لتقرير ما سبق تحقيقه. قوله: ﴿ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ ﴾ صفة للأموال والأولاد، لأن جمع التكسير للعاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة، ويصح أن تكون التي صفة لموصوف محذوف تقديره بالأحوال التي. قوله: (قربى) أشار بذلك إلى ﴿ زُلْفَىٰ ﴾ مصدر من معنى الفعل. قوله: (لكن) ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، وحمله على ذلك جعل الخطاب للكفار، ويصح أن يكون متصلاً، والخطاب الأول عام، كأنه قيل: وما الأموال والأولاد تقرب أحداً، إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله، وعلم أولاده الخير ورباهم على الصلاح.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ لَهُمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ جَزَآءُ ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر أولئك، وهو استئناف لبيان جزاء أعمالهم. قوله: ﴿ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ ﴾ من إضافة الموصوف لصفته، أي الجزاء المضاعف. قوله: (مثلاً) أي أو الحسنة بسبعين أو بسبعمائة أو أكثر. قوله: (وغيره) أي من سائر المكاره، فلا يفنى شبابهم. ولا تبلى ثيابهم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (مقدرين عجزنا) أي معتقدين أننا عاجزون فلا نقدر عليهم. قوله: ﴿ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [سبأ: ٣٦] إلخ، اختلف في هذه الآية، فقيل: مكررة مع التي قبلها للتأكيد، وقيل: مغايرة لها، فالأولى محمولة على أشخاص متعددين، وهذه محمولة على شخص واحد باعتبار وقتين، فوقت البسط غير وقت القبض، وهو الاحتمال الأول في قول المفسر، أو الأولى محمولة على الكفار، وهذه في حق المؤمنين، وكل صحيح. قوله: (ابتلاء) علة لقوله: ﴿ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ أي يختبر هل يصبر أو لا. قوله: ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ ﴾ أي على أنفسكم وعيالكم أو تصدقتم به. قوله: ﴿ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ أي بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، أو بالثواب في الآخرة، وفي الحديث:" ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً "ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى:﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ ﴾[الليل: ٥] الآيات، وأتى بهذه الآية عقب التي قبلها، إشارة إلى أن الإنفاق لا يضيق الرزق، بل ربما كان سبباً في توسعته، فالحيلة في توسعة الرزق، الإنفاق في وجوه الخير، والثقة بالله والتوكل عليه. قوله: ﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾ أي أحسنهم وأجلهم، لكونه خالق السبب والمسبب. قوله: (يقال كل إنسان) إلخ، أي لغة، ودفع بذلك ما قيل: إن الرزاق في الحقيقة واحد وهو الله. فأجاب: بأن الجمع باعتبار الصورة، فالله خالق الرزق، والعبيد متسببون فيه. إن قلت: أي مشاركة بين المفضل والمفضل عليه؟ أجيب: بأن الرزاق يطلق على الموصل للرزق والخالق له، والرب يوصف بالأمرين، والعبد يوصف بالإيصال فقط، فخيرية الله من حيث إنه خالق وموصل، فعلم أن العبد يقال له رازق بهذا، ولا يقال له رزاق، لأنه من الأسماء المختصة به تعالى. قوله: (يرزق عائلته) أي عياله، وعيال الرجل من يعولهم، واحجى عيل كجيد. قوله: (وابدال الأولى ياء) هذا سبق قلم من المفسر، إذ لم يقرأ بهذه أحد من القراء، وأما تحقيقهما وإسقاط الأولى فقراءتان سبعيتان، وبقي ثلاث قراءات سبعيات: تحقيق الأولى، وتسهيل الثانية وعكسه، وابدال الثانية ياء ساكنة ممدودة مع تحقيق الأولى، فتكون الجملة خمساً.
قوله: ﴿ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وذلك كقوله تعالى لعيسى:﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾[المائدة: ١١٦] مع كون الله تعالى عالماً بأن الملائكة وعيسى بريئون من ذلك. قوله: ﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾ أي أنت الذي نواليك ونتقرب إليك بالعبادة، فلم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا. قوله: (أي يطيعونهم) أي فالمراد بعبادة الجن طاعتهم فيما يوسوسون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله. قوله: ﴿ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ إن قلت: حيث أثبت أولاً أنهم كانوا يعبدون الجن، لزم منه أن جميعهم مؤمنون بهم، فكيف قال أكثرهم؟ أجيب: بأن قول الملائكة أكثرهم من باب الاحتياط تحرزاً عن ادعاء الإحاطة بهم، كأنهم قالوا: إن الذين رأيناهم واطلعنا على أحوالهم كانوا يعبدون الجن، ولعل في الوجود من يطلع عليه من الكفار وأجيب أيضا: بأن العبادة عمل ظاهر، والإيمان عمل باطن، والظاهر عنوان الباطل غالباً، فقالوا: بل كانوا يعبدون الجن لاطلاعهم على أعمالهم، وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون، لعدم اطلاعهم على ما في القلوب. قوله: (أي بعض المعبودين) أي وهم الملائكة، وقوله: (لبعض العابدين) أي وهم الكفار. قوله: ﴿ وَنَقُولُ ﴾ عطف على ﴿ لاَ يَمْلِكُ ﴾.
قوله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ أي دلائل توحيدنا. قوله: ﴿ إِلاَّ إِفْكٌ ﴾ أي كذب غير مطابق للواقع، ومع كونه كذلك هو ﴿ مُّفْتَرًى ﴾ أي مختلق من حيث نسبته إلى الله، فقوله: ﴿ مُّفْتَرًى ﴾ تأسيس لا تأكيد. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ التصريح بالفاعل انكار عظيم وتعجيب بليغ. قوله: (قال تعالى) أي رداً عليهم.
قوله: ﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ﴾ أي فالمعنى لا عذر لهم في عدم تصديقك، بخلاف أهل الكتاب، فإن لهم كتاباً وديناً، ويحتجون بأن نبيهم حذرهم من ترك دينه، وإن كان عذراً باطلاً وحجة واهية. قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ أي نبي يخوفهم ويحذرهم من عقاب الله. قوله: ﴿ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾ قيل: المعشار لغة في العشر، وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر، فيكون جزءاً من ألف وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في القليل. قوله: (من القوة) إلخ، أي ومع ذلك، فلم ينفعهم شيء من ذلك في دفع الهلاك. قوله: ﴿ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي ﴾ عطف على قوله: ﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ﴾ عطف مسبب على سبب. قوله: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ عطف على محذوف تقديره: فحين كذبوا رسلي، جاءهم إنكاري بالتدمير، فكيف كان نكيري لهم؟ قوله: (واقع موقعه) أي فهو غاية العدل، وعدم الجور والظلم. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ ﴾ أي آمركم وأوصيكم، وقوله: ﴿ بِوَاحِدَةٍ ﴾ صفة لموصوف محذوف تقديره بخصلة واحدة. قوله: ﴿ أَن تَقُومُواْ ﴾ ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر لمحذوف، قدره المفسر بقوله: (هي) وليس المراد بالقيام حقيقة، وهو الانتصاب على القدمين، بل المراد صرف الهمة، والاشتغال والتفكر في أمر محمد وما جاء به، لأن أول واجب على المكلف، النظر المؤدي للمعرفة. قوله: ﴿ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ﴾ حالان من فاعل ﴿ تَقُومُواْ ﴾ وإنما أمرهم بذلك لأن الجماعة ربما يكون في اجتماعها تشويش الخاطر ومنع التفكر، بسبب الأغراض والتعصب، وأما الاثنان فيتفكران، ويعرض كل واحد منهما على صاحبه ما استفاده بفكرته، وأما الواحد فيفكر في نفسه ويقول: هل رأينا من هذا الرجل جنوناً، أو جربنا عليه كذباً قط، وقد علمتم أن محمداً ما به جنون، بل علمتموه أرجح قريش عقلاً، وأوزنهم حلماً، وأحدهم ذهناً، وأرضاهم رأياً، وأصدقهم قولاً، وأزكاهم نفساً، وإذا علمتم ذلك، كفاكم أن تطلبوا منه آية على صدقه، وإذا جاء بها، تبين أنه صادق فيما جاء به، وإذا كان كذلك، فالواجب اتباعه وتصديقه. قوله: (فتعلموا) أشار بذلك إلى أن نتيجة الفكر والعلم، ومعمول التفكر محذوف، والتقدير فتفكروا في أحوال محمد، فينتج لكم العلم بأن ما بصاحبكم جنون ولا نقص. قوله: ﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ ﴾ أضافه لهم اشارة إلى أنه كان مشهوراً بينهم، وحاله معروف عندهم، فكانوا يدعونه بالصادق الأمين، فإذا تفكروا وقاسوا حاله بعد النبوة، على حال قبلها، فيفيدهم العلم بكمال أوصافه. قوله: ﴿ إِنْ هُوَ ﴾ أي المحدث عنه وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ أي هو مقدمة عذاب لكم في الدنيا والآخرة، إن لم تؤمنوا وتصدقوه فيما جاء به فيخبركم به قبل وقوعه.
قوله: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ ﴾ يحتمل أن ﴿ مَا ﴾ شرطية مفعول لسألتكم، و ﴿ مِّن أَجْرٍ ﴾ بيان، وقوله: ﴿ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ جواب للشرط، ويحتمل أنها موصولة مبتدأ، وقوله: ﴿ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ خبرها، وقرن الخبر بالفاء لما في الموصول من العموم، وعلى كل فيحتمل أن المعنى: ما أسألكم أجراً البتة، فيكون كقولك لمن لم يعطك شيئاً أصلاً: إن أعطيتني شيئاً فخذه، ويؤيده قوله: ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ ﴾، وقول المفسر: (أي لا أسألكم عليه أجراً) ويحتمل أن المعنى: لم أسألكم شيئاً يعود نفعه علي، فهو كقوله تعالى:﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾[الشورى: ٢٣]، وقوله:﴿ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾[الفرقان: ٥٧].
قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي ﴾ أي مالكي وسيدي. قوله: ﴿ يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ ﴾ مفعول ﴿ يَقْذِفُ ﴾ محذوف تقديره بقذف الباطل بالحق، ويؤيده قوله تعالى:﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ ﴾[الأنبياء: ١٨] أي ندفع الباطل بالحق ونصرفه به، ويصح أن تكون الباء للملابسة، والمفعول محذوف أيضاً، والتقدير: يقذف الوحي إلى أنبيائه ملتبساً بالحق، أو ضمن يقذف معنى يقضي ويحكم، والأقرب الأول، لأن خير ما فسرته بالوارد. قوله: ﴿ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ محذوف. قوله: (ما غاب عن خلقه) أي فتسميته غيباً بالنسبة للخلق، وإلا فالكل شهادة عنده تعالى. قوله: ﴿ قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾ أفاد بذلك أن الوعد منجز ومتحقق بالفعل، فليس مجرد وعد. قوله: ﴿ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ أي لم يبق له بداية ولا إعادة ولا نهاية، فهو كناية عن ذهابه بالمرة، وهذا بمعنى قوله تعالى:﴿ وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ ﴾[الإسراء: ٨١] إن قلت: إن السورة مكية، والكفر في ذلك الوقت، كان له شوكة قوية، والإسلام كان ضعيفاً، فكيف قال ﴿ قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾ إلخ؟ أجيب بأنه لتحقق وقوعه نزله منزلة الواقع، فعبر عنه بالماضي كقوله:﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾[النحل: ١].
قوله: ﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ﴾ سبب نزولها: أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: تركت دين آبائك فضللت، والمعنى: فقل لهم يا محمد: إن حصل لي ضلال كما زعمتم، فإن وبال ضلالي على نفسي، لا يضر غيري، وقراءة العامة بفتح اللام من باب ضرب، وقرئ شذوذاً بكسر اللام من باب علم. قوله: ﴿ وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ ﴾ الخ، أي لأن الاهتداء لا يكون إلا بهدايته وتوفيقه. قوله: ﴿ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ أي بسبب إيحاء ربي إلي، أو بسبب الذي يوحيه إلي، فما مصدرية أو موصولة، والمعنى فهداي بفضل الله تعالى، فحاصل المعنى المراد، أنه إن كان بي ضلال، فمن نفسي لنفسي، وإن كان بي هدى، فمن فضل الله بالوحي إلي، على حد قوله تعالى:﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾[النساء: ٧٩].
قوله: ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ ﴾ أي يسمع كل ما خفي وما ظهر، وقوله: ﴿ قَرِيبٌ ﴾ أي قرب مكانة لا مكان.
قوله: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ يحتمل أن مفعول ﴿ تَرَىٰ ﴾ محذوف تقديره: ولو ترى حالهم وقت فزعهم، ويحتمل أن ﴿ إِذْ ﴾ مفعول ﴿ تَرَىٰ ﴾ أي ولو ترى وقت فزعهم؛ واسناد الرؤية للوقت مجاز، وحقه أن يسند لهم، وقوله: (عند البعث) أحد أقوال في وقت الفزع، وقيل: في الدنيا يوم بدر، حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة، فلم يستطيعوا الفرار إلى التوبة، وقيل: نزلت في ثمانين ألفاً، يأتون في آخر الزمان، يغزون الكعبة ليخربوها، فلما يدخلون البيداء يخسف بهم، فهو الأخذ من مكان قريب. قوله: (لرأيت أمراً عظيماً) أشار بذلك إلى أن جواب لو محذوف. قوله: ﴿ فَلاَ فَوْتَ ﴾ أي لا مخلص ولا مهرب. قوله: (أي القبور) أي وهي قريبة من مساكنهم في الدنيا، أو المعنى قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار، وقيل: أخذوا من مكان قريب، وهي القبور لجهنم، فيخرجون من قبورهم لها. قوله: ﴿ وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ ﴾ أي قالوا ذلك وقت حصول الفزع، وهو وقت نزول العذاب بهم. قوله: ﴿ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ﴾ أي كيف يمكنهم الخلاص والظفر بمطلوبهم وهم في الآخرة، مع أن ذلك لا يحصل ولا يكون إلا في الدنيا، وهي بعيدة في الآخرة، فالماضي بعيد إذ لا يعود، والمستقبل قريب لأنه آت، وكل آت قريب. قوله: ﴿ ٱلتَّنَاوُشُ ﴾ أي الرجوع إلى الدنيا للإيمان وقبول التوبة قوله: (بالواو والهمزة) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَقَدْ كَـفَرُواْ ﴾ إلخ، الجملة حالية، أي يستبعد تناولهم الإيمان في الآخرة، والحال أنهم كفروا في الدنيا. قوله: ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ ﴾ أي يتكلمون في الرسول بالمطاعن والنقص من جانب بعيد من أمره، وهو الشبه التي اقترحوها في جانب الرسول، ويتكلمون في العذاب، ويحلفون على نفيه من جانب بعيد عنهم، من حيث إنهم لم يعلموا ذلك، فالمكان البعيد هو ظنهم الفاسد، فهو بعيد عن رتبة العلم. قوله: (غيبة بعيدة) أي عن الصدق. قوله: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي في الآخرة. قوله: (أي قبوله) أي بحيث يخلصهم في الآخرة. قوله: ﴿ بِأَشْيَاعِهِم ﴾ جمع شيع، وشيع جمع شيعة، فالأشياع جمع الجمع، وهم قوم الرجل وأنصاره وأتباعه، المراد بهم هنا أشباههم في الكفر كما قال المفسر. قوله: ﴿ مِّن قَبْلُ ﴾ صفة للأشياع. قوله: (أي قبلهم) أي الذين كانوا سابقين عليهم في الزمان لا في العذاب، فإن زمن عذابهم في القيامة متحد. قوله: (موقع في الريبة لهم) أي فهو من أراد به إذا أوقعه في الريبة وهي الشك، فهو كقولهم: عجب عجيب، وشعر شاعر، من باب التأكيد. قوله: (ولم يعتدوا بدلائله) حال من الواو في (آمنوا) أي آمنوا به في الآخرة، والحال أنهم لم يعتدوا في الدنيا بدلائله.
Icon