ﰡ
أكثر أهل العلم على أن المراد ب :﴿ الصَّافَّاتِ ﴾ هنا، و ﴿ الْزَّاجِرَاتِ ﴾، و ﴿ الْتَّالِيَاتِ ﴾ : جماعات الملائكة، وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافّون، وذلك في قوله تعالى عنهم :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ﴾ [ الصافات : ١٦٥-١٦٦ ] ومعنى كونهم صافين : أن يكونوا صفوفًا متراصّين بعضهم جنب بعض في طاعة اللَّه تعالى، من صلاة وغيرها. وقيل : لأنهم يصفون أجنحتهم في السماء، ينتظرون أمر اللَّه، ويؤيّد القول الأول حديث حذيفة الذي قدّمنا في أوّل سورة «المائدة »، في صحيح مسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :«فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت لنا تربتها طهورًا إذا لم نجد الماء »، وهو دليل صحيح على أن الملائكة يصفّون كصفوف المصلّين في صلاتهم، وقد جاء في بعض الآيات ما يدلّ على أنهم يلقون الذكر على الأنبياء، لأجل الإعذار والإنذار به ؛ كقوله تعالى :﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ [ المرسلات : ٥-٦ ]، فقوله :﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ﴾، كقوله هنا :﴿ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ﴾، لأن الذكر الذي تتلوه تلقيه إلى الأنبياء، كما كان جبريل ينزل بالوحي على نبيّنا وغيره من الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه على الجميع، وقوله :﴿ عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾، أي : لأجل الإعذار والإنذار، أي : بذلك الذكر الذي نتلوه وتلقيه، والإعذار : قطع العذر بالتبليغ.
والإنذار قد قدّمنا إيضاحه وبيّنا أنواعه في أوّل سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١-٢ ]، وقوله في هذه الآية :﴿ فَالزاجِراتِ زَجْراً ﴾، الملائكة تزجر السحاب، وقيل : تزجر الخلائق عن معاص اللَّه بالذكر الذي تتلوه، وتلقيه إلى الأنبياء.
وممن قال بأن ﴿ الْصَّافَّاتِ ﴾ و﴿ الْزّجِرَاتِ ﴾ و﴿ الْتَّالِيَاتِ ﴾ في أول هذه السورة الكريمة هي جماعات الملائكة : ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة ؛ كما قاله القرطبي وابن كثير وغيرهما. وزاد ابن كثير وغيره ممن قال به : مسروقًا والسدي والربيع بن أنس، وقد قدّمنا أنه قول أكثر أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم :﴿ الصَّافَّاتِ ﴾ في الآية الطير تصفّ أجنحتها في الهواء، واستأنس لذلك بقوله تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ ﴾ [ الملك : ١٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾ [ النور : ٤١ ] الآية.
وقال بعض العلماء : المراد ب :﴿ الْصَّافَّاتِ ﴾ جماعات المسلمين يصفون في مساجدهم للصلاة، ويصفون في غزوهم عند لقاء العدوّ ؛ كما قال تعالى :﴿ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ [ الصف : ٤ ].
وقال بعضهم : المراد ب :﴿ فَالزجِراتِ زَجْراً ﴾ : جماعات الغزاة يزجرون الخيل لتسرع إلى الأعداء، والقول الأول أظهر وأكثر قائلاً.
وهذا البرهان القاطع الذي أقامه هنا على أنه هو الإله المعبود وحده، أقامه على ذلك أيضًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى في سورة «البقرة » :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ واحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ﴾ [ البقرة : ١٦٣ ]، فقد أقام البرهان على ذلك بقوله بعده متّصلاً به :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ].
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات ؟ قلت : إما أن تدلّ على ترتّب معانيها في الوجود كقوله :
يا لهف زيابة للحارث ال | صابح فالغانم فالآئب |
فإن قلت : فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده ؟
قلت : إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتّب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتّب الموصوفات فيه.
بيان ذلك : أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة، وجعلتهم جامعين لها فعطفها بالفاء يفيد ترتّبًا لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف، ثم للزجر ثم للتلاوة. وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أُخر، فقد أفادت ترتّب الموصوفات في الفضل أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات الطير، وبالزاجرات كل ما يزجر عن معصية، وبالتاليات كل نفس تتلو الذكر، فإن الموصوفات مختلفة، انتهى كلام الزمخشري في «الكشاف ».
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : كلام صاحب الكشاف هذا نقله عنه أبو حيان، والقرطبي، ولم يتعقّبوه، والظاهر أنه كلام لا تحقيق فيه، ويوضح ذلك اعتراف الزمخشري نفسه بأنه لا يدري ما ذكره : هل هو كذا أو على العكس، وذلك صريح في أنه ليس على علم مما يقوله ؛ لأن من جزم بشيء ثم جوّز فيه النقيضين دلّ ذلك على أنه ليس على علم مما جزم به.
والأظهر الذي لا يلزمه إشكال أن الترتيب بالفاء لمجرّد الترتيب الذكري والإتيان بأداة الترتيب لمجرد الترتيب الذكري فقط، دون إرادة ترتيب الصفات أو الموصوفات أسلوب عربيّ معروف جاء في القرآن في مواضع، وهو كثير في كلام العرب.
ومن أمثلته في القرآن العظيم، قوله تعالى :﴿ فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أدراَكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ البلد : ١١-١٧ ] الآية، فلا يخفى أن ﴿ ثُمَّ ﴾ حرف ترتيب وأن المرتب به الذي هو كونه ﴿ منَ الذين آمنوا ﴾ لا ترتّب له على ما قبله إلا مطلق الترتيب الذكري، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيء ﴾ [ الأنعام : ١٥٣-١٥٤ ] الآية، كما لا يخفى أن الترتيب فيه ذكري.
وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾[ البقرة : ١٩٩ ]، ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله :
إن من ساد ثم ساد أبوه | ثم قد ساد قبل ذلك جدّه |
وقد بيَّنا في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » : وجه اختلاف ألفاظ الآيات في ذلك، فقلنا فيه في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [ البقرة : ١١٥ ]، ما لفظه أفرد في هذه الآية الكريمة المشرق والمغرب، وثناهما في سورة «الرحمان »، في قوله تعالى :﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴾ [ الرحمن : ١٧ ]، وجمعهما في سورة «سأل سائل »، في قوله تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾ [ المعارج : ٤٠ ]، وجمع المشارق في سورة «الصافّات »، في قوله تعالى :﴿ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾ [ الصافات : ٥ ].
والجواب : أن قوله هنا :﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾، المراد به جنس المشرق والمغرب، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستّون، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة، ما نصّه : وإنما معنى ذلك :﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ ﴾ الذي تشرق منه الشمس كل يوم، ﴿ وَالْمَغرِبِ ﴾ الذي تغرب فيه كل يوم.
فتأويله إذا كان ذلك معناه : وللَّه ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها، انتهى منه بلفظه.
وقوله :﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴾ [ الرحمن : ١٧ ]، يعني مشرق الشتاء، ومشرق الصيف ومغربهما، كما عليه الجمهور. وقيل : مشرق الشمس والقمر ومغربهما.
وقوله :﴿ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾ [ المعارج : ٤٠ ]، أي : مشارق الشمس ومغاربها، كما تقدم. وقيل : مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها، والعلم عند اللَّه تعالى.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا ﴾ [ الأنعام : ٩٧ ] الآية. وقرأ هذا الحرف السبعة غير عاصم وحمزة، بإضافة ﴿ زِينَةُ ﴾ إلى ﴿ الْكَواكِبِ ﴾، أي : بلا تنوين في ﴿ زِينَةُ ﴾ مع خفض الباء في ﴿ الْكَواكِبِ ﴾. وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بتنوين ﴿ زِينَةُ ﴾، وخفض ﴿ الْكَواكِبِ ﴾ على أنه بدل من ﴿ زِينَةُ ﴾. وقرأه أبو بكر عن عاصم :﴿ بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ﴾، بتنوين ﴿ زِينَةُ ﴾، ونصب ﴿ الْكَواكِبِ ﴾، وأعرب أبو حيان ﴿ الْكَواكِبِ ﴾ على قراءة النصب إعرابين :
أحدهما : أن ﴿ الْكَواكِبِ ﴾ بدل من ﴿ السَّمَاء ﴾ في قوله تعالى :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء ﴾.
والثاني : أنه مفعول به ل :﴿ زِينَةُ ﴾ بناء على أنه مصدر منكر ؛ كقوله تعالى :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ﴾ الآية.
والأظهر عندي : أنه مفعول فعل محذوف، تقديره : أعني ﴿ الْكَواكِبِ ﴾، على حدّ قوله في «الخلاصة » :
ويحذف الناصبها إن علما | وقد يكون حذفه متلزما |
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ﴾ [ الحجر : ١٧-١٨ ] الآية، في سورة «الحجر ».
ذكر في هذه الآية الكريمة برهانين من براهين البعث، التي قدّمنا أنها يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث.
الأوّل : هو المراد بقوله :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا ﴾، لأن معنى :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ ﴾، استخبرهم والأصل في معناه : اطلب منهم الفتوى، وهي الإخبار بالواقع فيما تسألهم عنه ﴿ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ﴾، أي : أصعب إيجادًا واختراعًا، ﴿ أَم مَّنْ خَلَقْنَا ﴾ من المخلوقات التي هي أعظم وأكبر منهم، وهي ما تقدّم ذكره من الملائكة المعبّر عن جماعاتهم بالصافات، والزاجرات، والتاليات، والسماوات والأرض، والشمس والقمر، ومردّة الشياطين ؛ كما ذكر ذلك كلّه في قوله تعالى :﴿ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ [ الصافات : ٥-٧ ].
وجواب الاستفتاء المذكور الذي لا جواب له غيره، هو أن يقال : من خلقت يا ربّنا من الملائكة، ومردة الجنّ، والسماوات والأرض، والمشارق، والمغارب، والكواكب، أشدّ خلقًا منّا ؛ لأنها مخلوقات عظام أكبر وأعظم منا، فيتّضح بذلك البرهان القاطع على قدرته جلَّ وعلا على البعث بعد الموت ؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن من خلق الأعظم الأكبر كالسماوات والأرض، وما ذكر معهما قادر على أن يخلق الأصغر الأقلّ ؛ كما قال تعالى :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [ غافر : ٥٧ ]، أي : ومن قدر على خلق الأكبر فلا شكّ أنه قادر على خلق الأصغر، كخلق الإنسان خلقًا جديدًا بعد الموت. وقال تعالى :﴿ أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [ يس : ٨١ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْىِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ [ الإسراء : ٩٩ ]، وقال تعالى في «النازعات »، موضحًا الاستفتاء المذكور في آية «الصافّات » هذه :﴿ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ﴾ [ النازعات : ٢٧-٣٣ ].
وقد علمت أن وجه العبارة بمن التي هي للعالم، في قوله تعالى :﴿ أَم مَّنْ خَلَقْنَا ﴾، عن السماوات والأرض والكواكب هو تغليب ما ذكر معها من العالم كالملائكة على غير العالم، وذلك أسلوب عربيّ معروف.
وأما البرهان الثاني : فهو في قوله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ ؛ لأن من خلقهم أوّلاً من طين، وأصله التراب المبلول بالماء لا يشكّ عاقل في قدرته على خلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا ترابًا، لأن الإعادة لا يعقل أن تكون أصعب من البدء والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدًا كقوله تعالى :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ﴾[ الحج : ٥ ].
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لهذين البرهانين وغيرهما من براهين البعث في سورة «البقرة »، و«النحل »، و«الحجّ » وغير ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾، اللازب : هو ما يلزق باليد مثلاً إذا لاقته، وعبارات المفسّرين فيه تدور حول ما ذكرنا، والعرب تطلق اللازب واللاتب واللازم، بمعنى واحد، ومنه في اللازب قول عليّ رضي اللَّه عنه :
تعلم فإن اللَّه زادك بسطة | وأخلاق خير كلها لك لازب |
ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده | ولا يحسبون الشر ضربة لازب |
فإن يك هذا من نبيذ شربته ** فإني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم العظام وفترة | وغمّ مع الإشراق في الجوف لاتب |
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة والكسائي :﴿ عَجِبْتَ ﴾ بالتاء المفتوحة وهي تاء الخطاب، المخاطب بها النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة والكسائي :﴿ بَلْ عَجِبْتَ ﴾، بضم التاء وهي تاء المتكلم، وهو اللَّه جلَّ وعلا.
وقد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن القراءتين المختلفتين يحكم لهما بحكم الآيتين.
وبذلك تعلم أن هذه الآية الكريمة على قراءة حمزة والكسائي فيها إثبات العجب للَّه تعالى، فهي إذًا من آيات الصفات على هذه القراءة.
وقد أوضحنا طريق الحقّ التي هي مذهب السلف في آيات الصفات، وأحاديثها في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الروم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ [ الروم : ٥٦ ] الآية.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الروم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ [ الروم : ٥٦ ] الآية.
المراد ب :﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ الكفار، كما يدلّ عليه قوله بعده :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ ﴾.
وقد قدّمنا إطلاق الظلم على الشرك في آيات متعدّدة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ].
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسّر الظلم بالشرك، في قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَزْواجُهُمْ ﴾، جمهور أهل العلم منهم : عمر وابن عباس، على أن المراد به أشباههم ونظراؤهم، فعابد الوثن مع عابد الوثن، والسارق مع السارق، والزاني مع الزاني، واليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرآن، وفي كلام العرب ؛ كقوله تعالى :﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّهَا ﴾ [ الزخرف : ١٢ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأزْواجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يس : ٣٦ ]، وقوله تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ [ طه : ٥٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ ﴾ [ الحجر : ٨٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
فقوله تعالى :﴿ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ﴾، أي : اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم، فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم، وبذلك تعلم أن قول من قال : المراد ب ﴿ أَزْواجِهِمْ ﴾ نساؤهم اللاتي على دينهم، خلاف الصواب. وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ ﴾، أي : احشروا مع الكفار الشركاء التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه ليدخل العابدون والمعبودات جميعًا النار ؛ كما أوضح ذلك بقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨-٩٩ ]. وقد بيَّن تعالى أن الذين عبدوا من دون اللَّه من الأنبياء، والملائكة، والصالحين ؛ كعيسى وعزير خارجون عن هذا، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾، إلى قوله :﴿ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠١-١٠٣ ]، وأشار إلى ذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُواْ أآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [ الزخرف : ٩٧-٥٩ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَاهْدُوهُمْ ﴾، من الهدى العام، أي : دلّوهم وأرشدوهم ﴿ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ ﴾، أي : طريق النار ليسلكوها إليها، والضمير في قوله تعالى :﴿ فَاهْدُوهُمْ ﴾، راجع إلى الثلاثة، أعني :﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ ﴾.
وقد دلَّت هذه الآية أن الهدى يستعمل في الإرشاد والدلالة على الشرّ، ونظير ذلك في القرآن قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الحج : ٤ ]، ولذلك كان للشرّ أئمّة يؤتمّ بهم فيه ؛ كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ [ القصص : ٤١ ] الآية.
المراد ب :﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ الكفار، كما يدلّ عليه قوله بعده :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ ﴾.
وقد قدّمنا إطلاق الظلم على الشرك في آيات متعدّدة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ].
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسّر الظلم بالشرك، في قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَزْواجُهُمْ ﴾، جمهور أهل العلم منهم : عمر وابن عباس، على أن المراد به أشباههم ونظراؤهم، فعابد الوثن مع عابد الوثن، والسارق مع السارق، والزاني مع الزاني، واليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرآن، وفي كلام العرب ؛ كقوله تعالى :﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّهَا ﴾ [ الزخرف : ١٢ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأزْواجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يس : ٣٦ ]، وقوله تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ [ طه : ٥٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ ﴾ [ الحجر : ٨٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
فقوله تعالى :﴿ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ﴾، أي : اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم، فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم، وبذلك تعلم أن قول من قال : المراد ب ﴿ أَزْواجِهِمْ ﴾ نساؤهم اللاتي على دينهم، خلاف الصواب. وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ ﴾، أي : احشروا مع الكفار الشركاء التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه ليدخل العابدون والمعبودات جميعًا النار ؛ كما أوضح ذلك بقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨-٩٩ ]. وقد بيَّن تعالى أن الذين عبدوا من دون اللَّه من الأنبياء، والملائكة، والصالحين ؛ كعيسى وعزير خارجون عن هذا، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾، إلى قوله :﴿ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠١-١٠٣ ]، وأشار إلى ذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُواْ أآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [ الزخرف : ٩٧-٥٩ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَاهْدُوهُمْ ﴾، من الهدى العام، أي : دلّوهم وأرشدوهم ﴿ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ ﴾، أي : طريق النار ليسلكوها إليها، والضمير في قوله تعالى :﴿ فَاهْدُوهُمْ ﴾، راجع إلى الثلاثة، أعني :﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ ﴾.
وقد دلَّت هذه الآية أن الهدى يستعمل في الإرشاد والدلالة على الشرّ، ونظير ذلك في القرآن قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الحج : ٤ ]، ولذلك كان للشرّ أئمّة يؤتمّ بهم فيه ؛ كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ [ القصص : ٤١ ] الآية.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٦ ]، وبيَّنا هناك وجه الجمع بين الآيات في نحو قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ القصص : ٧٨ ]، وقوله تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاّ َيُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ]، مع قوله تعالى :﴿ فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢-٩٣ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ الأعراف : ٦ ] الآية. وقوله هنا :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسئولون ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٦ ]، وبيَّنا هناك وجه الجمع بين الآيات في نحو قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ القصص : ٧٨ ]، وقوله تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاّ َيُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ]، مع قوله تعالى :﴿ فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢-٩٣ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ الأعراف : ٦ ] الآية. وقوله هنا :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسئولون ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له مع التعرّض لإزالة إشكالين في بعض الآيات المتعلّقة بذلك، في سورة «قد أَفلح المؤمنون »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠١ ].
قد قدّمنا الآيات المبيّنة للمراد بالقول الذي حقّ عليهم في سورة «يس »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ﴾ [ يس : ٧ ] الآية، وما ذكره جلَّ وعلا عنهم من أنهم قالوا : إنه لما حقّ عليهم القول، الذي هو :﴿ لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾،
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الضّالين والمضلين مشتركون في العذاب يوم القيامة، وبيَّن في سورة «الزخرف »، أن ذلك الاشتراك ليس بنافعهم شيئًا ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٣٩ ]، وبيَّن في مواضع أُخر أن الأتباع يسألون اللَّه، أن يعذّب المتبوعين عذابًا مضاعفًا لإضلالهم إياهم كقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٦٧-٦٨ ].
وقد قدّمنا الكلام على تخاصم أهل النار، وسيأتي إن شاء اللَّه له زيادة إيضاح في سورة «ص »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴾ [ ص : ٦٤ ].
بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك العذاب الذي فعله بهؤلاء المعذبين المذكورين في قوله تعالى :﴿ إِنَّا لَذَائِقُونَ ﴾ [ الصافات : ٣١ ]، أي : العذاب الأليم. وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٣ ]، أنه يفعل مثله من التعذيب والتنكيل بالمجرمين، والمجرمون جمع مجرم، وهو مرتكب الجريمة وهي الذنب الذي يستحق صاحبه عليه التنكيل الشديد، ثم بيَّن العلَّة لذلك التعذيب ؛ لأنها هي امتناعهم من كلمة التوحيد التي هي لا إله إلاّ اللَّه، إذا طلب منهم الأنبياء وأتباعهم أن يقولوا ذلك في دار الدنيا.
فلفظة إنّ في قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]، من حروف التعليل ؛ كما تقرّر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه.
وعليه فالمعنى :﴿ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾ لأجل أنهم كانوا في دار الدنيا، إذا قيل لهم :﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾، أي : يتكبّرون عن قبولها ولا يرضون أن يكونوا أتباعًا للرّسل.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة، من كون ذلك هو سبب تعذيبهم بالنار، دلَّت عليه آيات ؛ كقوله تعالى مبيّنًا دخولهم النار :﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١٢ ]، وقوله تعالى في ذكر صفات الكفار وهم أهل النار :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٥ ].
بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك العذاب الذي فعله بهؤلاء المعذبين المذكورين في قوله تعالى :﴿ إِنَّا لَذَائِقُونَ ﴾ [ الصافات : ٣١ ]، أي : العذاب الأليم. وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٣ ]، أنه يفعل مثله من التعذيب والتنكيل بالمجرمين، والمجرمون جمع مجرم، وهو مرتكب الجريمة وهي الذنب الذي يستحق صاحبه عليه التنكيل الشديد، ثم بيَّن العلَّة لذلك التعذيب ؛ لأنها هي امتناعهم من كلمة التوحيد التي هي لا إله إلاّ اللَّه، إذا طلب منهم الأنبياء وأتباعهم أن يقولوا ذلك في دار الدنيا.
فلفظة إنّ في قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]، من حروف التعليل ؛ كما تقرّر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه.
وعليه فالمعنى :﴿ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾ لأجل أنهم كانوا في دار الدنيا، إذا قيل لهم :﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾، أي : يتكبّرون عن قبولها ولا يرضون أن يكونوا أتباعًا للرّسل.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة، من كون ذلك هو سبب تعذيبهم بالنار، دلَّت عليه آيات ؛ كقوله تعالى مبيّنًا دخولهم النار :﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١٢ ]، وقوله تعالى في ذكر صفات الكفار وهم أهل النار :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٥ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الشعراء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢٢٤ ].
قد قدّمنا تفسيره مع ذكر الآيات الدالَّة على معناه في سورة «المائدة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ]، وبيَّنا هنا كلام أهل العلم في نجاسة عين خمر الدنيا دون خمر الآخرة، وأن ذلك يشير إلى قوله تعالى :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢١ ].
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنّة.
الأولى : أنهن ﴿ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ﴾، وهو العين، أي : عيونهن قاصرات على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم.
الثانية : أنهن ﴿ عِينٌ ﴾، والعين جمع عيناء، وهي واسعة دار العين، وهي النجلاء.
الثالثة : أن ألوانهن بيض بياضًا مشربًا بصفرة ؛ لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبّههن به، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك :
كبكر المقانات البياض بصفرة *** غذاها غير الماء نمير المحلّل
لأن معنى قوله : كبكر المقانات البياض بصفرة : أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة، فبيَّن كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن، بقوله تعالى في «ص » :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ [ ص : ٥٢ ]، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس :
من القاصرات الطرف لو دبّ محمول *** من الذرّ فوق الأتب منها لأثرا
وذكر كونهن عينًا في قوله تعالى فيهن :﴿ وَحُورٌ عِينٌ ﴾ [ الواقعة : ٢٣ ]، وذكر صفا ألوانهنّ وبياضها في قوله تعالى :﴿ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴾ [ الواقعة : ٢٣ ]، وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٥٨ ]، وصفاتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية.
واعلم أن اللَّه أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر :
أحدهما : أنهن ﴿ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ﴾، والطرف العين، وهو لا يجمع ولا يثنّى لأن أصله مصدر، ولم يأتِ في القرآن إلا مفردًا كقوله تعالى :﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ﴾ [ إبراهيم : ٤٣ ]، وقوله تعالى :﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ ﴾، ومعنى كونهن ﴿ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ﴾ هو ما قدّمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا.
والثاني من نوعي القصر : كونهن مقصورات في خيامهن، لا يخرجن منها ؛ كما قال تعالى لأَزواج نبيّه صلى الله عليه وسلم :﴿ وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ]، وذلك في قوله تعالى :﴿ حُورٌ مَّقْصُوراتٌ في الْخِيَامِ ﴾ [ الرحمن : ٧٢ ]، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب ؛ ومنه قوله :
من كان حربًا للنسا *** ء فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني *** وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل *** فقصارهن ملاحهنه
فقوله :
قصارهن، يعني : المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرًا، كما أوضح ذلك كثير عزّة في قوله :
وأنت التي حببت كل قصيره *** إلى وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد *** قصار الخطا شر النساء البحاتر
والحجال : جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال : المقصورات في حجالهن. وذكر بعضهم أن رجلاً سمع آخر، قال : لقد أجاد الأعشى في قوله :
غراء فرعاء مصقول عوارضها *** تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها *** مرّ السحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها *** ولا تراها لسر الجار تختتل
فقال له : قاتلك اللَّه، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها، فهل لا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جاراتها قيزنها *** وتعتل من إنيانهن فتعذر
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنّة.
الأولى : أنهن ﴿ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ﴾، وهو العين، أي : عيونهن قاصرات على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم.
الثانية : أنهن ﴿ عِينٌ ﴾، والعين جمع عيناء، وهي واسعة دار العين، وهي النجلاء.
الثالثة : أن ألوانهن بيض بياضًا مشربًا بصفرة ؛ لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبّههن به، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك :
كبكر المقانات البياض بصفرة *** غذاها غير الماء نمير المحلّل
لأن معنى قوله : كبكر المقانات البياض بصفرة : أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة، فبيَّن كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن، بقوله تعالى في «ص » :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ [ ص : ٥٢ ]، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس :
من القاصرات الطرف لو دبّ محمول *** من الذرّ فوق الأتب منها لأثرا
وذكر كونهن عينًا في قوله تعالى فيهن :﴿ وَحُورٌ عِينٌ ﴾ [ الواقعة : ٢٣ ]، وذكر صفا ألوانهنّ وبياضها في قوله تعالى :﴿ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴾ [ الواقعة : ٢٣ ]، وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٥٨ ]، وصفاتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية.
واعلم أن اللَّه أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر :
أحدهما : أنهن ﴿ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ﴾، والطرف العين، وهو لا يجمع ولا يثنّى لأن أصله مصدر، ولم يأتِ في القرآن إلا مفردًا كقوله تعالى :﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ﴾ [ إبراهيم : ٤٣ ]، وقوله تعالى :﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ ﴾، ومعنى كونهن ﴿ قَاصِراتُ الطَّرْفِ ﴾ هو ما قدّمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا.
والثاني من نوعي القصر : كونهن مقصورات في خيامهن، لا يخرجن منها ؛ كما قال تعالى لأَزواج نبيّه صلى الله عليه وسلم :﴿ وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ]، وذلك في قوله تعالى :﴿ حُورٌ مَّقْصُوراتٌ في الْخِيَامِ ﴾ [ الرحمن : ٧٢ ]، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب ؛ ومنه قوله :
من كان حربًا للنسا *** ء فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني *** وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل *** فقصارهن ملاحهنه
فقوله :
قصارهن، يعني : المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرًا، كما أوضح ذلك كثير عزّة في قوله :
وأنت التي حببت كل قصيره *** إلى وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد *** قصار الخطا شر النساء البحاتر
والحجال : جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال : المقصورات في حجالهن. وذكر بعضهم أن رجلاً سمع آخر، قال : لقد أجاد الأعشى في قوله :
غراء فرعاء مصقول عوارضها *** تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها *** مرّ السحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها *** ولا تراها لسر الجار تختتل
فقال له : قاتلك اللَّه، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها، فهل لا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جاراتها قيزنها *** وتعتل من إنيانهن فتعذر
قد قدّمنا إيضاحه بالقرآن في سورة «الفرقان »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ الفرقان : ١٥ ].
قد قدّمنا إيضاحه في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في القرآن ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ].
قد قدّمنا إيضاحه في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في القرآن ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ].
ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم، فيملؤون منها بطونهم، ويجمعون معها :
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد | صداها ولا يقضي عليها هيامها |
وقال أبو عبد اللَّه القرطبي في تفسير هذه الآية :﴿ لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾، الشوب : الخلط، والشوب والشوب لغتان، كالفقر والفقر، والفتح أشهر. قال الفراء : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبًا وشيابة، انتهى منه.
ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن الكفار الذين أرسل إليهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم :﴿ أَلْفَوْاْ آبَاءهُمْ ضالين ﴾، أي : وجدوهم على الكفر، وعبادة الأوثان،
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ ﴾، أي : فهم على اتّباعهم والاقتداء بهم في الكفر والضلال ؛ كما قال تعالى عنهم :﴿ وإنّا على آثارهم مقتدون ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ يُهْرَعُونَ ﴾، قد قدّمنا في سورة «هود »، أن معنى :﴿ يُهْرَعُونَ ﴾ : يسرعون ويهرولون، وأن منه قول مهلهل :
فجاءوا يهرعون وهم أسارى | تقودهم على رغم الأنوف |
قد قدّمنا الآيات التي بمعناه في سورة «يس »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ [ يس : ٧ ]، وفي سورة «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ] الآية.
تقدّم إيضاحه بالآيات القرآنية، وتفسيره في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٦ ].
تقدّم إيضاحه بالآيات القرآنية، وتفسيره في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٦ ].
تقدّم إيضاحه بالآيات القرآنية، وتفسيره في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٦ ].
قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٤١-٤٢ ] الآية.
قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٤١-٤٢ ] الآية.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
اعلم أوّلاً : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لمّا باشر عمل ذبحه امتثالاً للأمر، فداه اللَّه بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة «الحجر »، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة «الصافّات »، وهذا وقت إنجاز الوعد.
اعلم، وفّقني اللَّه وإياك، أن القرآن العظيم قد دلّ في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في «الصافّات »، والثاني في «هود ».
أمّا دلالة آيات «الصافّات » على ذلك، فهي واضحة جدًا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيّه إبراهيم :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٠ ]، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] فدلّ ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشّر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب اللَّه على أن معناه :
فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ﴾، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام اللَّه، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أوّلاً الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نصّ اللَّه عليها مستقلّة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، أن المقرّر في الأصول : أن النص من كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية «الصافّات » هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبّر عنه في كلّها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأمّا الموضع الثاني الدالّ على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة «هود »، فهو قوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] ؛ لأن رسل اللَّه من الملائكة بشَّرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلّة القرآنية على ذلك، والعلم عند اللَّه تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصّة الذبيح هذه تؤيّد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي متردّدة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بيّن في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل، لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرّد الابتلاء والاختبار، هل يصمّم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرّح بذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾[ الصافات : ١٠٦-١٠٧ ]، فتبيّن بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف متردّدة بين الامتثال والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب *** فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا تردّدًا *** شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا، إلى أن شرط التمكّن من الفعل في التكليف، مبني على الخلاف المذكور، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكّن من الفعل، لأنه لا امتثال إلا مع التمكن من الفعل، ومن قال إن الحكمة متردّدة بين الامتثال والابتلاء، لم يشترط من الفعل ؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقّق مع عدم التمكّن من الفعل، كما لا يخفى. ومن الفروع المبنيّة على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها الحيض بالفعل، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط، فلا كفّارة عليها، ولها أن تفطر ؛ لأنها عالمة بأنها لا تتمكّن من الامتثال، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال، وتارة تكون الابتلاء، فإنها يجب عليها تبييت الصوم، ولا يجوز لها الإفطار إلاّ بعد مجيء الحيض بالفعل، وإن أفطرت قبله كفَّرت. وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدًا، وقد علم ذلك بالعادة، فهو أيضًا ينبني على الخلاف المذكور.
قد قدّمنا الكلام عليه في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ].
ذكر جلَّ وعلا منّته عليهما في غير هذا الموضع ؛ كقوله فيه «طه » :﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴾ [ طه : ٣٦-٣٧ ] ؛ لأن من سؤله الذي أوتيه إجابة دعوته في رسالة أخيه هارون معه، ومعلوم أن الرسالة من أعظم المنن.
قوله :﴿ وَقَوْمُهُمَا ﴾، يعني بني إسرائيل.
والمعنى : أنه نجّى موسى وهارون وقومهما من الكرب العظيم، وهو ما كان يسومهم فرعون وقومه من العذاب، كذبح الذكور من أبنائهم وإهانة الإناث، وكيفية إنجائه لهم مبيّنة في انفلاق البحر لهم، حتى خاضوه سالمين، وإغراق فرعون وقومه وهم ينظرون.
وقد قدّمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٥٠ ]، وقدّمنا تفسير الكرب العظيم في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى في قصّة نوح :﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٦ ].
بيَّن جلَّ وعلا أنه نصر موسى وهارون وقومهما على فرعون وجنوده، ﴿ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾، أي : وفرعون وجنوده هم المغلوبون، وذلك بأن اللَّه أهلكهم جميعًا بالغرق، وأنجى موسى وهارون وقومهما من ذلك الهلاك، وفي ذلك نصر عظيم لهم عليهم، وقد بيَّن جلَّ وعلا ذلك في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [ القصص : ٣٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
﴿ الْكِتَابِ ﴾ هو التوارة، كما ذكره في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن في مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إسرائيل ﴾ [ السجدة : ٢٣ ]، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء ﴾ [ الأنعام : ١٥٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدّمنا بعض الكلام على ذلك في سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانِ ﴾ [ البقرة : ٥٣ ] الآية.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٦ ]. وفي سورة «المائدة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ [ المائدة : ٣٢ ]، وغير ذلك من المواضع.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٦ ]. وفي سورة «المائدة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ [ المائدة : ٣٢ ]، وغير ذلك من المواضع.
وقد قدّمنا تفسير هذه الآية وإيضاحها في سورة «الأنبياء ».
وقد قدّمنا تفسير هذه الآية وإيضاحها في سورة «الأنبياء ».
قد قدّمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧-٥٩ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧-٥٩ ].