تفسير سورة التحريم

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة التحريم
في السورة إشارة إلى حادث وقع بين النبي صلى الله وعليه وسلم وبعض زوجاته. واستطرادات متصلة به استهدفت العظة والإنذار والتمثيل والتذكير. ومن المحتمل أن يكون فصل الحادث نزل لحدته، ثم نزلت الفصول الاستطرادية بعده تباعا حتى تمت السورة والله اعلم.
وقد ذكر الزمخشري أنها تسمى سورة النبي أيضا ولم يذكر لذلك سندا.
وليس في السورة أمارة مميزة يمكن أن تساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه، وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد الحجرات وروي هذا في ترتيبات أخرى١ فجارينا هذه الروايات.
١ انظر روايات ترتيب النزول للسور المدنية في كتابنا: سيرة الرسول ٢ ص ٩.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١ ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( ٢ ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( ٣ ) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( ٤ ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( ٥ ) ﴾.
في الآية الأولى : سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى العتاب لتحريمه على نفسه ما أحله الله له مرضاة لزوجاته مع تطمينه بغفران الله ورحمته فهو الغفور الرحيم.
وفي الآية الثانية : تذكير بأن الله قد شرع كفارة اليمين للمسلمين لتكون وسيلة عما أقسموا الأيمان عليه من أمور يحسن الرجوع عنها. وهو العليم بأعمال الناس الحكيم فيما يأمر به ويرسمه. وينطوي في التذكير تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسيلة.
وفي الآية الثالثة : إشارة إلى حادث وقع بين النبي وبعض أزواجه ؛ حيث حدث واحدة منهم بحديث وطلب منها كتمانه فلم تكتمه وأخبرت به غيرها. وسئل عنه وأظهره الله على ما جرى فاعترف بشيء منه وسكت عن شيء آخر، ثم عاتب زوجته على إفشائها السر فسألته مستغربة عن الذي أخبره بالأمر فأجابها : إنه الله العليم الخبير.
أما الآيتان الرابعة والخامسة : فقد احتوتا إنذارا يتضمن معنى التنديد أيضا موجها لزوجات النبي عامة، ولاثنتين منهن خاصة كما احتوتا تطمينا وتأييدا للنبي كما يلي :
( ١ ) فعلى الزوجتين أن تتوبا إلى الله. فقد كان منهما من الزيغ والكيد ما يوجب عليهما ذلك١.
( ٢ ) وإذا كانتا قد تظاهرتا على الكيد للنبي فلتعلما أن الله نصيره وظهيره، وأن جبريل والملائكة والصالحين المخلصين من المؤمنين أيضا نصراؤه وظهراؤه.
( ٣ ) وأن ربه ليستطيع إذا تراءى له أن يطلق نساءه بسبب أمثال هذه المكايدات أن يبدله بهن أزواجا خيرا منهن ثيبات وأبكارا متصفات بأحسن الصفات وأطهرها من إسلام وإيمان وخشوع وخضوع وعبادة وصوم أو هجرة.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ١ ﴾
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
ولقد روي في صدد نزول هذه الآيات وصورها روايات عديدة. منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير قال : لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) ٢.
وهذا الحديث ورد في كتاب التاج في سياق تفسير السورة في فصل التفسير كأنما يورد كسبب لنزول الآيات٣. وقد روى الثلاثة المذكورون حديثا طويلا آخر ورد في التاج في سياق تفسير السورة أيضا عن ابن عباس رأينا من المفيد إيراده لما فيه من صور طريفة قال( مكثت سنة أريد أن أسأل عمر عن آية فما أستطيع ذلك هيبة له حتى خرجت في الحج معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأرك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين : من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة. قلت : والله كنت أريد أن أسألك عن هذا من سنة فما أستطيع هيبة لك. قال : فلا تفعل ما ظننت علمه عندي فاسألني عنه، فإن كان لي علم خبرتك به ثم قال عمر : والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم قال : فبينا أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي : لو وضعت كذا وكذا فقلت لها : وما لك ولما هاهنا وما تكلفك في أمر أريده فقالت لي : عجبا يا ابن الخطاب ما تريده أن تراجع وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان. فقام عمر فأخذ رداءه حتى دخل على حفصة فقال لها : يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. لا تغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها. قال : ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت : عجبا لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد فخرجت، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب أتيته بالخبر. وكنا نتخوف ملكا من ملوك غسان سمعنا أنه يريد السير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال : افتح، فقلت : جاء الغساني ؟ قال بل أشد من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه فقلت : رغم أنف حفصة وعائشة. فأخذت ثوبي فخرجت حتى جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرقى عليها بعجلة، وغلام لرسول الله أسود على رأس الدرجة. فقلت له : قل هذا عمر ابن الخطاب، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر : فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغت كلام أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبوب. وعند رأسه أهب معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله. فقال : أما ترضى أن تكون لها الدنيا ولنا الآخرة٤ وقد روى البخاري حديثا ثالثا عن أنس ورد في التاج في فصل التفسير، وفي سياق تفسير السورة أيضا قال : قال عمر رضي الله عنه : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية ) ٥. ولقد أورد المفسرون٦ هذا الأحاديث، وأوردوا بالإضافة إليها أحاديث أخرى لم ترد في كتب صحاح الأحاديث، فقد روى البغوي بالإضافة إلى الحديث الأول الذي أورده وقال : إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه، حديثا عن عائشة ذكر فيه أن النبي إنما شرب شراب العسل عند حفصة، وأن التواطؤ كان بين عائشة وسودة وصفية، وقد روى البغوي وابن كثير والطبرسي والخازن حديثا فيه سبب آخر ( وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لحفصة أن تزور أهلها وفي غيابها استدعى مارية القبطية إلى بيتها ووقع عليها. وعرفت حفصة ذلك فأخذت تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك أذنت لي من أجل هذا وأدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي فقال لها : ألا ترضى أن أحرمها فلا أقربها ؟ قالت : بلى فقال لها : لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة، فأنزل الله الآيات ) ومما رووه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة من قبيل المراضاة والبشرى : إن أباها وأبا عائشة سيكونان خليفتين بعده. ومما رووه تتمة لحادث أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لإفشاء سره واعتزل نساءه شهرا وقعد في مشربة مارية وشاع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، بل ورووا أنه طلق حفصة وعمر ابن الخطاب جاء إلى المسجد، فوجد الناس جالسين يبكون وفي رواية ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله نساءه، فاستأذن على النبي فلما أذن له قال : يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا أبو بكر والمؤمنون معك ثم سأله : أطلقتهن ؟ قال : لا فنادى بأعلى صوته لم يطلق النبي نساءه ونزلت الآيات.
وعلى كل حال فالآيات قد نزلت بسبب حادث ما مما ورد في الأحاديث، وبالتالي بسبب غيرة نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن فحواها متطابق مع ذلك. مع القول عن رواية المفسرين لأحاديث غير أحاديث الشيخين والترمذي قد تفيد أن من الرواة من لم يكن متأكدا مما بلغه، وأن المفسرين جاروهم في ذلك، فجمعوا بين الأحاديث على اختلاف مراتبها. ومن الجدير بالتنبه أنه ليس في الحديث الطويل المروي عن ابن عباس وحديثه عن عمر ما يتصل بالحادث إلا كون جملة ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾ هي في حفصة وعائشة، وهذا مطابق للحديث الأول. الذي هو الأقوى سندا والذي قد يكون ما جاء فيه هو الأصح والله اعلم.
والتنديد والإنذار في الآيات قويان يلهمان أن الحادث مما أزعج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فجاء بهذه القوة متناسبين مع شدة الإزعاج والألم اللذين ألم بالنبي صلى الله عليه وسلم مع علو مقامه الذي هو جدير بالتعظيم والتوقير، وبخاصة من نساء النبي أكثر من أي شخص آخر.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت مشهدا آخر من مشاهد السيرة النبوية الخاصة بحياة النبي الزوجية. وقد سبقت الإشارة إلى مشاهد أخرى من ذلك في سورتي الأحزاب والنور.
والإيجاز في الإشارة، وأسلوب الآيات معا يلهمان أن الآيات إنما أوحيت للعظة والتعليم مما يصح أن يكون شاملا لعامة المسلمين في الحالات المماثلة التي من مشاهد الحياة الزوجية.
ويحسن أن ننبه على مدى تعبير ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ من حيث كونه ليس في معنى المناقضة في تحريم ما أحل الله تعالى في المفهوم الشرعي الذي يقابله معنى إحلال ما حرم الله، وإنما هو في معنى حرمان النفس ومنعها مما أحله الله.
وهذا غير غريب عن المألوفات البشرية في امتناع الناس أو حلفهم على الامتناع عن شيء هو في أصله حلال ومباح لهم، دون أن يعني أنه قصد نقيض حله.
وتحلة الأيمان إنما وردت في آيات سورة المائدة هذه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ٨٧ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ٨٨ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٨٩ ﴾
ويفيد هذا أن الآيات التي نحن في صددها قد نزلت بعد هذه الآيات، مع أن سورة المائدة متأخرة في الترتيب عن سورة التحريم. ولقد احتوت سورة المائدة فصولا متعددة. منها ما يدل على أنها نزلت قبل فصول نزلت في سور متقدم
١ هذا تأويل جملة (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين ومنهم الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي والنسفي، وقد رأينا في تفسير القاسمي تأويلا آخر وهو إن تتوبا إلى الله فتكون قلوبكما قد صغت وعادت إلى الحق، وقد اخترنا الأول لأننا رأيناه الأكثر اتساقا مع روح الآية والله أعلم.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٣٩ واطيت بمعنى تواطأت أو اتفقت. مغافير: صمغ شجر العرفط، وهو حلو الطعم كريه الريح. والقصد إيهام النبي أن النحل قد جنى من هذا الصمغ فصار ريحه كريها وقد أوردنا النص كما ورد والظاهر أنه مختصر ويفيد على كل حال أن إحداهما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تواطأنا عليه فأجابها بما جاء في الشطر الثاني من الحديث....
٣ أن المفسرين البغوي والطبرسي أوردوا هذا الحديث وقالا: إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه.
٤ المصدر السابق الذكر ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ والقرظ: ثمرة مثل البلوط وأهب جمع: إهاب وهو كيس من جلد وفسر الشارح كلمة (عجلة) بدرجة وقد جاءت هذه الكلمة بعد كلمة (عجلة) كأنها مرادفة لها..
٥ المصدر نفسه.
٦ انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.
( ١ ) تحلة : وسيلة للتحلل من الأيمان.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١ ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( ٢ ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( ٣ ) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( ٤ ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( ٥ ) ﴾.
في الآية الأولى : سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى العتاب لتحريمه على نفسه ما أحله الله له مرضاة لزوجاته مع تطمينه بغفران الله ورحمته فهو الغفور الرحيم.
وفي الآية الثانية : تذكير بأن الله قد شرع كفارة اليمين للمسلمين لتكون وسيلة عما أقسموا الأيمان عليه من أمور يحسن الرجوع عنها. وهو العليم بأعمال الناس الحكيم فيما يأمر به ويرسمه. وينطوي في التذكير تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسيلة.
وفي الآية الثالثة : إشارة إلى حادث وقع بين النبي وبعض أزواجه ؛ حيث حدث واحدة منهم بحديث وطلب منها كتمانه فلم تكتمه وأخبرت به غيرها. وسئل عنه وأظهره الله على ما جرى فاعترف بشيء منه وسكت عن شيء آخر، ثم عاتب زوجته على إفشائها السر فسألته مستغربة عن الذي أخبره بالأمر فأجابها : إنه الله العليم الخبير.
أما الآيتان الرابعة والخامسة : فقد احتوتا إنذارا يتضمن معنى التنديد أيضا موجها لزوجات النبي عامة، ولاثنتين منهن خاصة كما احتوتا تطمينا وتأييدا للنبي كما يلي :
( ١ ) فعلى الزوجتين أن تتوبا إلى الله. فقد كان منهما من الزيغ والكيد ما يوجب عليهما ذلك١.
( ٢ ) وإذا كانتا قد تظاهرتا على الكيد للنبي فلتعلما أن الله نصيره وظهيره، وأن جبريل والملائكة والصالحين المخلصين من المؤمنين أيضا نصراؤه وظهراؤه.
( ٣ ) وأن ربه ليستطيع إذا تراءى له أن يطلق نساءه بسبب أمثال هذه المكايدات أن يبدله بهن أزواجا خيرا منهن ثيبات وأبكارا متصفات بأحسن الصفات وأطهرها من إسلام وإيمان وخشوع وخضوع وعبادة وصوم أو هجرة.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ١ ﴾
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
ولقد روي في صدد نزول هذه الآيات وصورها روايات عديدة. منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير قال : لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) ٢.
وهذا الحديث ورد في كتاب التاج في سياق تفسير السورة في فصل التفسير كأنما يورد كسبب لنزول الآيات٣. وقد روى الثلاثة المذكورون حديثا طويلا آخر ورد في التاج في سياق تفسير السورة أيضا عن ابن عباس رأينا من المفيد إيراده لما فيه من صور طريفة قال( مكثت سنة أريد أن أسأل عمر عن آية فما أستطيع ذلك هيبة له حتى خرجت في الحج معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأرك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين : من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة. قلت : والله كنت أريد أن أسألك عن هذا من سنة فما أستطيع هيبة لك. قال : فلا تفعل ما ظننت علمه عندي فاسألني عنه، فإن كان لي علم خبرتك به ثم قال عمر : والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم قال : فبينا أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي : لو وضعت كذا وكذا فقلت لها : وما لك ولما هاهنا وما تكلفك في أمر أريده فقالت لي : عجبا يا ابن الخطاب ما تريده أن تراجع وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان. فقام عمر فأخذ رداءه حتى دخل على حفصة فقال لها : يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. لا تغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها. قال : ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت : عجبا لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد فخرجت، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب أتيته بالخبر. وكنا نتخوف ملكا من ملوك غسان سمعنا أنه يريد السير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال : افتح، فقلت : جاء الغساني ؟ قال بل أشد من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه فقلت : رغم أنف حفصة وعائشة. فأخذت ثوبي فخرجت حتى جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرقى عليها بعجلة، وغلام لرسول الله أسود على رأس الدرجة. فقلت له : قل هذا عمر ابن الخطاب، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر : فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغت كلام أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبوب. وعند رأسه أهب معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله. فقال : أما ترضى أن تكون لها الدنيا ولنا الآخرة٤ وقد روى البخاري حديثا ثالثا عن أنس ورد في التاج في فصل التفسير، وفي سياق تفسير السورة أيضا قال : قال عمر رضي الله عنه : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية ) ٥. ولقد أورد المفسرون٦ هذا الأحاديث، وأوردوا بالإضافة إليها أحاديث أخرى لم ترد في كتب صحاح الأحاديث، فقد روى البغوي بالإضافة إلى الحديث الأول الذي أورده وقال : إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه، حديثا عن عائشة ذكر فيه أن النبي إنما شرب شراب العسل عند حفصة، وأن التواطؤ كان بين عائشة وسودة وصفية، وقد روى البغوي وابن كثير والطبرسي والخازن حديثا فيه سبب آخر ( وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لحفصة أن تزور أهلها وفي غيابها استدعى مارية القبطية إلى بيتها ووقع عليها. وعرفت حفصة ذلك فأخذت تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك أذنت لي من أجل هذا وأدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي فقال لها : ألا ترضى أن أحرمها فلا أقربها ؟ قالت : بلى فقال لها : لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة، فأنزل الله الآيات ) ومما رووه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة من قبيل المراضاة والبشرى : إن أباها وأبا عائشة سيكونان خليفتين بعده. ومما رووه تتمة لحادث أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لإفشاء سره واعتزل نساءه شهرا وقعد في مشربة مارية وشاع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، بل ورووا أنه طلق حفصة وعمر ابن الخطاب جاء إلى المسجد، فوجد الناس جالسين يبكون وفي رواية ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله نساءه، فاستأذن على النبي فلما أذن له قال : يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا أبو بكر والمؤمنون معك ثم سأله : أطلقتهن ؟ قال : لا فنادى بأعلى صوته لم يطلق النبي نساءه ونزلت الآيات.
وعلى كل حال فالآيات قد نزلت بسبب حادث ما مما ورد في الأحاديث، وبالتالي بسبب غيرة نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن فحواها متطابق مع ذلك. مع القول عن رواية المفسرين لأحاديث غير أحاديث الشيخين والترمذي قد تفيد أن من الرواة من لم يكن متأكدا مما بلغه، وأن المفسرين جاروهم في ذلك، فجمعوا بين الأحاديث على اختلاف مراتبها. ومن الجدير بالتنبه أنه ليس في الحديث الطويل المروي عن ابن عباس وحديثه عن عمر ما يتصل بالحادث إلا كون جملة ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾ هي في حفصة وعائشة، وهذا مطابق للحديث الأول. الذي هو الأقوى سندا والذي قد يكون ما جاء فيه هو الأصح والله اعلم.
والتنديد والإنذار في الآيات قويان يلهمان أن الحادث مما أزعج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فجاء بهذه القوة متناسبين مع شدة الإزعاج والألم اللذين ألم بالنبي صلى الله عليه وسلم مع علو مقامه الذي هو جدير بالتعظيم والتوقير، وبخاصة من نساء النبي أكثر من أي شخص آخر.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت مشهدا آخر من مشاهد السيرة النبوية الخاصة بحياة النبي الزوجية. وقد سبقت الإشارة إلى مشاهد أخرى من ذلك في سورتي الأحزاب والنور.
والإيجاز في الإشارة، وأسلوب الآيات معا يلهمان أن الآيات إنما أوحيت للعظة والتعليم مما يصح أن يكون شاملا لعامة المسلمين في الحالات المماثلة التي من مشاهد الحياة الزوجية.
ويحسن أن ننبه على مدى تعبير ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ من حيث كونه ليس في معنى المناقضة في تحريم ما أحل الله تعالى في المفهوم الشرعي الذي يقابله معنى إحلال ما حرم الله، وإنما هو في معنى حرمان النفس ومنعها مما أحله الله.
وهذا غير غريب عن المألوفات البشرية في امتناع الناس أو حلفهم على الامتناع عن شيء هو في أصله حلال ومباح لهم، دون أن يعني أنه قصد نقيض حله.
وتحلة الأيمان إنما وردت في آيات سورة المائدة هذه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ٨٧ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ٨٨ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٨٩ ﴾
ويفيد هذا أن الآيات التي نحن في صددها قد نزلت بعد هذه الآيات، مع أن سورة المائدة متأخرة في الترتيب عن سورة التحريم. ولقد احتوت سورة المائدة فصولا متعددة. منها ما يدل على أنها نزلت قبل فصول نزلت في سور متقدم
١ هذا تأويل جملة (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين ومنهم الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي والنسفي، وقد رأينا في تفسير القاسمي تأويلا آخر وهو إن تتوبا إلى الله فتكون قلوبكما قد صغت وعادت إلى الحق، وقد اخترنا الأول لأننا رأيناه الأكثر اتساقا مع روح الآية والله أعلم.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٣٩ واطيت بمعنى تواطأت أو اتفقت. مغافير: صمغ شجر العرفط، وهو حلو الطعم كريه الريح. والقصد إيهام النبي أن النحل قد جنى من هذا الصمغ فصار ريحه كريها وقد أوردنا النص كما ورد والظاهر أنه مختصر ويفيد على كل حال أن إحداهما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تواطأنا عليه فأجابها بما جاء في الشطر الثاني من الحديث....
٣ أن المفسرين البغوي والطبرسي أوردوا هذا الحديث وقالا: إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه.
٤ المصدر السابق الذكر ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ والقرظ: ثمرة مثل البلوط وأهب جمع: إهاب وهو كيس من جلد وفسر الشارح كلمة (عجلة) بدرجة وقد جاءت هذه الكلمة بعد كلمة (عجلة) كأنها مرادفة لها..
٥ المصدر نفسه.
٦ انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

( ٢ ) صغت : مالت أو زاغت
( ٣ ) صالح المؤمنين : بمعنى الجمهور الصالح من المؤمنين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١ ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( ٢ ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( ٣ ) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( ٤ ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( ٥ ) ﴾.
في الآية الأولى : سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى العتاب لتحريمه على نفسه ما أحله الله له مرضاة لزوجاته مع تطمينه بغفران الله ورحمته فهو الغفور الرحيم.
وفي الآية الثانية : تذكير بأن الله قد شرع كفارة اليمين للمسلمين لتكون وسيلة عما أقسموا الأيمان عليه من أمور يحسن الرجوع عنها. وهو العليم بأعمال الناس الحكيم فيما يأمر به ويرسمه. وينطوي في التذكير تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسيلة.
وفي الآية الثالثة : إشارة إلى حادث وقع بين النبي وبعض أزواجه ؛ حيث حدث واحدة منهم بحديث وطلب منها كتمانه فلم تكتمه وأخبرت به غيرها. وسئل عنه وأظهره الله على ما جرى فاعترف بشيء منه وسكت عن شيء آخر، ثم عاتب زوجته على إفشائها السر فسألته مستغربة عن الذي أخبره بالأمر فأجابها : إنه الله العليم الخبير.
أما الآيتان الرابعة والخامسة : فقد احتوتا إنذارا يتضمن معنى التنديد أيضا موجها لزوجات النبي عامة، ولاثنتين منهن خاصة كما احتوتا تطمينا وتأييدا للنبي كما يلي :
( ١ ) فعلى الزوجتين أن تتوبا إلى الله. فقد كان منهما من الزيغ والكيد ما يوجب عليهما ذلك١.
( ٢ ) وإذا كانتا قد تظاهرتا على الكيد للنبي فلتعلما أن الله نصيره وظهيره، وأن جبريل والملائكة والصالحين المخلصين من المؤمنين أيضا نصراؤه وظهراؤه.
( ٣ ) وأن ربه ليستطيع إذا تراءى له أن يطلق نساءه بسبب أمثال هذه المكايدات أن يبدله بهن أزواجا خيرا منهن ثيبات وأبكارا متصفات بأحسن الصفات وأطهرها من إسلام وإيمان وخشوع وخضوع وعبادة وصوم أو هجرة.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ١ ﴾
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
ولقد روي في صدد نزول هذه الآيات وصورها روايات عديدة. منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير قال : لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) ٢.
وهذا الحديث ورد في كتاب التاج في سياق تفسير السورة في فصل التفسير كأنما يورد كسبب لنزول الآيات٣. وقد روى الثلاثة المذكورون حديثا طويلا آخر ورد في التاج في سياق تفسير السورة أيضا عن ابن عباس رأينا من المفيد إيراده لما فيه من صور طريفة قال( مكثت سنة أريد أن أسأل عمر عن آية فما أستطيع ذلك هيبة له حتى خرجت في الحج معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأرك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين : من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة. قلت : والله كنت أريد أن أسألك عن هذا من سنة فما أستطيع هيبة لك. قال : فلا تفعل ما ظننت علمه عندي فاسألني عنه، فإن كان لي علم خبرتك به ثم قال عمر : والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم قال : فبينا أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي : لو وضعت كذا وكذا فقلت لها : وما لك ولما هاهنا وما تكلفك في أمر أريده فقالت لي : عجبا يا ابن الخطاب ما تريده أن تراجع وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان. فقام عمر فأخذ رداءه حتى دخل على حفصة فقال لها : يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. لا تغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها. قال : ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت : عجبا لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد فخرجت، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب أتيته بالخبر. وكنا نتخوف ملكا من ملوك غسان سمعنا أنه يريد السير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال : افتح، فقلت : جاء الغساني ؟ قال بل أشد من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه فقلت : رغم أنف حفصة وعائشة. فأخذت ثوبي فخرجت حتى جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرقى عليها بعجلة، وغلام لرسول الله أسود على رأس الدرجة. فقلت له : قل هذا عمر ابن الخطاب، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر : فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغت كلام أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبوب. وعند رأسه أهب معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله. فقال : أما ترضى أن تكون لها الدنيا ولنا الآخرة٤ وقد روى البخاري حديثا ثالثا عن أنس ورد في التاج في فصل التفسير، وفي سياق تفسير السورة أيضا قال : قال عمر رضي الله عنه : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية ) ٥. ولقد أورد المفسرون٦ هذا الأحاديث، وأوردوا بالإضافة إليها أحاديث أخرى لم ترد في كتب صحاح الأحاديث، فقد روى البغوي بالإضافة إلى الحديث الأول الذي أورده وقال : إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه، حديثا عن عائشة ذكر فيه أن النبي إنما شرب شراب العسل عند حفصة، وأن التواطؤ كان بين عائشة وسودة وصفية، وقد روى البغوي وابن كثير والطبرسي والخازن حديثا فيه سبب آخر ( وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لحفصة أن تزور أهلها وفي غيابها استدعى مارية القبطية إلى بيتها ووقع عليها. وعرفت حفصة ذلك فأخذت تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك أذنت لي من أجل هذا وأدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي فقال لها : ألا ترضى أن أحرمها فلا أقربها ؟ قالت : بلى فقال لها : لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة، فأنزل الله الآيات ) ومما رووه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة من قبيل المراضاة والبشرى : إن أباها وأبا عائشة سيكونان خليفتين بعده. ومما رووه تتمة لحادث أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لإفشاء سره واعتزل نساءه شهرا وقعد في مشربة مارية وشاع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، بل ورووا أنه طلق حفصة وعمر ابن الخطاب جاء إلى المسجد، فوجد الناس جالسين يبكون وفي رواية ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله نساءه، فاستأذن على النبي فلما أذن له قال : يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا أبو بكر والمؤمنون معك ثم سأله : أطلقتهن ؟ قال : لا فنادى بأعلى صوته لم يطلق النبي نساءه ونزلت الآيات.
وعلى كل حال فالآيات قد نزلت بسبب حادث ما مما ورد في الأحاديث، وبالتالي بسبب غيرة نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن فحواها متطابق مع ذلك. مع القول عن رواية المفسرين لأحاديث غير أحاديث الشيخين والترمذي قد تفيد أن من الرواة من لم يكن متأكدا مما بلغه، وأن المفسرين جاروهم في ذلك، فجمعوا بين الأحاديث على اختلاف مراتبها. ومن الجدير بالتنبه أنه ليس في الحديث الطويل المروي عن ابن عباس وحديثه عن عمر ما يتصل بالحادث إلا كون جملة ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾ هي في حفصة وعائشة، وهذا مطابق للحديث الأول. الذي هو الأقوى سندا والذي قد يكون ما جاء فيه هو الأصح والله اعلم.
والتنديد والإنذار في الآيات قويان يلهمان أن الحادث مما أزعج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فجاء بهذه القوة متناسبين مع شدة الإزعاج والألم اللذين ألم بالنبي صلى الله عليه وسلم مع علو مقامه الذي هو جدير بالتعظيم والتوقير، وبخاصة من نساء النبي أكثر من أي شخص آخر.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت مشهدا آخر من مشاهد السيرة النبوية الخاصة بحياة النبي الزوجية. وقد سبقت الإشارة إلى مشاهد أخرى من ذلك في سورتي الأحزاب والنور.
والإيجاز في الإشارة، وأسلوب الآيات معا يلهمان أن الآيات إنما أوحيت للعظة والتعليم مما يصح أن يكون شاملا لعامة المسلمين في الحالات المماثلة التي من مشاهد الحياة الزوجية.
ويحسن أن ننبه على مدى تعبير ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ من حيث كونه ليس في معنى المناقضة في تحريم ما أحل الله تعالى في المفهوم الشرعي الذي يقابله معنى إحلال ما حرم الله، وإنما هو في معنى حرمان النفس ومنعها مما أحله الله.
وهذا غير غريب عن المألوفات البشرية في امتناع الناس أو حلفهم على الامتناع عن شيء هو في أصله حلال ومباح لهم، دون أن يعني أنه قصد نقيض حله.
وتحلة الأيمان إنما وردت في آيات سورة المائدة هذه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ٨٧ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ٨٨ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٨٩ ﴾
ويفيد هذا أن الآيات التي نحن في صددها قد نزلت بعد هذه الآيات، مع أن سورة المائدة متأخرة في الترتيب عن سورة التحريم. ولقد احتوت سورة المائدة فصولا متعددة. منها ما يدل على أنها نزلت قبل فصول نزلت في سور متقدم
١ هذا تأويل جملة (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين ومنهم الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي والنسفي، وقد رأينا في تفسير القاسمي تأويلا آخر وهو إن تتوبا إلى الله فتكون قلوبكما قد صغت وعادت إلى الحق، وقد اخترنا الأول لأننا رأيناه الأكثر اتساقا مع روح الآية والله أعلم.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٣٩ واطيت بمعنى تواطأت أو اتفقت. مغافير: صمغ شجر العرفط، وهو حلو الطعم كريه الريح. والقصد إيهام النبي أن النحل قد جنى من هذا الصمغ فصار ريحه كريها وقد أوردنا النص كما ورد والظاهر أنه مختصر ويفيد على كل حال أن إحداهما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تواطأنا عليه فأجابها بما جاء في الشطر الثاني من الحديث....
٣ أن المفسرين البغوي والطبرسي أوردوا هذا الحديث وقالا: إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه.
٤ المصدر السابق الذكر ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ والقرظ: ثمرة مثل البلوط وأهب جمع: إهاب وهو كيس من جلد وفسر الشارح كلمة (عجلة) بدرجة وقد جاءت هذه الكلمة بعد كلمة (عجلة) كأنها مرادفة لها..
٥ المصدر نفسه.
٦ انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

( ٤ ) سائحات : قيل بمعنى صائمات، وروي حديث نبوي مرفوع جاء فيه ( سياحة هذه الأمة الصيام ) وقيل بمعنى مهاجرات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١ ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( ٢ ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( ٣ ) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( ٤ ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( ٥ ) ﴾.
في الآية الأولى : سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى العتاب لتحريمه على نفسه ما أحله الله له مرضاة لزوجاته مع تطمينه بغفران الله ورحمته فهو الغفور الرحيم.
وفي الآية الثانية : تذكير بأن الله قد شرع كفارة اليمين للمسلمين لتكون وسيلة عما أقسموا الأيمان عليه من أمور يحسن الرجوع عنها. وهو العليم بأعمال الناس الحكيم فيما يأمر به ويرسمه. وينطوي في التذكير تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسيلة.
وفي الآية الثالثة : إشارة إلى حادث وقع بين النبي وبعض أزواجه ؛ حيث حدث واحدة منهم بحديث وطلب منها كتمانه فلم تكتمه وأخبرت به غيرها. وسئل عنه وأظهره الله على ما جرى فاعترف بشيء منه وسكت عن شيء آخر، ثم عاتب زوجته على إفشائها السر فسألته مستغربة عن الذي أخبره بالأمر فأجابها : إنه الله العليم الخبير.
أما الآيتان الرابعة والخامسة : فقد احتوتا إنذارا يتضمن معنى التنديد أيضا موجها لزوجات النبي عامة، ولاثنتين منهن خاصة كما احتوتا تطمينا وتأييدا للنبي كما يلي :
( ١ ) فعلى الزوجتين أن تتوبا إلى الله. فقد كان منهما من الزيغ والكيد ما يوجب عليهما ذلك١.
( ٢ ) وإذا كانتا قد تظاهرتا على الكيد للنبي فلتعلما أن الله نصيره وظهيره، وأن جبريل والملائكة والصالحين المخلصين من المؤمنين أيضا نصراؤه وظهراؤه.
( ٣ ) وأن ربه ليستطيع إذا تراءى له أن يطلق نساءه بسبب أمثال هذه المكايدات أن يبدله بهن أزواجا خيرا منهن ثيبات وأبكارا متصفات بأحسن الصفات وأطهرها من إسلام وإيمان وخشوع وخضوع وعبادة وصوم أو هجرة.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ١ ﴾
والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
ولقد روي في صدد نزول هذه الآيات وصورها روايات عديدة. منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير قال : لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) ٢.
وهذا الحديث ورد في كتاب التاج في سياق تفسير السورة في فصل التفسير كأنما يورد كسبب لنزول الآيات٣. وقد روى الثلاثة المذكورون حديثا طويلا آخر ورد في التاج في سياق تفسير السورة أيضا عن ابن عباس رأينا من المفيد إيراده لما فيه من صور طريفة قال( مكثت سنة أريد أن أسأل عمر عن آية فما أستطيع ذلك هيبة له حتى خرجت في الحج معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأرك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين : من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة. قلت : والله كنت أريد أن أسألك عن هذا من سنة فما أستطيع هيبة لك. قال : فلا تفعل ما ظننت علمه عندي فاسألني عنه، فإن كان لي علم خبرتك به ثم قال عمر : والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم قال : فبينا أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي : لو وضعت كذا وكذا فقلت لها : وما لك ولما هاهنا وما تكلفك في أمر أريده فقالت لي : عجبا يا ابن الخطاب ما تريده أن تراجع وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان. فقام عمر فأخذ رداءه حتى دخل على حفصة فقال لها : يا بنية إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة والله إنا لنراجعه فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. لا تغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها. قال : ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت : عجبا لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد فخرجت، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب أتيته بالخبر. وكنا نتخوف ملكا من ملوك غسان سمعنا أنه يريد السير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال : افتح، فقلت : جاء الغساني ؟ قال بل أشد من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه فقلت : رغم أنف حفصة وعائشة. فأخذت ثوبي فخرجت حتى جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرقى عليها بعجلة، وغلام لرسول الله أسود على رأس الدرجة. فقلت له : قل هذا عمر ابن الخطاب، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر : فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغت كلام أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبوب. وعند رأسه أهب معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت فقال : ما يبكيك ؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله. فقال : أما ترضى أن تكون لها الدنيا ولنا الآخرة٤ وقد روى البخاري حديثا ثالثا عن أنس ورد في التاج في فصل التفسير، وفي سياق تفسير السورة أيضا قال : قال عمر رضي الله عنه : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية ) ٥. ولقد أورد المفسرون٦ هذا الأحاديث، وأوردوا بالإضافة إليها أحاديث أخرى لم ترد في كتب صحاح الأحاديث، فقد روى البغوي بالإضافة إلى الحديث الأول الذي أورده وقال : إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه، حديثا عن عائشة ذكر فيه أن النبي إنما شرب شراب العسل عند حفصة، وأن التواطؤ كان بين عائشة وسودة وصفية، وقد روى البغوي وابن كثير والطبرسي والخازن حديثا فيه سبب آخر ( وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لحفصة أن تزور أهلها وفي غيابها استدعى مارية القبطية إلى بيتها ووقع عليها. وعرفت حفصة ذلك فأخذت تبكي وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك أذنت لي من أجل هذا وأدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي فقال لها : ألا ترضى أن أحرمها فلا أقربها ؟ قالت : بلى فقال لها : لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة، فأنزل الله الآيات ) ومما رووه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة من قبيل المراضاة والبشرى : إن أباها وأبا عائشة سيكونان خليفتين بعده. ومما رووه تتمة لحادث أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لإفشاء سره واعتزل نساءه شهرا وقعد في مشربة مارية وشاع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، بل ورووا أنه طلق حفصة وعمر ابن الخطاب جاء إلى المسجد، فوجد الناس جالسين يبكون وفي رواية ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله نساءه، فاستأذن على النبي فلما أذن له قال : يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا أبو بكر والمؤمنون معك ثم سأله : أطلقتهن ؟ قال : لا فنادى بأعلى صوته لم يطلق النبي نساءه ونزلت الآيات.
وعلى كل حال فالآيات قد نزلت بسبب حادث ما مما ورد في الأحاديث، وبالتالي بسبب غيرة نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن فحواها متطابق مع ذلك. مع القول عن رواية المفسرين لأحاديث غير أحاديث الشيخين والترمذي قد تفيد أن من الرواة من لم يكن متأكدا مما بلغه، وأن المفسرين جاروهم في ذلك، فجمعوا بين الأحاديث على اختلاف مراتبها. ومن الجدير بالتنبه أنه ليس في الحديث الطويل المروي عن ابن عباس وحديثه عن عمر ما يتصل بالحادث إلا كون جملة ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾ هي في حفصة وعائشة، وهذا مطابق للحديث الأول. الذي هو الأقوى سندا والذي قد يكون ما جاء فيه هو الأصح والله اعلم.
والتنديد والإنذار في الآيات قويان يلهمان أن الحادث مما أزعج النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فجاء بهذه القوة متناسبين مع شدة الإزعاج والألم اللذين ألم بالنبي صلى الله عليه وسلم مع علو مقامه الذي هو جدير بالتعظيم والتوقير، وبخاصة من نساء النبي أكثر من أي شخص آخر.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت مشهدا آخر من مشاهد السيرة النبوية الخاصة بحياة النبي الزوجية. وقد سبقت الإشارة إلى مشاهد أخرى من ذلك في سورتي الأحزاب والنور.
والإيجاز في الإشارة، وأسلوب الآيات معا يلهمان أن الآيات إنما أوحيت للعظة والتعليم مما يصح أن يكون شاملا لعامة المسلمين في الحالات المماثلة التي من مشاهد الحياة الزوجية.
ويحسن أن ننبه على مدى تعبير ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ من حيث كونه ليس في معنى المناقضة في تحريم ما أحل الله تعالى في المفهوم الشرعي الذي يقابله معنى إحلال ما حرم الله، وإنما هو في معنى حرمان النفس ومنعها مما أحله الله.
وهذا غير غريب عن المألوفات البشرية في امتناع الناس أو حلفهم على الامتناع عن شيء هو في أصله حلال ومباح لهم، دون أن يعني أنه قصد نقيض حله.
وتحلة الأيمان إنما وردت في آيات سورة المائدة هذه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ٨٧ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ٨٨ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٨٩ ﴾
ويفيد هذا أن الآيات التي نحن في صددها قد نزلت بعد هذه الآيات، مع أن سورة المائدة متأخرة في الترتيب عن سورة التحريم. ولقد احتوت سورة المائدة فصولا متعددة. منها ما يدل على أنها نزلت قبل فصول نزلت في سور متقدم
١ هذا تأويل جملة (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين ومنهم الزمخشري والخازن والطبرسي والبغوي والنسفي، وقد رأينا في تفسير القاسمي تأويلا آخر وهو إن تتوبا إلى الله فتكون قلوبكما قد صغت وعادت إلى الحق، وقد اخترنا الأول لأننا رأيناه الأكثر اتساقا مع روح الآية والله أعلم.
٢ التاج ج ٤ ص ٢٣٩ واطيت بمعنى تواطأت أو اتفقت. مغافير: صمغ شجر العرفط، وهو حلو الطعم كريه الريح. والقصد إيهام النبي أن النحل قد جنى من هذا الصمغ فصار ريحه كريها وقد أوردنا النص كما ورد والظاهر أنه مختصر ويفيد على كل حال أن إحداهما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تواطأنا عليه فأجابها بما جاء في الشطر الثاني من الحديث....
٣ أن المفسرين البغوي والطبرسي أوردوا هذا الحديث وقالا: إن الآيات نزلت في مناسبة ما جاء فيه.
٤ المصدر السابق الذكر ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ والقرظ: ثمرة مثل البلوط وأهب جمع: إهاب وهو كيس من جلد وفسر الشارح كلمة (عجلة) بدرجة وقد جاءت هذه الكلمة بعد كلمة (عجلة) كأنها مرادفة لها..
٥ المصدر نفسه.
٦ انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٧ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٨ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي احتوت، والذي يتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. فقد حكت ما حكته من الحادث الذي كاد فيه بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم له بما آلمه، وأنذرتهن ونددت بهن وطلبت منهن التوبة، فجاءت هذه الآيات تهتف بالمسلمين عامة ونساء النبي داخلات في الخطاب طبعا على سبيل العظة والتوكيد. بوجوب التوبة إلى الله تعالى مما ألموا ويلمون به من ذنوب وأخطاء توبة صادقة مخلصة ليقوا أنفسهم وأهليهم بذلك من أهوال يوم القيامة، ويستحقوا فيه مغفرة الله تعالى ورحمته ورضوانه وجناته.
وقد وصفت الآيات ذلك اليوم بما وصفت من قبيل الاستطراد والتشديد بالدعوة إلى ما هتفت به من التوبة ووقاية النفس والأهل : فالنار شديدة هائلة. وحراسها أشداء أقوياء من الملائكة يسارعون إلى تنفيذ أوامر الله ولا يعصونه في شيء. ولسوف يقال في ذلك اليوم للكفار : لا تعتذروا فلن يفيدكم اعتذار، وإنما تجزون بما كنتم تعملون حقا وعدلا. ولسوف يقر الله فيه عيون النبي والمؤمنين المخلصين معه ولا يخزيهم. يشع نورهم أمامهم وعلى جوانبهم، ويدعون الله بأن يتمم نوره ونعمته عليهم ويغفر لهم ذنوبهم مقررين أنه على كل شيء قدير، والآيات قوية نافذة من شأنها بعث الرهبة والرغبة في السامعين، وهو مما استهدفته الآيات وإطلاق الهتاف يجعله عاما شاملا لكل المسلمين في كل ظرف ومكان.
ووصف التوبة التي دعى إليها المسلمون بالنصوح الذي يعني الندم على ما فات والاعتزام على عدم اقتراف ذنب فيما هو آت. وهو ما أوله به أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على ما رواه المفسرون١ وهذا هو الأصل الحكيم في مبدأ التوبة القرآني على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد علق المفسرون٢ على جملة ﴿ قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ فقالوا : إنها توجب على رب البيت المسلم أن يعلم أهله وأولاده ومماليكه ما فرض الله ونهى عنه ومن ذلك تعليم الأطفال الصلاة والصوم وحسن الأخلاق وأن يراقبهم في ذلك وأن يزجرهم ويقذعهم إذا ما أتوا معصية. ومنهم من عزا ذلك إلى ابن عباس. وفي هذا وجاهة ظاهرة.
وفي مناسبة جملة ﴿ عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ٦ ﴾ نقول : إن شيئا من ذلك ورد في سورة المدثر وعلقنا عليه وعلى موضوع الملائكة في مناسبة بما يغني عن التكرار. وقد يكون ما تضمنته الآيات هنا من إنذار بالجزاء الأخروي للناس على أعمالهم والتحذير من عذاب النار من حكمة الأسلوب الذي وردت به العبارة القرآنية ؛ لأن فيه ترهيبا قويا، والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والخازن.
٢ المصدر نفسه.
( ١ ) توبة نصوحا : التوبة التي ينصح الإنسان بها نفسه أي ينقذها، وهي التوبة التي يندم بها صاحبها عما فرط منه، ويعتزم على عدم العودة. وقد روى الطبرسي أن معاذ ابن جبل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال له : أن يتوب التائب، ثم لا يرجع في ذنب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦:﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٧ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٨ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي احتوت، والذي يتبادر لنا أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة. فقد حكت ما حكته من الحادث الذي كاد فيه بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم له بما آلمه، وأنذرتهن ونددت بهن وطلبت منهن التوبة، فجاءت هذه الآيات تهتف بالمسلمين عامة ونساء النبي داخلات في الخطاب طبعا على سبيل العظة والتوكيد. بوجوب التوبة إلى الله تعالى مما ألموا ويلمون به من ذنوب وأخطاء توبة صادقة مخلصة ليقوا أنفسهم وأهليهم بذلك من أهوال يوم القيامة، ويستحقوا فيه مغفرة الله تعالى ورحمته ورضوانه وجناته.
وقد وصفت الآيات ذلك اليوم بما وصفت من قبيل الاستطراد والتشديد بالدعوة إلى ما هتفت به من التوبة ووقاية النفس والأهل : فالنار شديدة هائلة. وحراسها أشداء أقوياء من الملائكة يسارعون إلى تنفيذ أوامر الله ولا يعصونه في شيء. ولسوف يقال في ذلك اليوم للكفار : لا تعتذروا فلن يفيدكم اعتذار، وإنما تجزون بما كنتم تعملون حقا وعدلا. ولسوف يقر الله فيه عيون النبي والمؤمنين المخلصين معه ولا يخزيهم. يشع نورهم أمامهم وعلى جوانبهم، ويدعون الله بأن يتمم نوره ونعمته عليهم ويغفر لهم ذنوبهم مقررين أنه على كل شيء قدير، والآيات قوية نافذة من شأنها بعث الرهبة والرغبة في السامعين، وهو مما استهدفته الآيات وإطلاق الهتاف يجعله عاما شاملا لكل المسلمين في كل ظرف ومكان.
ووصف التوبة التي دعى إليها المسلمون بالنصوح الذي يعني الندم على ما فات والاعتزام على عدم اقتراف ذنب فيما هو آت. وهو ما أوله به أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على ما رواه المفسرون١ وهذا هو الأصل الحكيم في مبدأ التوبة القرآني على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد علق المفسرون٢ على جملة ﴿ قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ فقالوا : إنها توجب على رب البيت المسلم أن يعلم أهله وأولاده ومماليكه ما فرض الله ونهى عنه ومن ذلك تعليم الأطفال الصلاة والصوم وحسن الأخلاق وأن يراقبهم في ذلك وأن يزجرهم ويقذعهم إذا ما أتوا معصية. ومنهم من عزا ذلك إلى ابن عباس. وفي هذا وجاهة ظاهرة.
وفي مناسبة جملة ﴿ عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ٦ ﴾ نقول : إن شيئا من ذلك ورد في سورة المدثر وعلقنا عليه وعلى موضوع الملائكة في مناسبة بما يغني عن التكرار. وقد يكون ما تضمنته الآيات هنا من إنذار بالجزاء الأخروي للناس على أعمالهم والتحذير من عذاب النار من حكمة الأسلوب الذي وردت به العبارة القرآنية ؛ لأن فيه ترهيبا قويا، والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والخازن.
٢ المصدر نفسه.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٩ ) ﴾.
وهذه الآية أيضا لا يروي المفسرون لها مناسبة فيما اطلعنا عليه. ومع أنها تبدو مستقلة عما قبلها وبعدها سياقا وموضوعا، فليس من شأن هذا أن يجعلها في مكانها فقد تكون استطرادية بعد الآيات السابقة التي دعت إلى التوبة واجتناب عذاب الله، وأشارت إلى مصير الكفار الأخروي وعدم جدوى اعتذارهم في يوم القيامة ؛ لتأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف من الذين كفروا برسالته علانية، وهم الكافرون وسرّاً، وهم المنافقون موقف الشدة والمجاهدة. ولتنذر بمصيرهم الأخروي المحتم وهو جهنم، ومثل هذه الاستطرادات غير نادر في النظم القرآني كما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ومما يمكن أن يسوغ هذا ما يبدو من صلة وثيقة بين الآيات التالية لهذه الآية والآيات السابقة لها بحيث يستعبد أن تكون هذه الآية فذة كما قلنا في مكانها لا تتصل بما سبقها وما لحقها اتصالا مباشرا، أو غير مباشر. والله أعلم.
ولقد فرق المفسرون١ عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وبعض علماء التابعين في الموقف الواجب وقوفه من كل من الكافرين والمنافقين بحيث تكون مجاهدة الكافرين بالسيف والمنافقين بالحجة والغلظة في التنديد والتثريب. مع أنه ليس في الآية ما يسوغ هذا الفريق، ولاسيما أنها جعلت مصير الفريقين الأخروي واحدا.
ويتبادر لنا أن هذا التفريق مستلهم من موقف النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين ؛ حيث لم ير قتالهم وقتلهم لاعتبارات عديدة منهم أنهم كانوا مسلمين في الظاهر يقرون بوحدانية الله ورسالة رسوله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويشتركون في الحركات الجهادية على ما شرحناه في سياق سور البقرة والأحزاب والنساء وقد يكون هذا في محله. والله أعلم.
وعلى ضوء ما شرحناه في مناسبات سابقة، فإن كان الجهاد المأمور به النبي الكفار يعني القتال، فإنه يكون بالنسبة للأعداء منهم دون المسالمين. أما إذا كان يعني بذل الجهد في الإنذار فيصح أن يكون الأمر واردا بالنسبة لجمع الكفار وبالنسبة للمنافقين معا.
١ انظر تفسير هذه الآية وتفسير الآية (٧٣) من سورة التوبة التي في نفس الصيغة في كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( ١٠ ) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ١١ ) وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( ١٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين.
الآيات تحتوي تذكيرا بحالة ثلاث فئات من النساء ومصائرهن :
( ١ ) فالفئة الأولى كافرات في عصمة مؤمنين صالحين، والمثال عليها امرأتا نوح ولوط. فقد خانتا زوجيهما وكفرتا فلم تنفعهما زوجيتهما بنبي ولم يغن زوجاهما عنهما من الله شيئا. وحقت عليهما النار في جملة من حقت عليه.
( ٢ ) والثانية مؤمنة في عصمة كفار متمردين على الله. والمثال على ذلك امرأة فرعون. فقد آمنت وأنابت إلى الله واستنكرت ظلم فرعون وكفره، ودعت الله بأن ينجيها منه من تبعة عمله، وبأن يكون لها بيت عنده في الجنة. وينطوي في هذا تقرير كون زوجيتها لفرعون لم تضرها وكونها نالت من الله الرضاء وحسن الجزاء.
( ٣ ) والثالثة مؤمنة لم ترتبط بعصمة الرجال. والمثال عليها مريم ابنة عمران، فقد آمنت بالله وكتبه وخضعت له واعتصمت به، وأحصنت فرجها، فكرمها الله بأن نفخ فيه من روحه. وينطوي في ذلك أيضا تقرير كونها نالت رضاء الله عنها.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة بموضوع آيات السورة وخاصة بفصلها الأول صلة تمثيل وتذكير لنساء النبي صلى الله عليه وسلم اللائي صدر من بعضهن ما صدر، وأنه أريد بها كما تلهمه تقرير كون رابطتهن الزوجية بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس من شأنهما وحدها أن تنجيهن من عذاب الله، أو تضمن لهن رضاءه، وأن هذا وذاك متوقف على عملهن وسلوكهن.
والإطلاق في الآيات يجعل العظة التي استهدفتها والأمثال التي ضربتها والتذكير الذي ذكرت به موجها إلى عموم المسلمين ومستمر التلقين. وخاصة في صدد كون المرء لا ينجيه إلا عمله مستقلا عن أية رابطة تربطه بغيره. ولقد تكرر التقرير المنطوي في الآيات بأساليب عديدة في مواضع كثيرة من القرآن المكي والمدني. ما مر منه أمثلة عديدة حيث يكون هذا من المبادئ القرآنية المحكمة.
ومع خصوصية الآيات ومناسباتها الموضوعية، فإنها لا تخلو كما يتبادر لنا من تلقين تقريري لشخصية المرأة واستقلالها السلوكي وأهليتها لتحمل نتائج هذا السلوك، وهذا كله متسق مع ما قرره القرآن ونبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وكفر وخيانة امرأة نوح وإيمان امرأة فرعون يذكران للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآيات، والأمران لم يردا في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، والتي احتوت قصص نوح وفرعون وموسى بإسهاب. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون شيء من ذلك ورد في أسفار وقراطيس كانت متداولة ولم تصل إلينا على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة. ولقد روى المفسرون١ عن بعض التابعين أن امرأة نوح كانت تشي لجبابرة قومها بالذين كانوا يؤمنون برسالة زوجها. وأن امرأة فرعون التي سميت في كتب التفسير بآسية بنت مزاحم آمنت نتيجة لإيمان امرأة خازن فرعون التي أصرت على إيمانها بالله رغم قتل فرعون لأولادها أمامها وتعذيبها حتى زهقت روحها حيث أثرت أقوالها فيها، وأنها فرحت حينما علمت بتغلب موسى على سحرة فرعون، وأعلنت إيمانها برب هارون وموسى، وأن فرعون عذبها ثم أمر بإلقاء صخرة عظيمة عليها فزهقت روحها هي الأخرى ؛ حيث يدل هذا على أن ما ورد في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان من الراجح أن هذا التداول كان في أوساط الكتابيين، فإن ورود الآيات بالأسلوب الذي وردت به قرينة على أن سامعي القرآن من العرب لم يكونوا يجهلون ذلك أيضا، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون وسيلة للعظة والتذكير والتمثيل شأن كل الأمثال التاريخية التي وردت في القرآن.
أما امرأة لوط ففي قصة لوط الواردة في سور الصافات والعنكبوت والنمل والشعراء والحجر وهود والأعراف إشارات إلى أن الله كتب عليها ما كتب على قوم لوط من هلاك، وفي سفر التكوين المتداول اليوم شيء بهذا المعنى أيضا ؛ حيث جاء في الإصحاح ( ١٩ ) أنها التفتت وراءها قضيب ملح.
ومن المؤسف أن مفسري الشيعة لم يمنعهم عقل ودين من صرف الآية الأولى إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول إنهما كانتا كافرتين منافقتين وأنهما خالدتان في النار. والعياذ بالله من قول الزور والهوى.
ولقد ذكرت السيدة مريم في سور عديدة مكية ومدنية مثل سور مريم والأنبياء والمؤمنون وآل عمران والمائدة، وذكر أن ما كان من قنوتها لله وإحصانها فرجها وتكريم الله ولها نفخه فيها من روحه وجعله وابنها آية للعالمين، وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير المذكورة بما يغني عن التكرار.
استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه.
غير أننا هنا أن نستطرد إلى ما يروى عن وجود إخوة وأخوات للمسيح من أمه ؛ لأن بعض المسلمين سألونا مؤخرا عنها ففي الإصحاح٢ من إنجيل مرقس هذه العبارة ( أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخا يعقوب وموسى ويهوذا... وليست إخوانه هاهنا عندنا ) وفي الإصحاح ( ٨ ) من إنجيل لوقا هذه العبارة ( وأقبلت أمه وأخوته، فلم يقدروا على الوصول إليه لأجل الجمع، فأخبر وقيل له : إن أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك ) ولقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى هذه العبارات ( لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجمعا حبلى من روح القدس. وإذا كان يوسف رجلها صديقا، ولم يرد أن يشهرها هم بتخليتها سرا، وفيما هو متفكر في ذلك إذا بملاك الرب تراءى له في الحلم قائلا : يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم، فإن المولود إنما هو من روح القدس وستلد ابنا فتسميه يسوع ؛ لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم، فلما نهض يوسف من النوم صنع ما أمره ملاك الرب، فأخذ امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسماه يسوع ) وقد تعني الجملة الأخيرة أنه لم يعاشرها، حتى ولدت ثم عاشرها بعد ولادتها المسيح. وقد يؤيد هذا روايات إنجيلي مرقس ولوقا التي ذكرت أنه كان للمسيح أخوة جاؤوا إليه مع أمه. والكلام في القرآن إنما دار على حبل مريم بعيسى من روح الله، وكلمة التعبير عن المعجزة الربانية في ذلك. وما ذكره القرآن من إحصان مريم لفرجها إنما كان قبل حبلها بعيسى. ولا يتعرض القرآن لمريم بعد ولادتها عيسى إلا بالقول : إنها كانت صديقة كما جاء في آية سورة المائدة ( ١١٥ ) والتنديد باليهود بسبب رميهم إياها بالبهتان العظيم في آية سورة النساء ( ١٨٠ ) الذي يفيد أنهم قصدوا القول : إن عيسى كان ولدا زنا. ولسنا نرى ما يمكن أن تفيده عبارات الأناجيل من معاشرة يوسف لمريم بعد ولادتها لعيسى وإنجابهما أولادا غير ممكن، كما أنه ليس فيه ما يتعارض مع القرآن، وكل ما على المسلم الاعتقاد به هو ما قرره القرآن من أن مريم أحصنت فرجها فنفخ الله فيها، وولدت عيسى وكفى، ولا يضيره أن يصدق ما جاء في الأناجيل، وله أن لا يصدقه أيضا، وليس في القرآن ولا في الحديث ما يثبت ذلك أو ينفيه. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير ابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي.
٢ فارغ؟؟؟؟؟؟.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠:﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( ١٠ ) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ١١ ) وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( ١٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين.
الآيات تحتوي تذكيرا بحالة ثلاث فئات من النساء ومصائرهن :
( ١ ) فالفئة الأولى كافرات في عصمة مؤمنين صالحين، والمثال عليها امرأتا نوح ولوط. فقد خانتا زوجيهما وكفرتا فلم تنفعهما زوجيتهما بنبي ولم يغن زوجاهما عنهما من الله شيئا. وحقت عليهما النار في جملة من حقت عليه.
( ٢ ) والثانية مؤمنة في عصمة كفار متمردين على الله. والمثال على ذلك امرأة فرعون. فقد آمنت وأنابت إلى الله واستنكرت ظلم فرعون وكفره، ودعت الله بأن ينجيها منه من تبعة عمله، وبأن يكون لها بيت عنده في الجنة. وينطوي في هذا تقرير كون زوجيتها لفرعون لم تضرها وكونها نالت من الله الرضاء وحسن الجزاء.
( ٣ ) والثالثة مؤمنة لم ترتبط بعصمة الرجال. والمثال عليها مريم ابنة عمران، فقد آمنت بالله وكتبه وخضعت له واعتصمت به، وأحصنت فرجها، فكرمها الله بأن نفخ فيه من روحه. وينطوي في ذلك أيضا تقرير كونها نالت رضاء الله عنها.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة بموضوع آيات السورة وخاصة بفصلها الأول صلة تمثيل وتذكير لنساء النبي صلى الله عليه وسلم اللائي صدر من بعضهن ما صدر، وأنه أريد بها كما تلهمه تقرير كون رابطتهن الزوجية بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس من شأنهما وحدها أن تنجيهن من عذاب الله، أو تضمن لهن رضاءه، وأن هذا وذاك متوقف على عملهن وسلوكهن.
والإطلاق في الآيات يجعل العظة التي استهدفتها والأمثال التي ضربتها والتذكير الذي ذكرت به موجها إلى عموم المسلمين ومستمر التلقين. وخاصة في صدد كون المرء لا ينجيه إلا عمله مستقلا عن أية رابطة تربطه بغيره. ولقد تكرر التقرير المنطوي في الآيات بأساليب عديدة في مواضع كثيرة من القرآن المكي والمدني. ما مر منه أمثلة عديدة حيث يكون هذا من المبادئ القرآنية المحكمة.
ومع خصوصية الآيات ومناسباتها الموضوعية، فإنها لا تخلو كما يتبادر لنا من تلقين تقريري لشخصية المرأة واستقلالها السلوكي وأهليتها لتحمل نتائج هذا السلوك، وهذا كله متسق مع ما قرره القرآن ونبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وكفر وخيانة امرأة نوح وإيمان امرأة فرعون يذكران للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآيات، والأمران لم يردا في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، والتي احتوت قصص نوح وفرعون وموسى بإسهاب. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون شيء من ذلك ورد في أسفار وقراطيس كانت متداولة ولم تصل إلينا على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة. ولقد روى المفسرون١ عن بعض التابعين أن امرأة نوح كانت تشي لجبابرة قومها بالذين كانوا يؤمنون برسالة زوجها. وأن امرأة فرعون التي سميت في كتب التفسير بآسية بنت مزاحم آمنت نتيجة لإيمان امرأة خازن فرعون التي أصرت على إيمانها بالله رغم قتل فرعون لأولادها أمامها وتعذيبها حتى زهقت روحها حيث أثرت أقوالها فيها، وأنها فرحت حينما علمت بتغلب موسى على سحرة فرعون، وأعلنت إيمانها برب هارون وموسى، وأن فرعون عذبها ثم أمر بإلقاء صخرة عظيمة عليها فزهقت روحها هي الأخرى ؛ حيث يدل هذا على أن ما ورد في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان من الراجح أن هذا التداول كان في أوساط الكتابيين، فإن ورود الآيات بالأسلوب الذي وردت به قرينة على أن سامعي القرآن من العرب لم يكونوا يجهلون ذلك أيضا، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون وسيلة للعظة والتذكير والتمثيل شأن كل الأمثال التاريخية التي وردت في القرآن.
أما امرأة لوط ففي قصة لوط الواردة في سور الصافات والعنكبوت والنمل والشعراء والحجر وهود والأعراف إشارات إلى أن الله كتب عليها ما كتب على قوم لوط من هلاك، وفي سفر التكوين المتداول اليوم شيء بهذا المعنى أيضا ؛ حيث جاء في الإصحاح ( ١٩ ) أنها التفتت وراءها قضيب ملح.
ومن المؤسف أن مفسري الشيعة لم يمنعهم عقل ودين من صرف الآية الأولى إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول إنهما كانتا كافرتين منافقتين وأنهما خالدتان في النار. والعياذ بالله من قول الزور والهوى.
ولقد ذكرت السيدة مريم في سور عديدة مكية ومدنية مثل سور مريم والأنبياء والمؤمنون وآل عمران والمائدة، وذكر أن ما كان من قنوتها لله وإحصانها فرجها وتكريم الله ولها نفخه فيها من روحه وجعله وابنها آية للعالمين، وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير المذكورة بما يغني عن التكرار.
استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه.
غير أننا هنا أن نستطرد إلى ما يروى عن وجود إخوة وأخوات للمسيح من أمه ؛ لأن بعض المسلمين سألونا مؤخرا عنها ففي الإصحاح٢ من إنجيل مرقس هذه العبارة ( أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخا يعقوب وموسى ويهوذا... وليست إخوانه هاهنا عندنا ) وفي الإصحاح ( ٨ ) من إنجيل لوقا هذه العبارة ( وأقبلت أمه وأخوته، فلم يقدروا على الوصول إليه لأجل الجمع، فأخبر وقيل له : إن أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك ) ولقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى هذه العبارات ( لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجمعا حبلى من روح القدس. وإذا كان يوسف رجلها صديقا، ولم يرد أن يشهرها هم بتخليتها سرا، وفيما هو متفكر في ذلك إذا بملاك الرب تراءى له في الحلم قائلا : يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم، فإن المولود إنما هو من روح القدس وستلد ابنا فتسميه يسوع ؛ لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم، فلما نهض يوسف من النوم صنع ما أمره ملاك الرب، فأخذ امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسماه يسوع ) وقد تعني الجملة الأخيرة أنه لم يعاشرها، حتى ولدت ثم عاشرها بعد ولادتها المسيح. وقد يؤيد هذا روايات إنجيلي مرقس ولوقا التي ذكرت أنه كان للمسيح أخوة جاؤوا إليه مع أمه. والكلام في القرآن إنما دار على حبل مريم بعيسى من روح الله، وكلمة التعبير عن المعجزة الربانية في ذلك. وما ذكره القرآن من إحصان مريم لفرجها إنما كان قبل حبلها بعيسى. ولا يتعرض القرآن لمريم بعد ولادتها عيسى إلا بالقول : إنها كانت صديقة كما جاء في آية سورة المائدة ( ١١٥ ) والتنديد باليهود بسبب رميهم إياها بالبهتان العظيم في آية سورة النساء ( ١٨٠ ) الذي يفيد أنهم قصدوا القول : إن عيسى كان ولدا زنا. ولسنا نرى ما يمكن أن تفيده عبارات الأناجيل من معاشرة يوسف لمريم بعد ولادتها لعيسى وإنجابهما أولادا غير ممكن، كما أنه ليس فيه ما يتعارض مع القرآن، وكل ما على المسلم الاعتقاد به هو ما قرره القرآن من أن مريم أحصنت فرجها فنفخ الله فيها، وولدت عيسى وكفى، ولا يضيره أن يصدق ما جاء في الأناجيل، وله أن لا يصدقه أيضا، وليس في القرآن ولا في الحديث ما يثبت ذلك أو ينفيه. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير ابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي.
٢ فارغ؟؟؟؟؟؟.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠:﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( ١٠ ) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ١١ ) وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( ١٢ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين.
الآيات تحتوي تذكيرا بحالة ثلاث فئات من النساء ومصائرهن :
( ١ ) فالفئة الأولى كافرات في عصمة مؤمنين صالحين، والمثال عليها امرأتا نوح ولوط. فقد خانتا زوجيهما وكفرتا فلم تنفعهما زوجيتهما بنبي ولم يغن زوجاهما عنهما من الله شيئا. وحقت عليهما النار في جملة من حقت عليه.
( ٢ ) والثانية مؤمنة في عصمة كفار متمردين على الله. والمثال على ذلك امرأة فرعون. فقد آمنت وأنابت إلى الله واستنكرت ظلم فرعون وكفره، ودعت الله بأن ينجيها منه من تبعة عمله، وبأن يكون لها بيت عنده في الجنة. وينطوي في هذا تقرير كون زوجيتها لفرعون لم تضرها وكونها نالت من الله الرضاء وحسن الجزاء.
( ٣ ) والثالثة مؤمنة لم ترتبط بعصمة الرجال. والمثال عليها مريم ابنة عمران، فقد آمنت بالله وكتبه وخضعت له واعتصمت به، وأحصنت فرجها، فكرمها الله بأن نفخ فيه من روحه. وينطوي في ذلك أيضا تقرير كونها نالت رضاء الله عنها.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة بموضوع آيات السورة وخاصة بفصلها الأول صلة تمثيل وتذكير لنساء النبي صلى الله عليه وسلم اللائي صدر من بعضهن ما صدر، وأنه أريد بها كما تلهمه تقرير كون رابطتهن الزوجية بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس من شأنهما وحدها أن تنجيهن من عذاب الله، أو تضمن لهن رضاءه، وأن هذا وذاك متوقف على عملهن وسلوكهن.
والإطلاق في الآيات يجعل العظة التي استهدفتها والأمثال التي ضربتها والتذكير الذي ذكرت به موجها إلى عموم المسلمين ومستمر التلقين. وخاصة في صدد كون المرء لا ينجيه إلا عمله مستقلا عن أية رابطة تربطه بغيره. ولقد تكرر التقرير المنطوي في الآيات بأساليب عديدة في مواضع كثيرة من القرآن المكي والمدني. ما مر منه أمثلة عديدة حيث يكون هذا من المبادئ القرآنية المحكمة.
ومع خصوصية الآيات ومناسباتها الموضوعية، فإنها لا تخلو كما يتبادر لنا من تلقين تقريري لشخصية المرأة واستقلالها السلوكي وأهليتها لتحمل نتائج هذا السلوك، وهذا كله متسق مع ما قرره القرآن ونبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وكفر وخيانة امرأة نوح وإيمان امرأة فرعون يذكران للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآيات، والأمران لم يردا في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، والتي احتوت قصص نوح وفرعون وموسى بإسهاب. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون شيء من ذلك ورد في أسفار وقراطيس كانت متداولة ولم تصل إلينا على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة. ولقد روى المفسرون١ عن بعض التابعين أن امرأة نوح كانت تشي لجبابرة قومها بالذين كانوا يؤمنون برسالة زوجها. وأن امرأة فرعون التي سميت في كتب التفسير بآسية بنت مزاحم آمنت نتيجة لإيمان امرأة خازن فرعون التي أصرت على إيمانها بالله رغم قتل فرعون لأولادها أمامها وتعذيبها حتى زهقت روحها حيث أثرت أقوالها فيها، وأنها فرحت حينما علمت بتغلب موسى على سحرة فرعون، وأعلنت إيمانها برب هارون وموسى، وأن فرعون عذبها ثم أمر بإلقاء صخرة عظيمة عليها فزهقت روحها هي الأخرى ؛ حيث يدل هذا على أن ما ورد في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان من الراجح أن هذا التداول كان في أوساط الكتابيين، فإن ورود الآيات بالأسلوب الذي وردت به قرينة على أن سامعي القرآن من العرب لم يكونوا يجهلون ذلك أيضا، فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون وسيلة للعظة والتذكير والتمثيل شأن كل الأمثال التاريخية التي وردت في القرآن.
أما امرأة لوط ففي قصة لوط الواردة في سور الصافات والعنكبوت والنمل والشعراء والحجر وهود والأعراف إشارات إلى أن الله كتب عليها ما كتب على قوم لوط من هلاك، وفي سفر التكوين المتداول اليوم شيء بهذا المعنى أيضا ؛ حيث جاء في الإصحاح ( ١٩ ) أنها التفتت وراءها قضيب ملح.
ومن المؤسف أن مفسري الشيعة لم يمنعهم عقل ودين من صرف الآية الأولى إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول إنهما كانتا كافرتين منافقتين وأنهما خالدتان في النار. والعياذ بالله من قول الزور والهوى.
ولقد ذكرت السيدة مريم في سور عديدة مكية ومدنية مثل سور مريم والأنبياء والمؤمنون وآل عمران والمائدة، وذكر أن ما كان من قنوتها لله وإحصانها فرجها وتكريم الله ولها نفخه فيها من روحه وجعله وابنها آية للعالمين، وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير المذكورة بما يغني عن التكرار.
استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه.
غير أننا هنا أن نستطرد إلى ما يروى عن وجود إخوة وأخوات للمسيح من أمه ؛ لأن بعض المسلمين سألونا مؤخرا عنها ففي الإصحاح٢ من إنجيل مرقس هذه العبارة ( أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخا يعقوب وموسى ويهوذا... وليست إخوانه هاهنا عندنا ) وفي الإصحاح ( ٨ ) من إنجيل لوقا هذه العبارة ( وأقبلت أمه وأخوته، فلم يقدروا على الوصول إليه لأجل الجمع، فأخبر وقيل له : إن أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك ) ولقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى هذه العبارات ( لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجمعا حبلى من روح القدس. وإذا كان يوسف رجلها صديقا، ولم يرد أن يشهرها هم بتخليتها سرا، وفيما هو متفكر في ذلك إذا بملاك الرب تراءى له في الحلم قائلا : يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم، فإن المولود إنما هو من روح القدس وستلد ابنا فتسميه يسوع ؛ لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم، فلما نهض يوسف من النوم صنع ما أمره ملاك الرب، فأخذ امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسماه يسوع ) وقد تعني الجملة الأخيرة أنه لم يعاشرها، حتى ولدت ثم عاشرها بعد ولادتها المسيح. وقد يؤيد هذا روايات إنجيلي مرقس ولوقا التي ذكرت أنه كان للمسيح أخوة جاؤوا إليه مع أمه. والكلام في القرآن إنما دار على حبل مريم بعيسى من روح الله، وكلمة التعبير عن المعجزة الربانية في ذلك. وما ذكره القرآن من إحصان مريم لفرجها إنما كان قبل حبلها بعيسى. ولا يتعرض القرآن لمريم بعد ولادتها عيسى إلا بالقول : إنها كانت صديقة كما جاء في آية سورة المائدة ( ١١٥ ) والتنديد باليهود بسبب رميهم إياها بالبهتان العظيم في آية سورة النساء ( ١٨٠ ) الذي يفيد أنهم قصدوا القول : إن عيسى كان ولدا زنا. ولسنا نرى ما يمكن أن تفيده عبارات الأناجيل من معاشرة يوسف لمريم بعد ولادتها لعيسى وإنجابهما أولادا غير ممكن، كما أنه ليس فيه ما يتعارض مع القرآن، وكل ما على المسلم الاعتقاد به هو ما قرره القرآن من أن مريم أحصنت فرجها فنفخ الله فيها، وولدت عيسى وكفى، ولا يضيره أن يصدق ما جاء في الأناجيل، وله أن لا يصدقه أيضا، وليس في القرآن ولا في الحديث ما يثبت ذلك أو ينفيه. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير ابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي.
٢ فارغ؟؟؟؟؟؟.

Icon