تفسير سورة القيامة

فتح البيان
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة القيامة
هي تسع وثلاثون آية وهي مكية بلا خلاف. وعن ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.

(لا أقسم بيوم القيامة) قال أبو عبيدة وجماعة من المفسرين أن (لا) زائدة والتقدير أقسم، قال السمرقندي أجمع المفسرون أن معنى (لا أقسم) أقسم، واختلفوا في تفسير لا فقال بعضهم هي زائدة وزيادتها جارية في كلام العرب كقوله (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) يعني أن تسجد (ولئلا يعلم أهل الكتاب).
واعترضوا هذا بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله، وأجيب بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، يدل على ذلك أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى: (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) وجوابه في سورة أخرى (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جارياً مجرى الوسط، ورد هذا بأن القرآن في حكم السورة الواحدة في عدم التناقض، لا في أن تقرن سورة بما بعدها فذلك غير جائز.
وقال الزمخشري إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، وفائدتها توكيد القسم، وقال بعضهم هي رد لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال ليس الأمر كما ذكرتم، أقسم بيوم القيامة، وهذا قول الفراء وكثير من النحويين، كقول القائل لا والله فـ (لا) رد لكلام قد تقدمها، وقيل هي للنفي لكن لا لنفي الأقسام بل لنفي ما ينبىء عنه من إعظام
433
المقسم به وتفخيمه، كأن معنى لا أقسم بكذا لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك، وقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر، وقد تقدم الكلام على هذا في تفسير قوله (فلا أقسم بمواقع النجوم).
وقرأ الحسن وابن كثير في رواية عنه والزهري وابن هرمز (لأقسم) بدون ألف على أن اللام لام الابتداء والقول الأول هو أرجح الأقوال، وقد اعتوض عليه، الرازي بما لا يقدح في قوته ولا يفت في عضد رجحانه.
وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس عن قوله (لا أقسم بيوم القيامة) قال يقسم ربك بما شاء من خلقه.
434
(ولا أقسم بالنفس اللوامة) ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكون الكلام في (لا) هذه كالكلام في الأولى وهذا قول الجمهور، وقال الحسن أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً، وجرى الجلال المحلى على زيادتها في الموضعين وهو الصواب، ومعنى النفس اللوامة النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها في الدنيا أو في القيامة، قال الحسن: هي والله نفس المؤمن لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكذا، ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه.
وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم فتلوم نفسها على الشر لِمَ عمله وعلى الخير لِمَ لَمْ يستكثر منه، قال ابن عباس التي تلوم على الخير والشر يقول لو فعلت كذا وكذا، وعنه تندم على ما فات وتلوم عليه.
قال الفراء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءاً قالت ليتني لم أفعل.
وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس، فيكون الإقسام بها حسناً سائغاً، وقيل اللوامة هي الملومة المذمومة، قاله ابن عباس فهي صفة
434
ذم وبهذا أحتج من نفي أن يكون قسماً إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به، وقال مقاتل هي نفس الكافر تلوم نفسه وتتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله، والأول أولى.
وقيل هي آدم لم تزل تلوم على فعلها التي خرجت به من الجنة وما أبعده، وقال ابن عباس اللوامة اللؤم. قال القاضي ضمها بيوم القيامة بهما لأن المقصود من إقامة القيامة مجازاة النفوس اهـ فهو من بديع القسم لتناسب الأمرين المقسم بهما حيث أقسم بيوم البعث والنفوس المجزية فيه على حقية البعث والجزاء.
435
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) المراد بالإِنسان الجنس، وقيل الإنسان الكافر والهمزة للإنكار وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والمعنى أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامه بعد أن صارت رفاتاً مختلطة بالتراب، وبعد ما نسفتها الريح فطيرتها في أباعد الأرض فنعيدها خلقاً جديداً، وذلك الحسبان باطل فإنا نجمعها، وما يدل عليه هذا الكلام هو جواب القسم.
قال الزجاج: أقسم ليجمعن العظام للبعث فهذا جواب القسم، وقال النحاس جوابه محذوف أي لتبعثن، والمعنى أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان، وإنما خص العظام لأنها قالب الخلق (١).
_________
(١) قال البغوي: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة خَتَن الأخنس بن شريق الثقفي، وكان رسول الله ﷺ يقول: اللهم اكفني جَارَيِ السوء، يعني عدياً والأخنس، وذلك أن عدي بن ربيعة أتى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون؟ وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره رسول الله ﷺ فقال: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أو يجمع الله العظام؟! فأنزل الله عز وجل: (أيحسب الإنسان) يعني الكافر (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) بعد التفرق والبلي فنحييه قبل ذكر العظام، وذكره كذلك بغير سند القرطبي والخازن. والله أعلم. وفي القرطبي و " البحر المحيط ": وقيل: نزلت في أبي جهل.
(بلى قادرين على أن نسوي بنانه) بلى إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام والوقف على هذا اللفظ وقف حسن، ثم يبتدىء الكلام بقوله (قادرين) وانتصابه على الحال أي بلى نجمعها قادرين، فالحال من ضمير الفعل المقدر، وقيل المعنى بل نجمعها نقدر قادرين، قال الفراء أي نقدر ونقوي قادرين على أكثر من ذلك، وقال أيضاً إنه يصلح نصبه على التكرير أي بلى فليحسبنا قادرين، وقيل التقدير بلى كنا قادرين وهذا ليس بواضح.
وقرأ ابن أبي عبله وابن السميفع (بلى قادرون) على تقدير مبتدأ أي بلى نحن قادرون، ومعنى تسوية البنان نقدر على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها فكيف بكبار الأعضاء، فنبه سبحانه بالبنان، وهي الأصابع على بقية الأعضاء وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظفار والعروق اللطاف والعظام الدقاق فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة.
وقال جمهور المفسرين إن معنى الآية أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاًً واحداً كخف البعير وحافر الحمار صفحة واحدة لا شقوق فيها فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوهما، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها، وقيل المعنى بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها والأول أولى.
قال ابن عباس لو شاء لجعله خفاً أو حافراً، وبنان جمع أو اسم جمع لبنانة قولان. وفي المختار البنانة واحد البنان وهي أطراف الأصابع، ويقال بنان مخضب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يؤنث ويذكر.
(بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) عطف على (أيحسب) إما على أنه استفهام مثله واضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام، والمعنى بل يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات وما يستقبله من الزمان، فيقدم الذنب ويؤخر التوبة.
قال ابن الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد عمره وليس في نيته أن يرجع من ذنب يرتكبه، قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير يقول: سوف أتوب ولا يتوب حتى يأتيه الموت وهو على أشر أحواله، قال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت، وقال ابن عباس: يمضي قدماً، وعنه قال: هو الكافر الذي يكذب بالحساب، وعنه قال: يعني الأمل يقول أعمل ثم أتوب وعنه قال: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، وعنه قال: يقول سوف أتوب، والفجور أصله الميل عن الحق فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل.
(يسأل أيان يوم القيامة) مستأنفة، وقال أبو البقاء تفسير لبيان معنى يفجر فتكون مفسرة مستأنفة أو بدلاً من الجملة قبلها لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل، وأيان خبر مقدم ويوم القيامة مبتدأ مؤخر، والمعنى يسأل متى يقوم يوم القيامة، سؤال استبعاد واستهزاء، قال ابن عباس أي يقول متى يوم القيامة.
(فإذا برق البصر) أي فزع وتخير، من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، قرأ الجمهور برق بكسر الراء قال أبو عمرو بن العلاء والزجاج وغيرهما المعنى تحير فلم يطرف، وقال الخليل والفراء: برق بالكسر فزع وبهت وتحير، والعرب تقول للإنسان المبهوت قد برق فهو برق، وقرىء بفتح الراء أي لمع بصره من شدة شخوصه للموت، قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت، وقيل برق يبرق شق عينيه وفتحهما، وقال أبو عبيدة: فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى، قال ابن عباس: يعني الموت.
437
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)
438
(وخسف القمر) قرأ الجمهور بفتح الخاء والسين مبنياً للفاعل، وقرىء بضم الخاء وكسر السين مبنياً للمفعول، والمعنى ذهب ضوؤه وأظلم ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا، ويقال خسف إذا ذهب جميع ضوئه، وكسف إذا ذهب بعض ضوئه.
(وجمع الشمس والقمر) أي ذهب ضوؤهما جميعاً ولم يقل جمعت لأن التأنيث مجازي، قاله المبرد وقال أبو عبيدة هو لتغليب المذكر على المؤنث، وقال الكسائي حمل على معنى جمع النيران، وقال الزجاج والفراء: لم يقل جمعت لأن المعنى جمع بينهما في ذهاب نورهما، وقيل جمع بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين. قال عطاء: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، وقيل يجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، وقرأ ابن مسعود وجمع بين الشمس والقمر.
(يقول الإنسان) جواب إذا (يومئذ) أي يوم إذا برق البصر الخ (أين المفر) أي يقول عند وقوع هذه الأمور أين الفرار، والمراد بالإنسان الكافر أو المؤمن أيضاً يقول ذلك من الهول، والمفر مصدر بمعنى الفرار، قال الفراء: يجوز أن يكون موضع الفرار.
قال الماوردي يحتمل وجهين (أحدهما) أين المفر من الله سبحانه استحياء منه (والثاني) أين المفر من جهنم حذراً منها، قرأ الجمهور بفتح
438
الميم والفاء مصدراً كما تقدم، وقرىء بضم الميم على أنه اسم مكان أي أين مكان الفرار وقال الكسائي هما لغتان مثل مَذَب ومُذَب ومَصَح ومُصَح، وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار.
439
(كلا) للردع عن طلب الفرار أو لنفي ما قبلها أو بمعنى حقاً (لا وزر) أي لا سلاح ولا جبل ولا حصن ولا ملجأ يتحصن به من الله، وقال ابن جبير لا محيص ولا منعة، والوزر في اللغة ما يلجأ إليه الإنسان من حصن أو جبل وغيرهما، مني يومئذ، قال ابن مسعود: لا وزر لا حصن، وقال ابن عباس: لا ملجأ وفي لفظ لا حرز وفي لفظ لا جبل ولا حصن، وخبر لا محذوف أي لا وزر له.
(إلى ربك يومئذ المستقر) أي إليه المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره، وقيل إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره، وقيل: المستقر الاستقرار حيث يقره الله من جنة أو نار.
(يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشر، وقال قتادة: بما عمل من طاعة الله وما أخر من طاعته فلم يعمل بها، وقال زيد ابن أسلم: بما قدم من أمواله وما خلف للورثة، وقال مجاهد: بأول عمله وآخره، وقال الضحاك: بما قدم من فرض وأخر من فرض.
قال القشيري: هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت، قال القرطبي: والأول أظهر، قال ابن مسعود: بما قدم من عمل وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شر، وعن ابن عباس نحوه، وعنه قال: بما قدم من معصية وآخر من طاعة فينبأ بذلك.
(بل الإنسان على نفسه بصيرة) قال الأخفش جعله هو البصيرة كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك، وقيل المعنى أن جوارحه تشهد عليه بما عمل كما في قوله (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
439
يَعْمَلُونَ) فيكون المعنى بل جوارح الإنسان عليه شاهدة، قال أبو عبيدة والقتيبي أن هذه الهاء في البصيرة هي التي يسميها أهل الأعراب هاء المبالغة كما في قولهم علامة، وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير وشر، والتاء على هذا للتأنيث. وقال الحسن: أي بصير بعيوب نفسه، وقال ابن عباس: شهد على نفسه وحده، وعنه قال سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه.
440
(ولو ألقى معاذيره) أي ولو اعتذر وتجرد من ثيابه وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك يقال معذرة ومعاذير على غير قياس كملاقيح ومذاكير جمع لقحة وذكر، قال الفراء أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره، وقال الزجاج: المعاذير الستور والواحد معذار أي وإن أرخى الستور وأغلق الأبواب، يريد أن يخفي نفسه فنفسه شاهدة عليه، وكذا قال الضحاك والسدي، والستر بلغة اليمن يقال له معذار كذا قال المبرد والأول أولى، وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية ومقاتل ومثله قوله (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) وقوله (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) وقول الشاعر:
فما سن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر
وقال النسفي والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر، قال الشيخ وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير وهو الصحيح.
(لا تحرك به لسانك لتعجل به) أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، ومثل هذا قوله (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) الآية.
(إن علينا جمعه) في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء (وقرآنه) أي إثبات قراءته في لسانك وهو تعليل للنهي، قال الفراء القراءة والقرآن مصدران.
(فإذا قرأناه) أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام وبيناه (فاتبع قرآنه) أي فاستمع قراءته وكررها حتى يرسخ في ذهنك، وقال ابن عباس يقول اعمل به، وقال قتادة فاتبع قرآنه أي شرائعه وأحكامه.
(ثم إن علينا بيانه) أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل من معانيه. قال الزجاج: المعنى أن علينا أن ننزله عليك قرآناً عربياً فقه بيان للناس، وقيل المعنى أن علينا أن نبينه بلسانك، وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين فكيف بها في غيره.
والمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أن تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه، يريد أن يحفظه فأنزل الله (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١) يقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه يقول إذا أنزلناه عليك فاتبع قرآنه فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا بيانه أن نبينه بلسانك، وفي لفظ علينا أن نقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق، وفي لفظ استمع، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله.
_________
(١) رواه الإمام أحمد في " المسند " من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس، والبخاري ٨/ ٣٢٥ ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وذكره السيوطي في " الدر " ٦/ ٢١٩ وزاد نسبته للطيالسي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في " المصاحف " والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم والبيهقي معاً في " الدلائل " عن ابن عباس رضي الله عنهما.
441
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣)
442
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) كلا للردع عن العجلة، والترغيب في الأناة، وقيل هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بيّنا من الكفار، قال عطاء: أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، قرأ أهل المدينة والكوفيون تحبون وتذرون بالفوقية في الفعلين جميعاً، وقرأ الباقون بالتحتية فيهما وهما سبعيتان، فعلى الأولى يكون الخطاب لهم تقريعاً وتوبيخاً، والمعنى تحبون الدنيا وتختارونها وتتركون الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها، وعلى الثانية يكون الكلام عائداً إلى الإِنسان لأنه بمعنى الناس، قال ابن مسعود عجلت لهم الدنيا خيرها وشرها، وغيبت الآخرة، أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.
(وجوه يومئذ ناضرة) أي ناعمة غضة حسنة يقال شجر ناضر، وروض ناضر أي حسن ناعم، ونضارة العيش حسنه وبهجته، قال الواحدي: قال المفسرون: مضيئة مسفرة مشرقة، وقال ابن عباس: ناعمة وقيل مسرورة بالنعيم، وقيل بيض يعلوها نور، والأول أولى، ووجوه مبتدأ وناضرة صفة لوجوه، ويومئذ ظرف لناضرة، وناظرة خبر مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة هنا العطف عليها وكون الموضع موضع تفصيل، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله ناضرة مسوغاً للابتداء بها، ولكن مقام التفصيل بمجرده مسوغ للابتداء بالنكرة.
(إلى ربها ناظرة) أي تنظر إليه عياناً بلا حجاب، هكذا قال جمهور أهل العلم والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون
442
إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الأسلام وهداة الأنام، وقال مجاهد إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، وروي نحوه عن عكرمة، وقيل لا يصح هذا إلا عن مجاهد وحده، قال الأزهري وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار لأن قول القائل نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، فإذا أرادوا نظر العين قالوا نظرت إليه، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جداً.
ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى قوله (انظرونا نقتبس من نوركم) وقوله (هل ينظرون إلا تأويله) وقوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) والوجه إذا وصف بالنظر وعدِّي بإلى لم يحتمل غير الرؤية.
والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسيأتي بعضها قال ابن عباس في الآية تنظر إلى الخالق، وعنه قال تنظر إلى وجه ربها.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الآية ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة. أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي هريرة قال: " قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب، قالوا لا يا رسول الله، قال فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، قالوا لا يا رسول الله، قال فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (١).
_________
(١) وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحد الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها، كحديث أبيّ وأبي هريرة، وهما في " الصحيحين " أن ناساً
-[٤٤٤]-
قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال: " هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " إنكم ترون ربكم كذلك " وفي (الصحيحين) عن جرير قال: نظر رسول الله ﷺ القمر ليلة البدر فقال: " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تقلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا ".
443
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والدارقطني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) " وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ " وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين ".
وأخرج النسائي والدارقطني وصححه وأبو نعيم عن أبي هريرة قال: " قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا قال هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها قلنا نعم، قال فإنكم سترون ربكم عز وجل حتى أن أحدكم ليحاور ربه محاورة فيقول عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا فيقول: ألم تغفر لي؟ فيقول بمغفرتي صرت إلى هذا ".
وقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى، وقد رواها نحو من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، ولاعتراضات المبتدعة من المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة عليها أجوبة معروفة في كتب الكلام من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مستفاضة في كتب أهل الحق، وليس هذا موضع ذكرها، وقد قدمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها وهي تأتي في مصنف مستقل، ولم يتمسك
444
من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله.
وقد أطال الحافظ المتكلم محمد بن أبي بكر القيم الجوزي رحمه الله تعالى في إثبات رؤيته تعالى يوم القيامة في كتابه " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " ومن أحب النظر في أدلة الفريقين فعليه برسالة الشوكاني المسماة بالبغية في مسألة الرؤية جمع فيها جميع ما استدل به النافون والمثبتون من الأدلة العقلية والنقلية.
445
(ووجوه يومئذ باسرة) أي كالحة عابسة كئيبة قال في الصحاح: بسر الرجل وجهه بسوراً أي كلح قال السدي: باسرة أي متغيرة، وقيل مصفرة والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار.
(تظن) أي توقن (أن يفعل بها فاقرة) الفاقرة الداهية العظيمة، يقال فقرته الفاقرة أي كسرت فقار ظهره، قال قتادة: الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك وقال ابن زيد: دخول النار، وقيل الحجاب عن رؤية الله تعالى، والأول أولى.
وأصل الفاقرة الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى تخلص إلى العظم، كذا قال الأصمعي ومن هذا قولهم قد عمل به الفاقرة.
(كلا) ردع وزجر أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ثم استأنف فقال (إذا بلغت) النفس أو الروح أي نفس المحتضر مؤمناً كان أو كافراً، وإنما أضمرت وإن لم يجر لها ذكر لأن السياق يدل عليها (التراقي) جمع ترقوة وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق يميناً وشمالاً، ولكل إنسان ترقوتان ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ومثله قوله تعالى (فلولا إذا بلغت الحلقوم) وقيل معنى كلا حقاً أي حقاً أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي، والمقصود تذكيرهم بشدة الحال عند نزول الموت قال دريد بن الصمة:
(وقيل) هذا الفعل وما بعده من الفعلين معطوف على بلغت (من
445
راق) أي قال من حضر صاحبها من يرقيه ويشتفي برقيته، قال قتادة إلتمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئاًً وبه قال أبو قلابة ومنه قول الشاعر:
ورب كريهة دافعت عنها وقد بلغت نفوسهم التراقي
هل للفتى من بنات الموت من واقٍ؟ أم هل له من حمام الموت من راقِ؟
وقال أبو الجوزاء هو من رقى يرقى إذا صعد والمعنى من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب، وقيل إنه يقول ذلك ملك الموت وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، وقال ابن عباس: في قوله (وقيل من راق) قال تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه وأن يكون استبعاداً وإنكاراً، وراق اسم فاعل إما من رقى يرقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية وهي كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، وفي الحديث " وما أدراك أنها رقية " (١)، يعني الفاتحة وهي من أسمائها، وإما من رقي يرقى بالكسر في الماضي والفتح في المضارع من الرقي وهو الصعود، يقال رقى بالفتح من الرقية وبالكسر من الرقي.
_________
(١) سبق شرحها في تفسير سورة الفاتحة.
446
(وظن) أي أيقن الذي بلغت روحه التراقي وسمي اليقين ظناً لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لها ولا ينقطع رجاؤه منها (أنه) أي ما نزل به (الفراق) من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.
(والتفت الساق بالساق) أي الشفت ساقه بساقه عند نزول الموت به، وقال جمهور المفسرين المعنى تتابعت عليه الشدائد وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن، وقال زيد بن أسلم التفت ساق الكفن بساق الميت، وقيل ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوالاً عليهما، وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران شديدان الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، وبه قال ابن زيد:
والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، وقيل الساق الأول تعذيب روحه عند خروج
446
نفسه، والساق الآخر شدة البعث وما بعده، وقال ابن عباس التفت عليه الدنيا والآخرة، وعنه قول يقول آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة فيلقى الشدة بالشدة إلا من رحم الله، وقال الشعبي وغيره المعنى التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب، وقال قتادة أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى، قال النحاس القول الأول أحسنها.
447
(إلى ربك يومئذ المساق) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه وقيل التنوين عوض عن جمل أربع أي يوم إذ بلغت الروح التراقي الخ.
(فلا صدق ولا صلى) أي لم يصدق الإنسان المذكور في أول هذه السورة بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه أي الصلاة الشرعية، فهو ذم له يترك العقائد والفروع، قال قتادة فلا صدق بالكتاب ولا صلى لله، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، وقيل صدق من التصدق أي فلا صدق بشيء يدخره عند الله تعالى، قاله القرطبي قال الكسائي: لا بمعنى لم وكذا قال الأخفش والعرب تقول لا ذهب أي لم يذهب، وهذا مستفيض في كلاء العرب ومنه.
إن تغفر اللهم فاغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
ولما كان عدم التصديق يصدق بالشك والسكوت والتكذيب استدرك على عمومه وبمن أن المراد منه خصوص التكذيب فقال:
(ولكن كذب وتولى) أي كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان، ولم يستدرك على نفي الصلاة لأنه لا يصدق إلا بصورة واحدة فلم يحتج للإستدراك عليه.
(ثم ذهب إلى أهله يتمطى) أي يتبختر ويختال في مشيه افتخاراً بذلك، وقيل هو مأخوذ من المطا، وهو الظهر والمعنى يلوي مطاه وقيل أصله يتمطط وهو التمدد والتثاقل أي يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق.
قال الإمام هذا ذكر لما يتعلق بدنياه بعد ذكر ما يتعلق بدينه، وثم للاستبعاد لأن من صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله به فيمشي خائفاً منه متطامناً لا فرحاً متبختراً، ذكره الشهاب.
447
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠)
448
(أولى لك) فيه التفات عن الغيبة، والكلمة اسم فعل مبنية على السكون لا محل لها من الإعراب، والفاعل ضمير مستتر يعود على ما يفهم من السياق وهو كون هذه الكلمة تستعمل في الدعاء بالمكروه، واللام مزيدة والمعنى وليك ما تكرهه (فأولى) أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه منه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، هذا ما سلكه الجلال المحلي في تقرير هذا المقام وانفرد به عن غيره من المفسرين وهو حسن جداً.
(ثم أولى لك فأولى) الأولى تأكيد للأولى والثانية تأكيد للثانية، وقيل أي وليك الويل وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في ردف لكم، وهذا تهديد شديد ووعيد بعد وعيد، والتكرير للتأكيد أي يتكرر عليك ذلك مرة بعد مرة.
قال الواحدي قال المفسرون: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد أبي جهل فقال أولى لك فأولى فقال أبو جهل بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاًً وإني لأعز أهل هذا الوادي " فنزلت هذه الآية، وقيل معناه الويل لك وعلى هذا القول قيل هو من القلوب، كأنه قيل أويل لك ثم أخر الحرف المعتل، قيل ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات الويل لك حياً والويل لك ميتاً والويل لك يوم البعث والويل لك يوم تدخل
448
النار، وقيل المعنى أن الذم لك أولى لك من تركه، وقيل المعنى أنت أولى وأحق وأجدر بهذا العذاب قاله محي السنة، وقال الأصمعي أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، قال المبرد كأنه يقول قد وليت الهلاك وقد دانيته، وأصله من الولي وهو القرب.
قال ثعلب: لم يقل أحد في (أولى) أحسن وأصح مما قاله الأصمعي، وعن سعيد بن جبير قال: " سألت ابن عباس عن قوله أولى لك فأولى أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي جهل من قبل نفسه أم أمره الله به قال بل قاله من قبل نفسه ثم أنزله الله " أخرجه النسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم.
449
(أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب ولا يكلف في الدنيا ولا يبعث ولا يجازى، وقال السدي معناه المهمل ومنه إبل سدى أي ترعى بلا راع، وقيل المعنى أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبداً لا يبعث، وهو يتضمن تكرير إنكاره للحشر، والدلالة عليه من حيث أن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح، والتكليف لا يتحقق إلا بالمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة.
(ألم يك نطفة من مني يمنى) مستأنفة أي ألم يك ذلك الإنسان قطرة من مني تراق وتصب في الرحم، وسمي المني منياً لإراقته، والنطفة الماء القليل، يقال نطف الماء إذا قطر، قرأ الجمهور ألم يك بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإِنسان، وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخاً له، وقرأ الجمهور تمنى أيضاًً بالفوقية على أن الضمير للنطفة، وقرىء بالتحتية على أن
449
الضمير للمني، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو واختارها أبو حاتم وفائدته بعد قوله (من مني) الإشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل إنه مخلوق من مني الذي يجري على مخرج النجاسة.
450
(ثم كان علقة) أي كان بعد النطفة دماً أحمر شديد الحمرة (فخلق) أي فقدر الله منها الإنسان بأن جعلها مضغة مخلقه (فسوى) أي فعدله وكمل نشأته ونفخ فيه الروح وجعله بشراً سوياً
(فجعل منه) أي حصل من الإنسان وقيل من المني (الزوجين) أي الصنفين من نوع الإنسان، قال الكرخي أي لا خصوص الفردين وإلا فقد تحمل المرأة بذكرين وأنثى وبالعكس، ثم بين ذلك فقال (الذكر والأنثى) أي الرجل والمرأة يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر أخرى.
(أليس ذلك) الفعال الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه (بقادر على أن يحيي الموتى) أي يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإن الإعادة أهون من الإِبداء وأيسر مؤنة منه، قرأ الجمهور بقادر، وقرأ زيد بن علي (يقدر) فعلاً مضارعاً، وقرأ الجمهور أيضاًً يحيى بنصبه بأن، وقرىء بسكونها تخفيفاً أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مر في مواضع.
عن صالح أبي الخليل قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرأ هذه الآية قال سبحانك اللهم وبلى " (١)، أخرجه عبد بن حميد وابن الأنباري.
_________
(١) ذكره ابن كثير في التفسير من رواية ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأبو إسحاق السبيعي ثقة عابد لكنه اختلط بأخرة. ورواه أبو داود والترمذي مطولاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وفي سنده أعرابي لم يسم، وعنه أخرجه أحمد ٢/ ٢٤٩ والترمذي ٢/ ٢٣٨ مختصراً وأعله بالأعرابي. ورواه الحاكم في " المستدرك " ٢/ ٥١٠ وصححه ووافقه الذهبي، وفي سنده يزيد بن عياض، وهو متروك كما قال الحافظ ابن حجر في " تخريج الكشاف ". ورواه أبو داود رقم (٤٨٤) من رواية موسى بن أبي عائشة عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: تفرد به أبو داود، ولم يسم هذا الصحابي، ولا يضر ذلك.
450
وعن البراء بن عازب قال " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سبحانك ربي وبلى " أخرجه ابن مردويه.
وعن أبي أمامة أنه " سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " أخرجه ابن النجار في تاريخه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات عرفاً فبلغ فبأي حديث بعد يؤمنون، فليقل آمنا بالله "، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وفي إسناده رجل مجهول.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا قرأت لا أقسم بيوم القيامة فبلغت أليس ذلك بقادر إلى آخرها فقل بلى " أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
قال ابن عباس من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماماً كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غيره، ذكره الخطيب.
قال الحفناوي: قوله إماماً كان أو غيره يقتضي أن هذه الكلمة وهي (بلى) لا تبطل الصلاة وهو كذلك لأنها ذكر وتقديس وتنزيه لله تعالى.
451
سورة الإنسان
(وتسمى سورة هل أتى وسورة الأمشاج وسورة الدهر وهي إحدى وثلاثون آية)
قال الجمهور هي مدنية، وقال مقاتل والكلبي: هي مكيّة، وجرى عليه البيضاوي والزمخشري، وقال المحلي: مكيّة أو مدنية ولم يجزم بشيء قال ابن عباس: نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وقيل فيها مكي من قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) إلى آخر السورة وما قبله مدني وقال الحسن وعكرمة هي مدنية إلا آية وهي (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) -إلى قوله- (كَفُورًا) وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله - ﷺ - فقال له رسول الله - ﷺ - " سل واستفهم " فقال يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به أني كائن معك في الجنة قال: " نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " ثم قال " من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمد كتب له مائة ألف حسنة، وأربعة وعشرون ألف حسنة، ونزلت هذه السورة إلى قوله: (وَمُلْكًا كَبِيرًا) " فقال الحبشي وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال: " نعم "، فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر فلقد رأيت رسول الله - ﷺ - يدليه في حفرته بيده ".
453
وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال حدثني الثقة أن رجلاً أسود كان يسأل رسول الله - ﷺ - عن التسبيح والتهليل فقال له عمر بن الخطاب أكثرت على رسول الله - ﷺ - فقال: " مه يا عمر "، وأنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) حتى إذا أتى علي ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " مات شوقاً إلى الجنة " وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعاً مرسلاً.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وغيرهم عن أبي ذر قال قرأ رسول الله - ﷺ - (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) حتى ختمها ثم قال: " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله وتعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل " (١).
_________
(١) حديث حسن - صحيح الجامع ٢٤٤٥ - المشكاة ٥٣٤٧.
454

بسم الله الرحمن الرحيم

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥)
455
Icon