تفسير سورة الإنشقاق

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٢٥.

تفسير سورة «الانشقاق»
وهي مكّيّة بلا خلاف
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥)
قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ الآية، هذه أوْصافُ يوم القيامةِ وأَذِنَتْ معناه:
اسْتَمَعَتْ وسَمِعَتْ أمر ربّها ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ أَذَنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآن»، وحُقَّتْ «١» قال ابن عباس: معناه: وحُقَّ لها أنْ تَسْمَع وتطيع «٢»، ويحتملُ أن يريدَ: وحُقَّ لها أن تنشقَ لشدةِ الهولِ وخوفِ اللَّه تعالى، ومدُّ الأرْضِ هي إزالةُ جبالِها حتى لا يبقى فيها عوجٌ ولا أمْتٌ، وفي الحديث: «تمدّ مدّ الأديم»، وأَلْقَتْ مَا فِيها يعني: من/ الموتَى قاله الجمهورُ. وخَرَّج الختلي أبو القاسمِ إسحاقُ بن إبراهيم في كتاب «الدّيباج» له بسندهِ عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله- عز وجل-: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقَّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأَجْلِسُ جَالِساً في قَبْرِي، فَيُقْتَحُ لِي بَابٌ إلَى السَّمَاءِ بِحِيَالِ رَأْسِي حتى أَنْظُرَ إلَى العَرْشِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ مِنْ تَحْتِي حتى أَنْظُرَ إلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ حتى أَنْظُرَ إلى الثرى، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ عَنْ يَمِينِي حتى أَنْظُرَ إلَى الجَنَّةِ وَمَنَازِلِ أَصْحَابِي، وَإنَّ الأَرْضَ تَحَرَّكَتْ تَحْتِي فَقُلْتُ: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ؟ قَالَتْ: إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُلْقِيَ مَا في جَوْفِي، وأنْ أَتَخَلَّى فَأَكُونَ كَمَا كُنْتُ إذْ لاَ شَيْءَ فِيَّ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ-: وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُطِيعَ» «٣»، الحديثَ، انتهى من «التذكرة» «٤»، وتَخَلَّتْ معناه خَلَّتْ عَمَّا كَانَ فيها لَمْ تَتَمَسَّكْ منهم بشيء.
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٥٦).
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٤٧)، وعزاه إلى أبي القاسم الختلي في «الديباج».
(٤) ينظر: «التذكرة» (١/ ٢٥١).

[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ٦ الى ١٢]

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠)
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ... الآية، الكادحُ: العاملُ بشدّةٍ واجتهادٍ، والمعنى:
إنَّك عامل خيراً أو شراً، وأنتَ لا محالةَ ملاقِيه، أي: فكنْ على حَذَرٍ من هذهِ الحالِ، واعملْ صالحاً تَجِدْه، وأما الضمير في فَمُلاقِيهِ فقال الجمهور: هو عائدٌ على الربّ تعالى، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على الكَدْحِ ت: وهو ظاهرُ الآيةِ، والمعْنَى ملاقٍ جزاءَه، والحسابُ اليسيرُ: هو العَرْضُ ومن نُوقِشَ الحسابَ هَلَكَ كذا في الحديث الصحيح، وعن عائشةَ: هو أن يعرفَ ذنوبَه ثم يُتَجَاوَزَ عنْه، ونحوُه في الصحيح عن ابن عمر، انتهى، وفي الحديث/ عن عائشةَ قالتْ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ في بَعْضِ صَلاَتِهِ: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَاباً يَسِيراً، فَلَمَّا انصرف قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْحِسَابُ اليَسِيرُ؟ قال: أَنْ يَنْظُرَ في كِتَابِهِ وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ- يَا عَائِشَةُ- يَوْمَئِذٍ هَلَكَ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةَ تَشُوكُهُ» «١»، قال صاحب «السلاح» : رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ»، وقال: صحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ، انتهى، ورَوَى ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» قال عزُّ الدينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ في اختصاره ل «رعاية المحاسبي» : أجمع العلماءُ على وجوبِ محاسَبَةِ النفسِ فيما سَلَفَ من الأعمال وفيما يُسْتَقْبَلُ منها، «فالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بعد الموت، والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى اللَّهِ»، انتهى.
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ أي: الذين أعدَّهمُ اللَّه لهُ في الجنةِ، وأما الكافر فرُوِيَ أنَّ يَدَه تدخُلُ من صَدْرِه حتَّى تَخْرُجَ من وراءِ ظهرِه فيأخذَ كتابه بها.
ويَدْعُوا ثُبُوراً معناه: يصيحُ مُنْتَحِباً: وا ثبوراه وا حزناه، ونحو هذا، والثبور اسم جامع للمكاره، كالويل.
(١) أخرجه أحمد (٦/ ٤٨)، وابن خزيمة (٢/ ٣٠)، جماع أبواب الكلام المباح في الصلاة والدعاء والذكر، ومسألة الرب عزّ وجلّ- وما يضاهي هذا ويقاربه: باب مسألة الرب جل وعلا- في الصلاة محاسبة يسيرة، إذ المحاسبة بجميع ذنوبه والمناقشة به تهلك صاحبها (٨٤٩)، والحاكم (١/ ٥٧- ٢٥٥)، (٤/ ٢٤٩، ٥٨٠).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما اتفقا على حديث أبي مليكة، ومن نوقش الحساب عذب، ووافقه الذهبي.

[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١٣ الى ١٥]

إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥)
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يريدُ في الدنيا، مَسْرُوراً أي: تَمَلَّكَهُ ذلكَ لاَ يدرِي إلا السرورَ بأهلهِ دونَ معرفةِ ربه.
وقوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ معناه: أن لن يرجِعَ إلى اللَّه مبعوثاً محشُوراً، قال ابن عباس: لم أعلم ما معنى يَحُورَ حتى سَمِعْتُ امرأة أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ لِبُنَيَّةٍ لَهَا:
حُورِي أي: ارجعي «١»، - ص-: بَلى إيجابٌ بَعْدَ النفي، أي: بلى لَيَحُورَنَّ أي:
ليرجعنّ، انتهى.
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ «لا» / زائِدةٌ وقيل: «لا» ردّ على أقوال الكفار، وبِالشَّفَقِ الحُمْرَةُ التي تَعْقُبُ غَيْبُوبَةَ الشمسِ مع البياضِ التابع لها في الأغلب، ووَسَقَ معناه: جُمِعَ وَضُمَّ ومنه الوَسْقُ أي: الأَصْوُعُ المجموعةُ، والليل يَسِق الحيوانَ جملة أي:
يجمَعَها وَيَضُمُّها، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ التي في الأرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، واتساقُ القمر كمالُه وتمامُه بدراً، والمعنى امتلأَ من النور، وقرأ نافع وأبو عَمْرٍو وابن عامر: «لَتَرْكَبُنَّ» - بضم الباءِ «٢» - والمعنى: لتركبُنَّ الشدائِدَ: الموتَ والبعثَ والحسابَ حالاً بعد حالٍ، و «عن» تجيءُ بمعنى «بعد» كما يقال: ورثَ المجدَ كَابِراً عن كابرٍ، وقيلَ: غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: «لَتَرْكَبَنَّ» «٣» - بفَتْحِ الباءِ- على معنى أنتَ يا محمد، فقيلَ: المعنى حالاً بعد حالٍ من معالَجةِ الكفارِ، وقال ابن عبّاس:
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٠٩) (٣٦٧٤٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٥٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤٨٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٤٨)، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عبّاس بنحوه.
(٢) وقرأ بها عاصم.
ينظر: «السبعة» (٦٧٧)، و «الحجة» (٦/ ٣٩١)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤٥٥)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٣٤)، و «شرح الطيبة» (٣/ ١٠٥)، و «العنوان» (٢٠٥)، و «حجة القراءات» (٧٥٦)، و «شرح شعلة» (٦٢١)، و «إتحاف» (٢/ ٦٠٠).
(٣) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
569
سماءً بعد سماءٍ في الإسراء «١»، وقيل: هي عِدَةٌ بالنَّصْرِ أي لتركبَنَّ أمْرَ العربِ قَبِيلاً بعد قَبِيل كما كان، وفي البخاري عن ابن عبَّاس: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالاً بعد حال هكذا قال نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم «٢»، انتهى، ثم قال تعالى: فَما لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، أي: ما حجتُهم مع هذهِ البراهين الساطعة، ويُوعُونَ معناه: يَجْمَعُونَ من الأعمالِ والتكذيبِ كأنهم يجعلونَها أوعية، تقول وعيت العلم، وأوعيت المتاع، ومَمْنُونٍ معناه: مقطوع.
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٥١٥) عن الحسن، وأبي العالية، برقم: (٣٦٨٠٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٤٩)، وعزاه للطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عبّاس بنحوه.
(٢) أخرجه الطبراني (١١/ ١٠١)، (١١١٧٣).
570
Icon