تفسير سورة البلد

اللباب
تفسير سورة سورة البلد من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وهي عشرون آية، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا.

مكية، وهي عشرون آية، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾ : يجوز أن تكون «لا» : زائدة، كما تقدم في: «لا أقسم بيوم القيامة»، قاله الأخفش: أي: أقسم؛ لأنه قال: «بهذا البلد»، وقد أقسم به في قوله: ﴿وهذا البلد الأمين﴾ [التين: ٣]، فكيف يجوز القسمُ به، وقد أقسم به سبحانه؛ قال الشاعر: [الطويل]
٥٢١٠ - تَذَكَّرتُ لَيْلَى فاعْتَرَتْنِي صَبابَةٌ وكَادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتَقطَّعُ
أي: يتقطع، ودخل حرف «لا» : صلة، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] وقد قال تعالى في سورة «ص» :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ [ص: ٧٥].
وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير: «لأُقْسِمُ» من غير ألفٍ بعد اللام إثباتاً.
وأجاز الأخفش أيضاً، أن تكون بمعنى: «ألا».
وقيل: ليست بنفي القسم، ، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، لا والله لأفعلن كذا.
وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد، إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه. حكاه مكيٌّ، ورواه ابنُ أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، قال: «لا» : رد عليهم،
338
وهذا اختيار ابن العربي، لأنه قال: «وأما من قال: إنها رد، فهو قول ليس له رد؛ لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد».
فهو رد لكلام من أنكر البعث، ثم ابتدأ القسم.
وقال القشيريُّ: قوله: «لا» رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور في الدنيا، أي: ليس الأمر كما تحسبه من أنه لم يقسم عليه أحد، ثم ابتدأ القسم، وأجمعوا على أنَّ المراد بالبلد: مكَّة المشرفة، أي: أقسم بالبلد الحرام، الذي أنت فيه، لكرامتك عليَّ وحبي لك.
قوله: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أن الجملة اعتراضية على أحد معنيين، إما على معنى: أنه - تعالى - أقسم بهذا البلد، وما بعده، على أن الإنسان في كبد، واعترض بينهما بهذه الجملة، يعني: ومن المكابدة، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد، كما يستحل الصيد في غير المحرم.
وإما على معنى: أنه أقسم ببلدة، على أنَّ الإنسان لا يخلُو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح «مكة»، تتميماً للتَّسلية، فقال تعالى: وأنت حلٌّ به فيما يستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل، والأسر، ف «حِلٌّ» بمعنى: حلال، قال معناه الزّمخشري. ثم قال: فإن قلت: أين نظير قوله تعالى: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ﴾ في معنى الاستقبال؟.
قلت: قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]، ومثله واسع في كلام العبادِ، تقول لمن تَعدُه الإكرام والحباء: أنت مكرم محبوٌّ، وهو في كلام الله أوسع؛ لأنَّ الأحوال المستقبلة عنده، كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال، وأنَّ تفسيره بالحال محال؛ لأن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح؟.
الثاني من الوجهين الأولين: أن الجملة حالية، أي: لا أقسم بهذا البلد، وأنت حالٌّ بها، لعظم قدرك، أي: لا نقسم بشيء، وأنت أحق بالإقسام بك منه.
وقيل: المعنى: لا أقسم به، وأنت مستحلّ فيه، أي: مستحل إذ ذاك.

فصل في المراد بهذا البلد


أجمع المفسرون على أن ذلك البلد «مكة»، وفضلها معروف، فإنه تعالى، جعله حرماً آمناً قال تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: ٩٧]، وجعل مسجده قبلة لأهل
339
المشرق والمغرب، وقال تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤]، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ، فقال: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: ٩٧] وقال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ [البقرة: ١٢٥]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾ [الحج: ٢٦]، وقال تعالى: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ﴾ [الحج: ٢٧]، وشرف مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقوله تعالى: ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]، وحرم صيده، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل، وأكثر منها، لما اجتمعت في «مكة» لا جرم أقسم الله تعالى بها.

فصل في تفسير وأنت حلّ


روى منصورٌ عن مجاهدٍ: «وأنْتَ حِلٌّ»، قال: ما صنعت فيه من شيء، فأنت في حل.
وكذا قال ابن عبَّاسٍ: أحل له يوم دخل «مكة»، أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما، ولم يحل لأحد من الناس، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال السدي: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ، قال: أحلت له ساعة من نهارٍ، ثم أطبقت، وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح «مكة».
[قال ابن زيد: ولم يكن بها أحد حلالاً غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: معناه: وأنت مقيم فيه، وهو محلك أي: من أهل «مكة» نشأت بينهم، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨].
وقيل: أنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راضٍ].
وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل، ورجل حرم وحرام ومحرم.
وقال قتادة: «وأنت حل به» أي لست بآثم، قيل: معناه أنك غير مرتكب في هذا
340
البلد ما يحرم عليه ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه.
وقال شرحبيل بن سعد: ﴿وأنْتَ حلٌّ بِهَذَا البَلدِ﴾ أي: حلال، أي هم يحرمون «مكة» أن يقتلوا بها صيداً، أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلُّون إخراجك وقتلك، ففيه تعجُّب في جرأتهم وشدة عدواتهم له.
قوله: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾.
قيل «ما» بمعنى: «من»، أو بمعنى: «الذي».
وقيل: مصدرية أقسم بالشخص وفعله.
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلا قيل: ومَنْ ولد؟
قلت: فيه ما في قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦]، أي: بأي شيء وضعت، يعني: موضوعاً عجيب الشأن.
وقيل: «ما» : فيحتاج إلى إضمار موصول به يصح الكلام، تقديره: والذي ما ولد، إذ المراد بالوالد، الذي يولد له، «ومَا وَلَد» يعني: العَاقِر الذي لا يُولدُ له، قال معناه ابنُ عبَّاسٍ، وتلميذه ابنُ جبيرٍ وعكرمةُ.

فصل في الكلام على الآية


هذا معطوف على قوله: ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد﴾ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وقتادةُ والضحاكُ والحسنُ وأبو صالحٍ والطبريُّ: المراد بالوالد: آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، «ومَا وَلَد» أي: وما نسل من ولده، أقسم بهم؛ لأنهم أعجب ما خلق تعالى على وجه الأرض، لما فيهم من البنيان، والنُّطق، والتدبير، وإخراج العلوم، وفيهم الأنبياء، والدُّعاة إلى الله تعالى، والأنصار لدينه، وأمر الملائكة بالسُّجود لآدم - عليه السلام - وعلمه الأسماء كلَّها، وقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠].
وقيل: هو إقسام بآدم، والصالحين من ذريته، وأما الطالحون، فكأنهم بهائم، كما
341
قال تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام﴾ [الفرقان: ٤٤]، وقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨].
وقيل: الوالد: إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ [ذريته.
وقيل: الوالد إبراهيم وإسماعيل، وما ولد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أقسم بمكة وإبراهيم].
قال الفراء: وصلح «ما» للناس، كقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٣]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى﴾ [الليل: ٣]، وهو خالق الذكر والأنثى.
قال الماورديُّ: ويحتمل أن الوالد: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتقدم ذكره، «ومَا وَلَد» : أمته: لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، «إنَّما أنَا بِمنزْلَةِ الوَالِدِ أعَلِّمكُمْ»، فأقسم به وبأمته، بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ﴾ : هذا هو المقسم عليه، والكبد: المشقة.
قال الزمخشريُّ: والكَبدُ: أصله من قولك: كبدَ الرجل كبداً، فهو أكْبَد، إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه، حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المُكابَدةُ، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه، وأصله: كبده إذا أصاب كبده.
قال لبيد: [المنسرح]
٥٢١١ - يَا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أربَدَ إذْ قُمْنَا وقَامَ الخُصومُ في كَبدِ
أي: في شدة الأمر، وصعوبة الخطب؛ وقال أبو الإصبع: [البسيط]
٥٢١٢ - لِيَ ابنُ عَمٍّ لو انَّ النَّاس في كَبدٍ لظَلَّ مُحْتَجِزاً بالنَّبْلِ يَرْمينِي

فصل في المراد ب " الإنسان "


الإنسان هنا ابن آدم.
قال القرطبيُّ: ومنه تكبَّد اللبن: غلظ واشتد ومنه الكبدُ؛ لأنه دمٌ تغلظ واشتد ويقال: كابدتُ هذا الأمر قاسيت شدته.

فصل في المراد ب «الإنسان»


الإنسان هنا ابن آدم.
342
قال ابنُ عباسٍ والحسنُ: «في كبدٍ» أي: في شدة ونصبٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً: في شدّة من حمله، وولادته، ورضاعه ونبت أسنانه، وسائر أحواله.
وروى عكرمةُ عنه قال: منتصباً في بطن أمه، والكبدُ: الاستواء، والاستقامة، فهذا امتنان عليه في الحقيقة، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطن أمها إلاَّ منكبةً على وجهها إلا ابن آدم، فإنه منتصب انتصاباً. وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما.
وقال يمان: لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
[وقال ابن كيسان: منتصباً في بطن أمه، فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجل أمه.
وقال الحسن: كابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة].
قال بعضُ العلماء: أول ما يكابدُ قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً، وشد رباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الخِتَان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، ثم يكابد شغل الأولاد، والأجناد، ثم يكابد شغل الدُّور، وبناء القصور، ثم الكِبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدَّينِ، ووجع السن، وألم الأذُنِ، ويكابد مِحَناً في المال، والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمر عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعد ذلك مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث، والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة أو في النار، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ﴾ فلو كان الأمر إليه، ما اختار هذه الشَّدائد، ودل هذا على أن له خالقاً دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال، فليتمثل أمره. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام.
343
وقوله تعالى: ﴿فِي كَبَدٍ﴾ أي: في وسط السماء.
وقال الكلبيُّ: إنَّ هذا نزل في رجل من بني جمح، يقال له: أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة بن جُمَح، وكان قوياً، وكان يأخذ الأديم العكاظي، فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة حتى يتمزّق الأديم، ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه نزل: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾، يعني: لقوته.
قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾، أي: أيظنّ ابن آدم أن لن يحاسبه الله عزَّ وجل قال ابنُ الخطيب: إن فسرنا الكبد بالشدة والقوة، فالمعنى: أيحسب الإنسان الشديد أن لشدته لا يقدر عليه أحد؟ وإن فسرنا بالمحنة، والبلاء، كان المعنى: أنَّ الإنسان كان في النعمة، والشدة، أي: أفيظنّ أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه شيء، فهو استفهام على سبيل الإنكار.
قوله: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾ : يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً.
وقرأ العامة: «لُبَداً» بضم اللام وفتح الباء.
وشدَّد أبُو جعفرٍ الباء جمع لابِدٍ، مثل: راكع وركع، وساجد وسُجَّد، وعنه أيضاً: سكونها.
ومجاهدٌ وابنُ أبِي الزِّناد: بضمتين، وتقدم الكلام على هذه اللفظة في سورة: «الجن».
قال أبو عبيدة: «لُبَداً» : فعل من التلبيد، وهذا المال الكثير، بعضه على بعض.
قال الزَّجَّاجُ: و «فعل» للكثرة، يقال: رجل حطم، إذا كان كثير الحطم.
قال الفراءُ: واحدته: «لُبْدَة» و «لُبَدٌ» : جمع.
وجعل بعضهم: واحد، ك «حطم»، وهو في الوجهين للكثرة، والمعنى: أنفقت مالاً كثيراً مجتمعاً؛ لأن أهل الجاهلية يدعونه مكارم ومفاخر.
قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾، أي: أيظن أن لم يعاينه أحد، بل علم الله ذلك منه، فكان كاذباً، في قوله: أهلكت، ولم يكن أنفقه. وقال: أيظن أن لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وأين أنفقه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: كان أبو الأشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً، وهو في ذلك كاذب.
344
وقال مقاتلٌ: نزلت في الحارثِ بنِ عامرٍ بنِ نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأمره أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفَّارات، والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه، يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغياناً منه، أو أسفاً منه، فيكون ندماً منه.
قال القرطبيُّ: «وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنه كان يقرأ:» أيَحْسُبُ «، بضم السين، في الموضعين».
وقال الحسنُ: يقول: أتلفت مالاً كثيراً فمن يحاسبني به، دعني أحسبه، ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، وأن الله - عزَّ وجلَّ - يرى صنيعه، ثم عدد عليه نعمه، فقال:
﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾ : يبصر بهما، ﴿وَلِسَاناً﴾ ينطق بهما، ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾ : يستر بهما ثغرهُ، والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه، ونحصي عليه ما عمله.
قوله: ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾، الشِّفةُ: محذوفة اللام، والأصل: شفهةٌ، بدليل تصغيرها على «شُفَيْهَة»، وجمعها على «ِفاه» ونظيره: سنة في إحدى اللغتين، وشافهته أي كلمته من غير واسطة، ولا يجمع بالألف والتاء، استغناء بتكسيرها عن تصحيحها.
قال القرطبي: «يقال: شفهاتٌ وشفواتٌ، والهاء: أقيس، والواو أعم تشبيهاً بالسنوات».
قال
الأزهريُّ
: «يقال: هذه شفة، في الوصل، وشفة، بالتاء والهاء».
قوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾، يعني: الطريقتين: طريق الخير وطريق الشِّر.
روى قتادةُ قال: ذكر لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان يقول: «يا أيُّها النَّاس، إنَّما هُمَا النَّجدانِ: نَجْدُ الخيرِ، ونجدُ الشَّرِّ، فلم تَجْعَلُ نَجْدَ الشر أحبَّ إليْكَ من نَجْدِ الخَيْرِ».
فكأنه لما وهمت الدلائل، جعلت كالطريق المرتفعة العالية، لكونها واضحة للعقول، كوضوح الطريق العالي للأبصار، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٣]، بعد قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [الإنسان: ٢].
ورُوِيَ عن عكرمة، قال: النجدانِ: الثَّديانِ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك.
345
ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لأنهما كالطريقين لحياة الولد، ورزقه.
فقوله: «النجدين» إما ظرف، وإما على حذف الجار إن أريد بهما الثديان.
والنَّجدُ في الأصل: العنقُ، لارتفاعه.
وقيل: الطريق العالي.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٥٢١٣ - فَريقَانِ:
مِنْهُمْ جَازعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ وأخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
ومنه سميت نجد، لعلوها عن انخفاض تهامة.
346
قوله :﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أن الجملة اعتراضية على أحد معنيين، إما على معنى : أنه - تعالى - أقسم بهذا البلد، وما بعده، على أن الإنسان في كبد، واعترض بينهما بهذه الجملة، يعني : ومن المكابدة، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد، كما يستحل الصيد في غير المحرم.
وإما على معنى : أنه أقسم ببلدة، على أنَّ الإنسان لا يخلُو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح «مكة »، تتميماً للتَّسلية، فقال تعالى : وأنت حلٌّ به فيما يستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل، والأسر، ف «حِلٌّ » بمعنى : حلال، قال معناه الزّمخشري١. ثم قال : فإن قلت : أين نظير قوله تعالى :﴿ وَأَنتَ حِلٌّ ﴾ في معنى الاستقبال ؟.
قلت : قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ]، ومثله واسع في كلام العبادِ، تقول لمن تَعدُه الإكرام والحباء : أنت مكرم محبوٌّ، وهو في كلام الله أوسع ؛ لأنَّ الأحوال المستقبلة عنده، كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال، وأنَّ تفسيره بالحال محال ؛ لأن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح ؟.
الثاني من الوجهين الأولين : أن الجملة حالية، أي : لا أقسم بهذا البلد، وأنت حالٌّ بها، لعظم قدرك، أي : لا نقسم بشيء، وأنت أحق بالإقسام بك منه.
وقيل : المعنى : لا أقسم به، وأنت مستحلّ فيه، أي : مستحل إذ ذاك.

فصل في المراد بهذا البلد


أجمع المفسرون على أن ذلك البلد «مكة »، وفضلها معروف، فإنه تعالى، جعله حرماً آمناً قال تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب، وقال تعالى :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ]، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ، فقال :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وقال تعالى :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت ﴾ [ الحج : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾ [ الحج : ٢٧ ]، وشرف مقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وحرم صيده، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل، وأكثر منها، لما اجتمعت في «مكة » لا جرم أقسم الله تعالى بها.

فصل في تفسير وأنت حلّ


روى منصورٌ عن مجاهدٍ :«وأنْتَ حِلٌّ »، قال : ما صنعت فيه من شيء، فأنت في حل٢.
وكذا قال ابن عبَّاسٍ : أحل له يوم دخل «مكة »، أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما، ولم يحل لأحد من الناس، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم٣.
وقال السدي : أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله٤.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ، قال : أحلت له ساعة من نهارٍ، ثم أطبقت، وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح «مكة »٥.
[ قال ابن زيد : ولم يكن بها أحد حلالاً غير النبي صلى الله عليه وسلم٦ وقيل : معناه : وأنت مقيم فيه، وهو محلك أي : من أهل «مكة » نشأت بينهم، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ].
وقيل : أنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راضٍ ]٧.
وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل، ورجل حرم وحرام ومحرم.
وقال قتادة :«وأنت حل به » أي لست بآثم، قيل : معناه أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليه ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه.
وقال شرحبيل بن سعد :﴿ وأنْتَ حلٌّ بِهَذَا البَلدِ ﴾ أي : حلال، أي هم يحرمون «مكة » أن يقتلوا بها صيداً، أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلُّون إخراجك وقتلك، ففيه تعجُّب في جرأتهم وشدة عداوتهم له.
١ ينظر: الكشاف ٤/٧٥٤..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨٥) وذكره السيوطي في "الدرالمنثور" (٦/٥٩٢) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٩١) وزاد نسبته إلى ابن مردويه..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٤١)..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٩٢) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨٦) عن ابن زيد..
٧ سقط من: ب..
قوله :﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾.
قيل «ما » بمعنى :«من »، أو بمعنى :«الذي ».
وقيل : مصدرية أقسم بالشخص وفعله.
وقال الزمخشريُّ١ : فإن قلت : هلا قيل : ومَنْ ولد ؟
قلت : فيه ما في قوله :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ [ آل عمران : ٣٦ ]، أي : بأي شيء وضعت، يعني : موضوعاً عجيب الشأن.
وقيل :«ما » : فيحتاج إلى إضمار موصول به يصح الكلام، تقديره : والذي ما ولد، إذ المراد بالوالد، الذي يولد له، «ومَا وَلَد » يعني : العَاقِر الذي لا يُولدُ له، قال معناه ابنُ عبَّاسٍ، وتلميذه ابنُ جبيرٍ وعكرمةُ٢.

فصل في الكلام على الآية


هذا معطوف على قوله :﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد ﴾ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وقتادةُ والضحاكُ والحسنُ وأبو صالحٍ والطبريُّ : المراد بالوالد : آدم عليه الصلاة والسلام، «ومَا وَلَد » أي : وما نسل من ولده، أقسم بهم ؛ لأنهم أعجب ما خلق تعالى على وجه الأرض، لما فيهم من البنيان، والنُّطق، والتدبير، وإخراج العلوم، وفيهم الأنبياء، والدُّعاة إلى الله تعالى، والأنصار لدينه، وأمر الملائكة بالسُّجود لآدم - عليه السلام - وعلمه الأسماء كلَّها، وقد قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾٣ [ الإسراء : ٧٠ ].
وقيل : هو إقسام بآدم، والصالحين من ذريته، وأما الطالحون، فكأنهم بهائم، كما قال تعالى :﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام ﴾ [ الفرقان : ٤٤ ]، وقوله :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ [ البقرة : ١٨ ].
وقيل : الوالد : إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ﴿ وَمَا وَلَدَ ﴾ [ ذريته.
وقيل : الوالد إبراهيم وإسماعيل، وما ولد محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أقسم بمكة وإبراهيم ]٤.
قال الفراء : وصلح «ما » للناس، كقوله :﴿ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾ [ النساء : ٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى ﴾ [ الليل : ٣ ]، وهو خالق الذكر والأنثى.
قال الماورديُّ : ويحتمل أن الوالد : النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره، «ومَا وَلَد » : أمته : لقوله عليه الصلاة والسلام، «إنَّما أنَا بِمنزْلَةِ الوَالِدِ أعَلِّمكُمْ »٥، فأقسم به وبأمته، بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عليه الصلاة والسلام.
١ ينظر: الكشاف ٤/٧٥٤..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨٦) عن عكرمة وابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٨٩٣) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ أخرجه الطبري (١٢/٥٨٦-٥٨٧) عن مجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٩٣) عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره عن سعيد بن جبير وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد..

٤ سقط من ب..
٥ أخرجه أبو داود (١/٣) كتاب الطهارة: باب كراهية استقبال القبلة حديث (٨) وابن ماجة (١/١١٤) كتاب الطهارة: باب الاستنجاء بالحجارة حديث (٣١٣) والنسائي (١/٣٧) كتاب الطهارة: باب الاستطابة بالروث..
قوله :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ ﴾ : هذا هو المقسم عليه، والكبد : المشقة.
قال الزمخشريُّ١ : والكَبدُ : أصله من قولك : كبدَ الرجل كبداً، فهو أكْبَد، إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه، حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المُكابَدةُ، كما قيل : كبته بمعنى أهلكه، وأصله : كبده إذا أصاب كبده.
قال لبيد :[ المنسرح ]
٥٢١١- يَا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أربَدَ إذْ قُمْنَا وقَامَ الخُصومُ في كَبدِ٢
أي : في شدة الأمر، وصعوبة الخطب ؛ وقال أبو الإصبع :[ البسيط ]
٥٢١٢- لِيَ ابنُ عَمٍّ لو أن النَّاس في كَبدٍ*** لظَلَّ مُحْتَجِزاً بالنَّبْلِ يَرْمينِي٣
قال القرطبيُّ٤ : ومنه تكبَّد اللبن : غلظ واشتد، ومنه الكبدُ ؛ لأنه دمٌ تغلظ واشتد ويقال : كابدتُ هذا الأمر قاسيت شدته.

فصل في المراد ب «الإنسان »


الإنسان هنا ابن آدم.
قال ابنُ عباسٍ والحسنُ :«في كبدٍ » أي : في شدة ونصبٍ٥ وعن ابن عباسٍ أيضاً : في شدّة من حمله، وولادته، ورضاعه ونبت أسنانه، وسائر أحواله٦.
وروى عكرمةُ عنه قال : منتصباً في بطن أمه٧، والكبدُ : الاستواء، والاستقامة، فهذا امتنان عليه في الحقيقة، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطن أمها إلاَّ منكبةً على وجهها إلا ابن آدم، فإنه منتصب انتصاباً. وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما٨.
وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
[ وقال ابن كيسان : منتصباً في بطن أمه، فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجل أمه.
وقال الحسن : كابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة ]٩.
قال بعضُ العلماء : أول ما يكابدُ قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً، وشد رباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الخِتَان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، ثم يكابد شغل الأولاد، والأجناد، ثم يكابد شغل الدُّور، وبناء القصور، ثم الكِبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدَّينِ، ووجع السن، وألم الأذُنِ، ويكابد مِحَناً في المال، والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمر عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعد ذلك مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث، والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة أو في النار، قال تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ ﴾ فلو كان الأمر إليه، ما اختار هذه الشَّدائد، ودل هذا على أن له خالقاً دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال، فليتمثل أمره. وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام.
وقوله تعالى :﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ أي : في وسط السماء.
وقال الكلبيُّ : إنَّ هذا نزل في رجل من بني جمح، يقال له : أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة بن جُمَح، وكان قوياً، وكان يأخذ الأديم العكاظي، فيجعله تحت قدميه، فيقول : من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة حتى يتمزّق الأديم، ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وفيه نزل :﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾، يعني : لقوته١٠.
١ الكشاف ٤/٧٥٤..
٢ ينظر ديوان لبيد ص ٥٠، وإعراب القرآن ٣/٧٠٥، ٥/٢٢٩، والطبري ٣/١٢٦ ومجمع البيان ١٠/٧٤٦، والكشاف ٤/٧٠٤، والبحر ٨/٤٦٨، والدر المصون ٦/٥٢٥..
٣ ينظر إعراب القرآن ٥/٢٢٩، والفضليات (٣٢٦)، والبحر ٨/٤٦٨، والدر المصون ٦/٥٢٥..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٤٢..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨٧) عن ابن عباس والحسن..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨٨) والحاكم (٢/٥٢٣) من طريق عطاء عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٩٣) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..

٧ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٩٣) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وأخرجه الطبري (١٢/٥٨٨) عن عكرمة..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨٨) عن إبراهيم وعكرمة والضحاك ومجاهد..
٩ سقط من: ب..
١٠ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٤٨٨) عن مقاتل مثله..
قوله :﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾، أي : أيظنّ ابن آدم أن لن يحاسبه الله عزَّ وجل قال ابنُ الخطيب١ : إن فسرنا الكبد بالشدة والقوة، فالمعنى : أيحسب الإنسان الشديد أن لشدته لا يقدر عليه أحد ؟ وإن فسرنا بالمحنة، والبلاء، كان المعنى : أنَّ الإنسان كان في النعمة، والشدة، أي : أفيظنّ أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه شيء، فهو استفهام على سبيل الإنكار.
١ الفخر الرازي ٣١/١٦٦..
قوله :﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾ : يجوز أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً.
وقرأ العامة :«لُبَداً » بضم اللام وفتح الباء.
وشدَّد أبُو جعفرٍ الباء جمع١ لابِدٍ، مثل : راكع وركع، وساجد وسُجَّد، وعنه أيضاً٢ : سكونها.
ومجاهدٌ وابنُ أبِي الزِّناد٣ : بضمتين، وتقدم الكلام على هذه اللفظة في سورة :«الجن ».
قال أبو عبيدة :«لُبَداً » : فعل من التلبيد، وهذا المال الكثير، بعضه على بعض.
قال الزَّجَّاجُ : و «فعل » للكثرة، يقال : رجل حطم، إذا كان كثير الحطم.
قال الفراءُ : واحدته :«لُبْدَة » و «لُبَدٌ » : جمع.
وجعل بعضهم : واحد، ك «حطم »، وهو في الوجهين للكثرة، والمعنى : أنفقت مالاً كثيراً مجتمعاً ؛ لأن أهل الجاهلية يدعونه مكارم ومفاخر.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٨٤، والبحر المحيط ٨/٤٧٠، والدر المصون ٦/٥٢٥..
٢ ينظر السابق..
٣ السابق..
قوله :﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾، أي : أيظن أن لم يعاينه أحد، بل علم الله ذلك منه، فكان كاذباً، في قوله : أهلكت، ولم يكن أنفقه. وقال : أيظن أن لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وأين أنفقه.
وقال ابنُ عبَّاسٍ : كان أبو الأشدين يقول : أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً، وهو في ذلك كاذب١.
وقال مقاتلٌ : نزلت في الحارثِ بنِ عامرٍ بنِ نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يكفر، فقال : لقد ذهب مالي في الكفَّارات، والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه، يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغياناً منه، أو أسفاً منه، فيكون ندماً منه٢.
قال القرطبيُّ٣ :«وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقرأ :«أيَحْسُبُ »، بضم السين، في الموضعين ».
وقال الحسنُ : يقول : أتلفت مالاً كثيراً فمن يحاسبني به، دعني أحسبه، ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، وأن الله - عزَّ وجلَّ- يرى صنيعه.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٤٣)..
٢ ينظر البغوي (٤/٤٨٨)..
٣ ينظر الجامع لأحكام القرآن (٢٠/٤٣)..
ثم عدد عليه نعمه، فقال :﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴾ : يبصر بهما،
﴿ وَلِسَاناً ﴾ ينطق بهما، ﴿ وَشَفَتَيْنِ ﴾ : يستر بهما ثغرهُ١، والمعنى : نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه، ونحصي عليه ما عمله.
قوله :﴿ وَشَفَتَيْنِ ﴾، الشِّفةُ : محذوفة اللام، والأصل : شفهةٌ، بدليل تصغيرها على «شُفَيْهَة »، وجمعها على «فاه » ونظيره : سنة في إحدى اللغتين، وشافهته أي كلمته من غير واسطة، ولا يجمع بالألف والتاء، استغناء بتكسيرها عن تصحيحها.
قال القرطبي٢ :«يقال : شفهاتٌ وشفواتٌ، والهاء : أقيس، والواو أعم تشبيهاً بالسنوات ».
قال الأزهريُّ :«يقال : هذه شفة، في الوصل، وشفة، بالتاء والهاء ».
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٤٣)..
٢ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾، يعني : الطريقتين : طريق الخير وطريق الشِّر.
روى قتادةُ قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول :«يا أيُّها النَّاس، إنَّما هُمَا النَّجدانِ : نَجْدُ الخيرِ، ونجدُ الشَّرِّ، فلم تَجْعَلُ نَجْدَ الشر أحبَّ إليْكَ من نَجْدِ الخَيْرِ »١.
فكأنه لما وهمت الدلائل، جعلت كالطريق المرتفعة العالية، لكونها واضحة للعقول، كوضوح الطريق العالي للأبصار، ونظيره قوله تعالى :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ ]، بعد قوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢ ].
ورُوِيَ عن عكرمة، قال : النجدانِ : الثَّديانِ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك.
ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ وعلي - رضي الله عنهما - لأنهما كالطريقين لحياة الولد، ورزقه٢.
فقوله :«النجدين » إما ظرف، وإما على حذف الجار إن أريد بهما الثديان.
والنَّجدُ في الأصل : العنقُ، لارتفاعه.
وقيل : الطريق العالي.
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥٢١٣- فَريقَانِ :
مِنْهُمْ جَازعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ وأخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ٣
ومنه سميت نجد، لعلوها عن انخفاض تهامة.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٩١) عن قتادة والحسن.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٩٥) عن الحسن وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن مردويه من طرق عنه..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٩٢) عن ابن عباس والضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٩٥) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس وينظر تفسير الماوردي (٦/٢٧٧) والقرطبي (٢٠/٤٤)..
٣ يروى الشطر الأول:
*** غداة غدوا فسالك بطن نخلة ***
ينظر الديوان ص ٤٣، وإصلاح المنطق ص ٥٦، ومجمع البيان ١/٧٤٦ واللسان (نجد)، والقرطبي ٢٠/٤٤، والبحر ٨/٤٦٨، والدر المصون ٦/٥٢٥..

قوله: ﴿فَلاَ اقتحم العقبة﴾.
قال الفراءُ والزجاجُ: ذكر «لا» مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد: «لا» مع الفعل الماضي، حتى تعيد «لا»، كقوله تعالى: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى﴾ [القيامة: ٣١] وإنَّما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ قائماً مقام التكرير، فكأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
وقال الزمخشريُّ: هي متكررة في المعنى؛ لأن معنى: «فلا اقتحم العقبة: فلا فكَّ رقبة، ولا أطعم مسكيناً». ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟.
قال أبو حيَّان: ولا يتم له هذا إلا على قراءة: «فكّ» فعلاً ماضياً.
وقال الزجاج والمبردُ وأبو عليٍّ، وذكره البخاري عن مجاهد: أن قوله تعالى: {ثُمَّ
346
كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} يدل على أن «لا» بمعنى: «لم»، ولا يلزم التكرير مع «لم»، فإن كررت «لا» كقوله: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى﴾ [القيامة: ٣١]، فهو كقوله تعالى: ﴿لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ [الفرقان: ٦٧].

فصل في معنى الآية


المعنى: فهلاَّ أنفق ماله في اقتحام العقبة، الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هلا أنفقه في اقتحام العقبة، فيأمن، والاقتحامُ: الرمي بالنفس في شيء من غير روية، يقال منه: قحم في الأمر قُحُوماً، أي: رمى بنفسه فيه من غير روية، وقَحَّم الفرس فارسه تقحيماً على وجهه: إذا رماه وتقحيم النفس في الشيء: إدخالها فيه من غير روية، والقُحْمَةُ - بالضم - المهلكة والسَّنة الشديدة، يقال: أصاب العرب القُحْمَةُ: إذا أصابهم قحط [فدخلوا الريف] والقُحَمُ: صعاب الطريق.
وقال عطاء: يريد عقبة جهنم.
وقال مجاهدٌ والضحاك: هي الصراطُ.
قال الواحدي: وهذا فيه نظر؛ لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره، لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها.
وقال ابن العربي: قال مجاهد: اقتحام العقبة في الدنيا؛ لأنه فسره بعد ذلك، بقوله: «فكُّ رقَبةٍ» أو أطعم في يومٍ يتيماً، أو مسكيناً، وهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا.
وقال الحسنُ ومقاتلٌ: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى، لمجاهدة النفس، والشيطان في أعمال البر.
قال القفال: قوله تعالى: ﴿فَلاَ اقتحم العقبة﴾، معناه: فلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة.
وقيل: معنى قوله تعالى: ﴿فَلاَ اقتحم﴾ دعاء، أي: فلا نجا ولا سلم، من لم ينفق ماله في كذا وكذا.
وقيل: شبه عظيم الذنوب، وثقلها بعقبةٍ، فإذا أعتق رقبة، أو عمل صالحاً، كان مثله مثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب تضره، وتؤذيه وتثقله.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة﴾.
347
قال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: «وَمَا أدْرَاكَ»، فقد أخبر به، وكل شيء قال فيه: «ومَا يُدرِيكَ»، فإنه لم يخبره به، وما أدراك ما اقتحام العقبة، وهذا تعظيم لإلزام أمر الدين، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعلمه اقتحام العقبة، ثم إنه تعالى فسر العقبة بقوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾.
قوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾.
قرأ أبو عمرو وابن كثيرٍ والكسائي: «فكَّ» : فعلاً ماضياً، و «رَقَبةٌ» : نصباً، «أو أطْعَمَ» : فعلاً ماضياً.
والباقون: «فكُّ» : يرفع الكاف اسماً، «رقَبَةٍ» : خفض بالإضافة، «أوْ إطْعَامٌ» : اسم مرفوع أيضاً.
فالقراءة الأولى: الفعل فيها، بدل من قوله: «اقتحم»، فهو بيان له، فكأنه قيل: فلا فك رقبة ولا أطعم.
والثانية: مرتفع فيها: «فكُّ»، على إضمار مبتدأ، أي: هو فك رقبة، «أو إطعام» على معنى الإباحة، وفي الكلام حذف مضاف، دل عليه «فلا اقتحم»، تقديره: وما أدراك ما اقتحام العقبة، فالتقدير: اقتحام العقبة فك رقبة، أو إطعام، وإنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف ليطابق المفسر والمفسر؛ ألا ترى أن المفسِّر - بكسر السين - مصدر، والمفسَّر - بفتح السين - وهو العقبة غير مصدر، فلو لم يقدر مضافاً، لكان المصدر، وهو «فك» مفسراً للعين، وهي العقبة.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء: «فكَّ، أو أطعمَ» فعلين - كما تقدم - إلا أنهما نصبا: «ذا» الألف.
وقرأ الحسنُ: «إطعام»، و «ذا» بالألف أيضاً، وهو على هاتين القراءتين: مفعول: «أطعم»، أو «إطعام»، و «يتيماً» حينئذ بدل منه أو نعت له، وهو في قراءة العامة: «ذي» بالياء: نعت ل «يوم»، على سبيل المجاز، وصف اليوم بالجوع مبالغة، كقولهم: ليلك قائم، ونهارك صائم، والفاعل ل «إطعام» : محذوف، وهذا أحد المواضع التي يطرد فيها حذف الفاعل وحده عند البصريين.

فصل في الاستفهام في الآية


قال ابنُ زيدٍ، وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام على معنى الإنكار،
348
تقديره: هلاَّ أقتحم العقبة، تقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغبان، فيكون خيراً له من إنفاقه في عداوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.

فصل في الفرق بين الفك والرق


الفكّ: التفريق، ومنه فكُّ القيد وفكُّ الرقبة، فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاد الحرفة، وإبطال العبودية، ومنه فكُّ الرهن، وهو إزالته عن المرتهن، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أيُّمَا امرئٍ مُسْلمٍ أعتقَ امْرءاً مُسْلِمَاً كَانَ فِكاكَه مِنَ النَّارِ يَجرِي على كُلِّ عَضوٍ مِنهُ عُضواً مِنهُ»
الحديث.
وسمي المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، وسمي عتقها فكَّا كفك الأسير من الأسْر؛ قال: [البسيط]
٥٢١٤ - كَمْ مِنْ أسِيرٍ فَكَكنَاهُ بِلاَ ثَمَنٍ وجَرِّ نَاصِيةٍ كُنَّا مَواليهَا
قال الماورديُّ: ويحتمل ثانياً: إنه أراد فك رقبته، وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات، ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.
فص في أن العتق أفضل من الصدقة
قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: العِتْقُ أفضل من الصدقة، وعند صاحبيه الصدقة أفضل، والآية أدلّ على قول أبي حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة.
قوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي: مجاعة، والسَّغبُ: الجوع، والسَّاغبُ: الجائع.
قال شهابُ الدِّين: والمسغبةُ: الجوع مع التعب، وربما قيل في العطش مع التعب.
قال الراغب: يقال سغَبَ الرجل يسغبُ سغباً وسغوباً فهو ساغبٌ، وسغبان، والمسغبةُ: مفعل منه.
وأنشد أبو عبيدة: [الطويل]
349

فصل


إطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل.
وقال النخعي في قوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، قال: في يوم عزيز فيه الطَّعام.
قوله: ﴿يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي: قرابة.
قال الزمخشريُّ: «والمَسْغبَةُ، والمَقربةُ، والمَتربةُ: مفعلات، من سغبَ إذا جاع، وقرب في النسب، قال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي، وترب إذا افتقر».
وهذه الآية تدل على أن الصدقة على الأقارب، أفضل منها على الأجانب.
واليتيم: قال بعض العلماء: اليتيمُ في الناس من قبل الأب، وفي البهائمِ من قبلِ الأمَّهاتِ.
وقال بعضهم: اليتيمُ: «الذي يموت أبواه».
قال قيس بن الملوح: [الطويل]
٥٢١٥ - فَلَوْ كُنْت جاراً يَا بْنَ قَيْسٍ بن عاصمٍ لمَا بتَّ شَبْعَاناً وجاركَ سَاغِبا
٥٢١٦ - إلى اللهِ أشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَما شَكَا إلى الله فَقْدَ الوَالِدَيْنِ يَتِيمُ
ويقال: يتم الرجل يتماً: إذا ضعف.
قوله: ﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، أي: لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر يقال: ترب أي افتقر حتى لصق جلده بالتراب، فأما أترب بالألف فمعناه استغنى نحو: أثرى أي صار مالكه كالتراب وكالثرى.
قال المفسرون: هو الذي ليس له مأوى إلا التراب.
وقال ابن عباس: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له.
وقال مجاهد: الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره.
وقال قتادة: إنه ذو العيال.
وقال عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة هو البعيد عن وطنه، ليس له مأوى إلاَّ التراب.

فصل في أن المسكين قد يملك شيئاً


احتجوا بهذه الآية على أن المسكين قد يملك شيئاً؛ لأنه لو كان المسكين هو الذي لا يملك شيئاً - ألبتة - لكان تقييده بقوله: «ذا مَتْربة» تكرير.
350
قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾. التراخي في الإيمان، وتباعده في المرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت؛ لأن الإيمان هو السابق، ولا يثبت عمل إلاَّ به.
قاله الزمخشري وقيل: المعنى: ثُمَّ كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان؛ لأنَّ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطَّاعات.
وقيل: التراخي في الذكر.
قال المفسرون: معناه أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبته، أو أطعم في يوم ذي مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا، أي: صدقوا، فإنّ شرط قبول الطاعات الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بعد الإنفاق لا ينفع، قال تعالى في المنافقين: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله﴾ [التوبة: ٥٤].
وقيل: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ أي: فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة [فيكون المعنى: ثم كان مع تلك الطاعات من الذين آمنوا]، نظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى﴾ [طه: ٨٢].
وقيل: المعنى: ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى.
وقيل: أتى بهذه القرب لوجه الله - تعالى - ثم آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إن «ثُمَّ» بمعنى: الواو، أي: وكان هذا المعتق للرقبة، والمطعم في المسغبةِ، من الذين آمنوا.
قوله: ﴿وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾، أي: أوصى بعضهم بعضاً على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب، ﴿وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة﴾، أي: بالرحمة على الخلق فإنَّهم إذا فعلوا ذلك، رحموا اليتيم والمسكين، ثم إنه تعالى بينهم، فقال تعالى: ﴿أولئك أَصْحَابُ الميمنة﴾، أي: الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، قاله محمد بن كعب القرظي.
[وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم.
وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن.
وقال ميمون بن مهران لأن منزلتهم عن اليمين].
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا﴾، أي: القرآن، ﴿هُمْ أَصْحَابُ المشأمة﴾ أي: يأخذون كتبهم
351
بشمائلهم قاله محمد بن كعب، وقال يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم.
وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر.
وقال ميمون: لأن منزلتهم على اليسار.
قال القرطبي: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشئمة أصحاب النار.
قوله: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾، قرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وحفصٌ: بالهمزة.
والباقون: بلا همز.
فالقراءة الأولى: من «آصَدتُ الباب» أي: أغلقته، أوصده، فهو مؤصد، قيل: ويحتمل أن يكون من «أوْصدْتُ»، ولكنه همز الواو السَّاكنة لضمة ما قبلها، كما همز ﴿بالسوق والأعناق﴾ [ص: ٣٣].
والقراءة الثانية - أيضاً - تحتمل المادتين، ويكون قد خفف الهمزة، لسكونها بعد ضمة.
وقد نقل الفرَّاء عن السوسي الذي قاعدته إبدال مثل هذه الهمزة، أنه لا يبدل هذه، وعللوا ذلك بالإلباس وأيقن أنه قرأ: «مؤصدة» بالواو من قاعدته تخفيف الهمزة.
والظاهر أن القراءتين من مادتين: الأولى من «آصَدَ يُوصِدُ» ك «أكرم يكرم»، والثانية من «أوْصَدَ، يُوصِدُ» مثل «أوصل يوصل».
وقال الشاعر: [الطويل]
٥٢١٧ - تَحِنُّ إلى أجْبَالِ مكَّةَ نَاقتِي ومِنْ دُونهَا أبْوابُ صَنعاءُ مُؤصَدَهْ
أي: مغلقة؛ وقال آخر: [الكامل]
٥٢١٨ - قَوْمٌ يُعَالِجُ قُمَّلاً أبْناؤُهُمْ وسَلاسِلاً حِلقاً وبَاباً مُؤصدا
وكان أبو بكر راوي عاصم يكره الهمز في هذا الحرف، وقال: لنا إمام يهمز: «مؤصدة»، فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.
قال شهابُ الدِّين: وكأنه لم يحفظ عن شيخه إلا ترك الهمزة مع حفظ حفص
352
إياه عنه، وهو أضبط لحرفه من أبي بكر، على ما نقله الفراء، وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن، وأوثق عند أهل الحديث.
وقال القرطبيُّ: وأهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وآصدته، أي: أغلقته، فمن قال: أوصدت، فالاسم: الوصاد. ومن قال: آصدته، فالاسم: الإصاد.
قال الفراء: ويقال من هذا «الأصيد»، وهو الباب المطبق، ومعنى «مؤصدة» أي: مغلقة.
قوله تعالى: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ﴾، يجوز أن تكون جملة مستأنفة، وأن تكون خبراً ثانياً، وأن يكون الخبر وحده: «عَلَيْهِمْ»، و «نارٌ» : فاصل به، وهو الأحسن.
وقيل: معنى «عليهم نار»، أي: أحاطت النَّار بهم، كقوله تعالى: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ [الكهف: ٢٩]. والله أعلم.
روى الثَّعلبيُّ عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾ أعْطَاهُ اللهُ الأمْنَ مِنْ غَضبهِ يَوْمَ القِيامَةِ».
353
سورة الشمس
354
ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة ﴾.
قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه :«وَمَا أدْرَاكَ »، فقد أخبر به، وكل شيء قال فيه :«ومَا يُدرِيكَ »، فإنه لم يخبره به، وما أدراك ما اقتحام العقبة، وهذا تعظيم لإلزام أمر الدين، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه اقتحام العقبة، ثم إنه تعالى فسر العقبة بقوله :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾.
قوله :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾.
قرأ أبو عمرو١ وابن كثيرٍ والكسائي :«فكَّ » : فعلاً ماضياً، و «رَقَبةٌ » : نصباً، «أو أطْعَمَ » : فعلاً ماضياً.
والباقون :«فكُّ » : يرفع الكاف اسماً، «رقَبَةٍ » : خفض بالإضافة، «أوْ إطْعَامٌ » : اسم مرفوع أيضاً.
فالقراءة الأولى : الفعل فيها، بدل من قوله :«اقتحم »، فهو بيان له، فكأنه قيل : فلا فك رقبة ولا أطعم.
والثانية : مرتفع فيها :«فكُّ »، على إضمار مبتدأ، أي : هو فك رقبة، «أو إطعام » على معنى الإباحة، وفي الكلام حذف مضاف، دل عليه «فلا اقتحم »، تقديره : وما أدراك ما اقتحام العقبة، فالتقدير : اقتحام العقبة فك رقبة، أو إطعام، وإنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف ليطابق المفسر والمفسر ؛ ألا ترى أن المفسِّر - بكسر السين - مصدر، والمفسَّر - بفتح السين - وهو العقبة غير مصدر، فلو لم يقدر مضافاً، لكان المصدر، وهو «فك » مفسراً للعين، وهي العقبة.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء٢ :«فكَّ، أو أطعمَ » فعلين - كما تقدم - إلا أنهما نصبا :«ذا » الألف.
وقرأ الحسنُ :«إطعام »٣، و«ذا » بالألف أيضاً، وهو على هاتين القراءتين : مفعول :«أطعم »، أو «إطعام »، و«يتيماً » حينئذ بدل منه أو نعت له، وهو في قراءة العامة :«ذي » بالياء : نعت ل «يوم »، على سبيل المجاز، وصف اليوم بالجوع مبالغة، كقولهم : ليلك قائم، ونهارك صائم، والفاعل ل «إطعام » : محذوف، وهذا أحد المواضع التي يطرد فيها حذف الفاعل وحده عند البصريين.

فصل في الاستفهام في الآية


قال ابنُ زيدٍ، وجماعة من المفسرين : معنى الكلام الاستفهام على معنى الإنكار، تقديره : هلاَّ أقتحم العقبة، تقول : هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغبان، فيكون خيراً له من إنفاقه في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام٤.

فصل في الفرق بين الفك والرق


الفكّ : التفريق، ومنه فكُّ القيد وفكُّ الرقبة، فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاد الحرفة، وإبطال العبودية، ومنه فكُّ الرهن، وهو إزالته عن المرتهن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أيُّمَا امرئٍ مُسْلمٍ أعتقَ امْرءاً مُسْلِمَاً كَانَ فِكاكَه مِنَ النَّارِ يَجرِي على كُلِّ عَضوٍ مِنهُ عُضواً مِنهُ » الحديث٥.
وسمي المرقوق رقبة ؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، وسمي عتقها فكَّا كفك الأسير من الأسْر ؛ قال :[ البسيط ]
٥٢١٤- كَمْ مِنْ أسِيرٍ فَكَكنَاهُ بِلاَ ثَمَنٍ*** وجَرِّ نَاصِيةٍ كُنَّا مَواليهَا٦
قال الماورديُّ : ويحتمل ثانياً : إنه أراد فك رقبته، وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات، ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.

فصل في أن العتق أفضل من الصدقة


قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : العِتْقُ أفضل من الصدقة، وعند صاحبيه الصدقة أفضل، والآية أدلّ على قول أبي حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة.
١ ينظر: السبعة ٦٨٦، والحجة ٦/٤١٣، وإعراب القراءات ٢/٤٨١، وحجة القراءات ٧٦٤..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٧١، والدر المصون ٦/٥٢٦..
٣ ينظر: السابق، والمحرر الوجيز ٥/٤٨٥..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٤٤) عن ابن زيد..
٥ تقدم تخريجه..
٦ ينظر شرح ديوان حسان بن ثابت ٤٨٥، والقرطبي ٢٠/٤٦..
قوله :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾، أي : مجاعة، والسَّغبُ : الجوع، والسَّاغبُ : الجائع.
قال شهابُ الدِّين١ : والمسغبةُ : الجوع مع التعب، وربما قيل في العطش مع التعب.
قال الراغب : يقال سغَبَ الرجل يسغبُ سغباً وسغوباً فهو ساغبٌ، وسغبان، والمسغبةُ : مفعل منه.
وأنشد أبو عبيدة :[ الطويل ]
٥٢١٥- فَلَوْ كُنْت جاراً يَا بْنَ قَيْسٍ بن عاصمٍ*** لمَا بتَّ شَبْعَاناً وجاركَ سَاغِبا٢

فصل


إطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل.
وقال النخعي في قوله تعالى :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾، قال : في يوم عزيز فيه الطَّعام.
١ ينظر الدر المصون ٦/٥٢٦..
٢ ينظر القرطبي ٢٠/٤٦..
قوله :﴿ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾، أي : قرابة.
قال الزمخشريُّ١ :«والمَسْغبَةُ، والمَقربةُ، والمَتربةُ : مفعلات، من سغبَ إذا جاع، وقرب في النسب، قال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي، وترب إذا افتقر ».
وهذه الآية تدل على أن الصدقة على الأقارب، أفضل منها على الأجانب.
واليتيم : قال بعض العلماء : اليتيمُ في الناس من قبل الأب، وفي البهائمِ من قبلِ الأمَّهاتِ.
وقال بعضهم : اليتيمُ :«الذي يموت أبواه ».
قال قيس بن الملوح :[ الطويل ]
٥٢١٦- إلى اللهِ أشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَما شَكَا إلى الله فَقْدَ الوَالِدَيْنِ يَتِيمُ٢
ويقال : يتم الرجل يتماً : إذا ضعف.
١ ينظر: الكشاف ٤/٧٥٦..
٢ ينظر ديوان مجنون ليلى ص ٢٤٤، والقرطبي ٢٠/٤٦..
قوله :﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾، أي : لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر يقال : ترب أي افتقر حتى لصق جلده بالتراب، فأما أترب بالألف فمعناه استغنى نحو : أثرى أي صار مالكه كالتراب وكالثرى.
قال المفسرون : هو الذي ليس له مأوى إلا التراب.
وقال ابن عباس : هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له.
وقال مجاهد : الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره.
وقال قتادة : إنه ذو العيال.
وقال عكرمة عن ابن عباس : ذو المتربة هو البعيد عن وطنه، ليس له مأوى إلاَّ التراب.

فصل في أن المسكين قد يملك شيئاً


احتجوا بهذه الآية على أن المسكين قد يملك شيئاً ؛ لأنه لو كان المسكين هو الذي لا يملك شيئاً - ألبتة - لكان تقييده بقوله :«ذا مَتْربة » تكرير.
قوله :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾. التراخي في الإيمان، وتباعده في المرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت ؛ لأن الإيمان هو السابق، ولا يثبت عمل إلاَّ به.
قاله الزمخشري١ وقيل : المعنى : ثُمَّ كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ؛ لأنَّ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطَّاعات.
وقيل : التراخي في الذكر.
قال المفسرون : معناه أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبته، أو أطعم في يوم ذي مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا، أي : صدقوا، فإنّ شرط قبول الطاعات الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بعد الإنفاق لا ينفع، قال تعالى في المنافقين :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله ﴾ [ التوبة : ٥٤ ].
وقيل :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ أي : فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة [ فيكون المعنى : ثم كان مع تلك الطاعات من الذين آمنوا ]٢، نظيره قوله تعالى :﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ].
وقيل : المعنى : ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى.
وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله - تعالى - ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : إن «ثُمَّ » بمعنى : الواو، أي : وكان هذا المعتق للرقبة، والمطعم في المسغبةِ، من الذين آمنوا.
قوله :﴿ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر ﴾، أي : أوصى بعضهم بعضاً على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب، ﴿ وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة ﴾، أي : بالرحمة على الخلق فإنَّهم إذا فعلوا ذلك، رحموا اليتيم والمسكين.
١ ينظر: الكشاف ٤/٧٥٧..
٢ سقط من: ب..
ثم إنه تعالى بينهم، فقال تعالى :﴿ أولئك أَصْحَابُ الميمنة ﴾، أي : الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، قاله محمد بن كعب القرظي١.
[ وقال يحيى بن سلام : لأنهم ميامين على أنفسهم٢.
وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن٣.
وقال ميمون بن مهران لأن منزلتهم عن اليمين ]٤.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٤٨)..
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا ﴾، أي : القرآن، ﴿ هُمْ أَصْحَابُ المشأمة ﴾ أي : يأخذون كتبهم بشمائلهم قاله محمد بن كعب، وقال يحيى بن سلام : لأنهم مشائيم على أنفسهم١.
وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر٢.
وقال ميمون : لأن منزلتهم على اليسار.
قال القرطبي٣ : ويجمع هذه الأقوال أن يقال : إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشئمة أصحاب النار.
١ ينظر المصدر السابق..
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر: المصدر السابق..
قوله :﴿ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ﴾، قرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وحفصٌ : بالهمزة.
والباقون١ : بلا همز.
فالقراءة الأولى : من «آصَدتُ الباب » أي : أغلقته، أوصده، فهو مؤصد، قيل : ويحتمل أن يكون من «أوْصدْتُ »، ولكنه همز الواو السَّاكنة لضمة ما قبلها، كما همز ﴿ بالسوق والأعناق ﴾ [ ص : ٣٣ ].
والقراءة الثانية - أيضاً - تحتمل المادتين، ويكون قد خفف الهمزة، لسكونها بعد ضمة.
وقد نقل الفرَّاء عن السوسي الذي قاعدته إبدال مثل هذه الهمزة، أنه لا يبدل هذه، وعللوا ذلك بالإلباس وأيقن أنه قرأ :«مؤصدة » بالواو من قاعدته تخفيف الهمزة.
والظاهر أن القراءتين من مادتين : الأولى من «آصَدَ، يُوصِدُ » ك «أكرم يكرم »، والثانية من «أوْصَدَ، يُوصِدُ » مثل «أوصل يوصل ».
وقال الشاعر :[ الطويل ]
٥٢١٧- تَحِنُّ إلى أجْبَالِ مكَّةَ نَاقتِي*** ومِنْ دُونهَا أبْوابُ صَنعاءُ مُؤصَدَهْ٢
أي : مغلقة ؛ وقال آخر :[ الكامل ]
٥٢١٨- قَوْمٌ يُعَالِجُ قُمَّلاً أبْناؤُهُمْ وسَلاسِلاً حِلقاً وبَاباً مُؤصدا٣
وكان أبو بكر راوي عاصم يكره الهمز في هذا الحرف، وقال : لنا إمام يهمز :«مؤصدة »، فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.
قال شهابُ الدِّين٤ : وكأنه لم يحفظ عن شيخه إلا ترك الهمزة مع حفظ حفص إياه عنه، وهو أضبط لحرفه من أبي بكر، على ما نقله الفراء، وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن، وأوثق عند أهل الحديث.
وقال القرطبيُّ٥ : وأهل اللغة يقولون : أوصدت الباب وآصدته، أي : أغلقته، فمن قال : أوصدت، فالاسم : الوصاد. ومن قال : آصدته، فالاسم : الإصاد.
قال الفراء : ويقال من هذا «الأصيد »، وهو الباب المطبق، ومعنى «مؤصدة » أي : مغلقة.
قوله تعالى :﴿ عَلَيْهِمْ نَارٌ ﴾، يجوز أن تكون جملة مستأنفة، وأن تكون خبراً ثانياً، وأن يكون الخبر وحده :«عَلَيْهِمْ »، و«نارٌ » : فاصل به، وهو الأحسن.
وقيل : معنى «عليهم نار »، أي : أحاطت النَّار بهم، كقوله تعالى :﴿ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]. والله أعلم.
١ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٤٨..
٢ ينظر القرطبي ٢٠/٤٨، والبحر ٨/٤٦٩، وفتح القدير ٥/٤٤٥، والدر المصون ٦/٥٢٦..
٣ ينظر البحر ٨/٤٧١، والدر المصون ٦/٥٢٦..
٤ الدر المصون ٦/٥٢٧..
٥ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٤٨..
Icon