تفسير سورة الأنبياء

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

السورة التي يذكر فيها الأنبياء
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
بسم الله اسم عزيز من توسّل إليه بطاعته تفضّل عليه بجميل نعمته إن أطاع فضّله، وإن أضاع أمهله، ثم إن آب وأقر.. ذكره، وإن عصى وعاب ستره، فإن تنصّل رحمه، وإن تكبر قصمه «١».
اسم عزيز ما استنارت الظواهر إلّا بآثار توفيقه، وما استضاءت السرائر إلا بأنوار تحقيقه بتوفيقه وصل العابدون إلى مجاهدتهم، وبتحقيقه وجد العارفون كمال مشاهدتهم، وبتمام مجاهدتهم وجدوا آجل مثوبتهم، وبدوام مشاهدتهم نالوا عاجل قربتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)
فالمطيعون منهم عظم لدينا ثوابهم، والعاصون منهم حقّ منّا عقابهم.
«فِي غَفْلَةٍ» يقال الغفلة على قسمين: غافل عن حسابه باستغراقه فى دنياه وهواه، وغافل عن حسابه لاستهلاكه فى مولاه فالغفلة الأولى سمة الهجر والغفلة الثانية صفة الوصل فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا من سكرة الموت، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبد لفنائهم فى وجود الحق تعالى «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢]
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)
(١) يمكن القول أن هناك نوعا من الترابط والانسجام بين إشارات البسملة- على هذا النحو- وبين جزئيات السورة، حيث انقسم الناس إزاء الأنبياء إلى مصدق ومكذب، ومؤمن وجاحد.. ونال كل جزاءه.
(٢) تهمنا هذه الإشارة عند دراسة المصطلح الصوفي فالغفلة نوعان: مذمومة ومحمودة غفلة ناشئة عن الهجر وغفلة ناشئة عن الوصل. [.....]
لم يجدد إليهم رسولا إلا ازدادوا نفورا، ولم ينزّل عليهم خطابا إلا ردّوه جحدا وتكذيبا، وما زدناهم فصلا إلا عدوّه هزلا، وما جددنا لهم نعمة إلا فعلوا ما استوجبوا نقمة، فكان الذي أكرمناهم به محنة بها بلوناهم.. وهذه صفة من أساء مع الله خلقه، وخسر عند الله حقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣]
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
عميت بصائرهم وغامت أفهامهم، فهم فى غباوة لا يستبصرون، وفى أكنة عمّا أقيم لهم من البرهان فهم لا يعلمون.
قوله: «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى... » لمّا عجزوا عن معارضته، وسقطوا عند التحدي، وظهرت عليهم حجّته رجّموا فيه الفكر، وقسّموا فيه الظن فمرة نسبوه إلى السحر، ومرة وصفوه بقول الشعر، ومرة رموه بالجنون وفنون من العيوب. وقبل ذلك كانوا يقولون عنه:
هو محمد الأمين، كما قيل:
أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
الأقاويل التي يسمعها الحقّ- سبحانه- مختلفة فمن خطاب بعضهم مع بعض، ومن بعضهم مع الحق. والذين يخاطبون الحقّ: فمن سائل يسأل الدنيا، ومن داع يطلب كرائم العقبي، ومن مثن يثنى على الله لا يقصد شيئا من الدنيا والعقبى.
ويقال يسمع أنين المذنبين سرا عن الخلق حذرا أن يفتضحوا، ويسمع مناجاة العابدين بنعت التسبيح إذا تهجدوا، ويسمع شكوى المحبين إذا مسّتهم البرحاء «١» فضجّوا من شدة الاشتياق.
(١) البرحاء: الشدة.
ويقال يسمع خطاب من يناجيه سرّا بسرّ، وكذلك تسبيح من يمدحه ويثنى عليه بلسان سرّه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
نوّعوا ما نسبوا إليه- بعد ما نزّلنا إليه الأمر- من حيث كانوا، ولم يشاهدوا هممه على الوصف الذي كانوا يصفونه به من صدق فى الحال والمقال، وكما قيل:
رمتنى بدائها وأنسلت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٦]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
أخبر أن الله تعالى أجرى سنّته أن يعذّب من كان المعلوم من شأنه أنه لا يؤمن لا فى الحال ولا فى المآل. وإنّ هؤلاء الذين كفروا فى عصر الرسول ﷺ أمثالهم فى الكفران، وقد حكم الحقّ لهم بالحرمان والخذلان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)
لمّا قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أخبر أنه لم يرسل إلى الناس رسولا فيما سبق من الأزمان الماضية والقرون الخالية إلا بشرا، وذكر أنّ الخصوصية لهم كانت بإرسال الله إياهم.
ثم قال: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» : الخطاب للكلّ والمراد منه الأمة، وأهل الذكر العلماء من أكابر هذه الأمة والذين آمنوا بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم.
ويقال هم أهل الفهم من الله أصحاب الإلهام الذين فى محل الإعلام من الحقّ- سبحانه- أو من يحسن الإفهام عن الحق.
ويقال العالم يرجع إلى الله فى المعاملات والعبادات، وإذا اشتكلت الواقعة فيخبر عن اجتهاده، وشرطه ألا يكون مقلدا، ويكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يخالف النصّ وأدى اجتهاده إلى شىء ولم يخالف أصلا مقطوعا بصحته وجب قبول فتواه، وأمّا الحكيم فإذا تكلم فى المعاملة فإنما يقبل منه إذا سبقت منه المنازلة لما يفتي به فإن لم تتقدم له من قبله المنازلة فتواه فى هذا الطريق كفتوى المقلّد فى مسائل الشرع.
فأمّا العارف فيجب أن يتكلم فى هذا الطريق عن وجده- إن كان- وإلا فلا تقبل فتواه، ولا تسمع «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨)
لمّا عيّروا الرسول- عليه السلام- بقولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟. أخبر أن أكل الطعام ليس بقادح فى المعنى الذي يختص به الأكابر، فلا منافاة بين أكل الطعام وما تكنّه القلوب والسرائر من وجوه التعريف.
ويقال النفوس لا خبر لها مما به القلوب، والقلب لا خبر له مما تتحقق به الروح وما فوق الروح وألطف منه وهو السرّ.
قوله: «وَما كانُوا خالِدِينَ» : أي إنهم على ممر ومعبر، ولا سبيل اليوم لمخلوق إلى الخلد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
الحقّ- سبحانه- يحقّق وعده وإن تباطأ بتحقيقه الوقت فيما أخبر أنه يكون.
والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدّين، وإرغام من نابذ الحقّ من الجاحدين، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة، وإيضاح وجه الدلالة، وبيان خطأ أهل الشبهة.
(١) فهم هذه الإشارة فى توصية الشيوخ إذا استفتاهم المريدون، كما فهم فى توضيح ما يمكن أن نسميه «أصول الفقه عند الصوفية».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
يريد بالكتاب القرآن، وقوله: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» : أي شرفكم ومحلّكم، فمن استبصر بما فيه من النور سعد فى دنياه وأخراه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١١]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١)
إنّ الله يمهل الظالم حينا لكنه يأخذه أخذ قهر وانتقام، وقد حكم الله بخراب مساكن الظالمين، وقد جاء الخبر: «لو كان الظلم بيتا فى الجنة لسلّط عليه الخراب» فإذا ظلم العبد نفسه حرّم الله أن يقطنها التوفيق وجعلها موطن الخذلان، فإذا ظلم قلبه بالغفلة سلّط عليه الخواطر الردية التي هى وساوس الشيطان ودواعى الفجور. وعلى هذا القياس فى القلة والكثرة إنّ الروح إذا خربت زايلتها الحقائق والمحابّ، واستولت عليها العلائق والمساكنات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٢]
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢)
لمّا ذاقوا وبال أفعالهم اضطربوا فى أحوالهم فلم ينفعهم ندمهم، ولم تعد إلى محالّها أقدامهم، وبعد ظهور الخيانة لا تقبل الأمانة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٣]
لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣)
وللخيانة سراية «١»، فإذا حصلت الخيانة لم تقف السراية، وإذا غرقت السفينة فليس بيد الملّاح إلا إظهار الأسف، وهيهات أن يجدى ذلك! قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٤]
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
(١) سرى الجرح او السوء سراية. أي دام الألم منهما حتى حدث الموت. ويقال سرى التحريم وسرى العتق أي تعدى إلى غير المحرم أو المعتق (الوسيط).
للإقرار زمان فإذا فات وقته فكما فى المثل: يسبق الفريص الحريص. ووضع القوس بعد إرسال السهم لا قيمة له.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٥]
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
إنّ من البلاء أن يشكو المرء فلا يسمع، ويبكى فلا ينفع، ويدنو فيقصى، ويمرض فلا يعاد، ويعتذر فلا يقبل.. وغاية البلاء التّلف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)
اللّعب نعت من زال عن حدّ الصواب، واستجلب بفعله الالتذاذ، وانجرّ فى حبل السّفه. وحقّ الحقّ متقدّس عن هذه الجملة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٧]
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧)
يخاطبهم على حسب أفهامهم وإلا.. فالذى لا يعتريه سهو لا يستفزّه لهو، والحقّ لا يعتريه ولا يضاهيه كفو.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٨]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
ندخل نهار التحقيق على ليالى الأوهام فينقشع سحاب الغيبة، وينجلى ضباب الأوهام، وتنير شمس اليقين، وتصحو سماء الحقائق عن كلّ غبار التّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٩]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)
الحادثات له سبحانه ملكا والكائنات له حكما، وتعالى الله عن أن يتجمل بوفاق أو ينقص بخلاف، وبالقدر ظهور الجميع، وعلى حسب الاختيار «١» تنصرف الكلمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٠]
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
المطيع المختار يسبّحه بالقول الصدق، والكلّ من المخلوقات تسبيحها بدلالة الخلقة، وبرهان البيّنة «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢١]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١)
تفرّد الحقّ بالإبداع والإيجاد، وتقدّس عن الأمثال «الأنداد، فالذين يعبدون من دونه أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ. وهم «٣» بالضرورة يعرفون.. أفلا يعتبرون وألا يزدجرون؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٢]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)
أخبر أنّ كلّ أمر يناط بجماعة لا يجرى على النظام إذ ينشأ بينهم النزاع والخلاف.
ولمّا كانت أمور العالم فى الترتيب منسّقة فقد دلّ ذلك على أنها حاصلة بتقدير مدبّر حكيم فالسماء فى علوّها تدور على النظام أفلاكها، وليس لها عمد لإمساكها، والأرض مستقرة بأقطارها على ترتيب تعاقيب ليلها ونهارها. والشمس والقمر والنجوم السائرة تدور فى بروج، ورقعة السماء تتسع من غير فروج.. ذلك لتقدير العزيز العليم علامة، وعلى وحدانيته دلالة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٣]
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)
لكون الخلق له، وهم يسألون للزوم حقه عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
(١) الاختيار هنا مقصود به الاختيار الإلهى.
(٢) عبر القشيري عن هذا المعنى فى موضع سابق حين ذكر ان كل الكائنات شاهدة على وحدانيته للناطق منها توحيد القالة، ولغير الناطق توحيد الدلالة.
(٣) الضمير (هم) يعود على من يعبدون من دون الله آلهة.
دلت الآية على فساد القول بالتقليد، ووجوب إقامة الحجة والدليل.
ودلّت الآية على توحيد المعبود، ودلّت الآية على إثبات الكسب للعبيد إذ لولاه لم يتوجه عليهم اللوم والعتب «١». وكلّ من علّق قلبه بمخلوق، أو توهّم من غير الله حصول شىء فقد دخل فى غمار هؤلاء لأنّ الإله من يصحّ منه الإيجاد.
قوله: «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» : الإشارة منه أن الدّين توحيد الحق، وإفراد الربّ على وصف التفرد ونعت الوحدانية.
ثم قال: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» إنما عدموا العلم لإعراضهم عن النظر، ولو وضعوا النظر موضعه لوجب لهم العلم لا محالة، والأمر يدل على وجوب النظر، وأنّ العلوم الدينية كلّها كسبية «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
التوحيد فى كل شريعة واحد، والتعبد- على من أرسل إليه الرسول- واجب، ولكنّ الأفعال للنسخ والتبديل معرّضة، أما التوحيد وطريق الوصول إليه فلا يجوز فى ذلك النسخ والتبديل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)
فى الآية رخصة فى ذكر أقاويل أهل الضلال والبدع على وجه الردّ عليهم، وكشف
(١) هذا راى على جانب خطير من الأهمية فى علم الكلام، وصدوره عن باحث صوفى يعرف أن المريد- على الحقيقة- من لا إرادة له يزيد فى أهمية الأمر.
(٢) فى هذا رد على من يتهمون الصوفية بإنكارهم للعلم.
عوراتهم، والتنبيه على مواضع خطاياهم، وأنّه إن وسوس الشيطان إلى أحد بشئ منه كان فى ذلك حجة للانفصال عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٧]
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)
أخبر أن الملائكة معصومون عن مخالفة أمره- سبحانه، وأنهم لا يقصّرون فى واجب عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٨]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)
علمه القديم- سبحانه- لا يختصّ بمعلوم دون معلوم، وإنما هو شامل لجميع المعلومات، فلا يعزب عن علم الله معلوم.
قوله: «لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» دلّ على أنهم يشفعون لقوم، وأنّ الله يتقبل شفاعتهم «١».
قوله: «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» : ليس لهم ذنب ثم هم خائفون ففى الآية دليل على أنه سبحانه يعذبهم وأن ذلك جائز، فإذا لم يجز أن يعذّب البريء لكانوا لا يخافونه لعلمهم أنهم لم يرتكبوا زلة «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٩]
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
أخبر أنهم معرضون عن الزّلّة بكلّ وجه. ثم قال: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ»
(١) أي أن القشيري يؤمن بالشفاعة- على عكس بعض فرق المتكلمين الذين ينكرونها.
(٢) هذا رأى آخر له أهميته من الوجهة الكلامية، حيث يرى المعتزلة- وقد سموا أنفسهم أهل العدل- أن الله لا يعذب البريء.
وقد علم أنهم لا يقولون ذلك، ولكن علم لو كان ذلك كيف كان يكون حكمه، فالحق- سبحانه- يعلم ما لا يكون كيف كان يكون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٠]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
داخلتهم الشبهة فى إعادة الخلق والقيامة والنّشر، فأقام الله الحجة عليهم بأن قال:
أليسوا قد علموا أنه خلق السماوات والأرض سمك السماء وبسط الأرض. فإذا قدر على ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة بعد الإبادة؟
قوله جل ذكره: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ كلّ شىء مخلوق حىّ فمن الماء خلقه، فإنّ أصل الحيوان الذي حصل بالتناسل النطفة، وهى من جملة الماء.
وحياة النفوس بماء السماء من حيث الغذاء، وحياة القلوب بماء الرحمة، وحياة الأسرار بماء التعظيم. وأقوام حياتهم بماء الحياء.. وعزيز هم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣١]
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)
الأولياء هم الرواسي فى الأرض وبهم «١» يرزقون، وبهم يدفع عنهم البلاء، وبهم يوفى عليهم العطاء. وكما أنه لولا الجبال الرواسي لم تكن للأرض أوتاد.. فكذلك الشيوخ الذين هم أوتاد الأرض (فلولاهم) لنزلت بهم الشدة.
وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ كما أن فى الأرض سبلا يسلكونها ليصلوا إلى مقاصدهم كذلك جعل السبل إليه
(١) الضمير فى (بهم) يعود على الخلق، ولم يكن القشيري بحاجة إلى ذكر (الخلق) هنا لكثرة ما أعاد فى هذا الموضوع من قبل.
مسلوكة بما بيّن على ألسنتهم من هداية المريدين، وقيادة السالكين، كما يسّر بهداهم الاقتداء بهم فى سيرهم إلى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٢]
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢)
فى ظاهر الكون السماء منيرة، والأرض مسكونة.. كذلك للنفوس أراض هى مساكن الطاعات، وفى سماء القلوب نجوم العقل وأقمار العلم وشموس التوحيد والعرفان. وكما جعلت النجوم رجوما للشياطين جعل من المعارف رجوما للشياطين. وكما أن الناس عن آياتها معرضون لا يتفكرون فالعوام عن آيات القلوب مما فيها من الأنوار غافلون، لا يكاد يعرفها إلا الخواص قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
كما أن الحق- سبحانه- فى الظاهر يكوّر الليل على النهار، ويكور النهار على الليل فكذلك يدخل فى نهار البسط ليل القبض. والبسط فى الزيادة والنقصان. فكما أنّ الشمس أبدا فى برجها لا تزيد ولا تنقص، والقمر مرة فى المحاق، ومرة فى الإشراق.. فصاحب التوحيد بنعت التمكين- يرتقى عن حدّ تأمّل البرهان إلى روح البيان، ثم هو متحقق بما هو كالعيان. وصاحب العلم مرة يردّ إلى نجديد نظره وتذكّره، ومرة يغشاه غير فى حال غفلته فهو صاحب تلوين «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٤]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)
إنك فى هذه الدنيا عابر سبيل، لكننا لم نتركك فردا فى الدنيا، ولذلك قال عليه السلام لصاحبه فى الغار: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!».
(١) فأهل التمكين كالشمس فى ثباتها، وأهل التلوين كالقمر في تدرجه وتغير أحواله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
الموت به آفة قوم، وفيه راحة قوم لقوم انتهاء مدة الاشتياق، ولآخرين افتتاح باب الفراق، لقوم وقوع فتنتهم ولآخرين خلاص من محنتهم، لقوم بلاء وقيامة ولآخرين شفاء وسلامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٦]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦)
لو شهدوا بما هو به من أوصاف التخصيص وما رقّاه إليه من المنزلة لظلوا له خاضعين، ولكنهم حجبوا عن معانيه وسريرته، وعاينوا منه جسمه وصورته.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٧]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)
العجلة مذمومة والمسارعة محمودة فالمسارعة البدار إلى الشيء فى أول وقته، والعجلة استقباله قبل وقته، والعجلة نتيجة وسوسة الشيطان، والمسارعة قضية التوفيق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٨]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
اعتادوا تكذيب الأنبياء عليهم السلام فيما وعدوهم، فاستعجلوا حصول ما توعدوهم به.
ولو علموا ما ينالهم لكان السكون منهم، فالفزع يدلّ على استعجالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٩]
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩)
... لأمسكوا اليوم عن الانخراط فى عذاب «١» الظنون، والاغترار بمواعيد الشيطان.
(١) ضبطناها (عذاب) بكسر العين لتكون جمع (عذب) فقد غرهم ما هيأت لهم الظنون فاستعذبوها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٠]
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)
العقوبة إذا أتت فجأة كانت أنكى وأشد. وسنّة الله فى الانتقام أن يثير ريح البغتة فى حال الانغماس فى النّعمة والمنّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
تسلية له، وتعريف بوشك الانتصار على الذين كانوا يؤذونه من أعداء الذين أي عن قريب ستجدون وبال ما استوجبوه من العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٢]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)
تقرير عليهم بأن ليس بتداخل المخلوقين نجاتهم، وقد جرّبوا ذلك فى أحوال محنتهم، فكيف لا يتبرءون ممن ليس لهم شىء، ومما ليس منه نفع ولا ضرّ؟ وفى ذلك تنبيه للمؤمنين بأن مآربهم إلى الخيرات من نوعى النفع والدفع من الله عز وجل، فالواجب دوام اعتكافهم بقلوبهم بعقوة كرمه وجوده.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٣]
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣)
.. بسط القول وكرره فى تعريفهم استحالة حصول الضر والنفع من الجمادات وأصنامهم التي عبدوها من تلك الجملة، ولم يرد منهم- على تكرار هذه الألفاظ- إلّا عجز وانقطاع قول.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٤]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
طول الإمتاع إذا لم يكن مقرونا بالتوفيق، مشفوعا بالعصمة كان مكرا واستدراجا،
وزيادة فى العقوبة. والحقّ كما يعاقب بالآلام والأهوال يعاقب بالإملاء والإمهال.
وقال: أفلا يرون أنا نأتى الأرض... » تتوالى القسوة حتى لا يبقى أثر للصفوة فيتعاقب الخذلان حتى يتواتر العصيان، ويتأدى ذلك إلى الحرمان الذي فيه ذهاب الايمان.
ويقال تنقص بذهاب الأكابر ويبقى الأراذل ويتعرض الأفاضل. وفى هذا أيضا إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين وتطاول العمر، فإن آخر الأمر كما قيل] :«١»
آخر الأمر ما ترى... القبر واللّحد والثرى
وكما قيل:
طوى العصران «٢» ما نشراه منى... وأبلى جدتى نشر وطيّ
أرانى كلّ يوم فى انتقاص... ولا يبقى- مع النقصان- شىّ
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٥]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥)
أي بأمر الله أعلمكم بموضع المخافة، ويوحى إلىّ فى بابكم أن أخوّفكم بأليم عقابه، ولكنّ الذي عدم سمع التوفيق.. أنى ينفعه تكرار الأمر بالقبول عليه؟! قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٦]
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)
أي إنهم لا يصبرون على أقلّ شىء من العقوبة وإنّ الحقّ إذا شاء أن يؤلم أحدا فلا يحتاج إلى مدد وعون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٧]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
(١) هنا نهاية الجزء الذي أخطأ الناسخ في نقله من أواخر «طه» وأوائل «الأنبياء» إلى مكان آخر من «الفرقان». [.....]
(٢) العصران: الغداة والعشى، أو الليل والنهار.
توزن الأعمال بميزان الإخلاص فما ليس فيه إخلاص لا يقبل، وتوزن الأحوال بميزان الصدق فما يكون فيه الإعجاب لا يقبل، وتوزن الأنفاس بميزان (... ) «١» فما فيه حظوظ ومساكنات لا يقبل.
ويقال ينتصف المظلوم من الظالم، وينتقم الضعيف من القوى.
ويقال ما كان لغير الله لا يصلح للقبول.
ويقال يكافئ كلا بما يليق بعمله فمن لم يرحم عباده فى دنياه لا يرحمه الله، ومن لم يحسن إلى عباده تقاصر عنه إحسانه، ومن ظلم غيره كوفئ بما يليق بسوء فعله.
قوله: «فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» : أي يجازى المظلومين وينتقم من الظالمين، وينصف المظلوم من مثقال الذرة ومقياس الحبّة، وإن عمل خيرا بذلك المقدار فسيلقى جزاءه، ويجد عوضه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)
ما آتاه الحق سبحانه للأنبياء عليهم السلام من الضياء والنّور، والحجّة والبرهان يشاركهم المستجيبون من أممهم فى الاستبصار به...
فكذلك الأكابر من هذه الأمة يشاركون نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى الاستبصار بنور اليقين.
و «المتّقى» هو المجانب لما يشغله ويحجبه عن الله، فيتقى أسباب الحجاب وموجباتها.
(١) نرى انه قد حدث سقوط للفظة فى هذا المكان، ولا بد انها بمعنى الخلوص لله والتجرد من كل العلائق، وربما كانت أيضا (الحقوق) أي حقوق الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٩]
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩)
صار لهم فى استحقاق هذه البصائر والخشية بالغيب إطراق السريرة، وفى أوان الحضور استشعار الوجل من جريان سوء الأدب، والحذر من أن يبدو من الغيب من خفايا التقدير ما يوجب حجبة العبد.
والإشفاق من الساعة على ضربين: خوف قيام الساعة الموعودة للعامة، وخوف قيام الساعة التي هى قيامة هؤلاء القوم «١» فإنّ ما يستأهل الكافة فى الحشر معجّل لهم فى الوقت من تقريب ومن تبعيد، ومن محو ومن إثبات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥٠]
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
وصف القرآن بأنه «مُبارَكٌ»، وهو إخبار عن دوامه «٢»، من قولهم: برك الطائر على الماء أي دام.
وإنّ هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما لا ابتداء له- وهو كلامه القديم- فلا انتهاء للكتاب الدالّ عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥١]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١)
أراد به ما تعرّف إليه من الهداية حتى لم يقل بما يجوز عليه الزوال والأفول «٣»، لولا أنّه خصّه فى الابتداء بالتعريف.. وإلّا متى اهتدى إلى التمييز بينه وبين خلقه لولا ما أضاء. «٤»
عليه من أنوار التوحيد قبلما حصل منه من النظر فى المخلوق؟
ويقال هو ما كاشف به روحه قبل إبداعها من تجلّى الحقيقة.
(١) اى أرباب الأحوال
(٢) وردت (بيانه) وآثرنا- طبقا للسياق- أن نجمعها (دوامه)
(٣) إشارة إلى أن إبراهيم لما رأى أفول الشمس والقمر والنجم قال: «إنى لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ».
(٤) (أضاء) مقبولة فى السياق ولكننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (أفاء) أي (أنعم).
قوله جل ذكره
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥٢]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢)
خاطب قومه وأباه «١» ببيان التنبيه طمعا فى استفاقتهم من سكرة الغفلة، ورجوعهم من ظلمة «٢» الغلظة، وخروجهم من ضيق الشّبهة.
ثم سأل الله إعانتهم بطلب الهداية لهم. فلمّا تبيّن له أنهم لا يؤمنون، وعلى كفرهم يصرّون تبرّأ منهم أجمعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
ما استروحوا فى الجواب إلا إلى التقليد، فكان من جوابه الحكم بالتسوية بينهم وبين آبائهم فى الضلال، والحجة المتوجهة على سلفهم لزموها وتوجهت عليهم، فلم يرضوا منه بتخطئة آبائهم حتى قالوا: «أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟» فطالبوه بالبرهان إلى ما دعاهم إليه من الإيمان فقال:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠)
فأحالهم على النظر والاستدلال والتعرّف «٣» من حيث أدلة العقول «٤» لأنّ إثبات الصانع
(١) وردت (وأتاه) والصواب أن تكون (أباه) كما فى الآية.
(٢) وردت فى (ظلمة) وفى م (ظل) والصواب أن تكون (ظلمة) فالقشيرى يستعمل الظل للعناية وما فى معناها.
(٣) فى ص (والتعريف) وفى م (التعرف) ونحن نرجح هذه.
(٤) فى ص (القبول) ونحن نرجح (العقول) لتلاؤمها مع السياق.
لا يعرف بالمعجزات، وإنما المعجزات علم بصدق الأنبياء عليهم السلام، وذلك فرع لمعرفة الصانع.
ثم بيّن لهم أنّ ما عبدوه من دون الله لا يستحق العبادة، ثم إنه لم يحفل بما يصيبه من البلاء ثقة منه بأنّ الله هو المتفرّد بالإبداع، فلا أحد يملك له «١» ضرا من دون الله، فتساءلوا فيما بينهم وقالوا:
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي يذكرهم بالسوء. ويحتمل أن يكون من فعله.. فاسألوه، فسألوه «٢» فقال: بل فعله كبيرهم.
فقالوا كيف ندرك الذنب عليه؟ وكيف تحيلنا فى السؤال عليه- وهو جماد؟
فقال: وكيف تستجيزون عبادة ما هو جماد لا يدفع عن نفسه السوء؟! قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٦٥]
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
فقال: شرّ وأمرّ «٣».. كيف تستحق أمثال هذه.. العبادة؟! فلمّا توجّهت الحجة عليهم ولم يكن لهم جواب داخلتهم الأنفة والحمية فقالوا: سبيلنا أن نقتله شرّ قتلة، وأن نعامله بما يخوفنا به من النار. فقالوا: «ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ»، فلما رموه فى النار:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٦٩]
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩)
(١) الضمير فى (فسألوه) يعود على ابراهيم عليه السلام.
(٢) أي أن فى الكلام كما يقول البلاغيون- إيجاز حذف.
(٣) أي هذا عذر أقبح من الذنب.
لو عصمه من نار «١» نمرود ولم يمكنه من رميه فى النار من المنجنيق لكان- فى الظاهر- أقرب من النصر، ولكنّ حفظه فى النار من غير أنّ يمسّه ألم أتمّ فى باب النصرة والمعجزة والكرامة.
ويقال إن ابراهيم- عليه السلام- كان كثيرا ما يقول: أواه من النار! قال تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «٢» فلمّا رمى فى النار، وجعل الله عليه النار بردا قيل له: لا تقل بعد هذا. أواه من النار! فالاستعاذة بالله من الله.. لا من غيره.
قوله: «وَسَلاماً» : أي وسلامة عليه وله، فإنه إذا كان للعبد السلامة فالنار والبرد عنده سيان.
ويقال إن الذي يحرق فى النار من فى النار يقدر على حفظه فى النار.
ولمّا سلم قلبه من غير الله بكل وجه فى الاستنصار «٣» والاستعانة وسلم من طلب شىء بكلّ وجه.. تعرّض له جبريل- عليه السلام- فى الهواء وقد رمى من المنجنيق وقال له:
هل من حاجة؟
فقال: أمّا إليك.. فلا! فجعل الله النار عليه بردا وسلاما إذ لمّا كان سليم القلب من الأغيار وجد سلامة النّفس من البلايا والأعلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٠]
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
من حفر لأوليائه وقع فيما حفر، ومن كان مشغولا بالله لم يتولّ الانتقام منه سوى الله.
(١) فى م (يد) نمرود وكلاهما مقبول فى السياق. [.....]
(٢) آية ١١٤ سورة التوبة.
(٣) هكذا فى من وهى أصح من (الاستبصار) فى ص لانسجام (الاستنصار) مع (الاستعانة).
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧١]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١)
مضت سنّة الله فى أنبيائه- عليهم السلام- أنه إذا نجّى منهم واحدا أشرك معه من كان مساهما له فى ضرّه ومقاساة مشقته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٢]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
منّ عليه بأن أخرج من صلبه من كان عابدا لله، ذاكرا له، فإنّ مفاخر الأبناء مناقب للآباء، كما أنّ مناقب الآباء شرف للأبناء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٣]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
الإمام مقدّم القوم، واستحقاق رتبة الإمامة باستجماع الخصال المحمودة التي فى الأمة فيه، فمن لم تتجمع فيه متفرّقات الخصال المحمودة لم يستحق منزلة الإمامة.
قوله جل ذكره
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٤]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤)
أكمل له الأنعام بعصمته من مثل ما امتحن به قومه، ثم بخلاصه منهم بإخراجه إيّاه من بينهم، فميزه عنهم ظاهرا وباطنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٥]
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
بيّن أنه أدخله فى رحمته ثم قال: «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» فلا محالة من أدخله فى رحمته كان صالحا.
وقوله: «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» إخبار عن عين الجمع، وقوله: «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» :
إخبار عن عين الفرق «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
كان نوح- عليه السلام- أطولهم عمرا، وأكثرهم بلاء. ففى القصة أنه كان يضرب سبعين مرة، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قول هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح- عليه السلام- يصبر على مقاساة الأذى، ويدعوهم إلى الله، فلمّا أيس من إيمانهم، وأوحى إليه: «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» «٢» دعا عليهم فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» «٣» فقال تعالى: «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ....» فأزهق الشّرك وأغرق أهله.
سورة الكهف...
سورة مريم...
سوره طه...
قوله جل ذكره
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩)
أشركهم فى حكم النبوة وإن كان بين درجتيهما تفاوت.. ففى مسألة واحدة أثبت لسليمان- عليه السلام- بها خصوصية إذ منّ عليه بقوله: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» ولم بمن عليه بشىء من الملك الذي أعطاه بمثل ما منّ عليه بذلك، وفى هذه المسألة دلالة على تصويب المجتهدين- وإن اختلفوا- إذا كان اختلافهم فى فروع الدّين حيث قال: «وَكُلًّا آتَيْنا
(١) لأن الرحمة من صفات ذاته- سبحانه، وصلاح العبد فيه شىء من كسب العبد.
(٢) آية ٣٦ سورة هود.
(٣) آية ٢٦ سورة نوح.
حُكْماً وَعِلْماً» ولمن قال بتصويب أحدهما وتخطئة الآخر فله تعلّق بقوله: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» «١» قوله جل ذكره: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ أمر الجبال وسخّرها لتساعد داود- عليه السلام- فى التسبيح، ففى الأثر: كان داود- عليه السلام- يمرّ وصفاح «٢» الجبال تجاويه، وكذلك الطيور كانت تساعده عند تأويبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٠]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠)
سخّر الله- سبحانه- لداود الحديد وألانه فى يده، فكان ينسج الدروع، قال تعالى:
«وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» ليتحصن من السهام فى الحروب، قال تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» وأحكم الصنعة وأوثق المسامير.. ولكن لما قصدته سهام التقدير ما أصابت إلا حدقته حين نظر إلى امرأة أوريا- من غير قصد- فكان ما كان.
ولقد خلا ذلك اليوم، وأغلق على نفسه باب البيت، وأخذ يصلى ساعة، ويقرأ التوراة مرة، والزبور أخرى، حتى يمضى وينتهى ذلك اليوم بالسلامة. وكان قد أوحى إليه أنّه يوم فتنة، فأمر الحجّاب والبواب ألا يؤذن عليه أحد، فوقع من كوّة البيت طير لم ير مثله
(١) هذا رأى القشيري فى (الاجتهاد) ومداه، ويجدر الاهتمام به إذا شئنا أن نبحث فى «أصول الفقه عند الصوفية».
(٢) صفاح جمع صفح، وصفح الشيء عرضه (مقاييس اللغة ج ٣ ص ٢٩٣).
ويقول القرطبي (قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا، والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير) ويضيف القرطبي شيئا هاما بالنسبة للتفسير الصوفي: (كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى بشتاتى، ولهذا قال: «وَسَخَّرْنا» أي جعلناها بحيث تطيعه).
«الجامع لأحكام القرآن ج ١١ ص ٣١٩» وبهذه المناسبة نود أن نستدرك شيئا لم نشر إليه فى مدخل الكتاب، وهو أن القرطبي كثيرا ما يستفيد من آراء الصوفية، وبصفة خاصة من القشيري، وهو في معظم الأحيان عبد الرحمن القشيري أحد أبناء المصنف.
فى الحسن، فهمّ أن يأخذه، فتباعد ولم يطر كالمطمع له فى أخذه، فلم يزل يستأخر قليلا قليلا حتى طار من كوّة البيت، فتبعه داود ينظر إليه من الكوة من ورائه، فوقع بصره على امرأة أوريا، وكانت قد تجرّدت من ثيابها تغتسل فى بستان خلف البيت الذي به داود، فحصل فى قلبه ما حصل، وأصاب سهم التقدير حدقته، ولم تنفعه صنعة اللّبوس التي كان تعلّمها لتحّصنه من بأسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨١]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١)
سخّر الله له الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، ولو أراد أن يزيد فى قدر مسافتها شبرا لما استطاع، تعريفا بأنه موقوف على حكم التقدير، فشهود التقدير كان يمنعه عن الإعجاب بما أكرم به من التسخير، ولقد نبّه- سبحانه- من حيث الإشارة أن الذي ملكه سليمان كالريح إذا مرّ وفات، أو أنه لا يبقى باليد منه شىء «١».
وفى القصة أنه لا حظ ذلك يوما فمالت الريح ببساطه قليلا، فقال سليمان للريح: استو.
فقالت له الريح: استو أنت. أي إنما ميلى ببساطك لميلك بقلبك بملاحظتك فإذا استويت أنت استويت أنا «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٢]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
إنما كان ذلك أياما قلائل فى الحقيقة. ثم إنه أراد يوما أن يعود إلى مكانه فجاءه ملك الموت فطالبه بروحه، فقال: إلىّ حين أرجع إلى مكانى.
فقال له: ولا وجه للتأخير، وقبضه وهو قائم يتكئ على عصاه وبقي بحالته، ولم تعلم الجنّ،
(١) فهو كما قيل: باطل وقبض الريح.
(٢) فى ذلك إشارة إلى أصحاب الأحوال بأنه إذا تغيرت أو تعذرت الأمور فالسبب كامن فى نفوسهم.
إلى أن أكلت دابة الأرض- كما فى القصة- عصاه، فلما خرّ سليمان علمت الشياطين بموته، وتحققوا أنّ الذي بالعصا قيامه فقهر الموت يلحقه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
أي واذكر أيوب «١» حين نادى ربّه. وسمّى أيوب لكثرة إيابه إلى الله فى جميع أحواله فى السرّاء والضرّاء، والشّدّة والرّخاء.
ولم يقل: ارحمني، بل حفظ أدب الخطاب فقال: «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
ومن علامات الولاية أن يكون العبد محفوظا عليه وقته في أوان البلاء.
ويقال إخباره عنه أنه قال: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ» لم يسلبه اسم الصبر حيث أخبر عنه سبحانه بقوله: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً» لأنّ الغالب كان من أحواله الصبر، فنادر قالته لم يسلب عنه الغالب من حالته. والإشارة من هذا إلى أنّ الغالب من حال المؤمن المعرفة، أو الإيمان بالله فهو الذي يستغرق جميع أوقاته، ولا يخلو منه لحظة ونادر زلّاته- مع دائم إيمانه- لا يزاحم الوصف الغالب.
ويقال لمّا لم يكن قوله: مسنى الضرّ على وجه الاعتراض على التقدير- بل كان على وجه إظهار العجز- فلم يكن ذلك منافى الصفة الصبر.
ويقال استخرج منه هذا القول ليكون فيه متنفّس للضعفاء فى هذه الأمة حتى إذا ضجّوا فى حال البلاء لم يكن ذلك منافى الصفة الصبر.
ويقال لم يكن هذا القول منه على جهة الشكوى، وإنما كان من حيث الشكر «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ» الذي تخصّ به أولياءك، ولولا أنك أرحم الراحمين لما خصصتنى بهذا، ولكن برحمتك أهّلتنى لهذا.
(١) فى تقدير با أن ما كتبه القشيري فى هذا الموضع عن أيوب عليه السلام من أجمل ما كتب فى هذا الموضوع سواء من الناحية الأدبية أو من الناحية الإشارى ة.
514
ويقال لم يكن هذا القول من أيوب ولكنه استغاثة البلاء منه، فلم يطق البلاء صحبته فضجّ منه البلاء لا أيوب ضجّ من البلاء.. وفى معناه أنشدوا.
صابر الصبر فاستغاث به الصبر فصاح المحبّ بالصبر صبرا
ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة، ومعناه: أيمسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين؟ كما قال «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ» «١» أي أتلك نعمة تمنها علىّ أن عبدت بنى إسرائيل؟
ويقال إن جبريل- عليه السلام- أتى أيوب فقال: لم تسكت؟ فقال: ماذا أصنع؟
فقال: إنّ الله سببان عنده بلاؤك وشفاؤك... فاسأل الله العافية فقال أيوب: إنى مسنى الضّر، فقال تعالى: «فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ» والفاء تقتضى التعقيب، فكأنه قال:
فعافيناه فى الوقت. وكأنه قال: يا أيوب، لو طلبت العافية قبل هذا لاستجبنا لك.
ويقال سقطت دودة كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوب ووضعها على موضعها، فعقرته عقرة عيل صبره فقال: مسنى الضر، فقيل له: يا أيوب: أتصبر معنا؟
لولا أنى ضربت تحت كل شعرة من شعراتك كذاخيمة من الصبر.. ما صبرت ساعة! ويقال كانت الدودات التي تأكل منه أكلت ما علا بدنه، فلم يبق منه إلا لسانه وقلبه، فصعدت دودة إلى لسانه، وأخرى إلى قلبه فقال:
«مَسَّنِيَ الضُّرُّ»... فلم يبق لى إلا لسان به أذكرك، أو قلب به أعرفك، وإذ لم يبق لى ذلك فلا يمكننى أن أعيش وأصبر! ويقال استعجمت عليه جهة البلاء فلم يعلم أنه يصيبه بذلك تطهيرا أو تأديبا أو تعذيبا أو تقريبا أو تخصيصا أو تمحيصا... وكذلك كانت صحبته «٢».
ويقال قيل لأيوب عليه السلام سل العافية فقال:
عشت فى النّعم سبعين سنة فحتى يأتى علىّ سبعون سنة فى البلاء.. وعندئذ أسأل الله العافية!
(١) آية ٢٢ سورة الشعراء.
(٢) أي وهكذا كانت صحبة الحق لوليه دائما.
515
وقيل لمّا كشف الله عنه البلاء قيل له: ما أشدّ مالقيت فى أيام البلاء؟ فقال شماتة الأعداء:
وفى القصة أن تلامذة أيوب كسروا أقلامهم، وحرّقوا ما كتبوه عنه وقالوا: لو كان لك عند الله منزلة لما ابتلاك بكل هذا البلاء! وقيل لم يبق معه إلا زوجه، وكانت من أولاد يوسف النبي عليه السلام، فهى التي بقيت معه وكانت تخدمه وتتعهده.
ويقال إنما بقيت تلك المرأة معه لأنها كانت من أهل البلاء من آل يعقوب- عليه السلام.
وقيل إنما قال: مسنى الضرّ لمّا قال لها الشيطان: إنّ أردت أن يشفى مريضك فاسجدى لى، ولم تعلم أنه إبليس لأنه ظهر لها فى صورة إنسان، فأخبرت أيوب بذلك فقال عندئذ:
«مَسَّنِيَ الضُّرُّ».
ويقال لمّا ظهر به البلاء اجتمع قومه وقالوا لها: أخرجى هذا المريض من قريتنا، فإننا نخاف العدوى وأن يمسنّا بلاؤه، وأن نعدى إلينا علّته، فأخرجته إلى باب القرية فقالوا:
إنا إذا أصبحنا وقعت أبصارنا عليه، فنتشاءم به، فأبعديه عن أبصارنا، فحملته إلى أرض قفر، وكانت تدخل البلد، وتستأجر للخبز والعمل فى الدور، فتأخذ الأجرة وتحملها إليه، فلما علموا أنّها امرأته استقذروها ولم يستعملوها.
ويقال إنها كانت ذات ذوائب وقرون، وكان أيوب يأخذ بذوائبها عند نهوضه، فباعت ذوائبها برغيف أخذته لتحمله إليه، فوسوس له الشيطان بأنها فعلت الفحشاء، وأن شعرها جزّ فى ذلك فحلف أيوب أن يجلدها إذا صحّ حدسه، وكانت المحنة على قلب تلك المرأة أشدّ مما على بدن أيوب من كل المحن.
وقيل إن امرأته غابت ودخلت البلد، فعافى الله أيوب عليه السلام، وعاد شابا طريا كما قال فى قصته قوله: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» «١». فلما رجعت
(١) آية ٤٢ سورة ص
516
امرأته ولم تره حسبت أنه أكله سبع أو أصابته آفة، فأخذت تبكى وتولول، فقال لها أيوب- وهى لم تعرفه لأنه عاد صحيحا- مالك يا امرأة؟
قالت: كان لى هاهنا مريض ففقدته. فقال لها أيوب: أنا ذاك الذي تطلبينه! وفى بعض الأخبار المروية أنه بقي فى بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.
وقيل تعرّض له إبليس فقال: إن أردت العافية فاسجد لى سجدة، فقال:
«مَسَّنِيَ الضُّرُّ».
ويقال إن أيوب- عليه السلام- كان مكاشفا بالحقيقة، مأخوذا عنه، فكان لا يحسّ بالبلاء، فستر عليه مرة، وردّه إليه، فقال: مسّني الضّرّ «١».
ويقال أدخل على أيوب تلك الحالة، واستخرج منه هذه القالة ليظهر عليه إقامة العبودية.
ويقال أوحى الله إلى أيوب- عليه السلام- أنّ هذا البلاء اختاره سبعون نبيا قبلك فما اخترته إلا لك، فلمّا أراد كشفه عنه قال: مسنّي الضرّ! وقيل كوشف بمعنيّ من المعاني فلم يجد ألم البلاء فقال: مسّنى الصرّ لفقدى ألم الضّرّ.
وقال جعفر الصادق: حبس عنه الوحى أربعين يوما فقال: مسنى الضرّ لما لحقه من الضعف بقيام الطاعة فاستجاب إليه بأن ردّ عليه قوّته ليقوم بحقّ الطاعة.
ويقال طلب الزيادة فى الرضا فاستجيب له بكشف ما كان به من ضعف الرضا.
ويقال إن الضرّ الذي شكا منه أنه بقيت عليه بقية، وبليته كانت ببقيته، فلمّا أخذ عنه بالكلية زال البلاء، ولهذا قال «فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ» وكانت نفسه ضرّه، وردّ عليه السلامة والعافية والأمل- فى الظاهر- لمّا ضار مأخوذا بالكلية عنه، منقّى عن كل بقية، وعند ذلك يستوى البلاء والعافية، والوجود والفقد.
(١) أي ان العبد الواله لا يحس بنفسه وهو فى حال الجمع، ويحس بها وهو فى حال الغرق. وقد حكى القشيري فى الرسالة أن بعضهم قطعت رجله حيث كانت بها غر غرينة فلم يشعر، بينما آلت بعضهم قملة..
وهو في حال الفرق. [.....]
517
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٥]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)
أي واذكر هؤلاء الأنبياء ثم قال: «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ»، ثم قال:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٦]
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
بيّن الحكم والمعنى الحكم صبرهم وصلاحهم، والمعنى إدخاله إياهم فى الرحمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٧]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
«مُغاضِباً» : على ملك وقته حيث اختاره للنبوة، وسأله: لم اخترتني؟ فقال: لقد أوحى الله إلى نبيّى: أن قل لفلان الملك حتى يختار واحدا ليرسل إلى نينوى بالرسالة.
فثقل على ذى النون لما اختاره الملك لأنه علم أن النبوة مقرونة بالبلاء، فكان غضبه عليه لذلك «١».
ويقال مغاضبا على قومه لمّا امتنعوا عن الإيمان وخرج من بينهم.
ويقال مغاضبا على نفسه أي شديد المخالفة لهواه، وشديدا على أعداء الدين من مخالفيه.
«فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أي أن لن نضيّق عليه «٢» بطن الحوت، من قوله:
«وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» «٣» أي ضيّق.
(١) عن ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك حزقيا أن يبعثا يونس إلى ملك نينوى الذي كان قد غزا بنى إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بنى إسرائيل وكان الأنبياء فى ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة الى ملك قد اختاروه، فيعمل على وحي ذلك النبي، وقد أوحى لشعيا: ان قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا من بنى إسرائيل إلى أهل نينوى.. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجى؟
قال: لا، قال: فهاهنا أنبياء أمناء أقوياء، فألحوا عليه.. فخرج مغاضبا للنبى والملك وقومه، حتى أنى بحر الروم.. وكان من قصته ما كان، وابتلى ببطن الحوت لتركه أمر شعبا.. قال تعالى «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ»
(٢) (ان لن نضيق عليه) مفقودة فى ص وموجودة فى م والسياق يقتضى وجودها.
(٣) آية ١٦ سورة الفجر
518
ويقال فظنّ أن لن نقدر عليه من حبسه فى بطن الحوت.
وخرج من بين قومه لمّا أخبر بأنّ الله يعذّب قومه، وخرج بأهله.
ويقال إن السبع افترس أهله فى الطريق، وأخذ النّمر ابنا صغيرا له كان معه، وجاء موج البحر فأغرق ابنه الآخر، وركب السفينة، واضطرب البحر، وتلاطمت أمواجه، وأشرفت السفينة على الغرق، وأخذ الناس فى إلقاء الأمتعة فى البحر تخفيفا عن السفينة، وطلبا لسلامتها من الغرق، فقال لهم يونس: لا تلقوا أمتعتكم فى البحر بل اطرحوني فيه فأنا المجرم فيما بينكم لتخلصوا. فنظروا إليه وقالوا: نرى عليك سيماء الصلاح، وليست تسمح نفوسنا بإلقائك فى البحر، فقال تعالى مخبرا عنه: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
«١» أي فقارعهم، فاستهموا، فوقعت القرعة عليه.
وفى القصة أنه أتى حرف السفينة، وكان الحوت فاغزا فاه، فجاء إلى الجانب الآخر فجاء الحوت إليه كذلك، حتى جاز كل جانب. ثم لمّا علم أنه مراد بالبلاء ألقى نفسه فى الماء فابتلعه الحوت «وَهُوَ مُلِيمٌ» : أي أتى بما يلام عليه، قال تعالى: «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» «٢».
وأوحى الله إلى السمك: لا تخدش منه لحما ولا تكسر منه عظما، فهو وديعة عندك وليس بطعمة لك. فبقى فى بطنه- كما فى القصة- أربعين يوما.
وقيل إن السمك الذي ابتلعه أمر بأن يطوف فى البحر، (وخلق الله له إدراك ما فى البحر) «٣»، وكان ينظر إلى ذلك.
ويقال إن يونس عليه السلام صحب الحوت أياما قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظنّك بعبد عبده- سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طول عمره.. ترى أيبطل هذا؟ لا يظنّ بكرمه ذلك! «فَنادى فِي الظُّلُماتِ... » يقال ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت- هذا بيان
(١) آية ١٤١ سورة الصافات
(٢) آية ١٤٢ سورة الصافات
(٣) موجودة فى م ومفقودة فى ص
519
التفسير، ويحتمل «١» أن تكون الظلمات ما التبس عليه من وقته واستبهم عليه من حاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٨]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
استجبنا له ولم يجر منه دعاء لأنه لم يصدر عنه أكثر من قوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»، ولم يقر بالظلم إلا وهو يستغفر منه.
ثم قال: «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ... » يعنى: كلّ من قال من المؤمنين- إذا أصابه غمّ، أو استقبله مهم- مثلما قال ذو النون نجيناه كما نجينا ذا النون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٩]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩)
سأل الولد، وإنما سأله ليكون له معينا على عبادة ربّه، وليقوم فى النبوة مقامه، ولئلا تنقطع بركة الرسالة من بيته «٢»، ولقد قاسى زكريا من البلاء ما قاسى حتى حاولوا قطعه بالمنشار، ولما التجأ إلى شجرة انشقت له وتوسّطها، والتأمت الشجرة، وفطنوا إلى ذلك فقطعوا الشجرة بالمنشار، وصبر لله، وسبحان الله! كان انشقاق الشجرة له معجزة، وفى الظاهر كان حفظا له منهم، ثم لو لم يطلعهم عليه لكان في ذلك سلامته، ولعلّهم- وقتلوه- لم يصبه من الألم القدر الذي لحقه من القطع بالمنشار طول إقامته، وإنما المعنى فيه أن انشقاق الشجرة كان له معجزة، فقوى بذلك يقينه لمّا رأى عجيب الأمر فيه من نقض العادة «٣»، ثم البلاء له بالقتل ليس ببلاء فى التحقيق، ولقد قال قائلهم: «إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى».
(١) هذا النوع من الظلمات- وهو المرتبط بالنفس- متوقع صدوره عن مفسر صوفى علم بأحوال النفس.
(٢) أي أنه لم يسال الولد لحظ نفسه بل لحق ربه، وهذه بشرى إجابة الدعاء.
(٣) أي أن المعجزة ليست فقط من أجل القوم الذين فيهم النبي بل فى حسابها تثبيت قلب النبي وترسيخ يقينه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٠]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
سمى يحيى لأنه حي به عقر أمه.
وقوله: «وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» : لتكون الكرامة لهم جميعا بالولد، ولئلا يستبدّ زكريا بفرح الولد دونها مراعاة لحقّ صحبتها.. وهذه سنّة الله فى باب إكرام أوليائه، وفى معناه أنشدوا:
إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم فى المنزل الخشن
ثم قال: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا..» وفى هذا بشارة لجميع المؤمنين، لأن المؤمن لا يخلوا من حالة من أحوال الرغبة أو الرهبة إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطا والقنوط كفر «١»، ولو لم تكن رهبة لكان أمنا والأمن كفر «٢».
قوله: «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» الخشوع قشعريرة القلب عند اطلاع الرب، وكان لهم ذلك على الدوام.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩١]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
يعنى مريم، وقد نفى عنها سمة الفحشاء وهجنة الذم.
ويقال فنفخنا فيها من روحنا، وكان النفخ من جبريل عليه السلام، ولكن لمّا كان بأمره- سبحانه- صحّت الإضافة إليه، وفى هذا دليل على تأويل خبر النزول، فإنه يكون بإنزال ملك فتصحّ الإضافة إلى الله إذ كان بأمره. وإضافة الروح إلى نفسه على جهة التخصيص.
كقوله: (ناقة الله، وبيتي).. ونحو ذلك. (وجعلنا وابنها آية للعالمين) : ولم يقل آيتين
(١) قال تعالى: «وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» ٥٦ الحجر.
(٢) قال تعالى: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» ٩٩ الأعراف
لأن أمرهما كان معجزة ودلالة، ويصح أن يراد أنّ كلّ واحد منهما آية- على طريقة العرب فى أمثال هذا.
وفيه نفى لتهمة من قال إنها حبلت من الله... تعالى الله عن قولهم! قوله (آية للعالمين) : وإن لم يهتد بهما جميع الناس.. لكنهما كانا آية. ومن نظر فى أمرهما، ووضع النظر موضعه لاهتدى، وإذا أعرض ولم ينظر فالآية لا تخرج عن كونها حجّة ودلالة بتقصير المقصّر فى بابها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٢]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
أي كلكم خلقته، وكلكم اتفقتم فى الفقر، وفى الضعف، وفى الحاجة. «وَأَنَا رَبُّكُمْ» :
وخالقكم على وصف التّفرّد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٣]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣)
اختلفوا وتنازعوا، واضطربت أمورهم، وتفرّقت أحوالهم، فاستأصلتهم البلايا.
قوله: (كلّ إلينا راجعون) : وكيف لا... وهم ما يتقلبون إلّا فى قبضة التقدير؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٤]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤)
من تعنّى لله لم يخسر على الله، ومن تحمّل لله مشقة وجب حقّه (على) «١» الله: قوله: وهو مؤمن) بعد قوله: (يعمل من الصالحات) دليل على أن من لا يكون مؤمنا لا يكون عمله صالحا ففائدة قوله هاهنا: (وهو مؤمن) فى المآل والعاقبة، فقد يعمل الأعمال الصالحة من لا يختم له بالسعادة، فيكون فى الحال مؤمنا وعمله يكون على الوجه الذي آمن ثم لا ثواب له، فإذا كانت عاقبته على الإسلام والتوحيد فحينئذ لا يضيع سعيه.
(١) نرجح أنها فى الأصل (من) لأن القشيري فى مواضع شتى عارض أي وجوب (على) الله..
وطا لما أوضحنا ذلك فى الهوامش.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٥]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥)
أي لا نهلك قوما وإن تمادوا فى العصيان إلا إذا علمنا أنهم لا يؤمنون، وأنه بالشقاوة تختم أمورهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٦]
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
أي يحق القول عليهم، ويتم الأجل المضروب لهم، فعند ذلك تظهر أيامهم، وإلى القدر المعلوم فى التقدير لا تحصل نجاة الناس من شرّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٧]
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
تأخذهم القيامة بغتة وتظهر أشراط الساعة فجأة، ويقرّ الكاذبون بأنّ الذنب عليهم، ولكن فى وقت لا تقبل فيه معذرتهم، وأوان لا ينفعهم فيه إيمانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٨]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨)
«وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» : أي الأصنام التي عبدوها، ولم تدخل فى الخطاب الملائكة التي عبدها قوم، ولا عيسى وإن عبده قوم لأنه قال:
«إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ» ولم يقل إنكم ومن تعبدون «١». فيحشر الكافرون فى النار، وتحشر أصنامهم معهم. والأصنام جمادات فلا جرم لها، ولا احتراقها عقوبة لها، ولكنه على جهة براءة ساحتها، فالذنب للكفار وما الأصنام إلا جمادات.
(١) لأن (ما) اسم موصول لغير العاقل و (من) اسم موصول للعاقل.

[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٩]

لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩)
القوم قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» «١» فعلموا أن الأصنام جمادات، ولكن توهموا أن لها عند الله خطرا، وأنّ من عبدها يقرب بعبادتها من الله، فيبيّن الله لهم- غدا- بأنّها لو كانت تستحق العبادة، ولو كان لها عند الله خطر لما ألقيت فى النار، ولما أحرقت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٠]
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
«لَهُمْ» : أي لعبدة الأصنام، «فِيها» أي فى النار، «زَفِيرٌ» لحسرتهم على ما فاتهم، «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» من نداء يبشرهم بانقضاء عقوبتهم.
وبعكس أحوالهم عصاة المسلمين «٢» فى النار فهم- وإن عذّبوا حينا- فإنهم يسمعون قول من يبشّرهم يوما بانقضاء عذابهم- وإن كان بعد مدة مديدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠١]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)
«سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» : أي الكلمة بالحسنى، والمشيئة والإرادة بالحسنى، لأن الحسنى فعله، وقوله: «سَبَقَتْ» إخبار عن قدمه، والذي كان لهم فى القدم هو الكلمة التي هى صفة تعلّقت بهم فى معنى الإخبار بالسعادة.
ثم قال: «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» أي عن النار، ولم يقل متباعدون ليعلم العالمون أن المدار على التقدير، وسابق الحكم من الله، لا على تباعد العبد أو بتقرّبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٢]
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢)
(١) آية ٣ سورة (الزمر) [.....]
(٢) تسمى هذه فى علم الكلام: المنزلة بين المنزلتين وهى التي بين المؤمن والكافر، وليست عقوبة هؤلاء- كما هو شأن الكفار- على التأييد.. كما يرى القشيري.
يدل ذلك على أنهم لا يعذّبون فيها بكل وجه. والمراد منه العباد من المؤمنين الذين لا جرم لهم.
«وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ» : مقيمين لا يبرحون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٣]
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)
قيل الفزع الأكبر قول الملك: «لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» «١» ويقال إذا قيل: «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» »
ويقال إذا قيل: يا أهل الجنة.. خلودا لا موت فيه، ويا أهل النار. خلودا لا موت فيه! وقيل إذا: «قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» «٣» وقيل الفزع الأكبر هو الفراق. وقيل هو اليأس من رحمة الله وتعريفهم ذلك.
قوله «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» يقال لهم هذا يومكم الذي كنتم وعدتم فيه بالثواب فمنهم من يتلقّاه الملك، ومنهم من يرد عليه الخطاب والتعريف من الملك «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٤]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
إنما كانت السماء سقفا مرفوعا حين كان الأولياء تحتها، والأرض كانت فراشا إذ كانوا عليها، فإذا ارتحل الأحباب عنها تخرب ديارهم.. على العادة فيما بين الخلق من خراب الديار بعد مفارقة الأحباب.
(١) آية ٢٢ سورة الفرقان
(٢) آية ٥٩ سورة يس
(٣) آية ١٠٨ سورة المؤمنون.
(٤) أي من الله سبحانه- وهؤلاء هم صفوة الأخيار.
ويقال نطوى السماء التي إليها عرجت دواوين العصاة من المسلمين لئلا تشهد عليهم بالإجرام، وتبدّل الأرض التي عصوا عليها غير تلك الأرض حتى لا تشهد عليهم بالإجرام.
أو نطوى السماء لنقرّب قطع المسافات على الأحباب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٥]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)
«الذِّكْرِ» هنا هو التوراة، و «كتب» : أي أخبر وحكم، و «الصَّالِحُونَ» أمة محمد- صلى الله عليه وسلم: أنّ «الْأَرْضَ» هم الذين يرثونها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)
أمّا من أسلم فبك ينجون، وأمّا من كفر فلا نعذبهم ما دمت فيهم فأنت رحمة منّا على الخلائق أجمعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٨]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)
واحد فى ذاته، واحد فى صفاته، واحد فى أفعاله واحد بلا قسيم، واحد بلا شبيه، واحد بلا شريك.
«فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» مخلصون في عقد التوحيد بالتبرّى عن كل غير فى حسبان صلاحيّته للألوهية؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٩]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩)
إن أعرضوا ولم يؤمنوا فقل: إنى بالالتزام أعلمتكم، ولكن للإكرام ما ألهتكم، فتوجّهت عليكم الحجة واستبهمت عليكم المحجة.
قوله: «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ..» إنّ علمى متقاصر عن تفصيل أحوالكم فى مآلكم، ووقت ما توعدون به فى القيامة من تحصيل أهوالكم، ولكنّ حكم الله غير مستأخر إذا أراد شيئا من تغيير أحوالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١١٠]
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠)
لا يخفى عليه سرّكم ونجواكم، وحالكم ومآلكم، وظاهركم وباطنكم.. فعلى قدر استحقاقكم يجازيكم، وبموجب أفعالكم يحاسبكم ويكافيكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١١١]
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
ليس يحيط علمى (إلا) «١» بما يعلمنى، وإعلامه إياى ليس باختياري، ولا هو مقصود على حسب مرادى وإيثارى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١١٢]
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
الرحمن كثير الرحمة عامة لكل أحد، ومنه يوجد العون والنصر حين يوجد وكيف يوجد.
السورة التي يذكر فيها «الحج»
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سماع «بِسْمِ اللَّهِ» يوجب الهيبة والغيبة وذلك وقت محوهم. وسماع «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» يوجب الأنس والقربة، وذلك وقت صحوهم.. فعند سماع هذه الآية انتظم لهم المحو والصحو فى سلك واحد.
سماع «بِسْمِ اللَّهِ» يوجب انزعاج القلوب وعنده يحصل داء جنونهم «٢»، وسماع «الرَّحْمنِ»
(١) سقطت (إلا) فى ص وموجودة فى م.
(٢) ليس الجنون والفتون هنا مرتبطين بفساد العقل كما قد يتبادر للذهن إنما يرتبطان بذهاب العقل والوله فى المحبوب، وهذه هى المرة الأولى التي تصادف فيها هاتين اللفظتين فى مثل هذا السياق، وقد اعتدنا أن نسمع بدلا من (مجنون ومفتون) كلمات أخرى مثل (مهيم ومتيم) [انظر التحبير فى التذكير ص ٦٢].
Icon