تفسير سورة المؤمنون

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

فيه. آخر سورة الحج.
سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ
روى ابن عوف عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَلَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ نَكَّسَ رَأْسَهُ
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ خَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ فَكَانَ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ الْخُشُوعُ السُّكُونُ وَرَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالَ سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ قوله الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال الخشوع في القلب وأن تلين كتفك لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ وَلَا تَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِك وَقَالَ الْحَسَنُ خَاشِعُونَ خَائِفُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخُشُوعُ يَنْتَظِمُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا مِنْ السُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّذَلُّلِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَالْحَرَكَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا
وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ مَسِّ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ إذَا قَامَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَتْ عَنْهُ
وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْمَحُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَلْتَفِتُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ أنه سمع أبا سلام قال حدثني السلوى أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَارْكَبْ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا يُغِرْنَ مِنْ قِبَلِك اللَّيْلَةَ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَسْنَاهُ فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ حَتَّى إذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ قَالَ أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ وَهَذَا عِنْدَنَا كَانَ عُذْرًا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ مَجِيءِ الْعَدُوِّ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَالثَّانِي اشْتِغَالُ قَلْبِهِ بِالْفَارِسِ إلى أن طلع وروى عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَلْحَظُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ قيل لابن عمر إن كان الزُّبَيْرِ إذَا صَلَّى لَمْ يَقُلْ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا قَالَ لَكِنَّا نَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَنَكُونُ مثل الناس وروى عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الِالْتِفَاتَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَأَمَّا أَنْ يَلْحَظَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وروى سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ مُلْقًى وروى أبو مجلن عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ خَفَضَ فِيهَا صَوْتَهُ وَبَدَنَهُ وَبَصَرَهُ وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ زبير اليامى قال كان أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ
قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَاللَّغْوُ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَهُوَ مَحْظُورٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اللَّغْوُ الْبَاطِلُ وَالْقَوْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَإِنْ كَانَ الْبَاطِلُ قَدْ يُبْتَغَى بِهِ فَوَائِدُ عَاجِلَةٌ
قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَامًّا فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ المذكر كقوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قد أريد به الرجال والنساء ومن النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ خَاصٌّ فِي الرِّجَالِ
بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ وَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ أُرِيدَ بِهِ الرِّجَالُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عَامًّا فِي الْجَمِيعِ وَالِاسْتِثْنَاءُ خَاصٌّ فِي الرجال كقوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ثم قال وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي فَالْأَوَّلُ عُمُومٌ فِي الْجَمِيعِ وَالْعَطْفُ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ عَامٌّ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَهُوَ حِفْظُهَا مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ بِهَا
قَوْله تَعَالَى فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إذْ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مَمْلُوكَةِ يَمِينٍ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سورة النساء في قوله وَراءَ ذلِكَ معناه غير ذلك وقوله العادُونَ يَعْنِي مَنْ يَتَعَدَّى الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ فَأَمَّا قَوْلُهُ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِحِفْظِ الْفُرُوجِ وَإِخْبَارٌ عَنْ إبَاحَةِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ حَظْرَ مَا عَدَا هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ فِي الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْأَيْمَانِ وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ وطء الزوجات
وملك اليمين لعموم اللفظ فيهن فإن قِيلَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي إبَاحَةِ وطئهن لوجب أن يجوز ووطؤهن فِي حَالِ الْحَيْضِ وَوَطْءُ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ قَدْ اقْتَضَى عُمُومُ اللَّفْظِ إبَاحَةَ وَطْئِهِنَّ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى تَخْصِيصِ مَنْ ذَكَرْت كَسَائِرِ الْعُمُومِ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ وَمِلْكُ الْيَمِينِ مَتَى أُطْلِقَ عُقِلَ بِهِ الْأَمَةُ وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكَانِ وَلَا يَكَادُ يُطْلَقُ مِلْكُ الْيَمِينِ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ لَا يُقَالُ لِلدَّارِّ وَالدَّابَّةِ مِلْكُ الْيَمِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَخَصُّ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الدَّارِ بِالنَّقْضِ وَالْبِنَاءِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي بَنِي آدَمَ وَيَجُوزُ عَارِيَّةُ الدَّارِ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعُرُوضِ وَلَا يَجُوزُ عَارِيَّةُ الفروج
قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تعالى يُحافِظُونَ قَالُوا فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ إنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى
وَقَالَ مَسْرُوقٌ الْحِفَاظُ عَلَى الصَّلَاةِ فِعْلُهَا لِوَقْتِهَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يُحَافِظُونَ دَائِمُونَ وَقَالَ قَتَادَةُ يُحَافِظُونَ عَلَى وُضُوئِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا مُرَاعَاتُهَا لِلتَّأْدِيَةِ فِي وَقْتِهَا عَلَى اسْتِكْمَالِ شَرَائِطِهَا وَجَمِيعُ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلَ عَلَيْهَا السَّلَفُ الْمُحَافَظَةَ هِيَ مُرَادَةٌ بِالْآيَةِ وَأَعَادَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ بِالْخُشُوعِ فِيهَا
قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ الْآيَةَ
رَوَى وَكِيعٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عن عبد الرحمن بن سعيد ابن وَهْبٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْت يَا رَسُولَ الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أَهُوَ الرَّجُلُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ قَالَ لَا يَا عَائِشَةُ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ
وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ ابن عمر يؤتون ما آتوا قَالَ الزَّكَاةُ وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَقَدْ أَدْرَكْت أَقْوَامًا كَانُوا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ أَشْفَقَ مِنْكُمْ عَلَى سَيِّئَاتِكُمْ أَنْ تُعَذَّبُوا عَلَيْهَا
قَوْله تَعَالَى أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ الْخَيْرَاتُ هُنَا الطَّاعَاتُ يُسَارِعُ إلَيْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَيَجْتَهِدُونَ فِي السَّبْقِ إلَيْهَا رَغْبَةً فِيهَا وَعِلْمًا بِمَا لَهُمْ بِهَا مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ وقوله وَهُمْ لَها سابِقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَبَقَتْ لَهُمْ السَّعَادَةُ وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرَاتِ سَابِقُونَ إلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ آخَرُونَ وَهُمْ إلَى الْخَيْرَاتِ سَابِقُونَ
قَوْله تَعَالَى وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ قال
قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ خَطَايَا مِنْ دُونِ الْحَقِّ وَعَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَعْمَالٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا
وقَوْله تَعَالَى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ قُرِئَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَقُرِئَ بِضَمِّ التاء وكسر الجيم فقيل في تهجرون قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ تَهْجُرُونَ الْحَقَّ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تَقُولُونَ الْهَجْرَ وَهُوَ السَّيِّئُ مِنْ الْقَوْلِ وَمَنْ قَرَأَ تُهْجِرُونَ فَلَيْسَ إلَّا مِنْ الْهَجْرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ يُقَالُ أَهْجَرَ الْمَرِيضُ إذَا هدأ وَوَحَّدَ سَامِرًا وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ السُّمَّارَ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ قُومُوا قِيَامًا وَقِيلَ إنَّمَا وَحَّدَ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْوَقْتِ بِتَقْدِيرِ لَيْلًا تَهْجُرُونَ وَكَانُوا يَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ حَوَلَ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّمَرِ
فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا سَمَرَ إلَّا لِرَجُلَيْنِ مُصَلٍّ أَوْ مُسَافِرٍ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فِيهِ فَمَا
رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عُمَرُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْمُرُ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَكَذَلِكَ عمر وبن دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. آخِرُ سورة المؤمنين.
سُورَةِ النُّورِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ- إلى قوله- وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَكَانَ حَدُّ الْمَرْأَةِ الْحَبْسُ وَالْأَذَى بِالتَّعْيِيرِ وَكَانَ حَدُّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنُسِخَ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ
فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ
فَكَانَ ذَلِكَ عَقِيبَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ- إلَى قَوْلِهِ- أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَذَلِكَ لِتَنْبِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّانَا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ
94
مِنْ ذَلِكَ هُوَ السَّبِيلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةُ حُكْمٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ السَّبِيلُ الْمَجْعُولُ لَهُنَّ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبِيلِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسُ مَنْسُوخَيْنِ عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِالْآيَةِ وَعَنْ الْمُحْصَنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ الرَّجْمُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حَدِّ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ فِي الزِّنَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٌ يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ وَلَا يُجْلَدُ وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ وَلَيْسَ نَفْيُهُ بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ رَأَى نَفْيَهُ لِلدَّعَارَةِ فَعَلَ كَمَا يَجُوزُ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يَجْتَمِعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ مِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْيِ بَعْدَ الْجَلْدِ فَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُنْفَى الْبِكْرُ بَعْدَ الْجَلْدِ وَقَالَ مَالِكٌ يُنْفَى الرَّجُلُ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ وَلَا الْعَبْدُ وَمَنْ نُفِيَ حُبِسَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْفَى إلَيْهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ يُنْفَى الزَّانِي وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُنْفَى الْعَبْدُ نِصْفَ سَنَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ نفى البكر الزاني ليس بحدان قَوْله تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْحَدُّ الْمُسْتَحَقُّ بِالزِّنَا وَأَنَّهُ كَمَالُ الْحَدِّ فَلَوْ جَعَلْنَا النَّفْيَ حَدًّا مَعَهُ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ وَفِي ذَلِكَ إيجَابُ نَسْخِ الْآيَةِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّفْيَ إنَّمَا هُوَ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ بِحَدٍّ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ غَيْرُ جَائِزَةٍ إلا بمثلي مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا مَعَ الْجَلْدِ لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ تَوْقِيفٌ لِلصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَقِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ التِّلَاوَةِ أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ جَمِيعُ حَدِّهِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ وُرُودُهُ فِي وَزْنِ وُرُودِ نَقْلِ الْآيَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ النَّفْيِ بِهَذِهِ المنزلة بل كان ومن طَرِيقِ الْآحَادِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفَ فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ فلحق بهر قل فَقَالَ عُمَرُ لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهَا أَحَدًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ الزِّنَا
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبِكْرَيْنِ إذَا زَنَيَا يُجْلَدَانِ وَلَا يُنْفَيَانِ وَإِنَّ نَفْيَهُمَا مِنْ الْفِتْنَةِ
وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَمَةً لَهُ زَنَتْ فَجَلَدَهَا وَلَمْ يَنْفِهَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً فَلَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا مَعَ الْجَلْدِ عَلَى أَنَّهُمَا حَدُّ الزَّانِي لَمَا خَفِيَ عَلَى كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَشِبْلٌ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ قولنا أحدهما
95
أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّفْيُ ثَابِتًا لَذَكَرَهُ مَعَ الْجَلْدِ وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فَإِذَا كَانَ جَلْدُ الْأَمَةِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِّهَا بِالْجَلْدِ دُونَ النَّفْيِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْحُرَّةِ هُوَ الْجَلْدُ وَلَا نَفْيَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ التَّأْدِيبَ دُونَ الْحَدِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ تُحْصَنَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ قِيلَ لَهُ
قَدْ رَوَى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ ثُمَّ لِيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُنْفَى لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ نَفْيُهَا لَمَا جَازَ بَيْعُهَا إذْ لَا يُمْكِنُ الْمُشْتَرِيَ تَسَلُّمُهَا لِأَنَّ حُكْمَهَا أَنْ تُنْفَى فَإِنْ قِيلَ
فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُنْفَى وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْته مِنْهُ بِوَلِيدَةٍ وَمِائَةِ شَاةٍ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَن بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْك وَأَمَّا ابْنُك فَإِنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فارجمها
قيل له غير جائز أن تزيد فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ النَّسْخَ لَا سِيَّمَا مَعَ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ النَّسْخَ فَالْوَاجِبُ إذَا كَانَ هَكَذَا حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ لَا أَنَّهُ حَدٌّ مَعَ الْجَلْدِ فَرَأَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَفْيَ الْبِكْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَرَأَى رَدْعَهُمْ بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايات الْخَمْرِ وَكَسْرِ الْأَوَانِي لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَأَحْرَى بِقَطْعِ الْعَادَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ وَارِدٌ لَا مَحَالَةَ قَبْلَ آيَةِ الْجَلْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَلَوْ كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَكَانَ السَّبِيلُ مَجْعُولًا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمَا كَانَ الْحُكْمُ مَأْخُوذًا عَنْهُ بَلْ عَنْ الْآيَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ
96
إنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ النَّفْيِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ مِنْ النَّفْيِ إنْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ وَلَيْسَ بِحَدٍّ أَنَّ الْحُدُودَ مَعْلُومَةُ الْمَقَادِيرِ وَالنِّهَايَاتِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ حُدُودًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّفْيِ مَكَانًا مَعْلُومًا وَلَا مِقْدَارًا مِنْ الْمَسَافَةِ وَالْبُعْدِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ كَالتَّعْزِيرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ كَانَ تَقْدِيرُهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَافَةَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْفَى إلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ تَوْقِيتَ السَّنَةِ لِمُدَّةِ النَّفْيِ وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ فَإِنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَة وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ وَأَنَّ أَبَا الزَّانِي قَالَ سَأَلْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ فَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَلَيْهَا الرَّجْمُ وَالْجَلْدُ وَقَالَ لِأُنَيْسٍ اُغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ جَلْدًا وَلَوْ وَجَبَ الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ لَهُ كَمَا ذَكَرَ الرَّجْمَ وقد وردت قصة ما عز مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعَ الرَّجْمِ جَلْدٌ وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ حَدًّا مَعَ الرَّجْمِ لَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ جَلَدَهُ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ الرَّجْمُ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِالنَّقْلِ مِنْ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ
فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا فَرَجَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد أَنْ وَضَعَتْ
وَلَمْ يَذْكُرْ جَلْدًا وَلَوْ كَانَتْ جُلِدَتْ لَنُقِلَ وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ قَدْ خَشِيت أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَقَدْ قَرَأْنَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ هُوَ الرَّجْمُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ وَاجِبًا مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ وَاحْتَجَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ
وَقَوْلُهُ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ
وَبِمَا
رَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أُحْصِنَ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ
وَبِمَا
رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا جلد شراحة الهمدانية تم رَجَمَهَا وَقَالَ جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ وَارِدٌ عَقِيبَ كَوْنِ حَدِّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى نَاسِخًا له وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ثُمَّ كَانَ رَجْمُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ
وَقَوْلُهُ وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فارجمها
«٧- احكام مس»
97
بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ فَلَوْ كَانَ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ والرجم ثابتا لا يستعمله النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَدَهُ بَعْضَ الْحَدِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ إحْصَانُهُ رَجَمَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أصحابنا ويحتمل حديث على رضى الله عنه فِي جَلْدِهِ شُرَاحَةَ ثُمَّ رَجْمِهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الذِّمِّيِّينَ هَلْ يُحَدَّانِ إذَا زَنَيَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ يُحَدَّانِ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يُرْجَمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُرْجَمَانِ إذَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُحَدُّ الذِّمِّيَّانِ إذَا زَنَيَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ وَأَيْضًا
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ
فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ أَوْ حُكْمًا مُبْتَدَأً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ فَقَدْ صَارَ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُبْقًى إلَى وَقْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يُنْسَخْ وَإِنْ كَانَ رَجَمَهُمَا عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ ثَابِتٌ إذْ لَمْ يَرِدْ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ وَالصَّحِيحُ عِنْدُنَا أَنَّهُ رَجَمَهُمَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَلَى تَبْقِيَةِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى الْمُحْصَنُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ فِيهِ سَوَاءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ كَانَ مَنْسُوخًا فَإِنْ قِيلَ
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ
وَأَنْتَ لَا تَرْجُمُهُمَا فَقَدْ خَالَفْت الْخَبَرَ الَّذِي احتججت له فِي إثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الذِّمِّيِّينَ قِيلَ لَهُ اسْتِدْلَالُنَا مِنْ خَبَرِ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا صَحِيحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ رَجَمَهُمَا صَحَّ أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمُسْلِمَيْنِ فِي إيجَابِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ الرَّجْمِ الْإِحْصَانُ فَلَمَّا شُرِطَ الْإِحْصَانُ فِيهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ صَارَ حَدُّهُمَا الْجَلْدَ
فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لِلْيَهُودِيَّيْنِ ذِمَّةٌ وَتَحَاكَمُوا إلَيْهِ قِيلَ لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لَمَا أَقَامَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا وَمَعَ ذَلِكَ فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَنْ لَا ذِمَّةَ لَهُ قَدْ حَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الزِّنَا فَمَنْ لَهُ ذِمَّةٌ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَى بِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا إذْ كَانَ فِعْلًا
98
لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُزْجَرَ عَنْهُ بِالْحَدِّ كَمَا وَجَبَ زَجْرُ الْمُسْلِمِ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ كَالْمُسْلِمِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ عَلَى التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شُرْبِهَا وَلَيْسُوا مُقِرِّينَ عَلَى السَّرِقَةِ وَلَا عَلَى الزِّنَا وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ سُلْطَانٍ حُدَّ وَإِنْ أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ لَمْ يُحَدَّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ زُفَرُ إنْ أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ حُدَّ أَيْضًا وَأَمَّا الْمُكْرَهَةُ فَلَا تُحَدُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا فَأَمَّا إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ الْقِيَاسُ أَنْ يُحَدَّ سَوَاءٌ أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ أَوْ غَيْرُهُ وَلَكِنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسُ فِي إكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي إكْرَاهِ السُّلْطَانِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْخَلِيفَةَ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ هَذَا فَإِنَّمَا أُسْقِطَ الْحَدُّ لِأَنَّهُ قَدْ فسق وانغزل عَنْ الْخِلَافَةِ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهُ عَلَى الزِّنَا فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ وَالْحَدُّ إنَّمَا يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سُلْطَانٌ لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ كَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مِنْ دُونِ الْخَلِيفَةِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ فَوَجْهُهُ أَنَّ السُّلْطَانَ مَأْمُورٌ بِالتَّوَصُّلِ إلَى دَرْءِ الْحَدِّ فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا فَإِنَّمَا أَرَادَ التَّوَصُّلَ إلَى إيجَابِهِ فَلَا تَجُوزُ لَهُ إقَامَتُهُ إذًا لِأَنَّهُ بِإِكْرَاهِهِ أَرَادَ التَّوَصُّلَ إلَى إيجَابِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَيَسْقُطُ الْحَدَّ وَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ سُلْطَانٍ فَإِنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي الرِّضَا وَمَا وَقَعَ عَنْ طَوْعٍ وَرِضًا فَغَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَتْ الْحَالُ شَاهِدَةً بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِالْفِعْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مُكْرَهًا وَدَلَالَةُ الْحَالِ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حَالَ الْإِكْرَاهِ هِيَ حَالُ خَوْفٍ وَتَلَفِ النَّفْسِ وَالِانْتِشَارُ وَالشَّهْوَةُ يُنَافِيهِمَا الْخَوْفُ وَالْوَجَلُ فَلَمَّا وُجِدَ مِنْهُ الِانْتِشَارُ وَالشَّهْوَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عُلِمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكْرَهًا خَائِفًا لَمَا كَانَ مِنْهُ انْتِشَارٌ وَلَا غَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ فَوَجَبَ الْحَدُّ فَإِنْ قِيلَ إنَّ وُجُودَ الِانْتِشَارِ لَا يُنَافِي تَرْكَ الْفِعْلِ فَعَلِمْنَا حِينَ فَعَلَ مَعَ ظُهُورِ الْإِكْرَاهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ مُكْرَهًا كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ قِيلَ لَهُ هَذَا لَعَمْرِي هَكَذَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى النَّفْسِ يُنَافِي الِانْتِشَارَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ طَائِعًا أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ طَائِعًا كَانَ كَافِرًا مَعَ وُجُودِ الإكراه في الظاهر كذلك الحال الشاهدة بالتطوع هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِذَلِكَ فَيُحَدُّ.
99
بَابُ صِفَةِ الضَّرْبِ فِي الزِّنَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ قَالُوا فِي تَعْطِيلِ الْحُدُودِ لَا فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله ابن عُمَرَ أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَظَهْرَهَا قَالَ فَقُلْت لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قَالَ يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا وَلَا أَنْ أَجْعَلَ جَلْدَهَا فِي رَأْسِهَا وَقَدْ أَوْجَعْت حَيْثُ ضَرَبْت وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالُوا فِي الضَّرْبِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا أبو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ التَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ وَضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ وضرب الشَّارِبُ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ الضَّرْبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ غَيْرُ مُبَرِّحٍ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَذْفِ وَضَرْبُ الْقَذْفِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وروى عن عطاء قال حد الزانية أَشَدُّ مِنْ حَدِّ الْفِرْيَةِ وَحَدُّ الْفِرْيَةِ وَالْخَمْرِ وَاحِدٌ وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ ضَرْبُ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ الْقَذْفِ وَالْقَذْفُ أَشَدُّ مِنْ الشُّرْبِ وَضَرْبُ الشُّرْبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا قَاعِدًا وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ قَسْطَلَّانِيٌّ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحَدِّ وَمِنْ تَخْفِيفِ الضَّرْبِ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فِي أَنْ لا يعطل الحد تشديد في الضَّرْبِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ وَالشَّارِبِ وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّ التَّعْزِيرَ أَشَدُّ الضَّرْبِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ لِلْإِيلَامِ عَلَى جِهَةِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ فِيهِ بُلُوغُ الْحَدِّ وَلَمْ يَعْنُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ أَشَدُّ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ وَلَوْ رَأَى أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَبْسِ إذَا كَانَ ذا مروءة وكان ذلك الفعل منه ذلة جَازَ لَهُ أَنْ يَتَجَافَى عَنْهُ وَلَا يُعَزِّرُهُ فَعَلِمْت أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ التَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ إنَّمَا هُوَ إذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ فَعَلَ وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ كان لرجل على بن أَخٍ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَيْنٌ فَمَاتَ فَقَضَتْ عَنْهُ فَكَتَبَ إلَيْهَا يُحَرِّجُ عَلَيْهَا فِيهِ فَرَفَعَتْ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى عَامِلِهِ اضْرِبْهُ ثَلَاثِينَ
100
ضَرْبَةً كُلُّهَا تُبْضِعُ اللَّحْمَ وَتَحْدُرُ الدَّمَ فَهَذَا مِنْ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد قَالَ أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِامْرَأَةٍ زَنَتْ فَقَالَ أَفْسَدَتْ حَسَبَهَا اضْرِبُوهَا وَلَا تُحْرِقُوا عَلَيْهَا جِلْدَهَا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى ضَرْبَ الزَّانِي أَخَفَّ مِنْ التَّعْزِيرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ دَلَّ قَوْلُهُ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ عَلَى شِدَّةِ ضَرْبِ الزَّانِي عَلَى مَا بَيَّنَّا وَأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى شِدَّةِ الضَّرْبِ فِيهِ وَلِأَنَّ ضَرْبَ الشَّارِبِ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَضَرْبُ الزَّانِي إنَّمَا يَكُونُ بِالسَّوْطِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الزَّانِي أَشَدَّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا ضَرْبَ الْقَاذِفِ أَخَفَّ الضَّرْبِ لِأَنَّ الْقَاذِفَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ وَأَنَّ لَهُ شُهُودًا عَلَى ذَلِكَ وَالشُّهُودُ مَنْدُوبُونَ إلَى السَّتْرِ عَلَى الزَّانِي فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقُعُودِ الشُّهُودِ عَنْ الشَّهَادَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَخْفِيفَ الضَّرْبِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْقَاذِفَ قَدْ غُلِّظَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ فِي إبْطَالِ شَهَادَتِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ شِدَّةِ الضَّرْبِ. فَإِنْ قِيلَ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يَقُولُ لِلزُّهْرِيِّ إنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ إنَّ الْقَاذِفَ لَا يُضْرَبُ ضَرْبًا شَدِيدًا وَلَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ أَمَرَتْ بِشَاةٍ فَسُلِخَتْ حِينَ جُلِدَ أَبُو بَكْرَةَ فَأَلْبَسَتْهُ مَسْكَهَا فَهَلْ كَانَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ. قِيلَ لَهُ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْبَدَنِ الضَّرْبُ الْخَفِيفُ عَلَى حَسَبِ مَا يُصَادِفُ مِنْ رِقَّةِ الْبَشَرَةِ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ إشْفَاقًا عَلَيْهِ.
بَابُ مَا يُضْرَبُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَحْدُودِ
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ولم يذكر ما يضرب منه ظاهره يَقْتَضِي جَوَازَ ضَرْبِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيهِ
فَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ فَقَالَ اضْرِبْ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ مُهَاجِرِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ اجْتَنِبْ رَأْسَهُ وَمَذَاكِيرَهُ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرَّأْسَ وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْوَجْهَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَثْنَاهُمَا جَمِيعًا وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالضَّرْبِ فِي حَدٍّ فَقَالَ أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا وَرَوَى المسعودي عن
101
الْقَاسِمِ قَالَ أُتِيَ أَبُو بَكْرٍ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ ابْنِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عُسَيْلٍ عَلَى رَأْسِهِ حِينَ سَأَلَ عَنْ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُ الرَّأْسَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا إلَّا الْفَرْجَ وَالرَّأْسَ وَالْوَجْهَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُضْرَبُ الرَّأْسُ أَيْضًا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ الْحَدِّ سَوْطٌ وَاحِدٌ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُضْرَبُ إلَّا فِي الظَّهْرِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي التَّعْزِيرِ أَنَّهُ يُضْرَبُ الظَّهْرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَفِي الْحُدُودِ يُضْرَبُ الْأَعْضَاءُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يُضْرَبُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا وَلَا يُضْرَبُ الْوَجْهُ وَلَا الْمَذَاكِيرُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُتَّقَى الْوَجْهُ وَالْفَرْجُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَالْفَرْجِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ اسْتِثْنَاءُ الرَّأْسِ
أَيْضًا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ
وَإِذَا لَمْ يَضْرِبْ الْوَجْهَ فَالرَّأْسُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الرَّأْسَ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ كَاَلَّذِي يَلْحَقُ الْوَجْهَ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْوَجْهِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلِئَلَّا يَلْحَقَهُ أَثَرٌ يَشِينُهُ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا يَلْحَقُ الرَّأْسَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ كَمَا يَلْحَقُ الْوَجْهَ أَنَّ الْمُوضِحَةَ وَسَائِرَ الشِّجَاجِ حُكْمُهَا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ وَفَارَقَا سَائِرَ الْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيمَا سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ إنَّمَا تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ وَلَا يَجِبُ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِي اجْتِنَابِ ضَرْبِهِمَا وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ لِمَا يُخَافُ فِيهِ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَصَرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الرَّأْسِ لِأَنَّ ضَرْبَ الرَّأْسِ يظلم منه البصر وربما حدث الْمَاءُ فِي الْعَيْنِ وَرُبَّمَا حَدَثَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِلَاطٌ فِي الْعَقْلِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَمْنَعُ ضَرْبَ الرَّأْسِ وَأَمَّا اجْتِنَابُ الْفَرْجِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ أَيْضًا مَقْتَلٌ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْدُثَ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ الضَّرْبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا وَفِي التَّعْزِيرِ مُجَرَّدًا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُضْرَبُ التَّعْزِيرَ فِي إزَارٍ وَلَا يُفَرَّقُ فِي التَّعْزِيرِ خَاصَّةً فِي الْأَعْضَاءِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ضَرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَرْأَةَ الْقَاذِفَةَ قَائِمَةً فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا يُجَرَّدُ الرجل ولا
102
يُمَدُّ وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً وَالرَّجُلُ قَائِمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي حَدِيثِ رَجْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ قَالَ رَأَيْت الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ قَائِمًا وَالْمَرْأَةَ قَاعِدَةٌ وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ بِسَوْطٍ فِيهِ شِدَّةٌ فَقَالَ أُرِيدُ أَلْيَنَ مِنْ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ فِيهِ لِينٌ فَقَالَ أُرِيدُ أَشَدَّ مِنْ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ فَقَالَ اضْرِبْ وَلَا يُرَى إبِطُك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا حَدًّا فَدَعَا بِسَوْطٍ فَأَمَرَ فَدُقَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى لَانَ ثُمَّ قَالَ اضْرِبْ وَلَا تُخْرِجْ إبِطَك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ
وَرَوَى حَنْظَلَةُ السَّدُوسِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ جَلَدَ رَجُلًا قَائِمًا فِي الْقَذْفِ قَالَ أَبُو بكر هذه الأخبار تدل على معاني مِنْهَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الْحُدُودِ بِالسَّوْطِ وَمِنْهَا أَنَّهُ يُضْرَبُ قَائِمًا إذْ لَا يُمْكِنُ إعْطَاءُ كُلِّ عُضْوٍ حَقَّهُ إلَّا وَهُوَ قَائِمٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ يُضْرَبُ بِسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُ يُضْرَبُ مُجَرَّدًا لِيَصِلَ الْأَلَمُ إلَيْهِ وَيُضْرَبُ الْقَاذِفُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ لِأَنَّ ضَرْبَهُ أَخَفُّ وَإِنَّمَا قَالُوا لَا يُمَدُّ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً فِي الْإِيلَامِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ بِالْفِعْلِ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَدِّ وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ الحجاج عن الوليد بن مَالِكٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ أُتِيَ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ وَقَالَ مَا يَنْبَغِي لِجَسَدِي هَذَا الْمُذْنِبِ أَنْ يُضْرَبَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لَا تَدَعُوهُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ فَضَرَبَهُ عَلَيْهِ وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَا يُجْلَدُ الْقَاذِفُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ فِي الشِّتَاءِ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابَ الصَّيْفِ وَلَكِنْ يُضْرَبُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قَذَفَ فيها إلا أن يكون عليه فرو أو حشو يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَجِدَ وَجَعَ الضَّرْبِ فَيُنْزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَمَّنْ شَهِدَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أقام على رجل الحد فضربه على قبا أَوْ قُرْطُقٍ
وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَشْوٌ أَوْ فَرْوٌ فَلَمْ يَصِلْ الْأَلَمُ أَنَّ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْعَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ فُلَانًا فَضَرَبَهُ وَعَلَيْهِ حَشْوٌ أَوْ فَرْوٌ فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْأَلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَارِبًا وَلَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ ولو وصل إليه الألم كان ضاربا.
103
في إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَقَامَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدًّا فِي الْمَسْجِدِ فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِالتَّأْدِيبِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ وَنَحْوَهَا وَأَمَّا الضَّرْبُ الْمُوجِعُ وَالْحَدُّ فَلَا يُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُقْتَلُ بِالْوَلَدِ الْوَالِدُ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَشِرَاكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ
وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَحْدُودِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ما سبيله أن ينزه المسجد عنه.
في الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ يُرْجَمَانِ أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نفس بغير نفس
فحصر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ إلَّا بِإِحْدَى هَذِهِ الثَّلَاثِ وَفَاعِلُ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى زِنًا فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا
رَوَى عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سُهَيْلِ بن صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ وارجموهما جميعا
وبما روى الدراوردى عن عمر وبن أبى عمر وعن عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ
قِيلَ لَهُ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو ضَعِيفَانِ لَا تَقُومُ بِرِوَايَتِهِمَا حُجَّةٌ وَلَا يَجُوزُ بِهِمَا إثْبَاتُ حَدٍّ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَوْ ثَبَتَ إذَا فَعَلَاهُ مُسْتَحِلَّيْنِ له وكذلك نقول فِيمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ
وَقَوْلُهُ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس بحد وأنه بمنزلة قوله مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ لِأَنَّ حَدَّ فَاعِلِ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ قَتْلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا هُوَ الرَّجْمُ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ كَالزِّنَا إذَا كان محصنا
104
وَعِنْدَ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا مِمَّنْ يُوجِبُ قَتْلَهُ فَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ رَجْمًا فَقَتْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَيْسَ هُوَ قَوْلًا لِأَحَدٍ وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا لَفَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِ الْمُحْصَنِ وَفِي تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ على وجه الحد.
في الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَا حد عليه ويعزر وروى مثله عن بن عُمَرَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَيْهِ الْحَدُّ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ
يَنْفِي قَتْلَ فَاعِلِ ذَلِكَ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِزِنًا فِي اللُّغَةِ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي مَسْأَلَتِنَا وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ
وَقَدْ رَوَى عمر وبن أبى عمر وعن عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة
وعمر وهذا ضعيف لا نثبت بِهِ حُجَّةٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ أَتَى بَهِيمَةً أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إسْرَائِيلُ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَشَرِيكٌ وكلهم عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عباس مثله ولو كان حديث عمر وبن أَبِي عَمْرٍو ثَابِتًا لَمَا خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وهو رواية إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ صَحَّ الْخَبَرُ كَانَ مَحْمُولًا على من استحله.
(فصل) قال أبو بكر وقد أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ شَاذَّةٌ لَا تُعَدُّ خِلَافًا الرَّجْمَ وَهُمْ الْخَوَارِجُ
وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِنَقْلِ الْكَافَّةِ وَالْخَبَرِ الشَّائِعِ الْمُسْتَفِيضِ الَّذِي لَا مَسَاغَ لِلشَّكِّ فِيهِ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ فَرَوَى الرَّجْمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعلى وجابر ابن عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَخَطَبَ عُمَرُ فَقَالَ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لأثبته في بعض الْمُصْحَفِ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ يَرْوِي خَبَرَ رَجْمِ مَاعِزٍ وَبَعْضُهُمْ خَبَرَ الْجُهَيْنِيَّةِ وَالْغَامِدِيَّةِ وَخَبَرُ مَاعِزٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا أَنَّهُ رَدَّدَهُ ثَلَاثَ مرات ثم لما أقر الرابعة سأل عن صحة عقله فقال هل به جنة فقالوا لا وإنه استنهكه ثُمَّ قَالَ لَهُ لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت فَلَمَّا أَبَى إلَّا التَّصْمِيمَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِصَرِيحِ الزِّنَا سَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ ثُمَّ لَمَّا هَرَبَ حِينَ أَدْرَكَتْهُ الْحِجَارَةُ قَالَ هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ وَفِي تَرْدِيدِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَنْ عَقْلِهِ بعد
105
Icon