تفسير سورة الصافات

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب تفسير المراغي المعروف بـتفسير المراغي .
لمؤلفه أحمد بن مصطفى المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ

سورة الصافات
هى مكية بلا خلاف في ذلك. نزلت بعد سورة الأنعام. وآيها ثنتان وثمانون ومائتان، ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(١) إن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة التي أشير إليها إجمالا في السورة السابقة فى قوله: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ».
(٢) إن فيها تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة مما أشير إليه إجمالا في السورة قبلها.
(٣) المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشىء كان، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، وهو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا إذا كان المريد واحدا كما يشير إلى ذلك قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا».
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
تفسير المفردات
الصافات: هم جماعة الملائكة يقفون صفوفا لكل واحد منهم مرتبة معينة في الشرف والفضيلة، والزاجرات زجرا: أصل الزجر الدفع عن الشيء بتسلط وصياح ثم استعمل
فى السّوق والحث على الشيء، وفي المنع والنهى والمراد بها هنا الملائكة، لأن لهم تأثيرا في قلوب بنى آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير، والتاليات ذكرا:
هم الملائكة يجيئون بالكتب من عند الله إلى أنبيائه، والمشارق: هى مشارق الشمس بعدد أيام السنة، فهى في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب، والمغارب كذلك متعددة تعدد المشارق، ولم يذكرها اكتفاء بتعدد المشارق.
الإيضاح
أقسم سبحانه بالملائكة يتمون صفوفهم في مقام العبودية، ويردعون الناس عن الشر بالإلهام، ويتلون آياته على أنبيائه- إن معبودكم الذي يجب إخلاص العبادة له، لواحد لا ثانى له ولا شريك، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من الخلق، ومالك ذلك كله وقائم عليه.
وإجمال ذلك- إنه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم وتجردوا لعبادته، يسبحونه الليل والنهار لا يفترون، ويحضون الناس على فعل الخير، ويدفعون عنهم وسوسة الشيطان، ويتلون آياته على أنبيائه حين نزولهم بالوحى- إن ربكم لواحد وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦ الى ١٠]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
42
تفسير المفردات
الدنيا: مؤنثة الأدنى أي أقرب السموات من أهل الأرض والمارد والمريد، المتعرى عن الخير من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى من الورق، يسمعون: أي يستمعون، والملأ: الجماعة يجتمعون على رأى، والمراد بهم هنا الملائكة، يقذفون:
يرجمون، والدحور: الطرد والإبعاد، واصب: أي دائم، والخطفة: الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة، والشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والثاقب: المضيء.
الإيضاح
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي إنا جعلنا الكواكب زينة فى السماء القريبة منكم بما لها من البهجة والجمال، وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها، المفكرين في حسابها، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات، بحيث يكون كل سيار بعيدا من الشمس ضعف بعد الكوكب الذي قبله.
(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء أن يتطاول لدرك جمالها، وفهم محاسن نظامها، الجهّال والشياطين المتمردون من الجن والإنس، لأنهم غافلون عن آياتنا، معرضون عن التفكر في عظمتها فالعيون مفتحة، ولكن لا تبصر الجمال ولا تفكر فيه، حتى تعتبر بما فيه.
(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي إن كثيرا من أولئك الجهال والشياطين محبوسون فى هذه الأرض، غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا، والتأمل في إدراك أسرارها، والبحث في سر عظمتها.
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) أي وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب، فهم تائهون في سكراتهم، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات والإحن،
43
فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرق للحكماء، ويبهر أنظار العلماء، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته، وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر حتى ذاقوا حلاوته، فخروا ركعا سجدا مذهولين من ذلك الجمال والجلال.
(وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي وأولئك لهم عذاب دائم، لتقصيرهم عن البحث فى سر عظمة هذا الكون، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه، وبديع قدرته.
ثم بين من وفقهم الله وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال:
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال، وعنّت له سانحة منه، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب، فحنّ إلى مثلها، وصبت نفسه إلى أختها، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثا عن سر عظمته، ومعرفة كنه جماله، وهم من اصطفاهم الله من عباده، وآتاهم الحكمة من لدنه، وأيدهم بروح من عنده، وهم أنبياؤه وأولياؤه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
والخلاصة- إن الدنيا بيت فرشه الأرض، وسقفه السماء، وسراجه الكواكب، والبيوت الرفيعة العماد، العظيمة البناء كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافّون، والأنبياء والعلماء المخلصون، أما الجهال والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون، فلقد يعيش المرء منهم ويموت وهولاه عن درك هذا الجمال، إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه، وقد تبدو لهم أحيانا بارقة من محاسن هذا الجمال، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضىء قلوبهم، وينير ألبابهم، فيكونون ممن كتب الله لهم السعادة، وقيض لهم التوفيق والهداية، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه، والفوز بنعيمه «١».
(١) وقد نحونا بهذا نحوا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير إذ أنهم قالوا إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شىء منها، وعصم الله وحيه وكتابه.
44

[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ١٩]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
تفسير المفردات
فاستفهم: أي فاستخبر مشركى مكة من قولهم: استفتى فلانا إذا استخبره وسأله عن أمر يريد علمه، أشد خلقا: أي أصعب خلقا وأشق إيجادا، لازب: أي ملتصق بعضه ببعض، وأنشدوا لعلى بن أبى طالب:
تعلّم فإن الله زادك بسطة وأخلاق خير كلّها لك لازب
يسخرون: أي يستهزئون، وإذا ذكروا لا يذكرون: أي وإذا وعظوا لا يتعظون، آية: أي معجزة، يستسخرون: أي يبالغون في السخرية والاستهزاء.
المعنى الجملي
افتتح سبحانه هذه السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته، وعلمه وقدرته، بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب- وهنا أثبت الحشر والنشر وقيام الساعة ببيان أن من خلق هذه العوالم التي هى أصعب في الخلق منكم، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى كما جاء في السورة السابقة «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» وجاء في قوله: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ»
45
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي سل هؤلاء المنكرين للبعث: أىّ أصعب إيجادا، أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة؟
والسؤال للتوبيخ والتبكيت، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقا، أي وإذا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها؟.
ثم زاد الأمر بيانا وأوضح هذا التفاوت فقال:
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض، وفي هذا شهادة عليهم بالضعف والرخاوة دون الصلابة والقوة، فأين هم من كواكب السماء، وعالم الملائكة، وتلك العوالم المشرقة؟ وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه.
ثم خاطب الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله:
(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء، ولا يتعجبون من تلك الدلائل، بل مثلك من يعجب منها، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات.
والخلاصة- إن قلوبهم غلف فلا تنظر فيما حولها من البراهين والآيات الدالة على البعث، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به، فحالهم عجب، ويحق لك أن تكثر التعجب منها، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك، ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله.
(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وهم لقسوة قلوبهم إذا وعظوا لا تنفعهم العظة،
46
لأنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فماذا تفيد العبر أو تجدى الذكرى مع قوم هذه حالهم؟.
ثم بالغ في ذمهم وشديد غفلتهم عن النظر في دلائل الحق فقال:
(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي وإذا أقيمت لهم الأدلة والمعجزات التي ترشد إلى صدق من يعظهم ويذكّرهم بأيام الله، نادى بعضهم بعضا متضاحكين مستهزئين:
هلمّوا وانظروا إلى ما يفعله ذلك الساحر الذي يخلب ألبابنا، ويسلب عقولنا، ويريد أن يصدنا عما كان يعبد آباؤنا، وهذا ما أشار إليه حاكيا قولهم:
(وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا ما هذا الذي يأتينا به الفينة بعد الفينة مما يدّعى أنه أدلة ظاهرة على صدق ما يدعيه- إلا ألاعيب ساحر، وخدعة أريب ماهر، يريد أن يلفتنا عما كان يعبد آباؤنا، وما هى من دلائل الحق في شىء، فإياكم أن تخدعوا بها، وترجعوا عن الدين الحق الذي عليه آباؤكم، وقد مرت عليه القرون، ونحن له متبعون.
ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث فقالوا:
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟) أي إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول وإن كان فيه ما يدهش العقول- لا نتقبل منه تلك المقالة، وهى إحياء العظام النخرة، والأجسام التي صارت ترابا، إن هذه إلا إحدى الكبر، فلا ينبغى أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل، ولا يصل إلى مثلها الفكر.
ثم زادوا في استبعادهم وعظيم تعجبهم قالوا:
(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي أيبعث آباؤنا الأولون أيضا، وهذا أغرب لأن آباءهم أقدم منهم، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادا.
وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة أجاب عنها بقوله:
(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما، وأنتم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة.
47
ونحو الآية قوله: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ».
ثم بين سهولة ذلك أمام قدرة الله فقال:
(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي لا تستصعبوا البعث فإنما يكون بصيحة واحدة بالنفخ في الصور، فإذا الناس قيام من مراقدهم أحياء ينظرون إلى ما كانوا يوعدون به من قيام الساعة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
تفسير المفردات
قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، والدين: الجزاء كما جاء فى قولهم
«كما تدين تدان»
، والفصل: الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل منهما عن الآخر، احشروا: أي اجمعوا، وأزواجهم: أي أمثالهم وأشباههم، فيحشر أصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنا كذلك، واهدوهم: أي دلوهم عليها، والصراط:
الطريق، والجحيم: النار، وقفوهم: أي احبسوهم في الموقف، مسئولون: أي عن عقائدهم وأعمالهم، لا تناصرون: أي لا ينصر بعضكم بعضا، مستسلمون: أي منقادون وأصل الاستسلام: طلب السلامة ويلزمه الانقياد عرفا.
48
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا وشديد إصرارهم على عدم حدوثه أردف هذا بيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا حين رأوا العذاب: لنا الويل والهلاك فقد حلّ ميعاد الجزاء، وسنجازى بما قدمنا من عمل كما وعدنا بذلك على ألسنة الرسل، فكذبناهم وسخرنا منهم، وأنكرنا صدق ما قالوا.
ثم أقبل بعضهم على بعض يتناجون ويقولون:
(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا هو اليوم الذي يمتاز فيه المحسن بما قدم من عمل عن المسيء الذي دسّى نفسه بما ران على قلبه من الفسوق والعصيان، ومحالفة أوامر الملك الديان، وينال كل منهما جزاء ما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيدخل الأول جنات النعيم على فرش بطائنها من إستبرق، ويدخل الثاني في سقر «وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ».
ثم ذكر خطاب الملائكة بعضهم لبعض فقال:
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي تقول الملائكة للزبانية: احشروا الظالمين من كل مكان إلى موقف الحساب مع أشباههم وأمثالهم، فاجعلوا ذوى المعاصي المتشابهة، بعضهم مع بعض، فاجعلوا الزناة معا، والآكلين لحوم الناس والناهشين لأعراضهم كذلك، واجعلوا عابدى الأصنام
49
ومعبوديهم من الأوثان والأصنام معا، ليكون في ذلك زيادة لهم في الحسرة وعظيم التخجيل على ما أتوه من عظيم الشرك وكبير المعصية.
ثم زادوا في تأنيبهم وتوبيخهم فقالوا:
(فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي فأرشدوهم إلى طريق جهنم ودلوهم عليها، وفي هذا زيادة في النكاية بهم والازدراء بشأنهم، إذ كانوا في الدنيا يزدرون المؤمنين ويتقحمونهم.
(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي واحبسوهم في الموقف، حتى يسألوا عما كسبت أيديهم، واجترحوا من الآثام والمعاصي، وعن تلك العقائد الزائفة التي زينها لهم الشيطان فأضلتهم عن سواء السبيل.
وفي الأثر «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس: عن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن ماله مم كسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟».
ثم زادوهم تقريعا وتعنيفا فسألوهم:
(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟) أي لأىّ شىء لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تزعمون أنكم تتناصرون، فقد روى أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر.
وأخّر سؤالهم إلى ذلك الحين إذ كان الوقت وقت تنجيز العذاب، وشدة الحاجة إلى النصير والمعين، وقد انقطع الرجاء منه، فالتقريع حينئذ أشد وقعا، وأعظم أثرا.
والخلاصة- إن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما يكون بعد إقامة الحجج عليهم وقطع أعذارهم بعد حسابهم.
ثم ذكر أنهم لا ينازعون في الوقوف ولا في غيره، بل ينقادون فقال:
(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي بل هم منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها، فلا فائدة في المنازعة، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة.
50

[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٧]

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
تفسير المفردات
عن اليمين: أي من جهة الخير وناحيته فتنهوننا عنه، من سلطان: أي من قهر وتسلط عليكم، طاغين: أي مجاوزين الحد في العصيان، فحق علينا: أي وجب علينا، فأغويناكم: أي دعوناكم إلى الغىّ والضلال.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف أن الكافرين يندمون يوم القيامة على ما فرط منهم من العناد والتكذيب للبعث حيث لا يجدى الندم- أردف هذا ذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فيلقى الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم، وما ألزمناكم بشىء مما كنتم تعبدون أو تعتقدون، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا فاتبعتمونا دون قسر ولا جبر منا لكم، ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل والهوان، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد أعرضوا عنها استكبارا
51
وقالوا: أنترك دين آبائنا اتباعا لقول شاعر مجنون ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون ولا هو بالشاعر، بل جاء بما هو الحق الذي لا محيص عن تصديقه وهو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة.
الإيضاح
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي وأقبل التابعون من الكفار، ورؤساؤهم المضلون لهم، يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع وتعنيف على طريق الجدل والخصومة، إذ أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأنهم صائرون إلى عذاب دائم في النار، فألقى الأتباع مسئولية ما هم فيه على رؤسائهم في الكفر والضلال، وردّ الرؤساء عليهم حجتهم بما جاء فى الآية بعد.
ثم فصل طريق التساؤل وكيف يحدث فقال:
(قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي قال الأتباع لرؤساء الضلال والكفر:
إنكم كنتم تمنعوننا عن فعل الخير وتصدوننا عن سلوك طريقه، وترغّبوننا فيما تدينون به وتعتقدونه، ومن ثم أضللتمونا وأوقعتمونا في الهلاك الذي نحن صائرون إليه لا محالة.
فردّ الرؤساء عليهم وأجابوهم بجوابين:
(١) (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي فردوا عليهم منكرين إضلالهم إياهم قالوا: إننا ما أضللناكم، بل أنتم كنتم بطبيعة أنفسكم مستعدين للكفر بما دسيتم به أنفسكم من أفعال الشرك والمعاصي، إذ كنتم تشركون بالله سواه من الأوثان والأصنام، وترتكبون أنواع الفجور والآثام ما كان سببا في الطبع على الأفئدة والقلوب حتى لم تعرفوا للحق سبيلا، ولا للخير طريقا.
(٢) (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي إننا على فرض إضلالكم وتزيين الكفر لكم، لم نجبركم عليه ولم نسلبكم اختياركم، فقلوبكم كانت محبة لما تفعلون، مسرورة مما تأتون وما تذرون، مائلة إلى الكفر والعصيان، تواقّة للسير على سننه
52
واتباع طريقته، فما كان منا إلا أن دعوناكم لتؤمنوا بما اخترناه لأنفسنا، وزينه الشيطان لنا، ووسوس به إلينا، فلبّيتم دعوتنا سراعا، وسرتم فيما نحن فيه سائرون، إذ كنتم لذلك مستعدين، ولمثله محبين، فما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة باختياركم، لا جبرا لكم.
ثم ذكروا نتيجة لما تقدم فقالوا:
(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) أي ولأجل أنا بطبعنا كنا قوما طاغين، وللكفر وتدسية أنفسنا مستعدين، وعن الإيمان بربنا معرضين- ثبت علينا وعيده بأنا ذائقو العذاب لا محالة، إذ كان من عدله أن يجازى كل نفس بما كسبت، ويثيبها بما عملت، وهو الخبير بها وبما اجترحت، وهذا جزاء لا محيص عنه، وهو نتيجة حتمية لما فعلنا باختيارنا، واقتضاه استعدادنا، فلا يلومنّ كل منا إلا نفسه، ولا يلم بعضنا بعضا، ولا داعى إلى الجدل والخصام وشد النكير، فلا يجنى من الشوك العنب، ولا يعقب الضلال إلا النار، عدلا من ربنا كما وعد بذلك على ألسنة رسله، وكنا بذلك عالمين، ولكنا كنا عن الخير معرضين، وعن اتباعه مستكبرين.
(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي إنه لم يكن منا في شأنكم إلا حبّنا أن تكونوا مثلنا وهو غير ملزم لكم، وإنما أضركم سوء اختياركم، وقبح استعدادكم، وهو الذي جعل مصيركم ما تشاهدون من العذاب التي وعدتم به على ألسنة الرسل.
وبعد أن ذكر حالهم أعقبه. بذكر العذاب الذي سيحل بهم جميعا رؤساء ومرءوسين فقال:
(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي فإن الفريقين المتسائلين حينئذ مشتركون في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والغواية، وإن كان المغوون أشد عذابا، لأنهم تحملوا أوزارهم وأوزارا مثل أوزار من أضلوهم كما ثبت في الحديث وقد تقدم ذكره مرارا.
ثم ذكر سبحانه أن هذا عدل منه على مقتضى سننه فقال:
53
(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن مثل ذلك الجزاء العظيم نفعل بالمشركين، وفاقا لما تقتضيه الحكمة ويوجبه العدل بين العباد، فيعطى كل عامل جزاء ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم فصل بعض ما استحقوا لأجله العذاب فقال:
(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي إنهم كانوا إذا لقّنوا كلمة التوحيد نفروا منها وأعرضوا عن قبولها، وصعّروا خدودهم أنفة وكبرا أن يسمعوا مثلها.
وذكروا السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته:
(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟) أي أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر، ونستمع لقول شاعر يخلّط ويهذى؟ فمثله لا يستمع لكلامه ولا يصغى إلى قوله.
وقد جمعوا في كلامهم بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة، فإنكار الأولى فى استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد، وإنكار الثانية في قولهم: أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون.
ثم كذبهم سبحانه فيما قالوا فقال:
(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنه صلّى الله عليه وسلم جاء بالحق الذي لا شك فيه وهو التوحيد الذي يثبته العقل ويؤيده البرهان، وبمثله جاء الأنبياء السابقون، فهو لم يكن بدعا بين الرسل، بل سار على شاكلتهم واتبع نهجهم، فكيف يكون من هذه حاله شاعرا أو مجنونا؟
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٩]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
54
تفسير المفردات
بكأس: أي بخمر، من معين: أي من نهر ظاهر للعيون جار على وجه الأرض، لذة: أي ذات لذة، غول: أي صداع، ينزفون: أي لا تذهب عقولهم بالسكر كما ينزف الرجل ماء البئر وينزعه، قاصرات الطرف: أي قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم، عين واحدتهن عيناء: أي واسعة العيون في جمال، المكنون: المستور الذي لا تمسه الأيدى ولا يصاب بالغبار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال وإلقاء كل منهما تبعة ما وقعوا فيه من الهلاك على الآخرين- بين هنا أن لا فائدة من مثل هذا الخصام والجدل، فإن العذاب واقع بكم لا محالة جزاء ما قدمتم من عمل، ثم أردفه ما يلقاه عباده المخلصون من النعيم المقيم، واللذات التي قصها علينا في تلك الآية مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) أي إنكم أيها الكفار المجرمون لتذوقون العذاب الأليم الذي لا تنفك أو جاعه عنكم، وما هو أبدا بمزايلكم.
ثم بين العلة في لحوقه بهم فقال:
55
(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وما ينالكم من العذاب إنما هو نتيجة ما قدمتم من عمل، وأسلفتم من معصية «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».
وبعد أن أبان حال المجرمين، ذكر حال عباد الله المؤمنين العالمين، وما يلاقونه من الجزاء والنعيم فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصوا له العمل وأنابوا إليه، أولئك لهم جنات يتمتعون فيها بكل ما لذّ وطاب، فيمتعون بلذيذ الفواكه ذات الطعم الجميل والرائحة الشذيّة، وتأتيهم وهم مكرمون كما تقدّم للملوك المترفين وذوى اليسار في الدنيا.
وفي ذلك إيماء إلى أن ما يأكلونه في الجنة إنما هو للتفكه والتلذذ لا للقوت، لأنهم فى غنى عنه، لعدم تحلل شىء من أجسامهم بالحرارة الغريزية حتى يحتاجوا إلى بدل منه.
وما جاء في قوله: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» فهو بيان لأنواع ما يأكلون.
ثم بين المكان الذي يأتيهم فيه الرزق وذكر حالهم إذ ذاك فقال:
(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي إنهم يأتيهم ذلك الرزق وهم في جنات النعيم جالسين على سرر متقابلين، ليأنس بعضهم ببعض، ويتمتعوا بطيب الحديث وفي ذلك لذة روحية لا يدركها إلا ذوو النّهى وأرباب الحجا.
وبعد أن ذكر صفة المأكل والمسكن ذكر وصف الشراب فقال:
(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي وكما يتمتعون بطيب المأكل يتمتعون بجيد الشراب تتميما للنعمة كما هو حال العظماء في الدنيا، فيؤتى لهم بصنوف الخمور على سبيل السعة والكثرة، كأنها تؤخذ من نهر جار فلا تقتير ولا بخل، بل كلما طلبوا وجدوا، وفي ذلك إشارة إلى أنها رقيقة لطيفة، وأنها ليست كخمر الدنيا تداس بالأقدام كما قال شاعرهم:
56
وشمولة من عهد عاد قد غدت... صرعى تداس بأرجل العصّار
لانت لهم حتى انتشوا فتمكّنت... منهم فصاحت فيهم بالثار
(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لونها مشرق حسن بهيّ لا كخمر الدنيا ذات المنظر البشع، واللون الأسود أو الأصفر، أو الذي فيه كدورة إلى نحو ذلك مما ينفّر الطبع السليم، وهى لذيذة الطعم كما هى طيبة اللون وطيبة الريح، وقد وصفوا خمر الدنيا بالصفرة كما قال أبو نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها... لو مسّها حجر مسته سرّاء
وجاء وصفها بالحمرة قبل المزج، والصفرة بعده كما قال:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده... أتت في ثيابى نرجس وشقائق
حكت وجنة المحبوب صرفا فسلّطوا... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
ثم زاد في مدحها وامتيازها عن خمر الدنيا فقال:
(لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي هى لا تؤثر في الأجسام كما تؤثر خمور الدنيا، فلا تصدّع الرأس، ولا تفسد العقل بالسكر كما يكون في خمر الدنيا كما قال:
فما زالت الكأس تغتالنا... وتذهب بالأول الأول
والخلاصة- إنه ليس فيها شىء من أنواع المفاسد التي تكون حين شرب الخمر فى الدنيا، فهى لا تحدث صداعا ولا خمارا ولا سكرا ولا عربدة ولا نحو ذلك مما هو لازم لخمور الدنيا.
ثم ذكر محاسن زوجاتهم ليكون في ذلك تتميم لبيان ما آتاهم ربهم من النعم فقال:
(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) أي ولديهم نساء عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن، واسعات العيون في جمال.
ثم زاد بيانا في وصف جمالهن بما شبههن به فقال:
57
(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) أي إنهن في بياض يشوبه قليل من الصفرة كالبيض المستور في الأعشاش الذي لم تمسسه الأيدى ولم يعله الغبار، وهذا اللون مما تهيم به العرب، فقد شبهت النساء ببيضات الخدور كما قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٠ الى ٦١]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
تفسير المفردات
قرين: أي خليل وصاحب، لمدينون: أي لمجزيون، مطلعون: أي مشرفون فناظرون إلى أهل النار، سواء الجحيم: أي وسط النار، لتردين: أي لتهلكنى، من المحضرين: أي المسوقين للعذاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من النعيم المقيم، ثم ذكر سرورهم وحبورهم في المآكل والمشارب وجميل المساكن والأزواج الحسان- بين هنا أنهم
58
لخلوّ بالهم من المشاغل، وطيب نفوسهم يسمر بعضهم مع بعض ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم من شتى الشئون، مع اختلاف الأهواء، حتى ليقص بعضهم على بعض أن خليله كاد يوقعه في الهلاك لولا لطف ربه به، وقد كان مآله أن صار فى سواء الجحيم، ثم ذكر نعمة ربه عليه بسبب ما كان يدين به في الدنيا.
الإيضاح
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يطاف عليهم بكأس من معين، فيشربون ويتحادثون على الشراب، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء إذ ذاك كما أفصح عن ذلك شاعرهم:
وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتى قمر منير يجول بوجهه ماء الشباب
والحديث ذو شجون، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال، وفراغ البال، واطمئنان النفس، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة.
ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال:
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟) أي قال قائل من أهل الجنة: إنى كان لى قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة، ويستنكره أشد الاستنكار، ويقول متعجبا:
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغى مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.
59
وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال، ويريهم ما آل إليه أمره من الدخول في النار فقال:
(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال لجلسائه من أهل الجنة، ليزيدهم سرورا على أن عصمهم الله من مثل حاله ووفقهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياؤه، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين؟ وكيف خذله الله وأوقعه في الهلكة؟
وإنا لا نخوض في كيفية الاطلاع إذ ذاك مع شاسع المسافات، واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار- فإن ذلك من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها دون بحث فى شأنها، ولا نقص ولا زيادة فيها.
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فاطلع إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسطها، يتلظى بحرّها وشديد لهبها.
(قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال لقرينه مو بخاله: إنك لقد كدت تهلكنى بدعائك إياى إلى إنكار البعث والقيامة.
(وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولولا فضل ربى بإرشاده لى إلى الحق، وعصمتى من الباطل، لكنت مثلك من المحضرين للعذاب.
ثم ذكر ما يقوله ذلك المؤمن لجلسائه تحدثا بنعمة ربه عليه، واغتباطا لحاله، بمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له، فيزيد به تعذيبه.
(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي يقول لهم: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا بمعذبين إلا موتتنا الأولى؟ بخلاف الكفار فإنهم يموتون مثلنا، ثم هم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال، وقد قيل لحكيم: ما شرّ من الموت؟ قال الذي يتمنّى معه الموت.
والخلاصة- إن المؤمن غبط نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة فى دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب.
60
وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون، جاء من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك وفي نفى العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم، وعدم خوف زواله، فإن خوف الزوال نوع من العذاب كما قال:
إذا شئت أن تحيا حياة هنية فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
وإلى نفى الهرم واختلال القوى، لأنه ضرب من العذاب أيضا.
ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته فقال:
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن ما نحن فيه من نعيم مقيم، مع تمتع بسائر اللذات، من مآكل ومشارب فوز أيّما فوز، ولا سيما الفوز بذلك النعيم الروحي وهو رضا الله عنه كما قال: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ».
ثم أومأ إلى اغتباطه بما هو فيه، وبين أن ذلك كان عاقبة كسبه وعمله فقال:
(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لمثل هذا النعيم والفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة، ولا يعملوا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام، المشوبة بصنوف الآلام.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٠]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
61
تفسير المفردات
النزل: ما يعدّ للضيف وغيره من الطعام والشراب، والزقوم: شجرة صغيرة الورق كريهة الرائحة، سميت بها الشجرة الموصوفة في الآية، فتنة: أي محنة وعذابا في الآخرة، وابتلاء في الدنيا، أصل الجحيم: أي قعر جهنم، طلعها: أي ثمرها، رءوس الشياطين:
أي في قبح المنظر ونهاية البشاعة، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان فيقولون:
وجه كأنه وجه شيطان، كما يشبهون حسن الصورة بالملك، والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، والشّوب: الخلط، والحميم: الماء الشديد الحرارة، مرجعهم:
أي مصيرهم، ألفوا: أي وجدوا، يهرعون: أي يسرعون إسراعا شديدا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه ثواب أهل الجنة، وذكر ما يتمتعون به من مآكل، ووصف الجنة ورغب فيها بقوله: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ).
أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار وما يلاقون فيها من العذاب اللازب الذي لا يجدون عنه محيصا، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم، جزاء ما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان، من الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ؟) أي أهذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة كرامة منى لهم خير، أم ما أوعدت به أهل النار من الزّقوم المرّ البشع؟.
وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم، (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء واختبارا للكافرين،
62
فهم حين سمعوا في أنها في النار قالوا: كيف يكون ذلك والنار تحرق الشجر؟ مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها، فهو أقدر على خلق الشجر فيها وحفظه من الاحتراق.
ثم وصف هذه الشجرة فقال:
(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي إنها شجرة تنبت في قعر النار، وأغصانها ترتفع إلى أركانها.
(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي إن ثمرها في قبح منظره، وكراهة رؤيته، كأنه رءوس الشياطين والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة لا تعدلها صورة أخرى، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي: كأن وجهه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس شيطان، ألا ترى إلى امرئ القيس وقد سلك هذا السبيل، ونهج هذا النهج فقال:
أيقتلني والمشرفىّ مضاجعى ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وعلى العكس من هذا تراهم يشبهون الصورة الحسنة بالملك، من قبل أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه، فارتسم في خيالهم بأبهى صورة، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف «ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ».
ثم بين أن مآكل أهل النار من هذه الشجرة فقال:
(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي فإنهم ليأكلون من ثمرها فيملئون بطونهم منه، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه ونهاية نتنه وبشاعة رائحته، ولكن ماذا يعملون وقد غلب عليهم الجوع؟ والمضطر يركب الصعب والذلول، ويستروح من الضرّ بما يقار به فيه.
وبعد أن وصف طعامهم وبين شناعته، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع فقال:
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش
63
يستغيثون منه فيغاثون بماء كالمهل قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم شوى لحوم وجوههم، وإذا شربوه قطّع أمعاءهم.
ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك لا مأوى لهم إلا نار جهنم وبئس المصير فقال:
(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب، لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، فهم تارة في هذه وتارة في تلك كما قال:
«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ».
والخلاصة- إنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم وهى الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم ثم يسقون الحميم ثم يرجعون إلى تلك الدركات.
ثم علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به فقال:
(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي ثم إنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم بلا برهان، وأسرعوا إلى تقليدهم بلا تدبر ولا روية، وكأنهم استحثّوا على ذلك، وأزعجوا إزعاجا.
وفي هذا دليل على أن التقليد شؤم على المقلّد وعلى من يتبعه، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن في القرآن آية غير هذه فى ذم التقليد لكفى.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
64
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين دون نظر ولا تدبر- أردفه ما يوجب التسلية لرسوله على كفرهم وتكذيبهم، بأن كثيرا من الأمم قبلهم قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك، ونجّى الله المؤمنين ونصرهم، فليكن لك فيهم أسوة، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات إن عليك إلا البلاغ.
الإيضاح
(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم السابقة، فعبدوا مع الله آلهة أخرى كما فعل قوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح.
ثم ذكر رحمته بعباده وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار فقال:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي فأرسلنا فيهم أنبياء ينذرونهم بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم ولم يستجيبوا دعوتهم كما أشار إلى ذلك بقوله:
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر كيف كان عاقبة الكافرين المكذبين، فقد دمرهم الله ونجّى المؤمنين ونصرهم.
وهذا خطاب موجه إلى كل من شاهد آثارهم، وسمع أخبارهم، فقد سمعت قريش بأنباء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وكيف كان عاقبة أمرهم.
وقد استثنى من هؤلاء المهلكين عباد الله المخلصين فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه،. أنجاهم من عذابه ففازوا بالنعيم المقيم في جنات عرضها السموات والأرض.
65
قصص نوح عليه السلام
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر على سبيل الإجمال ضلال كثير من الأمم السالفة- شرع يفصل ذلك فذكر نوحا عليه السلام وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول مدة لبثه فيهم، فلما اشتدوا واشتطوا في العناد دعا ربه أنى مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه، وأغرق قومه المكذبين، ونجاه وأهله أجمعين.
الإيضاح
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي ولقد نادانا نوح واستنصر بنا على كفار قومه لمّا بالغوا في إيذائه وهمّوا بقتله حين دعاهم إلى الدين الحق، فلنعم المجيبون نحن، إذ لبّينا نداءه وأهلكنا من كذب به من قومه.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضى الله عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية: (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال صدقت ربنا، أنت أقرب من دعى، وأقرب من بغى، فنعم المدعوّ، ونعم المعطى، ونعم المسئول، ونعم المولى أنت ربنا، ونعم النصير».
66
ثم بين سبحانه أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه:
(١) (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الكرب: الغم الشديد، أي فنجيناه من الغرق ومن أذى قومه ومن كل ما يكربه ويسوءه.
(٢) (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي وأهلكنا من كفر بنا استجابة لدعوته:
«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ولم يعقب أحد ممن كان فى السفينة عقبا باقيا سوى أبنائه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك، وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شىء من هذا، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبة، ولا أن الغرق عمّ الأرض جميعا، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقين إنما هو بالنسبة لذرية من معه فى السفينة، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة من لم تبلغهم الدعوة، فلم يستوجبوا الغرق كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية (٣) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه أنه سلّم عليه ليقتدى به، فلا يذكره أحد بسوء فقال:
(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ونحو الآية قوله: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ».
ثم علل ما فعله به بأنه جزاء على إحسانه فقال:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنه كان في زمرة المحسنين فجازيناه بالإحسان إليه و «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ».
67
وإحسانه أنه جاهد أعداء الله بالدعوة إلى دينه، وصبر طويلا على أذاهم، إلى نحو من هذا.
ثم بين سبب إحسانه بقوله:
(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي إن إحسانه كان بإخلاص عبوديته وكمال إيمانه.
وفي هذا إيماء إلى أن أعظم الدرجات، وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته.
(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أغرقنا الآخرين من كفار قومه، ولم نبق لهم عينا ولا أثرا.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ٩٤]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)
تفسير المفردات
من شيعته: أي ممن سار على دينه ومنهاجه، سليم: أي سالم من جميع العلل والآفات النفسية كالحسد والغل وغيرهما من النيات السيئة، والإفك: الكذب، سقيم:
68
أي مريض، فراغ: أي فذهب خفية إلى أصنامهم، وأصل الروغ والروغان: الميل قال شاعرهم:
ويريك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
باليمين: أي بقوة وشدة، يزفون: أي يسرعون من زفّ النعام، أي أسرع.
الإيضاح
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن ممن سار على نهج نوح، وسلك طريقه، فى اعتقاد التوحيد والبعث، والتصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين- إبراهيم صلوات الله عليه.
(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أخلص قلبه لربه وجعله خاليا من كل شئون الحياة الدنيا، فلا غش لديه ولا حقد، ولا شىء مما يشينه من العقائد الزائفة، والصفات القبيحة.
ثم فصل ما سلف فقال:
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ؟) أي جاء بقلب سليم حين قال منكرا على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأوثان: أىّ شىء تعبدون؟
وهذا منه استنكار وتوبيخ لهم على ما يعبدون، إذ لا ينبغى لعاقل أن يركن إلى مثل هذه المعبودات التي لا تضر ولا تنفع.
ثم بين الإنكار وفسره بقوله:
(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟) أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل من نصّ، ولا تأييد من نقل، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأى.
(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أىّ شىء ظنكم برب العالمين الحقيق بالعبادة؟ أي أعلمتم أىّ شىء هو، حتى جعلتم الأصنام شركاء له؟
69
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة: نظر في النجوم أي فأطال الفكر فيما هو فيه.
(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي إنى أحس بخروج مزاجى عن حال الاعتدال، ولا أرى فى نفسى خفة ونشاطا، وكان مقصده من قولته هذه ألا يخرج معهم في يوم عيدهم، لينفّذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم وإعلان الحرب عليهم، فى عبادتهم للأوثان والأصنام، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية، ولا دليل على أنه لم يكن صادقا فيما يقول إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذى بال يخاف منه الخطر على نفسه أن يكون مهموما مغموما مفكّرا في عاقبة ما يعمل.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي فأعرضوا عنه وذهبوا إلى معبدهم وتركوه في مكانه.
(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي فذهب مستخفيا إلى أصنامهم التي يعبدونها وقال لها استهزاء: ألا تأكلون من الطعام الذي يقدّم إليكم؟ وكانوا يضعون فى أيام أعيادهم طعاما لدى هذه الأصنام لتبارك فيه.
(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟) أي أىّ شىء منعكم الإجابة عن سؤلى، ومراده بذلك التهكم بهم، واحتقار شأنهم.
(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة حتى تركهم جذاذا إلا كبيرهم كما تقدم في سورة الأنبياء.
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي فأقبل قومه إليه بعد رجوعهم من عيدهم مسرعين يسألون عمن كسرها، وقد قيل لهم: إنه إبراهيم، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها ولما أخذوا يعتبون عليه طفق يؤنبهم ويعيبهم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٥ الى ١٠١]
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
70
الإيضاح
(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟) أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم؟ فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم تجعلونه معبودا لكم، أفلا عاقل منكم ينهاكم عن مثل هذا؟
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي والله خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم، وإثم كبير.
ولما أورد عليهم إبراهيم هذه الحجة القوية التي لم يستطيعوا دفعها- عدلوا عن الحجاج إلى الإيذاء واستعمال القوة.
(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) تقدم هذا بمزيد إيضاح في سورة الأنبياء (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي فأرادوا إحراقه في النار فأنجيناه منها، وجعلناها بردا وسلاما عليه، وجعلنا كيدهم في نحورهم، وكتبنا له الغلبة والنصر عليهم.
وبعد أن يئس من إيمانهم أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:
(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي وقال إنى مفارق لتلك الديار، ومهاجر إلى مكان أتفرغ فيه لعبادة ربى، وإنه سيهدينى إلى ما فيه صلاح دينى، وهذا المكان هو الأرض المقدسة.
وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان إذا لم يتمكن من إقامة دينه على الوجه المرضى فى أرض وجبت عليه الهجرة منها إلى أرض أخرى.
71
ولما هاجر من وطنه طلب الولد فقال:
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رب هب لى أولادا مطيعين يعينوننى على الدعوة، ويؤنسوننى في الغربة، ويكونون عوضا من قومى وعشيرتى الذين فارقتهم.
فاستجاب ربه دعاءه فقال:
(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي فبشرناه بمولود ذكر يبلغ الحلم ويكون حليما. وقد استفيد بلوغه من وصفه بالحلم، لأنه لازم لتلك السن، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة الصدر، وحسن الصبر، والإغضاء عن كل أمر، وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق العلماء من أهل الكتاب والمسلمين، بل جاء النص في التوراة على أن إسماعيل ولد لإبراهيم وسنه ست وثمانون سنة، وولد له إسحاق وعمره تسع وتسعون سنة.
وأي حلم مثل حلمه، عرض عليه أبوه وهو مراهق أن يذبحه فقال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فما ظنك به بعد بلوغه، وما نعت الله نبيا بالحلم غير إبراهيم وابنه إسماعيل عليه السلام.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٢ الى ١١٣]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
72
تفسير المفردات
فلما بلغ معه السعى أي فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله وحاجات المعيشة، أسلما: أي استسلما وانقادا لأمر الله، تله: أي كبه على وجهه صدقت الرؤيا: أي حققت ما طلب منك، البلاء المبين. أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، بذبح: أي حيوان يذبح، باركنا عليه: أي أفضنا عليه البركات.
المعنى الجملي
اعلم أنه بعد أن قال سبحانه: فبشرناه بغلام حليم- أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن المراهقة بقوله: فلما بلغ معه السعى، إذ هو لا يقدر على الكد والعمل إلا بعد بلوغ هذه السن، ثم أتبعه بقص الرؤيا عليه وإطاعته في تنفيذ ما أمر به وصبره عليه، ولما حان موعد التنفيذ كبه على وجهه للذبح فأوحى إليه ربه أنه فداه بذبح عظيم، ثم بشره بإسحاق نبيا من الصالحين، وبارك عليه وعلى إسحاق وأنه سيكون من ذريتهما من هو محسن فاعل للخيرات، ومنهم من هو ظالم لنفسه مجترح للسيئات.
الإيضاح
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟) أي فلما كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه- قال له يا بنى إنى رأيت في المنام أنى أذبحك فما رأيك؟ وقد قص عليه ذلك ليعلم ما عنده فيما
73
نزل من بلاء الله، فيثبت قدمه إن جزع، وليوطن نفسه على الذبح، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله.
ثم بين أنه كان سميعا مطيعا منقادا لما طلب منه.
(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال يا أبت سميعا دعوت، ومن مجيب طلبت، وإلى راض ببلاء الله وقضائه توجهت، فما عليك إلا أن تفعل ما تؤمر به، وما على إلا الانقياد وامتثال الأمر، وعلى الله المثوبة، وهو حسبى ونعم الوكيل.
ولما خاطبه بقوله يا بنى عنى سبيل الترحم، أجابه بقوله يا أبت على سبيل التوقير والتعظيم وفوض الأمر إليه حيث استشاره، وأن الواجب عليه إمضاء مارآه.
ثم أكد امتثاله للأمر بقوله:
(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي سأصبر على القضاء، وأحتمل هذه اللأواء، غير ضجر ولا برم بما قضى وقدر، وقد صدق فيما وعد، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه، ومن ثم قال سبحانه في شأنه مادحا له «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ».
ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا فقال:
(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وفوضا إليه سبحانه الأمر في قضائه وقدره، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه باشارة منه، حتى لا يرى وجهه فيشفق عليه:
وروى عن مجاهد أنه قال لأبيه: لا تذبحنى وأنت تنظر إلى وجهى، عسى أن ترحمنى فلا تجهز على، اربط يدى إلى رقبتى، ثم ضع وجهى للأرض، ففعل.
(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى: أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح. فقد بان امتثالك للأمر، وصبرك على القضاء: وحينئذ استبشرا وشكرا لله على ما أنعم به عليهما من
74
دفع البلاء بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله، مع إظهار فضلهما، وإحراز المثوبة من ربهما.
ثم علل رفعه لذلك البلاء وإزالته لتلك الغمة بقوله:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إناكما عفونا عن ذبحه لولده، بعد استبانة إخلاصه في عمله، حين أعد العدّة، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة، فرضى بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا- نجزى كل محسن على طاعته، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل، وبمثله جدير.
ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة فقال:
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي كان لهو محنة أيّما محنة، واختبار لعباده لا يعدله اختبار، ولله عز اسمه أن يبتلى من شاء من عباده بما شاء من التكاليف وهو الفعال لما يريد، لا رادّ لقضائه ولا مانع لقدره، وكثير من التكاليف قد تخفى علينا أسرارها وحكمها، وهو العليم بها وبما لأجله شرعها.
(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير قاله الحسن البصري، ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه.
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى فقال:
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا بين الناس في الدنيا فصار محبّبا بين الناس جميعا من كل ملة ومذهب، فاليهود يجلّونه، والنصارى يعظمونه، والمسلمون يبّجلونه، والمشركون يحترمونه، ويقولون إنا على ملة إبراهيم أبينا، وذلك استجابة لدعوته حين قال: «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».
75
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة فقال:
(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة وهى نعمة الولد فقال:
(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وآتيناه إسحاق ومننّا عليه بنعمة النبوة له وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا وصبره على بلوانا.
(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وأفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة، فكثّرنا نسلهما وجعلنا منه أنبياء ورسلا، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة فيقولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله فآمن بربه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه، ومن ظلم نفسه ودساها بالكفر والفسوق والمعاصي.
وفي ذلك تنبيه إلى أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة، ولا عيب عليهم في شىء منه كما قال: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».
من الذبيح؟ أإسحاق أم إسماعيل؟
ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب وعن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن ثم حدث الخلاف فيها.
١- فمن قائل إنه إسحاق، ويؤيده:
(ا) ما روى عن يوسف عليه السلام أنه قال لفرعون مصر في وجهه: أترغب
76
عن أن تأكل معى وأنا والله يوسف بن يعقوب نبى الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
(ب) ما روى عن أبى الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال ابن مسعود: ذلك يوسف بن يعقوب ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
(ح) ما حكاه البغوي عن عمر وعلىّ وابن مسعود والعباس أنه إسحاق.
ولكعب الأحبار ضلع في هذه الأخبار وأمثالها التي تلقاها المسلمون عنه، وكان يحدّث بها عن الكتب القديمة وهى جامعة بين الغثّ والسمين ثقة بأن عمر رضى الله عنه قد استمع منه، ومن ثم احتاج الثقات إلى تمحيصها، وعزل جيدها من بهرجها وصحيحها من سقيمها.
٢- ومن قائل إنه إسماعيل وهو الذي يساوقه صحيح النظر ونصوص القرآن ويؤيده.
ا- رواية ذلك عن ابن عباس، فقد روى عطاء بن أبى رباح عنه أنه قال: المفدى هو إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.
(ب) روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال: الذبيح إسماعيل.
(ح) أن ابن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: إن الذي أمر الله ذبحه من ابنيه هو إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» وقال:
«فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل- قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا.
وعلى الجملة فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها يؤيد أنه إسماعيل، ولكن اليهود حسدوا العرب على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر الله فيه ما كان ومن
77
الفضل الذي ذكره الله له لصبره لما أمر به، فجحدوا ذلك وزعموا أنه إسحاق لأنه أبوهم والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرا مطيعا لربه.
قصص موسى وهارون عليهما السلام
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
الإيضاح
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي ولقد أنعمنا عليهما بالخير الكثير، فآتيناهما النبوة ونصرناهما على أعدائهما من قبط مصر وملكناهما أرضهم وأغرقنا من كان مستذلهما إلى نحو ذلك.
ثم فصل هذه النعم فقال:
(١) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجيناهما ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء، واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى من المهانة والمذلة التي لولا إلفهم لها لكانت كافية في انقراضهم، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال وحيازته، والتمتع بلذات الحياة الدنيا.
78
(٢) (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي ونصرناهم على أعدائهم فغلبوهم وملكوا أرضهم وأموالهم وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم فكانوا أصحاب الصّولة والسلطان والدولة والرفعة.
(٣) (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي وأعطيناهما الكتاب الجلىّ الواضح الجامع لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا، وهو التوراة كما قال: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» وقال: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ».
(٤) (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي ودللناهما على طريق الحق بالعقل والنقل وأمددناهما بالتوفيق والعصمة.
(٥) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا لهما الذكر الحسن والثناء الجميل فيمن بعدهم، وهذا ما تصبو إليه النفوس قال شاعرهم:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر: الذكر للإنسان عمر ثان.
(٦) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي وجعلنا الملائكة والإنس والجن يسلمون عليهما أبد الدهر، ولا شىء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال كما
ورد فى الحديث «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».
ثم ذكر سبب هذه النعم فقال:
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام في هذا نظير ما سلف من قبل.
79
قصص إلياس عليه السلام
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٣٢]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
الإيضاح
(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال ابن جرير: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هرون أخى موسى عليهما السلام، فهو إسرائيلى من سبط هرون.
(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي أنذر قومه وحذرهم بأس الله فقال: ألا تخافون الله، فتمتثلوا أوامره، وتتركوا نواهيه؟
ثم ذكر سبب الخوف فقال:
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بعل اسم صنم أي أتعبدون هذا الصنم. وتتركون عبادة من خلقكم وخلق آباءكم السابقين وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه؟
ثم بين أن قومه كذبوه واستمروا في غوايتهم فقال:
(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي فكذبوه فيما تضمنه كلامه من وجوب توحيد الخالق، وتحريم الإشراك به، وعقابه تعالى عليه، فهم لأجل ذلك يحضرون يوم القيامة للعذاب، ويجازون على سوء أفعالهم وأقوالهم.
ثم أخرج من بينهم جماعة لم يكذّبوا فلم يلحقهم هذا العذاب والهوان فقال:
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي إلا قوما منهم أخلصوا العمل لله وأنابوا إليه فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح، وقدّموا من ذخر طيب.
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما تقدم فيما قبله سوى أن إلياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء غير العربية.
قصص لوط عليه السلام
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
الإيضاح
(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإنا أرسلنا لوطا إلى قومه أهل سذوم، وكانوا قد أتوا من المنكرات والفواحش ما لم يأته أحد من العالمين، فنصحهم فلم ينتصحوا، فأهلكهم الله ونجاه هو وقومه كما قال:
(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه هو وأهله من بين أظهرهم إلا امرأته، فإنها هلكت مع من هلك من قومها، وجعلنا محلتهم من الأرض بحيرة ذات ماء ردىء الطعم، منتن الريح.
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ)
أي ثم أهلكنا عدا من ذكرنا.
ثم أرشد مشركى مكة إلى النظر والاعتبار بما حل بهم وبأمثالهم من المكذبين فقال:
(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ)
أي وإنكم لتمرون عليهم وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح، أو أول الليل فترون آثار ديارهم التي عفت وأضحت خرابا يبابا، لا أنيس فيها ولا جليس، ولا ديّار ولا نافخ نار.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟)
أي أتشاهدون هذا فلا تعتبروا ولا تخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟ فإن ما حل بهم من البلاء إنما كان لمخالفة رسولهم كما تفعلون.
قصص يونس عليه السلام
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٨]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
تفسير المفردات
أصل الإباق: هرب العبد من سيده، والمراد هنا أنه هاجر بغير إذن ربه، المشحون:
المملوء، فساهم: أي فقارع من في الفلك أي عمل قرعة، المدحضين: أي المغلوبين بالقرعة، فالتقمه: أي فابتلعه، مليم: أي آت ما يستحق عليه اللوم، بالعراء: أي بالمكان الخالي، يقطين: أي دبّاء (القرع العسلي المعروف الآن) وقيل: الموز وهو أظهر لأن أوراقه أعرض
82
الإيضاح
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)
أي وإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة وقد رووا في إباقه الرواية الآتية:
إنه لما أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى بالهجرة، فركب سفينة فوقفت فقالوا هاهنا عبد آبق من سيده، وكان الملاحون يزعمون أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجرى، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال أنا الآبق وألقى نفسه في الماء.
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فالتقمه الحوت وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه، وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
ثم ذكر سبحانه أنه أنجاه لما كان له من عمل صالح فقال:
(فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي فلولا أنه كان من الذاكرين الله كثيرا والمسبحين بحمده طوال عمره، للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها.
(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) أي فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر، وهو عليل الجسم سقيم النفس، لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه، إذ أعرضوا عن دعوته ولم يصدقوه فيما جاء به، وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة فى دنياهم وآخرتهم ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له.
ثم بين لطفه به ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس ولا لزمهرير البرد فقال:
(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فأنبتنا حواليه شجرة موز يتغطى بورقها،
83
ويستظل بأغصانها، فتقيه لفح الشمس ووهجها، وبرد الصحراء وشديد صرّها، وكذلك يأكل من ثمارها، فتغنيه عن طلب الغذاء من أي جهة أخرى.
ثم ذكر أنه لما شفى من سقمه ونجا من الهلاك ورضى ربه عنه عاد إلى قومه، ليتمّ دعوته، ويبلغ رسالته كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم وقد كانوا مائة ألف بل يزيدون، فاستقامت حالهم وآمنوا به، لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطئوا وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم، فلما عاد إليهم ودعاهم إلى ربه لبّوا الدعوة طائعين منقادين لأمر الله ونهيه، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم وهلكوا فيمن هلك.
تذنيب
هاهنا مسألتان:
(١) إن القرآن الكريم لم يبين لنا ممّ أبق، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها.
(٢) إنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح ولم يؤثر ذلك، وأيّا كان فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة أو كثيرة معجزة لذلك النبي الكريم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٦٠]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)
84
المعنى الجملي
أمر الله رسوله في صدر هذه السورة بتبكيت قريش وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة وتظاهرها على وجوده، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين وبين ما يلقونه من النعيم، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين وأنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل:
وهنا أمره بالتنديد عليهم ثانيا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها وهى جعل البنات لله وجعل البنين لأنفسهم بقولهم: الملائكة بنات الله، ثم بالتقريع ثالثا على استهانتهم بالملائكة بجعلهم إناثا، ثم أبطل كلا من هذين بالحجة التي لا يجد العاقل محيصا عن التصديق بها والإذعان لها.
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟) أي سل قريشا مؤنبا لها ومقرّعا على ضعف أحلامها وسفاهة عقولها، ألربى البنات ولكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم، وإلام تستندون؟ وإنكم لتكرهون البنات وتبغضونها أشد البغض كما جاء في قوله:
«وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ».
85
ونحو الآية قوله في سورة النجم: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» أي قسمة جائرة.
(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟) أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وقد شهدوا هذا الخلق؟
وهذا ترقّ في التوبيخ لهم على هذه المقالة، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل، حتى يقوم الدليل والبرهان على صحته، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدّعون لا يوجد، فلم تبق إلا المشاهدة، وهذه لم تحصل، ونحو الآية قوله: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ».
ثم بين فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة فقال:
(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ) أي وما جرأهم على هذا القول الهراء والرأى الخطل إلا اعتقادهم الباطل أن لله ولدا، وهو افتراء قبيح وإفك صريح، لا مستند له، ولا شبهة ترشد إلى صدقه.
ثم أكد هذا النفي بقوله:
(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون، ولا أثرة لهم من علم يصدق ما يعتقدون، فمن أين جاءهم هذا؟
ثم نقض الدعوى من أساسها مبينا أن العقل لا يتقبلها فقال:
(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟) أي أىّ شىء يحمله على أن يختار البنات ويترك البنين؟ والعرف والعادة والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا.
ونحو الآية قوله: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً».
86
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون، وتتفكرون فى صحة ما تعتقدون؟ فالعقل يقضى ببطلان مثل هذا.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) فتعرفوا خطأ ما تعتقدون، وترجعوا على أنفسكم باللائمة فيما تقولون.
ثم زاد في تأنيبهم وتقريهم وطالبهم ببرهان من النقل يؤيد صحة ما يدعون فقال:
(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل ألكم حجة واضحة على هذا نزل بها وحي؟ إن كان الأمر هكذا فأرونى كتابكم الذي يؤيد ما تقولون إن كنتم صادقين.
ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم، والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم، مع الاستهزاء بهم، والتعجيب من جهلهم.
ثم ذكر أن هذه العقيدة ستؤدى بهم إلى ما لا ينبغى أن قال فقال:
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) المراد بالجنة الملائكة، وسموا جنّا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، أي وجعلوا بينه وبين الملائكة مشاكلة ومناسبة، فقالوا الملائكة بنات الله.
ثم ذكر أنهم سيندمون على مقالتهم هذه فقال:
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينه تعالى وبينهم نسبا- إن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم هذا.
قال مجاهد ومقاتل: القائل ذلك هم كنانة وخزاعة، قالوا إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه، وقال الكلبي وقتادة: قالت اليهود- لعنهم الله-: إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم.
87
والخلاصة- إن هؤلاء سيعذبون في النار على تقوّلهم على الله بغير علم بإثبات البنات له دون أن يكون هناك نص على ذلك.
ثم نزه سبحانه نفسه عن كل ما لا يليق به من هذه النقائص فقال:
(سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس ربنا عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون علوّا كبيرا.
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولكن المخلصين المتبعين للحق المنزّل على الرسل ناجون فلا يحضرون إلى النار ولا يعذبون.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦١ الى ١٧٠]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
تفسير المفردات
بفاتنين: أي بمضلين من قولهم فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه، صال الجحيم: أي داخل في النار ومعذب فيها، الصافون: أي صافو أنفسهم للعبادة، ذكرا: أي كتابا
المعنى الجملي
بعد أن أثبت فساد آراء المشركين ومذاهبهم- أتبع ذلك بما نبه به إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان مستعدا له، وقد سبق
88
فى حكم الله أنه من أهل النار وأنه لا محالة واقع فيها، ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيها إلى فساد قول من ادعى أنهم أولاد الله.
الإيضاح
(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي فإنكم أيها المشركون مع معبوديكم من الأوثان والأصنام لا يتسهل لكم أن تفتنوا إلا من هو ضالّ مثلكم، ومن كتب له أنه من أصحاب النار فهو لا محالة يكبكب فيها، قال لبيد ابن ربيعة فأحسن:
أحمد الله فلا ندّ له بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضلّ
ثم حكى سبحانه اعتراف الملائكة بالعبودية لربهم فقال:
(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي وإن لكل منا مرتبة لا يتجاوزها في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى خضوعا لعظمته، وخشوعا لهيبته، وتواضعا لجلاله كما
روى فى الخبر «فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه».
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي وإنا لنقف صفوفا في أداء الطاعات، ومنازل الكرامات، لكل منا منزلة لا يعدوها، ومرتبة لا يتخطاها.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟
قال: يتمّون الصفوف الأول ويتراصّون في الصف»

وكان عمر يقول إذا قام للصلاة:
أقيموا صفوفكم واستووا، إنما يريد الله بكم هدى الملائكة عند ربها ويقرأ:
«وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبّر.
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا لننزه الله تعالى عما لا يليق به، فنحن عبيد له، فقراء إليه، خاضعون لأوامره.
89
ثم حكى عن المشركين مقالتهم قبل بعث النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولقد كانوا يتمنون قبل أن يأتيهم الرسول أن لو كان عندهم من يذكّرهم بأمر الله ونهيه ويأتيهم بكتاب من عنده، ليخلصوا له العبادة، ويكونوا أهدى سبيلا ممن سبقهم من أهل الكتب السالفة من اليهود والنصارى.
ثم بين أنهم كانوا كاذبين وأن حالهم بعد مجيئه كانت على غير ما قالوا فقال:
(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي ثم بعد أن جاءهم الذكر والكتاب المهيمن على كل الكتب أعرضوا عنه وكفروا به، وأنهم سوف يعلمون عاقبة عنادهم وما سيحل يهم من نقمتنا وعذابنا.
ونحو الآية قوله: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً».
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، على كفرهم بربهم، وتكذيبهم برسوله صلّى الله عليه وسلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
90
تفسير المفردات
كلمتنا: وعدنا، المنصورون: أي الغالبون في الحرب وغيرها، جندنا: أي أتباع رسلنا، والساحة: المكان الواسع.
المعنى الجملي
لما هدد سبحانه المشركين بقوله: فسوف يعلمون- أردفه ما يقوى قلب رسوله ﷺ بوعده بالنصر والتأييد، كما جاء في آية أخرى «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي».
الإيضاح
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي ولقد سبق وعدنا أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، فننصرهم على أعدائهم بقهرهم والنيل منهم، بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن الأوطان أو أسرهم أو نحو ذلك.
ونحو الآية قوله: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ».
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي وأعرض عنهم، واصبر على أذاهم، وانتظر مدة قليلة، وسنجعل لك العاقبة والنّصرة والتأييد.
(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال.
بمخالفتك وتكذيبك، وسوف يبصرون انتشار دينك وإقبال الناس عليه أفواجا، زرافات ووحدانا مصداقا لوعده بقوله: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً»
91
ثم وبخهم على استعجالهم العذاب حين قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجّله لنا فنزل.
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) قبل حلوله؟ وهم إنما فعلوا ذلك لتكذيبهم به، وكفرهم بك والله منزله عليهم لا محالة.
(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلّتهم فبئس اليوم يومهم لهلاكهم ودمارهم،
وفي الصحيحين عن أنس قال: «صبّح رسول الله خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس- الجيش-، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الله أكبر، خربت خيبر، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» رواه البخاري.
قال صاحب الكشاف: مثّل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه، بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهم، فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبّروا أمرهم تدبيرا يبجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم اهـ ثم أكد ما سبق من وقوع الميعاد غبّ توكيد مع ما فيه من تسلية لرسوله إثر تسلية فقال:
(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين وخلّهم وفريتهم على ربهم إلى أن يأذن بهلاكهم، وانظر إليهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة.
ثم ختم سبحانه السورة بخاتمة شريفة جامعة لتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به مع وصف نفسه بصفات الكمال ومدحه للرسل الكرام فقال:
(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها لربك أيها الرسول رب القوة والغلبة عما يصفه به هؤلاء المفترون من مشركى قريش من نحو قولهم: ولد الله. وقولهم: الملائكة بنات الله. وأمنة
92
من الله للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم- من العذاب الأكبر ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى، والحمد لله رب الثقلين الجن والإنس خالصا له دون سواه، لأن كل نعمة لعباده فهى منه.
وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه.
روى البغوي عن على كرم الله وجهه أنه قال: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله ربّ العالمين».
وعن أبى سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
مجمل ماحوته السورة من موضوعات
(١) التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس.
(٢) خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك.
(٣) إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم.
(٤) وصف الجنة ونعيمها.
(٥) قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل.
(٦) دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا: الملائكة بنات الله.
(٧) تنزيه الله عن ذلك.
(٨) بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوى الأحلام الضعيفة المستعدة للاضلال (٩) وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.
(١٠) مدح المرسلين وسلام الله عليهم.
(١١) حمد الله وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين.
93
Icon