ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
يَقُولُ تَعَالَى: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَعْنِي الْقُرْآنُ منزل من الرحمن الرحيم كقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النَّحْلِ: ١٠٢] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٢- ١٩٤] وقوله تبارك وتعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أَيْ بُيِّنَتْ مَعَانِيهِ وَأُحْكِمَتْ أَحْكَامُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ قرآنا عَرَبِيًّا بَيِّنًا وَاضِحًا فَمَعَانِيهِ مُفَصَّلَةٌ وَأَلْفَاظُهُ وَاضِحَةٌ غير مشكلة كقوله تعالى:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هُودٍ: ١] أَيْ هُوَ مُعْجِزٌ مِنْ حَيْثُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فُصِّلَتْ: ٤٢].
وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ إِنَّمَا يَعْرِفُ هَذَا الْبَيَانَ وَالْوُضُوحَ الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً أَيْ تَارَةً يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَارَةً يُنْذِرُ الْكَافِرِينَ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ أَكْثَرُ قُرَيْشٍ فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا مَعَ بَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أَيْ فِي غُلْفٍ مُغَطَّاةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أَيْ صَمَمٌ عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَلَا يَصِلُ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا تقوله فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ أَيِ اعْمَلْ أَنْتَ عَلَى طَرِيقَتِكَ وَنَحْنُ عَلَى طَرِيقَتِنَا لَا نُتَابِعُكَ.
قَالَ الإمام العالم عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الأجلح عن الزيال بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ فليأت هذا الرجل الذي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَ أَمْرَنَا وَعَابَ دِينَنَا فَلْيُكَلِّمْهُ وَلْنَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالُوا أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إن كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً «١» قَطُّ أَشْأَمَ على قومك منك،
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَقَدْ سَاقَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَجْلَحِ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ وقد ضعف بعض الشيء عن الزيال بن حرملة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قُرَيْشٍ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَا إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَهُ طَعَامُهُ وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حاجة أَصَابَتْهُ فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا عُتْبَةُ مَا حَبَسَكَ عَنَّا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم أن لا يُكَلِّمَ مُحَمَّدًا أَبَدًا وَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ وَقَرَأَ السورة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفَّ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ فَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ مِنْ سِيَاقِ الْبَزَّارِ وأبي يعلى والله تعالى أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّمَطِ فَقَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَكَانَ سَيِّدًا قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ» قَالَ يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أكثرنا مالا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبَرِّئَكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ «٢» عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَاسْتَمِعْ مِنِّي» قَالَ أَفْعَلُ. قَالَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وهو يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ منه حتى انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا فَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْتَ وَذَاكَ» فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض نحلف بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ قَالُوا مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَالَ وَرَائِي أني سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسِّحْرِ وَلَا بِالشِّعْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا لِي خَلُّوا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فاعتزلوه فو الله لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ. قَالُوا سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ مِنَ الذي قبله، والله أعلم «٣».
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٦ الى ٨]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ
(٢) التابع: ما يتبع الإنسان من الجن.
(٣) انظر سيرة ابن هشام ١/ ٢٩٣، ٢٩٤.
١٤- ١٥] وقوله عز وجل: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النَّازِعَاتِ: ١٨] وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هَاهُنَا طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ، وَزَكَاةُ الْمَالِ إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَكَاةً لِأَنَّهَا تُطَهِّرُهُ مِنَ الْحَرَامِ وَتَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَتِهِ وَبَرَكَتِهِ وَكَثْرَةِ نَفْعِهِ وَتَوْفِيقًا إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الطَّاعَاتِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ لَا يَدِينُونَ بِالزَّكَاةِ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَقَالَ قَتَادَةُ يَمْنَعُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ إِنَّمَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ لَا يبعد أن يكون أصل أصل الصدقة والزكاة وكان مأمورا به في ابتداء البعثة كقوله تبارك وتعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الْأَنْعَامِ: ١٤١] فَأَمَّا الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ فَإِنَّمَا بُيِّنَ أَمْرُهَا بِالْمَدِينَةِ وَيَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ فَرَضَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَفَصَّلَ شُرُوطَهَا وَأَرْكَانَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قال جل جلاله بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ:
لا مقطوع ولا مجبوب كقوله تعالى: ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً [الكهف: ٣] وكقوله عز وجل:
عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هُودٍ: ١٠٨] وَقَالَ السُّدِّيُّ غَيْرُ مَمْنُونٍ عليهم وقد رد عليه هذا التفسير بعض الأئمة فإن المنة لله تبارك وتعالى على أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: ١٧] وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطُّورِ: ٢٧]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» «١».
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ دَحْيَ الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، فَالدَّحْيُ هُوَ مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَكَانَ هَذَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ فَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ بالنص وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنه فِيمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ صَحِيحِهِ فَإِنَّهُ قَالَ:
وَقَالَ الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عباس رضي الله عنهما إني لأجد فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، قَالَ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصَّافَّاتِ: ٢٧] وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاءِ:
٤٢] وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وقال تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها- إلى قوله- وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: ٢٧- ٣٠] فذكر خلق السماء قبل الأرض.
ثم قال تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- طائِعِينَ فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَقَالَ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاءِ: ٩٦] عَزِيزاً حَكِيماً [النِّسَاءِ: ٥٦- ١٥٨] سَمِيعاً بَصِيراً [النساء: ٥٨- ١٣٤] فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس رضي الله عنهما فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: ٦٨] فَلَا أَنْسَابَ بينهم عند ذلك ولا يتساءلون بينهم ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْرَفُ أن الله تعالى لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: ٤٢ وغيرها] الآية، وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ
وقوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فخلق الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أيام وخلق السموات فِي يَوْمَيْنِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاءِ: ٩٦] سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يزل كذلك فإن الله تعالى لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ فَلَا يَخْتَلِفَنَّ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ هو ابن عمرو بالحديث.
وقوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ يَعْنِي يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها أَيْ جَعَلَهَا مُبَارَكَةً قَابِلَةً لِلْخَيْرِ وَالْبَذْرِ وَالْغِرَاسِ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا وَهُوَ مَا ويحتاج أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ يَعْنِي يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ فَهُمَا مَعَ اليومين السابقين أربعة ولهذا قال: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ أَيْ لِمَنْ أراد السؤال عن ذلك ليعلمه وقال عكرمة ومجاهد في قوله عز وجل: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها جَعَلَ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا لَا يَصْلُحُ فِي غَيْرِهَا وَمِنْهُ الْعَصَبُ «١» باليمن والسابوري «٢» بِسَابُورَ وَالطَّيَالِسَةُ «٣» بِالرَّيِّ «٤» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءً لِلسَّائِلِينَ أَيْ لِمَنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ مَعْنَاهُ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ أَيْ عَلَى وَفْقِ مُرَادِ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى رِزْقٍ أَوْ حَاجَةٍ فإن الله تعالى قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُشْبِهُ مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَاللَّهُ أعلم.
وقوله تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وَهُوَ بُخَارُ الْمَاءِ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهُ حِينَ خُلِقَتِ الْأَرْضُ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أَيِ اسْتَجِيبَا لِأَمْرِي وَانْفَعِلَا لِفِعْلِي طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَ: قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لِلسَّمَوَاتِ أَطْلِعِي شَمْسِي وَقَمَرِي وَنُجُومِي وَقَالَ لِلْأَرْضِ شققي أنهارك وأخرجي ثمارك قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٥» رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ أَيْ بَلْ نَسْتَجِيبُ لَكَ مطيعين بما
(٢) السابوري: نسبة إلى سابور قرية قريبة من أصبهان، وكل ثوب رقيق يسمى سابري.
(٣) الطيالسة: من لباس العجم، وقيل هو ثوب يلبس على الكتف.
(٤) انظر تفسير الطبري ١١/ ٩٠.
(٥) تفسير الطبري ١١/ ٩٢.
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ فَفَرَغَ مِنْ تَسْوِيَتِهِنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ أَيْ آخَرَيْنِ وَهُمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ وَيَوْمُ الْجُمْعَةِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أَيْ وَرَتَّبَ مُقَرِّرًا فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وهي الْكَوَاكِبُ الْمُنِيرَةُ الْمُشْرِقَةُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَحِفْظاً أَيْ حَرَسًا مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْتَمِعَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أَيِ الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَغَلَبَهُ وَقَهَرَهُ الْعَلِيمُ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسَكَنَاتِهِمْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَقَّالِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ هَنَّادٌ: قَرَأْتُ سَائِرَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ خلق السموات والأرض فقال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله تعالى الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ فهذه أربعة قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ لِمَنْ سأله قَالَ وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ [فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْآجَالَ حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ] وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الْآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ» ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ قَالَ «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ» قَالُوا قَدْ أَصَبْتَ لَوْ أَتْمَمْتَ، قَالُوا ثُمَّ اسْتَرَاحَ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا فَنَزَلَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [ق: ٣٨] هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ.
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ يوم الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ» «١» فَقَدْ رواه مسلم والنسائي في كتابيهما من حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ وَقَدْ عَلَّلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فَقَالَ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ كعب الأحبار وهو الأصح.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
يَقُولُ تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَمَّا جِئْتُكُمْ به من عند الله تعالى فَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ حُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِكُمْ كَمَا حَلَّتْ بِالْأُمَمِ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمُرْسَلِينَ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي ومن شاكلها مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمَا إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الْأَحْقَافِ: ٢١] أَيْ فِي الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لِبِلَادِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ يَأْمُرُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَرَأَوْا مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِأَعْدَائِهِ مِنَ النِّقَمِ، وَمَا أَلْبَسَ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النِّعَمِ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا وَلَا صَدَّقُوا بَلْ كَذَّبُوا وَجَحَدُوا وَقَالُوا: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أَيْ لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رُسُلًا لَكَانُوا مَلَائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أَيْ أَيُّهَا الْبَشَرُ كافِرُونَ أَيْ لَا نَتَّبِعُكُمْ وَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ أَيْ بَغَوْا وَعَتَوْا وَعَصَوْا وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَيْ مَنُّوا بِشِدَّةِ تَرْكِيبِهِمْ وَقُوَاهُمْ واعتقدوا أنهم يمتنعون بها مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أَيْ أفما يتكفرون فِيمَنْ يُبَارِزُونَ بِالْعَدَاوَةِ فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَرَكَّبَ فِيهَا قُوَاهَا الْحَامِلَةَ لَهَا وَإِنَّ بطشه شديد كما قال عز وجل: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٤٧] فَبَارَزُوا الْجَبَّارَ بِالْعَدَاوَةِ وَجَحَدُوا بِآيَاتِهِ وَعَصَوْا رَسُولَهُ فَلِهَذَا قَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً قَالَ بَعْضُهُمْ وَهِيَ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَقِيلَ الْبَارِدَةُ. وَقِيلَ هِيَ الَّتِي لَهَا صَوْتٌ وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُتَّصِفَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا كَانَتْ رِيحًا شَدِيدَةً قَوِيَّةً لِتَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ قُوَاهُمْ وَكَانَتْ بَارِدَةً شَدِيدَةَ الْبَرْدِ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٦] أَيْ بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ وَكَانَتْ ذَاتَ صَوْتٍ مُزْعِجٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّهْرُ الْمَشْهُورُ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ صَرْصَرًا لِقُوَّةِ صَوْتِ جريه.
وقوله تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أَيْ مُتَتَابِعَاتٍ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة:
٧] وكقوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: ٦٩] أي ابتدءوا الْعَذَابِ فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ هذا النحس سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً حَتَّى أَبَادَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَاتَّصَلَ بِهِمْ خِزْيُ الدُّنْيَا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ
أَيْ أَشَدُّ خِزْيًا لَهُمْ وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أي في الآخرة كَمَا لَمْ يُنْصَرُوا فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ يَقِيهِمُ الْعَذَابَ ويدرأ عنهم النكال، وقوله عز وجل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: بَيَّنَّا لَهُمْ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ دَعَوْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أَيْ بَصَّرْنَاهُمْ وَبَيَّنَّا لَهُمْ وَوَضَّحْنَا لَهُمُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صالح عليه الصلاة والسلام فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى الَّتِي جَعَلَهَا آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أَيْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَرَجْفَةً وَذُلًّا وَهَوَانًا وَعَذَابًا وَنَكَالًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْجُحُودِ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ لَمْ يَمَسَّهُمْ سُوءٌ وَلَا نَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ بَلْ نَجَّاهُمُ الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بإيمانهم وتقواهم لله عز وجل.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
يَقُولُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيِ اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ يَحْشُرُونَ إِلَى النَّارِ يُوزَعُونَ أَيْ تَجْمَعُ الزَّبَانِيَةُ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ كما قال تبارك وتعالى:
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: ٨٦] أَيْ عطاشا. وقوله عز وجل: حَتَّى إِذا ما جاؤُها أَيْ وَقَفُوا عَلَيْهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ مِمَّا قَدَّمُوهُ وَأَخَّرُوهُ لَا يُكْتَمُ مِنْهُ حَرْفٌ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا أَيْ لَامُوا أَعْضَاءَهُمْ وَجُلُودَهُمْ حِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَجَابَتْهُمُ الْأَعْضَاءُ قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ فَهُوَ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُونَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يوم وابتسم فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتُ؟» قَالُوا يا رسول الله عن أي شيء ضحكت؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ أي ربي أليس وعدتني أن لا تَظْلِمَنِي، قَالَ بَلَى فَيَقُولُ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ عَلَيَّ شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوَ لَيْسَ كَفَى بِي شَهِيدًا وَبِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ- قَالَ- فَيُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ مِرَارًا- قَالَ- فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَتَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، فَيَقُولُ بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا عَنْكُنَّ كُنْتُ أُجَادِلُ» ثُمَّ رَوَاهُ هُوَ
ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ غَيْرَ الْأَشْجَعِيِّ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ كَمَا رَأَيْتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: وَيُدْعَى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلَهُ فَيَجْحَدُ وَيَقُولُ أَيْ رَبِّ وَعَزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عَلَيَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ أَمَا عَمِلْتَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا؟ فَيَقُولُ لَا وَعِزَّتِكَ أَيْ رَبِّ مَا عَمِلْتُهُ قَالَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ختم على فيه، قال الأشعري رضي الله عنه: فَإِنِّي لَأَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ فَخِذَهُ الْيُمْنَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حَسَنٌ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بعمله فجحد وخاصم فيقول هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ فَيَقُولُ كَذَبُوا فَيَقُولُ أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ فَيَقُولُ كَذَبُوا فَيَقُولُ احْلِفُوا فَيَحْلِفُونَ ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ الله تعالى وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ» وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قال: سمعت أبي يقول حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ الْأَزْرَقِ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْهُ حِينٌ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَعْتَذِرُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُمْ ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ فَيَجْحَدُ الْجَاحِدُ بِشِرْكِهِ بِاللَّهِ تعالى فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ فَيَبْعَثُ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِمْ حِينَ يَجْحَدُونَ شُهَدَاءَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ جُلُودَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمُ الْأَفْوَاهَ فَتُخَاصِمُ الْجَوَارِحَ فَتَقُولُ: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
فَتُقِرُّ الْأَلْسِنَةُ بَعْدَ الجحود.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جبير الحضرمي، عن رافع أبي الحسن قال وصف رجلا جحد قال فيشير الله تعالى إِلَى لِسَانِهِ فَيَرْبُو فِي فَمِهِ حَتَّى يَمْلَأَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ ثُمَّ يَقُولُ لِآرَابِهِ «١» كُلِّهَا تَكَلَّمِي وَاشْهَدِي عَلَيْهِ فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجِلْدُهُ وَفَرْجُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ صَنَعْنَا عَمِلْنَا فَعَلْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَآثَارٌ عند قوله تعالى في سورة يس
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سويد بن سعيد حدثنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: لما رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ «أَلَا تُحَدِّثُونَ بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟» فَقَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يا رسول الله بينما نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا؟ قَالَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صدقت صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ قَوْمًا لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ» «١» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كتاب الأهوال حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن سليم به.
وقوله تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْأَعْضَاءُ وَالْجُلُودُ حِينَ يَلُومُونَهَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ مَا كُنْتُمْ تَتَكَتَّمُونَ مِنَّا الَّذِي كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ بَلْ كُنْتُمْ تُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَلَا تُبَالُونَ مِنْهُ فِي زَعْمِكُمْ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَفْعَالِكُمْ وَلِهَذَا قال تعالى: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أَيْ هَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ وَهُوَ اعْتِقَادُكُمْ أن الله تعالى لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَكُمْ وَأَرْدَاكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أَيْ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ خَسِرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيٌّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ- أَوْ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ- كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَسْمَعْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا هَذَا، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْهُ لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ- قَالَ- فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- مِنَ الْخاسِرِينَ وهكذا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «٣» عَنْ هَنَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بإسناده نحوه، وأخرجه أحمد «٤»
(٢) المسند ١/ ٣٨١.
(٣) كتاب التفسير، تفسير سورة ٤١ باب ١.
(٤) المسند ١/ ٤٠٨، ٤٢٦.
وقال عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله تعالى: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ قال: «إنكم تدعون يوم القيامة مُفَدَّمًا عَلَى أَفْوَاهِكُمْ بِالْفِدَامِ فَأَوَّلُ شَيْءٍ يُبِينُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ» «٥» قَالَ مَعْمَرٌ: وَتَلَا الْحَسَنُ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قال الله تعالى أَنَا مَعَ عَبْدِي عِنْدَ ظَنِّهِ بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي» «٦» ثُمَّ افْتَرَّ «٧» الْحَسَنُ يَنْظُرُ فِي هَذَا فَقَالَ: أَلَا إِنَّمَا عَمَلُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ ظُنُونِهِمْ بِرَبِّهِمْ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَأَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ الْعَمَلَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَأَسَاءَا الظَّنَّ بِاللَّهِ فَأَسَاءَا الْعَمَلَ ثُمَّ قَالَ: قال الله تبارك وتعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الآية.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٨» : حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَاصُّ وَهُوَ أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ فَإِنَّ قَوْمًا قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وقوله تعالى: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ صبروا أَمْ لَمْ يَصْبِرُوا هُمْ فِي النَّارِ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وإن طلبوا ان يستعتبوا ويبدوا أعذارهم فَمَا لَهُمْ أَعْذَارٌ وَلَا تُقَالُ لَهُمْ عَثَرَاتٌ. قال ابن جرير «٩» : ومعنى قوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أَيْ يَسْأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا
(٢) كتاب التفسير، تفسير سورة ٤١ باب ٢.
(٣) كتاب التفسير، تفسير سورة ٤١، باب ٢.
(٤) كتاب المنافقين حديث ٨. [.....]
(٥) أخرجه أحمد في المسند ٥/ ٤، ٥.
(٦) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٥، ٣٥، ومسلم في التوبة حديث ١، والذكر حديث ٢، ٩، والترمذي في الزهد باب ٥١، والدعوات باب ١٣١، وابن ماجة في الأدب باب ٥٨، وأحمد في المسند ٢/ ٢٥١، ٣/ ٢١٠، ٤/ ١٠٦.
(٧) أفتر: أي تبسم حتى بدت أسنانه من غير قهقهة.
(٨) المسند ٣/ ٣٩٠، ٣٩١.
(٩) تفسير الطبري ١١/ ١٠٣.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَكَوْنِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ بِمَا قَيَّضَ لَهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أَيْ حَسَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فِي الْمَاضِي وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا مُحْسِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزُّخْرُفِ: ٣٦- ٣٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَيْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ كَمَا حَقَّ عَلَى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أَيِ اسْتَوَوْا هُمْ وَإِيَّاهُمْ فِي الْخَسَارِ وَالدَّمَارِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أي تواصوا فيما بينهم أن لا يُطِيعُوا لِلْقُرْآنِ وَلَا يَنْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ وَالْغَوْا فِيهِ أي إذا تلي لا تستمعوا لَهُ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْغَوْا فِيهِ يَعْنِي بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالتَّخْلِيطِ فِي الْمَنْطِقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ «١».
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْغَوْا فِيهِ عِيبُوهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اجْحَدُوا بِهِ وَأَنْكِرُوهُ وَعَادُوهُ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ هَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: ٢٠٤].
ثم قال عز وجل مُنْتَصِرًا لِلْقُرْآنِ وَمُنْتَقِمًا مِمَّنْ عَادَاهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرَانِ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اعْتَمَدُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَعِنْدَ سماعهم وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ي بِشَرِّ أَعْمَالِهِمْ وَسَيِّئِ أَفْعَالِهِمْ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ
وقال السدي عن علي رضي الله عنه فَإِبْلِيسُ يَدْعُو بِهِ كُلُّ صَاحِبِ شِرْكٍ وَابْنُ آدَمَ يَدْعُو بِهِ كُلُّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ فَإِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ شَرٍّ مِنْ شِرْكٍ فَمَا دُونَهُ وَابْنُ آدَمَ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القتل» «٢». وقولهم: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أَيْ أَسْفَلَ مِنَّا فِي الْعَذَابِ لِيَكُونَا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا وَلِهَذَا قَالُوا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أَيْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النار كما تقدم في الأعراف في سؤال الاتباع من الله تعالى أَنْ يُعَذِّبَ قَادَتَهُمْ أَضْعَافَ عَذَابِهِمْ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَافِ: ٣٨] أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِحَسَبِ عَمَلِهِ وَإِفْسَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: ٨٨].
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أَيْ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ أَبُو قُتَيْبَةَ الشَّعِيرِيُّ حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قَدْ قَالَهَا نَاسٌ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى يَمُوتَ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ عَنْ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ بِهِ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْفَلَّاسِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ نِمْرَانِ «٤» قَالَ: قَرَأْتُ عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية:
(٢) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٢، والاعتصام باب ١٥، والأنبياء باب ١، ومسلم في القسامة حديث ٢٧، والترمذي في العلم باب ١٤، وابن ماجة في الديات باب ١، وأحمد في المسند ١/ ٣٨٣، ٤٣٣.
(٣) تفسير الطبري ١١/ ١٠٦.
(٤) في تفسير الطبري: سعيد بن عمران.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيُّ آيَةٍ في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص؟ قال قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ اسْتَقَامُوا وَاللَّهِ لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ «١»، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ، وَقَالَ أبو العالية ثُمَّ اسْتَقامُوا أخلصوا له الدين والعمل.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ فِي الْإِسْلَامِ لَا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى الله عليه وسلم: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» قُلْتُ فَمَا أَتَّقِي؟ فَأَوْمَأَ إِلَى لِسَانِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ بِهِ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ الْغَامِدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي بأمر أعتصم به قال ﷺ «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ» قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فأخذ رسول الله بِطَرَفِ لِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «٤» وَابْنُ مَاجَهْ «٥» مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «٦» فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى الله عليه وسلم: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» وَذَكَرَ تَمَامَ الحديث.
(٢) المسند ٤/ ٣٨٤، ٣٨٥.
(٣) المسند ٣/ ٤١٣.
(٤) كتاب الزهد باب ٦١. [.....]
(٥) كتاب الفتن باب ١٣.
(٦) كتاب الإيمان حديث ٦٢.
وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال: «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ اخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ» «١» وَقِيلَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ حدثنا جعفر بن سليمان قال سَمِعْتُ ثَابِتًا قَرَأَ سُورَةَ «حم السَّجْدَةِ» حَتَّى بَلَغَ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ فَوَقَفَ فَقَالَ بَلَغَنَا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى مِنْ قَبْرِهِ يَتَلَقَّاهُ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ كَانَا مَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ لَهُ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ قَالَ فيؤمن الله تعالى خَوْفَهُ وَيُقِرُّ عَيْنَهُ فَمَا عَظِيمَةٌ يَخْشَى النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ لِلْمُؤْمِنِ قُرَّةُ عَيْنٍ لما هداه الله تبارك وتعالى وَلِمَا كَانَ يَعْمَلُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يُبَشِّرُونَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَفِي قَبْرِهِ وَحِينَ يُبْعَثُ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا وَهُوَ حَسَنٌ جدا وهو الواقع.
وقوله تبارك وتعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
أَيْ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ نَحْنُ كنا أولياءكم في الحياة الدنيا أَيْ قُرَنَاءَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا نُسَدِّدُكُمْ وَنُوَفِّقُكُمْ وَنَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الْآخِرَةِ نُؤْنِسُ مِنْكُمُ الْوَحْشَةَ فِي الْقُبُورِ وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَنُجَاوِزُ بِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَنُوصِلُكُمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
أَيْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ وَتَقَرُّ بِهِ الْعُيُونُ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
أَيْ مَهْمَا طَلَبْتُمْ وَجَدْتُمْ وَحَضَرَ بين أيديكم كَمَا اخْتَرْتُمْ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ أَيْ ضِيَافَةً وَعَطَاءً وَإِنْعَامًا مِنْ غَفُورٍ لِذُنُوبِكُمْ رَحِيمٍ بكم رؤوف حَيْثُ غَفَرَ وَسَتَرَ وَرَحِمَ وَلَطَفَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثَ سُوقِ الْجَنَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ أَبِي سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه
(٢) تفسير الطبري ١١/ ١٠٨.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ومن كره لقاءه اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قُلْنَا يَا رَسُولَ الله: كلنا نكره الموت قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حضر جاءه البشير من الله تعالى بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ تعالى فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ- قَالَ- وَإِنَّ الْفَاجِرَ- أَوِ الْكَافِرَ- إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إليه من الشر أو
(٢) أخرجه الترمذي في صفة الجنة باب ١٥، وابن ماجة في الزهد باب ٣٩.
(٣) المسند ٣/ ١٠٧.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
يقول عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أَيْ دَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَيْهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي هو فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ بِمَا يَقُولُهُ فَنَفْعُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ بَلْ يَأْتَمِرُ بِالْخَيْرِ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ وَيَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهَذِهِ عَامَّةٌ في كل من دعا إلى الخير وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَذِّنُونَ الصُّلَحَاءُ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «٢» وَفِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ» «٣».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرُوبَةَ الْهَرَوِيُّ حَدَّثَنَا غَسَّانُ قَاضِي هَرَاةَ وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مَطَرٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال: «سهام المؤذنين عند الله تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَسِهَامِ الْمُجَاهِدِينَ وَهُوَ بَيْنَ الْأَذَانِ والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه» قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو كنت مؤذنا ما باليت أن لا أَحُجَّ وَلَا أَعْتَمِرَ وَلَا أُجَاهِدَ قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا لَكَمُلَ أَمْرِي وَمَا بَالَيْتُ أن لا أَنْتَصِبَ لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَلَا لِصِيَامِ النَّهَارِ سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» ثَلَاثًا، قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَكْتَنَا وَنَحْنُ نَجْتَلِدُ عَلَى الْأَذَانِ بالسيوف قال صلى الله عليه وسلم: «كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعافهم وتلك لحوم حرمها الله عز وجل عَلَى النَّارِ لُحُومُ الْمُؤَذِّنِينَ» قَالَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها ولهم هذه الآية
(٢) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١٤، وابن ماجة في الأذان باب ٥، وأحمد في المسند ٣/ ١٦٩، ٢٦٤، ٤/ ٩٥، ٩٨.
(٣) أخرجه الترمذي في الصلاة باب ٣٩، وأحمد في المسند ٢/ ٢٣٢، ٢٨٤، ٣٨٢، ٥/ ٢٦٠، ٦/ ٦٥.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَغَوِيُّ حَدِيثَ عَبْدِ الله بن المغفل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ- صَلَاةٌ- ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ- لِمَنْ شَاءَ» «١» وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْهُ وَحَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال الثوري: لا أراه إلا قَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ بِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْمُؤَذِّنِينَ وَفِي غَيْرِهِمْ فَأَمَّا حَالُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ مَشْرُوعًا بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَالْأَذَانُ إِنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ حِينَ أُرِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه فِي مَنَامِهِ فَقَصَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بلال رضي الله عنه فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي موضعه فالصحيح إذن أَنَّهَا عَامَّةٌ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الآية وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ هَذَا وَلِيُّ اللَّهِ هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ أَجَابَ اللَّهُ فِي دَعْوَتِهِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ دَعْوَتِهِ وَعَمِلَ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا خَلِيفَةُ الله.
وقوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أَيْ فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ الله فيه.
وقوله عز وجل: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَهُوَ الصَّدِيقُ أَيْ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ أَيْ قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ عز وجل:
وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أَيْ وَمَا يقبل هذه الموصية وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ من السعادة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ المؤمنين بالصبر
وقوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أَيْ إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْكَ فَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ وَلَجَأْتَ إِلَيْهِ كَفَّهُ عَنْكَ وَرَدَّ كَيْدَهُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» «٢»، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عند قوله تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩- ٢٠٠] وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: ٩٧- ٩٨].
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا خَلْقَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَأَنَّهُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَيْ أَنَّهُ خَلَقَ اللَّيْلَ بِظَلَامِهِ وَالنَّهَارَ بضيائه وهما متعاقبان لا يفترقان، وَالشَّمْسَ وَنُورَهَا وَإِشْرَاقَهَا وَالْقَمَرَ وَضِيَاءَهُ وَتَقْدِيرَ مَنَازِلِهِ فِي فَلَكِهِ وَاخْتِلَافَ سَيْرِهِ فِي سَمَائِهِ لِيُعْرَفَ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ مَقَادِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْجُمَعُ وَالشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ حُلُولُ الْحُقُوقِ وَأَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَحْسَنَ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ عَبْدَانِ مِنْ عَبِيدِهِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ فَقَالَ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أَيْ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ فَمَا تَنْفَعُكُمْ عِبَادَتُكُمْ لَهُ مَعَ عِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به ولهذا قال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أَيْ عَنْ إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ
(٢) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١١٩، ١٢٠، والترمذي في المواقيت باب ٦٥، وابن ماجة في الإقامة باب ٢، والدارمي في الصلاة باب ٣٣، وأحمد في المسند ١/ ٤٠٣، ٤٠٤، ٣/ ٥٠، ٤/ ٨٠، ٨١، ٨٣، ٨٥، ٦/ ١٥٦.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ يَعْنِي ابْنَ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا اللَّيْلَ وَلَا النَّهَارَ وَلَا الشَّمْسَ وَلَا الْقَمَرَ وَلَا الرِّيَاحَ فَإِنَّهَا تُرْسَلُ رَحْمَةً لِقَوْمٍ وَعَذَابًا لِقَوْمٍ». وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَيْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْمَوْتَى أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً أَيْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا بَلْ هِيَ مَيْتَةٌ فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أَيْ أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ وَضْعُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، وَقَوْلُهُ عز وجل: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَنْ يُلْحِدُ فِي آيَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَسَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِالْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ وَلِهَذَا قال تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ
أَيْ أَيَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا؟ لَا يَسْتَوِيَانِ. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ تَهْدِيدًا لِلْكَفَرَةِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وَعِيدٌ أَيْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِنَّهُ عالم بِكُمْ وَبَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ثم قال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ أَيْ مَنِيعُ الْجَنَابِ لَا يُرَامُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أَيْ لَيْسَ لِلْبُطْلَانِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلِهَذَا قَالَ: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أَيْ حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ الْجَمِيعُ مَحْمُودَةٌ عَوَاقِبُهُ وَغَايَاتُهُ.
ثُمَّ قال عز وجل: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا مَا يُقَالُ لَكَ مِنَ التَّكْذِيبِ إِلَّا كَمَا قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كُذِّبُوا وَكَمَا صَبَرُوا عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ لَهُمْ فَاصْبِرْ أَنْتَ عَلَى أَذَى قَوْمِكَ لَكَ. وَهَذَا اختيار ابن جرير «١» ولم
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَّأَ أَحَدًا الْعَيْشُ، وَلَوْلَا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد».
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَفَصَاحَتَهُ وَبَلَاغَتَهُ وَإِحْكَامَهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَمَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ بِهِ كُفْرُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ كما قال عز وجل: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٨- ١٩٩] وَكَذَلِكَ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لَقَالُوا عَلَى وجه التعنت والعناد لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أَيْ لَقَالُوا هَلَّا أُنْزِلَ مُفَصَّلًا بِلُغَةِ العرب ولأنكروا ذلك فقالوا أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أَيْ كَيْفَ يَنْزِلُ كَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَى مُخَاطَبٍ عَرَبِيٍّ لَا يَفْهَمُهُ؟ هَكَذَا رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ؟ وَقِيلَ الْمُرَادُ بقولهم لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أي هل أُنْزِلَ بَعْضُهَا بِالْأَعْجَمِيِّ وَبَعْضُهَا بِالْعَرَبِيِّ؟ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ فِي قَوْلِهِ أَعْجَمِيٌّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ سَعِيدِ بن جبير وهو في التعنت والعناد أبلغ.
ثم قال عز وجل: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْقُرْآنُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ هُدًى لِقَلْبِهِ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالرَّيْبِ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أَيْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاءِ: ٨٢] أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قَالَ مُجَاهِدٌ يعني بعيد مِنْ قُلُوبِهِمْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» مَعْنَاهُ كَأَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ يُنَادِيهِمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يفهمون ما يقول.
وقلت وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٧١] وَقَالَ الضَّحَّاكُ يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَشْنَعِ أَسْمَائِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَالِسًا عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ المسلمين
فقال دَعَانِي دَاعٍ مِنْ وَرَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه أُولَئِكَ يُنَادُونَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم. وقوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْ كذب وأوذي فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: ٣٥] وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الشُّورَى: ١٤] بِتَأْخِيرِ الْحِسَابِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَيْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أَيْ وَمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ لِمَا قَالُوا بَلْ كَانُوا شَاكِّينَ فِيمَا قَالُوا غَيْرَ مُحَقِّقِينَ لِشَيْءٍ كَانُوا فِيهِ، هَكَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، والله أعلم.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
يَقُولُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أَيْ إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وإرسال الرسول إليه ثم قال جل وعلا: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أَيْ لَا يَعْلَمُ ذلك أحد سواه كما قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ الْبَشَرِ لجبريل عليه الصلاة والسلام وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الساعة فقال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» «١» وكما قال عز وجل: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها [النازعات: ٤٤] وقال جل جلاله:
لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧].
وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أَيِ الْجَمِيعُ بِعِلْمِهِ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وقد قال سبحانه وتعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: ٨] وقال تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:
١١] وقوله جل وعلا: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ينادي الله المشركين على رؤوس الْخَلَائِقِ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعِي قالُوا آذَنَّاكَ أَيْ أَعْلَمْنَاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا الْيَوْمَ يَشْهَدُ أَنَّ مَعَكَ شَرِيكًا وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
يَقُولُ تَعَالَى لَا يمل الإنسان من دعاء رَبَّهُ بِالْخَيْرِ وَهُوَ الْمَالُ وَصِحَّةُ الْجِسْمِ وَغَيْرُ ذلك فإن مسه الشر وهو البلاء أو الفقر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أَيْ يَقَعُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ بَعْدَ هَذَا خَيْرٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي أَيْ إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَرِزْقٌ بَعْدَ مَا كَانَ فِي شِدَّةٍ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي إِنِّي كُنْتُ أَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ رَبِّي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أَيْ يَكْفُرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ أي لأجل أنه خول نعمة يبطر ويفخر وَيَكْفُرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: ٦- ٧] وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أَيْ وَلَئِنْ كَانَ ثَمَّ مَعَادٌ فَلَيُحْسِنَنَّ إِلَيَّ رَبِّي كَمَا أَحْسَنَ إِلَيَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ، يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ إِسَاءَتِهِ الْعَمَلَ وعدم اليقين قال الله تبارك وتعالى: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ يَتَهَدَّدُ تَعَالَى مَنْ كَانَ هَذَا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال.
ثم قال تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَةِ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لأوامر الله عز وجل كقوله جل جلاله: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ [الذَّارِيَاتِ: ٣٩] وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أَيِ الشِّدَّةُ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أَيْ يُطِيلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَالْكَلَامُ الْعَرِيضُ مَا طَالَ لَفْظُهُ وَقَلَّ مَعْنَاهُ وَالْوَجِيزُ عَكْسُهُ وَهُوَ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: ١٢] الآية.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ؟ أَيْ كَيْفَ تَرَوْنَ حَالَكُمْ عِنْدَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؟ ولهذا قال عز وجل: مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أَيْ فِي كُفْرٍ وَعِنَادٍ وَمُشَاقَّةٍ لِلْحَقِّ وَمَسْلَكٍ
وَإِذَا نَظَرْتَ تُرِيدُ مُعْتَبَرَا | فَانْظُرْ إِلَيْكَ فَفِيكَ معتبر |
أنت الذي تمسي وتصبح فِي | الدُّنْيَا وَكُلُّ أُمُورِهِ عِبَرُ |
أَنْتَ الْمُصَرَّفُ كَانَ فِي صِغَرٍ | ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِشَخْصِكَ الْكِبَرُ |
أَنْتَ الَّذِي تَنْعَاهُ خِلْقَتُهُ | يَنْعَاهُ مِنْهُ الشَّعْرُ وَالْبَشَرُ |
أَنْتَ الَّذِي تُعْطَى وَتُسْلَبُ لَا | يُنْجِيهِ مِنْ أَنْ يُسْلَبَ الْحَذَرُ |
أَنْتَ الَّذِي لَا شَيْءَ مِنْهُ لَهُ | وَأَحَقُّ مِنْهُ بِمَالِهِ الْقَدَرُ |
وقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَلِهَذَا لا يتفكرون فيه ولا يعلمون لَهُ وَلَا يَحْذَرُونَ مِنْهُ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ هدر لا يعبئون به وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد حدثنا سعيد الأنصاري قال: إن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي لَمْ أَجْمَعْكُمْ لِأَمْرٍ أُحْدِثُهُ فِيكُمْ، وَلَكِنْ فَكَّرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ فَعَلِمْتُ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَحْمَقُ وَالْمُكَذِّبَ بِهِ هَالِكٌ، ثُمَّ نَزَلَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِهِ أَحْمَقُ أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ لَهُ عَمَلَ مِثْلِهِ وَلَا يَحْذَرُ مِنْهُ وَلَا يَخَافُ مِنْ هَوْلِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُصَدِّقٌ بِهِ مُوقِنٌ بِوُقُوعِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَمَادَى فِي لَعِبِهِ وَغَفْلَتِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَذُنُوبِهِ فَهُوَ أَحْمَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالْأَحْمَقُ فِي اللُّغَةِ ضَعِيفُ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ وَالْمُكَذِّبُ بِهِ هَالِكٌ هَذَا وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ محيط