تفسير سورة الدّخان

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الدخان إلا قوله تعالى :﴿ إنا كاشفوا العذاب ﴾ الآية، وهي سبع أو تسع وخمسون آية.

(٤٤) سورة الدخان
مكية إِلا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية، وهي سبع أو تسع وخمسون آية
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)
حَم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ القرآن والواو للعطف إن كان حم مقسماً به وإلا فللقسم والجواب قوله:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ليلة القدر، أو البراءة ابتدئ فيها إنزاله، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ، ثم أنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلم نجوماً وبركتها لذلك، فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية، أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف يبين المقتضى للإنزال وكذلك قوله:
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤ الى ٦]
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فَإِن كونها مفرق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة يستدعي أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها، ويجوز أن يكون صفة لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وما بينهما اعتراض، وهو يدل على أن الليلة ليلة القدر لأنه صفتها لقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وقرئ «يُفْرَقُ» بالتشديد و «يُفْرَقُ كل» أي يفرقه الله، و «نفرق» بالنون.
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أي أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو مزيد تفخيم للأمر ويجوز أن يكون حالاً من (كل) أو أمر، أو ضميره المستكن في حَكِيمٍ لأنه موصوف، وأن يكون المراد به مقابل النهي وقع مصدراً ل يُفْرَقُ أو لفعله مضمراً من حيث أن الفرق به، أو حالاً من أحد ضميري أَنْزَلْناهُ بمعنى آمرين أو مأموراً. إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بدل من إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم، وضع الرب موضع الضمير للإِشعار بأن الربوبية اقتضت ذلك، فإنه أعظم أنواع التربية أو علة ل يُفْرَقُ أو أَمْراً، ورَحْمَةً مفعول به أي يفصل فيها كل أمر أو تصدر الأوامر مِنْ عِنْدِنا لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا، فإن فصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها وصدور الأوامر الإِلهية من باب الرحمة، وقرئ «رَحْمَةً» على تلك رحمة. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أقوال العباد ويعلم أحوالهم، وهو بما بعده تحقيق لربوبيته فإنها لا تحق إلا لمن هذه صفاته.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٧ الى ٩]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما خبر آخر أو استئناف. وقرأ الكوفيون بالجر بدلاً مِنْ رَبِّكَ.
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم، أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها؟
فقلتم الله، علمتم أن الأمر كما قلنا، أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك.
لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا خالق سواه. يُحْيِي وَيُمِيتُ كما تشاهدون. رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وقرئا بالجر بدلاً مِنْ رَبِّكَ.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ رد لكونهم موقنين.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١١]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١)
فَارْتَقِبْ فانتظر لهم. يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره، أو لأن الهواء يظلم عام القحط لقلة الأمطار وكثرة الغبار، أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخاناً وقد قحطوا حتى أكلوا جيف الكلاب وعظامها، وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفه عن الأمطار، أو يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: أول الآيات الدخان ونزول عيسى عليه السلام، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر. قيل وما الدخان فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآية وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره»
أو يوم القيامة والدخان يحتمل المعنيين.
يَغْشَى النَّاسَ يحيط بهم صفة للدخان وقوله: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ مقدر بقول وقع حالا وإِنَّا مُؤْمِنُونَ وعد بالإِيمان إن كشف العذاب عنهم.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى من أين لهم وكيف يتذكرون بهذه الحالة. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بين لهم ما هو أعظم منها في إيجاب الإذكار من الآيات والمعجزات.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قال بعضهم يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف وقال آخرون إنه مَجْنُونٌ.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٥ الى ١٦]
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لما دعا رفع القحط قَلِيلًا كشفا قليلاً أو زماناً قليلاً وهو ما بقي من أعمارهم. إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر غب الكشف، ومن فسر الدخان بما هو من الأشراط قال إذا جاء الدخان غوث الكفار بالدعاء فيكشفه الله عنهم بعد الأربعين، فريثما يكشفه عنهم يرتدون، ومن فسره بما في القيامة أوله بالشرط والتقدير:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم القيامة أو يوم بدر ظرف لفعل دل عليه. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ لا لمنتقمون فإن إن تحجزه عنه، أو بدل من يَوْمَ تَأْتِي. وقرئ «نَبْطِشُ» أي نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم، أو تحمل الملائكة على بطشهم وهو التناول بصولة.

[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم، أو أوقعناهم في الفتنة بالإِمهال وتوسيع الرزق عليهم. وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم. وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على الله أو على المؤمنين أو في نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه.
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ بأن أدوهم إلى وأرسلوهم معي، أو بأن أدوا إلي حق الله من الإِيمان وقبول الدعوة يا عباد الله، ويجوز أن تكون أَنْ مخففة ومفسرة لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ غير متهم لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان الله إياه على وحيه وهو علة الأمر.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠)
وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ولا تتكبروا عليه بالاستهانة بوحيه ورسوله، وأَنْ كالأولى في وجهيها.
إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ علة للنهي ولذكر ال أَمِينٌ مع الأداء، والسلطان مع العلاء شأن لا يخفى.
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ التجأت إليه وتوكلت عليه. أَنْ تَرْجُمُونِ أن تؤذوني ضرباً أو شتماً أو أن تقتلوني. وقرئ «عت» بالإدغام فيه.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي، ولا تتعرضوا إليَّ بسوء فإنه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم.
فَدَعا رَبَّهُ بعد ما كذبوه. أَنَّ هؤُلاءِ بأن هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به ولذلك سماه دعاء، وقرئ بالكسر على إضمار القول.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي فقال أسر أو قال إن كان الأمر كذلك فَأَسْرِ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بوصل الهمزة من سرى إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم.
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً مفتوحاً ذا فجوة واسعة أو ساكناً على هيئته بعد ما جاوزته ولا تضربه بعصاك ولا تغير منه شيئاً ليدخله القبط إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ وقرئ بالفتح بمعنى لأنهم.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧)
كَمْ تَرَكُوا كثيراً تَرَكُواْ. مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ محافل مزينة ومنازل حسنة.
وَنَعْمَةٍ وتنعم. كانُوا فِيها فاكِهِينَ متنعمين، وقرئ «فكهين».
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
كَذلِكَ مثل ذلك الإِخراج أخرجناهم أو الأمر كذلك. وَأَوْرَثْناها عطف على المقدر أو على تَرَكُوا. قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل، وقيل غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم:
بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك. ومنه ما
روي في الأخبار: إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه.
وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ من استعباد فرعون وقتله أبناءهم.
مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من الْعَذابِ على حذف المضاف، أو جعله عذاب لإِفراطه في التعذيب، أو حال من المهين بمعنى واقعاً من جهته، وقرئ «مِن فِرْعَوْنَ» على الاستفهام تنكير له لنكر ما كان عليه من الشيطنة. إِنَّهُ كانَ عالِياً متكبراً. مِنَ الْمُسْرِفِينَ في العتو والشرارة، وهو خبر ثان أي كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في عالِياً أي كان رفيع الطبقة من بينهم.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ اخترنا بني إسرائيل. عَلى عِلْمٍ عالمين بأنهم أحقاء بذلك، أو مع علم منا بأنهم يزيغون في بَعض الأحوال. عَلَى الْعالَمِينَ لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمي زمانهم.
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى. مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ نعمة جلية أو اختبار ظاهر.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)
إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة، والإِنذار عن مثل ما حل بهم. لَيَقُولُونَ.
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، ولا قصد فيه إلى إثبات ثانية كما في قولك. حج زيد الحجة الأولى ومات. وقيل لما قيل إنكم تموتون موتة يعقبها حياة كما تقدم منكم موتة كذلك قالوا إن هي إلا موتتنا الأولى، أي ما الموتة التي من شأنها كذلك إلا الموتة الأولى. وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)
فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم ليدل عليه.
أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة. أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند.
وقيل هدمها وكان مؤمناً وقومه كافرين ولذلك ذمهم دونه.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «ما أدري أكان تبع نبياً أم غير نبي».
وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل لهم الأقيال لأنهم يتقيلون. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود. أَهْلَكْناهُمْ استئناف بمآل قوم تبع، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو خبر من الموصول إن استؤنف به. إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ بيان للجامع المقتضي للإهلاك.

[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]

وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٩)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما وَمَا بين الجنسين وقرئ «وما بينهن». لاعِبِينَ لاهين، وهو دليل على صحة الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها.
مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإِيمان والطاعة، أو البعث والجزاء.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لقلة نظرهم.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ فصل الحق عن الباطل، أو المحق عن المبطل بالجزاء، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه. مِيقاتُهُمْ وقت موعدهم. أَجْمَعِينَ وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على أنه الاسم أي إن ميعاد جزائهم في يَوْمَ الْفَصْلِ.
يَوْمَ لاَ يُغْنِي بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو صفة ل مِيقاتُهُمْ، أو ظرف لما دل عليه الفصل لا له الفصل. مَوْلًى من قرابة أو غيرها. عَنْ مَوْلًى أي مولى كان. شَيْئاً من الاغناء. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير ل مَوْلًى الأول باعتبار المعنى لأنه عام.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه، ومحله الرفع على البدل من الواو أو النصب على الاستثناء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ لا ينصر منه من أراد تعذيبه. الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ وقرئ بكسر الشين ومعنى الزَّقُّومِ سبق في «الصافات».
طَعامُ الْأَثِيمِ الكثير الآثام، والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه.
كَالْمُهْلِ وهو ما يمهل في النار حتى يذوب. وقيل دردي الزيت. تغلي فِى البطون وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء على أن الضمير لل طَعامُ، أو الزَّقُّومِ لا «للمهل» إذ الأظهر أن الجملة حال من أحدهما.
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ غلياناً مثل غليه.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)
خُذُوهُ على إرادة القول والمقول له الزبانية. فَاعْتِلُوهُ فجروه والعتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر، وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب بالضم وهما لغتان. إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ كان أصله يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم فقيل يُصَبُّ مِن فَوْقَ رُؤُوسَهُمْ عَذابِ هو الْحَمِيمِ للمبالغة، ثم أضيف ال عَذابِ إلى الْحَمِيمِ للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع.
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي وقولوا له ذلك استهزاء به وتقريعا على ما كان يزعمه، وقرأ الكسائي إِنَّكَ بالفتح أي ذق لأنك أو عَذابِ إِنَّكَ.
إِنَّ هَذَا إن هذا. العذاب. مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون وتمارون فيه.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥١ الى ٥٧]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)
لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ في موضع إقامة، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم أَمِينٍ يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال.
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بدل من مقام جيء به للدلالة على نزاهته، واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ خبر ثان أو حال من الضمير في الجار أو استئناف، والسندس ما رَقَّ من الحرير والاستبرق ما غلظ منه معرب استبره، أو مشتق من البراقة. مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض. كَذلِكَ الأمر كذلك أو آتيناهم مثل ذلك. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قرناهم بهن ولذلك عدي بالباء، والحوراء البيضاء والعيناء عظيمة العينين، واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرها.
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا بزمان. آمِنِينَ من الضرر.
لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى بل يحيون فيها دائماً، والاستثناء منقطع أو متصل والضمير للآخرة والْمَوْتَ أول أحوالها، أو الجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكأنه فيها، أو الإِستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع الْمَوْتَ فكأنه قال: لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل. وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وقرئ «ووقاهم» على المبالغة.
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلاً منه. وقرئ بالرفع أي ذلك فضل. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ سهلناه حيث أنزلناه بلغتك وهو فذلكة السورة. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يفهمونه فيتذكرون به ما لم يتذكروا.
فَارْتَقِبْ فانتظر ما يحل بهم. إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ما يحل بك.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفوراً له».
Icon