تفسير سورة نوح

الدر المصون
تفسير سورة سورة نوح من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿أَنْ أَنذِرْ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي: أَرْسَلْناه بالإِنذار. وقال الزمخشري: «والمعنى: أَرْسَلْناه بأَنْ قُلْنا له: أَنْذِرْ أي: أَرْسَلْناه بالأمرِ بالإِنذار» انتهى. وهذا الذي قَدَّره حسنٌ جداً، وهو جوابٌ عن سؤالٍ قدَّمْتُه في هذا الموضوع: وهو أنَّ قولَهم: «إنَّ» أَنْ «المصدريةَ يجوزُ أَنْ تتوصَّلَ بالأمرِ» مُشْكِلٌ؛ لأنه يَنْسَبِكُ منها وممَّا بعدَها مصدرٌ، وحينئذٍ فتفوتُ الدلالةُ على الأمرِ. ألا ترى أنك إذا قَدَّرْت [في] كَتَبْتُ إليه بأَنْ قُمْ: كَتَبْتُ إليه القيامَ، تفوتُ الدلالةُ على الأمرِ حالَ التصريحِ بالأمر، فينبغي أَنْ يُقَدَّرَ كما قاله الزمخشريُّ أي: كتبتُ إليه بأَنْ قلتُ له: قُمْ، أي: كتبتُ إليه بالأمرِ بالقيام.
قوله: ﴿أَنِ اعبدوا﴾ : إمَّا أَنْ تكونَ تفسيريةً ل «نذير»، أو مصدريةً، والكلامُ فيها كما تقدَّم في أختها.
قوله: ﴿مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ : في «مِنْ» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تبعيضيةٌ. والثاني: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثالث: أنها لبيانِ
467
الجنسِ وهو مردودٌ لعَدَمِ تَقَدُّمِ ما تبيِّنُه. الرابع: أنها مزيدةٌ. قال ابن عطية: «وهو مذهبٌ كوفيٌّ» قلت: ليس مذهبُهم ذلك؛ لأنهم يَشْتَرطون تنكيرَ مَجْرورِها ولا يَشْترطون غيرَه. والأخفشُ لا يَشْترط شيئاً، فزيادتُها هنا ماشٍ على قولِه، لا على قولِهم.
قوله: ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ﴾ قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف قال:» ويُؤَخِّرْكم «مع إخبارِه بامتناعِ تأخيرِه؟ قلت: قضى اللَّهُ أنَّ قوم نوحٍ إنْ آمنوا عَمَّرَهم ألفَ سنةٍ، وإن بَقُوا على كُفْرِهم أَهْلكهم على رأس تسعمِئة. فقيل لهم: إن آمنتم أُخِّرْتم إلى الأجلِ الأطولِ، ثم أخبرهم أنَّه إذا جاء ذلك الأجلُ الأمَدُّ لا يُؤَخَّرُ» انتهى. وقد تَعَلَّق بهذه الآيةِ مَنْ يقولُ بالأَجَلَيْنِ. وتقدَّم جوابُه. وقوله: ﴿لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جوابُها محذوفٌ أي: لبادَرْتُمْ إلى ما أَمَرَكم به.
468
قوله :﴿ لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾ ظرفان ل " دَعَوْت " والمرادُ الإِخبارُ باتصالِ الدعاءِ، وأنه/ لا يَفْتُرُ عن ذلك. و " إلاَّ فِراراً " مفعولٌ ثانٍ وهو استثناءٌ مُفَرَّغٌ.
قوله: ﴿لِتَغْفِرَ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليل، والمدعُوُّ إليه محذوفٌ أي: دَعَوْتُهم للإِيمان بك لأجلِ مغفرتِك لهم، وأَنْ تكونَ لامُ التعديةِ ويكونُ قد عبَّر عن السببِ بالمُسَبَّبِ الذين هو جَعْلُهم. والأصلُ: دَعَوْتُهم للتَّوْبةِ التي هي سبَبٌ في الغُفْران. و «جعلوا» هو العاملُ في «كلما» وهو خبر «إنِّي».
قوله: ﴿لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ ظرفان ل «دَعَوْت» والمرادُ الإِخبارُ باتصالِ
468
الدعاءِ، وأنه/ لا يَفْتُرُ عن ذلك. و «إلاَّ فِراراً» مفعولٌ ثانٍ وهو استثناءٌ مُفَرَّغٌ.
469
قوله: ﴿جِهَاراً﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من المعنى؛ لأنَّ الدعاءَ يكونُ جهاراً وغيرَه، فهو من باب: قَعَدَ القُرْفُصاءَ، وأَنْ يكونَ المرادُ ب «دَعَوْتُهم» : جاهَرْتُهم، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: دعاءً جِهاراً، وأَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ أي: مُجاهِراً، أو ذا جِهارٍ، أو جُعِل نفسَ المصدرِ مبالغةً. قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: ذَكَرَ أنَّه دعاهم ليلاً ونهاراً، ثم دعاهم جِهاراً، ثم دعاهم في السِّرِّ والعَلَنِ فيجب أَنْ تكونَ ثلاثَ دَعَوات مختلفات حتى يَصِحَّ العطفُ» قلت: قد فَعَلَ عليه السلام كما يَفْعَلُ الذي يَأْمُرُ بالمعروفِ ويَنْهى عن المنكر في الابتداءِ بالأَهْوَنِ، والترقِّي في الأشَدِّ فالأشُدِّ، فافتتح في المناصحةِ بالسِّرِّ، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَنَّى بالمجاهرة، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَلَّثَ بالجَمْعِ بين الإسرار والإِعلان. ومعنى «ثم» الدلالةُ على تباعُدِ الأحوالِ، لأنَ الجِهارَ أغلظُ من الإِسرارِ، والجمعُ بين الأمرَيْن أغلظُ مِنْ إفرادِ أحدِهما «. قال الشيخ:» وتكرَّرَ كثيراً له أنَّ «ثُمَّ» للاستبعادِ ولا نَعْلَمُه لغيرِه «. قلت: هذا القول بعدما سَمِعْتَ من ألفاظِ الزمخشريِّ تحامُلٌ عليه.
قوله: ﴿مِّدْرَاراً﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من «السماء»، ولم يؤنَّثْ لأنَّ مِفْعالاً لا يُؤَنَّثُ. تقول: امرأةٌ مئِنْاثٌ ومِذْكار، ولا يُؤَنَّثُ بالتاءِ إلاَّ نادراً، وحينئذٍ يَستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ فتقول:
469
رجلٌ مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ، وامرأة مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: إرسالاً مِدْراراً. وتقدَّم الكلامُ عليه في الأنعام.
470
قوله: ﴿وَقَاراً﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به على معانٍ، منها: ما لكم لا تَأْمُلُوْنَ له تَوْقيراً أي: تعظيماً. قال الزمخشري: «والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأمُلُون فيها تعظيمَ اللَّهِ إياكم في دارِ الثواب؟ و» لله «بيانٌ للموَقَّرِ، ولو تأخَّر لكان صلةً» انتهى. أي: لو تأخِّر «لله» عن «وَقارا» لكان متعلِّقاً به، فيكونُ التوقيرُ منهم للَّهِ تعالى، وهو عكسُ المعنى الذي قصده. ومنها: لا تخافون للَّهِ حِلْماً وتَرْكَ معاجلةٍ بالعقابِ فتؤمنوا. ومنها: لا تخافون لله عظمةً. وعلى الأولِ يكون الرجاءُ على بابه، وقد تقدَّم أنَّ استعمالَه بمعنى الخوفِ مجازٌ أو مشتركٌ. وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعل «تَرْجُون» أي: موقِّرين اللَّهَ تعالى، أي تُعَظِّمونه، ف «للَّهِ» متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «وَقارا»، أو تكون اللامُ زائدةً في المفعول به، وحَسَّنه هنا أمران: كوْنُ العاملِ فَرْعاً، وكونُ المعمولِ مقدَّماً، و «لا تَرْجُون» حالٌ وتقدَّم نظيرُه في المائدة.
قوله: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ﴾ : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ «تَرْجُون». والأَطْوارُ: الأحوالُ المختلفةُ. قال الشاعر:
٤٣٤٠ - فإنْ أفاقَ قد طارَتْ عَمَايَتُه والمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْراً بعد أطوارِ
وانتصابُه على الحالِ أي: مُتَنَقِّلين من حالٍ إلى حالٍ، أو مختلِفين مِنْ بينِ مُسِيْءٍ ومُحْسِنٍ، وصالحٍ وطالحٍ.
قوله: ﴿طِبَاقاً﴾ : تقدَّم الكلامُ عليه في سورة المُلك. وقال مكي: «وأجاز الفراء في غيرِ القرآنِ جَرَّ» طباق «على النعت ل» سماوات «، يعني أنه يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للعددِ تارةً وللمعدودِ أخرى.
قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ : أي: في السماواتِ، والقمرُ إنما هو في سماءٍ واحدةٍ منهنَّ. قيل: هو في السماءِ الدنيا، وإنَّما جازَ ذلك؛ لأن بين السماواتِ ملابَسةً فصَحَّ ذلك. وتقولُ: «زيدٌ في المدينةِ» وإنما هو في زاويةٍ من زواياها.
وقوله: ﴿وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً﴾ يُحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ: وجعل الشمسَ فيهِنَّ، كما تقدَّم. والشمس قيل: في الرابعةِ. وقيل: في الخامسةِ. وقيل: في الشتاءِ في الرابعة، وفي الصيف في السابعةِ. واللَّهُ أعلمُ: أيُّ ذلك صحيحٌ.
قوله: ﴿نَبَاتاً﴾ : إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً ل أَنْبَتَ على حَذْفِ الزوائِد، ويُسَمَّى اسمَ/ مصدرٍ، وإمَّا ب «نَبَتُّمْ» مقدَّراً: أي: فَنَبَتُّمْ نباتاً فيكونُ منصوباً بالمُطاوِعِ المقدَّرِ. قال الزمخشري: «أو نُصِبَ ب» أَنْبَتكم «لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ» قال الشيخ: «ولا أَعْقِلُ معنى هذا الوجهِ الثاني». قلت: هذا الوجهُ هو الذي قدَّمْتُه. وهو أنه منصوبٌ ب «أَنْبَتكم» على حَذْفِ الزوائد. ومعنى قولِه: «لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ» أي: إنه مُشتملٌ عليه، غايةُ ما فيه أنه حُذِفت زوائدُه، والإِنباتُ هنا استعارةٌ بليغةٌ.
قوله: ﴿سُبُلاً فِجَاجاً﴾ وفي الأنبياء تقدَّم الفِجاجُ لِتَناسُبِ الفواصِلِ هنا. وقد تقدَّم نَحْوٌ مِنْ هذا.
قوله: ﴿وَوَلَدُهُ﴾ : قد تقدَّم خِلافُ القُراء في «وَلَدِه» وتقدَّم أنهما لغتان كبُخْل وبَخَلَ. قال أبو حاتم: يمكن أَنْ يكونَ المضمومُ جمعَ المفتوحِ كخَشَبٍ وخُشْبِ. وأنشد لحسَّانَ رضي الله عنه:
قوله: ﴿وَمَكَرُواْ﴾ : عطفٌ على صلةِ «مَنْ» وإنما جُمِعَ الضميرُ حَمْلاً على المعنى، بعد حَمْلِه على لفظِها في ﴿لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ﴾، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً إخباراً عن الكفارِ.
قوله: ﴿كُبَّاراً﴾ العامَّةُ على ضَمِّ الكافِ وتشديدِ الباء، وهو بناءُ مبالغةٍ أبلغُ مِنْ «كُبار» بالضمِّ والتخفيف، قال عيسى: هي لغةٌ يمانيةٌ، وأنشد:
٤٣٤١ - يا بِكرَ آمنةَ المباركَ وِلْدُها مِنْ وُلْدِ مُحْصَنَةٍ بسَعْدٍ الأَسْعُدِ
٤٣٤٢ - والمرءُ يُلْحِقُه بفِتيان النَّدى خُلُقُ الكريمِ وليس بالوُضَّاء
وقول الآخر:
٤٣٤٣ - بَيْضاءُ تصطادُ القلوبَ وتَسْتَبي بالحسنِ قلبَ المسلمِ القُرَّاء
يقال: رجلٌ طُوَّالٌ وحُمَّالٌ وحُسَّانٌ. وقرأ عيسى وأبو السمال وابن محيصن بالضمِّ والتخفيف، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً دونَ الأولِ، وقرأ زيدُ بنُ علي وابن محيصن أيضاً بكسر الكاف وتخفيفِ الباء. قال أبو بكر: وهو جمعُ «كبير»، كأنه جعل «مَكْراً» مكانَ «ذنوب»
473
أو «أفاعيل» يعني فلذلك وصفَه بالجمع.
474
قوله: ﴿وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل: إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ، وأن لا يكونَ إنْ قيل: إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير. وقرأ نافع «وُدّاً» بضم الواوِ، والباقون بفتحها، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر:
٤٣٤٤ - حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما
وقول الآخر:
٤٣٤٥ - فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ
قوله: ﴿وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ﴾ قرأهما العامَّةُ بغير تنوين. فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة. وقرأ الأعمش: «ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً» مصورفَيْن. قال ابن عطية: «وذلك وهمٌ: لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل» انتهى.
474
وليس بوهمٍ لأمرَيْن، أحدهما: أنه صَرَفَهما للتناسُبِ، إذ قبله اسمان منصرفان، وبعده اسمٌ منصرفٌ، كما صُرِفَ «سلاسل». والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً. وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ.
ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال: «جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق». قلت: وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ. أمَّا قولُه: «فَعُولاً» فليس بصحيحٍ، إذ مادةُ «يغث» و «يعق» مفقودةٌ. وأمَّا قولُه: «صفتان من الغَوْث والعَوْق» فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ «يَفْعُل» والصحيحُ ما قَدَّمْتُه. وقال الزمخشري: «وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما. لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ: وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً». قال الشيخ: «كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ».
475
قوله: ﴿وَقَدْ أَضَلُّواْ﴾ : أي الرؤساءُ أو الأصنامُ، / وجَمَعَهم جَمْعَ العقلاءِ معاملةً لهم معاملةً العقلاء.
475
قوله: ﴿وَلاَ تَزِدِ﴾ عطفٌ على قولِه: ﴿رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ [نوح: ٢١] على حكايةِ كلامِ نوحٍ بعدَ «قال» وبعد الواوِ النائبةِ عنه، أي: قال: إنهم عَصَوْني، وقال: لا تَزِدْ، أي: قال هذَيْن القولَيْن، فهما في محلِّ النصب، قاله الزمخشريُّ. قال: «كقولك: قال زيدٌ: نوديَ للصلاة وصَلِّ في المسجدِ، تحكي قولَيْه معطوفاً أحدُهما على صاحبِه». وقال الشيخ: «ولا تَزِدْ» معطوفٌ على «قد أَضَلُّوا» لأنها محكيَّةٌ ب «قال» مضمرةً، ولا يُشْترط التناسُبُ في الجملِ المتعاطفةِ، بل تَعْطِفُ خبراً على طلبٍ، وبالعكس، خلافاً لمَنْ اشترطه.
476
قوله: ﴿مِّمَّا خطيائاتهم﴾ :«ما» مزيدةٌ بين الجارِّ ومجرورِه توكيداً. ومَنْ لم يَرَ زيادتَها جَعَلها نكرةً، وجَعَلَ «خطيئاتِهم» بدلاً، وفيه تعسُّفٌ. وتقدَّم الخلافُ في قراءةِ «خَطِيْئاتِهم» في الأعراف. وقرأ أبو رجاء «خَطِيَّاتهم» جمعَ سلامةٍ، إلاَّ أنَّه أَدْغَمَ الياءَ في الياءِ المنقلبةِ عن الهمزةِ. والجحدريُّ وتُرْوى عن أُبَيّ «خطيئتِهم» بالإِفراد والهمز. وقرأ عبد الله «مِنْ خطيئاتِهم ما أُغْرِقوا» فجعلَ «ما» المزيدةَ بين الفعلِ وما يتعلَّق به. و «مِنْ» للسببيَّةِ تتعلَّقُ ب «أُغْرِقوا». قال ابن عطية: «لابتداء الغاية»، وليس بواضح. وقرأ العامَّةُ «أُغرِقوا» مِنْ
476
أَغْرق. وزيد بن علي «غُرِّقوا» بالتشديدِ، وكلاهما للنَّقْلِ. تقول: أغرَقْتُ زيداً في الماء، وغَرَّقْتُه فيه.
قوله: ﴿فَأُدْخِلُواْ﴾ يجوز أَنْ يكونَ من التعبيرِ عن المستقبلِ بالماضي، لتحقُّقِ وقوعِه، نحو: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] وأَنْ يكونَ على بابِه، والمرادُ عَرْضُهم على النار في قبورِهم، كقولِه في آلِ فرعونَ: ﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ [غافر: ٤٦].
477
قوله: ﴿دَيَّاراً﴾ : قال الزمخشري: «دَيَّار من الأسماءِ المستعملةِ في النفيِ العامِّ. يقال:» ما بالدار دَيَّارٌ ودَيُّورٌ «، كقَيَّام وقَيُّوم. وهو فَيْعال من الدُّور أو مِنْ الدار. أصلُه دَيْوار ففُعِل به ما يُفْعَلُ بأصلِ سَيِّد ومَيَّت، ولو كان فَعَّالاً لكان دَوَّاراً» انتهى. يعني أنه كان ينبغي أَنْ تَصِحَّ واوُه ولا تُقْلَبَ ياءً. وهذا نظيرُ ما تقدَّم له من البحثِ في «متحيِّز»، وأنَّ أصلَه مُتَحَيْوِز مُتَفَيْعِل، لا مُتَفَعِّل، إذ كان يلزمُ أَنْ يكونَ مُتَحَوِّزاً، لأنه من الحَوْز. ويقال أيضاً. فيه دَوَّار نحو: قَيَّام وقَوَّام.
وقال مكي: «وأصلُه دَيْوار، ثم أَدْغَموا الواوَ في الياءِ مثلَ» مَيِّت «أصلُه مَيْوِت، ثم أَدْغموا الثاني في الأولِ. ويجوز أَنْ يكونَ أَبْدلوا من الواوِ ياءً، ثم أدغموا الياءَ الأولى في الثانية». قلت: قولُه: «أدغموا الثاني في الأول» هذا لا يجوزُ؛ إذ القاعدةُ المستقرةُ في المتقارَبَيْنِ قَلْبُ
477
الأولِ للثاني، ولا يجوزُ العكسُ إلاَّ شذوذاً، أو لضرورةٍ صناعيةٍ. أمَّا الشذوذُ فكقراءةِ: «واذكر» [يوسف: ٤٥] بالذالِ المعجمةِ و «فَهَلْ مِن مُّذَّكِرٍ» [القمر: ١٥] بالمعجمةِ أيضاً. وقد مَضَى تحقيقُه. وأمَّا الضرورةُ الصناعيةُ فنحو: «امدحْ هِلالاً» بقَلْبِ الهاءِ حاءً؛ لئلا يُدْغَمَ الأقوى في الأضعفِ، وهذا يَعْرِفُه مَنْ عانى التصريفَ.
478
قوله: ﴿رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ : العامَّةُ على فتحِ الدال على أنه تثنيةُ «والِد» يريد أبوَيْه. وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما ويحيى بن يعمر والنخعي «ولوَلَدَيَّ» تثنيةَ «وَلَد» يعني ابنَيْه ساماً وحاماً. وقرأ ابن جبير والجحدريُّ «ولوالِدِيْ» بكسر الدال يعني أباه، فيجوزُ أن يكونَ أرادَ أباه الأقربَ الذي وَلَدَه، وخصَّه بالذِّكْر لأنه أشرفُ من الأم، وأَنْ يريدَ جميعَ مَنْ وَلَدَه مِنْ لَدُنْ آدمَ عليه السلام إلى مَنْ وَلده. و «مؤمناً» حالٌ و «تَباراً» مفعولٌ ثانٍ، والاستثناءُ مفرغٌ. والتبار: الهَلاكُ، وأصلُه من التكسُّر والتفتُّتِ. وقد تقدَّم تحقيق ذلك وللَّهِ الحمدُ والمِنَّةُ. /
Icon