لما ختمت التطفيف بأن الأولياء في نعيم، وأن الأعداء في جحيم ثواباً وعقاباً، ابتدأ هذه بالإقسام على ذلك فقال:
﴿إذا السماء﴾ أي على ما لها من الإحكام والعظمة والحكمة الذي لا يقدر على مثلها غيره جلت قدرته
﴿انشقت *﴾ أي فصارت واهية وفتحت أبواباً فتخربت وتهدمت، وذلك بعد القيام من القبور كما مضى في الحاقة عن إحدى روايتي ابن عباس رضي الله عنهما
﴿وأذنت﴾ أي كانت
335
شديدة الاستماع والطواعية والانقياد على أتم وجه كمن له أذن واعية ونفس مطمئنة راضية
﴿لربها﴾ أي لأمر المخترع لها والمدبر لجميع أمرها، وهي الآن وإن كانت منقادة فانقيادها ظاهر لأكثر الخلق وهم المثبتة، وأما المعطلة فربما نسبوا تأثيراتها إلى الطبائع والكواكب وأما عند الانشقاق فيحصل الكشف التام فلا يبقى لأحد شبهة
﴿وحقت *﴾ بالبناء للمفعول بمعنى أنها مجبولة على أن ذلك حق عليها ثابت لها، فهي حقيقة به لأنها مربوبة له سبحانه، وكل مربوب فهو حقيق بالانقياد لربه، وهي لم تزل مطيعة له في ابتدائها وانتهائها، لكن هناك يكون الكشف التام لجميع الأنام.
ولما بدأ بالعالم العلوي لكونه أشرف لأنه أعلى مكانة ومكاناً، ثنى بالسفلي فقال تعالى:
﴿وإذا الأرض﴾ أي على ما لها من الصلابة والثخانة والكثافة، وأشار بالبناء للمفعول إلى سهولة الفعل فيها عليه سبحانه وتعالى وسرعة انفعالها مع كونه أعجب من انشقاق السماء فإنه ربما كان في الشيء لوهيه من تطاول مرور الزمان عليه بخلاف المد فقال:
﴿مدت﴾ أي بسطت بسط الأديم ومطت فامتطت فزيد في سعتها جداً بعد أن تمهدت فصارت دكاء فزالت جبالها وآكامها وتلالها، فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً كما أن الأديم إذا مد كان كذلك فزال تثنيه واتسع.
336
ولما كان الجلد جديراً بأنه إذا مد أن يبين عن كل ما فيه من غيره قال:
﴿وألقت ما فيها﴾ أي أخرجت ما في بطنها من الأموال والكنوز والأموات إخراجاً سريعاً كأنها تقذفه قذفاً، وذلك أيضاً كالبساط إذا نقض
﴿وتخلت *﴾ أي تعمدت وتكلفت الخلو عن ذلك والترك له بغاية جهدها، أي فعل ذلك سبحانه فعلاً كانت الأرض كأنها فاعلة له على هذا الوجه، فصارت خلية عن كل شيء كان في بطنها، وصار بارزاً على ظهرها، ولما كان هذا ربما أوهم أنه بغير أمره سبحانه وتعالى قال:
﴿وأذنت لربها﴾ أي فعلت ذلك بإذن الخالق لها والمربي وتأثرت في ذلك عن تأثيره لا بنفسها، وفعلت فيه كله فعل السميع المجيب
﴿وحقت *﴾ أي وكانت حقيقة بذلك كما أن كل مربوب كذلك وتكرير
«إذا» للتنبيه على ما في كل من الجملتين من عظيم القدرة، والجواب محذوف - لأنه في غاية الانكشاف بما دل عليه المقام مع ما تقدم من المطففين وما قبلها من السور وما يأتي في هذه السورة تقديره: ليحاسبن كل أحد على كدحه كله فليثوبنّ الكفار ما كانوا يفعلون وليجازين أهل الإسلام بما كانوا يعملون.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم في الانفطار التعريف بالحفظة وإحصائهم على العباد في كتبهم، وعاد الكلام إلى ذكر ما يكتب على البر والفاجر واستقرار ذلك في قوله تعالى: {إن كتاب الأبرار لفي
337
عليّين} [المطففين: ١٨] وقوله:
﴿إن كتاب الفجار لفي سجين﴾ [المطففين: ٧] أتبع ذلك بذكر التعريف بأخذ هذه الكتب في القيامة عند العرض، وأن أخذها بالأيمان عنوان السعادة، وأخذها وراء الظهر عنوان الشقاء إذ قد تقدم في السورتين قبل ذكر الكتب واستقرارها بحسب اختلاف مضمناتها فمنها ما هو في عليين ومنها ما هو في سجين إلى يوم العرض، فيؤتى كل كتابه فآخذ بيمينه وهو عنوان سعادته، وآخذ من وراء ظهره وهو عنوان هلاكه، فتحصّل الإخبار بهذه الكتب ابتداء واستقراراً وتفريقاً يوم العرض، وافتتحت السورة بذكر انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها ما فيها وتحليها تعريفاً بهذا اليوم العظيم بما يتذكر به من سبقت سعادته والمناسبة بينة - انتهى.
ولما كان الجواب ما ذكرته، أتبعه شرحه فقال منادياً بأداة صالحة للبعد لأن المنادى أدنى الأسنان بادئاً بالأولياء لأن آخر التطفيف الذي هذا شرح له إدخال السرور عليهم:
﴿يا أيها الإنسان﴾ أي الآنس بنفسه الناسي لربه. ولما كان أكثر الناس منكراً للبعث أكد فقال:
﴿إنك كادح﴾ أي ساع وعامل مع الجهد لنفسك من خير
338
أو شر، وأكثره مما يؤثر خدوشاً وشيناً وفساداً وشتاتاً، منتهياً
﴿إلى ربك﴾ الذي أوجدك ورباك بالعمل بما يريد معنىً وبالموت حساً، وأشار إلى اجتهاد كل فيما هو فيه وخلق له بالتأكيد بالمصدر فقال:
﴿كدحاً﴾ أي عظيماً
﴿فملاقيه *﴾ أي فمتعقب كدحك لقاؤك لربك، وأنه ينكشف لك أنك كنت في سيرك إليه كالمجتهد في لقائه اجتهاد من يسابق في ذلك آخر، وكل ذلك تمثيل لنفوذ إرادته ومضي أقضيته بسبب الانتهاء إليه، وحقيقته تلاقي جزاءه وينكشف لك من عظيم أمره ما ينكشف للملاقي مع من يلقاه بسبب اللقاء، وهذا أمر أنت ساع فيه غاية السعي لأن من كان الليل والنهار مطيتيه أوصلاه بلا شك إلى منتهى سفره شاء أو أبى، فذكر هذا على هذا النمط حث على الاجتهاد في الإحسان في العمل لأن من أيقن بأنه لا بد له من العرض على الملك أفرغ جهده في العمل بما يحمده عليه عند لقائه.
ولما كان من المعلوم أن عبيد الملك إذا عرضوا عليه، كان فيهم المقبول والمردود، بسبب أن كدحهم تارة يكون حسناً وتارة يكون سيئاً، قال معرفاً أن الأمر في لقائه كذلك على ما نعهد، فمن كان مقبولاً أعطي كتاب حسناته بيمينه لأنه كان في الدنيا من
339
أهل اليمين أي الدين المرضي، ومن كان مردوداً أعطي كتابه بشماله لأنه كان في الدنيا مع أهل الشمال وهو الدين الباطل الذي يعمل من غير إذن المالك، فكأنه يفعل من ورائه، فترجم هذا الغرض بقوله سبحانه وتعالى مفصلاً للإنسان المراد به الجنس جامعاً للضمير بعد أن أفرده تنصيصاً على حشر كل فرد:
﴿فأما من أوتي﴾ بناه للمفعول إشارة إلى أن أمور الآخرة كلها قهر وفي غاية السهولة عليه سبحانه وتعالى، وفي هذه الدار للأمر وإن كان كذلك إلا أن الفرق في انكشاف ستر الأسباب هناك فلا دعوى لأحد
﴿كتابه﴾ أي صحيفة حسابه التي كتبتها الملائكة وهو لا يدري ولا يشعر
﴿بيمينه﴾ من أمامه وهو المؤمن المطيع
﴿فسوف يحاسب﴾ أي يقع حسابه بوعد لا خلف فيه وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر
﴿حساباً يسيراً﴾ أي سهلاً لا يناقش فيه لأنه كان يحاسب نفسه فلا يقع له المخالفة إلا ذهولاً، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفو عن سيئها.
340
ولما كان هذا دالاً على العفو، أتبعه ما يدل على الإكرام فقال:
﴿وينقلب﴾ أي يرجع من نفسه من غير مزعج برغبة وقبول
﴿إلى أهله﴾ أي الذين أهله الله بهم في الجنة فيكون أعرف بهم وبمنزله
340
الذي أعد له منه بمنزله في الدنيا. ولما كانت السعادة في حصور السرور من غير قيد، بنى للمفعول قوله:
﴿مسروراً *﴾ أي قد أوتي جنة وحريراً، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله مغموماً مضروراً يحاسب نفسه بكرة وعشياً حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش وشرور المخالفين، فذكر هنا الثمرة والمسبب لأنها المقصودة بالذات، وفي الشق الآخر السبب والأصل، وقد استشكلت الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذه الآية بما
«روي عنها في الصحيح بلفظين أحدهما» ليس أحد يحاسب إلا هلك
«والثاني» من نوقش الحساب عذب
«قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول ﴿فأما من أوتي كتابه﴾ [الانشقاق: ٨] الآية، فقال: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما ذلك العرض» فإن كان اللفظ الأول هو الذي سمعته فالإشكال فيه واضح، وذلك أنه يرجع إلى كلية موجبة هي
«كل من حوسب هلك» والآية مرجع إلى جزئية سالبة وهي
«بعض من يحاسب لا يهلك» وهو نقيض، وحينئذ يكون اللفظ الثاني من تصرف الرواة، وإن كان الثاني هو الذي سمعته فطريق تقدير الإشكال فيه أن يقال: المناقشة في اللغة من الاستقصاء وهو بلوغ الغاية، وذلك في الحساب
341
بذكر الجليل والحقير والمجازاة عليه، فرجع الأمر أيضاً إلى كلية موجبة هي
«كل من حوسب بجميع أعماله عذب» وذلك شامل لكل حساب سواء كان يسيراً أو لا، لأن الأعم يشمل جميع أخصّياته، والآية مثبتة أن من أعطي كتابه بيمينه يحاسب عليه ولا يهلك، والصديقة رضي الله عنها عالمة بأن الكتاب يثبت فيه جميع الأعمال من قوله تعالى:
﴿لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها﴾ [الكهف: ٤٩] ومن حديث الحافظين وغير ذلك، فرجع الأمر إلى أن بعض من يحاسب بجميع أعماله لا يهلك، وحينئذ فالظاهر التعارض فسألت، فأقرها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإشكال وأجابها بما حاصله أن المراد بالحساب في الحديث مدلوله المطابقي، وهو ذكر الأعمال كلها - والمقابلة على كل منها، وذلك هو معنى المناقشة، فمعنى
«من نوقش الحساب» من حوسب حساباً حقيقياً بذكر جميع أعماله والمقابلة على كل منها، وأن المراد بالحساب في الآية جزء المعنى المطابقي وهو ذكر الأعمال فقط من غير مقابلة، وذلك بدلالة التضمن مجازاً مرسلاً لأنه إطلاق اسم الكل على الجزء، ولأجل هذا كانت الصديقة رضي الله تعالى عنها تقول بعد هذا في تفسير الآية: يقرر بذنوبه ثم يتجاوز عنها - كما نقله عنها أبو حيان، وعلى ذلك دل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما:
342
«إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيضع كنفه عليه ويستره ثم يقول له: أتعرف ذنب كذا - حتى يذكره بذنوبه كلها ويرى في نفسه أنه قد هلك، قال الرب سبحانه: سترتها عليك في الدنيا، وأنا إغفرها لك اليوم» ولفظ
«كنفه» يدل على ذلك فإن كنف الطائر جناحه، وهو إذا وقع فرخه في كنفه عامله بغاية اللطف، فالله تعالى أرحم وألطف
﴿وأما من أوتي﴾ أي بغاية السهولة وإن أبى هو ذلك
﴿كتابه﴾ أي صحيفة حسابه
﴿وراء ظهره *﴾ أي في شماله إيتاء مستغرقاً لجميع جهة الوراء التي هي علم السوء لأنه كان يعمل ما لم يأذن به الله، فكأنه عمل من ورائه مما يظن أنه يخفى عليه سبحانه، فكان حقيقاً بأن تعل يمينه إلى عنقه، وتكون شماله إلى وراء ظهره، ويوضع كتابه فيها، وهذا احتباك: ذكر اليمين أولاً يدل على الشمال ثانياً، وذكر الوراء ثانياً يدل على الأمام أولاً، وسر ذلك أنه ذكر دليل المودة والرفق بالمصافحة ونحوها في السعيد، ودليل الغدر والاغتيال في الشقي
﴿فسوف يدعوا﴾ أي بوعد لا محالة في وقوعه أبداً
﴿ثبوراً *﴾ أي حسرة وندماً بنحو قوله: واثبوراه، وهو الهلاك الجامع لأنواع المكاره كلها لأن أعماله في الدنيا كانت أعمال الهالكين.
343
ولما كان ذلك لا يكون إلا لبلاء كبير، أتبعه ما يمكن أن يكون علة له فقال:
﴿ويصلى سعيراً *﴾ أي ويغمس في النار التي هي في غاية الاتقاد ويقاسي حرها وهي عاطفة عليه ومحطية به لأنه كان تابعاً لشهواته التي هي محفوفة بها فأوصلته إليها وأحاطت به.
ولما ذكر هذا العذاب الذي لا يطاق، أتبعه سببه ترهيباً منه واستعطافاً إلى التوبة وتحذيراً من السرور في دار الحزن، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه لا ينبغي أن يصدق أن عاقلاً يثبت له سرور في الدنيا:
﴿إنه كان﴾ أي بما هو له كالجبلة والطبع
﴿في أهله﴾ أي في دار العمل
﴿مسروراً *﴾ أي ثابتاً له السرور بطراً بالمال والجاه فرحاً به مخلداً إليه مترفاً مع الفراغ والفرار عن ذكر حساب الآخرة كما قال في التي قبلها
﴿وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين﴾ [المطففين: ٣١]، لا يحزن أحدهم لذنب عمله ولا لقبيح ارتكبه، بل يسر بكونه يأتي له ذلك فهو يحاسب في الآخرة حساباً عسيراً، وينقلب إلى أعدائه مغموماً كسيراً، وقد بان أن الكلام من الاحتباك: ذكر الحساب اليسير الذي هو الثمرة والمسبب أولاً يدل على حذف ضده ثانياً، وذكر السرور في الأهل الذي هو السبب في الثاني يدل على حذف ضده وهو سبب السعادة وهو
344
الغم ومحاسبة النفس في الأول، فهو احتباك في احتباك، ثم علل ثبات سروره فقال مؤكداً تنبيهاً أيضاً على أنه لا يصدق أن أحداً ينكر البعث مع ما له من الدلائل التي تفوت الحصر:
﴿إنه ظن﴾ لضعف نظره
﴿أن﴾ أي أنه
﴿لن يحور *﴾ أي يرجع إلى ربه أو ينقص أو يهلك
﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] فلهذا كان يعمل عمل من لا يخاف عاقبة
﴿بلى﴾ ليرجعن صاغراً ناقصاً هالكاً، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل من ينكر:
﴿إن ربه﴾ أي الذي ابتدأ إنشاءه ورباه
﴿كان﴾ أزلاً وأبداً
﴿به﴾ أي هذا الشقي في إعادته كما كان في ابتدائه وفي جميع أعماله وأحواله التي لا يجوز في عدل عادل ترك الحساب عليها
﴿بصيراً *﴾ أي ناظراً له وعالماً به أبلغ نظر وأكمل علم، فتركه مهملاً مع العلم بأعماله مناف للحكمة والعدل والملك، فهو شيء لا يمكن في العقل بوجه.
345
ولما أخبر سبحانه بإنكاره لما أتاه به الرسل من الحشر على وجه موضح للدليل على بطلان إنكاره ولم يرجع، سبب عنه الإقسام على صحة ذلك لأنه ليس عند النذير الناصح الشفوق بعد إقامة الأدلة إلاّ
345
بالإيمان على صحة ما قال نظراً منه للمنصوح وشفقة عليه، وكان ترك الحلف على ما هو ظاهر أبلغ من الحلف لما في ذلك الترك من تنبيه المخاطب على النظر والتأمل فقال:
﴿فلا أقسم﴾ أي أحلف حلفاً عظيماً هو كقاموس البحر بهذه الأمور التي سأذكرها لما لها من الدلالة على القدرة على الإبداء والإعادة، لا أقسم بها وإن كانت في غاية العظم بما لها من الدلالات الواضحة لأن المقسم عليه أجل منها وأظهر فهو غني عن الإقسام
﴿بالشفق *﴾ أي الضياء الذي يكون في المغرب عقب غروب الشمس أطباقاً حمرة ثم صفرة ثم كدرة إلى بياض ثم سواد، وكذلك الليل أوله بياض بغبرة ثم تتزايد غبرته قليلاً إلى أن يسود مرباداً فيوسق كل شيء ظلاماً، سمي شفقاً لرقته ومنه الشفقة لرقة القلب
﴿والّيل﴾ أي الذي يغلبه فيذهبه
﴿وما وسق *﴾ أي جمع في بطنه وطرد وساق من ذلك الشفق ومن النهار الذي كان قبله والنجوم التي أظهرها وغير ذلك من الغرائب التي تدل على أن موجده بعد أن لم يكن ومذهب ما كان به قادر على الإبداء والإعادة وكل ما يريد
﴿والقمر﴾ أي الذي هو آيته
﴿إذا اتسق *﴾ أي انتظم واستوى واجتمع كماله وتم أمره ليلة إبداره بعد أن كان قد غاب أصلاً ثم بدأ هلالاً خفياً ضئيلاً دقيقاً ولم يزل يزداد حتى يتم ثم ينقص إلى أن يخفى
346
ثم يعود إلى حاله دليلاً أظهر من الشمس على قدرة موجده كذلك على كل أمر من الإبداء والإعادة.
ولما كانت هذه الأمور عظيمة جداً لا يقدر عليها إلا الله تعالى ولها من المنافع ما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه وتعالى، وكل منها مع ذلك دال على تمام قدرته تعالى على الذي يراد تقريره في العقول وإيضاحه من القدرة التامة على إعادة الشيء كما كان سواء، ونفي الإقسام بها دليلاً على أن ذلك في غاية الظهور، فالأمر فيه غني عن الإقسام، قال في موضع جواب القسم مقروناً باللام الدالة على القسم ذاكراً ما هو في الظهور والبداهة بحيث لا يحتاج إلى تنبيه عليه بغيره ذكره:
﴿لتركبن﴾ أي أيها المكلفون - هذا على قراءة الجماعة بضم الباء دلالة على حذف واو الجمع، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتحها على أن الخطاب للانسان باعتبار اللفظ
﴿طبقاً﴾ مجاوزاً
﴿عن طبق *﴾ أي حالاً بعد حال من أطوار الحياة وأدوار العيش وغمرات الموت ثم من أمور البرزخ وشؤون البعث ودواهي الحشر بدليل ما كان لكم قبل ذلك سواء بتلك القدرة التي كونت تلك الكوائن وأوجدت تلك العجائب سواء، فتكونون في تمكن الوجود في
347
كل طبق بحال التمكن على الشيء بالركوب، وكل حال منها مطابق للآخر في ذلك فإن الطبق ما يطابق غيره، ومنه قيل للغطاء: طبق - لمطابقته المغطى، والطبق كل ما ساوى شيئاً ووجه الأرض والقرن من الزمان أو عشرون سنة، وكلها واضح الإرادة هنا وهو بديهي الكون، فأول أطباق الإنسان جنين، ثم وليد، ثم رضيع ثم فطيم، ثم يافع، ثم رجل، ثم شاب، ثم كهل، ثم شيخ، ثم ميت، وبعده نشر ثم حشر ثم حساب ثم وزن ثم صراط ثم مقرّ، ومثل هذه الأطباق المحسوسة أطباق معنوية من الفضائل والرذائل.
348
ولما ظهر المراد ولم يبق إلا العناد، سبب عن ذلك الإنكار عليهم والتوبيخ والتقريع والتهديد، فقال معرضاً عن خطابهم إلى الغيبة إيذاناً باستحقاقهم للأخذ إن لم يرجعوا:
﴿فما لهم﴾ أي وأي شيء لهؤلاء الذين أنزلنا عليهم هذا الكتاب المعجز في أنهم
﴿لا يؤمنون *﴾ أي يوقعون الإيمان ويجددونه كل وقت على الاستمرار بكل ما دعا إليه هذا الكتاب الذي خصهم بهم ملك الملوك وقد وضحت الدلالة وقامت البراهين لا سيما دلائل القيامة هل هي إلا واحدة من هذه الأطباق المنتقل إليها لأن من كان اليوم على حالة وغداً على أخرى جدير
348
بأن يعلم أن تدبيره إلى سواه، ومن لم يعلم ذلك فليس لجنونه دواء، ومن علم أن تدبيره إلى سواء علم أن المشيئة في التدبير - إليه لا إلى نفسه، وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على الصانع؟ قال: تحويل الحالات وعجز القوة وضعف الأركان وقهر المشيئة، وفسخ العزيمة.
﴿وإذا قرىء﴾ أي من أي قارىء كان
﴿عليهم القرآن﴾ أي الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم الفارق بين كل ملتبس من الحرام والحلال وغير ذلك
﴿لا يسجدون *﴾ أي يخضعون بالقلب ويتذللون للحق بالسجود اللغوي فيسجدون بالقالب السجود الشرعي لتلاوته لأنه ملك الكلام، قد أبان عن معارف لا تحصر، مع الشهادة لنفسه بإعجازه أنه من عند الله، ليس لهم في ذلك عذر إلا الجهل أو العجز، ولا جهل مع القرآن ولا عجز مع القوة والاختيار.
ولما كان هذا استفهاماً إنكارياً معناه النفي، فكان التقدير: إنهم لا يؤمنون ولا عذر لهم في ذلك أصلاً، أضرب عنه بقوله:
﴿بل﴾ ووضع الظاهر موضع المضمر تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على التكذيب فقال:
﴿الذين كفروا﴾ أي ستروا مرائي عقولهم الدالة على الحق
﴿يكذبون *﴾ أي بالقرآن وبما دل عليه من
349
حقائق العرفان المعلية إلى أوج الإيمان بالواحد الديان
﴿والله﴾ أي والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿أعلم﴾ أي منهم أنفسهم
﴿بما يوعون *﴾ أي يضعون في أوعية صدورهم من الكفر والعداوة بسبب الشهوات الشاغلة لهم وهي حب الرئاسة وادعاء الألوهية الشاغلة لهم عن التدبر لهذا القرآن وعن شواهد الموجودات.
ولما كان هذا موجباً لشديد الإنذار، وضع موضعه تهكماً بهم وإعلاماً بأن الغضب قد بلغ منتهاه قوله:
﴿فبشرهم﴾ أي أخبرهم يا أفضل الخلق وأكملهم وأعدلهم خبراً يغير إبشارهم
﴿بعذاب أليم *﴾ أي شديد الألم لشدة إيلامه، إن كان لهم يوماً من الأيام بشارة فهي هذه.
ولما أخبر عنهم بهذا الهوان، وكان قد عبر عنهم بأدنى الأسنان إشارة إلى أن منهم من يقبل الإيمان، استثنى منهم فقال:
﴿إلا الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان
﴿وعملوا﴾ دلالة على صدق إيمانهم
﴿الصالحات﴾.
ولما تقدم أن من حوسب عذب، وأن الناجي إنما يكون حسابه عرضاً، علم أنه ليس للأعمال دخل في الحقيقة في الأجر، وإنما المدار كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التغمد بالرحمة حتى في تسمية النعيم أجراً،
350
أسقط الفاء المؤذنة بالسبب تنبيهاً على ذلك بخلاف ما في سورة التين لما يأتي من اقتضاء سياقها للفاء فقال:
﴿لهم أجر﴾ أي عظيم وثواب جزيل يعلمه الله تعالى وهو التجاوز عن صغائرهم وسترها
﴿غير ممنون *﴾ أي مقطوع أو منقوص أو يمتن عليهم به في الدنيا والآخرة يؤتون ذلك في يوم الدين يوم تنشق السماء وتمد الأرض ويثوب الكفار ما كانوا يفعلون، فقد رجع آخرها على أولها، واعتلق مفصلها حق الاعتلاق بموصلها.
351
سورة البروج
مقصودها الدلالة على القدرة على مقصود الانشقاق الذي هو صريح آخرها من تنعيم الولي وتعذيب الشقي بمن عذبه في الدنيا ممن لا يمكن في العادة أن يكون عذابه ذلك إلا من الله وحده تسلية لقلوب المؤمنين وتثبيتا لهم على أذى الكافرين، وعلى ذلك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما) الرحمن (الذي عم الخلائق عدلا وحلما) الرحيم (الذي خص أولياءه بإتمام النعمة عليهم عينا كما أظهره رسما.
352