تفسير سورة الإسراء

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
مكية، وآياتها ١١١.

﴿ سُبْحَانَ ﴾ علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره : أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله. و ﴿ أسرى ﴾ وسرى لغتان. و ﴿ لَيْلاً ﴾ نصب على الظرف فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل ؟ قلت : أراد بقوله ﴿ لَيْلاً ﴾ بلفظ التنكير : تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية. ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة :«من الليل »، أي بعض الليل، كقوله ﴿ وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً ﴾ [ الإسراء : ٧٩ ] يعني الأمر بالقيام في بعض الليل. واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل : هو المسجد الحرام بعينه، وهو الظاهر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " وقيل : أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام : الحرم، لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وروي :( أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانيء. وقال : مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك ؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال : وإن كذبوني، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء، فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي، هلم فحدّثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً. وارتد ناس ممن كان قد آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي الصدّيق. وفيهم من سافر إلى ماثمّ، فاستنعتوه المسجد فجلي له بيت المقدس، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا : أمّا النعت فقد أصاب، فقالوا : أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت، فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ).
ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة.
وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه » وعن معاوية : إنما عرج بروحه. وعن الحسن. كان في المنام رؤيا رآها. وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك. والمسجد الأقصى : بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ﴿ بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ يريد بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقرأ الحسن :«ليريه » بالياء، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم فقيل : أسرى به ثم باركنا ليريه، على قراءة الحسن، ثم من آياتنا، ثم إنه هو، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة ﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع ﴾ لأقوال محمد ﴿ البصير ﴾ بأفعاله، العالم بتهذبها وخلوصها، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك.
﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ ﴾ قرئ بالياء على :«لئلا يتخذوا »، وبالتاء على : أي «لا تتخذوا » كقولك : كتبت إليه أن أفعل كذا ﴿ وَكِيلاً ﴾ ربا تكلون إليه أموركم.
﴿ ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا ﴾ نصب على الاختصاص. وقيل : على النداء فيمن قرأ «لا تتخذوا » بالتاء على النهي، يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا ﴿ مَعَ نُوحٍ ﴾ وقد يجعل ﴿ وَكِيلاً ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا ﴾ مفعولي تتخذوا، أي لا تجعلوهم أرباباً كقوله ﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا ﴾ ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام وقرىء :«ذرية من حملنا » بالرفع بدلا من واو ﴿ تَتَّخِذُواْ ﴾ وقرأ زيد بن ثابت :«ذِرية »، بكسر الذال. وروي عنه أنه قد فسرها بولد الولد، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق ﴿ إِنَّهُ ﴾ إن نوحاً ﴿ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ قيل : كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني، ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية، ولو شاء حبسه. وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجاً آثره به. فإن قلت : قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله ؟ قلت : كأنه قيل : لا تتخذوا من دوني وكيلاً، ولا تشركوا بي، لأنّ نوحاً عليه السلام كان عبداً شكوراً، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم. ويجوز أن يكون تعليلاً لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح، فهم متصلون به، فاستأهلوا لذلك الاختصاص. ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد.
﴿ وَقَضَيْنآ إلى بنى إسراءيل ﴾ وأوحينا إليهم وحياً مقضيا، أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة، ويعلون، أي : يتعظمون ويبغون ﴿ فِى الكتاب ﴾ في التوراة، و ﴿ لَتُفْسِدُنَّ ﴾ جواب قسم محذوف. ويجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم، فيكون ﴿ لَتُفْسِدُنَّ ﴾ جواباً له، كأنه قال : وأقسمنا لتفسدن. وقرىء :«لتفسدّن »، على البناء للمفعول. «ولتفسدن » بفتح التاء من فسد ﴿ مَّرَّتَيْنِ ﴾ أولاهما : قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والآخرة : قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم.
﴿ عِبَادًا لَّنآ ﴾ وقرىء :«عبيداً لنا » وأكثر ما يقال : عباد الله وعبيد الناس : سنحاريب وجنوده وقيل بختنصر. وعن ابن عباس : جالوت. قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة، وخربوا المسجد، وسبوا منهم سبعين ألفاً. فإن قلت : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه، قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه، فهو كقوله تعالى ﴿ وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢٩ ] وكقول الداعي. وخالف بين كلمهم. وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم. وقرأ طلحة «فحاسوا » بالحاء. وقرىء :«فجوّسو »، و «خلل الديار ». فإن قلت : ما معنى ﴿ وَعْدُ أولاهما ﴾ ؟ قلت : معناه وعد عقاب أولاهما ﴿ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ﴾ يعني : وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل.
﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة ﴾ أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو. قيل : هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم، وقيل : هي قتل داود جالوت ﴿ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ مما كنتم. والنفير، من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل : جمع نفر كالعبيد والمعيز.
أي الإحسان والإساءة : كلاهما مختص بأنفسكم، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن عليّ رضي الله عنه : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه، وتلاها ﴿ فَإِذَا جَآء وَعْدُ ﴾ المرّة ﴿ الأخرة ﴾ بعثناهم ﴿ ليسائوا وُجُوهَكُمْ ﴾ حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. ومعنى ﴿ ليسائوا وُجُوهَكُمْ ﴾ ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها، كقوله :﴿ سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الملك : ٢٧ ] وقرىء :«ليسوء » والضمير لله تعالى، أو للوعد، أو للبعث «ولنسوء » بالنون. وفي قراءة عليّ :«لنسوأنّ » «وليسوأنّ » وقرىء :«لنسوأن »، بالنون الخفيفة. واللام في ﴿ ليدخلوا ﴾ على هذا متعلق بمحذوف وهو : وبعثناهم ليدخلوا ولنسو أن : جواب إذا جاء ﴿ مَا عَلَوْاْ ﴾ مفعول ليتبروا، أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه. أو بمعنى : مدة علوّهم.
﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي ﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ ﴾ مرة ثالثة ﴿ عُدْنَا ﴾ إلى عقوبتكم وقد عادوا، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم وعن الحسن : عادوا فبعث الله محمداً، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة ﴿ حَصِيرًا ﴾ محبساً يقال للسجن محصر وحصير. وعن الحسن : بساطاً كما يبسط الحصير المرمول.
﴿ لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ ﴾ للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها. أو للملة. أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه. وقرىء :«ويبشر »، بالتخفيف، فإن قلت : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة ؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي، وإما مشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك.
فإن قلت : علام عطف ﴿ وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ قلت : على ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ على معنى : أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين : بثوابهم، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون.
أي : ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله، كما يدعوه لهم بالخير، كقوله :﴿ وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير ﴾ [ يونس : ١١ ]. ﴿ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً ﴾ يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأني المتبصر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً، فأقبل يئن بالليل، فقالت له : مالك تئن ؟ فشكا ألم القدّ، فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اقطع يديها » فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة، وأن يقطع الله يديها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها " ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة. ﴿ وكان الإنسان عجولاً ﴾ : يعني أن العذاب آتيه لا محالة، فما هذا الاستعجال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو النضر بن الحرث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية، فأجيب له، فضربت عنقه صبراً.
فيه وجهان، أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أي : فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. والثاني : أن يراد : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، يريد الشمس والقمر. ﴿ فمحونا آية الليل ﴾ : أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلماً، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ، وجعلنا النهار مبصراً أي تبصر فيه الأشياء وتستبان. أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعاً كشعاع الشمس، فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء ﴿ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبّكُمْ ﴾ لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم ﴿ وَلِتَعْلَمُواْ ﴾ باختلاف الجديدين ﴿ عَدَدَ السنين و ﴾ جنس ﴿ الحساب ﴾ وما يحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات، ولتعطلت الأمور ﴿ وَكُلَّ شىْءٍ ﴾ مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم ﴿ فصلناه ﴾ بيناه بياناً غير ملتبس، فأزحنا عللكم، وما تركنا لكم حجة علينا.
﴿ طائره ﴾ عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل. وعن ابن عيينة : هو من قولك : طار له سهم، إذا خرج، يعني : ألزمناه ما طار من عمله. والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه، ومنه مثل العرب : تقلدها طوق الحمامة. وقولهم : الموت في الرقاب. وهذا وبقة في رقبته. عن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك. وقرىء :«في عنقه » بسكون النون. وقرىء :«نخرج » بالنون. «ويخرج » بالياء، والضمير لله عز وجل «ويخرج »، على البناء للمفعول. ويخرج من خرج، والضمير للطائر. أي : يخرج الطائر كتاباً، وانتصاب ﴿ كتابا ﴾ على الحال. وقرىء :«يلقَّاه »، بالتشديد مبنيا للمفعول. و ﴿ يلقاه مَنْشُوراً ﴾ صفتان للكتاب. أو ﴿ يلقاه ﴾ صفة و ﴿ مَنْشُوراً ﴾ حالٌ من يلقاه.
﴿ اقرأ ﴾ على إرادة القول. وعن قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً. و ﴿ بِنَفْسِكَ ﴾ فاعل كفى. و ﴿ حَسِيباً ﴾ تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه. وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا. ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدّي بعلى لأنّ الشاهد يكفي المدعي ما أهمه. فإن قلت : لم ذكر حسيباً ؟ قلت : لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير ؛ لأنّ الغالب أنّ هذه الأمور يتولاها الرجال، فكأنه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً. ويجوز أن يتأوّل النفس بالشخص، كما يقال : ثلاثة أنفس. وكان الحسن إذا قرأها قال : يا ابن آدم، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك.
أي : كل نفس حاملة وزراً، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ ﴾ وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوماً إلا بعد أن ﴿ نَبْعَثَ ﴾ إليهم ﴿ رَسُولاً ﴾ فتلزمهم الحجة. فإن قلت : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان. قلت : بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا : كنا غافلين فلو لا بعث إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل.
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا ﴾ وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل، أمرناهم ﴿ فَفَسَقُواْ ﴾ أي أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز : لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشرّ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم. فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، يقال : أمرته فقام ؛ وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم : أمرته فعصاني، أو فلم يمتثل أمري. لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ؛ لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به، وكأنه يقول : كان مني أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع، ويأمر وينهى، غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير، دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا ؟ قلت : لا يصحّ ذلك ؛ لأن قوله ﴿ فَفَسَقُواْ ﴾ يدافعه، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعي إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه، ونظير ﴿ أَمْرٍ ﴾ شاء : في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده عليه، تقول : لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك. تريد : لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة - لم تكن على سداد. وقد فسر بعضهم ﴿ أَمْرُنَا ﴾ بكثرنا، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته ففعل. كثبرته فثبر. وفي الحديث :«خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة » أي كثيرة النتاج وروي : أن رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى أمرك هذا حقيراً فقال صلى الله عليه وسلم : إنه سيأمر. أي سيكثر وسيكبر.
وقرىء :«آمرنا » من أمر وأمره غيره. «وأمّرنا » بمعنى أمرنا. أو من أمر إمارة، وأمره الله. أي : جعلناهم أمراء وسلطناهم ﴿ كَمْ ﴾ مفعول ﴿ أَهْلَكْنَا ﴾ و ﴿ مّنَ القرون ﴾ بيان لكم وتمييز له، كما يميز العدد بالجنس. يعني عادا وثموداً وقرونا بين ذلك كثيراً. ونبه بقوله ﴿ وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا ﴾ على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، وأنه عالم بها ومعاقب عليها.
من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد الأمر تقييدين، أحدهما : تقييد المعجل بمشيئته. والثاني : تقييد المعجل له بإرادته، وهكذا الحال : ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأمّا المؤمن التقي فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة، فما يبالي : أوتي حظاً من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتي فبها وإلا فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده. وقوله ﴿ لِمَن نُّرِيدُ ﴾ بدل من له، وهو بدل البعض من الكل : لأن الضمير يرجع إلى «من » وهو في معنى الكثرة. وقرىء :«يشاء » وقيل : الضمير لله تعالى، فلا فرق إذاً بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا. وأن ذلك لواحد من الدهماء يريد به الله ذلك. وقيل : هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة، كالمنافق، والمرائي، والمهاجر للدنيا، والمجاهد للغنيمة والذكر، كما قال صلى الله عليه وسلم : " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ﴿ مَّدْحُورًا ﴾ مطروداً من رحمة الله.
﴿ سَعْيَهَا ﴾ حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً : إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك. والإيمان الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدّمين : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. وشكر الله : الثواب على الطاعة.
﴿ كُلاًّ ﴾ كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه ﴿ نُّمِدُّ ﴾ هم : نزيدهم من عطائنا، ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه. فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل ﴿ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ ﴾ وفضله ﴿ مَحْظُورًا ﴾ أي ممنوعاً، لا يمنعه من عاص لعصيانه.
﴿ انظر ﴾ بعين الاعتبار ﴿ كَيْفَ ﴾ جعلناهم متفاوتين في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر، لأنها ثواب وأعواض وتفضل، وكلها متفاوتة. وروي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب، فشق على أبي سفيان، فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة. ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر. وقرىء :«وأكثر تفضيلاً »، وعن بعضهم :«أيها المباهي » بالرفع منك في مجالس الدنيا «أما ترغب في المباهاة » بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل ؟
﴿ فَتَقْعُدَ ﴾ من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت، كأنها حربة بمعنى صارت، يعني : فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له.
﴿ وقضى رَبُّكَ ﴾ وأمر أمراً مقطوعاً به ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ ﴾ أن مفسرة ولا تعبدوا نهي. أو بأن لا تعبدوا ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ وأحسنوا بالوالدين إحساناً. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً وقرىء :«وأوصى » وعن ابن عباس رضي الله عنهما :«ووصى ». وعن بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك. ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان : لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته ﴿ إِمَّا ﴾ هي «إن » الشرطية زيدت عليها «ما » تأكيداً لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت «إن » لم يصح دخولها، لا تقول : إن تكرمن زيداً يكرمك، ولكن إما تكرمنه. و ﴿ أَحَدُهُمَا ﴾ فاعل يبلغنّ، وهو فيمن قرأ «يبلغان » بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين و ﴿ كِلاَهُمَا ﴾ عطف على أحدهما فاعلاً وبدلاً. فإن قلت : لو قيل إما يبلغان كلاهما، كان كلاهما توكيداً لا بدلا، فمالك زعمت أنه بدل ؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله. فإن قلت : ما ضرّك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً، وعطفت التوكيد على البدل ؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل : كلاهما، فحسب، فلما قيل : أحدهما أو كلاهما، علم أنّ التوكيد غير مراد، فكان بدلاً مثل الأول ﴿ أُفٍّ ﴾ صوت يدل على تضجر. وقرىء :«أف » بالحركات الثلاث منوناً وغير منون : الكسر على أصل البناء، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم، والضم إتباع كمنذ. فإن قلت : ما معنى عندك ؟ قلت : هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالاً وصبراً، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما : أف، فضلاً عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة ﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. والنهي والنهر والنهم : أخوات ﴿ وَقُل لَّهُمَا ﴾ بدل التأفيف والنهر ﴿ قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ جميلاً، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة. وقيل : هو أن يقول : يا أبتاه، يا أماه، كما قال إبراهيم لأبيه : ياأبت، مع كفره، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفا وسوء الأدب وعادة الدعار. قالوا : ولا بأس به في غير وجهه، كما قالت عائشة رضي الله عنها : نحلني أبو بكر كذا.
وقرىء :«جناح الذل »، الذل : بالضم والكسر فإن قلت : ما معنى قوله ﴿ جَنَاحَ الذل ﴾ ؟ قلت : فيه وجهان، أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك كما قال ﴿ واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٨٨ ] فأضافه إلى الذل أو الذلّ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني : أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحاً خفيضاً، كما جعل لبيد للشمال يداً، وللقوة زماماً، مبالغة في التذلل والتواضع لهما ﴿ مِنَ الرحمة ﴾ من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك عليهم التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فإن قلت : الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين. قلت : وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الإيمان، وأن يدعو الله لهما بالهداية والارشاد، ومن الناس من قال : كان الدعاء للكفار جائزاً ثم نسخ. وسئل ابن عيينة، عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه، ولا شيء أنفع له من الاستغفار، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين. ولقد كرّر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما " وروي :«يفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة » وروي سعيد بن المسيب : إنّ البارّ لا يموت ميتة سوء. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ أبويّ بلغا من الكبر أني ألي منهما ماولياً مني في الصغر، فهل قضيتهما ؟ قال : لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما. وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قوي، وفقيراً وأنا غنيّ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غنيّ، ويبخل علي بماله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى، ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك " وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر ؟ قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين ؟ قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها ؟ قال : لقد جازيتها. قال : ما فعلت ؟ قال : حججت بها على عاتقي. قال : ما جزيتها ولو طلقة وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول :
إنِّي لَهَا مَطِيَّةٌ لاَ تُذْعَر إذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لاَ تَنْفِر
مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِي أَكْثَر اللَّهُ رَبِّي ذُو الْجَلاَلِ الأَكْبَرُ
ثم قال تظنني جازيتها يا ابن عمر ؟ قال : لا ولو زفرة واحدة وعنه عليه الصلاة والسلام :«إياكم وعقوق الوالدين، فإنّ الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء، إنّ الكبرياء لله رب العالمين »
وقال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة، وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر. ويأخذ الإناء منه إذا شربها وعن أبي يوسف : إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد. وعن حذيفة : أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين، فقال : دعه يليه غيرك. وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال : أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل. وسئل بعضهم فقال : أن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر شزراً إليهما، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا، وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما. فعن النبيّ صلى الله عليه وسلم. «إنّ من أبر البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه ».
﴿ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ ﴾ بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين واعتقاد ما يجب لهما من التوقير ﴿ إِن تَكُونُواْ صالحين ﴾ قاصدين الصلاح والبر، ثم فرطت منكم - في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر، أو لحمية الإسلام - هنة تؤدّي إلى أذاهما، ثم أنبتم إلى الله واستغفرتم منها، فإن الله غفور ﴿ لِلأَوَّابِينَ ﴾ للتوّابين. وعن سعيد بن جبير : هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير. وعن سعيد بن المسيب : الأوّاب الرجل كلما أذنب بادر بالتوبة. ويجوز أن يكون هذا عامّاً لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته الجاني على أبويه التائب من جنايته، لوروده على أثره.
﴿ وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ ﴾ وصى بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما، وأن يؤتوا حقهم : وحقهم إذا كانوا محارم كالأبوين والولد، وفقراء عاجزين عن الكسب، وكان الرجل موسراً : أن ينفق عليهم عند أبي حنيفة. والشافعي لا يرى النفقة إلا على الولد والوالدين فحسب. وإن كانوا مياسير، أو لم يكونوا محارم : كأبناء العمّ، فحقهم صلتهم بالمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك ﴿ والمساكين وابن السبيل ﴾ يعني وآت هؤلاء حقهم من الزكاة، وهذا دليل على أن المراد بما يؤتي ذوي القرابة من الحق : هو تعهدهم بالمال. وقيل : أراد بذي القربى أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التبذير تفريق المال فيما لا ينبغي. وإنفاقه على وجه الإسراف. وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرّب منه ويزلف. وعن عبد الله : هو إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد : لو أنفق مدّاً في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه : لا خير في السرف، فقال : لاسرف في الخير. وعن عبد الله بن عمرو : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال :[ ما هذا السرف يا سعد ؟ قال : أوف ] الوضوء سرف ؟ قال : نعم وإن كنت على نهر جار ).
﴿ إخوان الشياطين ﴾ أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمّة ؛ لأنه لا شرّ من الشيطان. أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف. أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد ﴿ وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا ﴾ فما ينبغي أن يطاع، فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله. وقرأ الحسن «إخوان الشيطان ».
وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الردّ ﴿ فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ﴾ فلا تتركهم غير مجابين إذا سألوك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء. قوله ﴿ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ ﴾ إمّا أن يتعلق بجواب الشرط مقدّماً عليه، أي : فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً، رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم، ابتغاء رحمة من ربك، أي : ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم. وإما أن يتعلق بالشرط، أي : وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك، فسمى الرزق رحمة، فردّهم ردّاً جميلاً، فوضع الابتغاء موضع الفقد ؛ لأنّ فاقد الرزق مبتغ له، فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسبباً عنه، فوضع المسبب موضع السبب. ويجوز أن يكون معنى ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ﴾ وإن لم تنفعهم ولم ترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك ؛ لأن من أبى أن يعطي : أعرض بوجهه. يقال : يسر الأمر وعسر، مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول. وقيل معناه : فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله، على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم، كأن معناه : قولاً ذا ميسور، وهو اليسر، أي : دعاء فيه يسر.
هذا تمثيلٌ لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، وأمرٌ بالاقتصاد الذي هو بين الاسراف والتقتير ﴿ فَتَقْعُدَ مَلُومًا ﴾ فتصير ملوماً عند الله، لأنّ المسرف غير مرضي عنده وعند الناس، يقول المحتاج : أعطى فلاناً وحرمني. ويقول المستغني : ما يحسن تدبير أمر المعيشة. وعند نفسك : إذا احتجت فندمت على ما فعلت ﴿ مَّحْسُوراً ﴾ منقطعاً بك لا شيء عندك، من حسره السفر إذا بلغ منه وحسره بالمسألة. وعن جابر : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال : إنّ أمي تستكسيك درعاً، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر، فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت له قل له : إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً، وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة. وقيل أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن، فجاء عباس بن مرداس، وأنشأ يقول :
أَتَجْعَلُ نَهْيِبي وَنَهْبَ العَبِيدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِس يَفُوقَانِ جَدِّيَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِيءٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْم لاَ يُرْفَعِ
فقال : يا أبا بكر، اقطع لسانه عني، أعطه مائة من الإبل فنزلت.
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة، بأنّ ذلك ليس لهوان منك عليه، ولا لبخل به عليك ولكن لأنّ مشيئته في بسط الأرزاق وقدرها تابعة للحكمة والمصلحة. ويجوز أن يريد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي الخزائن في يده، فأما العبيد فعليهم أن يقتصدوا. ويحتمل أنه عزّ وعلا بسط لعباده أو قبض، فإنه يراعي أوسط الحالين، لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته.
قتلهم أولادهم : هو وأدهم بناتهم، كانوا يئدونهنّ خشية الفاقة وهي الإملاق، فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم. وقرىء «خشية » بكسر الخاء. وقرىء :«خطأ » وهو الإثم. يقال : خطيء خطأ، كاثم إثماً، وخطأ وهو ضدّ الصواب، اسم من أخطأ. وقيل والخطأ كالحذر والحذر، وخطاء بالكسر والمدّ. وخطاء بالفتح والمد. وخطا بالفتح والسكون. وعن الحسن : خطأ بالفتح وحذف الهمزة كالخب. وعن أبي رجاء : بكسر الخاء غير مهموز.
﴿ فاحشة ﴾ قبيحة زائدة على حد القبح ﴿ وَسَاء سَبِيلاً ﴾ وبئس طريقاً طريقة، وهو أن تغصب على غيرك امرأته أو أخته أو بنته من غير سبب، والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله.
﴿ إِلاَّ بالحق ﴾ إلا بإحدى ثلاث : إلا بأن تكفر، أو تقتل مؤمناً عمداً، أو تزني بعد إحصان. ﴿ مَظْلُومًا ﴾ غير راكب واحدة منهنّ ﴿ لِوَلِيّهِ ﴾ الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولي فالسلطان وليه ﴿ سلطانا ﴾ تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه ﴿ فَلاَ يُسْرِف ﴾ الضمير للولي. أي : فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية : كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة، حتى قال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤبشسع نعل كليب وقال :
كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ
وكانوا يقتلون غير القاتل إذا لم يكن بواء. وقيل : الإسراف المثلة. وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة :«فلا يسرف »، بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر. وفيه مبالغة ليست في الأمر. وعن مجاهد : أنّ الضمير للقاتل الأوّل. وقرىء :«فلا تسرف » على خطاب الولي أو قاتل المظلوم. وفي قراءة أبيّ «فلا تسرفوا » ردّه على : ولا تقتلوا ﴿ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ الضمير إمّا للولي، يعني حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، وبأنّ الله قد نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق، فلا يبغ ما وراء حقه. وإمّا للمظلوم ؛ لأنّ الله ناصره وحيث أوجب القصاص بقتله، وينصره في الآخرة بالثواب. وإما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله، فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.
﴿ بالتى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره ﴿ إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً ﴾ أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، ويجوز أن يكون تخييلا، كأنه يقال للعهد : لم نكثت ؟ وهلا وفي بك ؟ تبكيتاً للناكث، كما يقال للموؤدة : بأي ذنب قتلت ؟ ويجوز أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسئولاً.
وقرىء «بالقسطاس » بالضم والكسر، وهو القرسطون. وقيل : كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرها ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ وأحسن عاقبة، وهو تفعيل، من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه.
﴿ وَلاَ تَقْفُ ﴾ ولا تتبع. وقرىء «ولا تقف ». يقال : قفا أثره وقافه، ومنه : القافة، يعني : ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال. والمراد : النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم، ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولاً ظاهراً. لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده. وعن ابن الحنفية : شهادة الزور وعن الحسن : لا تقف أخاك المسلم إذا مرّ بك، فتقول : هذا يفعل كذا، ورأيته يفعل، وسمعته، ولم تر ولم تسمع. وقيل : القفو شبيه بالعضيهة ومنه الحديث : " من قفى مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج " وأنشد :
وَمِثْلُ الدُّمَى شم الْعَرَانِينِ سَاكِن بَهِنَّ الحَيَاءُ لاَ يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
أي التقاذف. وقال الكميت :
وَلاَ أرْمِي البَرِيَّ بِغَيْرِ ذَنْب وَلاَ أقْفُو الحَوَاصِنَ إنْ قُفِينَا
وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح ؛ لأنّ ذلك نوع من العلم، فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم، وأمر بالعمل به ﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، كقوله :
وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُوَلئِكَ الأَيَّامِ ***
و ﴿ عَنْهُ ﴾ في موضع الرفع بالفاعلية، أي : كل واحد منها كان مسؤلاً عنه، فمسئول : مسند إلى الجار والمجرور، كالمغضوب في قوله ﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] يقال للإنسان : لم سمعت ما لم يحل لك سماعه ؛ ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه ؟ وقرىء «والفواد » بفتح الفاء والواو، قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد، ثم استصحب القلب مع الفتح.
﴿ مَرَحاً ﴾ حال، أي : ذا مرح. وقرىء «مرحا » وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل لما فيه من التأكيد ﴿ لَن تَخْرِقَ الأرض ﴾ لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطأتك. وقرىء «لن تخرُق »، بضم الراء ﴿ وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً ﴾ بتطاولك. وهو تهكم بالمختال.
قرىء «سيئة » و «سيئه » على إضافة سيء إلى ضمير كل، وسيئاً في بعض المصاحف، وسيئات. وفي قراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. كان شأنه. فإن قلت : كيف قيل سيئه مع قوله مكروهاً ؟ قلت : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات، فلا اعتبار بتأنيثه. ولا فرق بين من قرأ سيئة وسيئاً. ألا تراك تقول : الزنا سيئة، كما تقول : السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث. فإن قلت : فما ذكر من الخصال بعضها سيء وبعضها حسن، ولذلك قرأ من قرأ «سيئه » بالإضافة، فما وجه من قرأ سيئة ؟ قلت : كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما تقدم من قوله ﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ] إلى هذه الغاية. وسماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. وعن ابن عباس : هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى، أوّلها ؛ لا تجعل مع الله إلها آخر، قال الله تعالى ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الألواح مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ] وهي عشر آيات في التوراة، ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك ؛ لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء. وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم.
﴿ أفأصفاكم ﴾ خطاب للذين قالوا ﴿ الملائكة بَنَات الله ﴾ والهمزة للإنكار. يعني : أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه. واتخذ أدونهم وهي البنات ؟ وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويكون أردؤها وأدونها للسادات ﴿ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ بإضافتكم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم بأن تجعلوا الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم أدون خلق الله وهم الإناث.
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان ﴾ يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات ؛ لأنه مما صرفه وكرّر ذكره، والمعنى : ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. أو أوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير. ويجوز أن يشير بهذا القرآن إلى التنزيل ويريد. ولقد صرفناه. يعني «هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم. وقرىء :«صرفنا » بالتخفيف وكذلك ﴿ لّيَذْكُرُواْ ﴾ قرىء «مشدّداً ومخففاً »، أي : كررناه ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم ﴿ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ﴾ عن الحق وقلة طمأنينة إليه. وعن سفيان : كان إذا قرأها قال : زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً.
قرىء «كما تقولون » بالتاء والياء. و ﴿ إِذَا ﴾ دالة على أن ما بعدها وهو ﴿ لاَّبْتَغَوْاْ ﴾ جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل ( لو ) ومعنى ﴿ لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً ﴾ لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، كقوله ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] وقيل : لتقرّبوا إليه، كقوله ﴿ أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ].
﴿ عَلَوْاْ ﴾ في معنى تعالياً. والمراد البراءة عن ذلك والنزاهة. ومعنى وصف العلوّ بالكبر : المبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به.
والمراد أنها تسبح له بلسان الحال، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها تنطق بذلك، وكأنها تنزه الله عز وجلّ مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها. فإن قلت : فما تصنع بقوله ﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ وهذا التسبيح مفقوه معلوم ؟ قلت : الخطاب للمشركين، وهم وإن كانوا إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض قالوا : الله ؛ إلا أنهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يقرّوا ؛ لأنّ نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق. فإن قلت : من فيهنّ يسبحون على الحقيقة وهم الملائكة والثقلان، وقد عطفوا على السموات والأرض، فما وجهه ؟ قلت : التسبيح المجازي حاصل في الجميع فوجب الحمل عليه، وإلا كانت الكلمة الواحدة في حالة واحدة محمولة عل الحقيقة والمجاز ﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح وشرككم.
﴿ حِجَابًا مَّسْتُورًا ﴾ ذا ستر كقولهم. سيل مفعم ذو إفعام. وقيل : هو حجاب لا يرى فهو مستور. ويجوز أن يراد أنه حجاب من دونه حجاب أو حجب، فهو مستور بغيره. أو حجاب يستر أن يبصر، فكيف يبصر المحتجب به، وهذه حكاية لما كانوا يقولونه ﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ] كأنه قال : وإذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم.
﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ كراهة أن يفقهوه. أو لأنّ قوله ﴿ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ فيه معنى المنع من الفقه، فكأنه قيل : ومنعناهم أن يفقهوه. يقال : وحد يحد وحداً وحدة، نحو وعد يعد وعداً وعدة، و ﴿ وَحْدَهُ ﴾ من باب رجع عوده على بدئه، وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر سادّ مسدّ الحال، أصله : يحد وحده بمعنى واحداً، وحده. والنفور : مصدر بمعنى التولية. أو جمع نافر كقاعد وقعود، أي : يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا.
﴿ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ﴾ من الهزؤ بك وبالقرآن، ومن اللغو : كان يقوم عن يمينه إذا قرأ رجلان من عبد الدار، ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار.
و ﴿ بِهِ ﴾ في موضع الحال كما تقول يستمعون بالهزؤ أي هازئين. و ﴿ إِذْ يَسْتَمِعُونَ ﴾ نصب بأعلم، أي : أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون ﴿ وَإِذْ هُمْ نجوى ﴾ وبما يتناجون به، إذ هم ذوو نجوى ﴿ إِذْ يَقُولُ ﴾ بدل من إذ هم ﴿ مَّسْحُورًا ﴾ سحر فجنّ. وقيل : هو من السحر وهو الرئة، أي : هو بشر مثلكم ﴿ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال ﴾ مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون ﴿ فَضَلُّواْ ﴾ في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع.
لما قالوا : أئذا كنا عظاماً قيل لهم ﴿ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ﴾.
﴿ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ﴾ فردّ قوله : كونوا، على قولهم : كنا، كأنه قيل : كونوا حجارة أو حديداً ولا تكونوا عظاماً، فإنه يقدر على إحيائكم والمعنى : أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويردّه إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحيّ وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة، مع أنّ العظام بعض أجزاء الحي، بل هي عمود خلقه الذي يبني عليه سائره، فليس ببدع أن يردّها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحيّ ومن جنس ما ركب منه البشر - وهو أن تكونوا حجارة يابسة أو حديداً مع أن طباعها الجسارة والصلابة - لكان قادراً على أن يردّكم إلى حال الحياة.
﴿ أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ ﴾ يعني أو خلقاً مما يكبر عندكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه. وقيل : ما يكبر في صدورهم الموت. وقيل : السموات والأرض ﴿ فَسَيُنْغِضُونَ ﴾ فسيحرّكونها نحوك تعجباً واستهزاء.
والدعاء والاستجابة كلاهما مجاز. والمعنى : يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله ﴿ بِحَمْدِهِ ﴾ حال منهم، أي حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبى ويتمنع ستركبه وأنت حامد شاكر، يعني : أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه، وعن سعيد بن جبير : ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ﴿ وَتَظُنُّونَ ﴾ وترون الهول، فعنده تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا، وتحسبونها يوماً أو بعض يوم. وعن قتادة : تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة.
﴿ وَقُل لّعِبَادِى ﴾ وقل للمؤمنين ﴿ يَقُولُواْ ﴾ للمشركين الكلمة ﴿ التى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ وألين ولا يخاشنوهم، كقوله : وجادلهم بالتي هي أحسن. وفسر التي هي أحسن بقوله ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ ﴾.
﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ ﴾ يعني يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها، ولا يقولوا لهم : إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله ﴿ إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ اعتراض، يعني يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة ﴿ وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ أي رباً موكولاً إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه، وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمكاشفة، وذلك قبل نزول آية السيف. وقيل : نزلت في عمر رضي الله عنه : شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل : أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل : الكلمة التي هي أحسن : أن يقولوا يهديكم الله، يرحمكم الله. وقرأ طلحة :«ينزغ » بالكسر وهما لغتان، نحو يعرشون ويعرشون.
هو ردّ على أهل مكة في إنكارهم واستبعادهم أن يكون يتيم أبي طالب نبياً، وأن تكون العراة الجوّع أصحابه، كصهيب وبلال وخباب وغيرهم، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم وصناديدهم، يعني : وربك أعلم بمن في السموات والأرض وبأحوالهم ومقاديرهم وبما يستأهل كل واحد منهم، وقوله ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ ﴾ إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله ﴿ وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ﴾ دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم ؛ لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود. قال الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] وهم محمد وأمته. فإن قلت : هلا عرّف الزبور كما عرّف في قوله ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس، والفضل وفضل، وأن يريد : وآتينا داود بعض الزُبر وهي الكتب، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور، فسمى ذلك زبوراً، لأنه بعض الزبور كما سمى بعض القرآن قرآناً.
[ ﴿ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ ﴾ ] هم الملائكة، وقيل : عيسى ابن مريم، وعزير، وقيل نفر من الجن، عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا، أي : ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه.
و ﴿ أولئك ﴾ مبتدأ، و ﴿ الذين يَدْعُونَ ﴾ صفته، و ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ خبره، يعني : أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى. و ﴿ أَيُّهُم ﴾ بدل من واو يبتغون، وأي موصولة، أي : يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب. أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، ويرجون، ويخافون، كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة ؟ ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ ﴾ حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرّب ونبيّ مرسل، فضلاً عن غيرهم.
﴿ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا ﴾ بالموت والاستئصال ﴿ أَوْ مُعَذّبُوهَا ﴾ بالقتل وأنواع العذاب. وقيل : الهلاك للصالحة، والعذاب للطالحة. وعن مقاتل : وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها : أما مكة فيخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فعذابها ضروب، ثم ذكرها بلداً بلداً ﴿ فِى الكتاب ﴾ في اللوح المحفوظ.
استعير المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة. و «أن » الأولى منصوبة والثانية مرفوعة، تقديره : وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين. والمراد : الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهباً ومن إحياء الموتى وغير ذلك : وعادة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال، فالمعنى : وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات - التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا - واحدة : وهي ناقة صالح ؛ لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ بينة. وقرىء «مبصرة » بفتح الميم ﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ فكفروا بها ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بالأيات ﴾ إن أراد بها الآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها ﴿ إِلاَّ تَخْوِيفًا ﴾ من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدّمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم وإن أراد غيرها فالمعنى : وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفاً وإنذاراً بعذاب الآخرة.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس ﴾ واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش، يعني : بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم. وذلك قوله ﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ [ القمر : ٤٥ ]، ﴿ قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٢ ] وغير ذلك، فجعله كأن قد كان ووجد، فقال : أحاط بالناس على عادته في إخباره. وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله عنه كان يدعو ويقول : " اللهم إني أسألك عهدك ووعدك " ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول :﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ ولعلّ الله تعالى أراه مصارعهم في منامه. فقد كان يقول حين ورد ماء بدر " والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " وهو يوميء إلى الأرض ويقول : هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر يوم بدر وما أري » في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء وحين سمعوا بقوله :﴿ إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم ﴾ [ الدخان : ٤٣ ] جعلوها سخرية وقالوا : إن محمداً يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة، ثم يقول ينبت فيها الشجر. وما قدر الله حق قدره من قال ذلك، وما أنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار ! فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل، إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار. وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها، فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها. والمعنى : أنّ الآيات إنما يرسل بها تخويفاً للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. فما كان ما ﴿ أريناك ﴾ منه في منامك بعد الوحي إليك ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً ﴾ لهم حيث اتخذوه سخريا وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم، ثم قال فيهم ﴿ وَنُخَوّفُهُمْ ﴾ أي نخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة ﴿ فَمَا يَزِيدُهُمْ ﴾ التخويف ﴿ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات. وقيل : الرؤيا هي الإسراء، وبه تعلق من يقول : كان الإسراء في المنام، ومن قال : كان في اليقظة، فسر الرؤيا بالرؤية. وقيل : إنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له : لعلها رؤيا رأيتها، وخيال خيل إليك، استبعاداً منهم، كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة، نحو قوله :﴿ فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ ﴾ [ الصافات : ٩١ ]، ﴿ أَيْنَ شُرَكَائِىَ ﴾ [ النحل : ٢٧ ]، ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ] وقيل : هي رؤياه أنه سيدخل مكة.
وقيل : رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة. فإن قلت : أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن ؟ قلت : لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة ؛ لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل : وصفها الله باللعن، لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة، وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار : ملعون، وسألت بعضهم فقال : نعم الطعام الملعون القشب الممحوق. وعن ابن عباس : هي الكشوث التي تتلوى بالشجر يجعل في الشراب. [ وقيل : هي الشيطان ] وقيل : أبو جهل. وقرىء «والشجرةُ الملعونةُ » بالرفع، على أنها مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قيل : والشجرة الملعونة في القرآن كذلك.
﴿ طِينًا ﴾ حال إما من الموصول والعامل فيه أسجد، على : أأسجد له وهو طين، أي أصله طين. أو من الراجع إليه من الصلة على : أأسجد لمن كان في وقت خلقه طيناً.
﴿ أَرَءيْتَكَ ﴾ الكاف للخطاب، و ﴿ هذا ﴾ مفعول به. والمعنى : أخبرني عن هذا ﴿ الذى كَرَّمْتَ ﴾ ه ﴿ عَلَىَّ ﴾ أي فضلته، لم كرمته عليّ وأنا خير منه ؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك، ثم ابتدأ فقال ﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِى ﴾ واللام موطئة للقسم المحذوف ﴿ لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ ﴾ لأستأصلنهم بالإغواء، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا، وهو من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم : أحنك الشاتين أي أكلهما. فإن قلت : من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب ؟ قلت : إما أن سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به، أو خرجه من قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها، أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه خلق شهواني. وقيل : قال ذلك لما عملت وسوسته في آدم، والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة.
﴿ اذهب ﴾ ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء، إنما معناه : امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، وعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره في قوله ﴿ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ ﴾ كما قال موسى عليه السلام للسامري ﴿ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ ﴾ [ طه : ٩٧ ]. فإن قلت : أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ليرجع إلى من تبعك ؟ قلت : بلى، ولكن التقدير : فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل : جزاؤكم. ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات، وانتصب ﴿ جَزَاءً مَّوفُورًا ﴾ بما في ﴿ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ ﴾ من معنى تجازون. أو بإضمار تجازون. أو على الحال ؛ لأنّ الجزاء موصوف بالموفور، والموفور الموفر. يقال : فر لصاحبك عرضه فرة.
استفزّه : استخفه. والفز : الخفيف ﴿ وَأَجْلِبْ ﴾ من الجلبة وهي الصياح. والخيل : الخيالة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " يا خيل الله اركبي " والرجل اسم جمع للراجل. ونظيره : الركب والصحب. وقرىء :«ورجلك »، على أن فعلا بمعنى فاعل، نحو : تعب وتاعب. ومعناه : وجمعك الرجل، وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدث، وندس وندس، وأخوات لهما. يقال : رجل رجل. وقرىء «ورجالك ورجالك » فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله ؟ قلت : هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. وقيل : بصوته، بدعائه إلى الشر.
وخيله ورجله : كلّ راكب وماش من أهل العيث، وقيل : يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال. وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما، كالربا والمكاسب المحرّمة، والبحيرة والسائبة، والإنفاق في الفسوق، والإسراف. ومنع الزكاة، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث، والتهويد والتنصير، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة، وغير ذلك ﴿ وَعِدْهُمْ ﴾ المواعيد الكاذبة. من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة، وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حمماً، وإيثار العاجل على الآجل.
﴿ إِنَّ عِبَادِى ﴾ يريد الصالحين ﴿ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان ﴾ أي لا تقدر أن تغويهم ﴿ وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً ﴾ لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك، ونحوه قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾ فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغوياً مضلاً، داعياً إلى الشر، صادّا عن الخير ؟ قلت : هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية، كما قال للعصاة : اعملوا ما شئتم.
﴿ يُزْجِى ﴾ يجري ويسير.
والضرّ : خوف الغرق ﴿ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ﴾ ذهب عن أوهامكم وخواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده، فإنكم لا تذكرون سواه، ولا تدعونه في ذلك الوقت ولا تعقدون برحمته رجاءكم، ولا تخطرون ببالكم أنّ غيره يقدر على إغاثتكم، أو لم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوّين. ويجوز أن يراد : ضلّ من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم، ولكنّ الله وحده هو الذي ترجونه وحده على الاستثناء المنقطع.
﴿ أَفَأَمِنتُمْ ﴾ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض. فإن قلت : بم انتصب ﴿ جَانِبَ البر ﴾ ؟ قلت : بيخسف مفعولاً به، كالأرض في قوله ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض ﴾ [ القصص : ٨١ ]. و ﴿ بِكُمْ ﴾ حال. والمعنى : أن يخسف جانب البر، أي يقلبه وأنتم عليه. فإن قلت فما معنى ذكر الجانب ؟ قلت : معناه أنّ الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب براً كان أو بحراً سبب مرصد من أسباب الهلكة، ليس جانب البحر وحده مختصاً بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف ؛ لأنه تغييب تحت التراب كما أنّ الغرق تغييب تحت الماء، فالبرّ والبحر عنده سيان يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان ﴿ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ﴾ وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء، يعني : أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر ﴿ وَكِيلاً ﴾ من يتوكل بصرف ذلك عنكم.
﴿ أَمْ أَمِنتُمْ ﴾ أن يقوّي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم، فينتقم منكم بأن يرسل ﴿ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا ﴾ وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، كأنها تتقصف أي تتكسر. وقيل : التي لا تمرّ بشيء إلا قصفته ﴿ فَيُغْرِقَكُم ﴾ وقرىء «بالتاء » أي الريح «وبالنون » وكذلك : نخسف، ونرسل، ونعيدكم، قرئت بالياء والنون. التبيع : المطالب، من قوله ﴿ فاتباع بالمعروف ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] أي مطالبة. قال الشماخ :
كَمَا لاَذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ ***
يقال : فلان على فلان تبيع بحقه، أي مصيطر عليه مطالب له بحقه. والمعنى : أنا نفعل ما نفعل بهم، ثم لا تجد أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودركاً للثأر من جهتنا. وهذا نحو قوله ﴿ وَلاَ يَخَافُ عقباها ﴾ [ الشمس : ١٥ ]. ﴿ بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾ بكفرانكم النعمة، يريد : إعراضهم حين نجاهم.
قيل في تكرمة ابن آدم : كرّمه الله بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد. وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم. وقيل : كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم، وعن الرشيد : أنه أحضر طعاماً فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ﴾ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه ﴿ على كثير ممن خلقنا ﴾ هو ما سوى الملائكة وحسب بني آدم تفضيلاً أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم. والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنى قربهم، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم، ثم جرّهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالاً وأخباراً منها : قالت الملائكة :( ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة. فقال : وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان ). ورووا عن أبي هريرة أنه قال : لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. ومن ارتكابهم أنهم فسروا ﴿ كثيراً ﴾ بمعنى «جميع » في هذه الآية، وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا، على أن معنى قولهم ﴿ على جَمِيعٌ مّمَّنْ خَلَقْنَا ﴾ أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم، ولكنهم لا يشعرون. فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى، كأنّ جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم.
قرىء :«يدعو »، بالياء والنون. ويدعى كل أناس، على البناء للمفعول. وقرأ الحسن «يدعوا كل أناس »، على قلب الألف واواً في لغة من يقول : افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن يقال : إنها علامة الجمع، كما في ﴿ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ الأنبياء : ٣ ] والرفع مقدّر كما في يدعى، ولم يؤت بالنون قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير، ليست إلا علامة ﴿ بإمامهم ﴾ بمن ائتموا به من نبيّ أو مقدّم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال : يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا، وقيل : بكتاب أعمالهم، فيقال : يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشرّ. وفي قراءة الحسن «بكتابهم » ومن بدع التفاسير : أن الإمام جمع أمّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع ؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته ؟ ﴿ فَمَنْ أُوتِىَ ﴾ من هؤلاء المدعوّين ﴿ كتابه بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم ﴾ قيل أولئك، لأن من أوتي في معنى الجمع. فإن قلت : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم ؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرأون كتابهم ؟ قلت : بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أمام التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول ؛ فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارىء لأهل المحشر :﴿ هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه ﴾ [ الحاقة : ١٩ ]. ﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، كقوله ﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٦٠ ]، ﴿ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ﴾ [ طه : ١١٢ ].
معناه : ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ من الأعمى : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته، لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة : أما في الدنيا فلفقد النظر. وأما في الآخرة، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل. ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل ممالا، والثاني مفخماً، لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام، كقولك : أعمالكم وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة.
روي أنّ ثقيفاً قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب : لا نعشر ؛ ولا نحشر، ولا نجبي في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره، فإذا سألتك العرب : لم فعلت ذلك ؟ فقل : إن الله أمرني به، وجاؤا بكتابهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف : لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا : ولا يجبون. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا للكاتب : اكتب : ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسل سيفه وقال : أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم ناراً، فقالوا : لسنا نكلم إياك، إنما نكلم محمداً. فنزلت. وروي أنّ قريشاً قالوا له : اجعل آية رحمة آية عذاب، وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ﴾ إن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى : أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين ﴿ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا ﴿ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا ﴾ لتقول علينا ما لم نقل، يعني ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيداً والوعيد وعداً، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه ﴿ وَإِذاً لاَّتَّخَذوُكَ ﴾ أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك ﴿ خَلِيلاً ﴾ ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي.
﴿ وَلَوْلاَ أَن ثبتناك ﴾ ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا ﴿ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ﴾ لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين.
﴿ إِذَا ﴾ لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة ﴿ لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ﴾ أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام ؟ قلت : أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان : عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في الحياة الآخرة وهو عذاب النار. والضعف يوصف به، نحو قوله ﴿ فآتهم عذاباً ضعفا ًمن النار ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] بمعنى مضاعفاً، فكان أصل الكلام : لأذقناك عذاباً ضعفاً في الحياة، وعذاباً ضعفاً في الممات. ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات، كما لو قيل : لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. ويجوز أن يراد بضعف الحياة : عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات : ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار، والمعنى : لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا، وما نؤخره لما بعد الموت، وفي ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين - دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله.
فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت كان يقول :«اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ».
﴿ وَإِن كَادُواْ ﴾ وإن كاد أهل مكة ﴿ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ﴾ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم ﴿ مّنَ الأرض ﴾ من أرض مكة ﴿ وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ ﴾ لا يبقون بعد إخراجك ﴿ إِلا ﴾ زماناً ﴿ قَلِيلاً ﴾ فإن الله مهلكهم وكان كما قال، فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. وقيل : معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم. ولم يخرجوه، بل هاجر بأمر ربه. وقيل : من أرض العرب. وقيل : من أرض المدينة، وذلك.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فاجتمعوا إليه وقالوا : يا أبا القاسم، إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدّسة وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم، فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة، وقيل : بذي الحليفة، حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله، فنزلت، فرجع وقرىء «لا يلبثون » وفي قراءة أبيّ «لا يلبثوا » على إعمال «إذا ». فإن قلت : ما وجه القراءتين ؟ قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل. وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي إذاً لا يلبثوا، عطف على جملة قوله ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ﴾ وقرىء «خلافك » قال :
عَفَتِ الدِّيَارُ خِلاَفَهُمْ فَكأَنَّمَا بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَاً
أي بعدهم.
﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ونصبت نصب المصدر المؤكد، أي : سن الله ذلك سنة.
دلكت الشمس : غربت. وقيل : زالت. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس. فصلى بي الظهر » واشتقاقه من الدلك، لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر. والغسق : الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء ﴿ وَقُرْءَانَ الفجر ﴾ صلاة الفجر، سميت قرآناً وهو القراءة، لأنها ركن، كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً. وهي حجة على ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن ﴿ مَشْهُودًا ﴾ يشهده ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء، ويصعد هؤلاء ؛ فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، أو يشهده الكثير من المصلين في العادة. أو من حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة. ويجوز أن يكون ﴿ وَقُرْءَانَ الفجر ﴾ حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر، لكونها مكثوراً عليها، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب ؛ ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة.
﴿ وَمِنَ اليل ﴾ وعليك بعض الليل ﴿ فَتَهَجَّدْ بِهِ ﴾ والتهجد ترك الهجود للصلاة، ونحو التأثم والتحرّج. ويقال أيضاً في النوم : تهجد ﴿ نَافِلَةً لَّكَ ﴾ عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، وضع نافلة موضع تهجداً ؛ لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة فريضة عليك خاصة دون غيرك، لأنه تطوع لهم ﴿ مَقَاماً مَّحْمُودًا ﴾ نصب على الظرف، أي : عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاماً محموداً. أو ضمن يبعثك معنى يقيمك. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أن يبعثك ذا مقام محمود. ومعنى المقام المحمود : المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات، وقيل : المراد الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : مقام يحمدك فيه الأولون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق : تسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، ليس أحد إلا تحت لوائك. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي » وعن حذيفة يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم نفس، فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم فيقول :«لبيك وسعديك والشرّ ليس إليك، والمهديّ من هديت، وعبدك بين يديك وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت » قال : فهذا قوله ﴿ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ﴾.
قرىء «مدخل ومخرج » بالضم والفتح : بمعنى المصدر. ومعنى الفتح : أدخلني فأدخل مدخل صدق، أي : أدخلني القبر مدخل صدق : إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً، ملقى بالكرامة، آمنا من السخط، يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث. وقيل : نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة. وقيل : إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح، وإخراجه منها آمناً من المشركين، وقيل : إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. وقيل إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر - وهو النبوّة - وإخراجه منه مؤدياً لما كلفه من غير تفريط. وقيل : الطاعة. وقيل : هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان ﴿ سلطانا ﴾ حجة تنصرني على من خالفني. أو ملكاً وعزا قوياً ناصراً للإسلام على الكفر مظهراً له عليه، فأجيب دعوته بقوله :﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ]. ﴿ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون ﴾ [ المائدة : ٥٦ ]، ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ ﴾ [ التوبة : ٣٣ ]، ﴿ ليستخلفنهم فِى الأرض ﴾ [ النور : ٥٥ ] ووعده لينزعنّ ملك فارس والروم، فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم : أنه استعمل عتاب بن أُسيد على أهل مكة وقال " انطلق فقد استعملتك على أهل الله " فكان شديداً على المريب، ليناً على المؤمن وقال : لا والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة : يا رسول الله، لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً، فقال صلى الله عليه وسلم : " إني رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم، فذلك السلطان النصير ".
كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ضم كل قوم بحيالهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله عز وجل فقال : أي رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك، فأوحى الله إلى البيت : إني سأحدث لك نوبة جديدة، فأملأك خدوداً سجداً، يدفون إليك دفيف النسور، يحنون إليك حنين الطير إلى بيضها. لهم عجيج حولك بالتلبية.. ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول : جاء الحق وزهق الباطل، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال : يا علي، ارم به، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلاً أسحر من محمد صلى الله عليه وسلم.
وشكاية البيت والوحي إليه : تمثيل وتخييل ﴿ وَزَهَقَ الباطل ﴾ ذهب وهلك، من قولهم : زهقت نفسه، إذا خرجت. والحق : الإسلام. والباطل : الشرك ﴿ كَانَ زَهُوقًا ﴾ كان مضمحلاً غير ثابت في كل وقت.
﴿ وَنُنَزّلُ ﴾ قرىء «بالتخفيف والتشديد » ﴿ مِن القرءان ﴾ من للتبيين، كقوله :﴿ مِنَ الأوثان ﴾ أو للتبعيض، أي : كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيماناً، ويستصلحون به دينهم، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله " ولا يزداد به الكافرون ﴿ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ أي نقصاناً لتكذيبهم به وكفرهم، كقوله تعالى :﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ].
﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان ﴾ بالصحة والسعة ﴿ أَعْرَضَ ﴾ عن ذكر الله، كأنه مستغن عنه مستبدّ بنفسه ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ تأكيد للإعراض : لأنّ الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره، وأراد الاستكبار ؛ لأنّ ذلك من عادة المستكبرين ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشر ﴾ من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل ﴿ كَانَ يَئُوساً ﴾ شديد اليأس من روح الله ﴿ إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ وقرىء «وناء بجانبه » بتقديم اللام على العين، كقوله «راء » في «رأى » ويجوز أن يكون من «ناء » بمعنى «نهض ».
﴿ قُلْ كُلٌّ ﴾ أحد ﴿ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ ﴾ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، من قولهم «طريق ذو شواكل » وهي الطرق التي تتشعب منه، والدليل عليه قوله :﴿ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً ﴾ أي أسدّ مذهباً وطريقة.
الأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان. سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله، أي مما استأثر بعلمه. وعن عبد الله بن بريدة. لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح. وقيل : هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وقيل : جبريل عليه السلام. وقيل : القرآن و ﴿ مِنْ أَمْرِ رَبّى ﴾ أي من وحيه وكلامه، ليس من كلام البشر. بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبيّ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبيّ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، فندموا على سؤالهم ﴿ وَمَا أُوتِيتُم ﴾ الخطاب عام.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه ؟ فقال : بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً، فقالوا : ما أعجب شأنك : ساعة تقول ﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ] وساعة تقول هذا، فنزلت :﴿ وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ ﴾ [ لقمان : ٢٧ ] وليس ما قالوه بلازم ؛ لأنّ القلة والكثرة تدوران مع الإضافة، فيوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها ؛ إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل : هو خطاب لليهود خاصة ؛ لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة، وقد تلوت ﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله.
﴿ لَنَذْهَبَنَّ ﴾ جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط. واللام الداخلة على إن موطئة للقسم. والمعنى : إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف فلم نترك له أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ ﴾ بعد الذهاب ﴿ بِهِ ﴾ من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مستوراً.
﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ ﴾ إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى : ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما، وهما منة الله عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ. وعن ابن مسعود : إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وليصلين قوم ولا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء. فقال رجل : كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم ؟ فقال : يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب.
﴿ لاَ يَأْتُونَ ﴾ جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة، لجاز أن يكون جواباً للشرط، كقوله :
يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لِي وَلاَ حَرِمُ ***
أن الشرط وقع ماضياً، أي : لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان لعجزوا عن الإتيان بمثله، والعجب من النوابت ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة، فيقال : الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه. وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة، ولا مدخل لها فيه كثاني القديم، فلا يقال للفاعل. قد عجز عنه، ولا هو معجز، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز. لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال، إلا أن يكابروا فيقولوا هو قادر على المحال، فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق.
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ ردّدنا وكرّرنا ﴿ مِن كُلّ مَثَلٍ ﴾ من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. والكفور : الجحود. فإن قلت : كيف جاز ﴿ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا ﴾ ولم يجز ضربت إلا زيداً ؟ قلت : لأن أبى متأوّل بالنفي، كأنه قيل : فلم يرضوا إلا كفورا.
لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات : فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فقالوا : لن نؤمن لك حتى... وحتى ﴿ تَفْجُرَ ﴾ تفتح. وقرىء «تفجر » بالتخفيف ﴿ مّنَ الأرض ﴾ يعنون أرض مكة ﴿ يَنْبُوعًا ﴾ عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع :«يفعول » من نبع الماء، كيعبوب من عب الماء.
﴿ كَمَا زَعَمْتَ ﴾ يعنون قول الله تعالى ﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء ﴾ [ سبأ : ٩ ] وقرىء ( كسفاً )، بسكون السين جمع كسفة، كسدرة وسدر وبفتحة ﴿ قَبِيلاً ﴾ كفيلاً بما تقول شاهداً بصحته. والمعنى : أو تأتي بالله قبيلاً، وبالملائكة قبيلاً، كقوله :
...... كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيًّا............
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ***
أو مقابلاً، كالعشير بمعنى المعاشر، ونحوه ﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا ﴾ [ الفرقان : ٢١ ] أو جماعة حالاً من الملائكة.
﴿ مّن زُخْرُفٍ ﴾ من ذهب ﴿ فِى السماء ﴾ في معارج السماء، فحذف المضاف. يقال : رقى في السلم وفي الدرجة ﴿ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ ﴾ ولن نؤمن لأجل رقيك ﴿ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا ﴾ من السماء فيه تصديقك. عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن أبي أمية : لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلماً. ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا : هذا سحر، كما قال عز وجل ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاس ﴾ [ الأنعام : ٧ ]، ﴿ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون ﴾ [ الحجر : ١٤ ] وحين أنكروا الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات وليست بدون ما اقترحوه - بل هي أعظم - لم يكن إلى تبصرتهم سبيل ﴿ قُلْ سبحان رَبّى ﴾ وقرىء :«قال سبحان ربي » أي قال الرسول. و «سبحان ربي » تعجب من اقتراحاتهم عليه ﴿ هَلْ كُنتُ إَلاَّ ﴾ رسولاً كسائر الرسل ﴿ بَشَرًا ﴾ مثلهم، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليّ، إنما هو إلى الله فما بالكم تتخيرونها عليّ.
﴿ أن ﴾ الأولى نصب مفعول ثان لمنع. والثانية رفع فاعل له. و ﴿ الهدى ﴾ الوحي. أي : وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر. والهمزة في ﴿ أَبَعَثَ الله ﴾ للإنكار، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله، لأن قضية حكمته أن لا يرسل ملك الوحي إلا إلى أمثاله، أو إلى الأنبياء، ثم قرر ذلك بأنه.
﴿ لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ ﴾ على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه ﴿ مُطْمَئِنّينَ ﴾ ساكنين في الأرض قارّين ﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً ﴾ يعلمهم الخير ويهديهم المراشد. فأما الإنس فماهم بهذه المثابة، إنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم. فإن قلت : هل يجوز أن يكون بشراً وملكاً، منصوبين على الحال من رسولاً ؟ قلت : وجه حسن والمعنى له أجوب.
﴿ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ على أني بلغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ ﴾ المنذرين والمنذرين ﴿ خَبِيراً ﴾ عالماً بأحوالهم، فهو مجازيهم. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة. وشهيداً : تمييز أو حال.
﴿ وَمَن يَهْدِ الله ﴾ ومن يوفقه ويلطف به ﴿ فَهُوَ المهتدى ﴾ لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه ﴿ وَمَن يُضْلِلِ ﴾ ومن يخذل ﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء ﴾ أنصاراً ﴿ على وُجُوهِهِمْ ﴾ كقوله :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ [ القمر : ٤٨ ]. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يمشون على وجوههم قال :«إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم » ﴿ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا ﴾ كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك : لا يبصرون ما يقرّ أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. ويجوز أن يحشروا مؤقي الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤن ويتكلمون ﴿ كُلَّمَا خَبَتْ ﴾ كما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدلوا غيرها، فرجعت ملتهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، ولا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث ؛ ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله ﴿ ذَلِكَ جَزَاؤُهُم ﴾ إلى قوله ﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ ﴾.
فإن قلت : علام عطف قوله ﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً ﴾ ؟ قلت : على قوله ﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ ﴾ لأن المعنى قد علموا بدليل العقل أنّ من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس، لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منهن كما قال : أأنتم أشد خلقاً أم السماء ﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ وهو الموت أو القيامة، فأبوا مع وضوح الدليل إلا جحوداً.
﴿ لَوْ ﴾ حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، فلا بد من فعل بعدها في ﴿ لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ ﴾ وتقديره لو تملكون تملكون، فأضمر تملك إضماراً على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل، وهو أنتم، لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فأنتم : فاعل الفعل المضمر، وتملكون : تفسيره ! وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأمّا ما يقتضيه علم البيان، فهو : أنّ أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص ؛ وأنّ الناس هم المختصون بالشح المتبالغ ونحوه قول حاتم :
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي ***
وقول المتلمس :
وَلَوْ غَيْرُ أَخْوَالِي أرَادُوا نَقِيصَتِي ***
وذلك لأنّ الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر، برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر. ورحمة الله : رزقه وسائر نعمه على خلقه، ولقد بلغ هذا الوصف بالشح الغاية التي لا يبلغها الوهم. وقيل : هو لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، وأنهم لو ملكوا، خزائن الأرزاق لبخلوا بها ﴿ قَتُورًا ﴾ ضيقاً بخيلاً. فإن قلت : هل يقدر ﴿ لأمْسَكْتُمْ ﴾ مفعول ؟ قلت : لا ؛ لأن معناه : لبخلتم، من قولك للبخيل ممسك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بني إسرائيل. وعن الحسن : الطوفان، والسنون، ونقص الثمرات : مكان الحجر، والبحر، والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب فذكر اللسان والطمس، فقال له عمر : كيف يكون الفقيه إلا هكذا، أخرج يا غلام ذلك الجراب، فأخرجه فنفضه، فإذا بيض مكسور بنصفين، وجوز مكسور، وفوم وحمص وعدس، كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال : أنّ بعض اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال :«أوحى الله إلى موسى : أن قل لبني إسرائيل : لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت » ﴿ فَسْئَلْ بَنِى إسراءيل ﴾ فقلنا له : سل بني إسرائيل، أي : سلهم من فرعون وقل له : أرسل معي بني إسرائيل. أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم. أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. وتدلّ عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : فسال بني إسرائيل، على لفظ الماضي بغير همز، وهي لغة قريش وقيل : فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطمأنينة قلب ؛ لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت، كقول إبراهيم ﴿ ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ﴾. فإن قلت : بم تعلق ﴿ إِذْ جَاءهُمُ ﴾ ؟ قلت : أمّا على الوجه الأول فبالقول المحذوف، أي فقلنا لهم سلهم حين جاءهم، أو ب ( اسأل ) في القراءة الثانية. وأمّا على الأخير فبآتينا. أو بإضمار اذكر، أو يخبروك. ومعنى ﴿ إِذْ جَاءهُمُ ﴾ إذ جاء آباءهم ﴿ مَّسْحُورًا ﴾ سحرت فخولط عقلك.
﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ يا فرعون ﴿ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء ﴾ الآيات إلا الله عز وجل ﴿ بَصَائِرَ ﴾ بينات مكشوفات، ولكنك معاند ماكبر : ونحوه :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ] وقرىء «علمت » بالضم، على معنى : إني لست بمسحور كما وصفتني، بل أنا عالم بصحة الأمر. وأنّ هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض. ثم قارع ظنه بظنه، كأنه قال : إن ظننتني مسحوراً فأنا أظنك ﴿ مَثْبُورًا ﴾ هالكاً، وظني أصح من ظنك ؛ لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته، ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها. وأما ظنك فكذب بحت ؛ لأن قولك مع علمك بصحة أمري، إني لأظنك مسحوراً قول كذاب. وقال الفرّاء :﴿ مَثْبُورًا ﴾ مصروفاً عن الخير مطبوعاً على قلبك، من قولهم : ما ثبرك عن هذا ؟ أي : ما منعك وصرفك ؟ وقرأ أبيّ بن كعب «وإن إخالك يا فرعون لمثبوراً » على إن المخففة واللام الفارقة.
﴿ فَأَرَادَ ﴾ فرعون أن يستخف موسى وقومه من أرض مصر ويخرجهم منها، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال، فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه.
﴿ اسكنوا الأرض ﴾ التي أراد فرعون أن يستفزكم منها ﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة ﴾ يعني قيام الساعة ﴿ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ﴾ جمعاً مختلطين إياكم وإياهم، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم : واللفيف : الجماعات من قبائل شتى.
﴿ وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ ﴾ وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين ﴿ وَمَا أرسلناك ﴾ إلا لتبشرهم بالجنة وتنذرهم من النار، ليس إليك وراء ذلك شيء، من إكراه على الدين أو نحو ذلك.
﴿ وَقُرْءانًا ﴾ منصوب بفعل يفسره ﴿ فرقناه ﴾ وقرأ أبيّ «فرّقناه » بالتشديد، أي : جعلنا نزوله مفرّقاً منجماً وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ مشدّداً وقال : لم ينزل في يومين أو ثلاثة، بل كان بين أوّله وآخره عشرون سنة، يعني : أن فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب ﴿ على مُكْثٍ ﴾ بالفتح والضم : على مهل وتؤدة وتثبت ﴿ ونزلناه تَنْزِيلاً ﴾ على حسب الحوادث.
﴿ قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ﴾ أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والإزدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيراً منهم وأفضل - وهم العلماء الذين قرؤا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع - قد آمنوا به وصدّقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربيّ الموعود في كتبهم، فإذا تلي عليهم خرّوا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله :﴿ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً.... وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ أي يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين - فإن قلت :﴿ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ ﴾ تعليل لماذا ؟ قلت : يجوز أن يكون تعليلاً لقوله ﴿ ءَامِنوُاْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ﴾ وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه، كأنه قيل : تسلَّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء، وعلى الأوّل : إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم. فإن قلت : ما معنى الخرور للذقن ؟ قلت : السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين، لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن، فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خرّ لذقنه ولوجهه ؟ قال :
فخَرَّ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ ***
قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به ؛ لأن اللام للاختصاص. فإن قلت : لم كرّر يخرون للأذقان ؟ قلت : لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٧:﴿ قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ﴾ أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والإزدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيراً منهم وأفضل - وهم العلماء الذين قرؤا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع - قد آمنوا به وصدّقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربيّ الموعود في كتبهم، فإذا تلي عليهم خرّوا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله :﴿ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً.... وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ أي يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين - فإن قلت :﴿ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ ﴾ تعليل لماذا ؟ قلت : يجوز أن يكون تعليلاً لقوله ﴿ ءَامِنوُاْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ﴾ وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه، كأنه قيل : تسلَّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء، وعلى الأوّل : إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم. فإن قلت : ما معنى الخرور للذقن ؟ قلت : السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين، لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن، فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خرّ لذقنه ولوجهه ؟ قال :
فخَرَّ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ ***
قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به ؛ لأن اللام للاختصاص. فإن قلت : لم كرّر يخرون للأذقان ؟ قلت : لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٧:﴿ قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ﴾ أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والإزدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيراً منهم وأفضل - وهم العلماء الذين قرؤا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع - قد آمنوا به وصدّقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربيّ الموعود في كتبهم، فإذا تلي عليهم خرّوا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله :﴿ إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً.... وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ أي يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين - فإن قلت :﴿ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ ﴾ تعليل لماذا ؟ قلت : يجوز أن يكون تعليلاً لقوله ﴿ ءَامِنوُاْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ﴾ وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه، كأنه قيل : تسلَّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء، وعلى الأوّل : إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم. فإن قلت : ما معنى الخرور للذقن ؟ قلت : السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين، لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن، فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خرّ لذقنه ولوجهه ؟ قال :
فخَرَّ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ ***
قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به ؛ لأن اللام للاختصاص. فإن قلت : لم كرّر يخرون للأذقان ؟ قلت : لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين.

عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعه أبو جهل يقول : يا أَلله يا رحمن، فقال : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر. وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول : دعوته زيداً، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال : دعوت زيداً. والله والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. وأو للتخيير، فمعنى ﴿ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن ﴾ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا. والتنوين في ﴿ أَيّا ﴾ عوض من المضاف إليه. و ﴿ مَا ﴾ صلة للإبهام المؤكد لما في أيّ، أي : أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم ﴿ فَلَهُ الأسماء الحسنى ﴾ والضمير في ﴿ فَلَهُ ﴾ ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى ؛ لأن التسمية للذات لا للاسم. والمعنى : أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله :﴿ فَلَهُ الأسماء الحسنى ﴾ لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان : لأنهما منها، ومعنى كونهما أحسن الأسماء. أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم. بصلاتك بقراءة صلاتك على حذف المضاف ؛ لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى : ولا تجهر حتى تسمع المشركين ﴿ وَلاَ تُخَافِتْ ﴾ حتى لا تسمع من خلفك ﴿ وابتغ بَيْنَ ﴾ الجهر [ و ] المخافتة ﴿ سَبِيلاً ﴾ وسطاً. وروي أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان يخفي صوته بالقراءة في صلاته ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي، وكان عمر رضي الله عنه يرفع صوته ويقول : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان، فأمر أبا بكر أن يرفع قليلاً وعمر أن يخفض قليلاً. وقيل : معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار، وقيل ﴿ بِصَلاتِكَ ﴾ بدعائك. وذهب قوم إلى أنّ الآية منسوخة بقوله :﴿ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ] وابتغاء السبيل : مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة ﴿ وَلِىٌّ مَّنَ الذل ﴾ ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.
فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد ؟ قلت : لأنّ من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي يستحق جنس الحمد. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية.
Icon